منهاج السنة النبوية/14

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فصل

وأما قوله

ولم يلتفوا إلى القول بالرأي والاجتهاد وحرموا الأخذ بالقياس والاستحسان

فالكلام على هذا من وجوه

أحدهما

أن الشيعة في هذا مثل غيرهم ففي أهل السنة في الرأي والاجتهاد والقياس والاستحسان كما في الشيعة النزاع في ذلك فالزيدية تقول بذلك وتروى فيه الروايات عن الأئمة

الثاني

أن كثيرا من أهل السنة العامة والخاصة لا تقول بالقياس فليس كل من قال بإمامة الخلفاء الثلاثة قال بالقياس بل المعتزلة البغداديون لا يقولون بالقياس والفقهاء أهل الظاهر كداود بن علي وأتباعه وطائفة من أهل البيت والصوفية لا يقولون بالقياس

وحينئذ فإن كان القياس باطلا أمكن الدخول في السنة وترك القياس وإن كان حقا أمكن الدخول في أهل السنة والأخذ بالقياس

الثالث

أن يقال القول بالرأي والاجتهاد والقياس والاستحسان خير من الأخذ بما ينقله من يعرف بكثرة الكذب عمن يصيب ويخطئ نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم ولا يشك عاقل أن رجوع مثل مالك وابن أبي ذئب وابن الماجشون والليث بن سعد والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وشريك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر والحسن بن زياد اللؤلؤي والشافعي والبويطي والمزني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي داود السجستاني والأثرم وإبراهيم الحربي والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وأبي بكر بن خزيمة ومحمد بن جرير الطبري ومحمد بن نصر المروزي وغير هؤلاء إلى إجتهادهم واعتبارهم مثل أن يعلموا سنة النبي الثابتة عنه ويجتهدوا في تحقيق مناط الأحكام وتنقيحها وتخريجها خير لهم من أن يتمسكوا بنقل الروافض عن العسكريين وأمثالهما فإن الواحد من هؤلاء لأعلم بدين الله ورسوله من العسكريين أنفسهما فلو أفتاه أحدهما بفتيا كان رجوعه إلى اجتهاده أولى من رجوعه إلى فتيا أحدهما بل ذلك هو الواجب عليه فكيف إذا كان ذلك نقلا عنهما من مثل الرافضة

والواجب على مثل العسكريين وأمثالهما أن يتعلموا من الواحد من هؤلاء

ومن المعلوم أن علي بن الحسين وأبا جعفر محمد بن علي وابنه جعفر بن محمد كانوا هم العلماء الفضلاء وأن من بعدهم من الإثنى عشر لم يعرف عنه من العلم ما عرف من هؤلاء ومع هذا فكانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم حتى قال أبو عمران بن الأسيب القاضي البغدادي أخبرنا أصحابنا أنه ذكر ربيعة بن أبي عبدالرحمن جعفر بن محمد وأنه تعلم العلوم فقال ربيعة إنه اشترى حائطا من حيطان المدينة فبعث إلي حتى أكتب له شرطا في ابتياعه نقله عنه محمد بن حاتم بن ريحويه البخاري في كتاب إثبات إمامة الصديق

فأما تحقيق المناط فهو متفق عليه بين المسلمين وهو أن ينص الله على تعليق الحكم بمعنى عام كلي فينظر في ثبوته في آحاد الصور أو أنواع ذلك العام كما نص على اعتبار العدالة وعلى استقبال الكعبة وعلى تحريم الخمر والميسر وعلى حكم اليمين وعلى تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك فينظر في الشراب المتنازع فيه هل هو من الخمر أم لا كالنبيذ المسكر وفي اللعب المتنازع فيه كالنرد والشطرنج هل هو من الميسر أم لا وفي اليمين المتنازع فيها كالحلف بالحج وصدقة المال والعتق والطلاق والحرام والظهار هل هي داخلة في الأيمان فتكفر أم في العقود المحلوف بها فيلزم ما حلف به أم لا يدخل لا في هذا ولا في هذا فلا يلزمه شيء بحال كما ينظر فيما وقعت فيه دم أو ميتة أو لحم خنزير من الماء والمائعات ولم يتغير لونه ولا طعمه بل استهلت النجاسات فيه واستحالت أو رفعت منه واستحال فيه ما خالطه من أجزائها فينظر في ذلك هل يدخل في مسمى الماء المذكور في القرآن والسنة أو في مسمى الميتة والدم ولحم الخنزير

وأما تنقيح المناط وتخريجه ففيهما نزاع وهذا الإمامي لم يذكر أصلا حجة على بطلان الاجتهاد والرأي والقياس ليرد ذلك بل ذكر أن طائفته لا تقول بذلك وهذ يدل على جهلهم بالإستنباط والإستخراج وعدم معرفتهم بما في الشريعة من الحكم والمعاني وعدم معرفتهم بالجمع بي المتماثلين والفرق بين المختلفين وهم بمعاني القرآن وأحاديث الرسول جهال أيضا فهم جهال بأصول الشرع الكتاب والسنة والإجماع بمنصوص ذلك ومستنبطه

وإنما عمدتهم على نقل عمن يقلدونه وهذا حال الجهال المقلدين لآحاد العلماء المستدلين ثم من سواهم ممن يقلد العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم له معرفة بأقوال هؤلاء وبطرق يميزون بها بين صحيح أقوالهم وضعيفها ومعرفة بأدلتهم ومآخذهم

وأما الرافضة فلا يميزون بين ما يصح نقله عن أئمتهم وما لا يصح ولا يعرفون أدلتهم ومآخذهم بل هم من أهل التقليد بما يقلدون فيه وهم يعيبون هؤلاء الجمهور بالاختلاف وفيما ينقلونه عمن يقلدونه من الاختلاف وفيما لا ينقلونه عمن يقلدونه من الاختلاف ما لا يكاد يحصى

الرابع

أن يقال لا ريب أن ما ينقله الفقهاء عن مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم هو أصح مما ينقله الروافض عن مثل العسكريين ومحمد بن علي الجواد وأمثالهم ولا ريب أن هؤلاء أعلم بدين النبي من أولئك فمن عدل عن نقل الأصدق عن الأعلم إلى نقل الأكذب عن المرجوح كان مصابا في دينه أو عقله أو كليهما

فقد تبين أن ما حكاه عن الإمامية مفضلا لهم به ليس فيه شيء من خصائصهم إلا القول بعصمة الأئمة وإنما شاركهم فيه من هو شر منهم وما سواه حقا كان أو باطلا فغيرهم من أهل السنة القائلين بخلافة الثلاثة يقول به وما اختصت به الإمامية من عصمة الأئمة فهو في غاية الفساد والبعد عن العقل والدين وهو أفسد من اعتقاد كثير من النساك في شيوخهم أنهم محفوظون وأضعف من اعتقاد كثير من قدماء الشاميين أتباع بني أمية أن الإمام تجب طاعته في كل شيء وأن الله إذا استخلف إماما تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات لأن الغلاة في الشيوخ وإن غلوا في شيخ فلا يقصرون الهدى عليه ولا يمنعون اتباع غيره ولا يكفرون من لم يقل بمشيخته ولا يقولون فيه من العصمة ما يقوله هؤلاء اللهم إلا من خرج عن الدين بالكلية فذاك في الغلاة في الشيوخ كالنصيرية والإسماعيلية والرافضة

فبكل حال الشر فيهم أكثر من غيرهم والغلو فيهم أعظم وشر غيرهم جزء من شرهم

وأما غالية الشاميين أتباع بني أمية فكانوا يقولون إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات وربما قالوا إنه لا يحاسبه ولهذا سأل الوليد بن عبدالملك عن ذلك بعض العلماء فقالوا له يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أم داود وقد قال له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب سورة ص 2وكذلك سؤال سليمان بن عبدالملك عن ذلك لأبي حازم المدني في موعظته المشهورة له فذكر له هذه الآية

ومع خطأ هؤلاء وضلالهم فكانوا يقولون ذلك في طاعة إمام منصوب قد أوجب الله طاعته في موارد الاجتهاد كما يجب طاعة والي الحرب وقاضي الحكم لا يجعلون أقواله شرعا عاما يجب على كل أحد ولا يجعلونه معصوما من الخطأ ولا يقولون إنه يعرف جميع الدين لكن غلط من غلط منهم من جهتين من جهة أنهم كانوا يطيعون الولاة طاعة مطلقة ويقولون إن الله أمرنا بطاعتهم الثانية قول من قال منهم إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات وأين خطأ هؤلاء من ضلال الرافضة القائلين بعصمة الأئمة

ثم قد تبين مع ذلك أن ما نفردوا به عن جمهور أهل السنة كله خطأ وما كان معهم من صواب فهو قول جمهور أهل السنة أو بعضهم ونحن لسنا نقول إن جميع طوائف أهل السنة مصيبون بل فيهم المصيب والمخطئ لكن صواب كل طائفة منهم أكثر من صواب الشيعة وخطأ الشيعة أكثر

وأما ما انفردت به الشيعة عن جميع طوائف السنة فكله خطأ وليس معهم صواب إلا وقد قاله بعض أهل السنة

