مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/فصل: قد تكلم طائفة من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة في قيام الممكنات بالواجب القديم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فصل: قد تكلم طائفة من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة في قيام الممكنات بالواجب القديم[عدل]

قد تكلم طائفة من المتكلمة، والمتفلسفة، والمتصوفة في قيام الممكنات والمحدثات، بالواجب القديم، وهذا المعنى حق، فإن الله رب كل شيء، ومليكه، لكن يستشهدون على ذلك بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 1 ويقولون: إن معنى الآية: أن كل ممكن هو باعتبار ذاته هالك، أو هو عدم محض، ونفي صرف، وإنما له الوجود من جهة ربه، فهو هالك باعتبار ذاته، موجود بوجه ربه، أي من جهته هو موجود.

ثم منهم من قد يخرج منها إلى مذهب الجهمية: الاتحادية، والحلولية، فيقول: إن ذلك الوجه هو وجود الكائنات، ووجه الله هو وجوده، فيكون وجوده وجود الكائنات، لا يميز بين الوجود الواجب، والوجود الممكن - كما هو قول ابن عربي، وابن سَبْعِين ونحوهما - وهو لازم لمن جعل وجوده وجودًا مطلقًا، لا يتميز بحقيقة تخصه سواء جعله وجودًا مطلقا بشرط الإطلاق - كما يزعم ابن سينا ونحوه من المتفلسفة - أو جعله وجودًا مطلقا لا بشرط- كما يقوله الاتحادية.

وهم يسلمون من القواعد العقلية - مما هو يعلم بضرورة العقل ما يوجب أن يكون الموجود - بشرط الإطلاق - إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان كالحيوان المطلق بشرط الإطلاق، والإنسان المطلق بشرط الإطلاق ونحو ذلك. وأن المطلق لا بشرط، ليس له حقيقة، غير الوجود العيني، والذهني، ليس في الأعيان الموجودة وجود مطلق، سوى أعيانها، كما ليس في هذا الإنسان، وهذا الإنسان إنسان مطلق وراء هذا الإنسان، فيكون وجود الرب على الأول ذهني وعلى الثاني نفس وجود المخلوقات.

وقول الجهمية من المتقدمين، والمتأخرين، لا يخرج عن هذين القولين، وهو حقيقة التعطيل، لكن هم يثبتونه أيضا، فيجمعون بين النفي والإثبات، فيبقون في الحيرة؛ ولهذا يجعلون الحيرة منتهى المعرفة، ويروون عن النبي حديثا مكذوبا عليه (أعلَمكم بالله أشدكم حيرة) وأنه قال: (اللهم زدني فيك تحيرًا) ويجمعون بين النقيضين ملتزمين لذلك.

وهذا قول القرامطة الباطنية، والاتحادية، وهو لازم لقول الفلاسفة والمعتزلة، وإن لم يصرح هؤلاء بالتزامه؛ بخلاف الباطنية، والاتحادية من المتصوفة. فإنهم يصرحون بالتزامه، ويذكرون ذلك عن الحلاج.

والمقصود هنا أن يقال: أما كون وجود الخالق هو وجود المخلوق؛ فهذا كفر صريح باتفاق أهل الإيمان، وهو من أبطل الباطل في بديهة عقل كل إنسان، وإن كان منتحلوه يزعمون أنه غاية التحقيق والعرفان، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

وأما كون المخلوق لا وجود له، إلا من الخالق سبحانه فهذا حق ثم جميع الكائنات، هو خالقها، وربها، ومليكها، لا يكون شيء إلا بقدرته، ومشيئته وخلقه، هو خالق كل شيء سبحانه وتعالى.

لكن الكلام هنا في تفسير الآية بهذا، فإن المعاني تنقسم إلى حق وباطل.

فالباطل: لا يجوز أن يفسر به كلام الله.

والحق: إن كان هو الذي دل عليه القرآن فسر به، وإلا فليس كل معنى صحيح يفسر به اللفظ لمجرد مناسبة، كالمناسبة التي بين الرؤيا والتعبير، وإن كانت خارجة عن وجوه دلالة اللفظ، كما تفعله القرامطة والباطنية؛ إذ دلالة اللفظ على المعنى سمعية. فلا بد أن يكون اللفظ مستعملا في ذلك المعنى بحيث قد دل على المعنى به، لا يكتفي في ذلك بمجرد أن يصلح وضع اللفظ لذلك المعنى؛ إذ الألفاظ التي يصلح وضعها للمعاني ولم توضع لها لا يحصي عددها إلا الله. وهذا عند من يعتبر المناسبة بين اللفظ والمعنى كقول طائفة من أهل الكلام والبيان، وأما عند من لا يعتبر المناسبة فكل لفظ يصلح وضعه لكل معنى، لاسيما إذا علم أن اللفظ موضوع لمعنى هو مستعمل فيه، فحمله على غير ذلك لمجرد المناسبة كذب على الله.

