مجموعة الرسائل والمسائل/مختارات من المسائل الكيلانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


مختارات من المسائل الكيلانية

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام أبو الحسن بن عروة رحمه الله تعالى في "الكواكب":1

نقل من سؤال قدم من بلاد "كيلان" في مسألة القرآن إلى دمشق في سنة أربع وسبعمائة من جهة سلطان تلك البلاد على يد قاضيها، لأجل معرفة الحق من الباطل عندما كثر عندهم الاختلاف والاضطراب، ورغب كل من الفريقين في قبول كلام شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية في هذا الباب، فأملاه شيخ الإسلام في المجلس، وكتبه أحمد بن محمد بن مري الشافعي بخط جيد قوي. ثم إن كاتب هذه الأوراق اطلع على هذه الفتوى يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثمانمائة فاخترت لنفسي منها مواضع نقلتها في هذه الأوراق إذ الجواب جواب طويل جدا.

(صورة السؤال)

ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم في قوم يقولون: إن كلام الناس وغيرهم قديم، سواء أكان الكلام صدقا أو كذبا، فحشا أو غير فحش، نظما أو نثرا، ولا فرق بين كلام الله عز وجل وكلامهم في القدم إلا من جهة الثواب.

وقال قوم منهم - بل أكثرهم: أصوات الحمير والكلاب كذلك لما قرئ عليهم ما نقل عن الإمام أحمد ردا على قولهم تأولوا ذلك القول وقالوا: إن أحمد إنما قال ذلك خوفا من الناس، فهل هم مصيبون أو مخطئون؟ فإذا كانوا مخطئين فهل على ولي الأمر وفقه الله ردعهم وزجرهم عن ذلك أم لا؟ وإذا وجب زجرهم فهل يكفرون إن أصروا أم لا؟ وهل الذي نقل عن الإمام أحمد حق، أو هو كما يزعمون؟ أفتونا مأجورين.

كلام البشر مخلوق وما يقرءونه من القرآن غير مخلوق

أجاب الإمام العلامة شيخ الإسلام قامع البدع ومظهر الحق للخلق أبو العباس أحمد بن تيمية:

الحمد لله.. بل هؤلاء مخطئون في ذلك خطأ محرما فاحشا بإجماع المسلمين، وقد قالوا منكرا من القول وزورا، بل كفرا وضلالا ومحالا، ويجب نهيهم عن هذا القول الفاحش، ويجب على ولاة الأمور عقوبة من لم ينته منهم عن ذلك جزاء بما كسب نكالا من الله، فإن هذا القول مخالف للعقل والنقل والدين، مناقض للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين، وهي بدعة شنيعة لم يقلها قط أحد من علماء المسلمين، لا من علماء السنة ولا من علماء البدعة، ولا يقولها عاقل يفهم ما يقول، ولا يحتاج في مثل هذا الكلام الذي فساده معلوم ببداهة العقل أن يحتج له بنقل عن إمام من الأئمة، إلا من جهة أن رده وإنكاره منقول عن الأئمة، وإن قائله مخالف للأمة مبتدع في الدين، ولتزول بذلك شبهة من يتوهم أن قولهم من لوازم قول أحد من السلف، وليعلم أنهم مخالفون لمذاهب الأئمة المقتدى بهم، بل قول الأئمة مناقض لقولهم، فإن الأئمة كلهم نصوا على أن كلام الآدميين مخلوق، بل نص أحمد على أن فعال العباد مخلوقة عموما وعلى كلام الآدميين خصوصا، لم يمتنعوا عن هذا الإطلاق لأجل الشبهة التي عرضت لمثل هؤلاء المبتدعة.

من البدعة أن يقال "لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق"

ثم ساق الشيخ كلاما طويلا إلى أن قال: ومن المشهورفي كتاب صريح السنة لمحمد بن جرير الطبري - وهو متواتر عنه - لما ذكر الكلام في أبواب السنة قال: وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا عن تابعي قفا، إلا عمن في قوله الشفا والغنى، وفي اتباعه الرشد والهوى، ومن قام مقام الأئمة الأول: أبي عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل، فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله يقول: اللفظية جهمية. قال ابن جرير: سمعت من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يحكون عنه أنه كان يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. قال ابن جرير: القول في ذلك عندنا لا يجوز أن يقول أحد غير قوله، إذ لم يكن إمام قائم به سواه، وفيه كفاية لكل متبع، وقناعة لكل مقتنع، وهو الإمام المتبع.

وقال صالح بن الإمام أحمد: بلغ أبي أن أبا طالب يحكي عن أبي أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فقال: ابعث إلى أبي طالب، فوجهت إليه فجاء فقال له أبي: أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وغضب أبي وجعل يرتعد، فقال له: قرأت عليك: " قل هو الله أحد " فقلت لي: هذا ليس بمخلوق، فقال له: فلم حكيت عني أني قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وبلغني أنك وضعت ذلك في كتابك وكتبت به إلى قوم، فإن كان في كتابك فامحه أشد المحو، واكتب إلى القوم الذين كتبت إليهم أني لم أقل هذا، وغضب وقال له: تحكي عني ما ألم أقل؟ فجعل فوزان يعتذر إليه. وانصرف من عنده وهو مرعوب، فعاد أبو طالب فذكر أنه حكى ذلك من كتابه وكتب إلى أولئك القوم يخبرانه وهم علي أبي عبد الله في الحكاية عنه، قال أبو عبد الله: القرآن حيث تصرف غير مخلوق.

