منهاج السنة النبوية/57

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


ومما يبين ذلك أن آية براءة لفظها يخص النصارى وقد اتفق المسلمون على أن حكمها يتناول اليهود والمجوس

والمقصود أنه لم يكن الأمر في أول الإسلام منحصرا بين أن يقاتلهم المسلمون وبين إسلامهم إذا كان هنا قسم ثالث وهو معاهدتهم فلما نزلت آية الجزية لم يكن بد من القتال أو الإسلام والقتال إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية فصار هؤلاء إما مقاتلين وإما مسلمين ولم يقل تقاتلونهم أو يسلمون ولو كان كذلك لوجب قتالهم إلى أن يسلموا

وليس الأمر كذلك بل إذا أدوا الجزية لم يقاتلوا ولكنهم مقاتلين أو مسلمين فإنهم لا يؤدون الجزية بغير القتال لأنهم أولو بأس شديد ولا يجوز مهادنتهم بغير جزية

ومعلوم أن أبا بكر وعمر بل وعثمان في خلافتهم قوتل هؤلاء وضربت الجزية على أهل الشام والعراق والمغرب فأعظم قتال هؤلاء القوم وأشده وكان في خلافة هؤلاء

والنبي لم يقاتلهم في غزوة تبوك وفي غزوة مؤته استظهروا على المسلمين وقتل زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة وأخذ الراية خالد وغايتهم أن نجوا

والله أخبر أننا نقاتلهم أو يسلمون فهذه صفة الخلفاء الراشدين الثلاثة فيمتنع أن تكون الآية مختصة بغزوة مؤتة ولا يدخل فيها قتال المسلمين في فتوح الشام والعراق والمغرب ومصر وخراسان وهي الغزوات التي أظهر الله فيها الإسلام وظهر الهدى ودين الحق في مشارق الأرض ومغاربها

لكن قد يقال مذهب أهل السنة أن يغزى مع كل أمير دعا برا كان أو فاجرا فهذه الآية تدل على وجوب الجهاد مع كل أمير دعا الناس إليه لأنه ليس فيها ما يدل على أن الداعي إمام عدل

فيقال هذا ينفع أهل السنة فإن الرافضة لا ترى الجهاد إلا مع إمام معصوم ولا معصوم عندهم من الصحابة إلا علي فهذه الآية حجة عليهم في وجوب غزو الكفار مع جميع الأمراء وإذا ثبت هذا فأبو بكر وعمر وعثمان أفضل من غزا الكفار من هؤلاء الأمراء بعد النبي

ثم من المحال أن يكون كل من أمر الله المسلمين أن يجاهدوا معه الكفار بعد النبي لا يكون إلا ظالما فاجرا معتديا لا تجب طاعته في شيء من الأشياء فإن هذا خلاف القرآن حيث وعد على طاعته بأن يؤتى أجرا حسنا ووعد على التولي عن طاعته بالعذاب الأليم

وقد يستدل بالآية على عدل الخلفاء لأنه وعد بالأجر الحسن على مجرد الطاعة إذا دعوا إلى القتال وجعل المتولى عن ذلك كما تولى من قبل معذبا عذابا أليما

ومعلوم أن الأمير الغازي إذا كان فاجرا لا تجب طاعته في القتال مطلقا بل فيما أمر الله به ورسوله والمتولى عن طاعته لا يتولى كما تولى عن طاعة الرسول بخلاف المتولى عن طاعة الخلفاء الراشدين فإنه قد يقال إنه تولى كما تولى من قبل إذا كان أمر الخلفاء الراشدين مطابقا لأمر رسول الله

وفي الجملة فهذا الموضع في الاستدلال به نظر ودقة ولا حاجة بنا إليه ففي غيره ما يغني عنه

وأما قول الرافضي إن الداعي جاز أن يكون عليا دون من قبله من الخلفاء لما قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين يعني أهل الجمل وصفين والحرورية والخوارج

فيقال له هذا باطل قطعا من وجوه

أحدها أن هؤلاء لم يكونوا أشد بأسا من بني جنسهم بل معلوم أن الذين قاتلوه يوم الجمل كانوا أقل من عسكره وجيشه كانوا أكثر منهم وكذلك الخوارج كان جيشه أضعافهم وكذلك أهل صفين كان جيشه أكثر منهم وكانوا من جنسهم فلم يكن في وصفهم بأنهم أولو بأس شديد ما يوجب امتيازهم عن غيرهم

ومعلوم أن بني حنيفة وفارس والروم كانوا في القتال أشد بأسا من هؤلاء بكثير ولم يحصل في أصحاب علي من الخوارج من استحرار القتل ما حصل في جيش الصديق الذين قاتلوا أصحاب مسيلمة وأما فارس والروم فلا يشك عاقل أن قتالهم كان أشد من قتال المسلمين العرب بعضهم بعضا وإن كان قتال العرب للكفار في أول الإسلام كان افضل وأعظم فذاك لقلة المؤمنين وضعفهم في أول الأمر لا أن عدوهم كان أشد الناس بأسا من فارس والروم

ولهذا قال تعالى ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة سورة آل عمران 123 فإن هؤلاء تجمعهم دعوة الإسلام والجنس فليس في بعضهم لبعض من البأس ما كان في فارس والروم والنصارى والمجوس للعرب المسلمين الذين لم يكونوا يعدونهم إلا من أضعف جيرانهم ورعاياهم وكانوا يحتقرون أمرهم غاية الاحتقار ولولا أن الله أيد المؤمنين بما أيد به رسوله والمؤمنين على سنته الجميلة معهم لما كانوا ممن يثبت معهم في القتال ويفتح البلاد وهم أكثر منهم عددا وأعظم قوة وسلاحا لكن قلوب المؤمنين أقوى بقوة الإيمان التي خصم الله بها

الوجه الثاني أن عليا لم يدع ناسا بعيدين منه إلى قتال أهل الجمل وقتال الخوارج ولما قدم البصرة لم يكن في نيته قتال أحد بل وقع القتال بغير اختيار منه ومن طلحة والزبير وأما الخوارج فكان بعض عسكره يكفيهم لم يدع أحدا إليهم من أعراب الحجاز

الثالث أنه لو قدر أن عليا تجب طاعته في قتال هؤلاء فمن الممتنع أن يأمر الله بطاعة من يقاتل أهل الصلاة لردهم إلى طاعة ولى الأمر ولا يأمر بطاعة من يقاتل الكفار ليؤمنوا بالله ورسوله

ومعلوم أن من خرج من طاعة علي ليس بأبعد عن الإيمان بالله ورسوله ممن كذب الرسول والقرآن ولم يقر بشيء مما جاء به الرسول بل هؤلاء أعظم ذنبا ودعاؤهم إلى الإسلام أفضل وقتالهم أفضل إن قدر أن الذين قاتلوا عليا كفار

وإن قيل هم مرتدون كما تقوله الرافضة

فمعلوم أن من كانت ردته إلى أن يؤمن برسول آخر غير محمد كأتباع مسيلمة الكذاب فهو أعظم ردة ممن لم يقر بطاعة الإمام مع إيمانه بالرسول

فبكل حال لا يذكر ذنب لمن قاتله علي إلا وذنب من قاتله الثلاثة أعظم ولا يذكر فضل ولا ثواب لمن قاتل مع علي إلا والفضل والثواب لمن قاتل مع الثلاثة أعظم

هذا بتقدير أن يكون من قاتله علي كافرا ومعلوم أن هذا قول باطل لا يقوله إلا حثالة الشيعة وإلا فعقلاؤهم لا يقولون ذلك وقد علم بالتواتر عن علي وأهل بيته أنهم لم يكونوا يكفرون من قاتل عليا وهذا كله إذا سلم أن ذلك القتال كان مأمورا به كيف وقد عرف نزاع الصحابة والعلماء بعدهم في هذا القتال هل كان من باب قتال البغاة الذي وجد في شرط وجوب القتال فيه أم لم يكن من ذلك لانتفاء الشرط الموجب للقتال

والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفين لم يكن من القتال المأمور به وأن تركه أفضل من الدخول فيه بل عدوه قتال فتنة وعلى هذا جمهور أهل الحديث وجمهور ائمة الفقهاء فمذهب أبي حنيفة فيما ذكره القدوري أنه لا يجوز قتال البغاة إلا أن يبدأوا بالقتال وأهل صفين لم يبدأوا عليا بقتال

وكذلك مذهب أعيان فقهاء المدينة والشام والبصرة وأعيان فقهاء الحديث كمالك وأيوب والأوزاعي وأحمد وغيرهم أنه لم يكن مأمورا به وأن تركه كان خيرا من فعله وهو قول جمهور ائمة السنة كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الباب بخلاف قتال الحرورية والخوارج أهل النهروان فإن قتال هؤلاء واجب بالسنة المستفيضة عن النبي وباتفاق الصحابة وعلماء السنة

ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال أشرف النبي على أطم من آطام المدينة وقال: هل ترون ما أرى قالوا لا قال: فإني ارى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر

وفي السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال قال رسول الله : إنها ستكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار اللسان فيها أشد من وقع السيف

وفي السنن عن أبي هريرة أن النبي قال: ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له واستشراف اللسان فيها كوقوع السيف

وعن أم سلمة قالت استيقظ النبي ذات ليلة فقال: سبحان الله ماذا أنزل من الخزائن وماذا أنزل من الفتن

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ومن يستشرف لها تستشرف له ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به

ورواه أبو بكرة في الصحيحين وقال فيه: فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى الحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني فقال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار

ومثل هذا الحديث معروف عن سعد بن أبي وقاص وغيره من الصحابة والذين رووا هذه الأحاديث من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأبي هريرة وغيرهم جعلوا قتال الجمل وصفين من ذلك بل جعلوا ذلك أول قتال فتنة كان في الإسلام وقعدوا عن القتال وأمرهم غيرهم بالقعود عن القتال كما استفاضت بذلك الآثار عنهم

والذين قاتلوا من الصحابة لم يأت أحد منهم بحجة توجب القتال لا من كتاب ولا من سنة بل أقروا بأن قتالهم كان رأيا رأوه كما أخبر بذلك علي رضي الله عنه عن نفسه ولم يكن في العسكرين أفضل من علي فيكون ممن هو دونه أولى وكان علي أحيانا يظهر فيه الندم والكراهة للقتال مما يبين أنه لو لم يكن عنده فيه شيء من الأدلة الشرعية مما يوجب رضاه وفرحه بخلاف قتاله للخوارج فإنه كان يظهر فيه من الفرح والرضا والسرور ما يبين أنه كان يعلم أن قتالهم كان طاعة لله ورسوله يتقرب به إلى الله لأن في قتال الخوارج من النصوص النبوية والأدلة الشرعية ما يوجب ذلك

ففي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي قال: تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق

وفي لفظ مسلم قال: ذكر قوما يخرجون في أمته يقتلهم ادنى الطائفتين إلى الحق سيماهم التحليق هم شر الخلق أو من شر الخلق قال أبو سعيد فأنتم قتلتموهم يا أهل العراق

ولفظ البخاري يخرج ناس من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يعودون فيه حتى يعود السهم

وفي الصحيحين عن علي قال سمعت النبي يقول: يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس في قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل آيتهم أن فيهم رجلا له عضد ليس فيها ذراع على رأسه عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض

الوجه الرابع أن الآية لا تتناول القتال مع علي قطعا لأنه قال تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح 16 فوصفهم بأنهم لا بد فيهم من أحد الأمرين المقاتلة أو الإسلام ومعلوم أن الذين دعا إليهم علي فيهم خلق لم يقاتلوه ألبته بل تركوا قتاله فلم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه فكانوا صنفا ثالثا لا قاتلوه ولا قاتلوا معه ولا اطاعوه وكلهم مسلمون وقد دل على إسلامهم القرآن والسنة وإجماع الصحابة علي وغيره

قال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصبحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين سورة الحجرات 9 فوصفهم بالإيمان مع الاقتتال والبغي وأخبر أنهم إخوة وأن الأخوة لا تكون إلا بين المؤمنين لا بين مؤمن وكافر

وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي بكرة أن النبي قال للحسن: إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فأصلح الله به بين عسكر علي وعسكر معاوية فدل على أن كليهما مسلمون ودل على أن الله يحب الإصلاح بينهما ويثنى على من فعل ذلك ودل على أن ما فعله الحسن كان رضي لله ورسوله ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يكن تركه رضى لله ولرسوله

وأيضا فالنقل المتواتر عن الصحابة أنهم حكموا في الطائفتين بحكم الإسلام وورثوا بعضهم من بعض ولم يسبوا ذراريهم ولم يغنموا أموالهم التي لم يحضروا بها القتال بل كان يصلي بعضهم على بعض وخلف بعض

وهذا أحد ما نقمته الخوارج على علي فإن مناديه نادى يوما لجمل لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولم يغنم أموالهم ولا سبى ذراريهم وأرسل ابن عباس إلى الخوارج وناظرهم في ذلك

فروى أبو نعيم بالإسناد الصحيح عن سليمان بن الطبراني عن محمد بن إسحاق بن راهوية وسليمان عن علي بن عبد العزيز عن أبي حذيفة وعبد الرزاق قالا حدثنا عكرمة بن عمار حدثناأبو زميل الحنفي عن ابن عباس قال لما اعتزلت الحرورية قلت لعلي يا أمير المؤمنين أبرد عن الصلاة فلعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم قال إني أتخوفهم عليك قال قلت كلا إن شاء الله فلبست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة فدخلت على قوم لم أر قوما أشد اجتهادا منهم أيديهم كأنها ثفن الإبل ووجوههم معلمة من آثار السجود قال فدخلت فقالوا مرحبا بك يا ابن عباس ما جاء بك قال جئت أحدثكم على أصحاب رسول الله نزل الوحي وهم أعلم بتأويله فقال بعضهم لا تحدثوه وقال بعضهم لنحدثنه قال قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله وختنه وأول من آمن به وأصحاب رسول الله معه قالوا ننقم عليه ثلاثا قلت ما هن قالوا أولهن أنه حكم الرجال في دين الله وقد قال تعالى إن الحكم إلا لله سورة الأنعام 57 قال قلت وماذا قالوا قاتل ولم يسب ولم يغنم لئن كانوا كفارا لقد حلت له أموالهم وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت عليه دماؤهم قال قلت وماذا قالوا ومحا نفسه من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين

قال قلت أرأيتم إن قرأت عليكم كتاب الله المحكم وحدثتكم عن سنة نبيكم ما لا تنكرون أترجعون قالوا نعم قال قلت أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله فإن الله يقول يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم سورة المائدة 95 وقال في المرأة وزوجها وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها سورة النساء 35 أنشدكم الله أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق أم أرنب ثمنها ربع درهم قالوا في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم قال أخرجت من هذه قالوا اللهم نعم قال وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم أتسبون أمكم ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم وإن زعمتم أنها ليست أمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام إن الله يقول النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم سورة الأحزاب 6 وأنتم مترددون بين ضلالتين فاختاروا أيهما شئتم أخرجت من هذه قالوا اللهم نعم. قال وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين فإن رسول الله دعا قريش يوم الحديبية على أن يكتب بينهم وبينه كتابا فقال اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقالوا والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال: والله إني لرسول وإن كذبتموني اكتب يا علي محمد بن عبد الله ورسول الله كان أفضل من علي أخرجت من هذه قالوا اللهم نعم فرجع منهم عشرون ألفا وبقى منهم أربعة آلاف فقتلوا