فهذا القدر في هذا المقام يبطل به ما ادعاه من رجحان قول الإمامية فإنه بهذا القدر يتبين أن مذهب أهل السنة أرجح ولكل مقام مقال وقد يقال إن الإيمان أرجح من الكفر إذا احتيج إلى المفاضلة عند من يظن أن ذلك أرجح وكذلك يقال في الخير والشر

قال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء 125

وقال تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون سورة الجمعة 9 وقال تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم سورة النور 30 وقال لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلك خير لكم سورة النور 27 بل قد يفضل الله سبحانه نفسه على ما عبد من دونه كقوله ءآلله خير أما يشركون سورة النمل 59 وقول المؤمنين للسحرة والله خير وأبقى سورة طه 73

وكذلك قد تبين أن الكفار أكثر جرما إذا وقعت المفاضلة قال تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير سورة البقرة 217 ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل سورة البقرة 217 وهذه الآية نزلت لما عير المشركون سرية المسلمين بأنهم قتلوا رجلا في الشهر الحرام وهو ابن الحضرمي فقال الله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم بين أن ذنوب المشركين أعظم عند الله

وأما في جانب التفضيل فقال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء 123 125 وقال تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل سورة المائدة 59 60

فصل

ثم قال هذا الإمامي

أما باقي المسلمين فقد ذهبوا كل مذهب فقال بعضهم وهم جماعة الأشاعرة إن القدماء كثيرون مع الله تعالى هي المعاني يثبتونها موجودة في الخارج كالقدرة والعلم وغير ذلك فجعلوه تعالى مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم وفي كونه قادرا إلى ثبوت معنى هو القدرة وغير ذلك ولم يجعلوه قادرا لذاته ولا عالما لذاته ولا حيا لذاته بل لمعان قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولا يقولون هذه الصفات ذاتية واعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأن قال إن النصارى كفروا بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة

فيقال

الكلام على هذا من وجوه

أحدها أن هذا كذب على الأشعرية ليس فيهم من يقول إن الله ناقص بذاته كامل بغيره ولا قال الرازي ما ذكرته من الإعتراض عليهم بل هذا الإعتراض ذكره الرازي عمن اعترض به واستهجن الرازي ذكره وهو اعتراض قديم من اعتراضات نفاة الصفات حتى ذكره الإمام أحمد في الرد على الجهمية فقال قالت الجهمية لما وصفنا الله بهذه الصفات إن زعمتم أن الله لم يزل ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته

قلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل الله بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر

فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء

فقلنا نحن نقول قد كان ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته

وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمارا واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول إنه كان في وقت من الأوقات ولا يقدر حتى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق لنفسه علما والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال ذرني ومن خلقت وحيدا سورة المدثر 11 وقد كان هذا الذي سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد

وهذا الذي ذكره الإمام أحمد يتضمن أسرار هذه المسائل وبيان الفرق بين ما جاءت به الرسل من الإثبات الموافق لصريح العقل وبين ما تقوله الجهمية وبين أن صفاته داخلة في مسمى أسمائه

الثاني أن يقال هذا القول المذكور ليس هو قول الأشعري ولا جمهور موافقيه إنما هو قول مثبتى الحال منهم الذين يقولون إن العالمية حال معللة بالعلم فيجعلون العلم يوجبه حال آخر ليس هو العلم بل هو كونه عالما وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وأول قول أبي المعالي

وأما جمهور مثبتة الصفات فيقولون إن العلم هو كونه عالما ويقولون لا يكون عالما إلا بعلم ولا قادرا إلا بقدرة أي يمتنع أن يكون عالما من لا علم له وأن يكون قادرا من لا قدرة له وأن يكون حيا من لا حياة له وعندهم علمه هو كونه عالما وقدرته هو كونه قادرا وحياته هو كونه حيا وهذا في الحقيقة قول أبي الحسين البصري وغيره من حذاق المعتزلة

ولا ريب أن هذا معلوم ضرورة فإن وجود اسم الفاعل بدون مسمى المصدر ممتنع وهذا كما لو قيل مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وناطق بلا نطق

فإذا قيل لا يكون ناطق إلا بنطق ولا مصل إلا بصلاة لم يكن المراد أن هنا شيئين أحدهما الصلاة والثاني حال معلل بالصلاة بل المصلى لا بد أن يكون له صلاة

وهم أنكروا قول نفاة الصفات الذين يقولون هو حي لا حياة له وعالم لا علم له وقادر لا قدرة له

فمن قال هو حي عليم قدير بذاته وأراد بذلك أن ذاته مستلزمة لحياته وعلمه وقدرته لا يحتاج في ذلك إلى غيره فهذا قول مثبتة الصفات وإن أراد بذلك أن ذاته مجردة ليس لها حياة ولا علم ولا قدرة فهذا هو القول المنكر من أقوال نفاة الصفات

وهذا الكلام الذي قاله هذا قد سبقه إله المعتزلة وهذا اللفظ وجدته في كلام أبي الحسين البصري ومع هذا من تدبر كلام أبي الحسين وأمثاله وجده مضطرا إلى إثبات الصفات وأنه لا يمكنه أن يفرق بين قوله وبين قول المثبتين بفرق محقق فإنه يثبت كونه حيا وكونه عالما وكونه قادرا ولا يجعل هذا هو هذا ولا هذا هو هذا ولا هذه الأمور هي الذات فقد أثبت هذه المعاني الزائدة على الذات المجردة وقد بسطنا هذا في غيره هذا الموضع

الوجه الثالث

أن يقال أصل هذا القول هو قول مثبتة الصفات وهذا لا تختص به الأشعرية بل هو قول جميع طوائف المسلمين إلا الجهمية كالمعتزلة ومن وافقهم من الشيعة وقد قدمنا أن هذا القول هو قول قدماء الإمامية فإن كان خطأ فأئمة الإمامية أخطأوا وإن كان صوابا فمتأخروهم أخطأوا

الوجه الرابع

أن يقال قول القائل إنهم أثبتوا قدماء كثيرين لفظ مجمل موهم القول أنهم أثبتوا آلهة غير الله في القدم أو أثبتوا موجودات منفصلة قديمة مع الله أم أثبتوا لله صفات الكمال القائمة به كالحياة والعلم والقدرة

فإن قلت أثبتوا آلهة غير الله أو موجودات قديمة منفصلة عن الله كان هذا بهتانا عليهم والمشنع وإن لم يقصد هذا لكن لفظه فيه إبهام وإيهام

وإن قلت أثبتوا له صفات قائمة به قديمة بقدمه وهي صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة فهذا هو الحق وهل ينكر هذا إلا مخذول مسفسفط فمن أنكر هذه الصفات وقال هو حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر بلا قدرة كان قوله ظاهر البطلان وكذلك إن قال علمه هو قدرته وقدرته علمه وإن قال مع ذلك إنه هو العلم والقدرة فجعل الموصوف هو الصفة وهذه الصفة هي الأخرى كما يوجد مثل ذلك في أقوال نفاة الصفات من الفلاسفة والمعتزلة فنفس تصور قولهم على الحقيقة يبين فساده والكلام عليهم وعلى شبههم مبسوط في غير هذا الموضع

الوجه الخامس

قولك جعلوا قدماء مع الله عز وجل ليس بصواب فإن هذه المعاني ليست خارجة عن مسمى اسم الله عند مثبتة الصفات بل قد يقولون هي زائدة على الذات أي على الذات المجردة عن الصفات التي يثبتها النفاة لا على الذات المتصفة بالصفات واسم الله سبحانه يتناول الذات المتصفة بالصفات ليس هو اسما للذات المجردة حتى يقولوا نحن نثبت قدماء مع الله تعالى وكيف وهم لا يجوزون أن يقال إن الصفة غير الموصوف فكيف يقولون هي مع الله

بل طائفة من المثبتة كابن كلاب لا تقول عن الصفات وحدها إنها قديمة حتى لاتقول بتعدد القدماء لما منعت النفاة هذا الإطلاق بل تقول الله بصفاته قديم

الوجه السادس

قولك فجعلوه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم

فيقال أولا هذا إنما يقال على قول مثبتة الحال وأما قول الجمهور فعندهم كونه عالما هو العلم وبتقدير أن يقال كونه عالما مفتقرا إلى العلم الذي هو لازم لذاته ليس في هذا إثبات فقر له إلى غير

ذاته فإن ذاته مستلزمة للعلم والعلم مستلزم لكونه عالما فذاته هي الموجبة لهذا ولهذا فإذا قدر أنها أوجبت الإثنين كان أعظم من أن توجب أحدهما إذا لم يكن أحدهما نقصا ومعلوم أن العلم كمال وكونه عالما كمال فإذا أوجبت ذاته هذا وهذا كان كما لو أوجبت الحياة والقدرة