وقال عبد الوهاب الوراق: من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فإنه يهجر ولا يكلم ويحذر منه، وذكر الخلال في كتاب القراءة عن إسحاق بن إبراهيم قال: قال أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - وكنت سألته عن قوله: من لم يتغن بالقرآن، قال: هو الرجل يرفع صوته به فهذا معناه إذا رفع صوته فقد تغنى به، وعن منصور وصالح أنه قال لأبيه يرفع صوته بالقرآن بالليل؟ قال: نعم إن شاء رفع، ثم ذكر حديث أم هانئ: كنت أسمع قراءة النبي وأنا على عريشي من الليل. وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان فقال: كل شيء محدث فإنه لا يعجبني إلا أن يكون صوت رجل لا يتكلفه.

فضل أحمد على سائر أئمة السنة ومكانة أهل الحديث الحديث من علماء الأمة

قال: وأما قول القائل أن أحمد قال ذلك خوفا من الناس فبطلان هذا القول يعلمه كل عاقل بلغه شيء من أخبار أحمد، وقائل هذا هو إلى العقوبة البليغة أحوج منه إلى جوابه لافترائه على الأئمة، فإن الإمام أحمد صار مثلا سائرا يضرب به المثل في المحنة، والصبر على الحق، فإنه لم يكن يأخذه في الله لومة لائم، حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد فيقال قال الإمام أحمد وهذا مذهب الإمام أحمد لقوله تعالى: " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " فإنه أعطي من الصبر واليقين، وينال به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والسعاة والأمراء والولاة ما لا يحصيه إلا الله، فبعضهم تسلط عليه بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد، وبعضهم يعده بالقتل، وبغيره من الرعب، وبعضهم بالترغيب في الرياسة والمال، وبعضهم بالنفي والتشريد من وطنه، وقد خذله في ذلك أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون، وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله وآثاره ما دفع به البدع المخالفة لذلك مما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه، ولهذا قال بعض علماء الشام لم يظهر أحد ما جاء به الرسول كما أظهره أحمد بن حنبل، فكيف يظن به أنه كان يخاف هذه الكلمة التي لا قدر لها، وأيضا فمن أصوله أنه لا يقول في الدين قولا مبتدعا، فكيف بكلمة ما قالها أحد قبله.

قال: فالمنتسبون إلى السنة والحديث وإن كانوا أصلح من غيرهم وفيهم من الخير ما لا يوجد في غيرهم، فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فكما أنه يوجد في المنتسبين إلى الإسلام ما يوجد في غيرهم من الخير فهو في المسلمين أكثر وكل شر في المسلمين فهو في غيرهم أكثر، فكذلك المنتسبون إلى السنة قد يوجد فيهم من الخير ما لا يوجد في غيرهم، وإن كان في غيرهم خير فهو فيهم أكثر، وكل شر فيهم فهو في غيرهم أكثر.

حكاية الكلام وتبليغه لا يخرجه عن إسناده إلى من صدر عنه

قال: ويجب القطع بأن كلام الآدميين مخلوق ويطلق القول بذلك إطلاقا ولا يحتاج إلى تفصيل بأن يقال نظمه أو تأليفه أو غير ذلك، وذلك لأن كلام المتكلم هو عبارة عن ألفاظه ومعانيه، وعامة ما يوجد في كتاب الله وسنة رسوله وكلام السلف وسائر الأمم عربهم وعجمهم فإنه عند إطلاقه يتناول اللفظ والمعنى جميعا لشموله لهما فيقال عن كلام الله وهو القرآن هذا كلام الله وهذا كلام فلان.

قال: وأما الأمة الوسط الباقون على الفطرة فيقولون لما بلغه المبلغ عن غيره وأداه: هذا كلام ذاك لا كلامك وإنما بلغته بقولك، كما قال أبو بكر الصديق لما خرج على قريش فقرأ " ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض " الآية. فقالوا هذا كلامك أو كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله.

وفي سنن أبي داود من حديث جابر أن رسول الله كان يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل " فبين أن ما يبلغه ويتلوه هو كلام الله لا كلامه وإن كان يبلغه بأفعاله وصوته، والأمم متفقون على هذا إذا سمعوا من يروي قصيدة أو كلاما أو قرآنا، أو مسألة قالوا هذا كلام فلان وقوله فإنه هو الذي اتصف به وألفه وأنشأه.

قال: وكذلك من تبع آباءه الذين سلفوا من غير اعتصام منه بالكتاب والسنة والإجماع فإنه ممن ذمه الله في كتابه في مثل قوله: " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " وفي قوله: " يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " الآية. وكذلك من اتبع الظنون والأهواء معتقدا أنها عقليات وذوقيات فهو ممن قال الله فيه: " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى " وإنما يفصل بين الناس فيما تنازعوا فيه الكتاب المنزل من السماء والرسول المؤيد بالمعجزات كما قال تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " وقال: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " وقال: " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه " الآية. وقال: " إن الذين آمنوا والذين هادوا " الآية. فأخبر سبحانه عمن مضى ممن كان متمسكا بدين حق من اليهود والنصارى والصابئين وعن المؤمنين بعد مبعث محمد من جميع الأمم إن من تلبس بهذه الخصال من سائر الأمم وهي جماع الصلاح وهي الإيمان بالله والبعث والمعاد والإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحا وهو أداء المأمورات وترك المحظورات فإن له أجره عند ربه ولا خوف عليه مما أمامه ولا يحزن على ما وراءه، وإسلام الوجه هو إخلاص الدين لله وهو عبادته وحده لا شريك له وهو حقيقة قول: " إياك نعبد وإياك نستعين " وهو محسن، فالأول وهو إسلام الوجه وهو النية وهذا الثاني وهو الإحسان هو العمل الصالح. وهذا الذي ذكره في هاتين الآيتين هو الإيمان العام والإسلام العام الذي أوجبه على جميع عباده من الأولين والآخرين، وهو دين الله العام الذي بعث به جميع الرسل وأنزل به جميع الكتب.

