منهاج السنة النبوية/24

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فصل

قال الرافضي وكمسح الرجلين الذي نص الله تعالى عليه في كتابه العزيز فقال فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وقال ابن عباس عضوان مغسولان وعضوان ممسوحان فغيروه وأوجبوا الغسل

فيقال الذين نقلوا عن النبي الوضوء قولا وفعلا والذين تعلموا الوضوء منه وتوضؤوا على عهده وهو يراهم ويقرهم عليه ونقلوه إلى من بعدهم أكثر عددا من الذين نقلوا لفظ هذه الآية فإن جميع المسلمين كانوا يتوضؤون على عهده ولم يتعلموا الوضوء إلا منه فإن هذا العمل لم يكن معهودا عندهم في الجاهلية وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين فيما شاء الله من الحديث حتى نقلوا عنه من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه قال ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار مع أن الفرض إذا كان مسح ظهر القدم كان غسل اجميع كلفة لا تدعو إليها الطباع كما تدعوا الطباع إلى كلب الرئاسة والمال فإن جاز أن يقال أنهم كذبوا وأخطؤوا فيما نقلوه عنه من ذلك كان الكذب والخطأ فيما نقل من لفظ الآية أقرب إلى الجواز

وإن قيل بل لفظ الآية ثبت بالتواتر لذي لا يمكن الخطأ فيه فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه أولى وأكمل ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنة فإن المسح جنس تحته نوعان الإسالة وغير الإسالة كما تقول العرب تمسحت للصلاة فما كان بالإسالة فهو الغسل وإذا خص أحد النوعين باسم الغسل فقد يخص النوع الاخر باسم المسح فالمسح يقال على المسح العام الذي يندرج فيه الغسل ويقال على الخاص الذي لا يندرج فيه الغسل

ولهذا نظائر كثيرة مثل لفظ ذوي الأرحام فإنه يعم العصبة كلهم وأهل الفروض وغيرهم ثم لما كان للعصبة وأصحاب الفروض اسم يخصهما بقى لفظ ذوي الأرحام مختصا في العرف بمن لا يرث بفرض ولا تعصيب

وكذلك لفظ الجائز والمباح يعم ما ليس بحرام ثم قد يختص بأحد الأقسام الخمسة وكذلك لفظ الممكن يقال على ما ليس بممتنع ثم يخص بما ليس بواجب ولا ممتنع فيفرق بين الواجب والجائز والممكن العام والخاص وكذلك لفظ الحيوان ونحوه يتناول الإنسان وغيره ثم قد يختص بغير الإنسان

ومثل هذا كثير إذا كان لأحد النوعين اسم يخصه بقي الاسم العام مختصا بالنوع الاخر ولفظ المسح من هذا الباب وفي القران ما يدل على أنه لم يرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل بل المسح الذي الغسل قسم منه فإنه قال إلى الكعبين ولم يقل إلى الكعاب كما قال إلى المرافق فدل على أنه ليس في كل رجل كعب واحد كما في كل يد مرفق واحد بل في كل رجل كعبان فيكون تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين وهذا هو الغسل فإن من يمسح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين وفي ذكره الغسل في العضوين الأولين والمسح في الاخرين التنبيه على أن هذين العضوين يجب فيهما المسح العام فتارة يجزىء المسح الخاص كما في مسح الرأس والعمامة والمسح على الخفين وتارة لا بد من المسح الكامل الذي هو غسل كما في الرجلين المكشوفتين

وقد تواترت السنة عن النبي بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة كما يخالف الخوارج نحو ذلك مما يتوهون أنه مخالف لظاهر القران بل تواتر غسل الرجلين والمسح على الخفين عن النبي أعظم من تواتر قطع اليد في ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو عشرة دراهم أو نحو ذلك

وقد ذكر المسح على الرجلين تنبيه على قلة الصب في الرجل فإن السرف يعتاد فيهما كثيرا وفيه اختصار للكلام فإن المعطوف والمعطوف عليه إذا كان فعلاهما من جنس واحد اكتفى بذكر أحد النوعين كقوله

فلتها تبنا وماء باردا ... حتى غدت همالة عيناها

والماء يسقى لا يقال علفت الماء لكن العلف والسقى يجمعهما معنى الإطعام وكذلك قوله

ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سبفا ورمحا

وكذلك قوله تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين إلى قوله تعالى وحور عين والحور العين لا يطاف بهن ولكن المعنى يؤتى بهذا وبهذا وهم قد يحذفون ما يجل الظاهر على جنسه لا على نفسه كما في قوله تعالى يدخل من يشاء رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما والمعنى يعذب الظالمين

وهذه الآية فيها قراءتان مشهورتان الخفض والنصب فالذين فرؤوا بالنصب قال غير واحد منهم أعاد الأمر إلى الغسل أي وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين والقراءتان كالايتين ومن قال إنه عطف على محل الجار والمجرور يكون المعنى وامسحوا برؤوسكم وامسحوا أرجلكم إلى الكعبين وقولهم مسحت الرجل ليس مرادفا لقوله مسحت بالرجل فإنه إذا عدى بالباء أريد به معنى الإلصاق أي ألصقت به شيئا وإذا قيل مسحته لم يقتضي ذلك أن يكون ألصقت به شيئا وإنما يقتضي مجرد المسح وهو لم يرد مجرد المسح باليد بالإجماع فتعين أنه إذا مسحه بالماء وهو مجمل فسرته السنة كما في قراءة الجر

وفي الجملة فالقران ليس فيه نفي إيجاب الغسل بل فيه إيجاب المسح فلو قدر أن السنة أوجبت قدرا زائدا على ما أوجبه القران لم يكن في هذا رفعا لموجب القران فكيف إذا فسرته وبينت معناه وهذا مبسوط في موضعه

وفي الجملة فيعلم أن سنة النبي هي التي تفسر القران وتبينه وتل عليه وتعبر عنه فالسنة المتواترة تقضي على ما يفهمه بعض الناس من ظاهر القران فإن الرسول بين للناس لفظ القران ومعناه كما قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرؤون القران عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهم أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر ايات لم يجاوزوها حتى يتعلموا معناها

وما تقوله الإمامية من أن الفرض مسح الرجلين إلى الكعبين اللذين هما مجتمع الساق والقدم عند معقد الشراك أمر لا يدل عليه القران بوجه من الوجوه ولا فيه عن النبي حديث يعرف ولا هو معروف عن سلف الأمة بل هم مخالفون للقران والسنة المتواترة ولإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان

فإن لفظ القران يوجب المسح بالرؤوس وبالأرجل إلى الكعبين مع إيجابه لغسل الوجوه والأيدي إلى المرافق فكان في ظاهره ما يبين أن في كل يد مرفقا وفي كل رجل كعبين فهذا على قراءة الخفض وأما قراءة النصب فالعطف إنما يكون على المحل إذا كان المعنى واحدا كقول الشاعر

معاوي إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا

فلو كان معنى قوله مسحت برأسي ورجلي هو معنى مسحت رأسي ورجلي لأمكن كون العطق على المحل والمعنى مختلف فعلم أن قوله وأرجلكم بالنصب عطف على وأيديكم كما قاله الذين قرؤوه كذلك

وحينئذ فهذه القراءة نص في وجوب الغسل وليس في واحدة من القراءتين ما يدل ظاهرها على قولهم فعلم أن القوم لم يتمسكوا بظاهر القران وهذا حال سائر أهل الأقوال الضعيفة الذين يحتجون بظاهر القران على ما يخالف السنة إذا خفى الأمر عليهم مع أنه لم يوجد في ظاهر القران ما يخالف السنة كمن قال من الخارج لا نصلي في سفر إلا أربعا ومن قال إن الربع أفضل في السفر من الركعتين ومن قال لا نحكم بشاهد ويمين

وقد بسط لكلام على ذلك في مواضع وبين أن ما دل عليه ظاهر القران حق وأنه ليس بعام مخصوص فإنه ليس هناك عموم لفظي وإنما هو مطلق كقوله تعالى فاقتلوا المشركين فإنه عام في الأعيان مطلق في الأحوال وقوله يوصيكم الله في أولادكم عام في الأولاد مطلق في الأحوال

ولفظ الظاهر يراد به ما قد يظهر للإنسان وقد يراد به ما يجل عليه اللفظ فالأول يكون بحسب فهوم الناس وفي القران مما يخالف الفهم الفاسد شيء كثير وأما الثاني فالكلام فيه

فصل

قال الرافضي وكالمتعتين اللتين ورد بهما القران فقال في متعة الحج فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى وتأسف النبي على فواتها لما حج قارنا وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى وقال في متعة النساء فما استمعتم به منهن فاتوهن أجورهن فريضة واستمرت فعلهما مدة زمان النبي ومدة خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر إلى أن صعد المنبر وقال متعتان كانتا محللتين على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليها

والجواب أن يقال أما متعة الحج فمتفق على جوازها بين أئمة المسلمين ودعواه أن أهل السنة ابتدعوا تحريمها كذب عليهم بل أكثر علماء السنة يسحبون المتعة ويرجحونها أو يوجبونها والمتعة اسم جامع لمن اعتمر في أشهر الحج وجمع بينها وبين الحج في سفر واحد سواء حل من إحرامه بالعمرة ثم أحرم بالحج أو أحرم بالحج قبل طوافه بالبيت وصار قارنا أو بعد طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التحلل من إحرامه لكونه ساق الهدى أو مطلقا وقد يراد بالمتعة مجرد العمرة في أشهر الحج

