منهاج السنة النبوية/19

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل

قال الرافضي ومنها أنه يلزم مخالفة المعقول والمنقول أما المعقول فلما تقدم من العلم الضروري باستناد أفعالنا الاختيارية إلينا ووقوعها بحسب إرادتنا فإذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة وبالعكس والشك في ذلك عين السفسطة

فيقال الجواب من وجوه

أحدها أن جمهور أهل السنة قائلون بهذا وأن أفعال الإنسان الأختيارية مستنده إليه وأنه فاعل لها ومحدث لها وإنما ينازع في هذا من يقول إنها ليست فعلا للعبد ولا لقدرته تأثير فيها ولا أحدثها العبد وهؤلاء طائفة من متكلمي أهل الإثبات والجمهور من أهل السنة لا يقولون بذلك كما جاءت به النصوص فإن الله ورسوله وصف العبد بأنه يعمل ويفعل

الوجه الثاني أن يقال بل النفاة خالفوا العلم الضروري فإن كون العبد مريدا فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا أمر حادث بعد أن لم يكن فإما أن يكون له محدث وأما أن لا يكون له محدث فإن لم يكن له محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث وإن كان له محدث فإما أن يكون هو العبد أو الرب تعالى أو غيرهما

فإن كان هو العبد فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية كالقول في إحداث أحداثها ويلزم التسلسل وهو هنا باطل بالاتفاق لأن العبد كائن بعد أن لم يكن فيمتنع أن تقوم به حوادث لا أول لها

وإن كان غير الله فالقول فيه كالقول في العبد فتعين أن يكون الله هو الخالق لكون العبد مريدا فاعلا وهو المطلوب

وأهل السنة يقولون بهذا العلم الضروري فيقولون إن العبد فاعل والله خلقه فاعلا والعبد مريد مختار والله جعله مريدا مختارا

قال الله تعالى إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله سورة الإنسان 29 30 وقال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين سورة التكوير

فأثبت مشيئة العبد وجعلها لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى وقال الخليل رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي سورة إبراهيم 3وقال فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم

وقال هو وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك سورة البقرة 12وقال وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا سورة الأنبياء 73

وقال وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار سورة القصص وأمثال ذلك في الكتاب والسنة

فدليلهم اقتضى مشيئة العبد وأنه فاعل بالاختيار وهذا الدليل اقتضى أن هذه المشيئة والاختيار حصلت بمشيئة الرب فكلا الأمرين حق

فمن قال إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار أو قال إنه لا قدرة له أو أنه لم يفعل ذلك الفعل أو لا أثر لقدرته فيه ولم يحدث تصرفاته فقد أنكر موجب الضرورة الأولى

ومن قال إن إرادته وفعله حدثت بغير سبب اقتضى حدوث ذلك وأن العبد أحدث ذلك وحاله عند إحداثه كما كان قبل إحداثه بل خص أحد الزمانين بالإحداث من غير سبب اقتضى تخصيصه وأنه صار مريدا فاعلا محدثا بعد أن لم يكن كذلك من غير شيء جعله كذلك فقد قال بحدوث الحوادث بلا فاعل

وإذا قالوا الإرادة لا تعلل كان هذا كلاما لا حقيقة له فإن الإرادة أمر حادث فلا بد له من محدث وهذا كما قالوا إن البارىء يحدث إرادة لا في محل بلا سبب اقتضى حدوثها ولا إرادة فارتكبوا ثلاث محالات حدوث حادث بلا إرادة من الله وحدوث حادث بلا سبب حادث وقيام الصفة بنفسها لا في محل

وإن شئت قلت كونه مريدا أمر ممكن والممكن لايترجح وجوده على عدمه ولا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام

وهذا مما يحتج به الرازي عليهم وهو صحيح في نفسه لكنه تناقض في مسألة حدوث العالم

والحجة التي ذكرها هذا الإمامي مذكورة عن أبي الحسين البصري وهي صحيحة كما أن الأخرى صحيحة فيجب القول بهما جميعا مع أن جمهور القدرية يقولون العلم بكون العبد محدثا لأفعاله نظري لا ضروري وهؤلاء يخالفون أبا الحسين

وأبو الحسين يقول مع ذلك إن الفعل يتوقف على الداعي والقدرة وعندهما يجب الفعل وهو حقيقة قول أهل الإثبات ولهذا يعبر غير واحد منهم بنحو ذلك كأبي المعالي والرازي وغيرهما

لكن إذا قيل مع ذلك إن الله خالق أفعال العباد أمكن الجمع بينهما عند من يقول إن الله خلق الأشياء بالأسباب

ومن لم يقل ذلك يقول خلق الفعل عند هذه الأمور لا بها وهو قول من لم يجعل للقدرة أثرا في مقدورها كالأشعري وغيره

فإن قيل كيف يكون الله محدثا لها والعبد محدثا لها

قيل إحداث الله لها بمعنى أن خلقها منفصلة عنه قائمة بالعبد فجعل العبد فاعلا لها بقدرته ومشيئته التي خلقها الله تعالى

وإحداث العبد لها بمعنى أنه حدث منه هذا الفعل القائم به بالقدرة والمشيئة التي خلقها الله فيه

وكل من الإحداثين مستلزم للآخر وجهة الإضافة مختلفة فما أحدثه الرب فهو مباين له قائم بالمخلوق وفعل العبد الذي أحدثه قائم به فلا يكون العبد فاعلا للفعل بمشيئته وقدرته حتى يجعله الله كذلك فيحدث قدرته ومشيئته والفعل الذي كان بذلك وإذا جعله الله فاعلا وجب وجود ذلك

فخلق الرب لفعل العبد يستلزم وجود الفعل وكون العبد فاعلا له بعد أن لم يكن يستلزم كون الرب خالقا له بل جميع الحوادث بأسبابها هي من هذا الباب

فإن قيل هذا قول من يقول هي فعل للرب وفعل للعبد

قيل من قال هي فعل لهما بمعنى الشركة فقد أخطأ ومن قال إن فعل الرب هو ما انفصل عنه وقال إنها فعل لهما كما قاله أبو إسحاق الإسفراييني فلا بد أن يفسر كلامه بشيء يعقل

وأما على قول جمهور أهل السنة الذين يقولون إنها مفعولة للرب

لا فعل له إذا فعله ما قام به والفعل عندهم غير المفعول فيقولون إنها مفعولة للرب لا فعل له وإنها فعل للعبد

كما يقولون في قدرة العبد إنها قدرة للعبد مقدورة للرب لا أنها نفس قدرة الرب

وكذلك إرادة العبد هي إرادة للعبد مرادة للرب

وكذلك سائر صفات العبد هي صفات له وهي مفعولة للرب مخلوقة له ليست بصفات له

ومما يبين ذلك أن الله تعالى قد أضاف كثيرا من الحوادث إليه وأضافه إلى بعض مخلوقاته إما أن يضيف عينه أو نظيره

كقوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى سورة الزمر 4وقال تعالى هو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار سورة الأنعام 6مع قوله تعالى قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم سورة السجدة 1وقوله توفته رسلنا وهم لا يفرطون سورة الأنعام 6وكذلك قوله تعالى في الريح تدمر كل شيء بأمر ربها سورة الأحقاف 22وقال ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون سورةالأعراف 13وقال تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم سورة الإسراء وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام سورة المائدة 1وقال نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن سورة يوسف 3

وقال إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون سورة النمل 7 وقال ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب سورة النساء أي ما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم فيهن

وقال فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج سورة الحج 5 فأضاف الإنبات إليها

وقال تعالى والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج سورة الحجر 1 وقال تعالى هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات سورة النحل 10 1وقال تعالى حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا سورة يونس 2وقال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها سورة الكهف وقال تعالى إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب سورة الصافات وقال تعالى يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها سورة الحديد 2 - وقال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء سورة النحل وقال نزل به الروح الأمين سورة الشعراء 193

وقال وبالحق أنزلناه وبالحق نزل سورة الإسراء 10 وقال وأنزلنا من السماء ماء سورة المؤمنون 1وقال تعالى وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء سورة فصلت 21 وقال سليمان عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء سورة النمل 1وقال تعالى فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون سورة الذاريات 23 فهم نطقوا وهو انطقهم وهو الذي أنطق كل شيء

فإذا كان تبارك وتعالى قد جعل في الجمادات قوى تفعل وقد أضاف الفعل إليها ولم يمنع ذلك أن يكون خالقا لأفعالها فلأن لا يمنع إضافة الفعل إلى الحيوان وإن كان الله خالقه بطريق الأولى

فإن القدرية لا تنازع في أن الله خالق ما في الجمادات من القوى والحركات وقد أخبر الله أن الأرض تنبت وأن السحاب يحمل الماء كما قال تعالى فالحاملات وقرا سورة الذاريات والريح تنقل السحاب كما قال تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت سورة الأعراف 57 وأخبر أن الريح تدمر كل شيء وأخبر أن الماء طغى بقوله تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية سورة الحاقة 1بل قد أخبر بما هو أبلغ من ذلك من سجود هذه الأشياء وتسبيحها كما في قوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب سورة الحج

وهذا التفصيل يمنع حمل ذلك على أن المراد كونها مخلوقة دالة على الخالق وأن المراد شهادتها بلسان الحال فإن هذا عام لجميع الناس