أول بدعة في الإسلام وتكفير المؤمن بالذنوب

فكان أول بدعة حدثت في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنوب، فإنهم يكفرون الفاسق الملي، فزعمت الخوارج والمعتزلة أن الذنوب الكبيرة - ومنهم من قال والصغيرة - لا تجامع الإيمان أبدا بل تنافيه وتفسده كما يفسد الأكل والشرب الصيام.

قالوا: والإيمان هو فعل المأمور وترك المحظور فمتى بطل بعضه بطل كله كسائر المركبات فيكون العاصي كافرا لأنه ليس إلا مؤمن أو كافر.

وقالت المعتزلة: ننزله منزلة بين المنزلتين: نخرجه من الإيمان ولا ندخله في الكفر. وقابلتهم المرجئة والجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة ولا ترك المحظورات البدنية فإن الإيمان لا يقبل الزيادة ولا النقصان، بل هو شيء واحد يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة والمقتصدين والمقربين والظالمين.

تفسير قول السلف "الإيمان قول وعمل"، وبيان إجماله

وأما السلف والأئمة فاتفقوا على أن الإيمان قول وعمل، فيدخل في القول قول القلب واللسان، وفي العمل عمل القلب والأركان، وقال المنتصرون لمذهبهم أن للإيمان أصولا وفروعا وهو مشتمل على أركان وواجبات ومستحبات بمنزلة اسم الحج والصلاة وغيرها من العبادات، فإن اسم الحج يتناول كل ما يشرع فيه من فعل أو ترك مثل الإحرام ومثل ترك محظوراته والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى والطواف بالبيت وبين الجبلين المكتنفين له وهما الصفا والمروة. ثم الحج مع هذا اشتمل على أركان متى تركت لم يصح الحج كالوقوف بعرفة، وعلى ترك محظور متى فعله فسد حجه وهي الوطء، ومشتمل على واجبات من فعل وترك يأثم بتركها عمدا، ويجب مع تركها لعذر أو غيره الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت المكانية، والجمع بين الليل والنهار بعرفة، وكرمي الجمار ونحو ذلك، ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها ولا يأثم بتركها ولا توجب دما، مثل رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه وسوق الهدي وذكر الله ودعائه في تلك المواضع، وقلة الكلام إلا في أمر أو نهي أو ذكر: من فعل الواجب وترك المحظور فقد تم حجه وعمرته لله وهو مقتصد من أصحاب اليمين في هذا العمل، لكن من أتى بالمستحب فهو أكمل منه وأتم حجا وعملا وهو سابق مقرب، ومن ترك المأمور وفعل المحظور لكنه أتى بأركانه وترك مفسداته فهو حج ناقص يثاب على ما فعله من الحج ويعاقب على ما تركه، وقد سقط عنه أصل الفرض بذلك مع عقوبته على ما ترك، ومن أخل بركن أو فعل مفسدا فحجه فاسد لا يسقط به فرضه بل عليه إعادته، مع أنه قد تنازعوا في إثباته على ما فعله وإن لم يسقط به الفرض، والأشبه أنه يثاب عليه، فصار الحج ثلاثة أقسام كاملا بالمستحبات، وتاما بالواجبات فقط، وناقصا عن الواجب، والفقهاء يقسمون الوضوء إلى كامل فقط ومجزئ، ويريدون بالكامل ما أتى بمفروضه ومسنونه بالمجزئ ما اقتصر على واجبه، فهذا في الأعمال المشروعة وكذلك في الأعيان المشهودة فإن الشجرة مثلا اسم لمجموع الجذع والأغصان وهي بعد ذهاب الورق شجرة كاملة وبعد ذهاب الأغصان شجرة ناقصة، فليكن مثل ذلك في مسمى الإيمان.

الإيمان كالصلاة والحج يبطل ببعض متعلقاته دون بعض

والذين قالوا الإيمان ثلاث درجات: إيمان السابقين المقربين، وهو ما أتي فيه بالواجبات والمستحبات من فعل وترك، وإيمان المقتصدين أصحاب اليمين وهو ما ترك صاحبه فيه بعض الواجبات، أو فعل فيه بعض المحظورات، ولهذا قال علماء السنة: لا يكفر أحد بذنب، إشارة إلى بدعة الخوارج الذين يكفرون بالذنب، وإيمان الظالمين لأنفسهم وهو من أقر بأصل الإيمان وهو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله وهو شهادة أن لا إله إلا الله ولم يفعل المأمورات ويجتنب المحظورات، فإن أصل الإيمان التصديق والانقياد فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن وقد تواتر في الأحاديث: " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان - مثقال حبة من خير - مثقال ذرة من خير " و " الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " فعلم أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة، وإن قليله يخرج به صاحبه من النار إن دخلها، وليس كما يقوله الخارجون عن مقالة أهل السنة أنه لا يقبل التبعيض والتجزئة بل هو شيء واحد إما أن يحصل كله وإما أن لا يحصل منه شيء.