وأكثر العلماء كأحمد وغيره من فقهاء الحديث وأبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق والشافعي في أحد قوليه وغيره من فقهاء مكة يستحبون المتعة وإن كان منهم من يرجح القران كأبي حنيفة ومنهم من يرجح التمتع الخاص كأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد فالصحيح وهو الصريح من نص أحمد أنه إن ساق الهدى فالقران أفضل وإن لم يسقه فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل فإن الأول هو الذي فعله النبي في حجة الوداع والثاني هو الذي أمر به من لم يسق الهدى من أصحابه بل كثير من علماء السنة يوجب المتعة كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو قول أهل الظاهر كابن حزم وغيره لما ذكر من أمر النبي بها أصحابه في حجة الوداع وإذا كان أهل السنة متفقين على جوازها وأكثرهم يستحبها ومنهم من يوجبها علم أن ما ذكره من ابتداع تحريمها كذب عليهم

وما ذكره عن عمر رضي الله عنه فجوابه أن يقال أولا هب أن عمر قال قولا خالفه فيه غيره من الصحابة والتابعين حتى قال عمران بن حصين رضي الله عنه تمتعنا على عهد رسول الله ونزل بها القران قال فيها رجل برأيه ما شاء أخرجاه في الصحيحين

فأهل السنة متفقون على أن كل واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله فإن كان مقصوده الطعن في أهل السنة مطلقا فهذا لا يرد عليهم وإن كان مقصوده أن عمر أخطأ في مسألة فهم لا ينزهون عن الإقرار على الخطأ إلا رسول الله وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أقل خطأ من على رضي الله عنه وقد جمع العلماء مسائل الفقه التي ضعف فيها قول أحدهما فوجدوا الضعيف في أقوال علي ري الله عنه أكثر مثل إفتائه أن المتوفى عنها زوجها تعتد أبعد الأجلين مع أن سنة رسول الله الثابته عنه الموافقة لكتاب الله تقتضي أنها تحل بوضع الحمل وبذلك افتى عمر وابن مسعود رضي الله عنهما

ومثل افتائه بأن المفوضة يسقط مهرها بالموت وقد أفتى ابن مسعود وغيره بأن لها مهر نسائها كما رواه الأشجعيون عن النبي في بروع بنت واشق

وقد وجد من أقوال على المتناقضة في مسائل الطلاق وأم الوليد والفرائض وغير ذلك أكثر مما وجد من أقوال عمر المتناقضة

وإن أراد بالتمتع فسخ الحج إلى المرة فهذه المسألة نزاع بين الفقهاء فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وغيره يأمرون بفسخ الحج إلى العمرة استحبابا ومنهم من يوجبه كأهل الظاهر وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومذهب الشيعة وأبو حنيفة ومالك والشافعي لا يجوزون الفسخ والصحابة كانوا متنازعين في هذا فكثير منهم كان يأمر به ونقل عن أبي ذر وطائفة أنهم منعوا منه فإن كان الفسخ صوابا فهو من أقوال أهل السنة وإن كان خطأ فهو من أقوال أهل السنة فلا يخرج الحق عنهم

وإن قدحوا في عمر لكونه نهى عنها فأبوذر كان أعظم نهيا عنها من عمر وكان يقول إن المتعة كانت خاصة بأصحاب رسول الله وهم يتولون أباذر ويعظمونه فإن كان الخطأ في هذه المسألة يوجب القدح فينبغي أن يقدحوا في أبي ذر وإلا فكيف يقدح في عمر دونه وعمر أفضل وأفقه وأعلم مه ويقال ثانيا إن عمر رضي الله عنه لم يحرم متعة الحج بل ثبت عنه أن الضبي بن معبد لما قال له إني أحرمت بالحج والعمرة جميعا فقال له عمر هديت لسنة نبيك رواه النسائي وغيره

وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يأمرهم بالمتعة فيقولون له أن أباك نهى عنها فيقول إن أبي لم يرد ما تقولون فاذا ألحوا عليه قال أفرسول الله أحق أن تتبعوا أم عمر

وقد ثبت عن عمر أيضا أنه قال لو حججت لتمتعت ولو حججت لتمتعت وإنما كان مراد عمر رضي الله عنه أن يأمرهمبما هو الأفضل وكان الناس لسهولة المتعة تركوا الاعتمار في غير أشهر الحج فأراد ألا يعرى البيت طول السنة فاذا أفردوا الحج اعتمروا في سائر السنة والاعتمار في غير أشهر الحج مع الحج في أشهر الحج أفضل من المتعة باتفاق الفقهاء الأربعة وغيرهم

وكذلك قال عمر وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله قالا إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أراد عمر وعلي رضي الله عنهما أن تسافر للحج سفرا وللعمرة سفرا وإلا فهما لم ينشئا الإحرام من دويرة الأهل ولا فعل ذلم رسول الله ولا أحد من خلفائه

والإمام إذا اختار لرعيته الأمر الفاضل فالأمر بالشيء نهى عن ضجه فكان نهيه عن المتعة على وجه الاختيار لا على وجه التحريم وهو لم يقل وأنا أحرمهما كما نقل هذا الرافضي بل قال أنهى عنهما ثم كان نهيه عن متعة الحج على وجه الاختيار للأفضل لا على وجه التحريم وقد قيل إنه نهى عن الفسخ

والفسخ حرام عند كثير من الفقهاء وهو من مسائل الاجتهاد فالفسخ يحرمه أبو حنيفة ومالك والشافعي لكن أحمد وغيره من فقهاء الحديث وغيرهم لا يحرمون الفسخ بل يستحبونه بل يوجبه بعضهم ولا يأخذون بقول عمر في هذه المسألة بل بقول علي وعمران بن حصين وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم

وأما متعة النساء المتنازع فيها فليس في الآية نص صريح بحلها فإنه تعالى قال وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فاتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنان المؤمنات فقوله فما استمتعتم به منهن يتناول كل من دخل بها من النساء فإنه أمر بأن يعطى جميع الصداق بخلاف المطلقة قبل الدخول لتي لم يستمتع بها فإنها لا تستحق إلا نصفه

وهذا كقوله تعالى وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا فجعل الإفضاء مع العقد موجبا لاستقرار الصداق يبين ذلك أنه ليس لتخصيص النكاح المؤقت بإعطاء الأجر فيه دون النكاح المؤبد معنى بل إعطاء الصداق كاملا في المؤبد أولى فلا بد أن تدل الآية على المؤبد إما بطريق التخصيص وإما بطريق العموم

يدل على ذلك أنه ذكر بعد هذا نكاح الإماء فعلم أن ما ذكر كان في نكاح الحرائر مطلقا فإن قيل ففي قراءة طائفة من السلف فما استمتعتم به منهت إلى أجل مسمى قيل أولا ليست هذه القراءة متواترة وغايتها أن تكون كأخبار الاحاد ونحن لا ننكر أن المتعة أحلت في أول الإسلام لكن الكلام في دلالة القران على ذلك

الثاني أن يقال هذا الحرف إن كان نزل فلا ريب أنه ليس ثابتا من القراءة المشهورة فيكون منسوخا ويكون نزوله لما كانت المتعة مباحة فلما حرمت نسخ هذا الحرف ويكون الأمر بالإيتاء في الوقت تنبيها على الإيتاء في النكاح المطلق وغاية ما يقال إنهما قراءتان وكلاهما حق وألمر بالإيتاء في الاستمتاع إلى أجل مسمى واجب إذا كان ذلك حلالا وإنما يكون ذلك إذا كان الإستمتاع إلى أجل مسمى حلالا وهذا كان في أول الإسلام فليس فيالآية ما يجل على أن الاستمتاعغ بها إلى أجل مسمى حلال فإنه لم يقل وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى أجل مسمى بل قال فما استمتعتم به منهن فاتوهن أجورهن فهذا يتناول ما وقع من الاستمتاع سواء كان حلالا أو كان في وطء شبهة

ولهذا يجب المهر في النكاح الفاسد بالسنة والاتفاق والمتمتع إذا اعتقد حل المتعة وفعلها فعليه المهر وأما الاستمتاع المحرم فلم تتناوله الايه فإنه لو استمتع بالمرأة من غير عقد مع مطاوعتها لكان زنا ولا مهر فيه وإن كانت مستكرهة ففيه نزاع مشهور وأما ما ذكره من نهى عمر عن متعة النساء فقد ثبت عن النبي أنه حرم متعة النساء بعد الإحلال هكذا رواه الثقات في الصحيحين وغيرهما عن الزهري عن عبد الله والحسن ابنى محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابن عباس رضي الله عنه لما أباح المتعة إنك إمرؤ تائه إن رسول الله حرم المتعة ولحوم الحمر الأهلية عام خيبر رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة وأحفظهم لها أئمة الإسلام في زمنهم مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيرهما ممن اتفق المسلمون على علمهم وعدلهم وحفظهم ولم يختلف أهل العلم بالحديث في أن هذا حديث صحيح متلقى بالقبول ليس في أهل العلم من طعن فيه

وكذلك ثبت في الصحيح أنه حرمها في غزاة الفتح إلى يوم القيامة وقد تنازع رواة حديث علي رضي الله عنه هل قوله عام خيبر توقيت لتحريم الحمر فقط أو له ولتحريم المتعة فالأول قول ابن عيينة وغيره قالوا إنما حرمت عام الفتح ومن قال بالاخر قال إنها حرمت ثم أحلت ثم حرمت وادعت كائفة ثالثة أنها أحلت بعد ذلك ثم حرمت في حجة الوداع

فالروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه حرم المتعة بعد إحلالها والصواب أنها بعد أن حرمت لم تل وأنها إنما حرمت عام فتح مكة ولم تحل بعد ذلك ولم تحرم عام خيبر بل عام خيبر حرمت لحوم الحمر الأهلية وكان ابن عباس يبيح المتعة ولحوم الحمر فأنكر على بن أبي طالب رضي الله عنه ذلك عليه وقال له إن رسول الله حرم متعة النساء وحرم لحوم الحمر يوم خيبر فقرن على رضي الله عنه بينهما ي الذكر لما روى ذلك لابن عباس رضي الله عنهما لأن ابن عباس كان يبيحهما وقد روى ابن عباس رضي الله عنه أنه رجع عن ذلك لما بلغه حديث النهي عنهما