وقد قال تعالى يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد سورة سبأ 1وقال إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب سورة ص 18 12فأخبر أن الجبال تؤوب معه والطير وأخبر أنه سخرها تسبح

وقال ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه سورة النور 4وقال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم سورة الإسراء 4وقال ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها سورة الرعد 1وقال ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله سورة البقرة 7وبسط الكلام على سجود هذه الأشياء وتسبيحها مذكور في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن هذا كله مخلوق لله بالاتفاق مع جعل ذلك فعلا لهذه الأعيان في القرآن فعلم أن ذلك لا ينافي كون الرب تعالى خالقا لكل شيء

فإن قيل قولكم إذا جعلنا الله فاعلا وجب وجود ذلك الفعل وخلق الفعل يستلزم وجوده ونحو ذلك من الأقوال يقتضي الجبر وهو قول باطل قيل لفظ الجبر لم يرد في كتاب ولا سنة لا بنفي ولا إثبات واللفظ إنما يكون له حرمة إذا ثبت عن المعصوم وهي ألفاظ النصوص فتلك علينا أن نتبع معاينها وأما الألفاظ المحدثة مثل لفظ الجبر فهو مثل لفظ الجهة والحيز ونحو ذلك

ولهذا كان المنصوص عن أئمة الإسلام مثل الأوزاعي والثوري وعبدالرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم أن هذا اللفظ لا يثبت ولا ينفي مطلقا فلا يقال مطلقا جبر ولا يقال لم يجبر فإنه لفظ مجمل

ومن علماء السلف من أطلق نفيه كالزبيدي صاحب الزهري وهذا نظر إلى المعنى المشهور من معناه في اللغة فإن المشهور إطلاق لفظ الجبر والإجبار على ما يفعل بدون إرادة المجبور بل مع كراهته كما يجبر الأب ابنته على النكاح

وهذا المعنى منتف في حق الله تعالى فإنه سبحانه لا يخلق فعل العبد الاختياري بدون اختياره بل هو الذي جعله مريدا مختارا وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله

ولهذا قال من قال من السلف الله أعظم وأجل من أن يجبر إنما يجبر غيره من لا يقدر على جعله مختارا والله تعالى يجعل العبد مختارا فلا يحتاج إلى إجباره ولهذا قال الاوزاعي والزبيدي وغيرهما نقول جبل ولا نقول جبر لأن الجبل جاءت به السنة كما في الحديث الصحيح أن النبي قال لأشج عبدالقيس إن فيك خلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما فقال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله

فقد يراد بلفظ الجبر نفس فعل ما يشاؤه وإن خلق اختيار العبد كما قال محمد بن كعب القرظي الجبار هو الذي جبر العباد على ما أراده

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الدعاء المأثور عنه اللهم داحي المدحوات وسامك المسموكات جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها

فإذا أريد بالجبر هذا فهذا حق وإن أريد به الأول فهو باطل ولكن الإطلاق يفهم منه الأول فلا يجوز إطلاقه فإذا قال السائل أنا أريد بالجبر المعنى الثاني وهو أن نفس جعل الله للعبد فاعلا قادرا يستلزم الجبر ونفس كون الداعي والقدرة يستلزم وجود الفعل جبر

قيل هذا المعنى حق ولا دليل لك على إبطاله وحذاق المعتزلة كأبي الحسين البصري وأمثاله يسلمون هذا فيسلمون أن مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود الفعل

وصاحب هذا الكتاب قد سلك هذه الطريقة فلا يمكنه مع هذا إنكار الجبر بهذا التفسير ولهذا نسب أبو الحسين إلى التناقض في هذه المسألة فإنه وأمثاله من حذاق المعتزل إذا سلموا أنه مع الداعي والقدرة يجب وجود الفعل وسلموا أن الله خلق الداعي والقدرة لزم أن يكون الله خالق أفعال العباد

فحذاق المعتزلة سلموا المقدمتين ومنعوا النتيجة والطوسي الذي قد عظمه هذا الإمامي ذكر في تلخيص المحصل لما ذكر احتجاج الرازي بأن الفعل يجب عند وجود المرجح التام ويمتنع عند عدمه فبطل قول المعتزلة بالكلية يعني الذين يقولون إنه يفعل على وجه الجواز وهو المشهور من مذهبهم فاعترض عليه الطوسي وقال إنه قد ذكر فيما مر أن المختار متمكن من ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح وهنا حكم بأن ذلك محال ثم على تقدير الاحتياج إلى المؤثر وامتناع عدم حصول الأثر قال فقد بطل قول المعتزلة بالكلية

قال وذلك غير وارد لأنه قد ذكر أن أبا الحسين من المعتزلة وقال في موضع آخر إنه رجل المعتزلة وقال هنا إنه قد ذهب إلى أن القدرة والإرادة يوجبان وجود المقدور فكيف بطل قولهم بالكلية

وبيانه أنهم يقولون إن معنى الاختيار هو استواء الطرفين بالنسبة إلى القدرة وحدها ووجوب وقوع أحدهما بحسب الإرادة فمتى حصل المرجح التام وهو الإرادة وجب الفعل ومتى لم يحصل امتنع ذلك وذلك غير مناف لاستواء الطرفين بالقياس إلى القدرة وحدها فإذا اللزوم الذي ذكره غير قاطع في إبطال قولهم

قلت القول الذي قطع بطلانه الرازي هو القول المشهور عنهم وهو أن الفعل لا يتوقف على الداعي بل القادر يرجح أحد مقدوريه على الأخر بلا مرجح فيحدث الداعي له الفعل كالإرادة بمجرد كونه قادرا مع استواء القدرة بالنسبة إلى وجود ذلك وعدمه

والداعي قد يفسر بالعلم أو الاعتقاد أو الظن وقد يفسر بالإرادة وقد يفسر بالمجموع وقد يفسر بما اشتمل عليه المراد مما يقتضي إرادته

والرازي يقول إن أبا الحسين متناقض فإن الرازي ذكر في الأقوال

قول الذين يقولون إن الفعل موقوف على الداعي فإذا حصلت القدرة وانضم إليها الداعي صار مجموعهما علة لوجوب الفعل

قال وهذا قول جمهور الفلاسفة واختيار أبي الحسين البصري من المعتزلة وهو وإن كان يدعي الغلو في الاعتزال حتى ادعى أن العلم بأن العبد موجد لأفعاله ضروري إلا أنه كان من مذهبه أن الفعل موقوف على الداعي فإذا كان عند الاستواء يمتنع وقوعه فحال المرجوحية أولى بالامتناع وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح لأنه لا خروج عن النقيضين وهذا عين القول بالجبر لأن الفعل واجب الوقوع عند حصول المرجح وممتنع الوقوع عند عدم المرجح فثبت أن أبا الحسين كان عظيم الغلو في القول بالجبر وإن كان يدعي في ظاهر الأمر أنه عظيم الغلو في الاعتزال

قلت هذا القول هو قول جماهير أهل السنة وأئمتهم ويقرب منه قول أبو المعالي الجويني والقاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى وقول الكرامية وهو حقيقة القول بأن الله خالق فعل العبد وهو ظاهر على قول جمهور أهل السنة المثبتين للأسباب الذين يقولون لقدرة العبد تأثير في الفعل وأما من قال لا تأثير لها كالأشعري فإذا فسر الوجوب بالوجوب العادي لم يمتنع ذلك وإن فسر بالعقلي امتنع

وأما لفظ الجبر فالنزاع فيه لفظي كما تقدم وليس هو في اللغة ظاهرا في هذا المعنى ولهذا أنكر السلف إطلاقه فإذا قالت القدرية هذا ينافي كونه مختارا لأنه لا معنى للمختار إلا كونه قادرا على الفعل والترك وأنه إذا شاء فعل هذا وإذا شاء فعل هذا

قيل لهم هذا مسلم ولكن يقال هو قادر على الفعل والترك على سبيل البدل أو على سبيل الجمع والثاني باطل فإنه في حال كونه فاعلا لا يقدر أن يكون تاركا مع كونه فاعلا وكذلك حال كونه تاركا لا يقدر على كونه فاعلا مع كونه تاركا فإن الفعل والترك ضدان واجتماعهما ممتنع والقدرة لا تكون على ممتنع

فعلم أن قولنا قادر على الفعل والترك أي يقدر أن يفعل في حال عدم الترك ويقدر أن يترك في حال عدم الفعل وكذلك قول القائل القادر إن شاء فعل وإن شاء ترك هو على سبيل البدل لا يقدر أن يشاء الفعل والترك معا بل حال مشيئته للفعل لا يكون مريدا للترك وحال مشيئته للترك لا يكون مريدا للفعل

وإذا كان كذلك فالقادر الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك حال كونه شاء الفعل مع القدرة التامة يجب وجود الفعل وحال وجود الفعل يمتنع أن يكون مريدا للترك مع الفعل وأن يكون قادرا على وجود الترك مع الفعل بل قدرته على الفعل بمعنى أنه يكون بعد الفعل تاركا له فيكون قادرا على الترك في الزمن الثاني من وجود الفعل لا حال وجود الفعل

وإذا قال القائل هذا يقتضي أن يكون الفعل واجبا لا ممكنا فإن أراد به أنه يصير واجبا بغيره بعد كونه ممكنا في نفسه فهذا حق كما أنه يصير موجودا بعد أن كان معدوما وفي حال وجوده يمتنع أن يكون معدوما

