مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/فصل: أما ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فصل: أما ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران[عدل]

وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل: الأمر أمران: أمر بواسطة وأمر بغير واسطة، إلى آخره فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني، والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني، وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر بغير واسطة كلام باطل، فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة، فإن الله كلم موسى وأمره بلا واسطة، وكذلك كلم محمدا ، وأمره ليلة المعراج، وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة وهي أوامر دينية شرعية.

وأما الأمر الكوني: فقول القائل: إنه بلا واسطة خطأ، بل الله تعالى خلق الأشياء بعضها ببعض، وأمر التكوين ليس هو خطابا يسمعه المكون المخلوق، فإن هذا ممتنع؛ ولهذا قيل: إن كان هذا خطابا له بعد وجوده لم يكن قد كون بكن؛ بل كان قد كون قبل الخطاب، وإن كان خطابا له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع. وقد قيل في جواب هذا: إنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم، وإن كان معدوما في العين.

وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب.

وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهرًا وباطنًا فكان قوله: لا تقرب ظاهرا، وكان أمره [بكل] باطنا.

فيقال: إن أريد بكونه قال: [كل] باطنا أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع ودين، فهذا كذب وكفر. وإن كان أراد أنه خلق ذلك وقدره وكونه، فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

وإن قيل: إن آدم شهد الأمر الكوني القدري وكان مطيعا لله بامتثاله له، كما يقول هؤلاء: إن العارف الشاهد للقدر يسقط عنه الملام، فهذا مع أنه معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام فهو كفر باتفاق المسلمين.

فيقال: الأمر الكوني يكون موجودًا قبل وجود المكون، لا يسمعه العبد، وليس امتثاله مقدورًا له، بل الرب هو الذي يخلق ما كونه بمشيئته وقدرته، والله تعالى ليس له شريك في الخلق والتكوين. والعبد وإن كان فاعلا بمشيئته وقدرته، والله خالق كل ذلك، فتكوين الله للعبد ليس هو أمرًا لعبد موجود في الخارج يمكنه الامتثال، وكذلك ما خلقه من أحواله وأعماله خلقه بمشيئته وقدرته و{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٍ} 1، فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر. وأكل آدم من الشجرة، وغير ذلك من الحوادث، داخل تحت هذا كدخول آدم، فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم.

فقول القائل: إنه قال لآدم في الباطن: [كل] مثل قوله: إنه قال للكافر: اكفر، وللفاسق: افسق، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يوجد منه خطاب باطن، ولا ظاهر للكفار والفساق، والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان ذلك واقعا بمشيئته، وقدرته وخلقه وأمره الكوني، فالأمر الكوني ليس هو أمرا للعبد أن يفعل ذلك الأمر، بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد، أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال. فهو سبحانه الذي خلق الإنسان هلوعا{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} 2، وهو الذي جعل المسلمين مسلمين، كما قال الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} 3 فهو سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها، وأمره لهم بذلك أمر تكوين، بمعنى أنه قال لهم: كونوا كذلك فيكونون كذلك، كما قال للجماد: كن فيكون.

فأمر التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان، وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا إرادته ولا قدرته، لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله، كما يعلم ما جرى به القدر في أحوال غيره، وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن، بخلاف ما أمره في الظاهر، بل أمره بالطاعة باطنا وظاهرًا، ونهاه عن المعصية باطنا وظاهرا، وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنا وظاهرًا، وخلق العبد وجميع أعماله باطنا وظاهرًا، وكون ذلك بقوله: كن باطنا وظاهرًا.

وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر، بل القدر يؤمن به ولا يحتج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين، متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرًا لزم ألا يلام أحد، ولا يعاقب ولا يقتص منه، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته ألا ينتصر من الظالم، ولا يغضب عليه، ولا يذمه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة، لا يمكن أحد أن يفعله، فهو ممتنع طبعا محرم شرعا.

ولو كان القدر حجة وعذرًا، لم يكن إبليس ملوما ولا معاقبا، ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار، ولا كان جهاد الكفار جائزا، ولا إقامة الحدود جائزا، ولا قطع السارق، ولا جلد الزاني ولا رجمه، ولا قتل القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه.

ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلا في فطر الخلق وعقولهم، لم تذهب إليه أمة من الأمم، ولا هو مذهب أحد من العقلاء، الذين يطردون قولهم، فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد، لا في دنياه ولا آخرته، ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة، إن لم يكن أحدهما ملتزما مع الآخر نوعا من الشرع، فالشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده.

لكن الشرائع تتنوع: فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل، وتارة لا تكون كذلك، ثم المنزلة: تارة تبدل وتغير كما غير أهل الكتاب شرائعهم وتارة لا تغير ولا تبدل، وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل. وأما القدر، فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه، فإذا فعل فعلا محرما بمجرد هواه وذوقه ووجده، من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر، كما قال المشركون: {لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} 4، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلله الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 5. فبين أنهم ليس عندهم علم بما كانوا عليه من الدين، وإنما يتبعون الظن.

والقوم لم يكونوا ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر، فإنه لو خرب أحد الكعبة، أو شتم إبراهيم الخليل، أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه، كيف وقد عادوا النبي على ما جاء به من الدين، وما فعله هو أيضا من المقدور.

فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان للنبي وأصحابه. فإن كان كل ما يحدث في الوجود فهو مقدر، فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر، إن كان الاحتجاج به صحيحا، ولكن كانوا يعتمدون على ما يعتقدونه من جنس دينهم وهم في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون.

وموسى لما قال لآدم: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟) فقال آدم عليه السلام فيما قال لموسى: (لم تلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ فحج آدم موسى)، لم يكن آدم عليه السلام محتجا على فعل ما نهى عنه بالقدر، ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله، بل آحاد المؤمنين لا يفعلون مثل هذا، فكيف آدم وموسى؟

وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى، وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه، فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى التوبة، ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك، ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره، وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق، ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها، كيف وقد قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} 6، وقال: {أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} 7، وهذا باب واسع.

وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشجرة؛ ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع، واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر، فإن الأب لو فعل فعلا افتقر به حتى تضرر بنوه، فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر، لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب. والعبد مأمور أن يصبر على المقدور، ويطيع المأمور، وإذا أذنب استغفر، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ} 8، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 9. قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.

فمن احتج بالقدر على ترك المأمور، وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان والدين، وصار من حزب الملحدين المنافقين، وهذا حال المحتجين بالقدر.

فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عَظُمَ جَزَعُه وقَلَّ صَبْرُه، فلا ينظر إلى القدر ولا يسلم له، وإذا أذنب ذنبا أخذ يحتج بالقدر، فلا يفعل المأمور، ولا يترك المحظور، ولا يصبر على المقدور، ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين، وأئمة المحققين الموحدين، وإنما هو من أعداء الله الملحدين، وحزب الشيطان اللعين.

وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان، تجد أحدهم أجبر الناس إذا قدر، وأعظمهم ظلما وعدوانا، وأذل الناس إذا قهر، وأعظمهم جزعا ووهنا، كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب، والمقاتلة من أصناف الناس.

والمؤمن إن قدر عدل وأحسن، وإن قهر وغلب صبر واحتسب، كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي التي أولها: بانت سعاد... إلخ في صفة المؤمنين:

ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ** يوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا

وسئل بعض العرب عن شيء من أمر النبي فقال: رأيته يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر.

وقد قال تعالى: {أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} 10، وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئا} 11، وقال تعالى: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} 12، وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 13، فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة، فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور، والتقوى يدخل فيها فعل المأمور وترك المحظور.

فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير، بخلاف من عكس فلا يتقى الله بل يترك طاعته متبعا لهواه ويحتج بالقدر، ولا يصبر إذا ابتلى ولا ينظر حينئذ إلى القدر، فإن هذا حال الأشقياء، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.

يقول: أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقا لطاعتك، فتنسى نعمة الله عليك أن جعلك مطيعا له، وإذا عصيت لم تعترف بأنك فعلت الذنب، بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده، أو المحرك الذي لا إرادة له ولا قدرة ولا علم، وكلاهما خطأ.

وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: إذا عمل العبد حسنة فقال: أي رب، أنا فعلت هذه الحسنة، قال له ربه: أنا يسرتك لها وأنا أعنتك عليها. فإن قال: أي رب، أنت أعنتني عليها ويسرتني لها، قال له ربه: أنت عملتها وأجرها لك، وإذا فعل سيئة فقال: أي رب، أنت قدرت على هذه السيئة. قال له ربه: أنت اكتسبتها وعليك وزرها، فإن قال: أي رب، إني أذنبت هذا الذنب وأنا أتوب منه، قال له ربه: أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك. وهذا باب مبسوط في غير هذا الموضع.

وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط، من غير شهود الأمر والنهي، والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور، وهذا أعظم الضلال

ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه، كان أكفر من اليهود والنصارى والمشركين، لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله

وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله: آدم كان أمره بكل باطنا فأكل، وإبليس كان توحيده ظاهرا فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرا فلم يسجد فغير الله عليه وقال: {اخْرُجْ مِنْهَا}الآية 14، فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد كذب على آدم وإبليس فإن آدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة، وأنه هو الظالم لنفسه وتاب من ذلك، ولم يقل: إن الله ظلمني، ولا إن الله أمرني في الباطن بالأكل، قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 15، وقال تعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 16، وإبليس أصر واحتج بالقدر فقال: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 17.

وأما قوله: [رآه غيرا فلم يسجد]، فهذا شر من الاحتجاج بالقدر، فإن هذا قول أهل الوحدة الملحدين، وهو كذب على إبليس، فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه غيرا بل قال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} 18، ولم تؤمر الملائكة بالسجود لكون آدم ليس غيرا، بل المغايرة بين الملائكة وآدم ثابتة معروفة، والله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 19

وكانت الملائكة وآدم معترفين بأن الله مباين لهم، وهم مغايرون له، ولهذا دعوه دعاء العبد ربه، فآدم يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} 20، والملائكة تقول: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} 21، وتقول: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}الآية 22، وقد قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 23، وقال تعالى: {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} 24، وقال: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا} 25

فلو لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروه بعبادة غير الله، ولا اتخاذ غير الله وليا ولا حكما، فلم يكونوا يستحقون الإنكار، فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت غيرٍ يمكن عبادته واتخاذه وليا وحكما، وأنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 26، وقال: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا} 27، وأمثال ذلك.

وأما قول القائل: إن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 28 عين الإثبات للنبي صلى الله عيله وسلم كقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى} 29، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 30 فهذا بناء على قول أهل الوحدة والاتحاد، وجعل معنى قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} أن فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة، وهذا ضلال عظيم من وجوه:

أحدها: أن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} نزل في سياق قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} 31. وقد ثبت في الصحيح أن النبي كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت، فلما أنزل الله هذه الآية ترك ذلك، فعلم أن معناها إفراد الرب تعالى بالأمر، وأنه ليس لغيره أمر، بل إن شاء الله تعالى قطع طرفا من الكفار، وإن شاء كَبَتَهُم فانقلبوا بالخسارة، وإن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم.

وهذا كما قال في الآية الأخرى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} 32، ونحو ذلك قوله تعالى: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لله} 33.

الوجه الثاني: أن قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى} 34 لم يرد به أن فِعلَ العبد هو فعل الله تعالى كما تظنه طائفة من الغالطين فإن ذلك لو كان صحيحا لكان ينبغي أن يقال لكل أحد، حتى يقال للماشي: ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى، ويقال للراكب: وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب، ويقال للمتكلم: ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم، ويقال مثل ذلك للآكل والشارب، والصائم والمصلي ونحو ذلك.

وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكفار: ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر، ويقال للكاذب: ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب.

ومن قال مثل هذا فهو كافر ملحد، خارج عن العقل والدين.

ولكن معنى الآية أن النبي يوم بدر رماهم، ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذ رماهم بالتراب وقال: (شاهت الوجوه) لم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم، فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم كلهم بقدرته. يقول: وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل، فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه، فإن هذا مستلزم للجمع بين النقيضين، بل نفى عنه الإيصال والتبليغ، وأثبت له الحذف والإلقاء، وكذلك إذا رمى سهما فأوصله الله إلى العدو إيصالا خارقا للعادة، كان الله هو الذي أوصله بقدرته.