فأهل السنة اتبعوا عليا وغيره من الخلفاء الراشدين فيما رووه عن النبي

والشيعة خالفوا عليا فيما رواه عن النبي واتبعوا قول من خالفه

وأيضا فإن الله تعالى إنما أباح في كتابه الزوجة وملك اليمين والمتمتع بها ليست واحدة منهما فإنها لو كانت زوجة لتوارثا ولوجبت عليها عدة الوفاة ولحقها الطلاق الثلاث فإن هذه أحكام الزوجة في كتاب الله تعالى فلما انتفى عنها لوازم النكاح دل على انتفاء النكاح فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم والله تعالى إنما أباح في كتابه الأزواج وملك اليمين وحرم ما زاد على ذلك بقوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهن فأنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون

والمسمتع بها بعد التحريم ليست زوجة ولا ملك يمين فتكون حراما بنص القران أما كونها ليست مملوكة فظاهر وأما كونها ليست زوجة فلانتفاء لوازم النكاح فيها فإن من لوازم النكاح كونه سببا للتوارث وثبوت عدة الوفاة فيه والطلاق الثلاث وتنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول وغير ذلك من اللوازم

فإن قيل فقد تكون زوجة لا ترث كالذمية والأمة

قيل عندهم نكاح الذمية لا يجوز ونكاح الأمة إنما يكون عند الضرورة وهم يبيحون المتعة مطلقا ثم يقال نكاح الذمية والأمة سبب للتوارث ولكن المانع قائم وهو الرق والكفر كما أن النسب سبب للإرث إلا إذا كان الولد رقيقا أو كافرا فالمانع ثائم ولهذا إذا أعتق الولد أو أسلم ورث أباه في حياته وكذلك الزوجة الذمية إذا أسلمت في حياة زوجها ورثته باتفاق المسلمين بخلاف المستمتع بها فإن نفس نكاحها لا يكون سببا للإرث فلا يثبت التوارث فيه بحال فصار هذا النكاح كولد الزنا الذي ولد على فراش زوج فإن هذا لا يلحق بالزاني بحال فلا يكون ابنا يستحق الإرث

فإن قيل فالنسب قد تتبعض أحكامه فكذلك النكاح

قيل هذا فيه نزاع والجمهور يسلمونه ولكن ليس في هذا حجة لهم فإن جميع أحكام الزوجية منتفية في المستمتع بها لم يثبت فيها شيء من خصائص النكاح الحلال فعلم انتفاء كونها زوجة وما ثبت فيها من الأحكام مثل لحوق النسب ووجوب الاستبراء ودرء الحد ووجوب المهر ونحو ذلك فهذا يثبت في وطء الشبهة فعلم أن وطء المستمتع بها ليس وطئا لزوجة لكنه مع اعتقاد الحل مثل وطء الشبهة وأما كون الوطء به حلالا فهذا مورد النزاع فلا يحتج به أحد المتنازعين وإنما يحتج على الاخر بموارد النص والإجماع

فصل

قال الرافضي ومنع أبو بكر فاطمة إرثها فقالت يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها وكان هو الغريم لها لأن الصدقة تحل له لأن النبي قال نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة على أن ما رووه عنه فالقران يخالف ذلك لأن الله تعالى قال يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأمة دونه وكذب روايتهم فقال تعالى وورث سليمان داود وقال تعالى عن زكريا وإني خفت لموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من ال يعقوب

والجواب عن ذلك من وجوه أحدها أن ما ذكر من قول فاطمة رضي الله عنها أترث أباك ولا أرث أبي لا يعلم صحته عنها وإن صح فليس فيه حجة لأن أباها صلوا تالله عليه وسلامه لا يقاس بأحد من البشر وليس أبو بكر أولى بالمؤمنين من أنفسهم كأبيها ولا هو ممن حرم الله عليه صجقة الفرض والتطوع كأبيها ولا هو أيضا ممن جعل اله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال كما جعل أباها كذلك

والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورثوا دنيا لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلفوها لورثتهم وأما أبو الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يقدح فيها بمثل ذلك كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوته عن الشبهة وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة

الثاني أن قوله والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها كذب فإن قول النبي لا نورث ما تركنا فهو صدقة رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي وأبو هريرة والرواية عن هؤلاء ثابته في الصحاح والمسانيد مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث فقول القائل إن أبا بكر انفرد بالرواية يدل على فر جهله أو تعمده الكذب

الثالث قوله وكان هو الغريم لها كذب فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يجع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته وإنما هو صدقة لمستحقها كما أن المسجد حق للمسلمين والعدل لو شهد على رجل أنه وصى بجعل بيته مسجدا أو بجعل بئره مسبلة أو أرضه مقبرة ونحو ذلك جازت شهادته باتفاق المسلمين وإن كان هو ممن يجوز له أن يصلي في المسجد ويشرب من تلك البئر ويدفن في تلك المقرة فإن هذا شهادة لجهة عامة غير محصورة والشاهد دخل فيها بحكم العموم لا بحكم التعيين ومثل هذا لا يكون خصما

ومثل هذا شهادة المسلم بحث لبيت المال مثل كون هذا الشخص لبيت المال عنده حق وشهادته بأن هذا ليس له وارث إلا بيت المال وشهادته على الذمى بما يوجب نقض عهده وكون ماله فيئا لبيت المال ونحو ذلك

ولو شهد عدل بأن فلانا وقف ماله على الفقراء والمساكين قبلت شهادته وإن كان الشاهد فقيرا

الرابع أن الصديق رضي الله عنه لم يكن من أهل هذه الصدقة بل كان مستغنيا عنها لا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصى بصدقة للفقراء فإن هذه شهاجة مقبولة بالاتفاق

الخامس أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة والمحدث إذا حدث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قبلت روايته للحديث لأن الرواية تتضمن حكما عاما يدخل فيه الراوي وغيره وهذا من باب الخبر كالشهادة برؤية الهلال فإن ما أمر به النبي يتناول الراوي وغيره وكذلك ما نهى عنه وكذلك ما أباحه

وهذا الحديث تضمن رواية بحكم شرعي ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة رضي الله عنها وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتهابه لذلك منهم وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة

السادس أن قوله على أن ما رووه فالقران يخالف ذلك لأن الله تعالى قال يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأمة دونه

فيقال أولا ليس في عموم لفظ الآية ما يقتضي أن النبي يورث فإن الله تعالى قال يوصيكم الله في أولادكم للذكر من حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوه فلأمه السدس وفي الآية الأخرى ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن إلى قوله من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي مخاطب بها، وكاف الخطاب يتناول من قصده المخاطب فإن لم يعلم أن المعين مقصود بالخطاب لم يشمله اللفظ حتى ذهبت طائفة من الناس إلى أن الضمائر مطلقا لا تقبل التخصيص فكيف بضمير المخاطب فإنه لا يتناول إلا من قصد الخطاب دون من لم يقصد ولو قدر أنه عام يقبل التخصيص فإنه عام للمقصودين بالخطاب وليس فيها ما يقتضي كون النبي من المخاطبين بهذا فإن قيل هب أن الضمائر ضمائر التكلم والخطاب والغيبى لا تدل بنفسها على شيء بعينه لكن بحسب ما يقترن بها فضمائر الخطاب موضوعة لمن يقصده المخاطب بالخطاب وضمائر التكلم لمن يتكلم كائنا من كان لكن قد عرف أن الخطاب بالقران هو للرسول والمؤمنين جميعا كقوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم وقوله إذا قمتم إلى الصلاة فاغلسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ونحو ذلك وكذلك قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين

قيل بل كاف الجماعة في القران تارة تكون للنبي والمؤمنين وتارة تكون لهم دونه كقوله تعالى واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون

فإن هذه الكاف للأمة دون النبي

وكذلك قوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم

وكذلك قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم وقوله تعالى إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنبوكم ونحو ذلك فإن كاف الخطاب في هذه المواضع لم يدخل فيها الرسول بل تناولت من أرسل إليهم فلم لا يجوز أن تكون الكاف في قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم مثل هذه الكافات فلا يكون في السنة ما يخالف ظاهر القران

ومثل هذه الآية قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنة ألا تعولوا واتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فإن الضمير هنا في خفتم وتقسطوا وانحكوا وكاب لكم وما ملكت أيمانكم إنما يتناول الأمة دون نبيها فإن النبي له أن يتزوج أكثر من أربع وله أن يتزوج بلا مهر كما ثبت ذلك بالنص والإجماع

فإن قيل ما ذكرتموه من الأمثلة فيها ما يقتضي اختصاص الأمة فإنه لما ذكر ما يجب من طاعة الرسول خاطبهم بطاعته ومحبته وذكر بعثه إليهم علم أنه ليس داخلا في ذلك

قيل وكذلك اية الفرائض لما قال اباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا وقال من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ثم قال تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين فلما خاطبهم بعدم الدراية التي لا تناسب حال الرسول وذكر بعد هذا ما يجب عليهم من طاعته فيما ذكره من مقادير الفرائض وأنهم أن أطاعوا الله ورسوله في هذه الحدود استحقوا الثواب وإن خالفوا الله والرسول استحقوا العقاب وذلك بأن يعطوا الوارث أكثر من حقه أو يمنعوا الوارث ما يستحقه دل ذلك على أن المخاكبين المسلوبين الدراية لما ذكر الموعودين على طاعة الرسول المتوعدين على معصية الله ورسوله وتعدى حدوده فيما قدره من المواريث وغير ذلك لم دخل فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه كما لم يدخل في نظائرها

ولما كان ما ذكره من تحريم تعدي الحدود عقب ذكر الفرائض المحدوده دل على أنه لا يجوز أن يزاد أحد من أهل الفرائض على ما قدر له ودل على أنه لا تجوز الوصية لهم وكان هذا ناسخا لما أمر به أولا من الوصية للوالدين والأقربين