وأما تكفير هذا الرافضي وأمثاله لهم وجعل رجوعهم إلى طاعة علي إسلاما لقوله فيما زعمه يا علي حربك حربي فيقال من العجائب وأعظم المصائب على هؤلاء المخذولين أن يثبتوا مثل هذا الأصل العظيم بمثل هذا الحديث الذي لا يوجد في شئ من دواوين أهل الحديث التي يعتمدون عليها لا هو في الصحاح ولا السنن ولا المساند ولا الفوائد ولا غير ذلك مما يتناقله أهل العلم بالحديث ويتدواولونه بينهم ولا هو عندهم لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل هو أخس من ذلك وهو من أظهر الموضوعات كذبا فإنه خلاف المعلوم المتواتر من سنة رسول الله من أنه جعل الطائفتين مسلمين وأنه جعل ترك القتال في تلك الفتنة خيرا من القتال فيها وأنه أثنى على من أصلح به بين الطائفتين فلو كانت إحدى الطائفتين مرتدين عن الإسلام لكانوا أكفر من اليهود والنصارى الباقين على دينهم وأحق بالقتال منهم كالمرتدين أصحاب مسيلمة الكذاب الذين قاتلهم الصديق وسائر الصحابة واتفقوا على قتالهم بل وسبوا ذراريهم وتسرى على من ذلك السبي بالحنفية أم محمد بن الحنيفية

فصل

قال الرافضي وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه لأن النبي كان أنسه بالله مغنيا له عن كل أنيس لكن لما عرف النبي أن أمره لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرار في غزواته وأيما أفضل القاعد عن القتال أو المجاهد بنفسه في سبيل الله

الجواب أن يقال لهذا المفتري الكذاب ما ذكرته من أظهر الباطل من وجوه

أحدها أن قوله هرب عدة مرار في غزوات يقال له هذا الكلام يدل على أن قائله من أجهل الناس بمغازي رسول الله وأحواله والجهل بذلك غير منكر من الرافضة فإنهم من أجهل الناس بأحوال الرسول وأعظمهم تصديقا بالكذب فيها وتكذيبا بالصدق منها

وذلك أن غزوة بدر هي أول مغازي القتال لم يكن قبلها لرسول الله ولا لأبي بكر غزاة مع الكفار أصلا وغزوات القتال التي قاتل فيها النبي تسع غزوات بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وغزوة ذي قرد وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف وأما الغزوات التي لم يقاتل فيها فهي نحو بضعة عشر وأما السرايا فمنها ما كان فيه قتال ومنها ما لم يكن فيه قتال

وبكل حال فبدر أولى مغازي القتال باتفاق الناس وهذا من العلم الذي يعلمه كل من له علم بأحوال الرسول من أهل التفسير والحديث والمغازي والسير والفقه والتواريخ والأخبار يعلمون أن بدرا هي أول الغزوات التي قاتل فيها النبي وليس قبلها غزوة ولا سرية كان فيها قتال إلا قصة ابن الحضرمي ولم يكن فيها أبو بكر

فكيف يقال أنه هرب قبل ذلك عدة مرار في مغازيه

الثاني أن أبا بكر رضي الله عنه لم يهرب قط حتى يوم أحد لم ينهزم لا هو ولا عمر وإنما كان عثمان تولى وكان ممن عفا الله عنه وأما أبو بكر وعمر فلم يقل أحد قط إنهما انهزما مع من انهزم بل ثبتا مع النبي يوم حنين كما تقدم ذلك عن أهل السيرة لكن بعض الكذابين ذكر أنهما أخذا الراية يوم حنين فرجعا ولم يفتح عليهما ومنهم من يزيد في الكذب ويقول إنهما انهزما مع من انهزم وهذا كذب كله

وقبل أن يعرف الإنسان أنه كذب فمن أثبت ذلك عليهما هو المدعى لذلك فلا بد من إثبات ذلك بنقل يصدق ولا سبيل إلى هذا فأين النقل المصدق على أبي بكر أنه هرب في غزوة واحدة فضلا عن أن يكون هرب عدة مرات

الثالث أنه لو كان في الجبن بهذه الحال لم يخصه النبي دون أصحابه بأن يكون معه في العريش بل لا يجوز استصحاب مثل هذا في الغزو فإنه لا ينبغي للإمام أن يستصحب منخذلا ولا مرجفا فضلا عن أن يقدم على سائر أصحابه ويجعله معه في عريشه

الرابع أن الذي في الصحيحين من ثباته وقوة يقينه في هذه الحال يكذب هذا المفترى ففي الصحيحين عن ابن عباس عن عمر قال لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلثمائة وسبعة عشر رجلا فاستقبل رسول الله القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه فقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم سورة الأنفال 9 الآية وذكر الحديث

الخامس أن يقال قد علم كل من علم السيرة أن أبا بكر كان أقوى قلبا من جميع الصحابة لا يقاربه في ذلك أحد منهم فإنه من حين بعث الله رسوله إلى أن مات أبو بكر لم يزل مجاهدا ثابتا مقداما شجاعا لم يعرف قط أنه جبن عن قتال عدو بل لما مات رسول الله ضعفت قلوب أكثر الصحابة وكان هو الذي يثبتهم حتى قال أنس خطبنا أبو بكر ونحن كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود

وروى أن عمر قال يا خليفة رسول الله تألف الناس فأخذ بلحيته وقال يا ابن الخطاب أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام علام أتألفهم على حديث مفترى أم على شعر مفتعل

السادس قوله أيما أفضل القاعد عن القتال أو المجاهد نفسه في سبيل الله

فيقال بل كونه مع النبي في هذ الحال هو من أفضل الجهاد فإنه هو الذي كان العدو يقصده فكان ثلث العسكر حوله يحفظونه من العدو وثلثه اتبع المنهزمين وثلثه أخذوا الغنائم ثم إن الله قسمها بينهم كلهم

السابع قوله إن أنس النبي بربه كان مغنيا له عن كل أنيس

فيقال قول القائل إنه كان أنيسه في العريش ليس هو من ألفاظ القرآن والحديث ومن قاله وهو يدري ما يقول لم يرد به أنه يؤنسه لئلا يستوحش بل المراد أنه كان يعاونه على القتال كما كان من هو دونه يعاونه على القتال

وقد قال تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين سورة الأنفال 62 وهو أفضل المؤمنين الذين أيده الله بهم

وقال فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرصضالمؤمنين سورة النساء 84 وكان الحث على أبي بكر أن يعاونه بغاية ما يمكنه وعلى الرسول أن يحرضهم على الجهاد ويقاتل بهم عدوه بدعائهم ورأيهم وفعلهم وغير ذلك مما يمكن الاستعانة به على الجهاد

الثامن أن يقال من المعلوم لعامة العقلاء أن مقدم القتال المطلوب الذي قد قصده أعداؤه يريدون قتله إذا أقام في عريش أو قبة او حركاه أو غير ذلك مما يجنه ولم يستصحب معه من أصحابه إلا واحدا وسائرهم خارج ذلك العريش لم يكن هذا إلا أخص الناس به وأعظمهم موالاة له وانتفاعا به

وهذا النفع في الجهاد لا يكون إلا مع قوة القلب وثباته لا مع ضعفه وخوره

فهذا يدل على أن الصديق كان أكملهم إيمانا وجهادا وأفضل الخلق هم أهل الإيمان والجهاد فمن كان أفضل في ذلك كان أفضل مطلقا

