منهاج السنة النبوية/42

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فقد يقول القائل إنهم كانوا في الباطن كارهين لمن يأمرهم بمثل ما أمرهم به الرسول لكن لما ألزمهم بذلك احتاجوا إلى التزامه لو لم يقدح فيهم بذلك لم يمدحوا إلا بمجرد الطاعة للأمر فإذا كانوا برضاهم واختيارهم اختاروا ما يرضاه الله ورسوله من غير إلزام كان ذلك أعظم لقدرهم وأعلى لدرجتهم وأعظم في مثوبتهم وكان ما اختاره الله ورسوله للمؤمنين به هو أفضل الأمور له ولهم

ألا ترى أنه أمر زيد بن حارثة وبعده أسامة بن زيد وطعن بعض الناس في إمارتهما واحتاجوا مع ذلك إلى لزوم طاعتهما فلو ألزمهم بواحد لكان يظن بهم أن مثل هذا كان في نفوسهم وأنه ليس الصديق عندهم بالمنزلة التي لا يتكلم فيها أحد

فلما اتفقوا على بيعته ولم يقل قط أحد إني أحق بهذا الأمر منه لا قرشي ولا أنصاري فإن من نازع أولا من الأنصار لم تكن منازعته للصديق بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير

وهذه منازعة عامة لقريش فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة وقال لهم الصديق رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح قال عمر فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر وقال له بمحضر الباقين أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة

ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه ولا رغبة بذلت لهم ولا رهبة فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة والذين بايعوه ليلة العقبة والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرهم

ولم يقل أحد قط إني أحق بهذا من أبي بكر ولا قاله أحد في أحد بعينه إن فلانا أحق بهذا الأمر من أبي بكر

وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية إن بيت الرسول أحق بالولاية لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك، فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا كما نقل عن أبي سفيان وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي وإن قدر أنه رجح عليا فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام

فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض وهو التقديم بالإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ولا خالف أحد من هؤلاء ولا من هؤلاء في أنه ليس في القوم أعظم إيمانا وتقوى من أبي بكر فقدموه مختارين له مطيعين فدل ذلك على كمال إيمانهم وتقواهم واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى وكان ما اختاره الله لنبيهم ولهم أفضل لهم والحمد لله على أن هدى هذه الأمة وعلى أن جعلنا من أتباعهم

فصل

قال الرافضي: الثالث أن الإمام يجب أن يكون حافظا للشرع لانقطاع الوحي بموت النبي وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الأحكام الجزئية الواقعة إلى يوم القيامة فلا بد من إمام منصوب من الله تعالى معصوم من الزلل والخطأ لئلا يترك بعض الأحكام أو يزيد فيها عمدا أو سهوا وغير علي لم يكن كذلك بالإجماع

والجواب من وجوه أحدها أنا لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظا للشرع بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع وحفظ الشرع يحصل بمجموع الأمة كما يحصل بالواحد بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرا من أن ينقله واحد منهم وإذا كان كل طائفة تقوم بهم الحجة تنقل بعصمة حصل المقصود وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من ليس بنبي فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ولو قيل إنهم معصومون فما نقله المهاجرون والأنصار أبلغ مما نقله هؤلاء

وأيضا فإن كان أكثر الناس يطعنون في عصمة الناقل لم يحصل ا فكيف إذا كان كثير من الأمة يكفرة

والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم

الوجه الثاني أن يقال أتريد به من يكون حافظا للشرع وإن لم يكن معصوما أو من يكون معصوما فإن اشترطت العصمة فهذا هو الوجه الأول وقد كررته وتقدم الجواب عليه وإن اشترطت مجرد الحفظ فلا نسلم أن عليا كان أحفظ للكتاب والسنة وأعلم بهما من أبي بكر وعمر بل هما كانا أعلم بالكتاب والسنة منه فبطل ما ادعاه من الإجماع

الوجه الثالث أن يقال أتعني بكونه حافظا للشرع معصوما أنه لا يعلم صحة شىء من الشرع إلا بنقله أم يمكن أن يعلم صحة شىء من الشرع بدون نقله

إن قلت بالثاني لم يحتج لا إلى حفظه ولا إلى عصمته فإنه إذا أمكن حفظ شىء من الشرع بدونه أمكن حفظ الآخر حتى يحفظ الشرع كله من غير حاجة إليه

وإن قلت بل معناه أنه لا يمكن معرفة شىء من الشرع إلا بحفظه

فيقال حينئذ لا تقوم حجة على أهل الأرض إلا بنقله ولا يعلم صحة نقله حتى يعلم أنه معصوم ولا يعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه فإن كان الإجماع معصوما أمكن حفظ الشرع به وإن لم يكن معصوما لم تعلم عصمته

الوجه الرابع أن يقال فبماذا تثبت نبوة محمد عند من يقر بنبوته

فإن قيل بما نقله الإمام من معجزاته

قيل من لم يقر بنبوة محمد لم يقر بإمامة علي رضي الله عنه بطريق الأولى بل يقدح في هذا وهذا

وإن قيل بما تنقله الأمة نقلا متواترا من معجزاته كالقرآن وغيره

قيل فإذا كان نقل الأمة المتواتر حجة يثبت بها أصل نبوته فكيف لا يكون حجة يثبت بها فروع شريعته

الوجه الخامس أن الإمام هل يمكنه تبليغ الشرع إلى من ينقله عنه بالتواتر أم لا يزال منقولا نقل الآحاد من إمام إلى إمام فإن كان الإمام يمكنه ذلك فالنبي يمكنه ذلك بطريق الأولى وحينئذ فلا حاجة إلى نقل الإمام

وإن قيل لا يمكنه ذلك،

لزم أن يكون دين الإسلام لا ينقله إلا واحد بعد واحد والنقلة لا يكونون إلا من أقارب رسول الله الذين يمكن القادح في نبوته أن يقول إنهم يقولون عليه مايشاؤون ويصير دين المسلمين شرا من دين النصارى واليهود الذين يدعون أن أئمتهم يختصون بعلمه ونقله

الوجه السادس أن ما ذكروه ينقص من قدر النبوة فإنه إذا كان الذي يدعي العصمة فيه وحفظ من عصبته كان ذلك من أعظم التهم التي توجب القدح في نبوته ويقال إن كان طالب ملك أقامه لأقاربه وعهد إليهم مايحفظون به الملك وأن لا يعرف ذلك غيرهم فإن هذا بأمر الملك أشبه منه بأمر الأنبياء

الوجه السابع أن يقال الحاجة ثابتة إلى معصوم في حفظ الشرع ونقله وحينئذ فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة الذين حفظوا القرآن والحديث وبلغوه هم المعصومين الذين حصل بهم مقصود حفظ

الشرع وتبليغه ومعلوم أن العصمة إذا حصلت في الحفظ والتبليغ من النقلة حصل المقصود وإن لم يكونوا هم الأئمة

الوجه الثامن أن يقال لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفه بحسب ماحملته من الشرع فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على الأحكام

وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به عن واحد معدوم

الوجه التاسع أنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلغه إلا واحد بعد واحد معصوم عن معصوم وهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستين سنة لم يأخذ عنه أحد شيئا من الشرع فمن أين علمتم القرآن من أكثر من أربعمائة سنة ولم لا يجوز ان يكون هذا القرآن الذي تقرؤونه ليس فيه شىء من كلام الله

وكذلك من أين لكم العلم بشىء من أحوال النبي وأحكامه وأنتم لم تسمعوا شيئا من ذلك من معصوم لأن المعصوم إما مفقود وإما معدوم

فإن قالوا تواتر ذلك عند أصحابنا بنقلهم عن الأئمة المعصومين

قيل فإذا كان تواتر أصحابكم عن الأئمة يوجب حفظ الشرع ونقله فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أولى بحفظ الشرع ونقله من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد

وهم يقولون إن ما بأيديهم من العلم الموروث عمن قبل المنتظر يغنيهم عن أخذ شىء من المنتظر فلماذا لا يكون ما بأيدي الأمة عن نبيها يغنيها عن أخذ شىء عمن بعده وإذا كانوا يدعون أن ماينقلونه عن واحد من الاثنى عشر ثابت فلماذا لا يكون ما تنقله الأمة عن نبيها ثابتا

ومن المعلوم أن مجموع الأمة أضعاف أضعاف الرافضة بكثير وأنهم أحرص على حفظ دين نبيهم وتبليغه أقدر على ذلك من الرافضة على حفظ ما يقوله هؤلاء ونقله وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور

الوجه العاشر أن يقال قولك لانقطاع الوحى وقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام أتريد به قصورها عن بيان جزئى جزئى بعينه أو قصورها عن البيان الكلي المتناول للجزئيات

