منهاج السنة النبوية/2

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الوجه الرابع

أن يقال قوله التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة كلام باطل فإن مجرد معرفة الإنسان إمام وقته وإدراكه بعينه لا يستحق به الكرامة إن لم يوافق أمره ونهيه وإلا فليست معرفة إمام الوقت بأعظم من معرفة الرسول ومن عرف أن محمدا رسول الله فلم يؤمن به ولم يطع أمره لم يحصل له شيء من الكرامة ولو آمن بالنبي وعصاه فضيع الفرائض وتعدى الحدود كان مستحقا للوعيد عند الإمامية وسائر طوائف المسلمين فكيف بمن عرف الإمام وهو مضيع للفرائض متعد للحدود.

وكثير من هؤلاء يقول حب علي حسنة لا يضر معها سيئة وإن كانت السيئات لا تضر مع حب علي فلا حاجة إلى الإمام المعصوم الذي هو لطف في التكليف فإنه إذا لم يوجد إنما توجد سيئات ومعاص فإن كان حب علي كافيا فسواء وجد الإمام أو لم يوجد

الوجه الخامس

قوله وهي أحد أركان الإيمان المستحق بسببه الخلود في الجنان

فيقال له من جعل هذا من الإيمان إلا أهل الجهل والبهتان وسنتكلم إن شاء الله على ما ذكره من ذلك

والله تعالى وصف المؤمنين وأحوالهم والنبي قد فسر الإيمان وذكر شعبه ولم يذكر الله ولا رسوله الإمامة في أركان الإيمان ففي الحديث الصحيح حديث جبريل لما أتى النبي في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان قال له الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت قال والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره ولم يذكر الإمامة قال والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وهذا الحديث متفق على صحته متلقى بالقبول أجمع أهل العلم بالنقل على صحته وقد أخرجه أصحاب الصحيح من غير وجه فهو متفق عليه من حديث أبي هريرة وفي أفراد مسلم من حديث عمر

وهؤلاء وإن كانوا لا يقرون بصحة هذه الأحاديث فالمصنف قد احتج بأحاديث موضوعة كذب باتفاق أهل المعرفة فإما أن نحتج بما يقوم الدليل على صحته ونحن وهم أو لا نحتج بشيء من ذلك لا نحن ولا هم فإن تركوا الرواية رأسا أمكن أن نترك الرواية وأما إذا رووا هم فلا بد من معارضة الرواية بالرواية والاعتماد على ما تقوم به الحجة ونحن نبين الدلائل الدالة على كذب ما يعارضون به أهل السنة من الروايات الباطلة والدلائل الدالة على صحة ما نقله أهل العلم بالحديث وصححوه

وهب أن لا نحتج بالحديث فقد قال الله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم سورة الأنفال 2 4 فشهد لهؤلاء بالايمان من غير ذكر للإمامة

وقال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون سورة الحجرات 15 فجعلهم صادقين في الإيمان من غير ذكر للإمامة

وقال تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون سورة البقرة 177 ولم يذكر الإمامة

وقال تعالى الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون سورة البقرة 1 5 فجعلهم مهتدين مفلحين ولم يذكر الإمامة

وأيضا فنحن نعلم بالاضطرار من دين محمد بن عبد الله كانوا إذا أسلموا لم يجعل إيمانهم موقوفا على معرفة الإمامة ولم يذكر لهم شيئا من ذلك وما كان أحد أركان الإيمان لا بد أن يبينه الرسول لأهل الإيمان ليحصل لهم به الإيمان فإذا علم بالاضطرار أن هذا مما لم يكن الرسول يشترطه في الإيمان علم أن اشتراطه في الإيمان من أقوال أهل البهتان

فإن قيل قد دخلت في عموم النصوص أو هي من باب مالا يتم الواجب إلا به أو دل عليها نص آخر

قيل هذا كله لو صح لكان غايته أن تكون من بعض فروع الدين لا تكون من أركان الإيمان فإن ركن الإيمان مالا يحصل الإيمان إلا به كالشهادتين فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فلو كانت الإمامة ركنا في الإيمان لا يتم إيمان أحد إلا به لوجب أن يبين ذلك الرسول بيانا عاما قاطعا للعذر كما بين الشهادتين والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر فكيف ونحن نعلم بالاضطرار من دينه أن الناس الذين دخلوا في دينه أفواجا لم يشترط على أحد منهم في الإيمان الإيمان بالإمامة لا مطلقا ولا معينا

الوجه السادس

قوله فقال رسول الله من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية

يقال له أولا من روى هذا الحديث بهذا اللفظ وأين إسناده وكيف يجوز أن يحتج بنقل عن النبي من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي قاله وهذا لو كان مجهول الحال عند أهل العلم بالحديث فكيف وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يعرف إنما الحديث المعروف مثل ما روى مسلم في صحيحه عن نافع قال جاء عبد الله ابن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد ابن معاوية فقال اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله يقوله سمعته يقول من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية

وهذا حدث به عبد الله بن عمر لعبد الله بن مطيع بن الأسود لما خلعوا طاعة أمير وقتهم يزيد مع أنه كان فيه من الظلم ما كان ثم إنه اقتتل هو وهم وفعل بأهل الحرة أمورا منكرة

فعلم أن هذا الحديث دل على ما دل عليه سائر الأحاديث الآتية من أنه لا يخرج على ولاة أمور المسلمين بالسيف وأن من لم يكن مطيعا لولاة الأمور مات ميتة جاهلية وهذا ضد قول الرافضة فإنهم أعظم الناس مخالفة لولاة الأمور وأبعد الناس عن طاعتهم إلا كرها

ونحن نطالبهم أولا بصحة النقل ثم بتقدير أن يكون ناقله واحدا فكيف يجوز أن يثبت أصل الإيمان بخبر مثل هذا الذي لا يعرف له ناقل وإن عرف له ناقل أمكن خطؤه وكذبه وهل يثبت أصل الإيمان إلا بطريق علمي

الوجه السابع

أن يقال إن كان هذا الحديث من كلام النبي {{صل{{ فليس في حجة لهذا القائل فإن النبي قد قال ومن مات ميتة جاهلية في أمور ليست من أركان الإيمان التي من تركها كان كافرا كما في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله من قتل تحت راية عمية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلته جاهلية وهذا الحديث يتناول من قاتل في العصبية والرافضة رءوس هؤلاء ولكن لا يكفر المسلم بالاقتتال في العصبية كما دل على ذلك الكتاب والسنة فكيف يكفر بما هو دون ذلك

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ومن خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية وهذا حال الرافضة فإنهم يخرجون عن الطاعة ويفارقون الجماعة

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإن من فارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية وفي لفظ من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإن من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية. وهذه النصوص مع كونها صريحة في حال الرافضة فهي وأمثالها المعروفة عند أهل العلم لا بذلك اللفظ الذي نقله

الوجه الثامن أن هذا الحديث الذي ذكره حجة على الرافضة لأنهم لا يعرفون إمام زمانهم فإنهم يدعون أنه الغائب المنتظر محمد بن الحسن الذي دخل سرداب سامرا سنة ستين ومائتين أو نحوها ولم يميز بعد بل كان عمره إما سنتين أو ثلاثا أو خمسا أو نحو ذلك وله الآن على قولهم أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ولم ير له عين ولا أثر ولا سمع له حسن ولا خبر فليس فيهم أحد يعرفه لا بعينه ولا صفته لكن يقولون إن هذا الشخص الذي لم يره أحد ولم يسمع له خبر هو إمام زمانهم ومعلوم أن هذا ليس هو معرفة بالإمام

ونظير هذا أن يكون لرجل قريب من بني عمه في الدنيا ولا يعرف شيئا من أحواله فهذا لا يعرف ابن عمه وكذلك المال الملتقط إذا عرف أن له مالكا ولم يعرف عينه لم يكن عارفا لصاحب اللقطة بل هذا أعرف لأن هذا يمكن ترتيب بعض أحكام الملك والنسب عليه وأما المنتظر فلا يعرف له حال ينتفع به في الإمامة، فإن معرفة الإمام يخرج الإنسان فن الجاهلية هي المعرفة التي يحصل بها طاعة وجماعة خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية فإنهم لم يكن لهم إمام يجمعهم ولا جماعة تعصمهم والله تعالى بعث محمدا وهداهم به إلى الطاعة والجماعة وهذا المنتظر لا يحصل بمعرفته طاعة ولا جماعة فلم يعرف معرفة تخرج الإنسان من حال الجاهلية بل المنتسبون إليه أعظم الطوائف جاهلية وأشبههم بالجاهلية وإن لم يدخلوا في طاعة غيرهم إما طاعة كافر وإما طاعة مسلم هو عندهم من الكفار أو النواصب لم ينتظم لهم مصلحة لكثرة اختلافهم وافتراقهم وخروجهم عن الطاعة والجماعة وهذا يتبين

بالوجه التاسع

وهو أن النبي أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس لا بطاعة معدوم ولا مجهول ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلا كما أمر النبي بالاجتماع والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقا بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته وهذا يبين أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين

ففي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال سمعت النبي يقول خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنوكم قال قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك قال لا ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة

وفي صحيح مسلم عن أم سلمة أن النبي قال ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برىء ومن أنكر سلم ولكن من رضى وتابع قالوا يا رسول الله أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا وهذا يبين أن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور وأنه يكره وينكر ما يأتونه من معصية الله ولا تنزع اليد من طاعتهم بل يطاعون في طاعة الله وأن منهم خيارا وشرارا من يحب ويدعى له ويحب الناس ويدعو لهم ومن يبغض ويدعو على الناس ويبغضونه ويدعون عليه

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر قالوا فما تأمر قال فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم فقد أخبر أن بعده خلفاء كثيرين وأمر أن يوفى ببيعة الأول فالأول وأن يعطوهم حقهم

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال قال لنا رسول الله إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم وفي لفظ ستكون أثرة وأمور تنكرونها قالوا يا رسول فما تأمرنا قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم

وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره وعلى أثره علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم

وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي أنه قال على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة

فإن قال أنا أردت بقولي إنها أهم المطالب في الدين وأشرف مسائل المسلمين المطالب التي تنازعت الأمة فيها بعد النبي وهذه هي مسألة الإمامة

قيل له فلا لفظ فصيح ولا معنى صحيح فإن ما ذكرته لا يدل على هذا المعنى بل مفهوم اللفظ ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مطلقا وأشرف مسائل المسلمين مطلقا

وبتقدير أن يكون هذا مرادك فهو معنى باطل فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي في مسائل أشرف من هذه وبتقدير أن تكون هي الأشرف فالذي ذكرته فيها أبطل المذاهب وأفسد المطالب، وذلك أن النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة علي رضي الله عنه وأما على عهد الخلفاء الثلاثة فلم يظهر نزاع إلا ما جرى يوم السقيفة وما انفصلوا حتى اتفقوا ومثل هذا لا يعد نزاعا ولو قدر أن النزاع فيها كان عقب موت النبي فليس كل ما تنوزع فيه عقب موته يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهر طويل

وإذا كان كذلك فمعلوم أن مسائل القدر والتعديل والتجوير والتحسين والتقبيح والتوحيد والصفات والإثبات والتنزيه أهم وأشرف من مسائل الإمامة ومسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد والعفو والشفاعة والتخليد أهم من مسائل الإمامة

ولهذا كل من صنف في أصول الدين يذكر مسائل الإمامة في الآخر حتى الإمامية يذكرون مسائل التوحيد والعدل والنبوة قبل مسائل الإمامة وكذلك المعتزلة يذكرون أصولهم الخمس التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والخامس هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبه تتعلق مسائل الإمامة

ولهذا كان جماهير الأمة نالوا الخير بدون مقصود الإمامة التي تقولها الرافضة فإنهم يقرون بأن الأمام الذي هو صاحب الزمان مفقود لا ينتفع به أحد وأنه دخل السرداب سنة ستين ومائتين أو قريبا من ذلك وهو الآن غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنه فهم في هذه المدة لم ينتفعوا بإمامته لا في دين ولا في دنيا بل يقولون إن عندهم علما منقولا عن غيره

فإن كانت أهم مسائل الدين وهم لم ينتفعوا بالمقصود منها فقد فاتهم من الدين أهمه وأشرفه وحينئذ فلا ينتفعون بما حصل لهم من التوحيد والعدل لأنه يكون ناقصا بالنسبة إلى مقصود الإمامة فيستحقون العذاب كيف وهم يسلمون أن مقصود الإمامة إنما هو في الفروع الشرعية وأما الأصول العقلية فلا يحتاج فيها إلى الإمام وتلك هي أهم وأشرف

ثم بعد هذا كله فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة لما فيها من مصلحة الخلق في دينهم ودنياهم وإمامكم صاحب الوقت لم يحصل لكم من جهته مصلحة لا في الدين ولا في الدنيا فأي سعى أضل من سعى من يتعب التعب الطويل ويكثر القال والقيل ويفارق جماعة المسلمين ويلعن السابقين والتابعين ويعاون الكفار والمنافقين ويحتال بأنواع الحيل ويسلك ما أمكنه من السبل ويعتضد بشهود الزور ويدلى أتباعه بحبل الغرور ويفعل ما يطول وصفه ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ونهيه ويعرفه ما يقربه إلى الله تعالى

ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ونسبه لم يظفر بشيء من مطلوبه ولا وصل إليه شيء من تعليمه وإرشاده ولا أمره ولا نهيه ولا حصل له من جهته منفعة ولا مصلحة أصلا إلا إذهاب نفسه وماله وقطع الأسفار وطول الانتظار بالليل والنهار ومعاداة الجمهور لداخل في سرادب ليس له عمل ولا خطاب ولو كان موجودا بيقين لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين فكيف عقلاء الناس يعلمون أنه ليس معهم إلا الإفلاس وأن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ولم يعقب كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من أهل العلم بالنسب

وهم يقولون إنه دخل السرداب بعد موت أبيه وعمره إما سنتان وإما ثلاث وإما خمس وإما نحو ذلك ومثل هذا بنص القرآن يتيم يجب أن يحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد ويحضنه من يستحق حضانته من أقربائه فإذا صار له سبع سنين امر بالطهارة والصلاة فمن لا توضأ ولا صلى وهو تحت حجر وليه في نفسه وماله بنص القرآن لو كان موجودا يشهده العيان لما جاز أن يكون هو إمام أهل الإيمان فكيف إذا كان معدوما أو مفقودا مع طول هذه الغيبة والمرأة إذا غاب عنها وليها زوجها الحاكم أو الولي الحاضر لئلا تفوت مصلحة المرأة بغيبة الولي المعلوم الموجود فكيف تضيع مصلحة الأمة مع طول هذه المدة مع هذا الإمام المفقود

فصل

قال المصنف الرافضي

الفصل الأول في نقل المذاهب في هذه المسألة

ذهبت الإمامية إلى أن الله عدل حكيم لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب وأن أفعاله إنما تقع لغرض صحيح وحكمه وأنه لا يفعل الظلم ولا العبث وأنه رءوف بالعباد يفعل ما هو الأصلح لهم والأنفع وأنه تعالى كلفهم تخييرا لا إجبارا ووعدهم الثواب وتوعدهم بالعقاب على لسان أنبيائه ورسله المعصومين بحيث لا يجوز عليهم الخطأ ولا النسيان ولا المعاصي وإلا لم يبق وثوق بأقوالهم وأفعالهم فتنتقى فائدة البعثة

ثم أردف الرسالة بعد موت الرسول بالإمامة فنصب أولياء معصومين ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم وخطئهم فينقادون إلى أوامرهم لئلا يخلى الله العالم من لطفه ورحمته

وأنه لما بعث الله محمدا قام بنقل الرسالة ونص على أن الخليفة بعده علي بن أبي طالب عليه السلام ثم من بعده علي ولده الحسن الزكي ثم على ولده الحسين الشهيد ثم على علي بن الحسين زيد العابدين ثم على محمد بن علي الباقر ثم على جعفر بن محمد الصادق ثم على موسى بن جعفر الكاظم ثم على علي بن موسى الرضا ثم على محمد بن علي الجواد ثم على بن محمد الهادي ثم على الحسن بن علي العسكري ثم على الخلف الحجة محمد بن الحسن عليهم الصلاة والسلام وأن النبي لم يمت إلا عن وصية بالإمامة

قال وأهل السنة ذهبوا إلى خلاف ذلك كله فلم يثبتوا العدل والحكمة في أفعاله تعالى وجوزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب وأنه تعالى لا يفعل لغرض بل كل أفعاله لا لغرض من الأغراض ولا لحكمة ألبتة وأنه يفعل الظلم والعبث وأنه لا يفعل ما هو الأصلح لعباده بل ما هو الفساد في الحقيقة لأن فعل المعاصي وأنواع الكفر والظلم وجميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مسندة إليه تعالى الله عن ذلك وأن المطيع لا يستحق ثوابا والعاصي لا يستحق عقابا بل قد يعذب المطيع طول عمره المبالغ في امتثال أوامره تعالى كالنبي ويثيب العاصي طول عمره بأنواع المعاصي وأبلغها كإبليس وفرعون

وأن الأنبياء غير معصومين بل قد يقع منهم الخطأ والزلل والفسوق والكذب والسهو وغير ذلك

وأن النبي لم ينص على إمام وأنه مات عن غير وصية وأن الإمام بعد رسول الله أبو بكر بن أبي قحافة بمبايعة عمر بن الخطاب له برضاء أربعة أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وأسيد بن حضير وبشير بن سعد بن عبادة

ثم من بعده عمر بن الخطاب بنص أبي بكر عليه ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم ثم علي بن أبي طالب لمبايعة الخلق له

ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الإمام بعده الحسن وبعضهم قال إنه معاوية ابن أبي سفيان

ثم ساقوا الإمامة في بني أمية إلى أن ظهر السفاح من بني العباس فساقوا الإمامة إليه

ثم انتقلت الإمامة منه إلى أخيه المنصور

ثم ساقوا الإمامة في بني العباس إلى المستعصم

قلت فهذا النقل لمذهب أهل السنة والرافضة فيه من الكذب والتحريف ما سنذكر بعضه

والكلام عليه من وجوه

أحدها

أن إدخال مسائل القدر والتعديل والتجوير في هذا الباب كلام باطل من الجانبين إذ كل من القولين قد قال به طوائف من أهل السنة والشيعة فالشيعة فيهم طوائف تثبت القدر وتنكر مسائل التعديل والتجوير والذين يقرون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان فيهم طوائف تقول بما ذكره من التعديل والتجوير كالمعتزلة وغيرهم ومعلوم أن المعتزلة هم أصل هذا القول وأن شيوخ الرافضة كالمفيد والموسوي والطوسي والكراجكي وغيرهم إنما أخذوا ذلك من المعتزلة وإلا فالشيعة القدماء لا يوجد في كلامهم شيء من هذا