الوجه الثالث: أنه لو فرض أن المراد بهذه الآية: أن الله خالق أفعال العباد فهذا المعنى حق، وقد قال الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 35، فالله هو الذي جعل المسلم مسلما، وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} 36، فالله هو الذي خلقه هلوعا، لكن ليس في هذا أن الله هو العبد، ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، ولا أن الله حال في العبد.

فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق، والقول بأن الخالق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل.

وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد، وهذا عين الضلال والإلحاد.

الوجه الرابع: أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} 37 لم يرد به: أنك أنت الله، وإنما أراد: أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه، فمن بايعك فقد بايع الله، كما أن من أطاعك فقد أطاع الله، ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله، ولكن الرسول أمر بما أمر الله به.

فمن أطاعه فقد أطاع الله، كما قال النبي : (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني) ومعلوم أن أميره ليس هو إياه.

ومن ظن في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} أن المراد به: أن فعلك هو فعل الله، أو المراد: أن الله حال فيك ونحو ذلك، فهو مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره.

وذلك أنه لو كان المراد به: كون الله فاعلا لفعلك، لكان هذا قدرا مشتركا بينه وبين سائر الخلق، وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله، ومن بايع مسيلمة الكذاب فقد بايع الله، ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله، وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضا، فيكون الله قد بايع الله، إذ الله خالق لهذا ولهذا، وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد، فإنه عام عندهم في هذا وهذا، فيكون الله قد بايع الله.

وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية الاتحادية، حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو يقول: أقاتل الله؟ ما أقدر أن أقاتل الله، ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم، وبينا فساده لهم وضلالهم فيه غير مرة.

وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء، بل هو قول النصارى ومن وافقهم من الغالية وهو باطل أيضا، فإن الله سبحانه قال له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 38، وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} 39، وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} 40، وقال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} 41، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا. وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا} 42.

فقوله: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} بيَّن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ}؛ ولهذا قال: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 43. ومعلوم أن يد النبي كانت مع أيديهم، كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة، فعلم أن يد الله فوق أيديهم ليست هي يد النبي ، ولكن الرسول عبد الله ورسوله، فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله، فالذين بايعوه بايعوا الله الذي أرسله وأمره ببيعتهم.

ألا ترى أن كل من وكل شخصا يعقد مع الوكيل، كان ذلك عقدا مع الموكل؟ ومن وكل نائبا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه، كانوا معاهدين لمستنيبه؟ ومن وكل رجلا في إنكاح أو تزويج، كان الموكل هو الزوج الذي وقع له العقد؟ وقد قال تعالى: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}الآية 44، ولهذا قال في تمام الآية: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} 45.

فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح، وأن الله إذا كان قد قال لنبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} فإيش نكون نحن؟ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (لا تُطْرُوني كما أَطرت النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)

وأما قول القائل:

ما غبت عن القلب ولا عن عيني ** ما بينكم وبيننا من بين

فهذا قول مبنى على قول هؤلاء، وهو باطل متناقض، فإن مبناه على أنه يرى الله بعينه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: (واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت)

وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحدا من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا، ولم يتنازعوا إلا في النبي خاصة، مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله علسه وسلم، والصحابة وأئمة المسلمين.

ولم يثبت عن ابن عباس، ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما، أنهم قالوا: إن محمدا رأى ربه بعينه، بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه، وقوله: (أتاني البارحة ربي في أحسن صورة) الحديث الذي رواه الترمذي وغيره، إنما كان بالمدينة في المنام، هكذا جاء مفسرا.

وكذلك حديث أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان بالمدينة كما جاء مفسرا في الأحاديث، والمعراج كان بمكة كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} 46، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

وقد ثبت بنص القرآن أن موسى قيل له: {لن تراني} 47، وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً} 48، فمن قال: إن أحدًا من الناس يراه، فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران، ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتابا من السماء.