فإن ادعيت الأول قيل لك وكلام الإمام وكل أحد بهذه المنزلة فإن الأمير إذا خاطب الناس فلا بد أن يخاطبهم بكلام عام يعم الأعيان والأفعال وغير ذلك فإنه من الممتنع أن يعين بخطابه كل فعل من كل فاعل في كل وقت فإن هذا غير ممكن فإذا لا يمكنه إلا الخطاب العام الكلي والخطاب العام الكلي ممكن من الرسول

وإن ادعيت أن نفس نصوص الرسول ليست عامة كلية

قيل لك هذا ممنوع وبتقدير أن يمنع هذا في نصوص الرسول الذي هو أكمل من الإمام فمنع ذلك من نصوص الإمام أولى وأحرى فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى أحد أمرين إما ثبوت عموم الألفاظ وإما ثبوت عموم المعاني بالاعتبار وأيهما كان أمكن إثباته في خطاب الرسول فلا يحتاج في بيانه الأحكام إلى الإمام

الوجه الحادي عشر أن يقال وقد قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم سورة إبراهيم 4 وقال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل سورة النساء 165 وقال تعالى وما على الرسول إلا البلاغ المبين سورة النور 54 وأمثال ذلك

فيقال وهل قامت الحجة على الخلق ببيان الرسوم أم لا؟ فإن لم تقم بطلت هذه الآيات وما كان في معناها وإن قامت الحجة ببيان الرسول علم أنه لا يحتاج إلى معين آخر يفتقر الناس إلى بيانه فضلا عن حفظ تبليغه وأن ما جعل الله في الإنسان من القوة الناقلة لكلام الرسول وبيانه كافية من ذلك لا سيما وقد ضمن الله حفظ ما أنزله من الذكر فصار ذلك مأمونا أن يبدل أو يغير

وبالجملة دعوى هؤلاء المخذولين أن دين الإسلام لا يحفظ ولا يفهم إلا بواحد معين من أعظم الإفساد لأصول الدين وهذا لا يقوله وهو يعلم لوازمه إلا زنديق ملحد قاصد لإبطال الدين ولا يروج هذا إلا على مفرط في الجهل والضلال

الوجه الثاني عشر أن يقال قد علم بالاضطرار أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنة بدون نقل علي فإن عمر رضي الله عنه لما فتح الأمصار بعث إلى الشام والعراق من علماء الصحابة من علمهم وفقههم واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين ولم يكن ما بلغه علي للمسلمين أعظم مما بلغه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأمثالهما

وهذا أمر معلوم ولو لم يحفظ الدين إلا بالنقل عن علي لبطل عامة الدين فإنه لا يمكن أن ينقل عن علي إلا أمر قليل لا يحصل به المقصود والنقل عنه ليس متواترا وليس في زماننا معصوم يمكن الرجوع إليه فلا حول ولا قوة إلا بالله ما أسخف عقول الرافضة

فصل

قال الرافضي الرابع أن الله تعالى قادر على نصب إمام معصوم وحاجة العالم داعية إليه ولا مفسدة فيه فيجب نصبه وغير علي لم يكن كذلك إجماعا فتعين أن يكون الإمام هو علي أما القدرة فظاهرة وأما الحاجة فظاهرة أيضا لما بينا من وقوع التنازع بين العالم وأما انتفاء المفسدة فظاهر أيضا لأن المفسدة لازمة لعدمه وأما وجوب نصبه فلأن عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل

والجواب أن هذا هو الوجه الأول بعينه ولكن قرره وقد تقدمت الأجوبة عنه بمنع المقدمة الأولى وبيان فساد هذا الاستدلال فإن مبناه على الاحتجاج بالإجماع فإن كان الإجماع معصوما أغنى عن عصمة علي وإن لم يكن معصوما بطلت دلالته على عصمة علي فبطل الدليل على التقديرين

ومن العجب أن الرافضة تثبت أصولها على ما تدعيه من النص والإجماع وهم أبعد الأمة عن معرفة النصوص والإجماعات والاستدلال بها بخلاف السنة والجماعة فإن السنة تتضمن النص والجماعة تتضمن الإجماع فأهل السنة والجماعة هم المتبعون للنص والإجماع

ونحن نتكلم على هذا التقرير ببيان فساده وذلك من وجوه

أحدها أن يقال لا نسلم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم وذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة

قالوا لأن من كان من الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا دينهم بعث الله نبيا يبين الحق وهذه الأمة لا نبي بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة فلا يمكن أحدا منهم أن يبدل شيئا من الدين إلا أقام الله من يبين خطأه فيما بدله فلا تجتمع الأمة على ضلال

كما قال لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة وقال إن الله أجاركم على لسان نبيكم أن تجتمعوا على ضلالة إلى غير ذلك من الدلائل الدالة على صحة الإجماع

الثاني إن أريد بالحاجة أن حالهم مع وجوده أكمل فلا ريب أن حالهم مع عصمة نواب الإمام أكمل وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل وليس كل ما تقدره الناس أكمل لكل منهم يفعله الله ولا يجب عليه فعله

وإن أريد أنهم مع عدمه يدخلون النار أو لا يعيشون في الدنيا أو يحصل لهم نوع من الأذى، فيقال هب أن الأمر كذلك فلم قلت إن أزالة هذا واجب ومعلوم أن الأمراض والهموم والغموم موجودة والمصائب في الأهل والمال والغلاء موجود والجوائح التي تصيب الثمار موجودة وليس ما يصيب المظلوم من الضرر بأعظم مما يصيبه من هذه الأسباب والله تعالى لم يزل ذلك

الثالث أن قوله عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل

يقال له لم قلت إن الداعي ثابت والصارف منتف

وقوله حاجة العالم داعية إليه

يقال له الداعي هو الذي يكون داعيا للفاعل فلم قلت إن مجرد الحاجة داعية للرب تعالى فيها

وكذلك قوله وانتفاء الصارف وأنت لم تدع إلا عدم المفسدة التي ادعيتها فلم قلت لا مفسدة في ذلك كما يقال إن الواحد منا يحتاج إلى المال والصحة والقوة وغير ذلك

الرابع أن قوله إن الله قادر على نصب إمام معصوم أتريد به معصوما بفعل الطاعات باختياره والمعاصي باختياره والله تعالى لم يخلق اختياره كما هو قولهم أم تريد به أنه معصوم يفعل الطاعات بغير اختيار يخلقه الله فيه

فإن قالوا بالأول كان باطلا على أصلهم فإن الله عندهم لا يقدر على خلق مؤمن معصوم بهذا التفسير كما لا يقدر على خلق مؤمن وكافر عندهم بهذا التفسير فإن الله عندهم لا يقدر على فعل الحي المختار ولا يخلق إرادته المختصة بالطاعة دون المعصية

وإن قالوا بهذا الثاني لم يكن لهذا المعصوم ثواب على فعل الطاعة ولا على ترك المعصية وحينئذ فسائر الناس يثابون على طاعتهم وترك معاصيهم أفضل منه فكيف يكون الإمام المعصوم الذي لا ثواب له أفضل من أهل الثواب

فتبين انتقاض مذهبهم حيث جمعوا بين متناقضين بين إيجاب خلق معصوم على الله وبين قولهم إن الله لا يقدر على جعل أحد معصوما باختياره بحيث يثاب على فعله للطاعات وتركه للمعاصي

الوجه الخامس أن يقال قولك يقدر على نصب إمام معصوم لفظ مجمل فإنه يقال إن الله يقدر على جعل هذا الجسم أسود وأبيض ومتحركا وساكنا وميتا وحيا وهذا صحيح بمعنى أن الله إن شاء سوده وإن شاء بيضه وإن شاء أحياه وإن شاء أماته لكن ليس المراد أنه يصير أبيض وأسود في حال واحدة فإن اجتماع الضدين ممتنع لذاته فليس بشيء ولا يسمى شيئا باتفاق الناس ولا يدخل في عموم قوله والله على كل شيء قدير سورة البقرة 28وإذا كان كذلك فقولك قادر على نصب إمام معصوم إن أردت أنه قادر على أن ينصب إماما ويلهمه فعل الطاعات وترك المعاصي فلا ريب أن الله قادر على ذلك غيره كما هو قادر على أن يجعل جميع البشر معصومين كالإمام بجعل كل واحد من البشر نبيا وأمثال ذلك من مقدورات الله تعالى

وإن أردت أنه مع ذلك تحصل حكمته المنافية لوجود ذلك التي يمتنع وجودها إلا مع عدم ذلك فهذا يستلزم الجمع بين الضدين فمن أين تعلم انتفاء جميع أنواع الحكمة التي تنافي وجود ذلك

ولو لم يكن الأعظم أجر المطيعين إذا لم يكن لهم إمام معصوم فإن معرفة الطاعة والعمل بها حينئذ أشق فثوابه أكبر وهذا الثواب يفوت بوجود المعصوم