ولهذا قال النبي عام حجة الوداع إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث رواه أهل السنن كأبي داود وغيره ورواه أهل السير واتفقت الأمة عليه حتى ظن بعض الناس أن اية الوصية إنما نسخت بهذا الخبر لأنه لم ير بين استحقاق الإرث وبين استحقاق الوصية منافاة والنسخ لا يكون إلا مع تنافى الناسخ والمنسوخ وأما السلف والجمهور فقالوا الناسخ هو اية الفرائض لأن الله تعالى قدر فرائض محدوده ومنع من تعدي حدوده فإذا أعطى الميت لوارثه أكثرمما حده الله له فقد تعدى حد الله فكان ذلك محرما فإن ما زاد على الحدود يستحقه غيره من الورثة أو العصبة فإذا أخذ حق العاصب فأعطاه لهذا كان ظالما له

ولهذا تنازع العلماء فيمن ليس له عاصب هل يرد عليه أم لا فمن منع الرد قال الميراث حق لبيت المال فلا يجوز أن يعطاه غيره ومن جوز الرد قال إنما يوضع المال في بيت المال لكونه ليس له مستحق خاص وهؤلاء لهم رحم عام ورحم خاص كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ذو السهم أولى ممن لا سهم له

والمقصود هنا أنه لا يمكنهم إقامة دليل على شمول الآية للرسل أصلا

فإن قيل فلو مات أحد من أولاد النبي ورثه كما ماتت بناته الثلاث في حياته ومات ابنه إبراهيم

قيل الخطاب في الآية للموروث دون الوارث فلا يلزم إذا دخل أولاده في كاف الخطاب لكونهم موروثين أن يدهلوا إذا كانوا وارثين يوضع ذلك أنه قال ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فذكره بضمير الغيبة لا بضمير الخطاب وهو عائد على المخاطب بكاف الخطاب وهو الموروث فكل من سوى النبي من أولاده وغيرهم موروثون شملهم النص يورث أحدا شيئا وأولاد النبي من شكلهم كاف الخطاب فوصاهم بأولادهم للذكر مثل حظ الأنثيين ففاطمة رضي الله عنها وصاها الله في أولادها للذكر مثل حظ الأنثيين ولأبويها لو ماتت في حياتهما لك واحد منهما السدس

فإن قيل ففي اية الزوجين قال ولكم ولهن

قيل أولا الرافضة يقولون إن زوجاته لم يرثنه ولا عمه العباس وإنما ورثته البنت وحدها

الثاني أنه بعد نزول الآية لم يعلم أنه ماتت واحدة من أزواجه ولها مال حتى يكون وارثا لها وأما خديجة رضي الله عنها فماتت بمكة وأما زينب بنت خزيمة الهلالية فماتت بالمدينة لكن من أين نعلم أنها خلفت مالا وأن اية الفرائض كانت قد نزلت فإن قوله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم إنا تناول من ماتت له زوجة ولها تركة فمن لم تمت زوجته أو ماتت ولا مال لها لم خاطب بهذه الكاف

وبتقدير ذلك فلا يلزم من شمول إحدى الكافين له شمول الأخرى بل ذلك موقوف على الدليل

فإن قيل فأنتم تقولون إن ما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق أمته وبالعكس فإن الله إذا أمره تناول الأمة وإن ذلك قد عرف بعادة الشرع ولهذا قال تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ليكلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا فذكر أنه أحل ذلك له ليكون حلالا لأمته ولما خصه بالتحليل قال وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين فكيف يقال إن هذه الكاف لم تتناوله

قيل من المعلوم أن من قال ذلك قاله لما عرف من عادة الشارع في خطابه كما يعرف من عادة الملوك إذا خاطبوا أمبرا بأمر أن نظيره مخاطب بمثل ذلك فهذا يعلم بالعادة والعرف المستقر في خطاب المخاطب كما يعلم معانى الألفاظ بالعادة المستقرة لأهل تلك اللغة أنهم يريدون ذلك المعنى

وإذا كان كذلك فالخطاب بصيغة الجمع قد تنوعت عادة القران فيها تارة تتناول الرسول وتارة لا تتناوله فلا يجب أن يكون هذا الموضع مما تناوله وغاية ما يدعى المدعى أن يقال الأصل شمول الكاف له كما يقول الأصل مساواة أمته له في الأحكام ومساواته لأمته في الأحكام حتى يقوم دليل التخصيص ومعلوم أن له خصائص كثيرة خص بها عن أمته وأهل السنة يقولون من خصائصه أنه لا يورث فلا يجوز أن ينكر اختصاصه بهذا الحكم إلا كما ينكر اختصاصه بسائر الخصائص لكن للإنسان أن يطالب بدليل الاختصاص ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة المستفيضة بل المتواترة عنه في أنه لا يورث أعظم من الأحاديث المروية في كثير من خصائصه مثل اختصاصه بالفىء وغيره وقد تنازع السلف والخلف في كثير من الأحكام هل هو من خصائصه كتنازعهم في الفىء والخمس هل كان ملكا له أم لا وهل أبيح له من حرم عليه من النساء أم لا

ولم يتنازل السلف في أنه لا يورث لظهور ذلك عنه واستفاضته في أصحابه وذلك أن الله تعالى قال في كتابه يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول وقال في كتابه واعملوا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وقال في كتابه وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ولفظ اية الفىء كلفظ اية الخمس وسورة الأنفال نزلت بسبب بدر فدخلت الغنائم في ذلك بلا ريب وقد يدخل في ذلك سائر ما نفله الله للمسلمين من مال الكفار كما أن لفظ الفىء قد يراد به كل ما أفاء الله على المسلمين فيدخل فيه الغنائم وقد يختص ذلك بما أفاء الله عليه مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب

ومن الأول قول النبي ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم فلما أضاف هذه الأموال إلى الله والرسول رأى طائفة من لعلماء أن هذه الإضافة تقتضي أن ذلك ملك للرسول كسائر أملاك الناس ثم جعلت الغنائم بعد ذلك للغانمين وخمسها لمن سمى وبقى الفىء أو أربعة أخماسه ملكا للرسول كما يقول ذلك الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد وإنما ترددوا في الفىء فإنه عامة العلماء لا يخمسون الفىء وإنما قال بتخميسه الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقي وأما مالك وأبو حنيفة وأحمد وجمهور أصحابه وسائر أئمة المسلمين فلا يرون تخميس الفىء وهو ما أخذ من المشركين بغير قتال كالجزية والخراج

وقالت طائفة ثانية من العلماء بل هذه الإضافة لا تقتضي أن تكون الأموال ملكا للرسول بل تقتضي أن يكون أمرها إلى الله والرسول فالرسول ينفقها فيما أمره الله به

كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال إني والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت

وقال أيضا في الحديث الصحيح تسموا باسمى ولا تكنوا بكنيتي فإنما أنا قاسم أقسم بينكم

فالرسول مبلغ عن الله أمره ونيه فالمال المضاف إلى الله ورسوله هو المال الذي يصرف فيما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب بخلاف الأموال التي ملكها الله لعباده فإن لهم صرفها في المباحات

ولهذا لما قال الله في المكاتبين واتوهم من مال الله الذي اتاكم ذهب أكثر العلماء كمالك وأبي حنيفة وغيرهما إلى أن المراد اتاكم الله من الأموال التي ملكها الله لعباده فإنه لم يضفها إلى الرسول بخلاف ما أضافه إلى الله والرسول فإنه لا يعطى إلا فيما أمر الله به ورسوله

فالأنفال لله والرسول لأن قسمتها إلى الله والرسول ليست كالمواريث التي قسمها الله بين المستحقين وكذلك مال الخمس ومال الفىء

وقد تنازع العلماء في الخمس والفىء فقال مالك وغيره من العلماء مصرفهما واحد وهو فيما أمر الله به ورسوله وعين ما عينه من اليتامى والمساكين وابن السبيل تخصيصا لهم بالذكر وقد روى عن أحمد بن حنبل ما يوافق ذلك وأنه جعل مصرف الخمس من الركاز مصرف الفىء وهو تبع لخمس الغنائم وقال الشافعي وأحمد في الرواية المشهورة الخمس يقسم على خمسة أقسام وقال أبو حنيفة على ثلاثة فأسقط سهم الرسول وذوي القربى بموته وقال داود بن علي بل مال الفىء أيضا يقسم على خمسة أقسام والقول الأول أصح الأقوال كما قد بسطت أدلته في غير هذا الموضع وعلى ذلك تدل سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين

فقوله لله وللرسول في الخمس والفىء كقوله في الأنفال لله

والرسول فالإضافة للرسول لأنه هو الذي يقسم هذه الأموال بأمر الله ليست ملكا لأحد وقوله صلى اله عليه وسلم إني والله لا أعطى أحدا ولا أمنه أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت يدل على أنه ليس بمالك للأموال وإنما هو منفذ لأمر الله عز وجل فيها وذلك لأن الله خيره بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا وهذا أعلى المنزلتين فالملك يصرف المال فيما أحب ولا إثم عليه والعبد الرسول لا يصرف المال إلا فيما أمر به فيكون فيما يفعله عبادة الله وطاعة له ليس في قسمه ما هو من المباح الذي لا يثاب عليه بل يثاب عليه كله

وقوله ليس لي مما أفاء الله عليكم ألا الخمس والخمس مردود عليكم يؤيد ذلك فإن قوله لي أي أمره إلى ولهذا قال والخمس مردود عليكم وعلى هذا الأصل فما كان بيده من أموال بني النضير وفدك وخمس خيبر وغر ذلك هي كلها من مال الفىء الذي لم يكن يملكه فلا يورث عنه وإنما يورث عنه ما يملكه

بل تلك الأموال يجب أن تصرف فيما يحبه الله ورسوله من الأعمال وكذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأما ما قد يظن أنه ملكه كمال أوصى له به مخيريق وسهمه من خيبر فهذا إما أن يقال حكمه حكم المال الأول وإما أن يقال هو ملكه ولكن حكم الله في حقه أن يأخذ من المال خاجته وما زاد على ذلك يكون صدقة ولا يورث

كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال لا يقتسم ورثتي دينارا ولا درهما وما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال لا نورث ما تركناه فهو صدقة أخرجه البخاري عن جماعة منهم أبو هريرة رضي الله عنه ورواه مسلم عنه وعن غيره

يبين ذلك ن هذا مذكور في سياق قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا واتوا النساء صدقاتهم نحلة فإن كبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا إلى قوله يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين

ومعلوم أن النبي لم يخاطب بهذا فإنه ليس مخصوصا بمثنى ولا ثلاث ولا رباع بل له أن يتزوج أكثر من ذلك ولا مأمورا بأن يوفى كل امرأة صداقها بل له أن يتزوج من تهب نفسها له بغير صداق كما قال تعالى يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي اتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك إلى قوله وامرأة مؤمنة إن وهبت نسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما

وإذا كان سياق الكلام إنما هو خطاب للأمة دونه لم يدخل هو في عموم هذه الآية

فإن قيل بل الخطاب متناول له وللأمة في عموم هذه الآية لكن خص هو من اة النكاح والصداق

قيل وكذلك خص من اية الميراث فما قيل في تلك يقال مثله في هذه وسواء قيل إن لفظ الآية شمله وخص منه أو قيل إنه لم يشمله لكونه ليس من المخاكبين يقال مثله هنا

السابع أن يقال هذه الآية لم يقصد بها بيان من يورث ومن لا يورث ولا بيان صفة الموروث والوارث وإنما قصد بها أن المال الموروث يقسم بين الواثين على هذا التفصيل فالمقصود هنا بيان مقدار أنصباء هؤلاء المذكورين إذا كانوا ورثة ولهذا لو كان الميت مسلما وهؤلاء كفارا لم يرثوا باتفاق المسلمين وكذلك لو كان كافرا وهؤلاء مسلمين لم يرثوا حرا وهم عبيد وكذلك القاتل عمدا عنه عامة المسلمين وكذلك القاتل خطأ من الدية وفي غيرها نزاع وإذا علم أن في الموتى من يرثه أولاده وفيهم من لا يرثه أولاده والآية لم تفصل من يرثه ورثته ومن لا يرثه ولا صفة الوارث والموروث علم أنه لم يقصد بها بيان ذلك بل قصد بها بيان حقوق هؤلاء إذا كانوا ورثة

وحينئذ فالآية إذا لم تبين من يورث ومن يرثه لم يمن فيها دلالة على كون غير النبي يرث أولا يورث فلأن لا يكون فيها دلالة على كونه هو يورث بطرق الأولى والأحرى

وهكذا كما في قوله فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بالدوالي والنواضح فنصف العشر فإن قصد به الفرق بين ما يجب فيه العشر وبين ما يجب فيه نصف العشر ولم يقصد به بيان ما يجب فيه أحدهما وما لا يجب واحد منهما فلهذا لا يحتج بعمومه على وجوب الصدقة في الخضروات

وقوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا قصد فيه الفرق بين البيع والربا في أن أحدهما حلال والاخر حرام ولم يقصد فيه بيان ما يجوز بيعه وما لا يجوز فلا يحتج بعمومه على جواز بيع كل شيء ومن ظن أن قوله وأحل الله البيع يعم بيع الميتة والخنزير والخمر والكلب وأم الولد والوقف وملك الغير والثمار قبل بدو صلاحها ونحو ذلك كان غالطا

الوجه الثامن أن يقال هب أن لفظ الآية غام فإنه خص منها الولد الكافر والعبد والقاتل بأدلة هي أضعف من الدليل الذي دل على خروج النبي صلى الله عليه وسل منها فإن الصحابة الذين نقلوا عنه أنه لا يورث أكثر وأجل من الذين نقلوا عنه أن المسلم لا يرث الكافر وأنه ليس لقاتل ميراث وأن من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع

وفي الجملة فإذا كانت الآية مخصوصة بنص أو إجماع كان تخصيصها بنص اخر جائزا باتفاق علماء المسلمين بل قد ذهب طائفة إلى أن العام المخصوص يبقى مجملا وقد تنازع العلماء في تخصيص عموم القران إذا لم يكن مخصوصا بخبر الواحد فأما العام المخصوص فيجو تخصيصه بخبر الواحد عن عوامهم لا سيما الخبر المتلقى بالقبول فإنهم متفقون على تخصيص عموم القران به

وهذا الخبر تلقته الصحابة بالقبول وأجمعوا على العمل به كما سنذكره إن شاء الله تعالى

والتخصيص بالنص المستفيض والإجماع متفق عليه ومن سلك هذا المسلك يقول ظاهر الآية العموم لكنه عموم مخصوص ومن سلك المسلك الأول لم يسلم ظهور العموم إلا فيمن علم أن هؤلاء يرثونه ولا يقال إن ظاهرها متروك بل نقول لم يقصد بها إلا بيان نصيب الوارث لا بيان الحال التي يثبت فيها الإرث فالآية عامة في الأولاد والموتى مطلقة في الموروثين وأما شروط الإرث فلم تتعرض له الآية بل هي مطلقة فيه لا تدل عليه بنفي ولا إثبات

كما في قوله اتعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم عام في الأشخاص مطلق في المكان والأحوال فالخطاب المقيد لهذا المطلق يكون خطابا مبتدأ مبينا لحكم شرعي لم يتقدم ما ينافيه لا يكون رافعا لظاهر خطاب شرعي فلا يكون مخالفا للأصل

الوجه التاسع أن يقال كون النبي لا يورث ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة وكل منهما دليل قطعي فلا يعارض ذلك بما يظن أنه عموم وإن كان عموما فهو مخصوص لأن ذلك لو كان دليلا لما كان إلا ظنيا فلا يعارض القطعى إذ الظنى لا يعارض القطعي

وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس وليس فيهم من ينكره بل كلهم تلقاه بالقبول والتصديق ولهذا لم يصر أحد من أزواجه على طلب الميراث ولا أصر العم على طلب الميراث بل من طلب من ذلك شيئا فأخبر بقول النبي رجع عن طلبه واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى على فلم يغير شيئا من ذلك ولاقسم له تركة

الوجه العاشر أن يقال إن أبا بكر وعمر قد أعطيا عليا وأولاده من المال أضعاف أضعاف ما خلفه النبي من والمال الذي خلفه لم ينتفع واحد منهما منه بشيء بل سلمه عمر إلى علي والعباس رضي الله عنهم بليانه ويفعلان فيه ما كان النبي يفعله وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك

الوجه الحادي عشر أن يقال قد جرت العادة بأن الظلمة من الملوك أذا تولوا بعد غيرهم من الملوك الذين أحسنوا إليهم أو ربوهم وقج انتزعوا الملك من بيت ذلك الملك استعطفوهم وأعطوهم ليكفوا عنهم منازعتهم فلو قدر والعياذ بالله أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما متغلبان متوثبان لكانت العادة تقضي بأن لايزاحما الورثة المستحقين للولاية والتركة في المال بل يعطيانهم ذلك وأضعافه ليكفوا عن المنازعة في الولاية وأما منع الولاية والميراث بالكلية فهذا لا يعلم أنه فعله أحد من الملوك وإن كان من أظلم الناس وأفجرهم فعلم أن الذي فعلوه مع النبي أمر خارج عن العادة الطبيعية في الملوك كما هو خارد عن العادات الشرعية في المؤمنين وذلك لاختصاصه بما لم يخص الله به غيره من ولاة الأمور وهو النبوة إذ الأنبياء لا يورثون

الوجه الثاني عشر أن قوله تعالى وورث سليمان داود وقوله تعالى عن زكريا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من ال يعقوب لا يدل على محل النزاع لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز فإذا قيل هذا حيوان لا يدل على أنه إنسان أو فرس أو بعير ذلك من أنواع الانتقال قال تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اضطفينا من عبادنا

وقال تعالى أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون وقال تعالى وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون وقال تعالى وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطووها وقال تعالى إن الأرض لله روثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وقال تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وقال تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون وقال النبي إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر رواه أبو داود وغيره

وهكذا لفظ الخلافة ولهذا يقال الوارث خليفة الميت أي خلفه فيما تركه والخلافة قد تكون في المال وقد تكون في الملك وقد تكون في العلم وغير ذلك

وإذا كان كذلك فقوله تعالى وورث سليمان داود وقوله يرثني ويرث من ال يعقوب إنما يدل على جنس الإرث لا يدل على إرث المال فاستدلال المستدل بهذا الكلام على خصوص إرث المال جهل منه بوجه الدلالة كما لو قيل هذا خليفة هذا وقد خلفه كان دالا على خلافة مطلقة لم يكن فيها ما يدل على أنه خلفه في ماله أو امرأته أو ملكه أو غير ذلك من الأمور

الوجه الثالث عشر أن يقال المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك لا إرث المال وذلك لأنه قال وورث سليمان داود ومعلوم أن داود كان له أولاد كثيرون غير سليمان فلا يختص سليمان بماله

وأيضا فليس في كونه ورث ماله صفة مدح لا لداود ولا لسليمان فإن اليهودي والنصراني يرث أباه ماله والآية سيقت في بيان المدح لسليمان وما خصه اله به من النعمة

وأيضا فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس كالأكل والشرب ودفن الميت ومثل هذا لا يقص على الأنبياء إذ لا فائدة فيه وإنما يقص ما فيه عبرة وفائدة تستفاد وإلا فقول القائل مات فلان وورث اننه ماله مثل قوله ودفنوه ومثل قوله أكلوا وشربوا وناموا ونحو ذلك مما لا يحسن أن يدعل من قصص القران

وكذلك قوله عن زكريا يرثني ويرث من ال يعقوب ليس المراد بن إرث المال لأنه لا يرث من ال يعقوب شيئا من أموالهم بل إنما يرثهم ذلك أولادهم وسائر ورثتهم لو ورثوا ولأن النبي لا يطلب ولدا ليرث ماله فإنه لو كان يورث لم يكن بد من أن ينتقل المال إلى غيره سواء كان ابنا أو غيره فلو كان مقصوده بالولد أن يرث ماله كان مقصوده أنه لا يرثه أحد غير الولد