السابع

قوله جعلوه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم عبارة ملبسة فإن لفظ الإفتقار يشعر بأنه محتاج إلى من يجعله عالما يفيده العلم وهذا باطل وإنما ثبوت هذا بطريق اللزوم لذاته فذاته موجبة لعلمه ولكونه عالما ومعنى كونها موجبة لذلك أي مستلزمة له بمعنى أنه لا تكون ذاته إلا عالمة لا بمعنى أنها أبدعت العلم أو فعلته ومن أثبت المعنيين قال لا يكون عالما حتى يكون له علم وهو عالم قطعا فله علم فهو يجعل ذلك من باب الاستدلال ويستدل بكونه عالما على العلم ويقول إن ذاته أوجبت ذلك لا أنه هنا شيء غير ذاته جعلته عالما أو جعلت له علما ولو قدر أنها أوجبته بواسطة فموجب الموجب موجب كما أنها أوجبت كونه حيا وكونه عالما والعلم مشروط بالحياة فلا يقال إنه يفتقر في كونه عالما إلى غيره فإن هذه الأمور المشروط بعضها ببعض كلها من لوازم ذاته لا يفتقر ثبوتها إلى غيره

الوجه الثامن

قوله ولم يجعلوه قادرا لذاته ولا عالما لذاته بل لمعان قديمة إن أراد بذلك أنهم لا يجعلون ذاته علما وقدرة أو لا يجعلونها عالمة قادرة وليس لها علم ولا قدرة فهذا صحيح وهو عين الحق وإن أراد أنهم لا يجعلون ذاته مستلزمة لكونه عالما قادرا ولا هي الموجبة لكونه عالما قادرا فهذا كذب عليهم بل ذاته هي الموجبة لذلك كما أنها هي الموجبة لكونه عالما مع كونها موجبة لكونه حيا ولا يكون عالما حتى يكون حيا وكذلك يقول هؤلاء لا يكون عالما حتى يكون له علم

التاسع

قوله لم يجعلوه عالما لذاته ولا قادرا لذاته إن أراد أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذات مجردة عن العلم والقدرة كما يقول نفاة الصفات إنه ذات مجردة عن الصفات فهذا صحيح وهو عين الحق لأن الذات المجردة عن العلم والقدرة لا حقيقة لها في الخارج ولا هي الله ولا تستحق العبادة وإن أراد أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذاته المستلزمة للعلم والقدرة فهذا غلط عليهم بل نفس ذاته الموجبة لعلمه وقدرته هي التي أوجبت كونه عالما قادرا وأوجبت علمه وقدرته وجعلت العلم والقدرة توجب كونه عالما قادرا فإن كل هذه الأمور متلازمة وذاته المتصفة بهذه الصفات هي الموجبة لهذا كله لا تفتقر في ذلك إلى شيء مباين لها

العاشر

قوله لمعان لقديمة يفتقر في هذه الصفات إليها ليس هو قولهم فإن المعاني القديمة هي الصفات عندهم وأما الخبر عن ذلك فيقولون هو الوصف ولا ريب أنه لا يمكن وصف الموصوف بأنه عالم إلا أن يكون له علم ولكن هو سبحانه الموجب لتلك المعاني القديمة القائمة به فإذا كان لا يوصف بالعلم والقدرة والحياة إلا بها وهو الموجب لها لم يكن مفتقرا إلى غيره كما أنه إذا لم يوصف بالعلم إلا إذا كان موصوفا بالحياة وهو الموجب للحياة لم يكن مفتقرا إلى غيره ولو قال لمعان قديمة تستلزم هذه الصفات ثبوتها وذاته مستلزمة لهذه وهذه وتلك المعاني مستلزمة لثبوت هذه الصفات كان كلاما صحيحا فالتلازم حاصل من الجهات الثلاث

الحادي عشر

قوله فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره كلام باطل فإنه هو الذات الموصوفة بهذه الصفات فليس هنا شيء يمكن تقدير حاجته إلى هذه الصفات إلا الذات المجردة وتلك لا وجود لها في الخارج فليس في الخارج ذات مجردة عن هذه الصفات حتى توصف بحاجة أو غنى وذات الله مستلزمة لهذه الصفات والصفات الملزومة لذات الموصوف التي لا يكون إلا بها ليس له تحقق دونها حتى يقال إنه محتاج ناقص بل حقيقة الأمر أن الذات المجردة عن صفات الكمال ناقصة بدونها محتاجة إلى صفات الكمال فهذا حق لكن تلك الذات المجردة ليست هي الله بل لا حقيقة لها في الخارج وأيضا فهم لا يطلقون على الصفات لفظ الغير

الثاني عشر

إن قول القائل إن النصارى كفرو بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة كلام باطل فإن الله لم يكفر النصارى بقولهم القدماء ثلاثة بل قال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام سورة المائدة 73 75 فقد بين سبحانه أنهم كفروا بقولهم إن الله ثالث ثلاثة لقوله بعد ذلك ومامن إله إلا إله واحد ولم يقال ما من قديم إلا قديم واحد ثم أتبع ذلك بذكر حال المسيح وأمه لأنهما هما الآخران اللذان اتخذوهما إلهين كما بين ذلك في الآية الأخرى بقوله وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله سورة المائدة 116 فهذه الآية موافقة لسياق تلك الآية وفي ذلك بيان أن الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قالوا إنه ثالث ثلاثة آلهة هو والمسيح وأم المسيح وليس في القرآن ذكر قدماء ثلاثة ولا صفات ثلاثة بل ليس في الكتاب ولا في السنة ذكر القديم في أسماء الله تعالى وإن كان المعنى صحيحا لكن المقصود هنا بيان أن ما ذكروه لم يكفر الله تعالى النصارى به

الثالث عشر

أنه هب أن النصارى كفروا بقولهم إنه ثالث ثلاثة قدماء فالصفاتية لا تقول إن الله تاسع تسعة قدماء بل اسم الله تعالى عندهم يتضمن صفاته فليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه بل إذا قال القائل آمنت بالله أو دعوت الله كانت صفاته داخلة في مسمى اسمه وهم لا يطلقون عليها أنها غير الله فكيف يقولون إن الله تاسع تسعة أو ثالث ثلاثة وقد قال النبي من خلف بغير الله فقد أشرك وثبت في الصحيح الحلف بعزة الله ولعمر الله فعلم أن الحلف بذلك ليس حلفا بما يقال إنه غير الله

الرابع عشر

إن حصر الصفات في ثمانية وإن كان يقوله بعض المثبتين من الأشعرية ونحوهم فالصواب عند جماهير المثبتة وأئمة الأشعرية أن الصفات لا تنحصر في ثمانية بل ولا يحصرها العباد في عدد وحينئذ فنقل الناقل عنهم أنه تاسع تسعة باطل لو كان هذا مما يقال

الخامس عشر

أن النصارى أثبتوا أقانيم وقالوا إنها ثلاثة جواهر يجمعها جوهر واحد وإن كل واحد إله يخلق ويرزق والمتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة والعلم وهو الإبن وهذا القول متناقض في نفسه فإن المتحد إن كان صفة فالصفة لا تخلق ولا ترزق وهي أيضا لا تفارق الموصوف وإن كان هو الموصوف فهو الجوهر الواحد وهو الأب فيكون المسيح هو الأب وليس هذا قولهم فإين هذا ممن يقول الإله واحد وله الأسماء الحسنى الدالة على صفاته العلى ولا يخلق غيره ولا يعبد سواه فبين المذهبين من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق

ومما افترته الجهمية على المثبتة أن ابن كلاب لما كان من المثبتين للصفات وصنف الكتب في الرد على النفاة وضعوا على أخته حكاية أنها كانت نصرانية وأنه لما أسلم هجرته فقال لها يا أختي إني أريد أن أفسد دين المسلمين فرضيت عنه لذلك

ومقصود المفترى بهذه الحكاية أن يجعل قوله بإثبات الصفات هو قول النصارى وأخذ هذه الحكاية بعض السالمية وبعض أهل الحديث والسنة يذم بها ابن كلاب لما أحدثه من القول في مسألة القرآن ولم يعلم أن الذين عابوه بها هم أبعد عن الحق في مسألة القرآن وغيرها منه وأنهم عابوه بما تمدح أنت قائله وعيب ابن كلاب عندك كونه لم يكمل القول به بل بقيت عليه بقية من كلامهم

وهذا نظير ما عمله ابن عقيل في مسألة القرآن فإنه أخذ كلام المعتزلة الذي طعنوا به على الأشعرية في كونهم يقولون هذا القرآن ليس كلام الله بل عبارة عنه فطعن به هو على الأشعرية ومقصود المعتزلة بذلك إثبات أن القرآن مخلوق والأشعرية خير منهم في نفى الخلق عن القرآن ولكن عيبهم في تقصيرهم في إكمال السنة

وكذلك بعض أهل الحديث السالمية المصنفين في مثالب ابن كلاب والأشعري وابن كرام ذكروا حكايات بعضها كذب قطعا وهي مما وضعته المعتزلة أعداء هؤلاء عليهم لكونهم يثبتون الصفات والقدر فجاء هؤلاء فذكروا تلك الحكايات ومقصودهم التنفير عما اعتقدوا في أقوالهم من الخطاء وتلك الحكايات وضعها من هو أبعد عن السنة منهم وكذلك السالمية أتباع الشيخ أبي الحسن بن سالم هم في غالب أصولهم على قول أهل السنة والجماعة لكن لما وقع في بعض أقوالهم من الخطاء زاد في الرد عليهم من صنف في الرد عليهم حتى رد عليهم قطعة مما قالوه من الحق