الإيمان الكامل والإيمان الناقص وزيادة الإيمان

واعلم أن عامة السور المكية التي أنزلها الله بمكة هي في هذا الإيمان العام المشترك بين الأنبياء جميعهم، وهذا القدر المشترك هو في بعض الملل أعظم قدرا ووصفا، فإن ما جاء به محمد من صفات الله وأسمائه وذكر اليوم الآخر أكمل مما جاء به سائر الأنبياء ومنه ما تختلف الشرائع والمناهج كالقبلة والنسك ومقادير العبادات وأوقاتها وصفاتها والسنن والأحكام وغير ذلك، فمسمى الإيمان والدين في أول الإسلام ليس هو مسماه في آخر زمان النبوة، بل مسماه في الآخر أكمل من مسماه في أول البعثة وأوسطها، كما قال تعالى في آخر الأمر: " اليوم أكملت لكم دينكم " وقال بعدها: " ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله " ولهذا قال الإمام أحمد: كان الإيمان في أول الإسلام ناقصا فجعل يتم، وهكذا مسمى الإيمان والدين قد يتنوع بحسب الأشخاص، وبحسب أمر الله كلا منهم، وبحسب ما يفعله مما أمر به، وبحسب إقباله وحضوره وإخلاصه، فإن المؤمنين من الأولين والآخرين مشتركون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ولكن بينهم تفاوت ما في القلوب إذا ذكر الله وما في اليوم الآخر ما تفاوت به الإيمان، فعند ذكر الجنة والنجاة من النار وذم من ترك بعضه ونحو ذلك يزداد الإيمان الواجب لقوله: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " الآية. وقوله: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " الآيات. وقوله: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع " الآية. وقوله في الجنة: " أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله ". وقوله : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " الحديث نفى الإيمان الواجب عنه الذي يستحق به الجنة ولا يستلزم ذلك نفي أصل الإيمان وسائر أجزائه وشعبه هذا معنى قولهم نفي كمال الإيمان، وحقيقة ذلك أن الكمال الواجب ليس هو الكمال المستحب المذكور في قول الفقهاء: الغسل كامل ومجزئ، ومنه قوله عليه السلام: " من غشنا فليس منا " ليس المراد به أنه كافر كما تأولته الخوارج ولا أنه ليس من خيارنا كما تأولته المرجئة، ولكن المضمر يطابق المظهر، والمظهر هو المؤمنون المستحقون للثواب، السالمون من العذاب، والغاش ليس منا لأنه متعرض لعذاب الله وسخطه.

إذا تبين هذا فمن ترك بعض الإيمان الواجب في الجملة لعجزه عنه إما لعدم تمكنه من العلم أو لعدم تمكنه من العمل لم يكن مأمورا بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل، بمنزلة صلاة المريض والخائف وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة فإن صلاتهم صحيحة بحسب ما قدروا عليه وبه أمروا، وإن كانت صلاة القادر على الإتمام أفضل، وأكمل كما قال النبي : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وفي حديث حسن السياق: " إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس " ولو أمكنه العلم به دون العمل لوجب الإيمان به علما واعتقادا وإن لم يعمل به.

لا يكفر جميع السيئات إلا التوبة ولا يحبط جميع الحسنات إلا الردة

قال: فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن بالسيئات، وأنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، وإن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي في أهل الكبائر، وأنه يغفر الذنوب جميعا، ويغفر ما دون الشرك، وأن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الرياء يبطل العمل، ونحو ذلك، فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما قد جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة، وبهذا يتبين أنا نشهد بأن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا على الإطلاق والعموم، ولا نشهد لمعين أنه في النار لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه، لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه. وفائدة هذا الوعيد أن هذا الذنب سبب مقتض لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه.

يبين هذا أنه قد ثبت عن النبي أنه لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها، وثبت عنه في الصحيح أن رجلا كان يكثر شرب الخمر فلعنه رجل فقال النبي : " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " فنهى عن لعن هذا المعين وهو مدمن الخمر لأنه يحب الله ورسوله، وقد لعن أولا شاربها على العموم.

تكفير أحمد وعامة أئمة السنة للجهمية دون غيرهم من المبتدعة

قال: فمسألة تكفير أهل البدع والأهواء متفرعة على هذا الأصل فنبدأ بمذاهب الأئمة في ذلك قبل التنبيه على الحجة فنقول: المشهور من مذهب أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن، فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله، بل وجميع الرسل، ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وقال غير واحد من الأئمة: أنهم أكفر من اليهود والنصارى، وبهذا كفروا من يقول إن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة، وأن الله ليس على العرش، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته، وأما المرجئة فلا تختلف نصوصه أنه يكفرهم فإن بدعهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكذلك الذين يفضلون عليا على أبي بكر لا يختلف قوله أنه لا يكفرهم، وذلك قول طائفة من الفقهاء ولكن يبدعون.

قال: وعنه في تكفير من لم يكفر الجهمية روايتان أصحهما ما لا يكفر، والجهمية عند كثير من السلف مثل ابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب أحمد ليسوا من الثلاث والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة، بل أصول هذه الفرق هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية.