ثم إن كان مخالفًا لما علم من الشريعة، فهو دأب القرامطة، وإن لم يكن مخالفًا فهو حال كثير من جهال الوعاظ، والمتصوفة الذين يقولون بإشارات لا يدل اللفظ عليها نصا ولا قياسا، وأما أرباب الإشارات الذين يثبتون ما دل اللفظ عليه، ويجعلون المعنى المشار إليه مفهوما من جهة القياس والاعتبار فحالهم كحال الفقهاء العالمين بالقياس، والاعتبار، وهذا حق إذا كان قياسا صحيحا لا فاسدا، واعتبارًا مستقيمًا، لا منحرفًا.

وإذا كان المقصود هنا الكلام في تفسير الآية فنقول: تفسير الآية بما هو مأثور ومنقول عمن قاله من السلف، والمفسرين، من أن المعنى: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه. هو أحسن من ذلك التفسير المحدث، بل لا يجوز تفسير الآية بذلك التفسير المحدث، وهذا يبين بوجوه، بعضها يشير إلى الرجحان، وبعضها يشير إلى البطلان.

الأول: أنه لم يقل: كل شيء هالك إلا من جهته، إلا من وجهه، ولكن قال: إلا وجهه. وهذا يقتضي أن ثم أشياء تهلك إلا وجهه. فإن أريد بوجهه وجوده، اقتضى أن كل ما سوي وجوده هالك، فيقتضي أن تكون المخلوقات هالكة. وليس الأمر كذلك. وهو أيضا على قول الاتحادية. فإنه عندهم ما ثم إلا وجود واحد، فلا يصح أن قال: كل ما سوي وجوده هالك؛ إذ ما ثم شيء يخبر عنه بأنه سوى وجوده، إذ أصل مذهبهم نفي السوى، والغير في نفس الأمر.

وهذا يتم بالوجه الثاني: وهو أنه إذا قيل: المراد بالهالك: الممكن الذي لا وجود له من جهته، فيكون المعنى: كل شيء ليس وجوده من نفسه إلا هو.

قيل: استعمال لفظ الهالك في الشيء الموجود المخلوق لأجل أن وجوده من ربه لا من نفسه، لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازا.

والقرآن قد فرق في اسم الهلاك بين شيء وشيء. فقال تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} 2 وقال تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 3 وقال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} 4، وقال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 5، وقال تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} 6، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ} 7، وقال: {وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 8، وقال: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} 9، وقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ} 10 وقالت الملائكة: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} 11 وقال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} 12.

فهذه الآيات تقتضي أن الهلاك استحالة، وفساد في الشيء الموجود، كما سنبينه، لا أنه يعني أنه ليس وجوده من نفسه؛ إذ جميع المخلوقات تشترك في هذا.

الوجه الثالث: أن يقال: على هذا التقدير: يكون المعنى: أن كل ما سواه ممكن قابل للعدم، ليس وجوده من نفسه، وهذا المعنى ليس هو الذي يقصدونه، وإنما مقصودهم أن كل ما سواه فوجوده منه، وبين المعنيين فرق واضح، فإن الخبر عن الشيء بأنه ممكن قابل العدم، ليس وجوده من نفسه غير الخبر عنه، بأنه موجود وإن وجوده من الله.

الوجه الرابع: أن يقال: إذا كان المراد أن كل ما سواه ممكن، والضمير عائد إلى واجب الوجود إلى الله الذي خلق الكائنات كان هذا من باب إيضاح الواضح، فإنه من المعلوم أن كل ما سوى واجب الوجود فهو ممكن، وأن كل ما هو مخلوق له فهو ممكن.

الوجه الخامس: أن يقال: اسم الوجه في الكتاب والسنة، إنما يذكر في سياق العبادة له والعمل له، والتوجه إليه، فهو مذكور في تقرير ألوهيته، وعبادته وطاعته، لا في تقرير وحدانية كونه خالقًا وربًا، وذلك المعنى هو العلة الغائية، وهذا هو العلة الفاعلىة، والعلة الغائية، هي المقصودة التي هي أعلى وأشرف بل هي علة فاعلىة للعلة الفاعلىة، ولهذا قدمت في مثل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 13 وفي مثل قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه} 14، وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى

وَلَسَوْفَ يَرضي} 15، وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا} 16، وقال تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} 17.

وإذا كان كذلك، كان حمل اسم الوجه في هذه الآية على ما يدل عليه في سائر الآيات أولى من حمله على ما يدل عليه لفظ الوجه في شيء من الكتاب والسنة، بل هذا هو الواجب دون ذاك؛ لأن هذا استعمال للفظ فيما لم يرد به الكتاب، والكتاب قد ورد بغيره حيث ذكر.