قال تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله إلى قوله وأولئك هم الفائزون سورة التوبة 19 20 فهؤلاء أعظم درجة عند الله من أهل الحج والصدقة والصديق أكمل في ذلك

وأما قتال علي بيده فقد شاركه في ذلك سائر الصحابة الذين قاتلوا يوم بدر ولم يعرف أن عليا قاتل أ كثر من جميع الصحابة يوم بدر ولا أحد ولا غير ذلك

ففضيلة الصديق مختصة به لم يشركه فيها غيره وفضيلة علي مشتركه بينه وبين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

الوجه التاسع أن النبي هو وأبو بكر خرجا بعد ذلك من العريش ورماهم النبي الرمية التي قال الله فيها وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى سورة الانفال 17 والصديق قاتلهم حتى قال له ابنه عبدالرحمن قد رأيتك يوم بدر فصدفت عنك فقال لكني لو رأيتك لقتلتك

فصل

قال الرافضي وأما إنفاقه على النبي فكذب لأنه لم يكن ذا مال فإن أباه كان فقيرا في الغاية وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان كل يوم بمد يقتات به ولو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه وكان أبو بكر معلما للصبيان في الجاهلية وفي الإسلام كان خياطا ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال إني محتاج إلى القوت فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال

والجواب أن يقال أولا من أعظم الظلم والبهتان أن ينكر الرجل ما تواتر به النقل وشاع بين الخاص والعام وامتلأت به الكتب كتب الحديث الصحاح والمساند والتفسير والفقه والكتب المصنفة في أخبارالقوم وفضائلهم ثم يدعى شيئا من المنقولات التي لا تعلم بمجرد قوله ولا ينقله بإسناد معروف ولا إلى كتاب يعرفه يوثق به ولا يذكر ما قاله فلو قدرنا أنه ناظر أجهل الخلق لأمكنه أن يقول له بل الذي ذكرت هو الكذب والذي قاله منازعوك هو الصدق فكيف تخبر عن أمر كان بلا حجة أصلا ولا نقل يعرف به ذلك ومن الذي نقل من الثقات ما ذكره عن أبي بكر

ثم يقال أما إنفاق أبي بكر ماله فمتواتر منقول في الحديث الصحيح من وجوه كثيرة حتى قال: ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر وقال: إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر وثبت عنه أنه اشترى المعذبين من ماله بلالا وعامر بن فهيرة اشترى سبعة أنفس

وأما قول القائل إن أباه كان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان، فهذا لم يذكر له إسنادا يعرف به صحته ولو ثبت لم يضر فإن هذا كان في الجاهلية قبل الإسلام فإن ابن جدعان مات قبل الإسلام وأما في الإسلام فكان لأبي قحافة ما يعينه ولم يعرف قط أن أبا قحافة كان يسأل الناس وقد عاش أبو قحافة إلى أن مات أبو بكر وورث السدس فرده على أولاده لغناه عنه

ومعلوم أنه لو كان محتاجا لكان الصديق يبره في هذه المدة فقد كان الصديق ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابة بعيدة وكان ممن تكلم في الإفك فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه فأنزل الله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين إلى قوله غفور رحيم سورة النور 22 فقال أبو بكر بلى والله أحب أن يغفر الله لي فأعاد عليه النفقة والحديث بذلك ثابت في الصحيحين

وقد اشترى بماله سبعة من المعذبين في الله ولما هاجر مع النبي استصحب ماله فجاء أبو قحافة وقال لأهله ذهب أبو بكر بنفسه فهل ترك ماله عندكم أو أخذه قالت أسماء فقلت بل تركه ووضعت في الكوة شيئا وقلت هذا هو المال لتطيب نفسه أنه ترك ذلك لعياله ولم يطلب أبو قحافة منهم شيئا وهذا كله يدل على غناه

وقوله إن أبا بكر كان معلما للصبيان في الجاهلية،

فهذا من المنقول الذي لو كان صدقا لم يقدح فيه بل يدل على أنه كان عنده علم ومعرفة وكان جماعة من علماء المسلمين يؤدبون منهم أبو صالح صاحب الكلبي كان يعلم الصبيان وأبو عبد الرحمن السلمي وكان من خواص أصحاب علي وقال سفيان بن عينية كان الضحاك بن مزاحم وعبد الله بن الحارث يعلمان الصبيان فلا يأخذان أجرا ومنهم قيس بن سعد وعطاء بن أبي رباح وعبد الكريم أبو أميه وحسين المعلم وهو ابن ذكوان والقاسم بن عمير الهمداني وحبيب المعلم مولى معقل بن يسار

ومنهم علقمة بن أبي علقمة وكان يروى عنه مالك بن أنس وكان له مكتب يعلم فيه

ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام المجمع على إمامته وفضله

فكيف إذا كان ذلك من الكذب المختلق

بل لو كان الصديق قبل الإسلام من الأرذلين لم يقدح ذلك فيه فقد كان سعد وابن مسعود وصهيب وبلال وغيرهم من المستضعفين وطلب المشركون من النبي طردهم فنهاه الله عن ذلك وأنزل ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء إلى قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الأنعام 52 53

وقوله واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا سورة الكهف 2وقال في المستضعفين من المؤمنين إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون إلى آخر السورة سورة المطففين 29 3وقال زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب سورة البقرة 21وقال ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون سورة الأعراف 48 4وقال وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار سورة ص 62 63

وقال عن قوم نوح قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون سورة الشعراء 115وقال تعالى فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي سورة هود 27 وقال عن قوم صالح قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون سورة الأعراف 75 7وفي الصحيحين أن هرقل سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي قال أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم قال بل ضعفاؤهم قال هم أتباع الرسل

فإذا قدر أن الصديق كان من المستضعفين كعمار وصهيب وبلال لم يقدح ذلك في كمال أيمانه وتقواه كما لم يقدح في إيمان هؤلاء وتقواهم وأكمل الخلق عند الله أتقاهم

ولكن كلام الرافضة من جنس كلام المشركين الجاهلية يتعصبون للنسب والآباء لا للدين ويعيبون الإنسان بما لا ينقض إيمانه وتقواه وكل هذا من فعل الجاهلية ولهذا كانت الجاهلية ظاهرة عليهم فهم يشبهون الكفار من وجوه خالفوا بها أهل الإيمان والإسلام

وقوله إن الصذيق كان خياطا في الإسلام ولما ولى أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة، كذب ظاهر يعرف كل أحد أنه كذب وإن كان لا غضاضة فيه لو كان حقا فإن أبا بكر لم يكن خياطا وإنما كان تاجرا تارة يسافر في تجارته وتارة لا يسافر وقد سافر إلى الشام في تجارته في الإسلام والتجارة كانت أفضل مكاسب قريش وكان خيار أهل الأموال منهم أهل التجارة وكانت العرب تعرفهم بالتجارة ولما ولى أراد أن يتجر لعياله فمنعه المسلمون وقالوا هذا يشغلك عن مصالح المسلمين

وكان عامة ملابسهم الأردية والأزز فكانت الخياطة فيهم قليلة جدا وقد كان بالمدينة خياط دعا النبي إلى بيته

وأما المهاجرون المشهورون فما أعلم فيهم خياطا مع أن الخياطة من أحسن الصناعات وأجلها

وإنفاق أبي بكر في طاعة الله ورسوله هو من المتواتر الذي تعرفه العامة والخاصة وكان له مال قبل الإسلام وكان معظما في قريش محببا مؤلفا خبيرا بأنساب العرب وأيامهم وكانوا يأتونه لمقاصد التجارة ولعلمه وإحسانه ولهذا لما خرج من مكة قال له ابن الدغنة مثلك لا يخرج ولا يخرج