فصل

قال الرافضي المصنف

وقالت جماعة الحشوية والمشبهة إن الله تعالى جسم له طول وعرض وعمق وأنه يجوز عليه المصافحة وأن الصالحين من المسلمين يعانقونه في الدنيا وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز رؤيته في الدنيا وأنه يزورهم ويزورونه وحكى عن داود الطائي أنه قال أعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك وقال إن معبودي جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء كيد ورجل ولسان وعينين وأذنين وحكي عنه أنه قال هو أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك وله شعر قطط حتى قالوا اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه وأنه يفضل من العرش من كل جانب أربع أصابع

فيقال

الكلام على هذا من وجوه

أحدها أن يقال هذا اللفظ بعينه أن الله جسم له طول وعرض وعمق أول من عرف أنه قاله في الإسلام شيوخ الإمامية كهشام بن الحكم وهشام بن سالم كما تقدم ذكره وهذا مما اتفق عليه نقل الناقلين للمقالات في الملل والنحل من جميع الطوائف مثل أبي عيسى الوراق وزرقان وابن النوبختى وأبي الحسن الأشعري وابن حزم والشهرستاني وغير هؤلاء ونقل ذلك عنهم موجود في كتب المعتزلة والشيعة والكرامية والأشعرية وأهل الحديث وسائر الطوائف وقالوا أول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم

ونقل الناس عن الرافضة هذه المقالات وما هو أقبح منها فنقلوا ما ذكره الأشعري وغيره في كتب المقالات عن بيان بن سمعان التميمي الذي تنتسب إليه البيانية من غالية الشيعة أنه كان يقول إن الله على صورة الإنسان وإنه يهلك كله إلا وجهه وادعى بيان أنه يدعو الزهرة فتجيبه وأنه يفعل ذلك بالاسم الأعظم فقتله خالد بن عبدالله القسري وحكى عنهم أن كثيرا منهم يثبت نبوة بيان بن سمعان ثم يزعم كثير منهم أن أبا هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية نص على نبوة بيان بن سمعان وجعله إماما

ونقلوا عن المغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد أنهم يزعموه أنه كان يقول إنه نبي وأنه يعلم اسم الله الأكبر وأن معبودهم رجل من نور على رأسه تاج وله من الأعضاء والخلق مثل ما للرجل وله جوف وقلب تنبع منه الحكمة وأن حروف أبي جاد على عدد أعضائه قالوا والألف موضع قدمه لا عوجاجها وذكر الهاء فقال لو رأيتم موضعها منه لرأيتم أمرا عظيما يعرض لهم بالعورة وبأنه قد رآه لعنه الله وأخزاه

وزعم أنه يحيى الموتى باسم الله الأعظم وأراهم أشياء من النيرنجيات والمخاريق وذكر لهم كيف ابتدأ الله الخلق فزعم أن الله كان وحده ولا شيء معه فلما أراد أن يخلق الأشياء تكلم باسمه الأعظم فطار فوقع فوق رأسه على التاج قال وذلك قوله سبح اسم ربك الأعلى سورة الأعلى 1 وذكروا عنه من هذا الجنس أشياء يطول وصفها وقتله خالد بن عبد الله القسري

وذكروا عن المنصورية أصحاب أبي منصور أنهم كانوا يقولون عنه أنه قال إن آل محمد هم السماء والشيعة هم الأرض وأنه هو الكسف الساقط في بنى هاشم وأنه عرج به إلى السماء فمسح معبوده رأسه بيده ثم قال له أي بني اذهب فبلغ عنى ثم نزل به إلى الأرض ويمين أصحابه إذا حلفوا لا والكلمة وزعم أن عيسى بن مريم أول من خلق الله من خلقه ثم علي وأن رسل الله لا تنقطع أبدا وكفر بالجنة والنار وزعم أن الجنة رجل وأن النار رجل واستحل النساء والمحارم وأحل ذلك لأصحابه وزعم أن الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر والميسر حلال قال لم يحرم الله ذلك علينا ولا حرم شيئا تقوى به أنفسنا وإنما هذه الأسماء أسماء رجال حرم الله ولا يتهم وتأول في ذلك قول الله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا سورة المائدة 93 وأسقط الفرائض وقال هي أسماء رجال أوجب الله ولا يتهم فأخذه يوسف بن عمر والي العراق في أيام بني أمية فقتله والنصيرية الموجودون في هذه الأزمنة يشبهون هؤلاء في كثير من الوجوه

وذكروا عن الخطابية أصحاب أبي الخطاب بن أبي زينب أنهم يزعمون أن الأئمة أنبياء محدثون ورسل الله وحججه على خلقه لا يزال منهم رسولان واحد ناطق والآخر صامت فالناطق محمد والصامت علي فهم في الأرض اليوم طاعتهم مفترضة على جميع الخلق يعلمون ما كان وما هو كائن وزعموا أن أبا الخطاب نبي وأن أولئك الرسل فرضوا طاعة أبي الخطاب وقالوا الأئمة آلهة وقالوا في أنفسهم مثل ذلك وقالوا ولد الحسين أبناء الله وأحباؤه ثم قالوا ذلك في أنفسهم وتأولوا قول الله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين سورة الحجر 29 قالوا فهو آدم ونحن ولده وعبدوا أبا الخطاب وزعموا أنه إله وخرج أبو الخطاب على أبي جعفر المنصور فقتله عيسى بن موسى في سبخة الكوفة وهم يتدينون بشهادة الزور لموافقيهم وذكروا عن البزيغية أنهم يقولون إن جعفر بن محمد هو الله وأنه ليس بالذي يرى وأنه يشبه للناس في هذه الصورة وزعموا أن كل محدث في قلوبهم وحى وأن كل مؤمن يوحى إليه

وقال الأشعري وقد قال قائلون بإلهية سلمان الفارسي

قال وفي النساك من الصوفية من يقول بالحلول وأن البارئ يحل في الأشخاص وأنه جائز أن يحل في إنسان وسبع وغير ذلك من الأشخاص وأصحاب هذه المقالة إذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا ندري لعل الله حال فيه ومالوا إلى اطراح الشرائع وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبوده

قال ومن الغالية من يزعم أن روح القدس هو الله كانت في النبي ثم في علي ثم في الحسن ثم في الحسين ثم في علي بن الحسين ثم في محمد بن علي ثم في جعفر ابن محمد ثم في موسى بن جعفر ثم في علي بن موسى بن جعفر ثم في محمد بن علي بن موسى ثم في علي بن محمد بن علي بن موسى ثم في الحسن بن علي بن محمد بن علي ثم في محمد بن الحسن بن علي بن محمد

قال وهؤلاء آلهة عندهم كل واحد منهم إله على التناسخ والإله عندهم يدخل في الهياكل وهؤلاء هم من الإمامية الإثنى عشرية

قال ومن الغالية صنف يزعمون أن عليا هو الله ويكذبون النبي ويشتمونه ويقولون إن عليا وجه به ليبين أمره فادعى الأمر لنفسه

قال ومنهم صنف يزعمون أن الله تعالى في خمسة أشخاص في النبي وعلي والحسن والحسين وفاطمة فهؤلاء آلهة عندهم

ولهم خمسة أضداد أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص ثم منهم من قال إن هذه الأضداد محمودة لأنه لا يعرف فضل الأشخاص الخمسة إلا بأضدادها فهي محمودة من هذا الوجه ومنهم من قال بل هي مذمومة لا تحمد بحال من الأحوال

قال ومنهم صنف يقال لهم السبئية أصحاب عبدالله بن سبأ يزعمون أن عليا لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وذكروا عنه أنه قال لعلي أنت أنت

والسبئية يقولون بالرجعة وأن الأموات يرجعون إلى الدنيا وكان السيد الحميري يقول برجعة الأموات وفي ذلك يقول

إلى يوم يؤوب الناس فيه ... إلى دنياهم قبل الحساب .