وكل ما خلقه الله تعالى فهو بهذه المثابة فإنه ما شاء كان فوجب وجوده بمشيئة الله وقدرته وما لم يشأ لم يكن فيمتنع وجوده لعدم مشيئة الله له مع أن ما شاءه مخلوق محدث مفعول له وكان قبل أن يخلقه يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد فأما بعد أن صار موجودا بمشيئة الله وقدرته فلا يمكن أن يكون معدوما مع كونه موجودا وإنما يمكن أن يعدم بعد وجوده وليس في الأشياء ما يمكن وجوده وعدمه معا في حال واحدة بل يمكن وجوده بدلا عن عدمه وعدمه بدل عن وجوده فإذا وجد كان وجوده مادام موجودا واجبا بغيره وإذا سمى ممكنا بمعنى أنه مخلوق ومفعول وحادث فهو صحيح لا بمعنى أنه في حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده فإنه إذا أريد أنه حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده فهذا باطل فإنه جمع بين النقيضين

وإن أراد أنه يمكن عدمه بعد هذا الوجود فهو صحيح ولكن هذا لا يناقض وجوب وجوده بغيره مادام موجودا وهذا موجود بالقادر لا بنفسه وهو ممكن في هذه الحال بمعنى أنه محدث مخلوق مفتقر إلى الله تعالى لا بمعنى كونه يمكن أن يكون معدوما حال وجوده

ومن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة أشكلت على كثير من الناس في مسائل القدر بل وفي إثبات كون الرب قادرا مختارا ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن

والقدر يتعلق بقدرة الله تعالى ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله تعالى يشير إلى أن من أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله تعالى وأنه يتضمن إثبات قدرة الله تعالى على كل شيء

ولهذا جعل الأشعري وغيره أخص وصف الرب تبارك وتعالى قدرته علىالاختراع وأيضا فقول القائل القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك بمعنى أنه قبل الفعل والترك إن شاء وجود الفعل في الزمن الثاني وإن شاء الترك فيه وهذا التخيير بينهما إنما يكون عند عدمهما جميعا فأما حال الفعل فيمتنع الترك وحال الترك فيمتنع الفعل وحينئذ فالفعل واجب حال وجوده لا في الحال التي يكون مخيرا فيها بين الفعل والترك فحال التخيير لم يكن واجبا وحال وجوبه لم يكن مخيرا

نعم قد يكون حال الفعل شائيا للترك بعد الفعل وهذا ترك ثان ليس هو ترك ذلك الفعل في حال وجوده فالقادر قط لا يكون مخيرا بين الشيئين في حال وجود أحدهما إلا بمعنى التخيير في الزمن الثاني وإلا ففي حال وجود أحدهما لا يكون مخيرا بين وجوده وعدمه مع وجوده وحالما يكون الفاعل فاعلا يمتنع أن يكون تاركا فيمتنع أن يكون هذا الترك مقدورا له لأن الممتنع لا يكون مقدورا والقدرة على الضدين قدرة على كل واحد منهما على سبيل البدل ليست قدرة على جمعهما وهذا كما يقال إنه قادر على تسويد الثوب وتبييضه ويسافر إلى الشرق والغرب ويذهب يمينا وشمالا وقادر على أن يتزوج هذه الأخت وهذه الأخت

فصل

قال الرافضي وأما المنقول فالقرآن مملوء من استناد أفعال البشر إليهم كقوله تعالى

وإبراهيم الذي وفى سورة النجم 37 فويل للذين كفروا سورة مريم 37 ولا تزر وازرة وزر أخرى سورة الأنعام 164 ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون سورة النحل 32 اليوم تجزى كل نفس بما كسبت سورة غافر 17 اليوم تجزون ما كنتم تعملون سورة الجاثية 28 لتجزى كل نفس بما تسعى سورة طه 15 هل تجزون إلا ما كنتم تعملون سورة النمل 90 من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها سورة الأنعام 160 ليوفيهم أجورهم سورة فاطر 30 لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات سورة النساء 160 كل امرىء بما كسب رهين سورة الطور 21 من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها سورة فصلت 46 ذلك بما قدمت يداك سورة الحج 10 وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم سورة الشورى 30 إلخ

فيقال الجواب من وجوه أحدها أن يقال كل هذا حق وجمهور أهل السنة قائلون بذلك وهم قائلون إن العبد فاعل لفعله حقيقة لا مجازا وإنما نازع في ذلك طائفة من متكلمة أهل الاثبات كالأشعري ومن اتبعه

الثاني أن يقال والقرآن مملوء بما يدل على أن أفعال العباد حادثة بمشيئة الله وقدرته وخلقه فيجب الإيمان بكل ما في القرآن ولا يجوز أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض قال الله تعالى ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد سورة البقرة 253

وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام 12وقال تعالى ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون سورة الأنعام 11وقال تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل غدا إلا أن يشاء الله سورة الكهف 23 24 وأجمع علماء المسلمين على أن الرجل لو قال لأصلين الظهر غدا إن شاء الله أو لأقضين الدين الذي علي وصاحبه مطالبه أو لأردن هذه الوديعة ونحو ذلك ثم لم يفعله أنه لا يحنث في يمينه ولو كانت المشيئة بمعنى الأمر لحنث

وقال عن إبراهيم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا سورة البقرة 12وقال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا سورة البقرة 2وقال تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه سورة الأنفال 22وقال تعالى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون سورة يس 8 وقال تعالى وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا سورة الأنبياء 73

وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا سورة الأنبياء 73

وقال عن بني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون سورة السجدة 2وقال عن آل فرعون وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون سورة القصص 4وقال عن الخليل رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء سورة إبراهيم 4وقال ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم

وقال تعالى وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون سورة يسن 41 42 والفلك من مصنوعات بني آدم

وهذا مثل قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون سورة الصافات فإن طائفة المثبتة للقدر قالوا إن ما هاهنا مصدرية وأن المراد خلقكم وخلق أعمالكم وهذا ضعيف جدا

والصواب أن ما هاهنا بمعنى الذي وأن المراد والله خلقكم والأصنام التي تعملونها

كما في حديث حذيفة عن النبي قال إن الله خلق كل صانع وصنعته

وأنه قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون سورة الصافات 95 96 فذمهم وأنكر عليهم عبادة ما ينحتونه من الأصنام ثم ذكر أن الله خلق العابد والمعبود والمنحوت

وهو سبحانه الذي يستحق أن يعبد ولو أريد والله خلقكم وأعمالكم كلها لم يكن هذا مناسبا فإنه قد ذمهم على العبادة وهي من أعمالهم فلم يكن في ذكر كونه خالقا لأعمالهم ما يناسب الذم بل هو إلى العذر أقرب

ولكن هذه الآية تدل على أنه خالق لأعمال العباد من وجه آخر وهو أنه إذا خلق المعمول الذي عملوه وهو الصنم المنحوت فقد خلق التأليف القائم به وذلك مسبب من عمل ابن آدم وخالق المسبب خالق السبب بطريق الأولى

وصار هذا كقوله وخلقنا لهم من مثله ما يركبون سورة يس 42 ومعلوم أن السفن إنما ينجر خشبها ويركبها بنو آدم فالفلك معمولة لهم كما هي الأصنام معمولة لهم وكذلك سائر ما يصنعونه من الثياب والأطعمة والأبنية فإذا كان الله قد أخبر أنه خلق الفلك المشحون وجعل ذلك من آياته ومما أنعم الله به على عباده علم أنه خالق أفعالهم

وعلى قول القدرية لم يخلق إلا الخشب الذي يصلح أن يكون سفنا وغير سفن ومعلوم أن مجرد خلق المادة لا يوجب خلق الصورة التي حصلت بأفعال بني آدم إن لم يكن خالقا للصورة ومثل هذا قوله تعالى الله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم سورة النحل 81 النحل إلى قوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون

ومعلوم أن خلق البيوت المبنية والسرابيل المصنوعة هو كخلق السفن المنجورة وقد أخبر الله أن الفلك صنعة بني آدم مع إخباره أنه خلقها كما قال تعالى عن نوح عليه السلام ويصنع الفلك

وأيضا ففي القرآن من ذكر تفصيل أفعال العباد التي بقلوبهم وجوارحهم وأنه هو تبارك وتعالى يحدث من ذلك ما يطول وصفه كقوله تعالى فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة سورة الأعراف 30 وقوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه سورة البقرة 213 وقوله ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات 7 ومعلوم أنه لم يرد بذلك الهداية المشتركة بين المؤمن والكافر مثل إرسال الرسل والتمكين من الفعل وإزاحة العلل بل أراد ما يختص به المؤمن كما دل عليه القرآن في مثل قوله تعالى واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم سورة الأنعام 87 وقوله وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم سورة الصافات 117 11ومنه قولنا في الصلاة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة 6 7 فإن الهداية المشتركة حاصلة لا تحتاج أن تسأل وإنما تسأل الهداية التي خص بها المهتدين ومن تأول ذلك بمعنى زيادة الهدى والتثبيت وقال كان ذلك جزاء كان متناقضا

فإنه يقال هذا المطلوب إن لم يكن حاصلا باختيار العبد لم يثب عليه فإنه إنما يثاب على ما فعله باختياره وإن كان باختيارة فقد ثبت أن الله يحدث الفعل الذي يختاره العبد وهذا مذهب أهل السنة