ولم يعلم أحد من قريش وغيرهم عاب أبا بكر بعيب ولا نقصه ولا استرذله كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين ولم يكن له عندهم عيب إلا إيمانه بالله ورسوله كما أن رسول الله لم يكن قط به عيب عند قريش ولا نقص ولا يذمونه بشئ قط بل كان معظما عندهم بيتا ونسبا معروفا بمكارم الأخلاق والصدق والأمانة وكذلك صديقه الأكبر لم يكن له عيب عندهم من العيوب

وابن الدغنة سيد القارة إحدى قبائل العرب كان معظما عند قريش يجرون من أجاره لعظمته عندهم

وفي الصحيحين أن أبا بكر لما ابتلى المسلمون خرج مهاجرا إلى أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر فقال أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي فقال ابن الدغنة فإن مثلك لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار فارجع واعبد ربك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن وأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم إليهم فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فجاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله وذكر الحديث فقد وصفه ابن الدغنة بحضرة أشراف قريش بمثل ما وصفت به خديجة النبي لما نزل عليه الوحي وقال لها: لقد خشيت على عقلي فقالت له كلا والله لن يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق

فهذه صفة النبي أفضل النبيين وصديقه أفضل الصديقين

وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي جلس على المنبر وقال: إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وقال فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان النبي هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به فقال النبي : لا تبك يا أبا بكر إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر

وفي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال كنت جالسا عند النبي إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه وذكر الحديث إلى أن قال فقال النبي : إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين

وروى البخاري عن ابن عباس قال خرج رسول الله في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما من الناس أحدا من علي في ماله ونفسه من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا خليلا فذكر تمامه

وروى أحمد عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال: ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر فبكى وقال وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله

وروى الزهري عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله : ما مال رجل من المسلمين أنفع لي من مال أبي بكر ومنه أعتق بلالا وكان يقضي في مال أبي بكر كما يقضي الرجل في مال نفسه

فصل

وقوله كان النبي قبل الهجرة غنيا بمال خديجة ولم يحتج إلى الحرب

والجواب أن إنفاق إبي بكر لم يكن نفقة على النبي في طعامه وكسوته فإن الله قد أغنى رسوله عن مال الخلق أجمعين بل كان معونة له على إقامة الإيمان فكان إنفاقه فيما يحبه الله ورسوله لا نفقة على نفس الرسول فاشترى المعذبين مثل بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة وجماعة

فصل

وقوله وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر شيء ألبتة

فهذا كذب ظاهر بل كان يعين النبي بماله وقد حث النبي على الصدقة فجاء بماله كله وأصحاب الصفة كانوا فقراء فحث النبي على طعمتهم فذهب بثلاثة كما في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال إن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء وإن النبي قال مرة: من كان طعام اثنين فليذهب بثالث ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس وسادس أو كما قال وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبي الله بعشرة وذكر الحديث

وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال قال عمر أمرنا رسول الله أن نتصدق ووافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال النبي : ما أبقيت لأهلك فقلت مثله قال وأتى أبو بكر بكل مال عنده فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك فقال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح

فصل

وأما قوله ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن كما أنزل في علي هل أتى سورة الإنسان والجواب أما نزول هل أتى في علي فمما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه كذب موضوع وإنما يذكره من المفسرين من جرت عادته بذكر أشياء من الموضوعات والدليل الظاهر على أنه كذب أن سورة هل أتى مكية باتفاق الناس نزلت قبل الهجرة وقبل أن يتزوج علي بفاطمة ويولد الحسن والحسين وقد بسط الكلام على هذه القضية في غير موضع ولم ينزل قط قرآن في إنفاق علي بخصوصه لأنه لم يكن له مال بل كان قبل الهجرة في عيال النبي وبعد الهجرة كان أحيانا يؤجر نفسه كل دلو بتمرة ولما تزوج بفاطمة لم يكن له مهر إلا درعه وإنما أنفق على العرس ما حصل له من غزوة بدر

وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وأعطاني رسول الله شارفا من الخمس فلما أردت أن أبتنى بفاطمة واعدت رجلا صواغا من بني قينقاع يرتحل معي فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصواغين فأستعين به في وليمة عرسي فبينا أنا أجمع لشارفي متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاى مناخان إلى جانب بيت رجل من الأنصار قال وحمزة يشرب في ذلك البيت وقينة تغنيه فقالت: ألا يا حمز للشرف النواء. فثار إليها حمزة فاجتب أسنمتها وبقر خواصرها وذكر الحديث في البخاري وذلك قبل تحريم الخمر

وأما الصديق رضي الله عنه فكل آية نزلت في مدح المنفقين في سبيل الله فهو أول المرادين بها من الأمة مثل قوله تعالى لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا سورة الحديد 10 وأبو بكر أفضل هؤلاء وأولهم

وكذلك قوله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم سورة التوبة 2وقوله وسيجنبها الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى سورة الليل 18 فذكر المفسرون مثل ابن جرير الطبري وعبد الرحمن بن أبي حاتم وغيرهما بالأسانيد عن عروة بن الزبير وعبد الله بن الزبير وسعيد ابن المسيب وغيرهم أنها نزلت في أبي بكر

فصل

قال الرافضي وأما تقديمه في الصلاة فخطأ لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرت عائشة أن يقدم أبا بكر فلما أفاق رسول الله سمع التكبير فقال من يصلي بالناس فقالوا أبو بكر فقال أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى الصلاة

والجواب أن هذا من الكذب المعلوم عند جمع أهل العلم بالحديث ويقال له أولا من ذكر ما نقلته بإسناد يوثق به وهل هذا إلا في كتب من نقله مرسلا من الرافضة الذين هم من أكذب الناس وأجهلهم بأحوال الرسول مثل المفيد بن النعمان والكراجكي وأمثالهما من الذين هم من أبعد الناس عن معرفة حال الرسول وأقواله وأعماله

ويقال ثانيا هذا كلام جاهل يظن أن أبا بكر لم يصل بهم إلا صلاة واحدة وأهل العلم يعلمون أنه لم يزل يصلي بهم حتى مات رسول الله بإذنه واستخلافه له في الصلاة بعد أن راجعته عائشة وحفصة في ذلك وصلى بهم أياما متعددة وكان قد استخلفه في الصلاة قبل ذلك لما ذهب إلى بني عمرو ابن عوف ليصلح بيهم ولم ينقل أن النبي استخلف في غيبته على الصلاة في غير سفر في حال غيبته وفي مرضه إلا أبا بكر ولكن عبد الرحمن بن عوف صلى بالمسلمين مرة صلاة الفجر في السفر عام تبوك لأن النبي بعد أن راجعته كان قد ذهب ليقضي حاجته فتأخر وقدم المسلمون عبد الرحمن ابن عوف فلما جاء النبي ومعه المغيرة ابن شعبة وكان النبي قد توضأ ومسح على خفيه فأدرك معه ركعة وقضى ركعة وأعجبه ما فعلوه من صلاتهم لما تأخر فهذا إقرار منه على تقديم عبد الرحمن.