وهذا لا يقصده أعظم الناس بخلا وشحا على من ينتقل إليه المال فإنه لو كان الولد موجودا وقصد أعطاءه دون غيره لكان المقصود إعطاء الولد وأما إذا لم يكن له ولد وليس مراده بالولد إلا أن يجوز المال دون غيره كان المقصود أن لا يأخذ أولئك المال وقصد الولد بالقصد الثاني وهذا يقبح من أقل الناس عقلا ودينا

وأيضا فزكريا عليه السلام لم يعرف له مال بل كان نجارا ويحيى ابنه عليه السلام كان من أزهد الناس

وأيضا فإنه قال وإني خفت الموالى من ورائي ومعلوم أنه لم يخف أن يأخذوا ماله من بعده إذا مات فإن هذا ليس بمخوف

فصل

قال الرافضي ولما ذكرت فاطمة أن أباها رسول الله وهبها فدك قال لها هات أسود أو أحمر يشهد لك بذلك فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك فقال امرأة لا يقبل قولها وقد رووا جميعا أن رسول الله قال أم أيمن امرأة من أهل الجنة فجاء أمير المؤمنين فشهد لها بذلك فقال هذا بعلك يجره إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لك وقد رووا جميعا أن رسول الله قال على مع الحق والحق معه يدور معه حيث دار لن يفترقا حتى يردا على الحوض فغضبت فاطمة عليها السلام عند ذلك وانصرفت وحلفت أن لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشكو إليه فلما حضرتها الوفاة أوصت عليت أن يدفنها ليلا ولا يدع أحدا منهم يصلي عليها وقد رووا جميعا أن النبي قال يا فاطمة إن الله تعالى يغضب لغضبك ويرضى لرضاك ورووا جميعا أنه قال فاطمة بضعة مني من اذاها فقد اذاني ومن اذاني فقد اذي الله ولو كان هذا الخبر صحيحا حقا لما جاز له ترك البغلة التي خلفها النبي وسيفه وعمامته عند أمير المؤمنين على ولما حكم له بها لما ادعاها العباس ولكان أهل البيت الذين طهرهم الله في كتابه من الرجس مرتكبين مالا يجوز لأن الصدقة عليهم محرمة وبعد ذلك جاء إليه مال البحرين وعنده جابر بن عبد الله الأنصاري فقال له إن النبي قال لي إذا أتى مال البحرين حثوت لك ثم حثوت لك ثلاثا فقال له تقدم فخذ بعددها فأخذ من بيت مال المسلمين من غير بينة بل بمجرد قوله

والجواب أن في هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفة ولكن ينذكر من ذلك وجوها إن شاء الله تعالى

أحدها أن ما ذكر من ادعاء فاكمة رضي الله عنها فدك فإن هذا يناقض كونها ميراثا لها فإ كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت فرسول الله منزه إن كان يورث كما يورث غيره أن يوصى لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئا حتى مات الواهب كان ذلك باطلا عند جماهير العلماء فكيف يهب النبي فدك لفاطمة ولا يكون هذا أمرا معروفا عند أهل بيته والمسلمين حتى تخص بمعرفته أم أيمن أو على رضي الله عنهما

الوجه الثاني أن ادعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة وقد قال الإمام أبو العاس بن سريج في الكتاب الذي صنفع في الرد على عيسى ابن أبان لما تكلم معه في باب اليمين والشاهد واحتج بما احتج وأجاب عما عارض به عيسى بن أبان قال وأما حديث البحتري بن حسان عن زيد بن علي أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله أعطاها فدك وأنها جاءت برجل وامرأة فقال رجل مع رجل وامرأة مع امرأة فسبحان الله ما أعجب هذا قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله أنه قال لا نورث وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادعتها بغير الميراث ولا أن احدا شهد بذلك

ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فدك إن فاطمة سألت النبي أ يجعلها لها فأبى وأن النبي كان ينفق منها ويعود على ضعفة بني هاشم ويزوج منه أيمهم وكانت كذلك حياة رسول الله أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق وإني أشهدكم ني رددتها إلى ما كانت في عهد رسول الله

ولم يسمع أن فاطمة رضي الله عنها ادعت أن النبي أعطاها إياها في حديث ثابت متصل ولا أن شاهدا شهد لها ولو كان ذلك لحكى لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه فلم يقل أحد من المسلمين شهدت النبي أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة تدعيها حتى جاء البحتري بن حسان يحكى عن زيد شيئا لا ندري ما أصله ولا من جاء به وليس من أحاديث أهل العلم فضل بن مرزوق عن البحتاري عن زيد وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له وكان الحديث قد حسن بقول زيد لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبو بكر وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا على فاطمة لو لم يخالفه أحد ولو لو تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية فكيف وقد جاءت وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول اله قم قال أبو بكر بخلافه إن هذا من أبي بكر رحمه الله كنحو ما كان منه في الجدة وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه

ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة لأن فاطمة لم تقل إني أحلف مع شاهدي فمنعت ولم يقل أبو بكر إني لا أرى اليمين مع الشاهد

قالوا وهذا الحديث غلط لأن أسامة بن زيد يروي عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثنا قال كان مما احتج بن عمر أن قال كانت لرسول الله ثلاث صفايا بنو النضير وخيبر وفدك فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل وأما خيبر فجزأها رسول الله ثلاثة أجزاء جزئتين بين المسلمين وجزءا نفقة لأهله فما فضل عن نفقة أهله جهله بين فقراء المهاجرين جزئين

وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقى من خمس خيبر فقال أبو بكر إن رسول الله قال لا نورث ما تركنا صجقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ولأعملن فيها بمل عمل به رسول الله فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا

ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال حدثني عروة أن عائشة أخبرته بهذا الحديث قال وفاطمة رضي الله عنها حينئذ تطلب صدقة رسول الله التي بالمدينة وفدك وما بقى من خمس خيبر قالت عائشة فقال أبو بكر إن رسول الله قال لا نورث ما تركنا صدقة وإنما يأكل آل محمد في هذا المال يعني مال الله عز وجل ليس لهم أن يزيدوا على المال

ورواه صالح عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة قالت فيه فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال لست تاركا شيئا كان رسول الله يعمل به إلا عملت به إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى على وعباس فغلب علي عليها وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر وقال هما صدقة رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرها إلى من ولي الأمر قال فهما على ذلك إلى اليوم

فهذه الأحاديث الثابته المعروفة عند أهل العلم وفيها ما يبين أن فاطمة رضي الله عنها طلبت ميراثها من رسول الله على ما كانت تعرف من المواريث فأخبرت بما كان من رسول الله فسلمت ورجعت فكيف تكلبها ميراثا وهي تدعيها ملكا بالعطية هذا ما لا معنى فيه وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يتدبر ولا نحتج بما يوجد في الأحاديث الثابته لرده وإبانة الغلط فيه ولكن حبك الشيء يعمى ويصم

وقد روى عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه إني أقرأ مثل ما قرأت ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله قالت فاطمة هو لك ولقرابتك قال لا وأنت عندي مصدقة أمينة فإن كان رسول الله عهد إليك في هذا أو وعدك فيه موعدا أو أوجبه لكم حقا صدقتك فقالت لا غير أن رسول الله قال حين أنزل عليه أبشروا يا آل محمد وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى قال أبو بكر صدق الله ورسوله وصدقت فلكم الفىء ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن استلم هذا السهم كله كاملا إليكم ولكم الفىء الذي يسعكم وهذا يبين أن أبا بكر كان يقبل قولها فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة ولكنه يتعلق بكل شيء يجده

الوجه الثالث أن يقال إن كان النبي يورث فالخصم في ذلك أزواجه وعمه ولا تقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق المسلمين وان كان لا يورث فالخصم في ذلك المسلمون فكذلك لا يقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد باتفاق المسلمين ولا رجل وامرأة نعم يحكم في مثل ذلك بشهادة ويمين الطالب عند فقهاء الحجاز وفقهاء أصحاب الحديث وشهادة الزوج لزوجته فيها قولان مشهوران للعلماء هما روايتان عن أحمد إحداهما لا تقبل وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد وألأوزاعي وإسحاق وغيرهم

والثانية تقبل وهي مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم فعلى هذا لو قدر صحة هذه القصة لا يجز للإمام أن يحكم بشهادة رجل واحد ولا امرأة واحدة باتفاق المسلمين لا سيما وأكثرثهم لا يجيزون شهادة الزوج ومن هؤلاء من لا يحكم بشاهد ويمين ومن يحكم بشاهد ويمين لم يحكم للطالب حتى يحلفه

الوجه الرابع قوله فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك فقال امرأة لا يقبل قولها وقد رووا جميعا أن رسول الله قال أم أيمن امرأة من أهل الجنة

الجواب أن هذا احتجاج جاهل مفرط في الجهل يريد أن يحتج لنفسه فيحتج عليها فإن هذا القول لو قاله الحجاج بو يوسف والمختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقا فإن امرأة واحدة لا يقبل قولها في الحكم بالمال لمدع يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره فكيف إذا حكى مثل هذا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه

وأما الحديث الذي ذكره وزعم أنها رووه جميعا فهذا الخبر لا يعرف في شيء من داوجين الإسلام ولا يعرف عالم من علماء الحديث رواه وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد وهي حاضنة النبي وهي من المهاجرين ولها حق وحرمة لكن الرواية عن النبي لا تكون بالكذب عليه وعلى أهل العلم وقول القائل رووا جميعا لا يكون إلا في خبر متواتر فمن ينكر حديث النبي أنه لا يورث وقد رواه أكابر الصحابة ويقول إنهم جميعا رووا هذا الحديث إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحدت للحق