وأيضا فحفظ الناس للشرع وتفقههم في الدين واجتهادهم في معرفة الدين والعمل به تقل بوجود المعصوم فتفوت هذه الحكم والمصالح

وأيضا فجعل غير النبي مماثلا للنبي في ذلك قد يكون من أعظم الشبه والقدح في خاصة النبي فإنه إذا وجب أن يؤمن بجميع ما يقوله هذا كما يجب الإيمان بجميع ما يقوله النبي لم تظهر خاصة النبوة فإن الله أمرنا أن نؤمن بجميع ما أتى به النبيون فلو كان لنا من يساويهم في العصمة لوجب الإيمان بجميع ما يقوله فيبطل الفرق

الوجه السادس أن يقال المعصوم الذي تدعو الحاجة اليه أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد أم هو عاجز عن ذلك الثاني ممنوع فإن العاجز لا يحصل به وجود المصلحة ولا دفع المفسدة بل القدرة شرط في ذلك فإن العصمة تفيد وجود داعية إلى الصلاح لكن حصول الداعي بدون القدرة لا يوجب حصول المطلوب

وإن قيل بل المعصوم القادر

قيل فهذا لم يوجد وإن كان هؤلاء الاثنا عشر قادرين على ذلك ولم يفعلوه لزم أن يكونوا عصاه لا معصومين وإن لم يقدروا لزم أن يكونوا عاجزين فأحد الأمرين لازم قطعا أو كلاهما العجز وانتفاء العصمة وإذا كان كذلك فنحن نعلم بالضرورة انتفاء ما استدل به على وجوده والضروريات لا تعارض بالاستدلال

الوجه السابع أن يقال هذا موجود في هذا الزمان وسائر الأزمنة وليس في هذا الزمان أحد يمكنه العلم بما يقوله فضلا عن كونه يجلب مصلحة أو يدفع مفسدة فكان ما ذكروه باطلا

الوجه الثامن أنه سبحانه وإن كان قادرا على نصب معصوم فلا نسلم أنه لا مفسده في نصبه وهذا النفي العام لا بد له من دليل ولا يكفي في ذلك عدم العلم بالمفسدة فإن عدم العلم ليس علما بالعدم ثم من المفاسد في ذلك أن يكون طاعة من ليس بنبي وتصديقه مثل طاعة النبي مطلقا وإذا ساوى النبي في وجوب طاعته في كل شيء ووجوب تصديقه في كل شيء ونفى كل غلط منه

فيقال فأي شيء خاصة النبي التي انفرد بها عنه حتى صار هذا نبيا وهذا ليس بنبي

فإن قيل بنزول الوحي عليه

قيل إذا كان المقصود بنزول الوحي عليه قد حصل له فقد استراح من التعب الذي كان يحصل للنبي وقد شاركه في المقصود

وأيضا فعصمته إنما تكون بإلهام الحق له وهذا وحي

وأيضا فإما أن يخبر بما أخبر به النبي ويأمر بما أمر به أو يخبر بأخبار وأوامر زائدة فإن كان الأول لم يكن إليه حاجة ولا فيه فائدة فإن هذا قد عرف بأخبار الرسول وأوامره وإن كان غير ذلك وهو معصوم فيه فهذا نبي فإنه ليس بمبلغ عن الأول

وإذا قيل بل يحفظ ما جاء به الرسول، قيل يحفظه لنفسه أو للمؤمنين فإن كان لنفسه فلا حاجة بالناس إليه وإن كان للناس فبأي شىء يصل إلى الناس ما يحفظه أفبالتواتر أم بخبر الواحد فبأى طريق وصل ذلك منه إلى الناس الغائبين وصل من الرسول إليهم مع قلة الوسائط

ففي الجملة لا مصلحة في وجود معصوم بعد الرسول إلا وهي حاصلة بدونه وفيه من الفساد مالا يزول إلا بعدمه فقولهم الحاجة داعية إليه ممنوع وقولهم المفسدة فيه معدومة ممنوع

بل الأمر بالعكس فالمفسدة معه موجودة والمصلحة معه منتفية وإذا كان اعتقاد وجوده قد أوجب من الفساد ما أوجب فما الظن بتحقق وجوده

فصل

قال الرافضي الخامس أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته وعلي أفضل أهل زمانه على ما يأتي فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا ونقلا قال تعالى أفمن يهدي إلىالحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون سورة يونس 3والجواب من وجوه

أحدها منع المقدمة الثانية الكبرى فإنا لا نسلم أن عليا أفضل أهل زمانه بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما ثبت ذلك عن علي وغيره وسيأتي الجواب عما ذكروه وتقرير ما ذكرناه

الثاني أن الجمهور من أصحابنا وغيرهم وإن كانوا يقولون يجب توليه الأفضل مع الإمكان لكن هذا الرافضي لم يذكر حجة على هذه المقدمة وقد نازعه فيها كثير من العلماء وأما الآية المذكورة فلا حجة فيها له لأن المذكور في الآية من يهدي إلى الحق ومن لا يهدي إلا أن يهدي والمفضول لا يجب أن يهدي إلا أن يهديه الفاضل بل قد يحصل له هدى كثير بدون تعلم من الفاضل وقد يكون الرجل يعلم ممن هو أفضل منه وإن كان ذلك الأفضل قد مات وهذا الحي الذي هو أفضل منه لم يتعلم منه شيئا

وأيضا فالذي يهدي إلى الحق مطلقا هو الله والذي لا يهدي إلا أن يهدي صفة كل مخلوق لا يهدي إلا أن يهديه الله تعالى وهذا هو المقصود بالآية وهي أن عبادة الله أولى من عبادة خلقه

كما قال في سياقها قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى سورة يونس 3فافتتح الآيات بقوله قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت سورة يونس 31 إلى قوله قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق سورة يونس 3وأيضا فكثير من الناس يقول ولاية الأفضل واجبة إذا لم تكن في ولاية المفضول مصلحة راجحة ولم يكن في ولاية الأفضل مفسدة

وهذه البحوث يبحثها من يرى عليا أفضل من أبي بكر وعمر كالزيدية وبعض المعتزلة أو من يتوقف في ذلك كطائفة من المعتزلة

وأما أهل السنة فلا يحتاجون إلى منع هذه المقدمة بل الصديق عندهم أفضل الأمة لكن المقصود أن نبين أن الرافضة وإن قالوا حقا فلا يقدرون أن يدلوا عليه بدليل صحيح لأنهم سدوا على أنفسهم كثيرا من طرق العلم فصاروا عاجزين عن بيان الحق حتى أنه لا يمكنهم تقرير إيمان علي على الخوارج ولا تقرير إمامته على المروانية

ومن قاتله فإن ما يستدل به على ذلك قد أطلق جنسه على أنفسهم لأنهم لا يدرون ما يلزم أقوالهم الباطلة من التناقض والفساد لقوة جهلهم واتباعهم الهوى بغير علم

قال الرافضي المنهج الثاني في الأدلة المأخوذة من القرآن والبراهين الدالة على إمامة علي من الكتاب العزيز كثيرة

الأول قوله تعالى أنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون وقد أجمعوا أنها نزلت في علي قال الثعلبي في إسناده إلى أبي ذر قال سمعت رسول الله بهاتين وإلا صمتا ورايته بهاتين وإلا عميتا يقول علي قائد البررة وقاتل الكفرة فمنصور من نصره ومخذول من خذله أما أني صليت مع رسول الله يوما صلاة الظهر فسال سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء وقال اللهم أنك تشهد أني سالت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا وكان علي راكعا فأومأ بخنصره اليمنى وكان متختما فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم وذلك بعين النبي فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم أن موسى سألك وقال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري فأنزلت عليه قرأنا ناطقا سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري قال أبو ذر فما استتم كلام رسول الله حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال يا محمد اقرأ قال وما اقرأ قال اقرأ أنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون

ونقل الفقيه ابن المغازلي الواسطي الشافعي أن هذه نزلت في علي والولي هو المتصرف وقد اثبت له الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله

والجواب من وجوه أحدها أن يقال ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا بل كل ما ذكره كذب وباطل من جنس السفسطة وهو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين كقوله تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين

وقال تعالى آمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين

فالصادق لا بد له من برهان على صدقه والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم

وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل وسنبين إن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها فتسمية هذه براهين من أقبح الكذب

ثم أنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس مع أنه قد يكون كذبا عليه وإن كان صدقا فقد خالف أكثر الناس فإن كان قول الواحد الذي لم يعلم صدقه وقد خالفه الأكثرون برهانا فأنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض والبراهين لا تتناقض بل سنبين إن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق وأن القرآن حق وأن دين الإسلام حق تناقض ما ذكره من البراهين فإن غاية ما يدعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب وتأمل لوازمه وجده يقدح في الأيمان والقرآن والرسول