وإن كان ما ذكره في ذلك ليس متعلقا بمذهب الإمامة بل قد يوافقهم على قولهم في الإمامية من لا يوافقهم على قولهم في القدر وقد تقول بما ذكره في القدر طوائف لا توافهم على الإمامة كان ذكر هذا في مسألة الإمامة بمنزلة سائر مسائل النزاع التي وافقوا فيها بعض المسلمين كمسائل فتنة القبر ومنكر ونكير والحوض والميزان والشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار وأمثال ذلك من المسائل التي لا تتعلق بالإمامة بل هي مسائل مستقلة بنفسها وبمنزلة المسائل العملية كمسائل الخلاف التي صنفها الموسوي وغيره من شيوخ الإمامية فتبين أن إدخال مسائل القدر في مسألة الإمامية إما جهل وإما تجاهل

الوجه الثاني

أن يقال ما نقله عن الإمامية لم ينقله على وجهه فإنه من تمام قول قول الإمامية الذي حكاه وهو قول من وافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم من متأخري الشيعة أن الله لم يخلق شيئا من أفعال الحيوان لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم بل هذه الحوادث التي تحدث تحدث بغير قدرته ولا خلقه

ومن قولهم أيضا إن الله تعالى لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يقدر أن يضل مهتديا ولا يحتاج أحد من الخلق إلى أن يهديه الله بل الله قد هداهم هدى البيان وأما الاهتداء فهذا يهتدى بنفسه لا بمعونة الله له وهذا يهتدى بنفسه لا بمعونة الله له

ومن قولهم إن هدى الله للمؤمنين والكفار سواء ليس له على المؤمنين نعمة في الدين أعظم من نعمته على الكافرين بل قد هدى علي بن أبي طالب كما هدى أبا جهل بمنزلة الأب الذي يعطي أحد بنيه دراهم ويعطى الآخر مثلها لكن هذا أنفقها في طاعة الله وهذا في معصيته فليس للأب من الإنعام على هذا في دينه أكثر مما له من الإنعام على الآخر

ومن أقوالهم إنه يشاء الله مالا يكون ويكون مالا يشاء

فإن قيل فيهم من يقول إنه يخص بعضهم ممن علم منه أنه إذا خصه بمزيد لطف من عنده اهتدى بذلك وإلا فلا

قيل فهذا هو حقيقة قول أهل السنة المثبتين للقدر فإنهم يقولون كل من خصه الله بهدايته إياه صار مهتديا ومن لم يخصه بذلك لم يصر مهتديا فالتخصيص والاهتداء متلازمان عند أهل السنة

فإن قيل بل قد يخصه بما لا يوجب الاهتداء كما قال تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون سورة الأنفال 23

قيل هذا التخصيص حق لكن دعوى لا تخصيص إلا هذا غلط كما سيأتي بل كل ما يستلزم الاهتداء هو من التخصيص

وفي الجملة فالقوم لا يثبتون لله مشيئة عامة ولا قدرة تامة ولا خلقا متناولا لكل حادث وهذا القول أخذوه عن المعتزلة هم أئمتهم فيه، ولهذا كانت الشيعة فيه على قولين

الوجه الثالث

أن قوله إنه نصب أولياء معصومين لئلا يخلى الله العالم من لطفه ورحمته

إن أراد بقوله إنه نصب أولياء أنه مكنهم وأعطاهم القدرة على سياسة الناس حتى ينتفع الناس بسياستهم فهذا كذب واضح وهم لا يقولون ذلك بل يقولون إن الأئمة مقهورون مظلومون عاجزون ليس لهم سلطان ولا قدرة ولا مكنة ويعلمون أن الله لم يمكنهم ولم يملكهم فلم يؤتهم ولاية ولا ملكا كما أتى المؤمنين والصالحين ولا كما آتى الكفار والفجار

فإنه سبحانه قد آتى الملك لمن آتاه من الأنبياء كما قال في داود وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء سورة البقرة 251 وقال تعالى أم يحسدون الناس على آتاهم الله من فضله فقد أتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما سورة النساء 54 وقال تعالى وقال الملك ائتوني به سورة يوسف 5وقال وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا سورة الكهف 713

وقال تعالى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك سورة البقرة 25فقد آتى الملك لبعض الكفار كما آتاه لبعض الأنبياء ومن بعد علي رضي الله عنه والحسن لم يؤت الملك لأحد من هؤلاء كما أوتيه الأنبياء والصالحون ولا كما أوتيه غيرهم من الملوك فبطل أن يكون الله نصب هؤلاء المعصومين على هذا الوجه

فإن قيل المراد بنصبهم أنه أوجب على الخلق طاعتهم فإذا أطاعوهم هدوهم لكن الخلق عصوهم

فيقال فلم يحصل بمجرد ذلك في العالم لا لطف ولا رحمة بل إنما حصل تكذيب الناس لهم ومعصيتهم إياهم وأيضا فالمؤمنون بالمنتظر لم ينتفعوا به ولا حصل لهم به لطف ولا مصلحة مع كونهم يحبونه ويوالونه فعلم أنه لم يحصل به لطف ولا مصلحة لا لمن أقر بإمامته ولا لمن جحدها

فبطل ما يذكرون أن العالم حصل فيه اللطف والرحمة بهذا المعصوم وعلم بالضرورة أن هذا العالم لم يحصل فيه بهذا المنتظر شيء من ذلك لا لمن آمن به ولا لمن كفر به بخلاف الرسول والنبي الذي بعثه الله وكذبه قوم فإنه انتفع به من آمن به وأطاعه فكان رحمة في حق المؤمن به المطيع له وأما العاصي فهو المفرط

وهذا المنتظر لم ينتفع به لا مؤمن به ولا كافر به وأما سائر الاثنى عشر سوى علي فكانت المنفعة بأحدهم كالمنفعة بأمثاله من أهل العلم والدين من جنس تعليم العلم والتحديث والافتاء ونحو ذلك وأما المنفعة المطلوبة من الأئمة ذوي السلطان والسيف فلم تحصل لواحد منهم فتبين أن ما ذكره من اللطف والمصلحة بالأئمة تلبيس محض وكذب

الوجه الرابع

أن قوله عن أهل السنة إنهم لم يثبتوا العدل والحكمة وجوزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب نقل باطل عنهم من وجهين

أحدهما أن كثير من أهل السنة الذين لا يقولون في الخلافة بالنص على علي ولا بإمامة الاثنى عشر يثبتون ما ذكره من العدل والحكمة على الوجه الذي قاله هو وشيوخه عن هؤلاء أخذوا ذلك كالمعتزلة وغيرهم ممن وافقهم متأخرو الرافضة على القدر فنقله عن جميع أهل السنة الذين هم في اصطلاحه واصطلاح العامة من سوى الشيعة هذا القول كذب بين منه

الوجه الثاني أن سائر أهل السنة الذين يقرون بالقدر ليس فيهم من يقول إن الله تعالى ليس بعدل ولا من يقول إنه ليس بحكيم ولا فيهم من يقول إنه يجوز أن يترك واجبا ولا أن يفعل قبيحا، فليس في المسلمين من يتكلم بمثل هذا الكلام الذي أطلقه ومن أطلقه كان كافرا مباح الدم باتفاق المسلمين

ولكن هذه مسألة القدر والنزاع فيها معروف بين المسلمين فأما نفاة القدر كالمعتزلة ونحوهم فقولهم هو الذي ذهب إليه متأخرو الإمامية

وأما المثبتون للقدر وهو جمهور الأمة وأئمتها كالصحابة والتابعين لهم بإحسان وأهل البيت وغيرهم فهؤلاء تنازعوا في تفسير عدل الله وحكمته والظلم الذي يجب تنزيهه عنه وفي تعليل أفعاله وأحكامه ونحو ذلك

فقالت طائفة إن الظلم ممتنع منه غير مقدور وهو محال لذاته كالجمع بين النقيضين وإن كل ممكن مقدور فليس هو ظلما وهؤلاء هم الذين قصدوا الرد عليهم وهؤلاء يقولون إنه لو عذب المطيعين ونعم العصاة لم يكن ظالما وقالوا الظلم التصرف فيما ليس له والله تعالى له كل شيء أو هو مخالفة الأمر والله لا آمر له وهذا قول كثير من أهل الكلام المثبتين للقدر ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة

وقال طائفة بل الظلم مقدور ممكن والله تعالى منزه لا يفعله لعدله ولهذا مدح الله نفسه حيث أخبر أنه لا يظلم الناس شيئا والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه لا بترك الممتنع

قالوا وقد قال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه 112 قالوا الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره والهضم أن يهضم حسناته

وقال تعالى ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم سورة هود 100 101 فأخبر أنه لم يظلمهم لما أهلكهم بل أهلكهم بذنوبهم

وقال تعالى وجيء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون سورة الزمر 69 فدل على أن القضاء بينهم بغير القسط ظلم والله منزه عنه

وقال تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا سورة الأنبياء 47 أي لا تنقص من حسناتها ولا تعاقب بغير سيئاتها فدل على أن ذلك ظلم ينزه الله عنه

وقال تعالى قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد سورة ق 28 29 وإنما نزه نفسه عن أمر يقدر عليه لا عن الممتنع لنفسه