وكان إذا سافر عن المدينة استخلف من يستخلفه يصلي بالمسلمين كما استخلف ابن أم مكتوم تارة وعليا تارة في الصلاة واستخلف غيرهما تارة

فأما في حال غيبته ومرضه فلم يستخلف إلا أبا بكر لا عليا ولا غيره واستخلافه للصديق في الصلاة متواتر ثابت في الصحاح والسنن والمساند من غير وجه كما أخرج البخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من أهل الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال مرض النبي فاشتد مرضه فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق متى يقم مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس فقال: مري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف فصلى بهم أبو بكر في حياة رسول الله وذكر البخاري فيه مراجعة عائشة للنبي ثلاث مرات

وهذا الذي فيه من أن أبا بكر صلى بهم في حياة النبي في مرضه إلى أن مات مما اتفق عليه العلماء بالنقل فإن النبي مرض أياما متعددة حتى قبضه الله إليه وفي تلك الأيام لم يكن يصلي بهم إلا أبو بكر وحجرته إلى جانب المسجد فيمتنع والحال هذه أن يكون قد أمر غيره بالصلاة فصلى أبو بكر بغير أمره تلك المدة ولا مراجعة أحد في ذلك

والعباس وعلي وغيرهما كانوا يدخلون عليه بيته وقد خرج بينهما في بعض تلك الأيام وقد روى أن ابتداء مرضه كان يوم الخميس وتوفي بلا خلاف يوم الإثنين من الأسبوع الثاني فكان مدة مرضه فيما قيل اثنى عشر يوما

وفي الصحيح عن عبيد الله بن عبد الله قال دخلت على عائشة فقلت لها ألا تحدثيني عن مرض رسول الله قالت بلى ثقل رسول الله قال: أصلى الناس قلنا لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قال: ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس فقلنا لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قالت والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله لصلاة العشاء الآخرة قالت فأرسل رسول الله إلى أبي بكر يصلي بالناس فأتاه الرسول فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا يا عمر صلي بالناس فقال عمر أنت أحق بذلك قالت فصلى بهم أبو بكر رضي الله عنه تلك الأيام

ثم إن رسول الله وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي أن لا يتأخر وقال لهما: أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي قاعد قال عبيد الله فدخلت على ابن عباس فقلت ألا أعرض عليك ما حدثتني به عائشة عن مرض رسول الله قال هات فعرضت عليه حديثها فما أنكر منه شيئا غير أنه قال أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس قلت لا هو علي بن أبي طالب

فهذا الحديث الذي اتفقت فيه عائشة وابن عباس كلاهما يخبران بمرض النبي واستخلاف أبي بكر في الصلاة وأنه صلى بالناس قبل خروج النبي أياما وأنه لما خرج لصلاة الظهر أمره أن لا يتأخر بل يقيم مكانه وجلس النبي إلى جنبه والناس يصلون بصلاة أبي بكر وأبو بكر يصلي بصلاة النبي

والعلماء كلهم متفقون على تصديق هذا الحديث وتلقيه بالقبول وتفقهوا في مسائل فيه منها صلاة النبي قاعدا وأبو بكر قائم هو والناس هل كان من خصائصه أو كان ذلك ناسخا لما استفاض عنه من قوله وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون أو يجمع بين الأمرين ويحمل ذلك على ما إذا أبتدأ الصلاة قاعدا وهذا على ما إذا حصل القعود في أثنائها على ثلاثة أقوال للعلماء والأول قول مالك ومحمد بن الحسن والثاني قول أبي حنيفة والشافعي والثالث قول أحمد وحماد بن زيد والأوزاعي وغيرهما ممن يأمر المؤتمين بالقعود إذا قعد الإمام لمرض وتكلم العلماء فيما إذا استخلف الإمام الراتب خليفة ثم حضر الإمام هل يتم الصلاة بهم كما فعل النبي في مرضه وفعله مرة أخرى سنذكرها أم ذلك من خصائصه على قولين هما وجهان في مذهب أحمد

وقد صدق ابن عباس عائشة فيما أخبرت به مع أنه كان بينهما بعض الشيء بسبب ما كان بينهما وبين علي ولذلك لم تسمه وابن عباس يميل إلى على ولايتهم عليه ومع هذا فقط صدقها في جميع ما قالت وسمى الرجل الآخر عليا فلم يكذبها ولم يخطئها في شيء مما روته

وفي الصحيحين عن عائشة قالت لقد راجعت رسول الله في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا وإلا اني كنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به فأردت أن يعدل ذلك رسول الله عن أبي بكر قال البخاري ورواه ابن عمر وأبو موسى وابن عباس عن النبي

وفي الصحيحين عنها قالت لما ثقل رسول الله جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت فقلت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت فقلت لحفصة قولي له إن إبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر فقالت له فقال رسول الله : إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت فأمروا أبا بكر أن يصلي بالناس وفي رواية البخاري ففعلت حفصة فقال رسول الله : مه إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت حفصة لعائشة ما كنت لأصيب منك خيرا

ففي هذا أنها راجعته وأمرت حفصة بمراجعته وأن النبي لامهن على هذه المراودة وجعلها من المراودة على الباطل كمراودة صواحب يوسف ليوسف فدل هذا على أن تقديم غير أبي بكر في الصلاة من الباطل الذي يذم من يراود عليه كما ذم النسوة على مراودة يوسف هذا مع أن أبا بكر قد قال لعمر يصلي فلم يتقدم عمر وقال أنت أحق بذلك فكان في هذا اعتراف عمر له أنه أحق بذلك منه كما اعترف له بأنه أحق بالخلافة منه ومن سائر الصحابة وأنه أفضلهم

كما في البخاري عن عائشة لما ذكرت خطبة أبي بكر بالمدينة وقد تقدم ذلك قالت واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول والله ما أردت بذلك إلا إني هيأت كلاما أعجبني خفت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال حباب بن المنذر لا نفعل منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا وأعرقهم أحسابا فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر قتله الله

ففي هذا الخبر إخبار عمر بين المهاجرين والأنصار أن أبا بكر سيد المسلمين وخيرهم وأحبهم إلى رسول الله ذلك علة مبايعته فقال بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله ليبين بذلك أن المأمور به تولية الأفضل وأنت أفضلنا فنبايعك

كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله سئل من أحب الرجال إليك قال: أبو بكر

ولما قال: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا وهذا مما يقطع أهل العلم بالحديث أن النبي قاله وإن كان من ليس له مثل علمهم لم يسمعه أو سمعه ولا يعرف أصدق هو أم كذب فلكل علم رجال يقولون به وللحروب رجال يعرفون بها وللدواوين حساب وكتاب وهؤلاء الثلاثة هم الذين عنتهم عائشة فيما رواه مسلم عن ابن أبي مليكة قال سمعت عائشة وسئلت من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف قالت أبو بكر فقيل لها من بعد أبي بكر قال عمر قيل لها من بعد عمر قالت أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا

والمقصود هنا أن استخلافه في الصلاة كان أياما متعددة كما اتفق عليه رواية الصحابة ورواه أهل الصحيح من حديث أبي موسى وابن عباس وعائشة وابن عمر وأنس ورواه البخاري من حديث ابن عمر وفيه قوله: مروا أبا بكر فليصل بالناس ومراجعة عائشة له في هذه القصة وذكر المراجعة مرتين وفيه قوله: مروه فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف ولم يزل يصلي بهم باتفاق الناس حتى مات رسول الله وقد رآهم النبي يصلون خلفه آخر صلاة في حياته وهي صلاة الفجر يوم الإثنين وسر بذلك وأعجبه

كما في الصحيحين عن أنس أن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع رسول الله الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم رسول الله ضاحكا قال فبهتنا ونحن في الصلاة من الفرح بخروج النبي ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله خارج للصلاة فأشار إليهم رسول الله بيده أن أتموا صلاتكم قال ثم دخل رسول الله فأرخى الستر قال فتوفى رسول الله من يومه ذلك

وفي بعض طرق البخارى قال فهم الناس أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا في رسول الله وذكر أن ذلك كان في صلاة الفجر