قال: فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها وإثابة قائلها، وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها.

الخطأ المعفو عنه في أمور الإيمان بالقطعيات

قال: وفي الإدلالة الشرعية ما يوجب أن الله لا يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطأه وإن عذب المخطيء من غير هذه الأمة، فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: " قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر له " وهذا الحديث متواتر عن النبي رواه أصحاب الصحيح والمساند من حديث أبي سعيد وحذيفة وعقبة بن عامر وغيرهم عن النبي من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيد العلم اليقيني وإن لم يحصل ذلك لغيرهم، فهذا الرجل قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة من يصل إلى الحالة التي أمر أهله أن يفعلوها به، وإن من أحرق وذري لا يقدر الله أن يعيده ويحشره إذا فعل به ذلك، وأنه ظن ذلك ظنا ولم يجزم به.

وهذا أصلان عظيمان: أحدهما متعلق بالله وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير، والثاني متعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ولو صار إلى ما يقدر صيرورته إليه مهما كان فلا بد أن الله يحييه ويجزيه بأعماله، فهذا الرجل مع هذا لما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت فهذا عمل صالح وهو خوفه من الله أن يعاقبه على تفريط غفر له بما كان معه من الإيمان بالله واليوم الآخر، وإنما أخطأ من شدة خوفه، كما أن الذي وجد راحلته بعد إياسه منها أخطأ من شدة فرحه.

التكفير بالخطأ في الاعتقاديات والاجتهاد في العمليات

وقد وقع الخطأ كثيرا لخلق من هذه الأمة واتفقوا على عدم تكفير من أخطأ، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام، وكذلك لبعضهم في قتال بعض وتكفير بعض أقوال معروفة، وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ " بل عجبت " ويقول: أن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أفقه منه وكان يقرأ " بل عجبت ". فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة لله دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أن شريحا إمام من الأئمة، وكذلك بعض العلماء أنكر حروفا من القرآن كما أنكر بعضهم: " أفلم ييأس الذين آمنوا " فقال: إنما هي " أو لم يتبين الذين آمنوا "، وآخر أنكر " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " فقال: إنما هي " ووصى ربك "، وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورتي القنوت. وهذا الخطأ معفو عنه بالإجماع، وكذلك الخطأ في الفروع العملية فإن المخطئ فيها لا يكفر ولا يفسق بل ولا يأثم، وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يجعل المخطئ فيها آثما، وبعض المتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب، فهذا القولان شاذان ولم يقل أحد بتكفير المخطئ فيها، فقد أخطأ بعض السلف فيها مثل خطأ بعضهم في بعض أنواع الربا، واستحلال آخرين الخمر، واستحلال آخرين القتال في الفتنة، وقد قال تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث - إلى قوله - ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما "، وفي الصحيح: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ".

ما كل ما هو كفر يكفر به الشخص المعين

والسنة والإجماع منعقد على أن من بلغته دعوة النبي فلم يؤمن فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة، والنصوص إنما وجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة، وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض هذه المسائل إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وإما أن يلحق بالمخطئين في مسائل الإيجاب والتحريم مع أنها أيضا من أصول الإيمان، فإن الإيمان الذي يوجب الواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها إذا أخطأ ليس بكافر بالاتفاق، وإذا كان لا بد من إلحاقه بأحد الصنفين فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبها من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب، مع العلم بأن كثيرا من أهل البدع منافقون النفاق الأكبر، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون وأولئك في الدرك الأسفل من النار. بل أصل هذه البدع من المنافقين الزنادقة ممن يكون أصل زندقته مأخوذا عن الصابئين والمشركين وأصل هؤلاء هو الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة وابتغاء الهدى في غير ذلك ممن كان هذا أصله، فهو يعد الرسالة إنما هي للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله لا يرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك كإنكار تكليم الله لموسى واتخاذ الله إبراهيم خليلا.

الجزاء في الآخرة

قال: فإن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة التي هي دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا فإنما يشرع فيها ما شرع من العقوبات دفعا للظلم والعداون وكسرا للنفوس العاتية الباغية ودفعا لشر الجبار الطاغي، وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير ملتزمة لعقوبة الآخرة ولا بالعكس ولهذا أكثر السلف على قتل الداعي إلى البدعة لما يجري على يديه من الفساد في الدين سواء قالوا هو كافر أو ليس بكافر.

وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة التي يبين بها لهم أنهم مخالفون للرسول، وإن كانت مقالتهم هذه لا ريب أنها كفر، وهكذا الكلام في جميع تكفير المعينين، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان والعمل الصالح ما ليس في بعض، والله أعلم.

فصل في مسألة القرآن العزيز وذكر دلالة الكتاب والسنة على ما اتفق عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين -الأئمة الأربعة وغيرهم- والتنبيه على الأقوال التي حدثت بعد السلف الصالح كقول السلف: إن القرآن كلام الله

تحقيق كون القرآن كلام الله منزل منه

قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " وهو منزل من الله، كما قال تعالى: " أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " فأخبر سبحانه أنهم يعلمون ذلك والعلم لا يكون إلا حقا.