ومثل هذا في القرآن في غير موضع مما يبين أن الله ينتصف من العباد ويقضي بينهم بالعدل وأن القضاء بينهم بغير العدل ظلم ينزه الله عنه وأنه لا يحمل على أحد ذنب غيره

وقال تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى سورة الأنعام 164 فإن ذلك ينزه الله عنه بل لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت

وقد ثبت في الصحيح عن النبي أن الله تعالى يقول يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا فقد حرم على نفسه الظلم كما كتب على نفسه الرحمة في قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة سورة الأنعام 513

وفي الحديث الصحيح لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي والأمر الذي كتبه الله على نفسه أو حرمه على نفسه لا يكون إلا مقدورا له سبحانه فالممتنع لنفسه لا يكتبه على نفسه ولا يحرمه على نفسه

وهذا القول قول أكثر أهل السنة والمثبتين للقدر من أهل الحديث والتفسير والفقه والكلام والتصوف من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم

وعلى هذا القول فهؤلاء هم القائلون بعدل الله تعالى وإحسانه دون من يقول من القدرية إن من فعل كبيرة حبط إيمانه فإن هذا نوع من الظلم الذي نزه الله سبحانه نفسه عنه وهو القائل فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره سورة الزلزلة 80وأما من اعتقد أن منته على المؤمنين بالهداية دون الكافرين ظلم منه فهذا جهل لوجهين

أحدهما أن هذا تفضل منه كما قال تعالى بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين سورة الحجرات 1وكما قالت الأنبياء إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده سورة إبراهيم 11 وقال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الأنعام 53

فتخصيص هذا بالإيمان كتخصيص هذا بمزيد علم وقوة وصحة وجمال ومال قال تعالى أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا سورة الزخرف 3وإذا خص أحد الشخصين بقوة وطبيعة تقضي غذاء صالحا خصه بما يناسب ذلك من الصحة والعافية وإذا لم يعط الاخر ذلك نقص عنه وحصل له ضعف ومرض

والظلم وضع الشيء في غير موضعه فهو لا يضع العقوبة إلا في المحل الذي يستحقها لا يضعها على محسن أبدا

وفي الصحيحين عن النبي أنه قال يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يقبض ويبسط فبين أنه سبحانه يحسن ويعدل ولا يخرج فعله عن العدل والإحسان ولهذا قيل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل

ولهذا يخبر أنه تعالى يعاقب الناس بذنوبهم وأن إنعامه عليهم إحسان منه كما في الحديث الصحيح الإلهي يقول الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه

وقد قال تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء 79 أي ما أصابك من نعم تحبها كالنصر والرزق فالله أنعم بذلك عليك وما أصابك من نقم تكرهها فبذنوبك وخطاياك فالحسنات والسيئات هنا أراد بها النعم والمصائب كما قال تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات سورة الأعراف 68 وكما قال تعالى إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل سورة التوبة 50 وقوله تعالى إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها سورة آل عمران 12ومثل هذا قوله تعالى وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون سورة الروم 3فأخبر أن ما يصيب به الناس من الخير فهو رحمة منه أحسن بها إلى عباده وما أصابهم به من العقوبات فبذنوبهم وتمام الكلام على هذا مبسوط في مواضع أخر

وكذلك الحكمة أجمع المسلمون على أن الله تعالى موصوف بالحكمة لكن تنازعوا في تفسير ذلك

فقالت طائفة الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة

وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم بل هو حكيم في خلقه وأمره والحكمة ليست مطلق المشيئة إذ لو كان كذلك لكن كل مريد حكيما ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة والغايات المحبوبة والقول بإثبات هذه الحكمة ليس هو قول المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة فقط بل هو قول جماهير طوائف المسلمين من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم قائمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية وإنما ينازع في ذلك طائفة من نفاة القياس وغير نفاته وكذلك ما في خلقه من المنافع والحكم والمصالح لعباده معلوم

وأصحاب القول الأول كجهم بن صفوان وموافقيه كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم يقولون ليس في القرآن لام التعليل في أفعال الله بل ليس فيه إلا لام العاقبة

وأما الجمهور فيقولون بل لام التعليل داخلة في أفعال الله تعالى وأحكامه

والقاضي أبو يعلى وأبو الحسن بن الزاغوني ونحوهما من أصحاب أحمد وإن كانوا قد يقولون بالأول فهم يقولون بالثاني أيضا في غير موضع وكذلك أمثالهم من الفقهاء أصحاب مالك والشافعي وغيرهما

وأما ابن عقيل والقاضي في بعض المواضع وأبو خازم بن القاضي أبي يعلى وأبو الخطاب فيصرحون بالتعليل والحكمة في أفعال الله تعالى موافقة لمن قال ذلك من أهل النظر

والحنفية هم من أهل السنة القائلين بالقدر وجمهورهم يقولون بالتعليل والمصالح والكرامية وأمثالهم هم أيضا من القائلين بالقدر المثبتين لخلافة الخلفاء المفضلين لأبي بكر وعمر وعثمان وهم أيضا يقولون بالتعليل والحكمة وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقولون بالتعليل والحكمة وبالتحسين والتقبيح العقلين كأبي بكر القفال وأبي علي بن أبي هريرة وغيرهم من أصحاب الشافعي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب من أصحاب أحمد

وفي الجملة النزاع في تعليل أفعال الله وأحكامه مسألة لا تتعلق بالإمامة أصلا وأكثر أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل

ولكن الذين أنكروا ذلك من أهل السنة احتجوا بحجتين

أحداهما أن ذلك يستلزم التسلسل فإنه إذا فعل لعلة فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلى علة إن وجب ان يكون لكل حادث علة، وإن عقل الإحداث بغير علة لم يحتج إلى إثبات علة فهم يقولون إن أمكن الإحداث بغير علة لم يحتج إلى علة ولم يكن ذلك عبثا وإن لم يكن وجود الإحداث إلا لعلة فالقول في حدوث العلة كالقول في حدوث المعلول وذلك يستلزم التسلسل

الحجة الثانية أنهم قالوا من فعل لعلة كان مستكملا بها لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها لم تكن علة والمستكمل بغيره ناقص بنفسه وذلك ممتنع على الله

وأوردوا على المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة حجة تقطعهم على أصولهم فقالوا العلة التي فعل لأجلها إن كان وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء امتنع أن تكون علة وإن كان وجودها أولى فإن كانت منفصلة عنه لزم أن يستكمل بغيره وإن كانت قائمة به لزم أن يكون محلا للحوادث

وأما المجوزون للتعليل فهم متنازعون فالمعتزلة وأتباعهم من الشيعة تثبت من التعليل مالا يعقل وهو أنه فعل لعلة منفصلة عن الفاعل مع كون وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء

وأما أهل السنة القائلون بالتعليل فإنهم يقولون إن الله يحب ويرضى كما دل على ذلك الكتاب والسنة ويقولون إن المحبة والرضا أخص من الإرادة وأما المعتزلة وأكثر أصحاب الأشعري فيقولون إن المحبة والرضا والإرادة سواء فجمهور أهل السنة يقولون إن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يرضاه وإن كان داخلا في مراده كما دخلت سائر المخلوقات لما في ذلك من الحكمة وهو وإن كان شرا بالنسبة إلى الفاعل فليس كل ما كان شرا بالنسبة إلى شخص يكون عديم الحكمة بل لله في المخلوقات حكم قد يعلمها بعض الناس وقد لا يعلمها

وهؤلاء يجيبون عن التسلسل بجوابين

أحدهما أن يقال هذا التسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل فإذا كانت تلك الحكمة يطلب منها حكمة أخرى بعدها كان تسلسلا في المستقبل وتلك الحكمة الحاصلة محبوبة له وسبب لحكمة ثانية فهو لا يزال سبحانه يحدث من الحكم ما يحبه ويجعله سببا لما يحبه

قالوا والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل وغير أهل الملل فإن نعيم الجنة وعذاب النار دائمان مع تجدد الحوادث فيهما وإنما أنكر ذلك الجهم بن صفوان فزعم أن الجنة والنار يفنيان وأبو الهذيل العلاف زعم أن حركات أهل الجنة والنار تنقطع ويبقون في سكون دائم

وذلك أنهم لما اعتقدوا أن التسلسل في الحوادث ممتنع في الماضي والمستقبل قالوا هذا القول الذي ضللهم به أئمة الإسلام

وأما تسلسل الحوادث في الماضي فقيه أيضا قولان لأهل الإسلام لأهل الحديث والكلام وغيرهم

فمن يقول إنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل فعالا إذا شاء أفعالا تقوم بنفسه بقدرته ومشيئته شيئا بعد شيء يقول إنه لم يزل يتكلم بمشيئته ويفعل بمشيئته شيئا بعد شيء مع قوله إن كل ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن وإنه ليس في العالم شيء قديم مساوق لله كما تقوله الفلاسفة القائلون بقدم الأفلاك وأنها مساوقة لله في وجوده فإن هذا ليس من أقوال المسلمين

وقد بينا فساد قول هؤلاء في غير هذا الموضع وبينا أن قولهم بأن المبدع علة تامة موجب بذاته هو نفسه يستلزم فساد قولهم فإن العلة التامة تستلزم معلولها فلا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها

فالحوادث مشهودة في العالم فلو كان الصانع موجبا بذاته علة تامة مستلزمة لمعلولها لم يحدث شيء من الحوادث في الوجود إذ الحادث يمتنع أن يكون صادرا عن علة تامة أزلية فلو كان العالم قديما لكان مبدعة علة تامة والعلة التامة لا يتخلف عنها شيء من معلولها فيلزم من ذلك أن لا يحدث في العالم شيء فحدوث الحوادث دليل على أن فاعلها ليس بعلة تامة في الأزل وإذا انتفت العلة التامة في الأزل بطل القول بقدم شيء من العالم لكن هذا لا ينفى أن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل حيا فعالا لما يشاء

وعمدة الفلاسفة على قدم العالم هو قولهم يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث فيمتنع تقدير ذات معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب

وهذا القول لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم لا الأفلاك ولا غيرها إنما يدل على أنه لم يزل فعالا وإذا قدر أنه فعال لأفعال تقوم بنفسه أو مفعولات حادثة شيئا بعد شيء كان ذلك وفاء بموجب هذه الحجة مع القول بأن كل ما سوى الله محدث مخلوق بعد أن لم يكن كما أخبرت الرسل أن الله خالق كل شيء وإن كان النوع لم يزل متجددا كما في الحوادث المستقبلة كل منها حادث مخلوق وهي لا تزال تحدث شيئا بعد شيء

قال هؤلاء والله قد أخبر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأخبر أنه خالق كل شيء ولا يكون المخلوق إلا مسبوقا بالعدم فالقرآن يدل على أن كل ما سوى الله مخلوق مفعول محدث

فليس شيء من الموجودات مقارنا لله تعالى كما يقوله دهرية الفلاسفة إن العالم معلول له وهو موجب له مفيض له وهو متقدم عليه بالشرف والعلية والطبع وليس متقدما عليه بالزمان فإنه لو كان علة تامة موجبة يقترن بها معلولها كما زعموا لم يكن في العالم شيء محدث فإن ذلك المحدث لا يحدث عن علة تامة أزلية يقارنها معلولها فإن المحدث المعين لا يكون أزليا

وسواء قيل إنه حدث بوسط أو بغير وسط كما يقولون إن الفلك تولد عنه بوسط عقل أو عقلين أو غير ذلك مما يقال فإن كل قول يقتضى أن يكون شيء من العالم قديما لازما لذات الله فهو باطل لأن ذلك يستلزم كون البارىء موجبا بالذات بحيث يقارنه موجبه إذ لولا ذلك لما قارنه بذلك الشيء ولو كان موجبا بالذات لم يتأخر عنه شيء من موجبه ومقتضاه فكان يلزم أن لا يكون في العالم شيء محدث

ولو قيل إنه موجب بذاته للفلك وأما حركات الفلك فيوجبها شيئا بعد شيء كان هذا باطلا من وجوه

أحدها

أن يقال إن كانت حركة الفلك لازمة له كما هو قولهم امتنع إبداع الملزوم دون لازمه وكونه موجبا بالذات علة تامة للحركة ممتنع لأن الحركة تحدث شيئا فشيئا والعلة التامة الموجبة لمعلولها في الأزل لا يتأخر عنها شيء من معلولها فلا تكون الحركة معلولة للموجب بذاته في الأزل الذي يلزمه معلوله وإن لم تكن لازمة له فهي حادثة فتقتضى سببا واجبا حادثا وذلك بالحادث لا يحدث عن العلة التامة الأزلية إذ الموجب بذاته لا يتأخر عنه موجبه

ولهذا كان قول هؤلاء الذين يجعلون الحوادث صادرة عن علة تامة أزلية لا يحدث فيها ولا منها شيء أشد فسادا من قول من يقول حدثت عن القادر بدون سبب حادث لأن هؤلاء أثبتوا فاعلا ولم يثبتوا سببا حادثا وأولئك يلزمهم نفى الفاعل للحوادث لأن العلة التامة الموجبة بذاتها في الأزل لا تكون محدثة لشيء أصلا ولهذا كانت الحوادث عندهم إنما تحدث بحركة الفلك وهم لا يجعلون فوق الفلك شيئا أحدث حركته بل قولهم في حركات الأفلاك وسائر الحوادث من جنس قول القدرية في أفعال الحيوان وحقيقة ذلك أنها تحدث بلا محدث لكن القدرية خصوا ذلك بأفعال الحيوان وهؤلاء قالوا ذلك في كل حادث علوي وسفلي

الوجه الثاني

أن الفاعل سواء كان قادرا أو موجبا بذاته أو قيل هو قادر يوجب بمشيئته وقدرته لا بد أن يكون موجودا عند وجود المفعول ولا يجوز أن يكون معدوما عند وجود المفعول إذ المعدوم لا يفعل موجودا ونفس إيجابه وفعله واقتضائه وإحداثه لا بد أن يكون ثابتا بالفعل عند وجود المفعول الموجب المحدث فلا يكون فاعلا حقيقة إلا مع وجود المفعول

فلو قدر أنه فعله واقتصاه فوجد بعد عدم للزم أن يكون فعله وإيجابه عند عدم المفعول الموجب وعند عدمه فلا إيجاب ولا فعل

وإذا كان كذلك فالموجب لحدوث الحوادث إذا قدر أنه يفعل الثاني بعد الأول من غير أن يحدث له حال يكون بها فاعلا للثاني كان المؤثر التام معدوما عند وجود الأثر وهذا محال فإن حاله عند وجود الأثر وعدمه سواء وقبله كان يمتنع أن يكون فاعلا له فكذلك عنده أو يقال قبله لم يكن فاعلا فكذلك عنده

إذ لو جوز أن يحدث الحادث الثاني من غير حدوث حال للفاعل بها صار فاعلا لزم حدوث الحوادث كلها بلا سبب وترجيح الفاعل لأحد طرفي الممكن بل لوجود الممكن بلا مرجح لأن حاله قبل ومع وبعد سواء فتخصيص بعض الأوقات بذلك الحادث تخصيص بلا مخصص فإن كان هذا جائزا جاز حدوث كل الحوادث بلا سبب حادث وبطل قولهم وإن لم يكن جائزا بطل أيضا قولهم فثبت بطلان قول هؤلاء المتفلسفة الدهرية على تقدير النقيضين وذلك يستلزم بطلانه في نفس الأمر

والواحد من الناس إذا قطع مسافة وكان قطعه للجزء الثاني مشروطا بالأول فإنه إذا قطع الأول حصل له أمور تقوم به من قدرة أو إرادة أو غيرهما تقوم بذاته بها صار حاصلا في الجزء الثاني لا أنه بمجرد عدم الأول صار قاطعا للثاني

فإذا شبهوا فعله للحوادث بهذا لزمهم أن يتجدد لله أحوال تقوم به عند إحداث الحوادث وإلا فإذا كان هو لم يتجدد له حال وإنما وجد الحادث الثاني بمجرد عدم الأول فحاله قبل وبعد سواء فاختصاص أحد الوقتين بالإحداث لا بد له من مخصص ونفس صدور الحوادث لا بد له من فاعل والتقدير أنه على حال واحدة من الأزل إلى الأبد فيمتنع مع هذا التقدير اختصاص وقت دون وقت بشيء أو أن يكون فاعلا للحوادث فإنه إذا كان ولا يفعل هذا الحادث وهو الآن كما كان فهو الآن لا يفعل هذا الحادث

وابن سينا وأمثاله من القائلين بقدم العالم بهذا احتجوا على أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم فقالوا إذا كان في الأزل ولا يفعل وهو الآن على حالة فهو الآن لا يفعل وقد فرض فاعلا هذا خلف وإنما لزم ذلك من تقدير ذات معطلة عن الفعل

فيقال لهم هذا بعينه حجة عليكم في إثبات ذات بسيطة لا يقوم بها فعل ولا وصف مع صدور الحوادث عنها فإن كان بوسائط لازمة لها فالوسط اللازم لها قديم بقدمها وقد قالوا إنه يمتنع صدور الحوادث عن قديم هو على حال واحد كما كان

الوجه الثالث

أن يقال هم يقولون بأن الواجب فياض دائم الفيض وإنما يتخصص بعض الأوقات بالحدوث لما يتجدد من حدوث الاستعداد والقبول وحدوث الاستعداد والقبول هو سبب حدوث الحركات

وهذا كلام باطل فإن هذا إنما يتصور إذا كان الفاعل الدائم الفيض ليس هو المحدث لاستعداد القبول كما يدعونه في العقل الفعال فيقولون إنه دائم الفيض ولكن يحدث استعداد القوابل بسبب حدوث الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وتلك ليست صادرة عن العقل الفعال وإنما في المبدع الأول فهو المبدع لكل ما سواه فعنه يصدر الاستعداد والقبول والقابل والمقبول

وحينئذ فيقال إذا كان علة تامة موجبا بذاته وهو دائم الفيض لا يتوقف فيضه على شيء غيره أصلا لزم أن يكون كل ما يصدر عنه بواسطة أو بغير واسطة لازما له قديما بقدمه فلا يحدث عنه شيء لا بوسط ولا بغير وسط لأن فعله وإبداعه لا يتوقف على استعداد أو قبول يحدث عن غيره ولكن هو المبدع للشرط والمشروط والقابل والمقبول والاستعداد وما يفيض على المستعد وإذا كان وحده هو الفاعل لذلك كله امتنع أن يكون علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها لأن ذلك يوجب أن يكون معلوله كله أزليا قديما بقدمه وكل ما سواه معلول له فيلزم أن يكون كل ما سواه قديما أزليا وهذا مكابرة للحس