وكذلك ما أخبر الله في القرآن من إضلال وهدى ونحو ذلك فإنهم قد يتأولون ذلك بأنه جزاء على ما تقدم وعامة تأويلاتهم مما يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه مع أن هذا الاجزاء مما يثاب الفاعل عليه وإن جوزوا أن الله يثيب العبد على ما ينعم به على العبد من فعله الاختياري جاز أن ينعم عليه ابتداء باختياره الطاعة وإن لم يجز عندهم الثواب والعقاب على ما يجعل العبد فاعلا له بطل أن يريد هدى أو ضلالة يثاب عليها أو يعاقب عليها وامتنع أن يكون ما أخبر أنه فعله من جعل الأغلال في أعناقهم وجعله من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ونحو ذلك هو مما يعاقبون عليه وقد قال تعالى إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل سورة النحل 37 فأخبر أنه من أضله اللهلا يهتدي

وفي الجملة ففي القرآن من الآيات المبينة أن الله خالق أفعال العباد وأنه هو الذي يقلب قلوب العباد فيهدي من يشاء ويضل من يشاء وأنه هو المنعم بالهدى على من أنعم عليه ما يتعذر استقصاؤه في هذه المواضع

وكذلك فيه ما يبين عموم خلقه لكل شيء كقوله الله خالق كل شيء سورة الرعد 16 وغير ذلك وفيه ما يبين أنه فعال لما يريد وفيه ما يبين أنه لو شاء لهدى الناس جميعا وأمثال ذلك مما يطول وصفه

وإذا قيل هذه متأولة عند القدرية لأنها من المتشابه عندهم كان الجواب من وجهين أحدهما أن هذا مقابل بتأويلات الجبرية لما احتجوا به وبقولهم هذا متشابه وهو لم يذكر إلا مجرد النصوص فذكرنا النصوص من الطرفين

الثاني أن نبين فساد تأويلاتهم واحدا واحدا كما بسط في موضع آخر وفي تأويلاتهم من تحريف الكلم عن مواضعه ومخالفة اللغة وتناقض المعاني ومخالفة إجماع سلف الأمة وأئمتها ما يبين بعضه بطلان تحريفاتهم ويبين أنه ليس في القرآن محكم يناقض هذا حتى يقال إن هذا متشابه وذلك محكم بل القرآن يصدق بعضه بعضا

ومن فتح هذا الباب من أهل البدع لم يكن له ثبات فإن خصمه يفعل كما يفعل فلا يبقى في يده حجة سليمة عن المعارضة بمثلها كيف وعامة تأويلاتهم مما يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه

فصل

قال الرافضي قال الخصم القادر يمتنع أن يرجح مقدوره من غير مرجح ومع الترجيح يجب الفعل فلا قدرة ولأنه يلزم أن يكون الإنسان شريكا لله ولقوله تعالى والله خلقكم وما تعملون سورة الصافات 9قال والجواب عن الأول المعارضة بالله تعالى فإنه تعالى قادر فإن افتقرت القدرة إلى المرجح وكان المرجح موجبا للأثر لزم أن يكون الله موجبا لا مختارا فيلزم الكفر والجواب عن الثاني أي شركة هنا والله هو القادر على قهر العبد وإعدامه ومثل هذا أن السلطان إذا ولى شخصا بعض البلاد فنهب وظلم وقهر فإن السلطان متمكن من قتله والانتقام منه واستعادة ما أخذه وليس يكون شريكا للسلطان والجواب عن الثالث أنه إشارة إلى الأصنام التي كانوا ينحتونها ويعبدونها فأنكر عليهم وقال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون سورة الصافات 95 92فيقال لم يذكر من أدلة أهل الإثبات إلا شيئا يسيرا ولم يذكر تقرير أدلتهم على وجهها ومع هذا فالأدلة الثلاثة التي ذكرها لهم ليس عنها جواب صحيح

أما الأول فإن المستدل بذلك الدليل لا يقول إنه إذا وجب الفعل فلا قدرة فإن أهل الإثبات يقولون إن العبد له قدرة

وهذا مذهب عامة أهل السنة حتى غلاة المثبتين للقدر كالأشعرية فإنهم متفقون على أن العبد له قدرة

وهذ الدليل المذكور قد احتج به أبو عبدالله الرازي وغيره وهو يصرح بأنه يقول بالجبر ومع هذا فإنه يقول إن للعبد قدرة وإن كانوا متنازعين هل هي مؤثرة في مقدورها أو في بعض صفاته أو لا تأثير لها

قال أبو الحسين البصري وغيره من المعتزلة إن الفعل لا يكفي فيه مجرد القدرة بل يتوقف على الداعي فيقولون إن القادر المختار لا يرجح بمجرد القدرة بل بداع يقرن مع القدرة كما يقول ذلك أكثر المثبتين للقدر فإنهم يقولون إن الرب تعالى لا يرجح بمجرد القدرة بل بإرادة مع القدرة

وكذلك يقول كثير منهم في حق العبد لا يرجح بمجرد القدرة بل بداع مع القدرة وقد قال هذا كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وقاله من أصحاب أحمد القاضي أبو خازم بن القاضي أبي يعلى

وقد تقدم أن القول الوسط في ذلك أن لها تأثيرا من جنس تأثير الأسباب في مسبباتها ليس لها تأثير الخلق والإبداع ولا وجودها كعدمها

وتوجيه هذا الدليل أن القادر يمتنع أن يرجح أحد مقدوريه إلا بمرجح وذلك أنه إذا كان الفعل والترك نسبتهما إلى القادر سواء كان ترجيح أحدهما على الآخر ترجيحا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وهذا ممتنع في بدائه العقول

وهذا مبسوط في موضع آخر وتبين فيه خطأ من زعم أن القادر يرجح أحد المقدورين المتماثلين بلا مرجح وذلك المرجح لا يكون من العبد لأن القول فيه كالقول في فعل العبد فإن كان المرجح له قدرة العبد فالقادر لا يرجح إلا بمرجح فلا بد أن يكون المرجح من الله وعند وجود المرجح يجب وجود الفعل وإلا لم يكن مرجحا تاما فإنه إذا كان بعد وجود المرجح يجوز وجود الفعل وعدمه كما كان قبل المرجح كان ممكنا والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح فلا بد من مرجح تام يجب عنده وجود الفعل

وإذا كان العبد لا يحصل فعله إلا بمرجح من الله تعالى وعند وجود ذلك المرجح يجب وجود الفعل كان فعله كسائر الحوادث التي تحدث بأسباب يخلقها الله تعالى يجب وجود الحادث عندها

وهذا معنى كون الرب تبارك وتعالى خالقا لفعل العبد ومعنى ذلك أن الله تعالى يخلق في العبد القدرة التامة والإرادة الجازمة وعند وجودهما يجب وجود الفعل لأن هذا سبب تام للفعل فإذا وجد السبب التام وجب وجود المسبب والله هو الخالق للمسبب أيضا كما أنه إذا خلق النار في الثوب فإنه لا بد من وجود الحريق عقيب ذلك والكل مخلوق لله تعالى

وأما معارضة ذلك بفعل الله تعالى فالجواب عن ذلك من وجوه

أحدها أن هذا برهان عقلي يقيني واليقينيات لا يمكن أن يكون لها معارض يبطلها وقدر أن المحتج بهذا من يقول بالموجب بالذات فهذا لا ينقطع بما ذكرته لا سيما وعندهم هذه المسألة من العقليات التي تعلم بدون السمع فلا بد فيها من جواب عقلي

الثاني أن يقال قدرة الرب لا يفعل بها إلا مع وجود مشيئته فإن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وليس كل ما كان قادرا عليه فعله

قال تعالى بلى قادرين على أن نسوي بنانه سورة القيامة وقال تعالى قل هوالقادر علىأن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض سورة الأنعام 6وقد ثبت في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أنه لما نزلت هذه الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال النبي أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هاتان أهون

وقال تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا سورة يونس 99 وقد قال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة سورة هود 118 وقال ولو شاء الله ما اقتتلوا سورة البقرة ومثل هذا متعدد في القرآن

وإذا كان لو شاءه لفعله دل على أنه قادر عليه فإنه لا يمكن فعل غير المقدور وإذا كان كذلك علم أن الفعل لو وجد بمجرد كونه قادرا لوقع كل مقدور بل لا بد مع القدرة من الإرادة

وحينئذ قول القائل فقدرة الرب تفتقر إلى مرجح لكن المرجح هو إرادة الله تعالى وإرادة الله لا يجوز أن تكون من غيره بخلاف إرادة العبد وإذا كان المرجح إرادة الله كان فاعلا باختياره لا موجبا بذاته بدون اختياره وحينئذ فلا يلزم الكفر

الثالث أن يقال ما تعني بقولك يلزم أن يكون الله موجبا بذاته أتعني به ان يكون موجبا للأثر بلا قدرة ولا إرادة أو تعني به أن يكون الأثر واجبا عند وجود المرجح الذي هو الإرادة مثلا مع القدرة

فإذا عنيت الأول لم يسلم التلازم فإن الفرض أنه قادر وأنه مرجح بمرجح فهنا شيئان قدرة وأمر آخر وقد فسرنا ذلك بالإرادة فكيف يقال إنه مرجح بلا قدرة ولا إرادة