قال ومنهم صنف يزعمون أن الله وكل الأمور وفوضها إلى محمد وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها وأن الله لم يخلق من ذلك شيئا ويقول ذلك كثير منهم في على ويزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع وتهبط عليهم الملائكة وتظهر عليهم أعلام المعجزات ويوحى إليهم

ومنهم من يسلم على السحاب ويقول إذا مرت سحابة إن عليا فيها وفيهم يقول بعض الشعراء

برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب

ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب

فهذا بعض ما نقله الأشعري وغيره عنهم وهو بعض ما فيهم من هذا الباب فإن الإسماعيلية والنصيرية لم يكونوا حدثوا إذ ذاك والنصيرية من نوع الغلاة والإسماعيلية ملاحدة أكفر من النصيرية

ومن شيعة النصيرية من يقول

أشهد ألا إله إلا ... حيدرة الأنزع البطين

ولا حجاب عليه إلا ... محمد الصادق الأمين

ولا طريق إليه إلا ... سلمان ذو القوة المتين

ويقولون إن شهر رمضان أسماء ثلاثين رجلا والثلاثون أسماء ثلاثين امرأة وأن الصلوات الخمس عبارة عن خمسة أسماء وهي علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة إلى أنواع من الكفر الشنيع الذي يطول وصفه

وهذا أمر معلوم فإن أهل العلم متفقون على أن هذه المقالات الغالية في وصف الرب بالعيوب والنقائص المتضمنة تشبيه الخالق بالمخلوق في صفات النقص وتشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية هي أكثر ما يكون في الشيعة باتفاق الناس فلا يوجد في طوائف الأمة أشنع في الحلول والتمثيل والتعطيل مما يوجد فيهم

ولهذا صارت الملاحدة والغالية علمين على بعض من ينتسب إليهم فالملاحدة علم على الإسماعيلية والغالية علم على القائلين بالإلهية في البشر كالنصيرية والمشهور بالغلو وادعاء الإلهية في البشر هم النصارى والغالية من الشيعة وقد يوجد بعض الإلحاد والغلو في غيرهم من النساك وغيرهم لكن الذي فيهم أكثر وأقبح

وإذا كان الأمر كذلك كان الذي يطعن على أهل السنة والجماعة بأن فيهم تجسيما وحلولا ويثنى على طائفة الإمامية إما من أجهل الناس بمقالات شيعته وإما من أعظم الناس ظلما وعدوانا وعدولا عن العدل والإنصاف في المقابلة والموازنة

ثم أهل السنة يطلبون من الإمامية المتأخرين أن يقطعوا سلفهم بالحجج العقلية أو الشرعية وهم عاجزون عن ذلك كما تقدم التنبيه عليه

وهؤلاء المجسمون من الشيعة منهم من أكابر أهل الكلام المتكلمين في جميع أنواعه في الجليل والدقيق ولهم كتب مصنفة

قال الأشعري ورجال الرافضة ومؤلفوا كتبهم هشام بن الحكم وهو قطعى وعلي بن منصور ويونس بن عبدالرحمن القمى والسكاك وأبو الأخوص داود بن أسد البصري

قال وقد انتحلهم أبو عيسى الوراق وابن الراوندي وألف لهم كتبا في الإمامة

الوجه الثاني

أن يقال هذه المقالات التي نقلها لا تعرف عن أحد من المعروفين بمذهب أهل السنة والجماعة لا من أئمة أصحاب أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل لا من أهل الحديث ولا من أهل الرأي فلا يعرف في هؤلاء من قال إن الله جسم طويل عريض عميق وأنه يجوز عليه المصافحة وأن الصالحين من المسلمين يعاينونه في الدنيا فإن كان مقصوده بجماعة الحشوية والمشبهة بعض هؤلاء فهو كذب ظاهر عليهم وهذه كتب هذه الطوائف ورجالهم الأحياء والأموات لا يعرف عن أحد منهم شيء من ذلك بل أئمة هؤلاء الطوائف المعروفون بالعلم فيهم متفقون على أن الله لا يرى في الدنيا بالعيون وإنما يرى في الآخرة كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت

والمذهب الشائع الظاهر فيهم مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار ومن أنكر ذلك كان مبتدعا عندهم وإن كان في المنتسبين إليهم من يقول ذلك فليس هو قول أئمتهم ولا الذين يفتى بقولهم ومن أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسم القائل والناقل وإلا فكل أحد يقدر على الكذب فقد تبين كذبه فيما نقله عن أهل السنة كما تبين أن تلك الأقوال وما هو أشنع منها من أقوال سلف الإمامية

الوجه الثالث

أن يقال إن الطائفة إنما تتميز باسم رجالها أو بنعت أحوالها فالأول كما يقال النجدات والأزارقة والجهمية والنجارية والضرارية ونحو ذلك والثاني كما يقال الرافضة والشيعة والقدرية والمرجئة والخوارج ونحو ذلك

فأما لفظ الحشوية فليس فيه ما يدل على شخص معين ولا مقالة معينة فلا يدري من هم هؤلاء وقد قيل إن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد فقال كان عبدالله بن عمر حشويا وكان هذا اللفظ في اصطلاح من قاله يريد به العامة الذين هم حشو كما تقول الرافضة عن مذهب أهل السنة مذهب الجمهور

فإن كان مراده بالحشوية طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة دون غيرهم كأصحاب أحمد أو الشافعي أو مالك فمن المعلوم أن هذه المقالات لا توجد فيهم أصلا بل هم يكفرون من يقولها ولو قدر أن بعضها وجد في بعضهم فليس ذلك من خصائصهم بل كما يوجد مثل ذلك في سائر الطوائف

وإن كان مراده بالحشوية أهل الحديث على الإطلاق سواء كانوا من أصحاب هذا أو هذا فاعتقاد أهل الحديث هو السنة المحضة لأنه هو الاعتقاد الثابت عن النبي وليس في اعتقاد أحد من أهل الحديث شيء من هذا والكتب شاهدة بذلك

وإن كان مراده بالحشوية عموم أهل السنة والجماعة مطلقا فهذه الأقوال لا تعرف في عموم المسلمين وأهل السنة وجمهور المسلمين لا يظنون أن أحدا قال هذا وإذا كان في بعض جهال العامة من يقول هذا أو أكثر من هذا لم يجز أن يجعل هذا اعتقادا لأهل السنة والجماعة يعابون به وإنما العيب فيما قالته رجال الطائفة وعلماؤها كما ذكرناه عن أئمة الشيعة فإن أئمة الشيعة هم القائلون للمقالات الشنيعة كما قد علم

وأما لفظ المشبهة فلا ريب أن أهل السنة والجماعة والحديث من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم متفقون على تنزيه الله تعالى عن مماثلة الخلق وعلى ذم المشبهة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه ومتفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات قال تعالى ليس كمثله شيء فهذا رد على الممثلة وهو السميع البصير سورة الشورى 11 رد على المعطلة

فقولهم في الصفات مبنى على أصلين أحدهما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك

والثاني أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الإختصاص بما له من الصفات فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات

ولكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات مشبها بل المعطلة المحضة الباطنية نفاة الأسماء يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبها فيقولون إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين وكذلك إذا قلنا هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير وإذا قلنا هو رءوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرءوف الرحيم بل قالوا إذا قلنا إنه موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات لاشتراكهما في مسمى الوجود

فقيل لهؤلاء فقولوا ليس بموجود ولا حي

فقالوا أو من قال منهم إذا قلنا ذلك فقد شبهناه بالمعدوم وبعضهم قال ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت

فقيل لهم فقد شبهتموه بالممتنع بل جعلتموه نفسه ممتنعا فإنه كما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاع النقيضين فمن قال إنه موجود معدوم فقد جمع بين النقيضين ومن قال ليس بموجود ولا معدوم فقد رفع النقيضين وكلاهما ممتنع فكيف يكون الواجب الوجود ممتنع الوجود

والذين قالوا لا نقول هذا ولا هذا

قيل لهم عدم علمكم وقولكم لا يبطل الحقائق في أنفسها بل هذا نوع من السفسطة فإن السفسطة ثلاثة أنواع نوع هو جحد الحقائق والعلم بها وأعظم من هذا قول من يقول عن الموجود الواجب القديم الخالق إنه لا موجود ولا معدوم وهؤلاء متناقضون فإنهم جزموا بعدم الجزم

ونوع هو قول المتجاهلة اللاأدرية الواقفة الذين يقولون لا ندري هل ثم حقيقة وعلم أم لا وأعظم من هذا قول من يقول لا أعلم ولا أقول هو موجود أو معدوم أو حي أو ميت

ونوع ثالث قول من يجعل الحقائق تتبع العقائد

فالأول ناف لها والثاني واقف فيها والثالث يجعلها تابعة لظنون الناس

وقد ذكر صنف رابع وهو الذي يقول إن العالم في سيلان فلا يثبت له حقيقة وهؤلاء من الأول لكن هذا يوجبه قولهم

والمقصود هنا أن إمساك الإنسان عن النقيضين لا يقتضى رفعهما وحاصل هذا القول منع القلوب والألسنة والجوارح عن معرفة الله وذكره وعبادته فهو تعطيل وكفر بطريق الوقف والإمساك لا بطريق النفى والإنكار

وأصل ضلال هؤلاء أن لفظ التشبيه لفظ فيه إجمال فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يتفق فيه الشيئان ولكن ذلك المشترك المتفق عليه لا يكون في الخارج بل في الذهن ولا يجب تماثلهما فيه بل الغالب تفاضل الأشياء في ذلك القدر المشترك فأنت إذا قلت عن المخلوقين حي وحي وعليم وعليم وقدير وقدير لم يلزم تماثل الشيئين في الحياة والعلم والقدرة ولا يلزم أن تكون حياة أحدهما وعلمه وقدرته نفس حياة الآخر وعلمه وقدرته ولا أن يكونا مشتركين في موجود في الخارج عن الذهن

ومن هنا ضل هؤلاء الجهال بمسمى التشبيه الذي يجب نفيه عن الله وجعلوا ذلك ذريعة إلى التعطيل المحض والتعطيل شر من التجسيم والمشبه يعبد صنما والمعطل يعبد عدما والممثل أعشى والمعطل أعمى

ولهذا كان جهم إمام هؤلاء وأمثاله يقولون إن الله ليس بشيء وروى عنه أنه قال لا يسمى باسم يسمى به الخالق فلم يسمه إلا بالخالق القادر لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا قدرة له وربما قالوا ليس بشيء كالأشياء، ولا ريب أن الله تعالى ليس كمثله شيء ولكن ليس مقصودهم إلا أن حقيقة التشبيه منتفية عنه حتى لا يثبتون أمرا متفقا عليه