ومن تدبر هذا وفهمه تبين له أن فساد قول هؤلاء معلوم بالضرورة بعد التصور التام

وإنما عظمت حجتهم وقويت شوكتهم على أهل الكلام المحدث المبتدع الذي ذمه السلف والأئمة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية والشيعة ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم فإن هؤلاء لما اعتقدوا أن الرب في الأزل كان يمتنع منه الفعل والكلام بمشيئته وقدرته وكان حقيقة قولهم أنه لم يكن قادرا في الأزل على الكلام والفعل بمشيئته وقدرته لكون ذلك ممتنعا لنفسه والممتنع لا يدخل تحت المقدور صاروا حزبين

حزبا قالوا إنه صار قادرا على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادرا عليه لكونه صار الفعل والكلام ممكنا بعد أن كان ممتنعا وإنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وهذا قول المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة وهو قول الكرامية وأئمة الشيعة كالهاشمية وغيرهم

وحزبا قالوا صار الفعل ممكنا بعد أن كان ممتنعا منه وأما الكلام فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة بل هو شيء واحد لازم لذاته وهو قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما أو قالوا إنه حروف أو حروف وأصوات قديمة الأعيان لا تتعلق بمشيئته وقدرته وهو قول طوائف من أهل الكلام والحديث والفقه ويعزى ذلك إلى السالمية وحكاه الشهرستاني عن السلف والحنابلة وليس هو قول جمهور أئمة الحنابلة ولكنه قول طائفة منهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم

وأصل هذا الكلام كان من الجهمية أصحاب جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف ونحوهما قالوا لأن الدليل قد دل على أن دوام الحوادث ممتنع وأنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ لامتناع حوادث لا أول لها كما قد بسط في غير هذا الموضع

قالوا فإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون كل ما تقارنه الحوادث محدثا فيمتنع أن يكون البارىء لم يزل فاعلا متكلما بمشيئته وقدرته، بل يمتنع أن يكون لم يزل قادرا على ذلك لأن القدرة على الممتنع ممتنعة فيمتنع أن يكون قادرا على دوام الفعل والكلام بمشيئته وقدرته

قالوا وبهذا يعلم حدوث الجسم لأن الجسم لا يخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث

ولم يفرق هؤلاء بين مالا يخلو عن نوع الحوادث وبين مالا يخلو عن عين الحوادث ولا فرقوا فيما لا يخلو عن الحوادث بين أن يكون مفعولا معلولا أو أن يكون فاعلا واجبا بنفسه

فقال لهؤلاء أئمة الفلاسفة وأئمة أهل الملل وغيرهم فهذا الدليل الذي أثبتم به حدوث العالم هو يدل على امتناع حدوث العالم وكان ما ذكرتموه إنما يدل على نقيض ما قصدتموه

وذلك لأن الحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثا فلا بد أن يكون ممكنا والإمكان ليس له وقت محدود فما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله فليس لإمكان الفعل وجواز ذلك وصحته مبدأ ينتهى إليه فيجب أنه لم يزل الفعل ممكنا جائزا صحيحا فيلزم أنه لم يزل الرب قادرا عليه فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها

قال المناظر عن أولئك المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له لكن نقول إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له وذلك لأن الحوادث عندنا يمتنع أن تكون قديمة النوع بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة العدم لا أول له بخلاف جنس الحوادث

فيقال لهم هب أنكم تقولون ذلك لكن يقال إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكنا بعد أن لم يكن ممكنا وليس لهذا الإمكان وقت معين بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله فيلزم دوام الإمكان وإلا لزم انقلاب الجنس من الإمكان إلى الامتناع من غير حدوث شيء ولا تجدد شيء

ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث أو جنس الحوادث أو جنس الفعل أو جنس الإحداث أو ما يشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان هو مصير ذلك ممكنا جائزا بعد أن كان ممتنعا من غير سبب تجدد وهذا ممتنع في صريح العقل وهو أيضا انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة

وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكنا وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا لم يزل الحادث ممكنا فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه فإنه يعقل كون الحادث ممكنا ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل وأما كون الممتنع ممكنا فهو ممتنع في نفسه فكيف إذا قيل لم يزل إمكان هذا الممتنع

وأيضا فما ذكروه من الشرط وهو أن جنس الفعل أو جنس الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لم يزل ممكنا فإنه يتضمن الجمع بين النقيضين أيضا فإن كون هذا لم يزل يقتضى أنه لا بداية لإمكانه

وإن إمكانه قديم أزلي وكونه مسبوقا بالعدم يقتضى أن له بداية وأنه ليس بقديم أزلي فصار قولهم مستلزما أن الحوادث يجب أن يكون لها بداية وأنه لا يجب أن يكون لها بداية

وذلك لأنهم قدروا تقديرا ممتنعا والتقدير الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع كقوله تعالى لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا سورة الأنبياء 2فإن قولهم إمكان جنس الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له مضمونة أن ما له بداية ليس له بدايه فإن المشروط بسبق العدم له بداية وإن قدر أنه لا بداية له كان جمعا بين النقيضين

وأيضا فيقال هذا تقدير لا حقيقة له في الخارج فصار بمنزلة قول القائل جنس الحوادث بشرط كونها ملحوقة بالعدم هل لإمكانها نهاية أم ليس لإمكانها نهاية فكما أن هذا يستلزم الجمع بين النقيضين في النهاية فكذلك الأمل يستلزم الجمع بين النقيضين في البداية

وأيضا فالممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام يجب به الممكن وقد يقولون لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام يستلزم وجود ذلك الممكن

وهذا الثاني أصوب كما عليه نظار المسلمين المثبتين فإن بقاءه معدوما لا يفتقر إلى مرجح ومن قال إنه يفتقر إلى مرجح قال عدم مرجحه يستلزم عدمه ولكن يقال هذا مستلزم لعدمه لا أن هذا هو الأمر الموجب لعدمه ولا يجب عدمه في نفس الأمر بل عدمه في نفس الأمر لا علة له فإن عدم المعلول يستلزم عدم العلة وليس هو علة له والملزوم أعم من كونه علة لأن ذلك المرجح التام لو لم يستلزم وجود الممكن لكان وجود الممكن مع المرجح التام جائزا لا واجبا ولا ممتنعا وحينئذ فيكون ممكنا فيتوقف على مرجح لأن الممكن لا يحصل إلا بمرجح

فدل ذلك على أن الممكن إن لم يحصل مرجح يستلزم وجوده امتنع وجوده وما دام وجوده ممكنا جائزا غير لازم لا يوجد وهذا هو الذي يقوله أئمة أهل السنة المثبتين للقدر مع موافقة أئمة الفلاسفة لهم وهذا مما احتجوا به على أن الله خالق أفعال العباد

والقدرية من المعتزلة وغيرهم تخالف في هذا وتزعم أن القادر يمكنه ترجيح الفعل على الترك بدون ما يستلزم ذلك وادعوا أنه إن لم يكن القادر كذلك لزم أن يكون موجبا بالذات لا قادرا قالوا والقادر المختار هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك فمتى قيل إنه لا يفعل إلا مع لزوم أن يفعل لم يكن مختارا بل مجبورا

فقال لهم الجمهور من أهل الملة وغيرهم بل هذا خطأ فإن القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك ليس هو الذي إن شاء الفعل مشيئة جازمة وهو قادر عليه قدرة تامة يبقى الفعل ممكنا جائزا لا لازما واجبا ولا ممتنعا محالا

بل نحن نعلم أن القادر المختار إذا أراد الفعل إرادة جازمة وهو قادر عليه قدرة تامة لزم وجود الفعل وصار واجبا بغيره لا بنفسه كما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وما شاء سبحانه فهو قادر عليه فإذا شاء شيئا حصل مرادا له وهو مقدور عليه فيلزم وجوده وما لم يشأ لم يكن فإنه ما لم يرده وإن كان قادرا عليه لم يحصل المقتضى التام لوجوده فلا يجوز وجوده

قالوا ومع القدرة التامة والإرادة الجازمة يمتنع عدم الفعل ولا يتصور عدم الفعل إلا لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه وهو معروف بالأدلة اليقينية فإن فعل المختار لا يتوقف إلا على قدرته وإرادته فإنه قد يكون قادرا ولا يريد الفعل فلا يفعله وقد يكون مريدا للفعل لكنه عاجز عنه فلا يفعل أما مع كمال قدرته وإرادته فلا يتوقف الفعل على شيء غير ذلك والقدرة التامة والإرادة الجازمة هي المرجح التام للفعل الممكن فمع وجودهما يجب وجود ذلك الفعل

والرب تعالى قادر مختار يفعل بمشيئته لا مكره له وليس هو موجبا بذاته بمعنى أنه علة أزلية مستلزمة للفعل ولا بمعنى أنه يوجب بذات لا مشيئة لها ولا قدرة بل هو يوجب بمشيئته وقدرته ما شاء وجوده وهذا هو القادر المختار فهو قادر مختار يوجب بمشيئته ما شاء وجوده

وبهذا التحرير يزول الإشكال في هذه المسألة فإن الموجب بذاته إذا كان أزليا يقارنه موجبه فلو كان الرب تعالى موجبا بذاته للعالم في الأزل لكان كل ما في العالم مقارنا له في الأزل وذلك ممتنع بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما شاء الله وجوده من العالم فإنه يجب وجوده بقدرته ومشيئته وما لم يشأ يمتنع وجوده إذ لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته وهذا يقتضي وجوب وجود ما شاء تعالى وجوده

ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته وقدرته فلا منافاة بين كونه فاعلا بالقدرة والاختيار وبين كونه موجبا بالذات بهذا التفسير وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئا من الأشياء بذات مجردة عن القدرة والاختيار فهذا باطل ممتنع وإن أريد أن علة تامة أزلية تستلزم معلولها الأزلى بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه لازم لذاته أزلا وأبدا الفلك أو غيره فهذا أيضا باطل

فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضى قدم شيء من العالم مع الله أو فسر بما يقتضى سلب صفات الكمال عن الله فهو باطل وإن فسر بما يقتضى أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فهو حق فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده بقدرته ومشيئته لكن لا يقتضى هذا أنه شاء شيئا من المخلوقات بعينه في الأزل بل مشيئته لشيء معين في الأزل ممتنع لوجوه متعددة

ولهذا كان عامة العقلاء على أن الأزلي لا يكون مرادا مقدورا ولا أعلم نزاعا بين النظار أن ما كان من صفات الرب أزليا لازما لذاته لا يتأخر منه شيء لا يجوز أن يكون مرادا مقدورا وأن ما كان مرادا مقدورا لا يكون إلا حادثا شيئا بعد شيء وإن كان نوعه لم يزل موجودا أو كان نوعه كله حادثا بعد أن لم يكن

ولهذا كان الذين اعتقدوا أن القرآن قديم لازم لذات الله متفقين على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته وإنما يكون بمشيئته وقدرته خلق إدراك في العبد لذلك المعنى القديم والذين قالوا كلامه قديم وأرادوا أنه قديم العين متفقون على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته سواء قالوا هو معنى واحد قائم بالذات أو قالوا هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية الأعيان بخلاف أئمة السلف الذين قالوا إنه يتكلم بمشيئته وقدرته وإنه لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء فإن هؤلاء يقولون الكلام قديم النوع وإن كلمات الله لا نهاية لها بل لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته ولم يزل يتكلم كيف شاء إذا شاء ونحو ذلك من العبارات والذين قالوا إنه يتكلم بمشيئته وقدرته وكلامه حادث بالغير قائم بذاته أو مخلوق منفصل عنه يمتنع عندهم أن يكون قديما

فقد اتفقت الطوائف كلها علي أن المعين القديم الأزلي لا يكون مقدورا مرادا بخلاف ما كان نوعه لم يزل موجودا شيئا بعد شيء فهذا مما يقول أئمة السلف وأهل السنة والحديث إنه يكون بمشيئته وقدرته كما يقول ذلك جماهير الفلاسفة الأساطين الذين يقولون بحدوث الأفلاك وغيرها وأرسطو وأصحابه الذين يقولون بقدمها

فأئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة يقولون إن الأفلاك محدثة كائنة بعد أن لم تكن مع قولهم إنه لم يزل النوع المقدور المراد موجودا شيئا بعد شيء

ولكن كثيرا من أهل الكلام يقولون ما كان مقدورا مرادا يمتنع أن يكون لم يزل شيئا بعد شيء ومنهم من يقول بمنع ذلك في المستقبل أيضا

وهؤلاء هم الذين ناظرهم الفلاسفة القائلون بقدم العالم ولما ناظروهم واعتقدوا أنهم قد خصموهم وغلبوهم اعتقدوا أنهم قد خصموا أهل الملل مطلقا لاعتقادهم الفاسد الناشىء عن جهلهم بأقوال أئمة أهل الملل بل وبأقوال أساطين الفلاسفة القدماء وظنهم أنه ليس لأئمة الملل وأئمة الفلاسفة قول إلا قول هؤلاء المتكلمين وقولهم أو قول المجوس والحرانية أو قول من يقول بقدم مادة بعينها ونحو ذلك من الأقوال التي قد يظهر فسادها للنظار وهذا مبسوط في موضع آخر

والمقصود هنا أن عامة العقلاء مطبون عل أن العلم بكون الشىء المعين مرادا مقدورا يوجب العلم بكونه حادثا كائنا بعد أن لم يكن بل هذا عند العقلاء من المعلوم بالضرورة ولهذا كان مجرد تصور العقلاء أن الشيء مقدور للفاعل مراد له فعله بمشيئته وقدرته موجب للعلم بأنه حادث بل مجرد تصورهم كون الشيء مفعولا أو مخلوقا أو مصنوعا أو نحو ذلك من العبارات يوجب العلم بأنه محدث كائن بعد أن لم يكن ثم بعد هذا قد ينظر في أنه فعله بمشيئته وقدرته وإذا علم أن الفاعل لا يكون فاعلا إلا بمشيئته وقدرته وما كان مقدورا مرادا فهو محدث كان هذا أيضا دليلا ثانيا على أنه محدث

ولهذا كان كل من تصور من العقلاء أن الله تعالى خلق السموات والأرض أو خلق شيئا من الأشياء كان هذا مستلزما لكون ذلك المخلوق محدثا كائنا بعد أن لم يكن

وإذا قيل لبعضهم هو قديم مخلوق أو قديم محدث وعنى بالمخلوق والمحدث ما يعنيه هؤلاء المتفلسفة الدهرية المتأخرون الذين يريدون بلفظ المحدث أنه معلول ويقولون إنه قديم أزلى مع كونه معلولا ممكنا يقبل الوجود والعدم فإذا تصور العقل الصريح هذا المذهب جزم بتناقضه وأن أصحابه جمعوا بين النقيضين حيث قدروا مخلوقا محدثا معلولا مفعولا ممكنا أن يوجد وأن يعدم وقدروه مع ذلك قديما أزليا واجب الوجود بغيره يمتنع عدمه

وقد بسطنا هذا في مواضع في الكلام على المحصل وغيره وذكرنا أن ما ذكره الرازي عن أهل الكلام من أنهم يجوزون وجود مفعول معلول أزلي للموجب بذاته لم يقله أحد منهم بل هم متفقون على أن كل مفعول فإنه لا يكون إلا محدثا

وما ذكره هو أمثاله موافقة لابن سينا من أن الممكن وجوده وعدمه قد يكون قديما أزليا قول باطل عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين حتى عند أرسطو وأتباعه القدماء والمتأخرين فإنهم موافقون لسائر العقلاء في أن كل ممكن يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا كائنا بعد أن لم يكن وأرسطو إذا قال إن الفلك قديم لم يجعله مع ذلك ممكنا يمكن وجوده وعدمه

والمقصود أن العلم بكون الشيء مقدورا مرادا يوجب العلم بكونه محدثا بل العلم بكونه مفعولا يوجب العلم بكونه محدثا فإن الفعل والخلق والإبداع والصنع ونحو ذلك لا يعقل إلا مع تصور حدوث المفعول

وأيضا فالجمع بين كون الشيء مفعولا وبين كونه قديما أزليا مقارنا لفاعله في الزمان جمع بين المتناقضين ولا يعقل قط في الوجود فاعل قارنة مفعوله المعين سواء سمى علة فاعلة أو لم يسم ولكن يعقل كون الشرط مقارنا للمشروط

والمثل الذي يذكرونه من قولهم حركت يدي فتحرك خاتمي أو كمي أو المفتاح ونحو ذلك حجة عليهم لا لهم فإن حركة اليد ليست هي العلة التامة ولا الفاعل لحركة الخاتم بل الخاتم مع الإصبع كالإصبع مع الكف فالخاتم متصل بالإصبع والإصبع متصلة بالكف لكن الخاتم يمكن نزعها بلا ألم بخلاف الإصبع وقد يعرض بين الإصبع والخاتم خلو يسير بخلاف أبعاض الكف

ولكن حركة الإصبع شرط في حركة الخاتم كما أن حركة الكف شرط في حركة الإصبع أعني في الحركة المعينة التي مبدؤها من اليد بخلاف الحركة التي تكون للخاتم أو للإصبع إبتداء فإن هذه متصلة منها إلى الكف كمن يجر إصبع غيره فيجر معه كفه

وما يذكرونه من أن التقدم والتأخر يكون بالذات والعلة كحركة الإصبع ويكون بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين ويكون بالمكانة كتقدم العالم على الجاهل ويكون بالمكان كتقدم الصف الأول على الثاني وتقدم مقدم المسجد على مؤخره ويكون بالزمان كلام مستدرك

فإن التقدم والتأخر المعروف هو التقدم والتأخر بالزمان فإن قبل وبعد ومع ونحو ذلك معانيها لازمة للتقدم والتأخر الزماني وأما التقدم بالعلية أو الذات مع المقارنة في الزمان فهذا لا يعقل ألبتة ولا له مثال مطابق في الوجود بل هو مجرد تخيل لا حقيقة له

وأما تقدم الواحد على الاثنين فإن عنى به الواحد المطلق فهذا لا وجود له في الخارج ولكن في الذهن والذهن يتصور الواحد المطلق قبل الاثنين المطلق فيكون متقدما في التصور تقدما زمانيا وإن لم يعن به هذا فلا تقدم بل الواحد شرط في الاثنين مع كون الشرط لا يتأخر عن المشروط بل قد يقارنه وقد يكون معه فليس هنا تقدم واجب غير التقدم الزماني