وإن أردت أنه يجب وجود الأثر إذا حصلت الإرادة مع القدرة فهذا حق وهذا مذهب المسلمين وإن سمى مسم هذا موجبا بالذات كان نزاعا لفظيا والمسلمون يقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجوده وجب وجوده بمشيئته وقدرته وما لم يشأ وجوده امتنع وجوده لعدم مشيئته وقدرته فالأول واجب بالمشيئة والثاني ممتنع لعدم المشيئة وأما ما يقوله القدرية من أن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء فهذا الذي أنكره أهل السنة والجماعة عليهم

والرابع أن يقال له إنه هو سبحانه قادر فإذا أراد حدوث مقدور فإما أن يجب وجوده وإما أن لا يجب فإن وجب حصل المطلوب وتبين وجوب الأثر عند المرجح سواء سميت هذا موجبا بالذات أو لم تسمه وإن لم يجب وجوده كان وجوده ممكنا قابلا للوجود والعدم فوجوده دون عدمه ممكن فلا بد له من مرجح وهكذا هلم جرا كل ما قدر قابلا للوجود ولم يجب وجوده كان وجوده ممكنا محتملا للوجود والعدم فلا يوجد حتى يحصل المرجح التام الموجب بالذات لوجوده فتبين أن كل ما وجد فقد وجب وجوده بمشيئة الله وقدرته وهوالمطلوب

وهذا قول طائفة من المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره وطائفة من القدرية في هذا الباب يقولون عند وجود المرجح صار الفعل أولى به ولا تنتهي الأولوية إلى حد الوجوب كما يقول ذلك محمود الخوارزمي الزمخشري ونحوه وهو باطل فإنه إذا لم ينته إلى حد الوجوب كان ممكنا فيحتاج إلى مرجح فما ثم إلا واجب أو ممكن والممكن يقبل الوجود والعدم

وطائفة ثالثة من القدرية والجهمية ومن اتبعهم من أصحاب أبي الحسين وغيرهم من المتكلمين وطوائف من أصحاب الأئمة الأربعة والشيعة وغيرهم يقولون القادر يرجح بلا مرجح فيجلعون الإرادة حادثة بلا مرجح لحدوثها ويجعلون إرادة الله حادثة لا في محل ويجعلون الفعل معها ممكنا لا واجبا وهذا من أصولهم التي اضطربوا فيها في مسألة فعل الله وحدوث العالم وفي مسألة فعل العبد والقدر

الوجه الخامس أن يقال لفظ الموجب بالذات لفظ فيه إجمال فإن عني به ما يعنيه الفلاسفة من أنه علة تامة مستلزمة للعالم فهذا باطل لأن العلة التامة تستلزم معلولها ولو كان العالم معلولا لازما لعلة أزلية لم يكن فيه حوادث فإن الحوادث لا تحدث عن علة تامة أزلية وهذا خلاف المحسوس وسواء إن تلك العلة التامة ذات مجردة عن الصفات كما يقوله نفاة الصفات من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله أو قيل إنه ذات موصوفة بالصفات لكنها مستلزمة لمعلولها فإنه باطل أيضا

وإن فسر الموجب بالذات بأنه يوجب بمشيئته وقدرته كل واحد واحد من المخلوقات في الوقت الذي أحدثه فيه فهذا دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل ومذهب أهل السنة فإذا قالوا إنه بمشيئته وقدرته يوجب أفعال العباد وغيرها من الحوادث فهو موافق لهذا المعنى لا للمعنى الذي قالته الدهرية

الوجه السادس أن يقال ما ذكرته أنت من الحجة العقلية وهو استناد أفعالنا الاختيارية إلينا ووقوعها بحسب اختيارنا معارض بما ليس من أفعالنا مثل الألوان فإن الإنسان يحصل اللون الذي يريد حصوله في الثوب بحسب اختياره وهو مستند إلى طبيعته وصنعته ومع هذا فليس اللون مفعولا له وأيضا فما ينبت من الزرع والشجر قد يحصل بحسب اختياره وهو مستند إلى ازراعه وليس الإنبات من فعله فليس كل ما استند إلى العبد ووقع بحسب اختياره كان مفعولا له وهذه المعارضة أصح من تلك فإنها معارضة عقلية بنفس ألفاظ الدليل وتلك ليست معارضة عقلية ولا هي بنفس ألفاظ الدليل

الوجه السابع أن يقال هذا الإمامي وأمثاله متناقضون فإنه قد ذكر في غير هذا الموضع أنه مع الداعي والقدرة يجب الفعل وهنا قال إنه مع الداعي والقدرة لا يجب الفعل فعلم أن القوم يتكلمون بحسب ما يرونه ناصرا لقولهم لا يعتمدون على حق يعلمونه ولا يعرفون حقا يقصدون نصره

فصل

وأما قوله أي شركة هنا

فيقال إذا كانت الحوادث حادثة بغير فعل الله ولا قدرته فهذه مشاركة لله صريحة ولهذا شبه هؤلاء بالمجوس الذين يجعلون فاعل الشر غير فاعل الخير فيجعلون لله شريكا آخر وما ذكره من التمثيل بالسلطان يقرر المشاركة فإن نواب السلطان شركاء له في ملكه وهو محتاج إليهم ليس هو خالقهم ولا ربهم بل ولا خالق قدرتهم بل هم معاونون له على تدبير الملك بأمور خارجة عن قدرته ولولا ذلك لكان عاجزا عن الملك

فمن جعل أفعال العباد مع الله بمنزلة أفعال نواب السلطان معه فهذا صريح الشرك الذي لم يكن يرتضيه عباد الأصنام لأنه شرك في الربوبية لا في الألوهية فإن عباد الأصنام كانوا يعترفون بأنها مملوكة لله فيقولون لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه ملك

وهؤلاء يجعلون ما يملكه العبد من أفعاله ملكا لله ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقص تكذيبه توحيده

وقول القدرية يتضمن الإشراك والتعطيل فإنه يتضمن إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل ويتضمن إثبات فاعل مستقل غير الله

وهاتان شعبتان من شعب الكفر فإن أصل كل كفر التعطيل أو الشرك وبيان ذلك أنهم يقولون إن الإنسان صار مريدا فاعلا بإرادته بعد أن لم يكن كذلك بدون محدث أحدث ذلك فإنه لم يكن مريدا للفعل ولا فاعلا له ثم صار مريدا للفعل فاعلا له

وهذا الأمر حادث بعد أن لم يكن وهو عندهم حادث بلا إحداث أحد وهذا أصل التعطيل فمن جوز أن يحدث حادث بلا إحداث أحد وأن يترجح وجود الممكن على عدمه بلا مرجح وأن يتخصص أحد المتماثلين بلا مخصص كان هذا تعطيلا لجنس الحوادث والممكنات أن يكون لها فاعل والله فاعلها بلا شك فهو تعطيل له أن يكون خالقا لمخلوقاته

وأما الشرك فلأنهم يقولون العبد مستقل بإحداث هذا الفعل من غير أن يكون الله جعله محدثا له كأعوان الملوك الذين يفعلون أفعالا بدون أن يكون الملوك جعلتهم فاعلين لها وهذا إثبات شركاء مع الله يخلقون كبعض مخلوقاته

وهذان المحذوران التعطيل والإشراك في الربوبية لازمان لكل من أثبت فاعلا مستقلا غير الله كالفلاسفة الذين يقولون إن الفلك يتحرك حركة اختيارية بسببها تحدث الحوادث من غير أن يكون قد حدث من جهة الله ما يوجب حركته ولا كان فوقه متجدد يقتضي حركته وذلك لأن حركة الفلك حينئذ باختياره تكون كحركة الإنسان باختياره

فيقال مصير الفلك متحركا باختياره وقدرته أمر ممكن لا واجب بنفسه فلا بد له من مرجح تام وما من وقت إلا وهو يتحرك فيه باختياره وقدرته فلا بد لكونه متحركا من أمر أوجب ذلك وإلا لزم حدوث الحوادث بلا محدث

فإن قيل الموجب بذاته هو المرجح أو الفاعل سواء كان بواسطة أو بلا واسطة وهي ما صدر عنه من العقل أو العقول

قيل هذا باطل لأن الموجب بذاته على حال واحدة عندهم من الأزل إلى الأبد فيمتنع أن يصدر عنه حادث بعد أن لم يكن ذلك الحادث صادرا عنه وكل جزء من أجزاء الحركة حادث بعد أن لم يكن فيمتنع أن يكون ذلك الحادث ثابتا في الأزل فامتنع أن يكون فاعله علة تامة في الأزل فعلم امتناع صدور هذه الحوادث عن علة تامة في الأزل

وأيضا فمرجح الحوادث إن كان مرجحا تاما في الأزل لزمه المفعول ولم يحدث عنه بعد ذلك شيء وإن لم يكن مرجحا تاما في الأزل فقد صار مرجحا بعد أن لم يكن ويمتنع أن يكون غيره جعله مرجحا فيكون المرجح له ما يقوم به من إرادته ونحو ذلك وتلك الأمور لم تكن مرجحا تاما في الأزل وإلا لبطلت الحوادث فامتنع أن يكون صدر عن المرجح في الأزل شيء مقارن له فامتنع قدم الفلك

وأيضا صار مرجحا لما يرجحه بعد أن لم يكن كذلك فوجب إضافة الحوادث إليه لوجوب إضافة الحوادث إلى المرجح التام فثبت أن فوق الأفلاك مؤثرا يتجدد تأثيره وهو المطلوب

وهؤلاء إذا لم يثبتوا ذلك كانوا معطلين لحركة الفلك والحوادث أن يكون لها فاعل وهذا التعطيل أعظم من تعطيل أفعال العباد أن يكون لها محدث