والناس في رؤية الله على ثلاثة أقوال:

فالصحابة والتابعونَ وأئمة المسلمين على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار عيانًا، وأن أحدا لا يراه في الدنيا بعينه، لكن يرى في المنام ويحصل للقلوب من المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها.

ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه، حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه، وهو غالط، ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد، ومعرفته في صورة مثالية، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

والقول الثاني: قول نفاة الجهمية: أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة.

والثالث: قول من يزعم أنه يرى في الدنيا والآخرة.

وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات، فيقولون: إنه لا يري في الدنيا ولا في الآخرة، وأنه يرى في الدنيا والآخرة، وهذا قول ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله؛ لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى، وهو وجود الحق عندهم.

ثم من أثبت الذات قال: يرى متجليا فيها، ومن فرق بين المطلق والمعين قال: لا يرى إلا مقيدا بصورة.

وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين: إنكار رؤية الله، وإثبات رؤية المخلوقات، ويجعلون المخلوق هو الخالق، أو يجعلون الخالق حالا في المخلوق، وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول: بأن المعدوم شيء في الخارج، وهو قول باطل، وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق.

وأما التفريق بين المطلق والمعين مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقا فيقتضي أن يكون الرب معدوما، وهذا هو جحود الرب وتعطيله، وإن جعلوه ثابتا في الخارج جعلوه جزءا من الموجودات، فيكون الخالق جزءا من المخلوق أو عرضا قائما بالمخلوق، وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.

وأما تناقضه فقوله:

ما غبت عن القلب ولا عن عيني ** ما بينكم وبيننا من بين

يقتضي المغايرة، وأن المخاطَب غير المخاطِب، وأن المخاطَب له عين وقلب لا يغيب عنهما المخاطب، بل يشهده القلب والعين، والشاهد غير المشهود.

وقوله:

ما بينكم وبيننا من بين **

فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب، وهذا إثبات لاثنين، وإن قالوا: هذه مظاهر ومجالٍ، قيل: فإن كانت المظاهر والمجالي غير الظاهر والمتجلي، فقد ثبتت التثنية وبطلت الوحدة، وإن كان هو إياها فقد بطل التعدد، فالجمع بينهما تناقض.

وقول القائل:

فارق ظلم الطبع وكن متحدا ** بالله وإلا فكل دعواك محال

إن أراد الاتحاد المطلق، فالمفارق هو المفارق، وهو الطبع وظلم الطبع، وهو المخاطب بقوله: وكن متحدا بالله وهو المخاطب بقوله: كل دعواك محال وهو القائل هذا القول، وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى.

وإن أراد الاتحاد المقيد، فهو ممتنع، لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد.

وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد، ونحو ذلك مما يثبته النصارى بقولهم في الاتحاد لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته، كسائر ما يتحد مع غيره، فإنه لا بد أن يستحيل.

وهذا ممتنع على الله تعالى ينزه عنه؛ لأن الاستحالة تقتضى عدم ما كان موجودا، والرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له، يمتنع العدم على شيء من ذلك؛ ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال، فعدم شيء منها نقص يتعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب، وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق، فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل.

والرب تعالى يلازمه القدم والغنى والعزة، وهو سبحانه قديم غني عزيز بنفسه، يستحيل عليه نقيض ذلك، فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضي أن يكون الرب متصفا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل، والعبد متصفا بنقيض صفاته من القدم، والغنى الذاتي، والعز الذاتي، وكل ذلك ممتنع، وبسط هذا يطول.


هامش[عدل]