وهذا لأن اصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين مقصودهم الطعن في القرآن والرسول ودين الإسلام فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام وروجوها على أقوام فمنهم من كان صاحب هوى وجهل فقبلها لهواه ولم ينظر في حقيقتها ومنهم من كان له نظر فتدبرها فوجدها تقدح في حق الإسلام فقال بموجبها وقدح بها في دين الإسلام أما لفساد اعتقاده في الدين وأما لاعتقاده أن هذه صحيحة وقدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام

ولهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب فأن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلطوا به على الطعن في الإسلام وصارت شبها عند من لم يعلم أنه كذب وكان عنده خبرة بحقيقة الإسلام

وضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين وكان مبدأ ضلالهم تصديق اللرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث كأئمة العبيديين أنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضلال ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة إلى القدح في علي ثم في النبي ثم في إلالاهية كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز إلى الكفر والإلحاد

ثم نقول ثانيا الجواب عن هذه الآية حق من وجوه الأول أنا نطالبه بصحة هذا النقل أو لايذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة فأن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبي أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات الصادقين في نقلها ليس بحجة باتفاق أهل العلم أن لم نعرف ثبوت إسناده وكذلك إذا روى فضيلة لأبي بكر وعمر لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم

فالجمهور أهل السنة لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته لا حكما ولا فضيلة ولا غير ذلك وكذلك الشيعة

وإذا كان بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها بطل الاحتجاج به وهكذا القول في كل ما نقله وعزاه إلى أبي نعيم أو الثعلبي أو النقاش أو ابن المغازلي ونحوهم

الثاني قوله قد أجمعوا أنها نزلت في علي من أعظم الدعاوى الكاذبة بل اجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة واجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع

وأما ما نقله من تفسير الثعلبي فقد اجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي إمامة في فضل تلك السورة وكأمثال ذلك ولهذا يقولون هو كحاطب ليل

وهكذا الواحدي تلميذه وأمثالهما من المفسرين زيادة ينقلون الصحيح والضعيف

ولهذا لما كان البغوي عالما بالحديث اعلم به من الثعلبي والواحدي وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي لم يذكر في تفسيره شيئا من الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبي مع أن الثعلبي فيه خير ودين لكنه لا خبرة له بالصحيح من الأحاديث زيادة ولا يميز بين السنة والبدعة في كثير من الأقوال

وأما أهل العلم الكبار أهل التفسير مثل تفسير محمد بن جرير الطبري وبقي بن مخلد وابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم وأمثالهم فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات

دع من هو اعلم منهم مثل تفسير احمد بن حنبل واسحق بن راهويه بل ولا يذكر مثل هذا عند ابن حميد ولا عبد الرزاق مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع ويروي كثيرا من فضائل علي وأن كانت ضعيفة لكنه اجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب الظاهر

وقد اجمع أهل العلم بالحديث إلى أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد من جنس الثعلبي والنقاش والواحدي وأمثال هؤلاء المفسرين لكثرة ما يروونه من الحديث ويكون ضعيفا بل موضوعا فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى لم يجز أن نعتمد عليه لكون الثعلبي وأمثاله رووه فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب

وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يبين كذبه عقلا ونقلا وإنما المقصود هنا بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله حيث قال قد أجمعوا أنها نزلت في علي فيا ليت شعري من نقل هذا الإجماع من أهل العلم والعالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يقبل من غير اهل العلم بالمنقولات وما فيها من إجماع واختلاف

فالمتكلم والمفسر والمؤرخ ونحوهم لو ادعى أحدهم نقلا مجردا بلا إسناد ثابت لم يعتمد عليه فكيف إذا ادعى إجماعا

الوجه الثالث أن يقال هؤلاء المفسرون الذين نقل من كتبهم هم ومن هم اعلم منهم قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدعى والثعلبي قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول نزلت في أبي بكر ونقل عن عبد الملك قال سألت أبا جعفر قال هم المؤمنون قلت فأن أناسا يقولون هو علي قال فعلي من الذين آمنوا وعن الضحاك مثله

وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه قال حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح حدثنا علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه قال كل من آمن فقد تولى الله ورسوله الذين آمنوا قال وحدثنا أبو سعيد إلاشج عن المحاربي عن عبد الملك بن أبي سليمان قال سالت أبا جعفر محمد بن علي عن هذه الآية فقال هم الذين آمنوا قلت نزلت في علي قال علي من الذين آمنوا وعن السدي مثله

الوجه الرابع أنا نعفيه من الإجماع ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناده ضعيف فيه رجال متهمون وأما نقل ابن المغازلي الو اسطي فاضعف واضعف فأن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب على من له أدنى معرفة بالحديث والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا

الوجه الخامس أن يقال لو كان المراد بالآية أن يؤتى الزكاة حال ركوعه كما يزعمون أن عليا تصدق بخاتمه في الصلاة لوجب أن يكون ذلك شرطا في الموالاة وأن لا يتولى المسلمون إلا عليا وحده فلا يتولى الحسن ولا الحسين ولا سائر بني هاشم وهذا خلاف إجماع المسلمين

الوجه السادس أن قوله الذين صيغة جمع فلا يصدق على علي وحده

الوجه السابع أن الله تعالى لا يثني على الإنسان إلا بما هو محمود عنده أما واجب وأما مستحب والصدقة والعتق والهدية والهبة والإجارة والنكاح والطلاق وغير ذلك من العقود في الصلاة ليست واجبة ولا مستحبة باتفاق المسلمين بل كثير منهم يقول أن ذلك يبطل الصلاة وأن لم يتكلم بل تبطل بإلاشارة المفهمة وآخرون يقولون لا يحصل الملك بها لعدم الإيجاب الشرعي ولو كان هذا مستحبا لكان النبي يفعله ويحض عليه أصحابه ولكان علي يفعله في غير هذه الواقعة

فلما لم يكن شيء من ذلك علم أن التصدق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة وإعطاء السائل لا يفوت فيمكن المتصدق إذا سلم أن يعطيه وأن في الصلاة لشغلا

الوجه الثامن أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة لم يختص بالركوع بل يكون في القيام والقعود أولى منه في الركوع فكيف يقال لا ولي لكم إلا الذين يتصدقون في كل الركوع فلو تصدق المتصدق في حال القيام والقعود أما كان يستحق هذه الموالاة

فإن قيل هذه أراد بها التعريف بعلي على خصوصه

قيل له أوصاف علي التي يعرف بها كثيرة ظاهرة فكيف يترك تعريفه الأمور المعروفة ويعرفه بأمر لا يعرفه إلا من سمع هذا وصدقه

وجمهور إلامة لم تسمع هذا الخبر ولا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة لاالصحاح ولا السنن ولا الجوامع ولا المعجمات ولا شيء من أمهات أحد الأمرين لازم أن قصد به المدح بالوصف فهو باطل وأن قصد به التعريف فهو باطل

الوجه التاسع أن يقال قوله ويؤتون الزكاة وهم راكعون على قولهم يقتضي أن يكون قد أتى الزكاة في حالة ركوعه وعلي رضي الله عنه لم يكن ممن تجب عليه على عهد النبي فأنه كان فقيرا وزكاة الفضة أنما تجب على من ملك النصاب حولا وعلي لم يكن من هؤلاء

الوجه العاشر أن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزي عند كثير من الفقهاء إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحلي وقيل أنه يخرج من جنس الحلي ومن جوز ذلك بالقيمة فالتقويم في الصلة متعذر والقيم تختلف باختلاف الأحوال

الوجه الحادي عشر أن هذه آلية بمنزلة قوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين هذا أمر بالركوع

وكذلك قوله يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين وهذا أمر بالركوع

قد قيل ذكر ذلك ليبين أنهم يصلون الجماعة لأن المصلي في الجماعة أنما يكون مدركا للركعة بادراك ركوعها بخلاف الذي لم يدرك إلا السجود فأنه قد فاتته الركعة وأما القيام فلا يشترط فيه الإدراك

وبالجملة الواو أما واو الحال وأما واو العطف والعطف هو الأكثر وهي المعروفة في مثل هذا الخطاب وقوله أنما يصح إذا كانت واو الحال فأن لم يكن ثم دليل على تعيين ذلك بطلت الحجة فكيف إذا كانت الأدلة تدل على خلافة

الوجه الثاني عشر أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير خلفا عن سلف أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين لما كان بعض المنافقين مثل كعبد الله بن أبي يوالي اليهود ويقول إني أخاف الدوائر فقال بعض المؤمنين وهو عبادة بن الصامت إني يا رسول الله أتولى الله ورسوله وأبرا إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم

ولهذا لمل جاءتهم بنو قينقاع وسبب تأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول فأنزل الله هذه الآية يبين فيها وجوب موالاة المؤمنين زيادة عموما وينهى عن موالاة الكفار عموما وقد تقدم كلام الصحابة والتابعين أنها عامة لا تختص بعلي الوجه الثالث عشر أن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر القرآن فأنه قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فأنه منهم أن الله لا يهدي القوم الظالمين

فهذا نهي عن موالاة اليهود والنصارى

ثم قال فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده إلى قوله فاصبحوا خاسرين فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض الذين يوالون الكفار المنافقين

ثم قال يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم فذكر فعل المرتدين وأنهم لن يضروا الله شيئا وذكر من يأتي به بدلهم

ثم قال أنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين رسوله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون

فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين وممن يرتد عنه وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهرا وباطنا

فهذا السياق مع أتيناه أتى بصيغة الجمع مما يوجب لمن تدبر ذلك علما يقينا لا يمكنه دفعه عن نفسه أن الآية عامة في كل المؤمنين المتصنفين بهذه الصفات لا تختص بواحد بعينه لا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا غيرهم لكن هؤلاء أحق إلامة بالدخول فيها

الوجه الرابع عشر أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يعلم أنها كذب على النبي فأن عليا ليس قائدا لكل البررة بل لهذه الأمة رسول الله ولا هو أيضا قاتلا لكل الكفره بل قتل بعضهم كما قتل غيره بعضهم

وما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار إلا وهو قاتل لبعض الكفرة

وكذلك قوله منصور من نصره ومخذول من خذله هو خلاف

الواقع والنبي لا يقول إلا حقا لا سيما على قول الشيعة فأنهم يدعون أن إلامة كلها خذلته إلى قتل عثمان

ومن المعلوم أن الأمة كانت منصورة في أعصار الخلفاء الثلاثة نصرا لم يحصل لها بعده مثله ثم لما قتل عثمان وصار الناس ثلاثة أحزاب حزب نصره وقاتل معه وحزب قاتلوه وحزب خذلوه لم يقاتلوا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء لم يكن الذين قاتلوا معه منصورين على الحزبين الآخرين ولا على الكفار بل أولئك الذين نصروا عليهم وصار الأمر لهم لما تولى معاوية فانتصروا على الكفار وفتحوا البلاد أنما كان علي منصورا كنصر أمثاله في قتال الخوارج والكفار

والصحابة الذين قاتلوا الكفار والمرتدين كانوا منصورين نصرا عظيما فالنصر وقع كما وعد الله به حيث قال أنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد

فالقتال الذي كان بأمر الله وأمر رسوله من المؤمنين للكفار والمرتدين والخوارج كانوا فيه منصورين نصرا عظيما إذا اتقوا وصبروا فإن التقوى والصبر من تحقيق الإيمان الذي علق به النصر

وأيضا فالدعاء الذي ذكره عن النبي عقب التصدق بالخاتم من اظهر الكذب فمن المعلوم أن الصحابة أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه ما هو أعظم قدرا ونفعا من إعطاء سائل خاتما

وفي الصحيحين عن النبي أنه قال ما نفعني مال كمال أبي بكر أن آمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا

وقد تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة حتى قال النبي ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم

والإنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام أعظم من صدقة على سائل محتاج ولهذا قال النبي لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه أخرجاه في الصحيحين

قال تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى

فكذلك الإنفاق الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه

وأما إعطاء السؤال لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة فإذا كان النبي لأجل تلك النفقات العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء فكيف يدعوا به لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذبا في سؤاله

ولا ريب أن هذا ومثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت لأبي بكر بقوله وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى، بأن يذكر لعلي شيئا من هذا الجنس فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على مفرط في الجهل

وأيضا فكيف يجوز أن يقول النبي في المدينة بعد الهجرة والنصرة واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري مع أن الله قد اعزه بنصره وبالمؤمنين كما قال تعالي هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وقال إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا

فالذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هو أبو بكر وكانا اثنين الله ثالثهما وكذلك لما كان يوم بدر لما صنع له عريش كان الذي دخل معه في العريش دون سائر الصحابة أبو بكر وكل من الصحابة له في نصر رسول الله سعي مشكور وعمل مبرور

وروي أنه لما جاء علي بسيفه يوم أحد قال لفاطمة اغسليه يوم أحد غير ذميم فقال النبي أن تك أحسنت فقد أحسن فلأن وفلأن وفلأن فعدد جماعة من الصحابة

ولم يكن لعلي اختصاص بنصر النبي دون أمثاله ولا عرف موطن احتاج النبي فيه إلى معونة علي وحده لا باليد ولا باللسان ولا كان إيمان الناس برسول الله وطاعتهم له لأجل علي بسبب دعوة علي لهم وغير ذلك من الأسباب الخاصة كما كان هارون وموسى فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جدا ويهابون موسى وكان هارون يتألفهم

والرافضة تدعي أن الناس كانوا يبغضون عليا وأنهم لبغضهم له لم يبايعوه فكيف يقال أن النبي احتاج إليه كما احتاج موسى إلى هارون

وهذا أبو بكر الصديق اسلم على يديه ستة أو خمسة من العشرة عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة ولم يعلم أنه أسلم على يد علي وعثمان وغيرهما أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار

ومصعب بن عمير هو الذي بعثه النبي إلى المدينة لما بايعه الأنصار ليلة العقبة واسلم على يده رؤوس إلأنصار كسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته واسيد بن حضير وغير هؤلاء

وكان أبو بكر يخرج مع النبي يدعو معه الكفار إلى الإسلام في الموسم ويعاونه معاونة عظيمة في الدعوة بخلاف غيره ولهذا قال النبي في الصحيح لو كنت متخذا من أهل الأرضى خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا

وقال أيها الناس إني جئت إليكم فقلت إني رسول الله فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركو لي صاحبي

ثم أن موسى دعا بهذا الدعاء قبل أن يبلغ الرسالة إلى الكفار ليعاون عليها ونبينا قد بلغ الرسالة لما بعثه الله بلغها وحده وأول من آمن به باتفاق أهل الأرض أربعة أول من آمن به من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد

وكان أنفع الجماعة في الدعوه باتفاق الناس أبو بكر ثم خديجة لأن أبا بكر هو أول رجل حر بالغ آمن به باتفاق الناس وكان له قدر عند قريش لما كان فيه من المحاسن فكان آمن الناس عليه في صحبته وذات يده ومع هذا فما دعا الله أن يشد أزره بأحد لا بأبي بكر ولا بغيره

بل قام مطيعا لربه متوكلا عليه صابرا له كما أمر بقوله قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر وقال فاعبده وتوكل عليه

فمن زعم أن النبي سأل الله عز وجل أن يشد أزره بشخص من الناس كما سأل موسى أن يشد أزره بهارون فقد افترى على رسول الله وبخسه حقه ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك والإلحاد والنفاق لكن تارة يظهر لهم ذلك فيه وتارة يخفى

الوجه الخامس عشر أن يقال غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله ورسوله والمؤمنين فيوالون عليا ولا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن كما يجب على كل مؤمن مولاة أمثاله من المؤمنين

قال تعالى وأن تظاهرا عليه فأن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين فبين الله أن كل صالح من المؤمنين فهو مولى رسول الله الله مولاه وجبريل مولاه الصالح من المؤمنين متوليا على رسول الله كما أن الله مولاه وجبريل مولاه يأن يكون صالح المؤمنين متوليا على رسول الله ولا متصرفا فيه وأيضا قال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض

فجعل كل مؤمن وليا لكل مؤمن وذلك لا يوجب أن يكون أميرا عليه معصوما لا يتولى عليه إلا هو

وقال تعالى إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون فكل مؤمن تقي فهو ولي الله والله وليه كما قال تعالى الله ولي الذين آمنوا وقال ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم وقال أن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ثم آووا ونصروا إلى قوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله

فهذه النصوص كلها ثبتت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض وأن هذا ولي هذا وهذا ولي هذا وأنهم أولياء الله وأن الله وملائكته والمؤمنين موالي رسوله كما أن الله ورسوله والذين آمنوا هم أولياء المؤمنين وليس في شيء من هذه النصوص أن من كان وليا للآخر كان أميرا عليه دون غيره وأنه يتصرف فيه دون سائر الناس