وأيضا فقد جعلوا الفلك يفعل بطريق الاستقلال كما جعلت القدرية الحيوان يفعل بطريق الاستقلال من غير أن يخلق الله له عند كل حركة قدرة مقارنة للحركة لأن الفلك عندهم تحدث عنه الثانية بعد الأولى فشرط الثانية انقضاء الأولى كالذي يقطع مسافة شيئا بعد شيء ولكن ذاك الذي يقطع المسافة إنما قطع الثانية بقدرة وإرادة قامت به وحركات قطع بها الثانية فالفاعل تجددد له من الإرادة والقوة ما قطع به المسافة الثانية فكان يجب أن يتجدد للفلك في كل وقت من الإرادة والقدرة ما يتحرك به لكن المجدد له ذلك لا بد أن يكون غيره لأنه ممكن لا واجب فالحوادث فيه لا يجوز أن تكون منه لأنه إن أحدث الثاني بعد الأول لزم أن يكون المؤثر التام موجودا عند الثاني وإن كان حصل له كمال التأثير في الثاني بعد انقضاء الأول فلا بد لذلك الكمال من فاعل وهؤلاء يجوزون أن يكون فاعله ما تقدم فوجب أن يكون له في كل حال من الأحوال فاعل يحدث ما به يتحرك وهذا بخلاف الواجب بنفسه فإن ما يقوم به من الأفعال لا يجوز أن يصدر عن غيره

وشرك هؤلاء المتفلسفة وتعطيلهم أعظم بكثير من شرك القدرية وتعطيلهم فإن هؤلاء يجعلون الفلك هوالمحدث للحوادث التي في الأرض كلها فلم يجعلوا لله شيئا أحدثه بخلاف القدرية فإنهم أخرجوا عن إحداثه أفعال الحيوان وما تولد عنها فقد لزمهم التعطيل من إثبات حوادث بلا محدث وتعطيل الرب عن إحداث شيء من الحوادث وإثبات شريك فعل جميع الحوادث ومن العجب أنهم ينكرون علىالقدرية وغيرهم قولهم إن الرب ما زال عاطلا عن الفعل حتى أحدث العالم وهم يقولون ما زال ولا يزال معطلا عن الإحداث بل عن الفعل فإن ما لزم الذات فهو من باب الصفات بمنزلة لون الإنسان وطوله فإنه ذاته كالعقل والفلك ليس هو في الحقيقة فعلا له إذ الفعل لا يفعل إلا شيئا بعد شيء فأما ما لزم يمتنع أن يكون فعلا له بخلاف حركاته فإنها فعل له وإن قدر أنه لم يزل متحركا كما يقال في نفس الإنسان إنها لم تزل تتحول من حال إلى حال وإن القلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا فكون الفاعل الذي هو في نفسه يقوم به فعله يحدث شيئا بعد شيء معقول بخلاف ما لزمه لازم يقارنه في الأزل فهذا لا يعقل أن يكون مفعولا له

فتبين أنهم في الحقيقة لا يثبتون للرب فعلا أصلا فهم معطلة حقا وأرسطو وأتباعه إنما أثبتوا العلة الأولى من جهة كونها علة غائية كحركة الفلك فإن حركة الفلك عندهم بالاختيار كحركة الإنسان والحركة الاختيارية لا بد لها من مراد فيكون هو مطلوبها

ومعنى ذلك عندهم أن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى كحركة المؤتم بإمامه والمقتدي بقدوته وهذا معنى تشبيهه بحركة المعشوق للعاشق ليس المعنى أن ذات الله محركة للفلك إنما مرادهم أن مراد الفلك أن يكون مثله بحسب الإمكان وهذا باطل من وجوه لبسطها موضع آخر

فقالوا إن العلة الأولى وهي التي يتحرك الفلك لأجلها علة له تحركه كما تحرك العاشق للمعشوق بمنزلة الرجل الذي اشتهى طعاما فمد يده أحيه او رآى من يحبه فسعى إليه فذاك المحبوب هوالمحرك لكون المتحرك إليه لا لكونه أبدع الحركة ولا فعلها وحينئذ فلا يكون قد أثبتوا لحركة الفلك محدثا أحدثها غير الفلك كما لم تثبت القدرية لأفعال الحيوان محدثا أحدثها غير الحيوان ولهذا كان الفلك عندهم حيوانا كبيرا بل يقولون إن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى لأن العلة الأولى معبودة له محبوبة له

ولهذا قالوا إن الفلسفة هي التشبه بالإله على حسب الطاقة ففي الحقيقة ليس عندهم الرب إلا إلها للعالم ولا ربا للعالمين بل غاية ما يثبتونه أنه يكون شرطا في وجود العالم وأن كمال المخلوق في أن يكون متشبها به فهذا هو الألوهية عندهم وذلك هوالربوبية ولهذا كان قولهم شرا من قول اليهود والنصارى وهم أبعد عن المعقول والمنقول منهم كما قد بسط في غير هذا الموضع فتبين أن هؤلاء المتفلسفة قدرية في جميع حوادث العالم وأنهم من أضل بني آدم ولهذا يضيفون الحوادث إلى الطبائع التي في الأجسام فإنها بمنزلة القوى التي في الحيوان فيجعلون كل محدث فاعلا مستقلا كالحيوان عند القدرية ولا يثبتون محدثا للحوادث

وحقيقة قول القوم الجحود لكون الله رب العالمين فلا يثبتون أن يكون الله رب العالمين بل غايتهم أن يجعلوه شرطا في وجود العالم وفي التحقيق هم معطلة لكون الله رب العالمين كقول من قال أن الفلك واجب الوجود بنفسه منهم

لكن هؤلاء أثبتوا علة إما غائية عند قدمائهم وإما فاعلية عند متأخريهم وعند التحقيق لا حقيقة لما أثبتوه ولهذا أنكره الطبائعيون منهم

وإذا قدر أن الفلك يتحرك باختياره من غير أن يكون الله خالقا لحركته فلا دليل على أن المحرك له علة معشوقة يتشبه بها بل يجوز أن يكون المتحرك هو المحرك كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وتبين الكلام على بطلان ما ذكره أرسطو في العلم الإلهي من وجوه متعددة وأن هؤلاء من أجهل الناس بالله عز وجل

من دخل في أهل الملل منهم كالمنتسبين إلى الإسلام كالفارابي وابن سينا ونحوهما من ملاحدة المسلمين وموسى بن ميمون ونحوه من ملاحدة اليهود ومتى ويحيى بن عدي ونحوهما من ملاحدة النصارى فهم مع كونهم من ملاحدة أهل الملل فهم أصح عقلا ونظرا في العلم الإلهي من المشائين كأرسطو وأتباعه وإن كان لأولئك من تفصيل الأمور الطبيعية والرياضية أمور كثيرة سبقوا هؤلاء إليها

فالمقصود هنا أن الأمور الإلهية أولئك أجهل بها وأضل فيها فإن هؤلاء حصل لهم نوع ما من نور أهل الملل وعقولهم وهداهم فصاروا به أقل ظلمة من أولئك ولهذا عدل ابن سينا عن طريقة سلفه في إثبات العلة الأولى وسلك الطريقة المعروفة له في تقسيم الوجود إلى واجب وممكن وأن الممكن مستلزم للواجب وهذه الطريقة هي المعروفة له ولمن اتبعه كالسهروردي المقتول ونحوه من الفلاسفة وأبي حامد والرازي والآمدي وغيرهم من متأخري أهل الكلام الذين خلطوا الفلسفة بالكلام

وهؤلاء المتكلمون المتأخرون الذين خلطوا الفلسفة بالكلام كثر اضطرابهم وشكوكهم وحيرتهم بحسب ما ازدادوا به من ظلمة هؤلاء المتفلسفة الذين خلطوا الفلسفة بالكلام فأولئك قلت ظلمتهم بما دخلوا فيه من كلام أهل الملل وهؤلاء كثرت ظلمتهم بما دخلوا فيه من كلام أولئك المتفلسفة

هذا مع أن في المتكلمين من أهل الملل من الاضطراب والشك في أشياء والخروج عن الحق في مواضع واتباع الأهواء في مواضع والتقصير في الحق في مواضع ما ذمهم لأجله علماء الملة وأئمة الدين فإنهم قصروا في معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه فعدلوا عنها إلى طرق أخرى مبتدعة فيها من الباطل ما لأجله خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم وبين غيرهم ودخلوا في بعض الباطل المبتدع وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربه

وهذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين قال الله عنهم ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله سورة لقمان 25 وقال تعالى قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله الآيات سورة المؤمنون 86 8وقال عنهم ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون سورة يوسف 106 قال طائفة من السلف يقول لهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره

وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية بأن يعبد الله وحده لا يشركون به شيئا فيكون الدين كله لله ولا يخاف إلا الله ولا يدعى إلا الله ويكون الله أحب إلى العبد من كل شيء فيحبون لله ويبغضون لله ويعبدون الله ويتوكلون عليه

والعبادة تجمع غاية الحب وغاية الذل فيحبون الله بأكمل محبة ويذلون له أكمل ذل ولا يعدلون به ولا يجعلون له أندادا ولا يتخذون من دونه أولياء ولا شفعاء

كما قد بين القرآن هذا التوحيد في غير موضع وهو قطب رحى القرآن الذي يدور عليه القرآن وهو يتضمن التوحيد في العلم والقول والتوحيد في الإرادة والعمل