وقال تعالى: " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم - حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم - حم تنزيل من الرحمن الرحيم ". وقال تعالى: " ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ". وقال تعالى: " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى " ونحو ذلك. وقال تعالى: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " فأخبر سبحانه أنه منزل من الله ولم يخبر عن شيء وأنه منزل من الله إلا كلامه بخلاف نزول الملائكة والمطر والحديد وغير ذلك، لذا كان القول المشهور عن السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فإن من قال إنه مخلوق يقول إنه خلق في بعض المخلوقات القائمة بنفسها؛ والمخلوق أنزل وبدأ لم ينزل من الله، فإخبار الله تعالى أنه مخلوق من الإرادة والمحبة والمشيئة والرضى والغضب والمقت وغير ذلك من الأمور، لو كان مخلوقا في غيره لم يكن الرب تعالى متصفا به، بل كان يكون صفة لذلك المحل، فإن المعنى إذا قام بمحل كان صفة لذلك المحل ولم يكن صفة لغيره فيمتنع أن يكون المخلوق أو الخالق موصوفا بصفة موجودة قائمة بغيره لأنه فطر ذلك، ما وصف به نفسه من الأفعال اللازمة يمتنع أن يوصف الموصوف بأمر لم يقم به، وهذا مبسوط في مواضع أخر.

الشواهد والنصوص في كون القرآن كلام الله تعالى حقيقة

ومن قول السلف أن الناس من الله تعالى كما يقول ذلك بعض المتأخرين، قال الله تعالى: " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ". وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال لي النبي : " اقرأ علي القرآن " قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: " إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت إلى هذه الآية: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " قال: " حسبك " فنظرت فإذا عيناه تذرفان من البكاء. والنبي سمعه من جبريل وهو الذي نزل عليه به، وجبريل سمعه من الله تعالى، كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة، قال تعالى: " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ". وقال تعالى: " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين ". وقال تعالى: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، قل نزله روح القدس من ربك بالحق " فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس - وهو الروح الأمين وهو جبريل - من الله بالحق، ولم يقل أحد من السلف أن النبي سمعه من الله وإنما قال ذلك بعض المتأخرين، وقوله تعالى: " إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه " هو كقوله تعالى: " نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق " وقوله: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن " ونحو ذلك مما يكون الرب فعله بملائكته، فإن لفظ "نحن" هو للواحد المطاع الذي له أعوان يطيعونه، فالرب تعالى خلق الملائكة وغيرها تطيعه الملائكة أعظم مما يطيع المخلوق أعوانه، فهو سبحانه أحق باسم "نحن"، و"فعلنا" ونحو ذلك من كل ما يستعمل.

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: كان النبي يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: أنا أحركهما لك كما كان رسول الله يحركهما. وقال سعيد بن جبير: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه فأنزل الله " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه " قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " فإذا قرأه رسولنا، وفي لفظ: فإذا قرأه جبريل فاستمع له وأنصت " ثم إن علينا بيانه " أي نقرؤه. فكان رسول الله بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي كما قرأه.

تكليم الله لعباده ثلاثة أنواع

وقد بين الله تعالى أنواع تكليمه لعباده في قوله: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " فبين سبحانه أن التكليم تارة يكون وحيا، وتارة من وراء حجاب كما كلم موسى، وتارة يرسل رسولا فيوحي الرسول بإذن الله ما يشاء، وقال تعالى: " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس " فإذا أرسل الله تعالى رسولا كان ذلك مما يكلم به عباده فيتلوه عليهم وينبئهم به كما قال تعالى: " قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم " وإنما نبأهم بوساطة الرسول، والرسول مبلغ به، كما قال تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ". وقال تعالى: " ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ". وقال تعالى: " وما على الرسول إلا البلاغ المبين " والرسول أمر أمته بالتبليغ عنه، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي أنه قال: " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ". وقال لما خطب المسلمين: " ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع ". وقال : " نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه إلى غير فقه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ". وفي السنن عن جابر قال: كان النبي يعرض نفسه على الناس فيقول: " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي " وكما لم يقل أحد من السلف أنه مخلوق فلم يقل أحد منهم أنه قديم، لم يقل واحدا من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون القرآن كلام الله، ولما ظهر من قال إنه مخلوق قالوا ردا لكلامه أنه غير مخلوق، ولم يريدوا بذلك أنه مفترى كما ظنه بعض الناس فإن أحدا من المسلمين لم يقل أنه مفترى بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم، وإنما قالوا أنه مخلوق خلقة الله في غيره فرد السلف هذا القول، كما تواترت الآثار عنهم بذلك وصنف في ذلك مصنفات متعددة وقالوا: منه بدأ وإليه يعود.

أول من قال: "القرآن مخلوق"، ومن قال: "قديم" ومن قال: "معنى واحد"

وأول من عرف أنه قال: مخلوق - الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان،