وفي صحيح مسلم عن أنس قال آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله كشف الستارة يوم الإثنين وذكر القصة

وفي الصحيحين عن أنس قال لم يخرج إلينا رسول الله ثلاثا فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم فقال نبي الله بالحجاب فرفعه فلما وضح لنا وجه النبي ما نظرنا منظرا قط أعجب ألينا من وجهه حين وضح لنا قال فأومأ نبي الله بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى نبي الله الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات

فقد أخبر أنس أن هذه الخرجة الثانية إلى باب الحجرة كانت بعد احتباسه ثلاثا وفي تلك الثلاث كان يصلي بهم أبو بكر كما كان يصلي بهم قبل خرجته الأولى التي خرج فيها بين علي والعباس وتلك كان يصلي قبلها أياما فكل هذا ثابت في الصحيح كأنك تراه

وفي حديث أنس أنه أومأ إلى أبي بكر أن يتقدم فيصلى بهم هذه الصلاة الآخرة التي هي آخر صلاة صلاها المسلمون في حياة النبي وهنا باشره بالإشارة اليه إما في الصلاة وإما قبلها

وفي أول الأمر أرسل إليه رسلا فأمروه بذلك ولم تكن عائشة هي المبلغة لأمره ولا قالت لأبيها إنه أمره كما زعم هؤلاء الرافضة المفترون

فقول هؤلاء الكذابين إن بلالا لما أذن أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر كذب واضح لم تأمره عائشة أن يقدم أبا بكر ولا تأمره بشيء ولا أخذ بلال ذلك عنها بل هو الذي آذنه بالصلاة وقال النبي لكل من حضره لبلال وغيره: مروا أبا بكر فليصل بالناس فلم يخص عائشة بالخطاب ولا سمع ذلك بلال منها

وقوله فلما أفاق سمع التكبير فقال: من يصلي بالناس فقالوا أبو فكر فقال: أخرجوني

فهو كذب ظاهر فإنه قد ثبت بالنصوص المستفيضة التي اتفق أهل العلم بالحديث على صحتها أن أبا بكر صلى بهم أياما قبل خروجه كما صلى بهم أياما بعد خروجه وأنه لم يصل بهم في مرضه غيره

ثم يقال من المعلوم المتواتر أن النبي مرض أياما متعددة عجز فيها عن الصلاة بالناس أياما فمن الذي كان يصلي بهم تلك الأيام غير أبي بكر ولم ينقل أحد قط لا صادق ولا كاذب أنه صلى بهم غير أبي بكر لا عمر ولا علي ولا غيرهما وقد صلوا جماعة فعلم أن المصلي بهم كان أبا بكر

ومن الممتنع أن يكون الرسول لم يعلم ذلك ولم يستأذنه المسلمون فيه فإن مثل هذا ممتنع عادة وشرعا فعلم أن ذلك كان بإذنه

كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وثبت أنه روجع في ذلك وقيل له لو أمرت غير أبي بكر فلام من من راجعة وجعل ذلك من المنكر الذي أنكره لعلمه بأن المستحق لذلك هو أبو بكر لا غيره

كما في الصحيحين عن عائشة قالت قال لي رسول الله : ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا لأبي بكر فإني أخاف أن يتمنى متمن أو يقول قائل أنا أولى ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر

وفي البخاري عن القاسم بن محمد قال قالت عائشة وارأساه فقال النبي ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك فقالت عائشة واثلكتاه والله إني لأظنك تحب موتي فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي : وارأساه لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى الممتمنون ويدفع الله ويأبى المؤمنون وهذا الحديث الصحيح فيه همه بأن يكتب لأبي بكر كتابا بالخلافة لئلا يقول قائل أنا أولى ثم قال: يأبي الله ذلك والمؤمنون فلما علم الرسول أن الله تعالى لا يختار إلا أبا بكر والمؤمنون لا يختارون إلا إياه اكتفى بذلك عن الكتاب فأبعد الله من لا يختار ما اختاره الله ورسوله والمؤمنون

وقد أراد النبي ذلك مرتين في مرضه قال لعائشة: ادعي لي أباك وأخاك وقال قبل ذلك لما اشتكت عائشة: لقد هممت أن أكتب لأبي بكر كتابا

ثم إنه عزم يوم الخميس في مرضه على الكتاب مرة أخرى كما في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال يوم الخميس اشتد برسول الله الوجع فقال: ائتوني بكتف أكتل لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا ما شأنه هجر استفهموه فذهبوا يردون عليه فقال: ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه فأمرهم بثلاث فقال: أخرجوا اليهود من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها

وفي رواية في الصحيحين قال وفي البيت رجال فيهم عمر فقال النبي : هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فقال بعضهم وفي رواية عمر رسول الله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم ومنهم من يقول ما قال عمر ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغط قال: قوموا عني قال عبيد الله الراوي عن الزهري قال ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه فحصل لهم شك هل قوله: أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده هو مما أوجبه المرض أو هو الحق الذي يجب اتباعه وإذا حصل الشك لهم لم يحصل به المقصود فأمسك عنه وكان لرأفته بالأمة يحب أن يرفع الخلاف بينها ويدعو الله بذلك ولكن قدر الله قد مضى بأنه لا بد من الخلاف

كما في الصحيح عنه أنه قال: سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلهكم بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها

ولهذا قال ابن عباس إن الرزية كل الزرية ما حال بين النبي وبين الكتاب فإن ذلك رزية في حق من شك في خلافة الصديق وقدح فيها إذ لو كان الكتاب الذي هم به أمضاه لكانت شبهة هذا المرتاب تزول بذلك ويقول خلافته ثبتت بالنص الصريح الجلي فلما لم يوجد هذا كان رزية في حقه من غير تفريط من الله ورسوله بل قد بلغ رسول الله البلاغ المبين وبين الأدلة الكثيرة الدالة على أن الصديق أحق بالخلافة من غيره وأنه المقدم

وليست هذه رزية في حق أهل التقوى الذين يهتدون بالقرآن وإنما كانت رزية في حق من في قلبه مرض كما كان نسخ ما نسخه الله وإنزل القرآن وانهزام المسلمين يوم احد وغير ذلك من مصائب الدنيا رزية في حق من في قلبه مرض

قال تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله سورة آل عمران وإن كانت هذه الأمور في حق من هداه الله مما يزيدهم الله به علما وإيمانا

وهذا كوجود الشياطين من الجن والإنس يرفع الله به درجات أهل الإيمان بمخالفتهم ومجاهدتهم مع ما في وجودهم من الفتنة لمن أضلوه وأغووه

وهذا كقوله تعالى وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا سورة المدثر 3وقوله وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه سورة البقرة 143

وقول موسى إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء سورة الأعراف 15وقوله إنا مرسلو الناقة فتنة لهم سورة القمر 2وقوله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم سورة الحج 52 55

فصل

وقد تقدم التنبيه على أن النبي أرشد الأمة إلى خلافة الصديق ودلهم علها وبين لهم أنه أحق بها من غيره

مثل ما أخرجاه في الصحيحين عن جبير بن مطعم أن امرأة سألت النبي شيئا فأمرها أن ترجع إليه فقالت يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك كأنها تعني الموت قال: فإن لم تجديني فأتي أبا بكر

والرسول علم أن الله لا يختار غيره والمؤمنون لا يختارون غيره ولذلك قال: يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فكان فيما دلهم به من الدلائل الشرعية وما علم بأن الله سيقدره من الخير الموافق لأمره ورضاه ما يحصل به تمام الحكمة في خلقه وأمره قدرا وشرعا