الوجه السادس: أن اسم الهلاك يراد به الفساد، وخروجه عما يقصد بهويراد، وهذا مناسب لما لا يكون لله، فإنه فاسد لا ينتفع به في الحقيقة، بل هو خارج عما يجب قصده وإرادته. قال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} 18 أخبر أنهم يهلكون أنفسهم بنهيهم عن الرسول، وننأيهم عنه، معلوم أن من نأى عن اتباع الرسول، ونهي غيره عنه وهو الكافر فإن هلاكه بكفره هو حصول العذاب المكروه له، دون النعيم المقصود. وقال تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} 19. وقال:


هامش[عدل]

  1. [القصص: 88]
  2. [النساء: 176]
  3. [البقرة: 195]
  4. [الأنعام: 26]
  5. [الجاثية: 24]
  6. [الأعراف: 4]
  7. [مريم: 74]
  8. [الإسراء: 58]
  9. [النمل: 48، 49]
  10. [الإسراء: 17]
  11. [العنكبوت: 31]
  12. [المرسلات: 16، 17]
  13. [الفاتحة: 5]
  14. [هود: 123]
  15. [الليل: 19: 21]
  16. [الإنسان: 8، 9]
  17. [الأنعام: 52]
  18. [الأنعام: 26]
  19. [النساء: 167]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثاني
توحيد الربوبية | قاعدة أولية: أصل العلم الإلهي ومبدأه عند الرسول والذين آمنوا | في تمهيد الأوائل وتقرير الدلائل ببيان أصل العلم والإيمان | قد تكلم طائفة من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة في قيام الممكنات بالواجب القديم | ثم يقال هذا أيضا يقتضي | أصل الإثبات والنفي والحب والبغض هو شعور نفسي | الإيمان هو أصل السعادة وهو قول القلب وعمله | إن المنحرفين المشابهين للصابئة | تفرق الناس في هذا المقام الذي هو غاية مطالب العباد | حقيقة مذهب الاتحادية | سئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد | الذي يدعي النبوة ويبيح الفاحشة اللوطية ويحرم النكاح فإنه من الكافرين وأخبث المرتدين | وسئل: عن كتاب فصوص الحكم | السلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه في كل مكان | حكم الاتحادية ومن اعتذر عنهم | تصور مذهبهم كاف في فساده | حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله | بنوا أصلهم على ثلاث مقالات | في قولهم إن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه | فيما خالف فيه الصدر الرومي ابن عربي | أما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود | هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء | مذهب هؤلاء الاتحادية مركب من ثلاث مواد | هذا أكفر من قول النصارى من وجوه | الوجه الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | ما حكي أن العالم بمجموعه حدقة عين الله هو عين الكفر وذلك من وجوه | في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين مذهبه | حقيقة قوله وسر مذهب ابن عربي | اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك | في بعض ما يظهر به كفرهم وفساد قولهم وذلك من وجوه | أحدها | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الأصول التي يعتمدها الاتحادية | زعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية أن فرعون كان مؤمنا | سئل عن أعمال تشتمل على الحلول والاتحاد | أما ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران | ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران | قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه | سئل عن كتاب فصوص الحكم | أفعال العباد مفعولة مخلوقة لله | فيما عليه أهل العلم والإيمان من الأولين والأخرين | أن المؤمن لا بد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له | ما يشبه الاتحاد | جاء في أولياء الله الذين هم المتقون نوع من هذا | فهذان المعنيان صحيحان ثابتان | قد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد | فإذا عرف الاتحاد المعين مما يشبه الحلول أو الاتحاد | في الغلط في ذلك | كما يشهد ربوبيته وتدبيره العالم المحيط وحكمته ورحمته فكذلك يشهد إلهيته العامة | فهذا فيما يشبه الاتحاد أو الحلول في معين | وأما كفرهم بالمعبود فإذا كان لهم في بعض المخلوقات هوى | أما اتحاد ذات العبد بذات الرب بل اتحاد ذات عبد بذات عبد | نفي كونه سبحانه والدا لشيء أو متخذا لشيء ولدا | الملاحدة لا يقتصرون في كفرهم بالله على أنه ولد شيئا أو اتخذ ولدا | رسالة شيخ الإسلام إلى نصر المنبجي | سئل عن الحلاج وفيمن قال أنا أعتقد ما يعتقده الحلاج | الرد على من قال إن الحلاج من أولياء الله | سئل عمن يقول إن ما ثم إلا الله | سئل عن حديث فإن الله هو الدهر فهل هذا موافق لما يقوله الاتحادية