وأول من عرف أنه قال: هو قديم - عبد الله بن سعيد بن كلاب، ثم افترق الذين شاركوه في هذا القول فمنهم من قال الكلام معنى واحد قائم بذات الرب ومعنى القرآن كله والتوراة والإنجيل وسائر كتب الله وكلامه وهو ذلك المعنى الواحد الذي لا يتعدد ولا يتبعض، والقرآن العربي لم يتكلم الله به بل هو مخلوق خلقه في غيره. وقال جمهور العقلاء: هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار فإنه من المعلوم بصريح العقل أن معنى آية الكرسي ليس معنى آية الدين، ولا معنى قل هو الله أحد معنى تبت يدا أبي لهب، فكيف بمعاني كلام الله في الكتب المنزلة وخطابه لملائكته وحسابه لعباده يوم القيامة وغير ذلك من كلامه، ومنهم من قال: هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفا بها، وكلا الحزبين يقول: إن الله تعالى لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه لم يزل ولا يزال يقول: يا نوح، يا إبراهيم، يا أيها المزمل، أيها المدثر، كما قد بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع، ولم يقل أحد من السلف بواحد من القولين ولم يقل أحد من السلف أن هذا القرآن عبارة عن كلام الله ولا حكاية له، ولا قال أحد منهم: إن لفظي بالقرآن قديم أو غير مخلوق، فضلا عن أن يقول إن صوتي به قديم أو غير مخلوق بل كانوا يقولون بما دل عليه الكتاب والسنة من أن هذا القرآن كلام الله والناس يقرؤونه بأصواتهم ويكتبونه بمدادهم وما بين اللوحين كلام الله وكلام الله غير مخلوق.

قراءتنا للقرآن وأصواتنا به مخلوقة، والقرآن غير مخلوق

وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ". وقال تعالى: " بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ " والمداد الذي يكتب به القرآن مخلوق والصوت الذي يقرأ به صوت العبد والعبد وصوته وحركاته وسائر صفاته مخلوقة، فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام البارئ، والصوت الذي يقرأ به العبد صوت القارئ، كما قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ". وقال النبي : " زينوا القرآن بأصواتكم " فبين أن الأصوات التي يقرأ بها القرآن أصواتنا والقرآن كلام الله، ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة: يحسنه الإنسان بصوته كما قال أبو موسى الأشعري للنبي : لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا، فكان ما قاله أحمد وغيره من أئمة السنة من أن الصوت صوت العبد موافقا للكتاب والسنة، وقد قال تعالى: " واقصد في مشيك واغضض من صوتك ". وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ". وقال تعالى: " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ". وقال تعالى: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا " ففرق سبحانه بين المداد الذي تكتب به كلماته وبين كلماته، فالبحر وغيره من المداد الذي يكتب به الكلمات مخلوق، وكلمات الله غير مخلوقة. وقال تعالى: " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " فالأبحر إذا قدرت مدادا تنفد وكلمات الله لا تنفد. ولهذا قال أئمة السنة: لم يزل الله متكلما كيف شاء وبما شاء كما ذكرت الآثار بهذه المعاني عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما.

إخبار الله تعالى عن نفسه بالنداء والحديث في ندائه بصوته

هذا وقد أخبر الله سبحانه عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع، فقال تعالى: " فلما ذاقا الشجرة بدت سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكم إن الشيطان لكما عدو مبين ". وقال تعالى: " ويوم يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون " " ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين " وذكر سبحانه نداءه لموسى عليه السلام في سورة طه ومريم والطس الثلاث وفي سورة والنازعات، وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى: " فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ". وقال تعالى: " هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ". وقال تعالى: " وما كنت بجانب الطور إذ نادينا "،

واستفاضت الآثار عن النبي والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه سبحانه ينادي بصوت، نادى موسى وينادي عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بالوحي بصوت، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال إن الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف، ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف، كما لم يقل أحد منهم أن الصوت الذي سمعه قديم، ولا أن ذلك النداء قديم، ولا قال أحد منهم أن هذه الأصوات المسموعة من القراء هي الصوت الذي تكلم الله به، بل الآثار مستفيضة عنهم بالفرق بين الصوت الذي يتكلم وبين أصوات العباد.

وكان أئمة السنة يعدون من أنكر تكلمه بصوت من الجهمية كما قال الإمام أحمد لما سئل عمن قال إن الله لا يتكلم بصوت، فقال: هؤلاء جهمية، إنما يدورون على التعطيل، وذكر بعض الآثار المروية في أنه سبحانه يتكلم بصوت، وقد ذكر من صنف في السنة من ذلك قطعة كما... من ذلك قطعة وعلى ذلك ترجم عليه البخاري في صحيحه قوله تعالى: " حتى إذا فزع عن قلوبهم " وقد ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال مما يبين به الفرق بين الصوتين آثارا متعددة، وكانت محنة البخاري مع أصحابه محمد بن يحيى الذهلي وغيره بعد موت أحمد بسنين ولم يتكلم أحمد في البخاري إلا بالثناء عليه، ومن نقل عن أحمد أنه تكلم في البخاري بسوء فقد افترى عليه.

تكلمه تعالى بصوت، وتكفير الشافعي وغيره من يقول: "القرآن مخلوق"

وقد ذكر الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي في كتابه الذي سماه: الفصول في الأصول، قال: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت أبا حامد الاسفراييني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعا من الله والنبي سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله والناس أجمعين.

وقد كان طائفة من أهل الحديث والمنتسبين إلى السنة فتنازعوا في اللفظ بالقرآن هل يقال إنه مخلوق، ولما حدث الكلام في ذلك أنكرت أئمة السنة كأحمد بن حنبل وغيره أن يقال لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وقالوا: من قال إنه مخلوق فهو جهمي، ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع، وأما صوت العبد فلم يتنازعوا أنه مخلوق، فإن المبلغ لكلام غيره بلفظ صاحب الكلام إنما بلغ غيره، كما يقال روى الحديث بلفظه وإنما يبلغه بصوت نفسه لا بصوت صاحب الكلام.