وقد ذكرنا أن ما اختاره الله كان أفضل في حق الأمة من وجوه وأنهم إذا ولوا بعلمهم واختيارهم من علموا أنه الأحق بالولاية عند الله ورسوله كان في ذلك من المصالح الشرعية ما لا يحصل بدون ذلك

وبيان الأحكام يحصل تارة بالنص الجلي المؤكده وتارة بالنص الجلي المجرد وتارة بالنص الذي قد يعرض لبعض الناس فيه شبهة بحسب مشيئة الله وحكمته

وذلك كله داخل في البلاغ المبين فإنه من ليس شرط البلاغ المبين أن لا يشكل على أحد فإن هذا لا ينضبط وأذهان الناس وأهواؤهم متفاوتة تفاوتا عظيما وفيهم من يبلغه العلم وفيهم من لا يبلغه إما لتفريطه وإما لعجزه

وإنما على الرسول البلاغ المبين البيان الممكن وهذا ولله الحمد قد حصل منه فإنه بلغ البلاغ المبين وترك الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك وما ترك من شئ يقرب إلى الجنة إلا أمر الخلق به ولا من شئ يقربهم من النار إلا نهاهم عنه فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن أمته

وأيضا فأمر النبي أبا بكر بالصلاة بالناس إذا غاب وإقراره إذا حضر قد كان في صحته قبل هذه المرة

كما في الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال أتصلي بالناس فأقيم قال نعم فصلى أبو بكر فجاء النبي في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصلاة فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة فلما أكثر الناس من التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله أن امكث مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي فصلى بهم ثم انصرف فقال: يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك فقال أبو بكر ما كان لأبن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله فقال رسول الله : مالي أراكم أكثرتم التصفيق من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء وفي رواية فجاء رسول الله فخرق الصفوف حتى قام عند الصف المقدم وفيها أن أبا بكر رجع القهقرى وفي رواية للبخاري فجاء بلال إلى أبي بكر فقال يا أبا بكر إن رسول الله قد حبس وقد حانت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس فقال نعم إن شئت وفي رواية

أيها الناس مالكم حين نابكم شيء في صلاتكم أخذتم في التصفيق إنما التصفيق للنساء من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله فإنه لا يسمعه أحد يقول سبحان الله إلا التفت يا أبا بكر ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك وفي رواية أن تلك الصلاة كانت صلاة العصر وأن النبي ذهب إلى بني عمرو بن عوف بعد ما صلى الظهر وفيه فلما أوما إليه النبي أن أمضه وأومأ بيده هكذا فلبث أبو بكر هنيهة يحمد الله على قول رسول الله ثم مشى القهقرى

وفي رواية أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم وفي رواية فحضرت الصلاة ولم يأت النبي فأذن بالصلاة ولم يأت النبي فهذا الحديث من أصح حديث على وجه الأرض وهو مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول وفيه أن أبا بكر أمهم في مغيب النبي لما حضرت صلاة العصر وهي الوسطى التي أمروا بالمحافظة عليها خصوصا وقد علموا أن النبي كان مشغولا ذهب إلى قباء ليصلح بين أهل قباء لما اقتتلوا وقد علموا من سنته أنه يأمرهم في مثل هذه الحال أن يقدموا أحدهم كما قدموا عبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك لصلاة الفجر لما أبطأ النبي حين ذهب هو والمغيرة لقضاء حاجته وكان عليه جبة من صوف وبلال هو المؤذن الذي هو أعلم بذلك من غيره فسأل أبا بكر أن يصلي بهم فصلى بهم لا سيما وقد أمرهم بتقديمه

ففي الصحيحين عن سهل بن سعد قال كان قتال بين بني عمرو بن عوف فبلغ ذلك رسول الله فأتاهم ليصلح بينه بعد الظهر فقال لبلال

إن حضرت الصلاة ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس وذكر الحديث ثم لما قدم النبي أشار إلى إبا بكر أن يتم بهم الصلاة فسلك أبو بكر مسلك الأدب معه وعلم أن أمره أمر إكرام لا أمر إلزام فتأخر تأدبا معه لا معصية لأمره فإذا كان هو يقره في حال صحته وحضوره على إتمام الصلاة بالمسلمين التي شرع فيها ويصلي خلفه كما صلى الفجر خلف عبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك صلى إحدى الركعتين وقضى الأخرى فكيف يظن به أنه في مرضه وإذنه له في الصلاة بالناس حتى يخرج ليمنعه من إمامته بالناس

فهذا ونحوه مما يبين أن حال الصديق عند الله وعند رسوله والمؤمنين في غاية المخالفة لما هي عند هؤلاء الرافضة المفترين الكذابين الذين هم ردء المنافقين وإخوان المرتدين والكافرين الذين يوالون أعداء الله ويعادون أولياءه

ولا ريب أن أبا بكر وأعوانه وهم أشد الأمة جهادا لللكفار والمنافقين والمرتدين وهم الذين قال الله فيهم فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء سورة المائدة 54 فأعوانه وأولياؤه خير الأمة وأفضلها وهذا أمر معلوم في السلف والخلف فخيار المهاجرين والأنصار الذين كانوا يقدمونه في المحبة على غيره ويرعون حقه ويدفعون عنه من يؤذيه

مثال ذلك أن أمراء الأنصار اثنان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وسعد بن معاذ أفضلهما

ففي الصحيح عن النبي أنه اهتز لموت سعد عرش الرحمن فرحا بقدوم روحه وحمله النبي على كاهله

ولما حكم في بني قريظة بحكم لم تأخذه في الله لومة لائم قال له النبي : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات

وقد عرف أنه وابن عمه أسيد بن حضير كانا من أعظم أنصار أبي بكر وابنته على أهل الإفك ولما دخل النبي مكة يوم الفتح كان أبو بكر رأس المهاجرين عن يمينه وأسيد بن حضير رأس الأنصار عن يساره فإن سعد بن معاذ كان قد توفي عقب الخندق بعد حكمه في بني قريظة

وقال أسيد بن حضير لما نزلت آية التيمم ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ما نزل ما تكرهينه إلا جعل الله لك فيه فرجا وجعل المسلمين فيه بركة

وعمر وأبو عبيدة وأمثالهما من خيار المهاجرين وكانا من أعظم أعوان الصديق وهؤلاء أفضل من سعد بن عبادة الذي تخلف عن بيعته وعن القيام على أهل الإفك وعزله عن الإمارة يوم فتح مكة وقد روي أن الجن قتله وإن كان مع ذلك من السابقين الأولين من أهل الجنة

وكذلك عمر وعثمان أفضل من علي فإنه لم يكن له في قصة الإفك من نصرة الصديق وفي خلافة أبي بكر من القيام بطاعة الله ورسوله ومعاونته أبو بكر ما كان لغيره والله حكم عدل يجزي الناس بقدر أعمالهم وقد فضل الله النبيين بعضهم على بعض وفضل الرسل على غيرهم وأولو العزم أفضل من سائر الرسل وكذلك فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على غيرهم وكلهم أولياء الله وكلهم في الجنة وقد رفع الله درجات بعضهم على بعض فكل من كان إلى الصديق أقرب من المهاجرين والأنصار كان أفضل فما زال خيار المسلمين مع الصديق قديما وحديثا وذلك لكمال نفسه وإيمانه

وكان رضي الله عنه من أعظم المسلمين رعاية لحق قرابة رسول الله وأهل بيته فإن كمال محبته للنبي أوجب سراية الحب لأهل بيته إذا كان رعاية أهل بيته مما أمر الله ورسوله به وكان الصديق رضي الله عنه يقول ارقبوا محمدا في آل بيته رواه عنه البخاري وقال والله لقرابة رسول الله أحب إلي أن أصل من قرابتي

منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57