وأما التقدم بالمكان فذاك نوع آخر وأصله من التقدم بالزمان فإن مقدم المسجد تكون فيه الأفعال المتقدمة بالزمان على مؤخره فالإمام يتقدم فعله بالزمان لفعل المأموم فسمى محل الفعل المتقدم متقدما وأصله هذا

وكذلك التقدم بالرتبة فإن أهل الفضائل مقدمون في الأفعال الشريفة والأماكن وغير ذلك على من هو دونهم فسمى ذلك تقدما وأصله هذا

وحينئذ فإن كان الرب هو الأول المتقدم على كل ما سواه كان كل شيء متأخرا عنه وإن قدر أنه لم يزل فاعلا فكل فعل معين ومفعول معين هو متأخر عنه

وإذا قيل الزمان مقدار الحركة فليس هو مقدار حركة معينة كحركة الشمس أو الفلك بل الزمان المطلق مقدار الحركة المطلقة وقد كان قبل أن يخلق الله السماوات والأرض والشمس والقمر حركات وأزمنة وبعد أن يقيم الله القيامه فتذهب الشمس والقمر تكون في الجنة حركات وأزمنة كما قال تعالى ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا سورة مريم 6وجاء في الآثار أنهم يعرفون الليل والنهار بأنوار تظهر من جهة العرش وكذلك لهم في الآخرة يوم المزيد يوم الجمعة يعرف بما يظهر فيه من الأنوار الجديدة القوية وإن كانت الجنة كلها نورا يزهر ونهرا يطرد لكن يظهر بعض الأوقات نور آخر يتميز به النهار عن الليل

فالرب تعالى إذا كان لم يزل متكلما بمشيئته فعالا بمشيئته كان مقدار كلامه وفعاله الذي لم يزل هو الوقت الذي يحدث فيه ما يحدث من مفعولاته وهو سبحانه متقدم على كل ما سواه التقدم الحقيقي المعقول

ولا تحتاج أن نجيب عن هذا بما ذكره الشهرستاني والرازي وغيرهما من أن في أنواع التقدمات تقدم أجزاء الزمان على بعض وأن هذا نوع آخر وأن تقدم الرب على العالم هو من هذا الجنس

فإن هذا قد يرد لوجهين

أحدهما أن تقدم بعض أجزاء الزمان على بعض هو بالزمان فإنه ليس المراد بالتقدم بالزمان أن يكون هناك زمان خارج عن التقدم والمتقدم وصفاتهما بل المراد أن المتقدم يكون قبل المتأخر القبلية المعقولة كتقدم اليوم على غد وأمس على اليوم ومعلوم أن تقدم طلوع الشمس وما يقارنه من الحوادث على الزوال نوع واحد فلا فرق بين تقدم نفس الزمان المتقدم على المتأخر وبين تقدم ما يكون في الزمان المتقدم على ما يكون في الزمان المتأخر

الوجه الثاني أن يقال أجزاء الزمان متصلة متلاحقة ليس فيها فصل عن الزمان ومن قال إن الباري لم يزل غير فاعل ولا يتكلم بمشيئته ثم صار فاعلا ومتكلما بمشيئته وقدرته يجعل بين هذا وهذا من الفصل مالا نهاية له فكيف يجعل هذا بمنزلة تقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض

وبالجملة فالعلم بأن الفاعل بمشيئته وقدرته بل الفاعل مع قطع النظر عن كونه إنما يفعل بمشيئته وقدرته وإن كان هذا لازما له في نفس الأمر فالعلم بمجرد كونه فاعلا للشيء المعين يوجب العلم بأنه أبدعه وأحدثه وصنعه ونحو ذلك من معاني العبارات التي تقتضي أن المفعول كان بعد أن لم يكن وأن ما فعله بقدرته وإرادته كان بعد أن لم يكن وإن قدر دوام كونه فاعلا بقدرته وإرادته

فعلم أن إرادته لشيء معين في الأزل ممتنع لأن إرادة وجوده تقتضي إرادة وجود لوازمه لأن وجود الملزوم بدون وجود اللازم محال فتلك الإرادة القديمة لو اقتضت وجود مراد معين في الأزل لاقتضت وجود لوازمه وما من وجود معين من المرادات إلا وهو مقارن لشيء آخر من الحوادث كالفلك الذي لا ينفك عن الحوادث وكذلك العقول والنفوس التي يثبتها هؤلاء الفلاسفة هي لا تزال مقارنة للحوادث وإن قالوا إن الحوادث معلولة لها فإنها ملازمة مقارنة لها على كل تقدير

وذلك أن الحوادث مشهودة في العالم فإما أن تكون لم تزل مقارنة للعالم أو تكون حادثة فيه بعد أن لم تكن فإن لم تزل مقارنة له ثبت أن العالم لم يزل مقارنا للحوادث وإن قيل إنها حادثة فيه بعد أن لم تكن كان العالم خاليا عن الحوادث ثم حدثت فيه وذلك يقتضي حدوث الحوادث بلا سبب حادث وهذا ممتنع على ما تقدم وكما سلموه هم فإن قيل إن هذا جائز أمكن وجود العالم بما فيه من الحوادث مع القول بأن الحوادث حدثت بعد أن لم تكن حادثة أعني نوع الحوادث وإلا فكل حادث معين فهو حادث بعد أن لم يكن

وإنما النزاع في نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أو في المستقبل فقط أو لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل على ثلاثة أقوال معروفة عند أهل النظر من المسلمين وغيرهم أضعفها قول من يقول لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل كقول جهم ابن صفوان وأبي الهذيل العلاف وثانيها قول من يقول يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي كقول كثير من أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الكرامية والأشعرية والشيعة ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم والقول الثالث قول من يقول يمكن دوامها في الماضي والمستقبل كما يقوله أئمة أهل الحديث وأئمة الفلاسفة وغيرهم

لكن القائلون بقدم الأفلاك كأرسطو وشيعته يقولون بدوام حوادث الفلك وأنه ما من دورة إلا وهي مسبوقة بأخرى لا إلى أول وأن الله لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام بل حقيقة قولهم إن الله لم يخلق شيئا كما بين في موضع آخر وهذا كفر باتفاق أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى

وهؤلاء القائلون بقدمها يقولون بأزلية الحوادث في الممكنات وأما الذين يقولون إن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وما سواه مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن فهم يفرقون بين الخالق الواجب والمخلوق الممكن في دوام الحوادث وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة القدماء فهم وإن قالوا إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل حيا فعالا فإنهم يقولون إن ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن

والمقصود هنا أن الفلاسفة القائلين بقدم العالم إن جوزوا حدوث الحوادث بلا سبب حادث بطلت عمدتهم في قدم العالم وإن منعوا ذلك امتنع خلو العالم عن الحوادث وهم لا يسلمون أنه لم يخل من الحوادث

وإذا كان كل موجود معين من مرادات الله التي يخلقها فإنه مقارن للحوادث مستلزم لها امتنع إرادته دون إرادة لوازمه التي لا ينفك عنها والله رب كل شيء وخالقه لا رب غيره فيمتنع أن يكون بعض ذلك بإرادته وبعضه بإرادة غيره بل الجميع بإرادته

وحينئذ فالإرادة الأزلية القديمة إما أن تكون مستلزمة لمقارنة مرادها لها وإما أن لا تكون كذلك فإن كان الأول لزم أن يكون المراد ولوازمه قديما أزليا والحوادث لازمة لكل مراد مصنوع فيجب أن تكون مرادة له وأن تكون قديمة أزلية إذ التقدير أن المراد مقارن للإرادة فيلزم أن تكون جميع الحوادث المتعاقبة قديمة أزلية وهذا ممتنع لذاته

وإن قيل إنه أراد القديم بإرادة قديمة وأراد الحوادث المتعاقبة عليه بإرادات متعاقبة كما قد يقوله طائفة من الفلاسفة وهو يشبه قول صاحب المعتبر قيل أولا كون الشيء مرادا يستلزم حدوثه بل وتصور كونه مفعولا يستلزم حدوثه فإن مقارنة المفعول المعين لفاعله ممتنع في بداية العقول

وقيل ثانيا إن جاز أن يكون له إرادات متعاقبة دائمة النوع لم يمتنع أن يكون كل ما سواه حادثا بتلك الإرادات فالقول حينئذ بقدم شيء من العالم قول بلا حجة أصلا

وقيل ثالثا إن الفاعل الذي من شأنه أن يفعل شيئا بعد شيء بإرادات متعاقبة يمتنع قدم شيء معين من إراداته وأفعاله وحينئذ فيمتنع قدم شيء من مفعولاته فيمتنع قدم شيء من العالم

وقيل رابعا إذا قدر أنه في الأزل كان مريدا لذلك المعين كالفلك إرادة مقارنة للمراد لزم أن يكون مريدا للوازمه إرادة مقارنة للمراد فإن وجود الملزوم بدون اللازم محال واللازم له نوع الحوادث وإرادة النوع إرادة مقارنة له في الأزل محال لامتناع وجود النوع كله في الأزل

وإذا قيل اللازم له دوام الحوادث فيكون مستلزما لدوام الإرادة لتلك الحوادث قيل معلوم أن إرادة هذا الحادث ليست إرادة هذا الحادث وأن جوزوا هذا لزمهم أن يجوزوا وجود جميع الكائنات بإرادة واحدة قديمة أزلية كما يقوله من يقول من المتكلمين كابن كلاب وأتباعه وحينئذ يبطل قولهم

منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57