وبتقدير أن يكون النبي قد أخبر أنها من أهل الجنة فهو كإخباره عن غيرها أنه من أهل الجنة وقد أخبر عن كل واحد من العشرة أنه في الجنة وقد قال لا يدخل النار احد بايغ تحت الشجرة وهذا الحديث في الصحيح ثابت عند أهل العلم بالحديث وحديث الشهادة لهم بالجنة رواه أهل السنن من عير وجه من حديث عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد فهذه الأحاديث المعروفة عن أهل العلم بالحديث ثم هؤلاء يكذبون من علم أن الرسول شهد لهم بالجنة وينكرون عليهم كونهم لم يقبلوا شهادة امرأة زعموا أنه شهد لها بالجنة فهل يكون أعظم من جهل هؤلاء وعنادهم

ثم يقال كون الرجل من أهل الجنة لا يوجب قبول شهادته لجواز أن يغلط في الشهادة ولهذا لو شهدت خديجة وفاطمة وعائشة ونحوهن ممن يعلم أنهن من أهل الجنة لكانت شهادة إحداهن نصف ميراث رجل وديتها نصف دية رجل وهذا كله باتفاق المسلمين فكون المرأة من أهل الجنة لا يوجب قبول شهادتها لجواز الغلط عليها فكيف وقد يكون الإنسان ممن يكذب ويتوب من الكذب ثم يدخل الجنة

الوجه الخامس قوله إن عليا شهد لها فرد شهادته لكونه زوجها فهذا مع أنه كذب لو صح ليس يقدح إذ كانت شهادة الزوج مردودة عند أكثر العلماء ومن قبلها منهم لم يقبلها حتى يتم النصاب إما برجل اخر وإما بامرأة مع امرأة وأما الحكم بشهادة رجل وامرأة مع عدم يمين المدعى فهذا لا يسوغ

الوجه السادس قولهم إنهم رووا جميعا أن رسول الله قال على مع الحق والحق معه يدور حيث دار ولن يفترقا حتى يردا على الحوض من أعظم الكلام كذبا وجهلا فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي لا بإسناد صحيح ولا ضعيف فكيف يقال إنهم جميعا رووا هذا الحديث وهل يكون أكذب ممن يروى عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثا والحديث لا يعرف عن واحد منهم أصلا بل هذا من أظهر الكذب ولو قيل رواه بعضهم وكان يمكن صحته لكان ممكنا فكيف وهو كذب قطعا على النبي بخلاف إخباره أن أم أيمن في الجنة فهذا يمكن أنه قاله فإن أم أيمن امرأة صالحة من المهاجرات فإخباره أنها في الجنة لا ينكر بخلاف قوله عن رجل من أصحابه أنه مع الحق وأن الحق يدور معه حيثما دار لن يفترقا حتى يردا على الحوض فإنه كلام ينزه عنه رسول الله

أما أولا فلأن الحوض إنما يرده عليه أشخاص كما قال للأنصار اصبروا حتى تلقوني على الحوض وقال إن حوضي لأبعد ما بين أيلة إلى عدن وإن أول الناس ورودا فقراء المهاجرين الشعث رؤوسا الدنس ثيابا الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يجد لها قضاء رواه مسلم وغيره

وأما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض وقد روى أنه قال إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض فهو من هذا النمط وفيه كلام يذكر في موضعه إن شاء الله

ولو صح هذا لكان المراد به ثواب القران أما الحق الذي يدور مع شخص ويدور الشخص معه فهو صفة لذلك الشخص لا يتعداه ومعنى ذلك أن قوله صدق وعمله صالح ليس المراد به أن غيره لا يكون معه شيء من الحق

وأيضا فالحق لا يدور مع شخص غير النبي ولو دار الحق مع على حيثما دار لوجب أن يكون معصوما كالنبي وهم من جهلهم يدعون ذلك ولكن من علم أنه لم يكن بأولى بالعصمة من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم وليس فيهم من هو معصوم علم كذبهم وفتاويه من جنس فتاوي عمر وعثمان ليس هو أولى بالصواب منهم ولا في أقوالهم من الأقوال المرجوحة أكثر مما في قوله ولا كان ثناء النبي ورضاه عنه بأعظم من ثنائه عليهم ورضائه عنهم بل لو قال القائل إنه لا يعرف من النبي أنه عتب على عثمان في شيء وقد عتب على على في غير موضع لما أبعد فإنه لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل اشتكته فاطمة لأبيها وقالت إن الناس يقولون إنك لا تغضب لبناتك فقام رسول الله خطيبا وقال إن بني المغيرة استأذنوني أن يزوجوا ابنتهم علي بن أبي طالب وإني لا اذن ثم لا اذن ثم لا اذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم فإنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما اذاها ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي والحديث ثابت صحيح أخرجناه في الصحيحين

وكذلك في الصحيحين لما طرقه وفاطمة ليلا فقال ألا تصليان فقال له على إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانطلق وهو يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا

وأما الفتاوي فقد أفتى بأن المتوفى عنها زوجها وهي حامل تعتد أبعد الأجلين وهذه الفتيا كان قد أفتى بها أبو السنابل بن بعكك على عهد النبي فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كذب أبو السنابل وأمثال ذلك كثير ثم بكل حل فلا يجوز أن يحكم بشهادته وحده كما لا يجوز له أن يحكم لنفسه

الوجه السابع أن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يلق بها ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهل يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها فإنه ليس فيما ذكره ما يوجب الغضب عليه إذ لم يحكم لو كان ذلك صحيحا إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه ومن كلب أن يحكم له بغير حكم الله ورسوله فغضب وحلف أن لا يكلم الحاكم ولا صاحب الحاكم لم يكن هذا مما يحمد عليه ولا مما يذم به الحاكم بل هذا إلى أن يكون جرحا أقرب منه إلى أن يكون مدحا ونحن نعلم أن ما يحكى عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين وإذا كان بعضها ذنبا فليس القوم معصومين بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم وكذلك ما ذكره من حلفها أنها لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشتكي إليه أمر لا يليق أن يذكر عن فاطمة رضي الله عنها فإن الشكوى إليه أمر لا يليق أن يذكر عن فاطمة رضي الله عنها فإن الشكوى إنما تكون إلى الله تعالى كما قال العبد الصالح إنما أشكو بثى وحزني إلى الله وفي دعاء موسى عليه السلام اللهم لك التكلان وقال النبي لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ولم يقل سلني ولا استعن بي

وقد قال تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب

ثم من المعلوم لكل عاقل أن المرأة إذا طلبت مالا من ولي أمر فلم يعطها إياه لكونها لا تستحقه عنده وهو لم يأخذه ولم يعطه لأحد من أهله ولا أصدقائه بل أعطاه لجميع المسلمين وقيل إن الطالب غضب على الحاكم كان غاية ذلك أنه غضب لكونه لم يعطه مالا وقال الحاكم إنه لغيرك لا لك فأي مدح للطالب في هذا الغضب لو كان مظلوما محضا لم يكن غضبه إلا للدنيا وكيف والتهمة عن الحاكم الذي لا يأخذ لنفسه أبعد من التهمة عن الطالب الذي يأخذ لنفسه فكيف تحال التهمة على من لا يطلب لنفسه مالا ولا تحال على من يطلب لنفسه المال

وذلك الحاكم يقول إنما أمنع لله لأني لا يحل لي أن اخذ المال من مستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه والطالب يقول إنما أغضب لحظى القليل من المال أليس من يذكر مثل هذا عن فاطمة ويجعله من مناقبها جاهلا، أو ليس الله قد ذم المنافقين الذين قال فيهم ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها ورضا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما اتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيوتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون فذكر الله قوما رضوا إن اعطوا وغضبوا إن لم يعطوا فذمهم بذلك فمن مدح فاطمة بما فيه شبه من هؤلاء ألا يكون قادحا فيها فقاتل الله الرافضة وانتصف لأهل البيت منهم فإنهم ألصقوا بهم من العيوب والشين مالا يخفى على ذي عين

ولو قال قائل فاطمة لا تطلب إلا حقها لم يكن هذا بأولى من قول القائل أبو بكر لا يمنع يهوديا ولا نصرانيا حقه فكيف يمنه سيدة نساء العالمين حقها فغن الله تعالى ورسوله قد شهدا لأبي بكر أنه ينفق ماله لله فكيف يمنه الناس أموالهم وفاطمة رضي الله عنها قد طلبت من النبي مالا فلم يعطها إياه كما ثبت في الصحيحين عن علي رضي الله عنه في حديث الخادم لما ذهبت فاطمة إلى النبي تسأله خادما فلم يعطها خادما وعلمها التسبيح وإذا جاز أن تطلب من النبي ما يمنعها النبي إياه ولا يجب عليه أن يعطيها إياه جاز أن تطلب ذلك من أبي بكر خليفة رسول الله وعلم أنها ليست معصومة أن تطلب ما لا يجب إعطاؤها إياه وإذا لم يجب عليه الإعطاء لم يكن مذموما بتركه ما ليس بواجب وإن كان مباحا فأما إذا قدرنا أن الإعطاء ليس بمباح فإنه يستحق أن يحمد على المنع وأما أبو بكر فلم يعلم أنه منع أحدا حقه ولا ظلم أحدا حقه لا في حياة رسول الله ولا بعد موته

وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تدفن ليلا ولا يصلي عليها أحد منهم لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجل جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أولى منه بالسعي المشكور فإ صلاة المسلم على غيره زيادة خير تصل إليه ولا يضر أفضل الخلق أن يصلي عليه شر الخلق وهذا رسول الله يصلي عليه ويسلم عليه الأبرار والفجار بل والمنافقون وهذا إن لم ينفعه لم يضره وهو يعله أن في أمته منافقين ولم ينه أحدا من أمته عن الصلاة عليه بل أمر الناس كلهم بالصلاة والسلام عليه مع أن فيهم المؤمن والمنافق فكيف يذكر في معرض الثناء عليها والاحتاج لها مثل هذا الذي لا يحكيه ولا يحتج به إلا مفرط في الجهل ولو وصى موص بأن المسلمين لا يصلون عليه لم تنفذ وصيته فإن صلاتهم عليه خير له بكل حال