الوجه السادس عشر أن الفرق بين الولاية بالفتح والولاية بالكسر معروف فالولاية ضد العداوة وهي المذكوره في هذه النصوص ليست هي الولاية بالكسر التي هي الإمارة وهؤلاء الجهال يجعلون الولي هو الأمير ولم يفرقوا بين الولاية والولاية والأمير يسمى الوالي لا يسمى الولي ولكن قد يقال هو ولي الأمر كما يقال وليت أمركم ويقال أولو الأمر وأما إطلاق القول بالمولى وإراده الولي فهذا لا يعرف بل يقال في الولي المولى ولا يقال الوالي ولهذا قال الفقهاء إذا اجتمع في الجنازة الوالي والولي فقيل يقدم الوالي وهو قول أكثرهم وقيل يقدم الولي

فبين أن الولاية دلت على الموالاة المخالفة للمعاداة الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض وهذا مما يشترك فيه الخلفاء الأربعة وسائر أهل بدر وأهل بيعة الرضوان فكلهم بعضهم أولياء بعض ولم تدل الآية على أحد منهم يكون أميرا على غيره بل هذا باطل من وجوه كثيرة إذ لفظ الولي والولاية غير لفظ الوالي والآية عامة في المؤمنين والمارة لا تكون عامة

الوجه السابع عشر أنه لو أراد الولاية التي هي إلا مارة لقال أنما يتولى عليكم الله ورسوله والذين آمنوا ولم يقل ومن يتولى الله ورسوله فأنه لا يقال لمن ولي عليهم وال أنهم يقولون تولوه بل يقال تولى عليهم

الوجه الثامن عشر أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأنه متول على عباده وأنه أمير عليهم جل جلاله وتقدست أسماؤه فأنه خالقهم ورازقهم وربهم ومليكهم له الخلق والأمر ولا يقال أن الله أمير المؤمنين كما يسمى المتولي مثل علي وغيره أمير المؤمنين بل الرسول أيضا لا يقال أنه متول على الناس وأنه أمير عليهم فأن قدره اجل من هذا بل أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكونوا يسمونه إلا خليفة رسول الله وأول من سمي من الخلفاء أمير المؤمنين هو عمر رضي الله عنه وقد روي أن عبد الله بن جحش كان أميرا في سرية فسمي أمير المؤمنين لكن إمارة خاصة في تلك السرية لم يسم أحد بإمارة المؤمنين عموما قبل عمر وكان خليقا بهذا الاسم

وأما الولاية المخالفة للعداوة فأنه يتولى عباده المؤمنين فيحبهم ويحبونه ويرضى عنهم ويرضون عنه ومن عادى له وليا فقد بارزه بالمحاربة وهذه الولاية من رحمته وإحسانه ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجته إليه قال تعالى وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل فالله تعالى ليس له ولي من الذل بل هو القائل من كان يريد العزة فلله العزة جميعا بخلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه لذاته إذا لم يكن له ولي ينصره

الوجه التاسع عشر أنه ليس كل من تولى عليه إمام عادل يكون من حزب الله ويكون غالبا فأن أئمة العدل يتولون على المنافقين والكفار كما كان في مدينة النبي تحت حكمه ذميون ومنافقون وكذلك كان تحت ولاية علي كفار ومنافقون والله تعالى يقول ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون فلو أراد الإمارة لكان المعنى أن كل من تأمر عليهم الذين آمنوا يكونون من حزبه الغالبين وليس كذلك وكذلك الكفار والمنافقون تحت أمر الله الذي هو قضاؤه وقدره مع كونه لا يتولاهم بل يبغضهم

فصل

قال الرافضي البرهان الثاني قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وأن لم تفعل فما بلغت رسالته اتفقوا في نزولها في علي وروى أبو نعيم الحافظ من الجمهور بإسناده عن عطية قال نزلت هذه الآية على رسول الله في علي بن أبي طالب ومن تفسير الثعلبي قال معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي فلما نزلت هذه الآيه اخذ رسول الله بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه والنبي مولى أبي بكر وعمر وباقي الصحابة بالإجماع فيكون علي مولاهم فيكون هو الإمام

ومن تفسير الثعلبي لما كان رسول الله بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فاخذ بيد علي وقال من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك وطار في البلاد فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله على ناقته حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته وأناخها فعقلها فأتى رسول الله وهو في ملا من أصحابه فقال يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا اله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك وأمرتنا أن نزكي أموالنا فقبلناه منك وأمرتنا أن نصوم شهرا فقبلناه منك وأمرتنا أن نحج البيت فقبلناه منك ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا وقلت من كنت مولاه فعلي مولاه وهذا منك أم من الله قال النبي والله الذي لا اله إلا هو هو من أمر الله فولى الحارث يريد راحلته وهو يقول اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله وأنزل الله تعالى سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله وقد روي هذه الرواية النقاش من علماء الجمهور في تفسيره

والجواب من وجوه أحدها أن هذا أعظم كذبا وفرية من الأول كما سنبينه إن شاء الله تعالى وقوله اتفقوا على نزولها في علي أعظم كذبا مما قاله في تلك الآيه فلم يقل لا هذا ولا ذاك أحد من العلماء الذين يدرون ما يقولون

وأما ما يرويه أبو نعيم في الحلية أو في فضائل الخلفاء والنقاش والثعلبي والواحدي ونحوهم في التفسير فقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن فيما يروونه كثيرا من الكذب الموضوع واتفقوا على أن هذا الحديث المذكور الذي رواه الثعلبي في تفسيره هو من الموضوع وسنبين أدلة يعرف بها أنه موضوع وليس الثعلبي من أهل العلم بالحديث ولكن المقصود هنا أنا نذكر قاعدة فنقول المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك فلكل علم رجال يعرفون به

والعلماء بالحديث أجل هؤلاء قدرا وأعظمهم صدقا وأعلاهم منزلة وأكثر دينا. وهم من أعظم الناس صدقا وأمانة وعلما وخبرة فيما يذكرونه عن الجرح والتعديل مثل مالك وشعبة وسفيان ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن المهدي وابن المبارك ووكيع والشافعي واحمد وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وابن معين وابن المديني والبخاري ومسلم وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والعجلي وأبي احمد بن عدي وأبي حاتم البستي والدار قطني وأمثال هؤلاء خلق كثير لا يحصى عددهم من أهل العلم بالرجال والجرح والتعديل وأن كان بعضهم اعلم بذلك من بعض وبعضهم اعدل من بعض في وزن كلامه كما أن الناس في سائر العلوم كذلك

وقد صنف للناس كتبا في نقلة الأخبار كبارا وصغارا مثل الطبقات لابن سعد وتاريخي البخاري والكتب المنقولة عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما وقبلها عن يحيى بن سعيد القطان وغيره وكتاب يعقوب بن سفيان وابن أبي خيثمة وابن أبي حاتم وكتاب بن عدي وكتب أبي حازم وأمثال ذلك

وصنفت كتب الحديث تارة على المساند فتذكر ما اسنده الصاحب عن رسول الله كمسند احمد وإسحاق وأبي داود الطيالسي وأبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن أبي عمر والعدني واحمد بن منيع وأبي يعلى الموصلي وأبي بكر البزار البصري وغيرهم وتارة على الأبواب فمنهم من قصد مقصده الصحيح كالبخاري ومسلم وابن خزيمة وأبي حاتم وغيرهم وكذلك من خرج على الصحيحين كإلاسماعيلي والبرقاني وأبي نعيم غيرهم ومنهم من خرج أحاديث السنن كأبي داود والنسائي ابن ماجة وغيرهم ومنهم من خرج الجامع الذي يذكر فيه الفضائل وغيرها كالترمذي وغيره

وهذا علم عظيم من أعظم علوم الإسلام ولا ريب أن الرافضة أقل معرفة بهذا الباب وليس في أهل الأهواء والبدع أجهل منهم به فأن سائر أهل الأهواء كالمعتزلة والخوارج مقصورون وفي معرفة هذا ولكن المعتزلة اعلم بكثير من الخوارج والخوارج اعلم بكثير من الرافضة والخوارج اصدق من الرافضة وأدين اورع بل الخوارج لا نعرف عنهم أنهم يتعمدون الكذب بل هم من أصدق الناس

والمعتزلة مثل سائر الطوائف فيهم من يكذب وفيهم من يصدق لكن ليس لهم من العناية بالحديث ومعرفته ما لأهل الحديث والسنة فإن هؤلاء يتدينون به فيحتاجون إلى أن يعرفوا ما هو الصدق

وأهل البدع سلكوا طريقا آخر ابتدعوها اعتمدوا عليها ولا يذكرون الحديث بل ولا القرآن في أصولهم للاعتضاد لا للاعتماد والرافضة اقل معرفة وعناية بهذا إذ كانوا لا ينظرون في الإسناد ولا في سائر الأدلة الشرعية والعقلية هل توافق ذلك أو تخالفه ولهذا لا يوجد لهم أسانيد متصلة صحيحة قط بل كل إسناد متصل لهم فلا بد من أن يكون فيه من هو معروف بالكذب أو كثرة الغلط