  1. [يس: 82]
  2. [المعارج: 20، 21]
  3. [البقرة: 128]
  4. [الأنعام: 148]
  5. [الأنعام: 148، 149]
  6. [القصص: 16]
  7. [الأعراف: 155]
  8. [غافر: 55]
  9. [التغابن: 11]
  10. [يوسف: 90]
  11. [آل عمران: 120]
  12. [آل عمران: 125]
  13. [آل عمران: 168]
  14. [الأعراف: 18]
  15. [البقرة: 37]
  16. [الأعراف: 23]
  17. [الحجر: 39]
  18. [الأعراف: 12]
  19. [البقرة: 31، 32]
  20. [الأعراف: 23]
  21. [البقرة: 32]
  22. [غافر: 7]
  23. [الزمر: 64]
  24. [الأنعام: 14]
  25. [الأنعام: 114]
  26. [الشعراء: 213]
  27. [الإسراء: 22]
  28. [آل عمران: 128]
  29. [الأنفال: 17]
  30. [الفتح: 10]
  31. [آل عمران: 127، 128]
  32. [الأعراف: 188]
  33. [آل عمران: 154]
  34. [الأنفال: 17]
  35. [البقرة: 128]
  36. [المعارج: 19، 21]
  37. [الفتح: 10]
  38. [آل عمران: 128]
  39. [الجن: 19]
  40. [الإسراء: 1]
  41. [البقرة: 23]
  42. [الفتح: 18، 19]
  43. [الفتح: 10]
  44. [التوبة: 111]
  45. [الفتح: 10]
  46. [الإسراء: 1]
  47. [الأعراف: 143]
  48. [النساء: 153]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثاني
توحيد الربوبية | قاعدة أولية: أصل العلم الإلهي ومبدأه عند الرسول والذين آمنوا | في تمهيد الأوائل وتقرير الدلائل ببيان أصل العلم والإيمان | قد تكلم طائفة من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة في قيام الممكنات بالواجب القديم | ثم يقال هذا أيضا يقتضي | أصل الإثبات والنفي والحب والبغض هو شعور نفسي | الإيمان هو أصل السعادة وهو قول القلب وعمله | إن المنحرفين المشابهين للصابئة | تفرق الناس في هذا المقام الذي هو غاية مطالب العباد | حقيقة مذهب الاتحادية | سئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد | الذي يدعي النبوة ويبيح الفاحشة اللوطية ويحرم النكاح فإنه من الكافرين وأخبث المرتدين | وسئل: عن كتاب فصوص الحكم | السلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه في كل مكان | حكم الاتحادية ومن اعتذر عنهم | تصور مذهبهم كاف في فساده | حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله | بنوا أصلهم على ثلاث مقالات | في قولهم إن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه | فيما خالف فيه الصدر الرومي ابن عربي | أما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود | هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء | مذهب هؤلاء الاتحادية مركب من ثلاث مواد | هذا أكفر من قول النصارى من وجوه | الوجه الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | ما حكي أن العالم بمجموعه حدقة عين الله هو عين الكفر وذلك من وجوه | في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين مذهبه | حقيقة قوله وسر مذهب ابن عربي | اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك | في بعض ما يظهر به كفرهم وفساد قولهم وذلك من وجوه | أحدها | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الأصول التي يعتمدها الاتحادية | زعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية أن فرعون كان مؤمنا | سئل عن أعمال تشتمل على الحلول والاتحاد | أما ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران | ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران | قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه | سئل عن كتاب فصوص الحكم | أفعال العباد مفعولة مخلوقة لله | فيما عليه أهل العلم والإيمان من الأولين والأخرين | أن المؤمن لا بد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له | ما يشبه الاتحاد | جاء في أولياء الله الذين هم المتقون نوع من هذا | فهذان المعنيان صحيحان ثابتان | قد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد | فإذا عرف الاتحاد المعين مما يشبه الحلول أو الاتحاد | في الغلط في ذلك | كما يشهد ربوبيته وتدبيره العالم المحيط وحكمته ورحمته فكذلك يشهد إلهيته العامة | فهذا فيما يشبه الاتحاد أو الحلول في معين | وأما كفرهم بالمعبود فإذا كان لهم في بعض المخلوقات هوى | أما اتحاد ذات العبد بذات الرب بل اتحاد ذات عبد بذات عبد | نفي كونه سبحانه والدا لشيء أو متخذا لشيء ولدا | الملاحدة لا يقتصرون في كفرهم بالله على أنه ولد شيئا أو اتخذ ولدا | رسالة شيخ الإسلام إلى نصر المنبجي | سئل عن الحلاج وفيمن قال أنا أعتقد ما يعتقده الحلاج | الرد على من قال إن الحلاج من أولياء الله | سئل عمن يقول إن ما ثم إلا الله | سئل عن حديث فإن الله هو الدهر فهل هذا موافق لما يقوله الاتحادية