ومن المعلوم أن إنسانا لو ظلمه ظالم فأوصى بأن لا يصلي عليه ذلك الظالم لم يكن هذا من الحسنات التي يحمد عليها ولا هذا مما أمر الله به ورسوله فمن يقصد مدح فاطمة وتعظيمها كيف يذكر مثل هذا الذي لا مدح فيه بل المدح في خلافه كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع

وأما قوله ورووا جميعا أن النبي قال يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك فهذا كذب منه ما رووا هذا عن النبي ولا يعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة ولا له إسناد معروف عن النبي لا صحيح ولا حسن ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة وبأن الله يرضى عنها فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن بن عوف بذلك نشهد ونشهد بأ الله تعالى أخبر برضاه عنهم في غير موضع كقوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وقوله تعالى لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة وقد ثبت أن النبي توفى وهو عنهم راض ومن رضي الله عنه ورسوله لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائنا من كان بل من رضي الله عنه ورضى عن الله يكون رضاه موافقا لرضا الله فإن الله راض عنه فهو موافق لما يرضى الله وهو راض عن الله فحكم الله موافق لرضاه وإذا رضوا بحكمه غضبوا لغضبه فإن من رضى بغضب غيره لزم أن يغضب لغضبه فإن الغضب إذا كان مرضيا لك فعلن ما هو مرض لك وكذلك الرب تعالى وله المثل الأعلى إذا رضى عنهم غضب لغضبهم إذ هو راض بغضبهم

وأما قوله رووا جميعا أن فاطمة بضعة مني من اذاها اذاني ومن اذاني اذى الله فإن هذا الحديث لو يرو بهذا اللفظ بل روى بغيره كما روى في سياق حديث خطبه على لابنه أبي جهل لما قام النبي خطيبا فقال إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب وإني لا اذن ثم لا اذن ثم لا اذن إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما اذاها إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم وفي رواية إني أخاف أن تفتن في دينها ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وإني لست أحل حراما ولا أحرم حلالا ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله ونت عدو الله مكانا واحدا أبدا رواه البخاري ومسلم في الصحيحين من رواية علي بن الحسين والمسور بن مخرمة فسبب الحديث خطبة على رضي الله عنه لابنة أبي جهل والسبب داخل في اللفظ قطعا إذ اللفظ الوارد على سبب لا يجوز إخراج سببه منه بل السبب يجب دخوله بالاتفاق

وقد قال في الحديث يريبني ما رابها ويؤذيني ما اذاها ومعلوم قطعا أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها واذاها والنبي رابه ذلك واذاه فإن كان هذا وعيدا لاحقا بفاعله لزم أن يلحق هذا الوعيد علي بن أبي طالب وإن لم يكن وعيدا لاحقا بفاعله كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من علي وإن قيل إن عليا تاب من تلك الخطبة ورجع عنها

قيل فهذا يقتضي أنه عير معصوم وإذا جاز أن من راب فاطمة واذاها يذهب ذلك بتوبته جاز أن يذهب بغير ذلك من الحسنات الماحية فإن ما هو أعظم من هذا الذنب تذهبه الحسنات الماحية والتوبة والمصائب المكفرة

وذلك أن هذا الذنب ليس من الكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة ولو كان كذلك لكان علي والعياذ بالله قد ارتد عن دين الإسلام في حياة النبي ومعلوم أن الله تعالى نزه عليا من ذلك والخوارج الذين قالوا إنه ارتد بعد موت النبي لم يقولوا إنه ارتد في حياته ومن ارتد فلا بد أن يعود إلى الاسلام أو يقتله النبي وهذا لم يقع وإذا كان هذا الذنب هو مما دون الشرك فقد قال تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن قالوا بجهلهم إن هذا الذنب كفر ليكفروا بذلك أبا بكر لزمهم تكفير علي واللازم باطل فالمللزوم مثله وهم دائما يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان بل ويكفروبنهم بأمور قد صدر من علي ما هو مثلها أو أبعد عن العذر منها فإن كان مأجورا أو معذورا فهم أولى بالأجر والعذر وإن قيل باستلزام الأمر الأخف فسقا أو كفرا كان استلزام الأغلظ لذلك أولى

وأيضا فيقال إن فاطمة رضي الله عنها إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها فإذا دار الأمر بين أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب وهذا حال أبي بكر وعمر فإنهما احترزا عن أن يوذيا أباها أو يريباه بشيء فإنه عهد عهدا وأمر بأمر فخافا إن غيرا عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره وعهده ويتأذى بذلك وكل عاقل يعلم أن رسول الله إذا حكم بحكم وطلبت فاطمة أو غيرها ما يخالف ذلك الحكم كان مراعاة حكم النبي أولى فإن طاعته واجبة ومعصيته محرمة ومن تأذى لطاعته كان مخطئا في تأذيه بذلك وكان الموافق لطاعته مصيبا في طاعته وهذا بخلاف من اذاها لغرض نفسه لا لأجل طاعة الله ورسوله

ومن تدبر حال أبي بكر في رعايته لأمر النبي وأنه إنما قصد طاعة الرسول لا أمرا اخر يحكم أن حاله أكمل وأفضل وأعلى من حال على رضى الله عنهما وكلاهما سيد كبير من أكابر أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وعباد الله الصالحين ومن السابقين الأولين ومن أكابر المقربين الذين يشربون بالتسنيم ولهذا كان أبو بكر رضي الله عنه يقول والله لقرابة رسول الله أحب إلى أن أصل من قرابتي وقال ارقبوا محمدا في أهل بيته رواه البخاري عنه

لكن المقصود أنه لو قدر أن أبا بكر اذاها فلم يؤذها لغرض نفسه بل ليطيع الله ورسوله ويوصل الحق إلى مستحقه وعلي رضي الله عنه كان قصده أن يتزوج عليها فله في أذاها غرض بخلاف أبي بكر فعلم أن أبا بكر كان أبعد أن يذم بأذاها من علي وأنه إنا قصد طاعة الله ورسوله بما لاحظ له فيه بخلاف علي فإنه كان له حظ فيما رابها به وأبو بكر كان من جنس من هاجر إلى الله ورسوله وهذا لا يشبه من كان مقصوده امرأة يتزوجها والنبي يؤذيه ما يؤذي فاطمة إذا لم يعارض ذلك أمر الله تعالى فإذا أمر الله تعالى بشيء فعله وإن تأذى من تأذى من أهله وغيرهم وهو في حال طاعته لله يؤذيه ما يعارض طاعة الله ورسوله وهذا الإطلاق كقوله من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني ثم قد بين ذلك بقوله إنما الطاعة في المعروف فإذا كانت طاعة أمرائه أطلقها ومراده بها الطاعة في المعروف فقوله من اذاها فقد اذاني يحمل على الأذى في المعروف بطريق الأولى والأحرى لأن طاعة أمرائه فرض وضدها معصية كبيرة وأما فعل ما يؤذي فاطمة فليس هو بمنزلة معصية أمر النبي وإلا لزم أن يكون على قد فعل ما هو أعظم من معصية الله ورسوله فإن معصية أمرائه معصيته ومعصيته معصية الله ثم إذا عارض معارض وقال أبو بكر وعمر وليا الأمر والله قد أمر بطاعة أولى الأمر وطاعة ولى الأمر طاعة لله ومعصيته معصية لله فمن سخط أمره وحكمه فقد سخط أمر الله وحكمه

ثم أخذ يشنع على علي وفاطمة رضي الله عنهما بأنهما ردا أمر الله وسخطا حكمه وكرها ما أرضى الله لأن الله يرضيه طاعته وطاعة ولي الأمر فمن كره طاعة ولي الأمر فقد كره رضوان الله والله يسخط لمعصيته ومعصية ولي الأمر معصيته فمن اتبع معصية ولي الأمر فقد اتبع ما أسخط الله وكره رضوانه وهذا التشنيع ونحوه على علي وفاطمة رضي الله عنهما أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر وذلك لأن النصوص الواردة عن النبي في طاعة ولاى الأمور ولزوم الجماعة والصبر على ذلم مشهورة كثيرة بل لو قال قائل إن النبي أمر بطاعة ولاة الأمور وان استأثروا والصبر على جورهم وقال إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض وقال أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم وأمثال ذلك فلو قدر أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا ظالمين مستأثرين بالمال لأنفسهما لكان الواجب مع ذلك طاعتهما والصبر على جورهما

ثم لو أخذ هذا القائل يقدح في علي وفاطمة رضي الله عنهما ونحوهم بأنهم لم يصبروا ولم يلزموا الجماعة بل جزعوا وفرقوا الجماعة وهذه معصية عظيمة لكانت هذه الشناعة أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فإن أبا بكر وعمر لا تقوم حجة بأنهما تركا واجبا فعلا محرما أصلا بخلاف غيرهما فإنه قد تقوم الحجة بنوع من الذنوب التي لم يفعل مثلها أبو بكر ولا عمر وما ينزه على وفاطمة رضي الله عنهما عن ترك واجب أو فعل محظور إلا وتنزيه أبي بكر وعمر أولى بكثير ولا يمكن أن تقوم شبهة بتركهما واجبا أو تعديهما حدا إلا والشهة التي تقوم في علي وفاطمة أقوى وأكبر فطلب الطالب مدح علي وفاطمة رضي الله عنهما إما بسلامتهما من الذنوب وإما بغفران الله لهما مع القدح في أبي بكر وعمر بإقامة الذنب والمنع من المغفرة من أعظم الجهل والزلم وهو أجهل وأظلم ممن يريد مثل ذلك في علي ومعاوية رضي الله عنهما إذا أراد مدح معاوية رضي الله عنه والقدح في علي رضي الله عنه


منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57