وهم في ذلك شبيه باليهود والنصارى فأنه ليس لهم إسناد والإسناد من خصائص هذه الأمة وهم من خصائص الإسلام ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة والرافضة من اقل الناس عناية إذ كانوا لا يصدقون إلا بما يوافق أهواءهم وعلامة كذبه أنه يخالف هواهم ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ثم أن أولهم كانوا كثيري الكذب فانتقلت أحاديثهم إلى قوم لا يعرفون الصحيح من السقيم فلم يمكنهم التمييز إلا بتصديق الجميع أو تكذيب الجميع والاستدلال على ذلك بدليل منفصل غير الإسناد

فيقال ما يرويه مثل أبي نعيم والثعلبي والنقاش وغيرهم أتقبلونه مطلقا أم تردونه مطلقا أم تقبلونه إذا كان لكم لا عليكم وتردونه إذ كان عليكم فأن تقبلوه مطلقا ففي ذلك أحاديث كثيره في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان تناقض قولكم وقد روى أبو نعيم في أول الحلية في فضائل الصحابة وفي كتاب مناقب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أحاديث بعضها صحيحة وبعضها ضعيفة بل منكرة وكان رجلا عالما بالحديث فيما ينقله لكن هو وأمثاله يروون ما في الباب لا يعرف أنه روى كالمفسر الذي ينقل أقوال الناس في التفسير والفقيه الذي يذكر الأقوال في الفقه والمصنف الذي يذكر حجج الناس ليذكر ما ذكروه وأن كان كثير من ذلك لا يعتقد صحته بل يعتقد ضعفه لأنه يقول أنا نقلت ما ذكر غيري فالعهدة على القائل لا على الناقل

وهكذا كثير ممن صنف في فضائل العبادات وفضائل الأوقات وغير ذلك يذكرون أحاديث كثيرة وهي ضعيفة بل موضوعة باتفاق أهل العلم كما يذكرون أحاديث في فضل صوم رجب كلها ضعيفة بل موضوعة عند أهل العلم ويذكرون صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة منه وألفية نصف شعبان وكما يذكرون في فضائل عاشوراء ما ورد من التوسعة على العيال وفضائل المصافحة والحناء والخضاب والاغتسال ونحو ذلك ويذكرون فيها صلاة

وكل هذا كذب على رسول الله لم يصح في عاشوراء إلا فضل صيامه قال حرب الكرماني قلت لأحمد بن حنبل الحديث الذي يروى من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته فقال لا اصل له وقد صنف في فضائل الصحابة علي وغيره غير واحد مثل خيثمة بن سليمان إلاطرابلسي وغيره وهذا قبل أبي نعيم يروي عنه إجازة وهذا وأمثاله جروا على العادة المعروفة لأمثالهم ممن يصنف في الأبواب أنه يروي ما سمعه في هذا الباب

وهكذا المصنفون في التواريخ مثل تاريخ دمشق لابن عساكر وغيره إذا ذكر ترجمة واحد من الخلفاء الأربعة أو غيره يذكر كل ما رواه في ذلك الباب فيذكر لعلي ومعاوية من الأحاديث المروية في فضلهما ما يعرف أهل العلم بالحديث أنه كذب ولكن لعلي من الفضائل الثابتة في الصحيحين وغيرهما ومعاوية ليست له بخصوصه فضيلة في الصحيح لكن قد شهد مع رسول الله حنينا والطائف وتبوك وحج معه حجة الوداع وكان يكتب الوحي فهو ممن ائتمنه النبي على كتابة الوحي كما ائتمن غيره من الصحابة فإذا كان المخالف يقبل كل ما رواه هؤلاء وأمثالهم في كتبهم فقد رووا أشياء كثيرة تناقض مذهبهم وأن كان يرد الجميع بطل احتجاجه بمجرد عزوه الحديث بدون المذهب إليهم وأن قال أقبل ما يوافق مذهبي وارد ما يخالفه أمكن منازعه أن يقول له مثل هذا وكلاهما باطل لا يجوز أن يحتج على صحة مذهب بمثل هذا فأنه يقال أن كنت أنما عرفت صحة هذا الحديث بدون المذهب فاذكر ما يدل على صحته وأن كنت إنما عرفت صحته لأنه يوافق المذهب امتنع تصحيح الحديث بالمذهب لأنه يكون حينئذ صحة المذهب موقوفة على صحة الحديث وصحة الحديث موقوفة على صحة المذهب فيلزم الدور الممتنع

وأيضا فالمذهب أن كنت عرفت صحته بدون هذا الطريق لم يلزم صحة هذا الطريق فأن الإنسان قد يكذب على غيره قولا وأن كان ذلك القول حقا فكثير من الناس يروي عن النبي قولا هو حق في نفسه لكن لم يقله رسول الله فلا يلزم من كون الشيء صدقا في نفسه أن يكون النبي قاله وأن كنت أنما عرفت صحته بهذا الطريق امتنع أن تعرف صحة الطريق بصحته لإفضائه إلى الدور

فثبت أنه على التقديرين لا يعلم صحة هذا الحديث لموافقته للمذهب سواء كان المذهب معلوم الصحة أو غير معلوم الصحه وأيضا فكل من له أدنى علم وأنصاف يعلم أن المنقولات فيها صدق وكذب وأن الناس كذبوا في المثالث والمناقب كما كذبوا في غير ذلك وكذبوا فيما يوافقه ويخالفه ونحن نعلم أنهم كذبوا في كثير مما رووه في فضائل أبى بكر وعمر وعثمان كما كذبوا في كثير مما رووه في فضائل علي وليس في أهل الأهواء اكثر كذبا من الرافضة بخلاف غيرهم فأن الخوارج لا يكادون يكذبون بل هم من اصدق الناس مع بدعتهم وضلالهم

وأما أهل العلم والدين فلا يصدقون بالنقل ويكذبون به بمجرد موافقة ما يعتقدون بل قد ينقل الرجل أحاديث كثيرة فيها فضائل النبي وأمته وأصحابه فيردونها لعلمهم بأنها كذب ويقبلون أحاديث كثيرة لصحتها وأن كان ظاهرها بخلاف ما يعتقدونه أما لاعتقادهم أنها منسوخة أو لها تفسير لا يخالفونه ونحو ذلك

فالأصل في النقل أن يرجع فيه إلى أئمة النقل وعلمائه ومن يشركهم في علمهم علم ما يعلمون وأن يستدل على الصحة والضعف بدليل منفصل عن الرواية فلا بد من هذا وهذا وإلا فمجرد قول القائل رواه فلان لا يحتج به لا أهل السنة ولا الشيعة وليس في المسلمين من يحتج بكل حديث رواه كل مصنف فكل حديث يحتج به نطالبه من أول مقام بصحته

ومجرد عزوه إلى رواية الثعلبي ونحوه ليس دليلا على صحته باتفاق أهل العلم بالنقل ولهذا لم يروه أحد من علماء الحديث في شيء من كتبهم التي ترجع الناس إليها في الحديث لا في الصحاح ولا في السنن ولا المسانير ولاغير ذلك لان كذب مثل هذا لا يخفى على من له أدنى معرفة بالحديث

وإنما هذا عند اهل العلم بمنزلة ظن من يظن من العامة وبعض من يدخل في غمار الفقهاء أن النبي كان على أحد المذاهب الأربعة وأن أبا حنيفة ونحوه كانوا من قبل النبي

أو كما يظن طائفة من التركمان أن حمزة له مغاز عظيمة وينقلونها بينهم والعلماء متفقون على أنه لم يشهد إلا بدرا وأحدا قتل يوم أحد ومثل ما يظن كثير من الناس أن في مقابر دمشق من أزواج النبي أم سلمة وغيرها ومن أصحابه أبي بن كعب وأويس القرني وغيرهما وأهل العلم يعلمون أن أحدا من أزواج النبي لم يقدم دمشق ولكن كان في الشام أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاري وكان أهل الشام يسمونها أم سلمة فظن الجهال أنها أم سلمة زوج النبي وأبي بن كعب مات بالمدينة وأويس تابعي لم يقدم الشام ومثل من يظن من الجهال أن قبر علي بباطن النجف وأهل العلم بالكوفة وغيرها يعلمون بطلان هذا ويعلمون أن عليا ومعاوية وعمرو بن العاص كل منهم دفن في قصر الإمارة ببلده خوفا عليه من الخوارج أن ينبشوه فانهم كانوا تحالفوا على قتل الثلاثة فقتلوا عليا وجرحوا معاوية

وكان عمرو بن العاص قد استخلف رجلا يقال له خارجة فضربه القاتل يظنه عمرا فقتله فتبين انه خارجة فقال أردت عمرا وأراد الله خارجة فصار مثلا