وتحقيق هذا الموضع بالكلام في معنى التشبيه والتمثيل أما التمثيل فقد نطق الكتاب بنفيه عن الله في غير موضع كقوله تعالى ليس كمثله شيء سورة الشورى 11 وقوله هل تعلم له سميا سورة مريم 65 وقوله ولم يكن له كفوا أحد وقوله فلا تجعلوا لله أندادا سورة البقرة 22 وقوله فلا تضريوا لله الأمثال سورة النحل 74 ولكن وقع في لفظ التشبيه إجمال كما سنبينه إن شاء الله تعالى

وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك فلم ينطق كتاب ولا سنة بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت فلم ينطق أحد منهم بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا

وأول من عرف عنه التكلم بذلك نفيا وإثباتا أهل الكلام المحدث من النفاة كالجهمية والمعتزلة ومن المثبتة كالمجسمة من الرافضة وغير الرافضة

فالنفاة نفوا هذه الأسماء وأدخلوا في النفى ما أثبته الله ورسوله من صفات كعلمه وقدرته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه وعلوه وقالوا إنه لا يرى ولا يتكلم بالقرآن ولا غيره ولكن معنى كونه متكلما أنه خلق كلاما في جسم من الأجسام غيره ونحو ذلك

والمثبتة أدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله حتى قالوا إنه يرى في الدنيا بالأبصار ويصافح ويعانق وينزل إلى الأرض وينزل عشية عرفة راكبا على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان وقال بعضهم إنه يندم ويبكي ويحزن وعن بعضهم أنه لحم ودم ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين

والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص والله تعالى منزه عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال وليس له مثل في شيء من صفات الكمال فهو منزه عن النقص مطلقا ومنزه في الكمال أن يكون له مثل كما قال تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص 1 4 فبين أنه أحد صمد واسمه الأحد يتضمن نفى المثل واسمه الصمد يتضمن جميع صفات الكمال كما قد بينا ذلك في الكتاب المصنف في تفسير قل هو الله أحد

وأما لفظ الجسم فإن الجسم عند أهل اللغة كما ذكره الأصمعي وأبو زيد وغيرهما هو الجسد والبدن وقال تعالى وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم سورة المنافقون 4 وقال تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم سورة البقرة 247 فهو يدل في اللغة على معنى الكثافة والغلظ كلفظ الجسد ثم قد يراد به نفس الغليظ وقد يراد به غلظه فيقال لهذا الثوب جسم أي غلظ وكثافة ويقال هذا أجسم من هذا أي أغلظ وأكثف

ثم صار لفظ الجسم في اصطلاح أهل الكلام أعم من ذلك فيسمون الهواء وغيره من الأمور اللطيفة جسما وإن كانت العرب لا تسمى هذا جسما وبينهم نزاع فيما يسمى جسما هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا يتميز منها شيء عن شيء إما جواهر متناهية كما يقوله أكثر القائلين بالجوهر الفرد وإما غير متناهية كما يقوله النظام والتزم الطفرة المعروفة بطفرة النظام أو هو مركب من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما يقوله أكثر الناس وهو قول الهشامية والكلابية والنجارية والضرارية وكثير من الكرامية على ثلاثة أقوال وكثير من الكتب ليس فيها إلا القولان الأولان

والصواب أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما قد بسط في موضعه

وينبني على هذا أن ما يحدثه الله من الحيوان والنبات والمعادن فإنها أعيان يخلقها الله تعالى على قول نفاة الجوهر الفرد وعلى قول مثبتية إنما يحدث أعراضا وصفات وإلا فالجواهر باقية ولكن اختلف تركيبها وينبنى على ذلك الاستحالة

فمثبتة الجوهر الفرد يقولون لا تستحيل حقيقة إلى حقيقة أخرى ولا تنقلب الأجناس بل الجواهر يغير الله عز وجل تركيبها وهي باقية والأكثرون يقولون باستحالة بعض الأجسام إلى بعض وانقلاب جنس إلى جنس وحقيقة إلى حقيقة كما تنقلب النطفة إلى علقة والعلقة إلى مضغة والمضغة عظاما وكما ينقلب الطين الذي خلق الله منه آدم لحما ودما وعظاما وكما تنقلب المادة التي تخلق منها الفاكهة ثمرا ونحو ذلك وهذا قول الفقهاء والأطباء وأكثر العقلاء

وكذلك ينبنى على هذا تماثل الأجسام فأولئك يقولون الأجسام مركبة من الجواهر وهي متماثلة فالأجسام متماثلة والأكثرون يقولون بل الأجسام مختلفة الحقائق وليست حقيقة التراب حقيقة النار ولا حقيقة النار حقيقة الهواء وهذه المسائل مسائل عقلية لبسطها موضع آخر والمقصود هنا بيان منشأ النزاع في مسمى الجسم

والنظار كلهم متفقون فيما أعلم على أن الجسم يشار إليه وإن اختلفوا في كونه مركبا من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة أو لا من هذا ولا من هذا

وقد تنازع العقلاء أيضا هل يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يمكن أن يرى على ثلاثة أقوال فقيل لا يمكن ذلك بل هو ممتنع وقيل بل هو ممتنع في المحدثات الممكنة التي تقبل الوجود والعدم دون الواجب وقيل بل ذلك ممكن في الممكن والواجب وهذا قول بعض الفلاسفة ومن وافقهم من أهل الملل ما علمت به قائلا من أهل الملل إلا من أخذه عن هؤلاء الفلاسفة

ومثبتو ذلك يسمونها المجردات والمفارقات وأكثر العقلاء يقولون إنما وجود هذه في الأذهان لا في الأعيان وإنما يثبت من ذلك وجود نفس الإنسان التي تفارق بدنه وتتجرد عنه

وأما الملائكة التي أخبرت بها الرسل فالمتفلسفة المنتسبون إلى المسلمين يقولون هي العقول والنفوس المجردات وهي الجواهر العقلية

وأما أهل الملل ومن علم ما أخبر الله به صفات الملائكة فيعلمون قطعا أن الملائكة ليست هذه المجردات التي يثبتها هؤلاء من وجوه كثيرة قد بسطت في غير هذا الموضع فإن الملائكة مخلوقون من نور كما أخبر بذلك النبي في الحديث الصحيح

وهم كما قال الله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين سورة الأنبياء 26 2وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم أتوا إبراهيم ولوطا في صورة البشر حتى قدم لهم إبراهيم العجل وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي في صورة دحية الكلبي وأتاه مرة في صورة أعرابي حتى رآه الصحابة وقد رآه النبي في صورته التي خلق عليها مرتين مرة بين السماء والأرض ومرة في السماء عند سدرة المنتهى

والملائكة تنزل إلى الأرض ثم تصعد إلى السماء كما تواترت بذلك النصوص وقد أنزلها الله يوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق لنصر رسوله والمؤمنين كما قال تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين سورة الأنفال 9 وقال ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها سورة التوبة 26 وقال فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها سورة الأحزاب 9 وقال أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون سورة الزخرف 80 وقال حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون سورة الأنعام 61 وقال الله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم سورة الأنفال ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم سورة الأنعام 93

ومثل هذا في القرآن كثير يعلم ببعضه أن ماوصف الله به الملائكة يوجب العلم الضروري أنها ليست ما يقوله هؤلاء في العقول والنفوس سواء قالوا إن العقول عشرة والنفوس تسعة كما هو المشهور عندهم أو قالوا غير ذلك

وليست الملائكة أيضا القوى العالمة التي في النفوس كما قد يقولونه بل جبريل عليه السلام ملك منفصل عن الرسول يسمع كلام الله من الله وينزل به على رسول الله كما دل على ذلك النصوص والإجماع من المسلمين

وهؤلاء يقولون إن جبريل هو العقل الفعال أو هو ما يتخيل في نفس النبي من الصور الخيالية وكلام الله ما يوجد في نفسه كما يوجد في نفس النائم

وهذا مما يعلم كل من له علم بما جاء به الرسول أنه من أعظم الأمور تكذيبا للرسول ويعلم أن هؤلاء أبعد عن متابعة رسول الله من كفار اليهود والنصارى وهذا مبسوط في مواضع والمقصود هنا الكلام على مجامع ما يعرف به ما أشار إليه هذا من عقائد المسلمين واختلافهم

فإذا عرف تنازع النظار في حقيقة الجسم فلا ريب أن الله سبحانه ليس مركبا من الأجزاء المنفردة ولا من المادة والصورة ولا يقبل سبحانه التفريق والإنفصال ولا كان متفرقا فاجتمع بل هو سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد

فهذه المعاني المعقولة من التركيب كلها منتفية عن الله تعالى لكن المتفلسفة ومن وافقهم تزيد على ذلك وتقول إذا كان موصوفا بالصفات كان مركبا وإذا كانت له حقيقة ليست هي مجرد الوجود كان مركبا