فالأول كما في قوله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص ولهذا كانت هذه السورة تعدل ثلث القرآن لأنها صفة الرحمن

والقرآن ثلثه توحيد وثلثه قصص وثلثه أمر ونهي لأنه كلام الله والكلام إما إنشاء وإما إخبار والإخبار إما عن الخالق وإما عن

المخلوق فصار ثلاثة أجزاء جزء أمر ونهي وإباحة وهو الإنشاء وجزء إخبار عن المخلوقين وجزء إخبار عن الخالق فقل هو الله أحد صفة الرحمن محضا

وقد بسطنا الكلام على تحقيق قول النبي أنها تعدل ثلث القرآن في مجلد وفي تفسيرها في مجلد آخر

وأما التوحيد في العبادة والإرادة والعمل فكما في سورة قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين الكافرون فالتوحيد الأول يتضمن إثبات نعوت الكمال لله بإثبات أسمائه الحسنى وما تتضمنه من صفاته والثاني يتضمن إخلاص الدين له كما قال وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين سورة البينة 5 فالأول براءة من التعطيل والثاني براءة من الشرك وأصل الشرك إما التعطيل مثل تعطيل فرعون موسى والذي حاج إبراهيم في ربه خصم إبراهيم والدجال مسيح الضلال خصم مسيح الهدى عيسى بن مريم وإما الإشراك وهو كثير في الامم أكثر من التعطيل وأهله خصوم جمهور الأنبياء وفي خصوم إبراهيم ومحمد معطلة ومشركة لكن التعطيل المحض للذات قليل وأما الكثير فهو تعطيل صفات الكمال وهو مستلزم لتعطيل الذات فإنهم يصفون واجب الوجود بما يوجب أن يكون ممتنع الوجود ثم إنه كل من كان إلى الرسول وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أقرب كان أقرب إلى كمال التوحيد والإيمان والعقل والعرفان وكل من كان عنهم أبعد كان عن ذلك أبعد فمتأخرو متكلمة الإثبات الذين خلطوا الكلام بالفلسفة كالرازي والآمدي ونحوهما هم دون أبي المعالي الجويني وأمثاله في تقرير التوحيد وإثبات صفات الكمال وأبو المعالي وأمثاله دون القاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله في ذلك وهؤلاء دون أبي الحسن والأشعري في ذلك والأشعري في ذلك دون أبي محمد بن كلاب وابن كلاب دون السلف والأئمة في ذلك

ومتكلمة أهل الإثبات الذين يقرون بالقدر هم خير في التوحيد وإثبات صفات الكمال من القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم لأن أهل الإثبات يثبتون لله كمال القدرة وكمال المشيئة وكمال الخلق وأنه منفرد بذلك فيقولون إنه وحده خالق كل شيء من الأعيان والأعراض ولهذا جعلوا أخص صفة الرب القدرة على الاختراع والتحقيق أن القدرة على الاختراع من جملة خصائصه ليست هي وحدها أخص صفاته

وأولئك يخرجون أفعال الحيوان عن أن تكون مخلوقة له وحقيقة قولهم تعطيل هذه الحوادث عن خالق لها وإثبات شركاء لله يفعلونها وكثير من متأخرة القدرية يقولون إن العباد خالقون لها ولم يكن سلفهم يجترئون على ذلك

وأيضا فمتكلمة أهل الإثبات يثبتون لله صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر

وهؤلاء يثبتون ذلك لكن قصروا في بعض صفات الكمال وقصروا في التوحيد فظنوا أن كمال التوحيد هو توحيد الربوبية ولم يصعدوا إلى توحيد الإلهية الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وذلك أن كثيرا من كلامهم أخذوه من كلام المعتزلة والمعتزلة مقصرون في هذا الباب فإنهم لم يوفوا توحيد الربوبية حقه فكيف بتوحيد الإلهية

ومع هذا فأئمة المعتزلة وشيوخهم وأئمة الأشعرية والكرامية ونحوهم خير في تقرير توحيد الربوبية من متفلسفة الأشعرية كالرازي والآمدي وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء خلطوا ذلك بتوحيد الفلاسفة كابن سينا وأمثاله وهو أبعد الكلام عن التحقيق في التوحيد وإن كان خيرا من كلام قدمائهم أرسطو وذويه

وذلك أن غايتهم أنهم أثبتوا واجب الوجود وهذا حق لم ينازع فيه لا معطل ولا مشرك بل الناس متفقون على إثبات وجود واجب اللهم إلا ما يحكى عن بعض الناس قال إن هذا العالم حدث بنفسه وكثير من الناس يقولون إن هذا لم تقله طائفة معروفة وإنما يقدر تقديرا كما تقدر الشبه السوفسطائية ليبحث عنها وهذا مما يخطر في قلوب بعض الناس كما يخطر أمثاله من السفطسة لا أنه قول معروف لطائفة معروفة يذبون عنه فإن ظهور فساده أبين من أن يحتاج إلى دليل إذ حدوث الحوادث بلا محدث من أظهر الأمور امتناعا والعلم بذلك من أبين العلوم الضرورية

ثم إنهم لما قرروا واجبا بذاته أرادوا أن يجعلوه واحدا وحده لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وهو وجود مطلق بشرط الإطلاق ليس له حقيقة في الخارج لأن الوجود المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان أو مقيدا بالسلوب والإضافات كما يقوله ابن سينا وأتباعه وهذا أدخل في التعطيل من الأول

وزعمو أن هذا هو محض التوحيد مضاهاة للمعتزلة الذين شاركوهم في نفي الصفات وسموا ذلك توحيدا فصاروا يتباهون في التعطيل الذي سموه توحيدا أيهم فيه أحذق حتى فروعهم تباهوا بذلك كتباهيهم كابن سبعين وأمثاله من أتباع الفلاسفة وابن التومرت وأمثاله من أتباع الجهمية فهذا يقول بالوجود المطلق وهذا يقول بالوجود المطلق وأتباع كل منهما يباهون أتباع الآخرين في الحذق في هذا التعطيل

كما قد اجتمع بي طوائف من هؤلاء وخاطبتهم في ذلك وصنفت لهم مصنفات في كشف أسرارهم ومعرفة توحيدهم وبيان فساده فإنهم يظنون أن الناس لا يفهمون كلامهم فقالوا لي إن لم تبين وتكشف لنا حقيقة هذا الكلام الذي قالوه ثم تبين فساده وإلا لم نقبل ما يقال من رده فكشفت لهم حقائق مقاصدهم فاعترفوا بأن ذلك هو المراد ووافقهم على ذلك رؤوسهم ثم بينت ما في ذلك من الفساد والإلحاد حتى رجعوا وصاروا يصنفون في كشف باطل سلفهم الملحدين الذين كانوا عندهم أئمة التحقيق والتوحيد والعرفان واليقين

وعمدة هؤلاء الفلاسفة في توحيدهم الذين هو تعطيل محض في الحقيقة حجتان

إحداهما أنه لو كان واجبان لاشتركا في الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم أن يكون واجب الوجود مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه

والثانية أنهما إذا اتفقا في الوجوب وامتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه لزم أن يكون المشترك معلولا للمختص كما إذا اشترك اثنان في الإنسانية وامتاز كل منهما عن الآخر بشخصه فالمشترك معلول للمختص وهذا باطل هنا وذلك لأن كلا من المشترك والمختص إن كان أحدهما عارضا للآخر لزم أن يكون الوجوب عارضا للواجب أو معروضا له وعلى التقديرين فلا يكون الوجوب صفة لازمة للواجب وهذا محال لأن الواجب لا يمكن أن يكون غير واجب

وإن كان أحدهما لازما للآخر لم يجز أن يكون المشترك علة للمختص لأنه حيث وجدت العلة وجد المعلول فيلزم أنه حيث وجد المشترك وجد المختص والمشترك في هذا وهذا فيلزم أن يكون ما يختص بهذا في هذا وما يختص بهذا في هذا وهذا محال يرفع الاختصاص

وهذا ملخص ما ذكره ابن سينا في إشاراته هو وشارحو الإشارات كالرازي والطوسي وغيرهما

وهاتان الحجتان ملخص ما ذكره الفارابي والسهروردي وغيرهما من الفلاسفة وقد ذكرهما بمعناهما أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة

وقد أجاب عنهما الرازي والآمدي بمنع كون الوجوب صفة ثبوتية ونحو ذلك من الأجوبة التي نرضاها

لكن الجواب من وجهين

أحدهما المعارضة وذلك أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وكل واحد من الوجودين يمتاز عن الآخر بخاصته فيلزم أن يكون الواجب مركبا مما به الاشتراك ومما به الامتياز وأيضا فيلزم أن يكون الوجود الواجب معلولا والمعارضة أيضا بالحقيقة فإن الحقيقة تنقسم إلى واجب وممكن والواجب يمتاز عن الممكن بما يخصه فيلزم أن تكون الحقيقة الواجبة مركبة من المشترك والمختص ويلزم أن تكون الحقيقة الواجبة معلولة والمعارضة بلفظ الماهية فإنها تنقسم إلى واجب وممكن إلى آخره

والثاني حل الشبهة وذلك أن الشيئين الموجودين في الخارج سواء كانا واجبين أو ممكنين وسواء قدر التقسيم في موجودين أو جوهرين أو جسمين أو حيوانين أو إنسانين أو غير ذلك لم يشرك أحدهما الآخر في الخارج في شيء من خصائصه لا في وجوبه ولا في وجوده ولا في ماهيته ولا غير ذلك وإنما شابهه في ذلك