ومثل هذا كثير مما يظنه كثير من الجهال وأهل العلم بالمنقولات يعلمون خلاف ذلك

الوجه الثاني أن نقول في نفس هذا الحديث ما يدل على انه كذب من وجوه كثيرة فان فيه أن رسول الله لما كان بغدير يدعى خما نادى الناس فاجتمعوا فاخذ بيدي علي وقال من كنت مولاه فعلي مولاه وأن هذا قد شاع وطار في بالبلاد وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري وانه أتى النبي على ناقته وهو في الأبطح وأتى وهو في ملا من الصحابه فذكر انهم امتثلوا أمره بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج ثم قال ألم ترضى بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا وقلت من كنت مولاه فعلي مولاه وهذا منك أم من الله فقال النبي هو من أمر الله فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله وانزل الله سال سائل بعذاب واقع للكافرين الآيه فيقال لهؤلاء الكذابين اجمع الناس كلهم على أن ما قاله النبي بغدير خم كان مرجعه من حجة الوداع والشيعة تسلم هذا وتجعل ذلك اليوم عيدا وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة والنبي لم يرجع إلى مكة بعد ذلك بل رجع من حجة الوداع إلى المدينة وعاش تمام ذي الحجة والمحرم وصفر وتوفي في أول ربيع الأول

وفي هذا الحديث يذكر انه بعد أن قال هذا بغدير خم وشاع في البلاد جاءه الحارث وهو بالأبطح والأبطح بمكة فهذا كذب جاهل لم يعلم متى كانت قصة غدير خم

وأيضا فان هذه السورة سورة سأل سائل مكية باتفاق أهلا العلم نزلت بمكة قبل الهجرة فهذه نزلت قبل غدير خم قبل بعشر سنين أو اكثر من ذلك فكيف تكون نزلت بعده وأيضا قوله وغذ قالوا اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك في سورة الأنفال وقد نزلت عقيب بدر بالاتفاق قبل غدير خم بسنين كثيرة وأهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي قبل الهجرة كأبي جهل وأمثاله وأن الله ذكر نبيه بما كانوا يقولونه بقوله وإذ قالوا الله أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أي اذكر قولهم كقوله وإذ قال ربك للملائكة وإذ غدوت من أهلك ونحو ذلك يأمره بان يذكر كل ما تقدم فدل على أن هذا القول كان قبل نزول هذه السورة

وأيضا فانهم لما استفتحوا بين الله انه لا ينزل عليهم العذاب محمد فيهم فقال وإذ قالوا اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ثم قال الله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون واتفق الناس على أن أهل مكة لم تنزل عليهم حجارة من السماء لما قالوا ذلك فلو كان هذا آية لكان من جنس آية أصحاب الفيل ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله

ولو أن الناقل طائفة من أهل العلم فلما كان هذا لا يرويه أحد من المصنفين في العلم لا المسند ولا الصحيح ولا الفضائل ولا التفسير ولا السير ونحوها إلا ما يروى بمثل هذا الإسناد المنكر علم انه كذب وباطل

وأيضا فقد ذكر في هذا الحديث أن هذا القائل أمر بمباني الإسلام الخمس وعلى هذا فقد كان مسلما فانه قال فقبلناه منك ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا من المسلمين على عهد النبي لم يصبه هذا

وأيضا فهذا الرجل لا يعرف في الصحابة بل هو من جنس الأسماء التي يذكرها الطرقية من جنس الأحاديث التي في سيرة عنترة ودلهمة وقد صنف الناس كتبا كثيرة في أسماء الصحابة الذين ذكروا في شيء من الحديث حتى في الأحاديث الضعيفة مثل كتاب الاستيعاب لابن عبد البر وكتاب ابن منده وأبي نعيم الأصبهاني والحافظ أبي موسى ونحو ذلك ولم يذكر أحد منهم هذا الرجل فعلم انه ليس له ذكر في شيء من الروايات فان هؤلاء لا يذكرون إلا ما رواه أهل العلم لا يذكرون أحاديث الطرقية مثل تنقلات الأنوار للبكري الكذاب وغيره

الوجه الثالث أن يقال أنتم ادعيتم أنكم إثبتم بالقرآن والقران ليس في ظاهره ما يدل على ذلك أصلا فانه قال بلغ ما انزل إليك من ربك وهذا اللفظ عام في جميع ما انزل إليه من ربه لا يدل على شيء معين

فدعوى المدعى أن إمامة علي هي مما بلغها أو مما أمر بتبليغها لا تثبت بمجرد القران فان القران ليس فيه دلالة على شيء معين فان ثبت ذلك بالنقل كان ذلك إثباتا بالخبر لا بالقران فمن ادعى أن القران يدل على أن إمارة علي مما أمر بتبليغه فقد افترى على القران فالقران لا يدل على ذلك عموما ولا خصوصا

الوجه الرابع أن يقال هذه الآية مع ما علم من أحوال النبي تدل على نقيض ما ذكروه وهو أن الله لم ينزلها عليه ولم يأمره بها فأنها لو كانت مما أمره الله بتبليغه لبلغه فانه لا يعصي الله في ذلك

ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب والله تعالى يقول يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وأن لم تفعل فما بلغت رسالته

لكن أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن النبي لم يبلغ شيئا من إمامة علي ولهم على هذا طرق كثيرة يثبتون بها هذا العلم

منها أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فلو كان له أصل لنقل كما نقل أمثاله من حديثه لا سيما مع كثرة ما ينقل من فضائل علي من الكذب الذي لا أصل له فكيف لا ينقل الحق الصدق الذي قد بلغ للناس

ولان النبي أمر أمته بتبليغ ما سمعوا منه فلا يجوز عليهم كتمان ما أمرهم الله بتبليغه

ومنها أن النبي لما مات وطلب بعض الأنصار ان يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير فأنكر ذلك عليه وقالوا الإمارة لا تكون إلا في قريش وروى الصحابة في مواطن متفرقة الأحاديث عن النبي في أن الأمامه في قريش

ولم يرو واحد منهم لا في ذلك المجلس ولا غيره ما يدل على إمامة علي

وبايع المسلمون أبا بكر وكان اكثر بني عبد مناف من بني أمية وبني هاشم وغيرهم لهم ميل قوي إلى علي بن أبي طالب يختارون ولايته ولم يذكر أحد منهم هذا النص وهكذا اجري الأمر في عهد عمر وعثمان وفي عهده أيضا لما صارت له ولآية ولم يذكر هو ولا أحد من أهل بيته ولا من الصحابة المعروفين هذا النص وإنما ظهر هذا النص بعد ذلك وأهل العلم بالحديث والسنة الذين يتولون عليا ويحبونه ويقولون انه كان الخليفة بعد عثمان كأحمد بن حنبل وغيره من الأئمة قد نازعهم في ذلك طوائف من أهل العلم وغيرهم وقالوا كان زمانه زمان فتنة واختلاف بين الأمة لم تتفق الأمة فيه لا عليه ولا على غيره

وقال طوائف من الناس كالكرامية بل هو كان إماما ومعاوية إماما وجوزوا أن يكون للناس إمامان للحاجة وهكذا قالوا في زمن ابن الزبير ويزيد حيث لم يجدوا الناس اتفقوا على إمام

وأحمد بن حنبل مع أنه أعلم أهل زمانه بالحديث احتج على إمامة علي بالحديث الذي في السنن تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا

وبعض الناس ضعف هذا الحديث لكن أحمد وغيره يثبتونه فهذا عمدتهم من النصوص على خلافة علي فلو ظفروا بحديث مسند أو مرسل موافق لهذا لفرحوا به

فعلم أن ما تدعيه الرافضة من النص هو مما لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال الرسول لا قديما ولا حديثا

ولهذا كان أهل العلم بالحدث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل كما ليعلمون كذب غيره من المنقولات المكذوبة

وقد جرى تحكيم الحكمين ومعه أكثر الناس فلم يكن في المسلمين من أصحابه ولا غيرهم من ذكر هذا النص مع كثرة شيعته ولا فيهم من احتج به في مثل هذا المقام الذي تتوفر فيه الهمم والدواعي على إظهار مثل هذا النص

ومعلوم انه لو كان النص معروفا عند شيعة علي فضلا عن غيرهم لكانت العادة المعروفة تقتضي أن يقول أحدهم هذا نص رسول الله على خلافته فيجب تقديمه على معاوية

وأبو موسى نفسه كان من خيار المسلمين لو علم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه لم يستحل عزله ولو عزله لكان من أنكر عزله عليه يقول كيف تعزل من نص النبي على خلافته

وقد احتجوا بقوله تقتل عمارا الفئة الباغية وهذا الحديث خبر وأحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوهم وليس هذا متواترا والنص عند القائلين به متواتر فيا لله العجب كيف ساغ عند الناس احتجاج شيعة علي بذلك الحديث ولم يحتج أحد منهم بالنص


منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57