فيقول لهم المسلمون المثبتون للصفات النزاع ليس في لفظ المركب فإن هذا اللفظ إنما يدل على مركب ركبه غيره ومعلوم أن عاقلا لا يقول إن الله تعالى مركب بهذا الاعتبار

وقد يقال لفظ المركب على ما كانت أجزاؤه متفرقة فجمع إما جمع امتزاج وإما غير امتزاج كتركيب الأطعمة والأشربة والأدوية والأبنية واللباس من أجزائها ومعلوم نفى هذا التركيب عن الله ولا نعلم عاقلا يقول إن الله تعالى مركب بهذا الاعتبار

وكذلك التركيب بمعنى أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وهو التركيب الجسمي عند من يقول به وهذا أيضا منتف عن الله تعالى والذين قالوا إن الله جسم قد يقول بعضهم إنه مركب هذا التركيب وإن كان كثير منهم بل أكثرهم ينفون ذلك ويقولون إنما نعنى بكونه جسما أنه موجود أو أنه قائم بنفسه أو أنه يشار إليه أو نحو ذلك لكن بالجملة هذا التركيب وهذا التجسيم يجب تنزيه الله تعالى عنه

وأما كونه سبحانه ذاتا مستلزمة لصفات الكمال له علم وقدرة وحياة فهذا لا يسمى مركبا فيما يعرف من اللغات وإذا سمى مسم هذا مركبا لم يكن النزاع معه في اللفظ بل في المعنى العقلي ومعلوم أنه لا دليل على نفى هذا كما قد بسط في موضعه بل الأدلة العقلية توجب إثباته

ولهذا كان جميع العقلاء مضطرين إلى إثبات معان متعددة لله تعالى فالمعتزلي يسلم أنه حي عالم قادر ومعلوم أن كونه جسما ليس هو معنى كونه عالما ومعنى كونه عالما ليس معنى كونه قادرا

والمتفلسف يقول إنه عاقل ومعقول وعقل ولذيذ ومتلذذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق ومعلوم بصريح العقل أن كونه يحب ليس هو كونه يعلم وكونه محبوبا معلوما ليس هو معنى كونه محبا عالما والمتفلسف يقول معنى كونه عالما هو معنى كونه قادرا مؤثرا فاعلا وذلك هو نفس ذاته فيجعل العلم هو القدرة وهو الفعل ويجعل القدرة هي القادر والعلم هو العالم والفعل هو الفاعل

وبعض متأخريهم وهو الطوسى ذكر في شرح كتاب الإشارات أن العلم هو المعلوم ومعلوم فساد هذه الأقوال بصريح العقل ومجرد تصورها التام يكفى في العلم بفسادها

وهؤلاء فروا من معنى التركيب وليس لهم قط حجة على نفى مسمى التركيب بجميع هذه المعاني بل عمدتهم أن المركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه وربما قالوا الصفة مفتقرة إلى محل والمفتقر إلى محل لا يكون واجبا بنفسه بل يكون معلولا

وهذا الحجة ألفاظها كلها مجملة فلفظ الواجب بنفسه يراد به الذي لا فاعل له فليس له علة فاعلة ويراد به الذي لا يحتاج إلى شيء مباين له ويراد به القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى مباين له

وعلى الأول والثاني فالصفات واجبة الوجود وعلى الثالث فالذات الموصوفة بالصفات هي الواجبة والصفة وحدها لا يقال إنها واجبة الوجود

ويراد به مالا تعلق له بغيره وهذا لا وجود له في الخارج

والبرهان إنما قام على أن الممكنات لها فاعل واجب الوجود قائم بنفسه أي عني عما سواه والصفة ليست هي الفاعل

وقوله إذا كانت له ذات وصفات كان مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره

فلفظ الغير مجمل يراد بالغير المباين فالغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود وهذا اصطلاح الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ويراد بالغيرين ما ليس أحدهما الآخر أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر وهذا اصطلاح طوائف من المعتزلة والكرامية وغيرهم

وأما السلف كالإمام أحمد وغيره فلفظ الغير عندهم يراد به هذا ويراد به هذا ولهذا لم يطلقوا القول بأنه علم الله غيره ولا أطلقوا القول بأنه ليس غيره ولا يقولون لا هو هو ولا هو غيره بل يمتنعون عن إطلاق اللفظ المجمل نفيا وإثباتا لما فيه من التلبيس فإن الجهمية يقولون ما سوى الله مخلوق وكلامه غيره فيكون مخلوقا فقال أئمة السنة إذا أريد بالغير والسوى ما هو مباين له فلا يدخل علمه وكلامه في لفظ الغير والسوى كما لم يدخل في قول النبي من حلف بغير الله فقد أشرك وقد ثبت في السنة جواز الحلف بصفاته كعزته وعظمته فعلم أنها لا تدخل في مسمى الغير عند الإطلاق وإذا أريد بالغير أنه ليس هو إياه فلا ريب أن العلم ليس هو العالم والكلام ليس هو المتكلم

وكذلك لفظ الإفتقار يراد به افتقار المفعول إلى فاعله ونحو ذلك ويراد به التلازم بمعنى أنه لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر وإن لم يكن أحدهما مؤثرا في الآخر كالأمور المتضايفة مثل الأبوة والبنوة

والمركب قد عرف ما فيه من الاشتراك فإذا قال القائل لو كان عالما لكان مركبا من ذات وعلم فليس المراد به أن هذين كانا مفترقين فاجتمعا ولا أنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بل المراد أنه إذا كان عالما فهناك ذات وعلم قائم بها

وقوله والمركب مفتقر إلى أجزائه فمعلوم أن افتقار المجموع إلى أبعاضه ليس بمعنى أن أبعاضه فعلته أو وجدت دونه وأثرت فيه بل بمعنى أنه لا يوجد إلا بوجود المجموع ومعلوم أن الشيء لا يوجد إلا بوجود نفسه

وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه بهذا المعنى لم يكن هذا ممتنعا بل هذا هو الحق فإن نفس الواجب لا يستغنى عن نفسه

وإذا قيل هو واجب بنفسه فليس المراد أن نفسه أبدعت وجوبه بل المراد أن نفسه موجودة بنفسها لم تفتقر إلى غيره في ذلك ووجوده واجب لا يقبل العدم بحال

فإذا قيل مثلا العشرة مفتقرة إلى العشرة لم يكن في هذا إفتقار لها إلى غيرها وإذا قيل هي مفتقرة إلى الواحد الذي هو جزؤها لم يكن افتقارها إلى بعضها بأعظم من افتقارها إلى المجموع التي هي هو

وإذا لم يكن ذلك ممتنعا بل هو الحق فإنه لا يوجد المجموع إلا بالمجموع فكيف يمتنع أن يقال لا يوجد المجموع إلا بوجود جزئه والدليل إنما دل على أن الممكنات لها مبدع واجب بنفسه خارج عنها أما كون ذلك المبدع مستلزما لصفاته أو لا يوجد إلا متصفا بصفات الكمال فهذا لم تنفه حجة أصلا ولا هذا التلازم سواء سمى فقرا أو لم يسم مما ينفى كون المجموع واجبا قديما أزليا لا يقبل العدم بحال

وأيضا فتسمية الصفات القائمة بالموصوف جزءا له ليس هو من اللغة المعروفة وإنما هو اصطلاح لهم كما سموا الموصوف مركبا بخلاف تسمية الجزء صفة فإن هذا موجود في كلام كثير من الأئمة والنظار كالإمام أحمد وابن كلاب وغيرهما وإلا فحقيقة الأمر أن الذات المستلزمة للصفة لا توجد إلا وهي متصفة بالصفة وهذا حق

وإذا تنزل إلى اصطلاحهم المحدث وسمى هذا جزءا فالمجموع لا يوجد إلا بوجود جزئه الذي هو بعضه

وإذ قيل هو مفتقر إلى بعضه لم يكن هذا إلا دون قول القائل هو مفتقر إلى نفسه الذي هو المجموع وإذا كان لا محذور فيه فهذا أولى

وإذا قيل جزؤه غيره والواجب لا يفتقر إلى غيره

قيل إن أردت أن جزأه مباين له وأنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بوجه من الوجوه فهذا باطل فليس جزؤه غيره بهذا التفسير وإن أردت أنه يمكن العلم بأحدهما دون العلم بالآخر كما نعلم أنه قادر قبل العلم بأنه عالم ونعلم الذات قبل العلم بصفاتها فهو غيره بهذا التفسير وقد علم بصريح العقل أنه لا بد من إثبات معان هي أغيار بهذا التفسير وإلا فكونه قائما بنفسه ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس هو كونه حيا وكونه حيا ليس هو كونه قادرا ومن جعل هذه الصفة هي الأخرى وجعل الصفات كلها هي الموصوف فقد انتهى في السفسطة إلى الغاية وليس هذا إلا كمن قال السواد هو البياض والسواد والبياض هو الأسود والأبيض

ثم هؤلاء الذين نفوا المعاني التي يتصف بها كلهم متناقضون يجمعون في قولهم بين النفي والإثبات وقد جعلوا هذا أساس التعطيل والتكذيب بما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول

فالذين ينفون علمه بالأشياء يقولون لئلا يلزم التكثر والذين ينفون علمه بالجزيئات يقولون لئلا يلزم التغير فيذكرون لفظ التكثر والتغير وهما لفظان مجملان يتوهم السامع أنه تتكثر الآلهة أو أن الرب يتغير ويستحيل من حال إلى حال كما يتغير الإنسان إما بمرض وإما بغيره وكما تتغير الشمس إذا اصفر لونها ولا يدري أنه عندهم إذا أحدث مالم يكن محدثا سموه تغيرا وإذا سمع دعاء عباده سموه تغيرا وإذا رأى ما خلقه سموه تغيرا وإذا كلم موسى بن عمران سموه تغيرا وإذا رضي عمن أطاعه وسخط على من عصاه سموه تغيرا إلى أمثال هذه الأمور

ثم إنهم ينفون ذلك من غير دليل أصلا فإن الفلاسفة يجوزون أن يكون القديم محلا للحوادث لكن من نفى منهم ما نفاه فإنما هو لنفيه الصفات مطلقا وكذلك المعتزلة ولهذا كان الحاذق من هؤلاء وهؤلاء كأبي الحسين البصري وأبي البركات صاحب المعتبر وغيرهما قد خالفوهم في ذلك وبينوا أنه ليس لهم دليل عقلي ينفى ذلك وأن الأدلة العقلية والشرعية توجب ثبوت ذلك وهذا كله قد بسط في موضع آخر

والمقصود هنا أن من نفى الجسم وأراد به نفى التركيب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فقد أصاب في المعنى ولكن منازعوه يقولون هذا الذي قلته ليس هو مسمى الجسم في اللغة ولا هو أيضا حقيقة الجسم الإصطلاحي فإن الجسم ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا وهو يقول هذا حقيقة الجسم الإصطلاحي وإذا كان منازعوه من لا ينفى التركيب من هذا وهذا فالفريقان متفقان على تنزيه الرب عن ذلك لكن أحدهما يقول نفى لفظ الجسم لا يفيد هذا التنزيه وإنما يفيده لفظ التركيب ونحوه والآخر يقول بل نفى لفظ الجسم يفيد هذا التنزيه

ومن قال هو جسم فالمشهور عن نظار الكرامية وغيرهم ممن يقول هو جسم أنه يفسر ذلك بأنه الموجود أو القائم بنفسه لا بمعنى المركب

وقد اتفق الناس على أن من قال إنه جسم وأراد هذا المعنى فقد أصاب في المعنى لكن إنما يخطئه من يخطئه في اللفظ

أما من يقول الجسم هو المركب فيقول أخطأت حيث استعملت لفظ الجسم في القائم بنفسه أو الموجود

وأما من لا يقول بأن كل جسم مركب فيقول تسميتك لكل موجود أو قائم بنفسه جسما ليس هو موافقا للغة العرب المعروفة ولا تكلم بهذا اللفظ أحد من السلف والأئمة ولا قالوا إن الله جسم فأنت مخطئ في اللغة والشرع وإن كان المعنى الذي أردته صحيحا

فيقول أنا تكلمت بالإصطلاح الكلامي فإن الجسم عند النظار من المتكلمين والفلاسفة هو ما يشار إليه ثم ادعى طائفة منهم أن كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة ونازعهم طائفة أخرى في هذا المعنى وقالوا ليس كل ما يشار إليه هو مركب لا من هذا ولا من هذا فإذا أقام صاحب هذا القول دليلا عقليا على نفى تركيب المشار إليه خصم منازعيه إلا من يقول إن أسماء الله تعالى توقيفية فيقول له ليس لك أن تسميه بذلك

وأما أهل السنة المتبعون للسلف فيقولون كلكم مبتدعون في اللغة والشرع حيث سميتم كل ما يشار إليه جسما فهذا اصطلاح لا يوافق اللغة ولم يتكلم به أحد من سلف الأمة

قال المدعون أن الجسم هو المركب بل قولنا موافق للغة والجسم في اللغة هو المؤلف المركب والدليل على ذلك أن العرب تقول هذا أجسم من هذا عند زيادة الأجزاء والتفضيل إنما يقع بعد الاشتراك في الأصل فعلم أن لفظ الجسم عندهم هو المركب وكلما زاد التركيب قالوا أجسم

فيقال لهم أما كون العرب تقول لما كان أغلظ من غيره أجسم فهذا صحيح مع أن بعض أهل اللغة أنكروا هذا وأما دعواكم أنهم يقولون هذا لأن الجسم مركب من الأجزاء المفردة وكل ما يشار إليه فهو مركب فيسمونه جسما فهذه دعوى باطلة عليهم من وجوه

أحدها أنه قد علم بنقل الثقات عنهم والاستعمال الموجود في كلامهم أنهم لا يسمون كل ما يشار إليه جسما ولا يقولون للهواء اللطيف جسما وإنما يستعملون لفظ الجسم كما يستعملون لفظ الجسد وهكذا نقل عنهم أهل العلم بلسانهم كالأصمعي وأبي زيد الأنصاري وغيرهما كما نقله الجوهري في صحاحه وغير الجوهري فلفظ الجسم عندهم يتضمن معنى الغلظ والكثافة لا معنى كونه يشار إليه

الوجه الثاني

أنهم لم يقصدوا بذلك كونه مركبا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة بل لم يخطر هذا بقلوبهم بل إنما قصدوا معنى الكثافة والغلظ وأما كون الكثافة والغلظ تكون بسبب كثرة الجواهر المفردة أو بسبب كون الشيء في نفسه غليظا كثيفا كما يكون حارا وباردا وإن لم تكن حرارته وبرودته بسبب كونه مركبا من الجواهر الفردة فالجسم له قدر وصفات وليست صفاته لأجل الجواهر فكذلك قدره فهذا ونحوه من البحوث العقلية الدقيقة لم تخطر ببال عامة من تكلم بلفظ الجسم من العرب وغيرهم

الوجه الثالث

أنه من المعلوم أن اللفظ المشهور في اللغة الذي يتكلم به الخاص والعام ويقصدون معناه لا يجوز أن يكون معناه مما يخفى تصوره على أكثر الناس ويقف العلم بصحة ذلك المعنى على أدلة دقيقة عقلية ويتنازع فيها العقلاء فإن الناطقين به جميعهم متفقون على إرادة المعنى الذي يدل اللفظ عليه في اللغة وما كان دقيقا لا يفهمه أكثر الناس لا يكون مراد الناطقين به وكذلك ما كان متنازعا فيه ولهذا قال من قال من الأصوليين اللفظ المشهور لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعلمه إلا خواص الناس كلفظ الحركة ونحوه

ومعلوم أن لفظ الجسم مشهور في لغة العرب مع عدم تصور أكثرهم للتركيب وعدم علمهم بدليل التركيب وإنكار كثير منهم للتركيب من الجواهر الفردة والمادة والصورة وهذا مما يعلم به قطعا أنه ليس موضوعه في اللغة ما تنازع فيه النظار ومعرفته تتوقف على النظر والأدلة الخفية

الوجه الرابع

أنهم لو قصدوا التركيب فإنما قصدوه فما كان غليظا كثيفا فدعوى المدعى عليهم أنهم يسمون كل ما يشار إليه جسما ويقولون مع ذلك إنه مركب دعوتان باطلتان

وجمهور المسلمين الذين يقولون ليس بجسم يقولون من قال إنه جسم وأراد بذلك أنه موجود أو قائم بنفسه أو نحو ذلك أو قال إنه جوهر وأراد بذلك أنه قائم بنفسه فهو مصيب في المعنى لكن أخطأ في اللفظ

وأما إذا أثبت أنه مركب من الجواهر الفرده ونحو ذلك فهو مخطئ في المعنى وفي تكفيره نزاع بينهم

ثم القائلون بأن الجسم مركب من الجواهر الفردة قد تنازعوا في مسماه فقيل الجوهر الواحد بشرط انضمام غيره إليه يكون جسما وهو قول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما

وقيل بل الجوهران فصاعدا وقيل بل أربعة فصاعدا وقيل بل ستة فصاعدا وقيل بل ثمانية فصاعدا وقيل بل ستة عشر وقيل بل اثنان وثلاثون وقد ذكر عامة هذه الأقوال الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين

فقد تبين أن في هذا اللفظ من المنازعات اللفظية اللغوية والإصطلاحية والعقلية والشرعية ما يبين أن الواجب على المسلمين الإعتصام بالكتاب والسنة كما أمرهم الله تعالى بذلك في قوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا سورة آل عمران 103 وقوله تعالى ألمص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون سورة الأعراف 1 3 وقوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله سورة الأنعام 153 وقوله كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سورة البقرة 213 وقوله يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا سورة النساء 59 61 وقوله فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه 123 126 قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية ومثل هذا كثير من الكتاب والسنة وهذا مما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها

فالواجب أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله ورسوله أثبتناه وما نفاه الله ورسوله نفيناه والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفى فنثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني وننفى ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني وأما الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين مثل لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك فلا تطلق نفيا ولا إثباتا حتى ينظر في مقصود قائلها فإن كان قد أراد بالنفى والإثبات معنى صحيحا موافقا لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد بها والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها وأما إن أريد بها معنى باطل نفى ذلك المعنى

منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57