والمطلق الذي اشتركا فيه لا يكون كليا مشتركا فيه إلا في الذهن وهو في الخارج ليس بكلي عام مشترك فيه بل إذا قيل الواجبان إذا اشتركا في الوجوب فلا بد أن يمتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه فهو مثل أن يقال إذا اشتركا في الحقيقة فلا بد أن يمتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه فالحقيقة توجد عامة وخاصة كما أن الوجوب يوجد عاما وخاصا فالعام لا يكون عاما مشتركا فيه إلا في الذهن ولا يكون في الخارج إلا خاصا لا اشتراك فيه فما فيه الاشتراك لا امتياز فيه وما فيه الامتياز لا اشتراك فيه فلم يبق في الخارج شيء واحد فيه مشترك ومميز لكن فيه وصف يشابه الآخر فيه ووصف لا يشابهه فيه

وغلط هؤلاء في هذه الإلهيات من جنس غلطهم في المنطق في الكليات الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام حيث توهموا أنه يكون في الخارج كلي مشترك فيه

وقد قدمنا التنبيه على هذا وبينا أن الكلي المشترك فيه لا يوجد في الخارج إلا مختصا لا اشتراك فيه والاشتراك والعموم والكلية إنما تعرض له إذا كان ذهنيا لا خارجيا

وهم قسموا الكلي ثلاثة أقسام طبيعي ومنطقي وعقلي

فالطبيعي هو المطلق لا بشرط كالإنسان من حيث هو هو مع قطع النظر عن جميع قيوده

والمنطقي كونه عاما وخاصا وكليا وجزئيا فنفس وصفه بذلك منطقي لأن المنطق يبحث في القضايا من جهة كونها كلية وجزئية

والعقلي هو مجموع الأمرين وهو الإنسان الموصوف بكونه عاما ومطلقا وهذا لا يوجد إلا في الذهن عندهم إلا ما يحكى عن شيعة أفلاطون من إثبات المثل الأفلاطونية ولا ريب في بطلان هذا فإن الخارج لا يوجد فيه عام

وأما المنطقي فهو كذلك في الذهن

وأما الطبيعي فقد يقولون إنه ثابت في الخارج فإذا قلنا هذا الإنسان ففيه الإنسان من حيث هو هو لكن يقال هو ثابت في الخارج لكن بقيد التعيين والتخصيص لا بقيد الإطلاق ولا مطلقا لا بشرط فليس في الخارج مطلق لا بشرط ولا مطلق بشرط الإطلاق بل إنما فيه المعين المخصص فالذي يقدره الذهن مطلقا لا بشرط التقييد يوجد في الخارج بشرط التقييد

وهؤلاء اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا من غلط المنطقيين ما هو سبب الضلال في الأمور الإلهية والطبيعية كاعتقاد الأمور العقلية التي لا تكون إلا في العقل أمورا موجودة في الخارج وغير ذلك مما ليس هذا موضع بسطه

وهؤلاء المنطقيون الإلهيون منهم وغيرهم يقولون أيضا إن الكليات لا تكون إلا في الأذهان لا في الأعيان فيوجد من كلامهم في مواضع ما يظهر به خطأ كلامهم في مواضع فإن الله فطر عباده على الصحة والسلامة وفساد الفطرة عارض فقل من يوجد له كلام فاسد إلا وفي كلامه ما يبين فساد كلامه الأول ويظهر به تناقضه

والمقصود هنا التنبيه على توحيد هؤلاء الفلاسفة وهؤلاء أصابهم في لفظ الواجب ما أصاب المعتزلة في لفظ القديم فقالوا الواجب لا يكون إلا واحدا فلا يكون له صفة ثبوتية كما قال أولئك لا يكون القديم إلا واحدا فلا يكون له صفة ثبوتية

وبهذا وغيره ظهر الزلل في كلام متأخري المتكلمين الذين خلطوا الكلام بالفلسفة كما ظهر أيضا الغلط في كلام من خلط التصوف بالفلسفة كصاحب مشكاة الأنوار والكتب المضنون بها على غير أهلها وأمثال ذلك مما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع

حتى أن هؤلاء المتأخرين لم يهتدوا إلى تقرير متقدميهم لدليل التوحيد وهو دليل التمانع واستشكلوه وأولئك ظنوا أن هذا الدليل هو الدليل المذكور في القرآن في قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا

وليس الأمر كذلك بل أولئك قصروا في معرفة ما في القرآن وهؤلاء قصروا في معرفة كلام أولئك المقصرين فلما قصروا في معرفة ما جاء به الرسول عدلوا إلى ما أورثهم الشك والحيرة والضلال وهذا مبسوط في غير هذا الموضع لكن ننبه عليه هنا

وذلك أن دليل التمانع المشهور عند المتكلمين أنه لو كان للعالم صانعان لكان أحدهما إذا أراد أمرا وأراد الآخر خلافه مثل أن يريد أحدهما إطلاع الشمس من مشرقها ويريد الآخر إطلاعها من مغربها أو من جهة أخرى امتنع أن يحصل مرادهما لأن ذلك جمع بين الضدين فيلزم إما أن لا يحصل مراد واحد منهما فلا يكون واحد منهما ربا وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيكون الذي حصل مراده هو الرب دون الآخر

وقد يقرر ذلك بأن يقال إذا أراد مالا يخلو المحل عنهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم ويريد الآخر تسكينه امتنع حصول مرادهما وامتنع عدم مرادهما جميعا لأن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون فتعين أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيكون هو الرب

وعلى هذا سؤال مشهور وهو أنه يجوز أن تتفق الإرادتان فلا يفضي إلى الاختلاف وقد أجاب كثير من المتأخرين عن ذلك بوجوه عارضهم فيها غيرهم كما قد بسط في موضعه ولم يهتد هؤلاء إلى تقرير القدماء كالأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري والقاضي أبي يعلى وغيرهم فإن هؤلاء علموا أن وجوب اتفاقهما في الإرادة يستلزم عجز كل منهما كما أن تمانعهما يستلزم عجز كل منهما فمنهم من أعرض عن ذكر هذا التقرير لأن مقصوده أن يبين أن فرض اثنين يقتضي عجز كل منهما فإذا قيل إن أحدهما لا يمكنه مخالفة الآخر كان ذلك أظهر في عجزه

ومنهم من بين ذلك كما بينوا أيضا امتناع استقلال كل منهما وذلك أنه يقال إذا فرض ربان فإما أن يكون كل منهما قادرا بنفسه أو لا يكون قادرا إلا بالآخر

فإن لم يكن قادرا إلا بالآخر كان هذا ممتنعا لذاته مقتضيا للدور في العلل والفاعلين فإنه يستلزم أن يكون كل منهما جعل الآخر قادرا ولا يكون أحدهما فاعلا حتى يكون الآخر قادرا فإذا كان كل منهما جعل الآخر قادرا فقد جعله فاعلا ولا يكون كل منهما جعل الآخر ربا لأن الرب لا بد أن يكون قادرا فيكون هذا جعل هذا قادرا فاعلا ربا وكذلك الآخر وهذا ممتنع في الربين الواجبين بأنفسهما القديمين لأن هذا لا يكون قادرا ربا فاعلا حتى يجعله الآخر كذلك وكذلك الآخر فهو بمنزلة أن يقال لا يكون هذا موجودا حتى يجعله الآخر موجودا

وهذا ممتنع بالضرورة كما تقدم فيما قبل بالإشارة إلى ذلك وهو أن الدور القبلي ممتنع لذاته باتفاق العقلاء كالدور في الفاعلين والعلل فيمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر وفاعلا له أو جزءا من العلة والفاعل فإذا كان كل منهما لا يكون قادرا أو فاعلا إلا بالآخر لزم أن يكون كل منهما علة فاعلة أو علة لتمام ما به يصير الآخر قادرا فاعلا وذلك ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء فلزم أن الرب لا بد أن يكون قادرا بنفسه وإذا كان قادرا بنفسه فإن أمكنه إرادة خلاف ما يريد الآخر أمكن اختلافهما وإن لم يمكنه أن يريد إلا ما يريده الآخر لزم لعجز

فإذا فرض أن هذا لا يمكنه أن يريد ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعل لزم عجز كل منهما بل هذا أيضا ممتنع لنفسه كما أنه إذا كان هذا لا يقدر حتى يقدر هذا كان ذلك ممتنعا لذاته فإذا كان هذا لا يكون ممكنا إلا بتمكين الآخر فهو بمنزلة أن يقال لا يكون قادرا إلا بإقدار الآخر

وأيضا فإنه في هذا التقدير يكون المانع لكل منهما من الانفراد هو الآخر فيكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا لا يكون مانعا إلا إذا كان قادرا على المنع ومن كان قادرا على منع غيره من الفعل فقدرته على أن يكون فاعلا أولى فصار كل منهما لا يكون فاعلا حتى يكون قادرا على الفعل وإذا كان قادرا على الفعل امتنع أن يكون ممنوعا منه فامتنع كون كل واحد منهما مانعا ممنوعا وذلك لازم لوجوب اتفاقهما علىالفعل فعلم امتناع وجوب اتفاقهما على الفعل وثبت إمكان اختلافهما فمتى فرض لزوم اتفاقهما كان ذلك ممتنعا لذاته وإنما يمكن هذا في المخلوقين لأن القدرة لهم مستفادة من غيرهما


منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57