القراءة بالمعنى المصدري وبالحاصل بالمصدر - أي المقروء

واللفظ في الأصل مصدر لفظ يلفظ لفظا وكذلك التلاوة والقراءة مصدران لكن شاع استعمال ذلك في نفس الكلام الملفوظ المقروء المتلو، وهو المراد باللفظ في إطلاقهم فإذا قيل لفظي أو اللفظ بالقرآن مخلوق أشعر أن هذا القرآن الذي يقرؤه ويلفظ به مخلوق، وإذا قيل لفظي غير مخلوق، أشعر أن شيئا مما يضاف إليه غير مخلوق، وصوته وحركته مخلوقان، لكن كلام الله الذي يقرؤه غير مخلوق، والتلاوة قد يراد بها نفس الكلام الذي يتلى، وقد يراد بها نفس حركة العبد، وقد يراد بها مجموعها، فإذا أريد بها الكلام نفسه الذي يتلى فالتلاوة هي المتلو، وإذا أريد بها حركة العبد فالتلاوة ليست هي المتلو، وإذا أريد بها المجموع فهي متناولة للفعل والكلام فلا يطلق عليها أنها المتلو ولا أنها غيره.

ولم يكن أحد من السلف يريد بالتلاوة ومجرد قراءة العباد وبالمتلو مجرد معنى واحد يقوم بذات الباري تعالى، بل الذي كانوا عليه أن القرآن كلام الله تكلم الله به بحروفه ومعانيه ليس شيء منه كلاما لغيره، لا لجبريل ولا لمحمد ولا لغيرهما، بل قد كفر الله من جعله قول البشر، مع أنه سبحانه أضافه تارة إلى رسول من البشر وتارة إلى رسول من الملائكة، فقال تعالى: " إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون، تنزيل من رب العالمين " فالرسول هنا محمد .

وقال تعالى: " إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون، ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون، إن هو إلا ذكر للعالمين " فالرسول هنا جبريل وأضافه سبحانه إلى كل منهما باسم رسول لأن ذلك يدل على أنه مبلغ له عن غيره وأنه رسول فيه لم يحدث هو شيئا منه، إذ لو كان قد أحدث منه شيئا لم يكن رسولا فيما أحدثه بل كان منشئا له من تلقاء نفسه، وهو سبحانه يضيف إلى رسول من الملائكة تارة ومن البشر تارة، فلو كانت الإضافة لكونه أنشأ حروفه لتناقض الخبران، فإن أنشأ أحدهما له يناقض إنشاء الآخر له، وقد كفر الله تعالى من قال إنه قول البشر، فمن قال إن القرآن أو شيئا منه قول بشر أو ملك فقد كذب، ومن قال إنه قول رسول من البشر ومن الملائكة بلغه عن مرسله ليس قول...

جهل المتكلمين بأقوال السلف فهم لا يذكرونها في كتبهم

ولم يقل أحد من السلف إن جبريل أحدث ألفاظه و [؟] محمدا ، ولا أن الله تعالى خلقها في الهواء أو غيره من المخلوقات، ولا أن جبريل أخذها من اللوح المحفوظ بل هذه الأقوال هي من أقوال بعض المتأخرين، وقد بسط الكلام في غير هذا الموضع على تنازع المبتدعين الذين اختلفوا في الكتاب وبين فساد أقوالهم، وأن القول السديد هو قول السلف وهو الذي يدل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح وإن كان عامة هؤلاء المختلفين في الكتاب لم يعرفوا القول السديد قول السلف بل ولا سمعوه ولا وجوده في كتاب من الكتب التي يتداولونها لأنهم لا يتداولون الآثار السلفية ولا معاني الكتاب والسنة إلا بتحريف بعض المحرفين لها، ولهذا إنما يذكر أحدهم أقوالا مبتدعة إما قولين وإما ثلاثة وإما أربعة وإما خمسة، والقول الذي كان عليه السلف ودل عليه الكتاب والسنة لا يذكره لأنه لا يعرفه ولهذا نجد الفاضل من هؤلاء حائرا مقرا بالحيرة على نفسه وعلى من سبقه من هؤلاء المختلفين لأنه لم يجد فيما قالوه قولا صحيحا.

وكان أول من ابتدع الأقوال الجهمية المحضة النفاة الذين لا يثبتون الأسماء والصفات فكانوا يقولون أولا إن الله تعالى لا يتكلم بل خلق كلاما في غيره وجعل غيره يعبر عنه وإن قوله تعالى: " وإذا نادى ربك موسى " وقول النبي : " إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة إذا بقي ثلث الليل، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " معناه أن ملكا يقول ذلك عنه، كما يقال: نادى السلطان، أي أمر مناديا نادى عنه، فإذا تلي عليهم ما أخبر الله تعالى به عن نفسه من أنه يقول ويتكلم. قالوا: هذا مجاز. كقول العربي امتلأ الحوض، وقال قطني، وقالت اتساع بطنه ونحو ذلك.

بطلان تأويل نداء الله بنداء ملك بأمره

فلما عرف السلف حقيقته وأنه مضاه لقول المتفلسفة المعطلة الذين يقولون إن الله تعالى لم يتكلم وإنما أضافت الرسل إليه الكلام بلسان الحال كفروهم وبينوا ضلالهم، ومما قالوا لهم أن المنادي عن غيره كمنادي السلطان يقول: أمر السلطان بكذا خرج مرسومه بكذا، لا يقول إني آمركم بكذا وأنهاكم عن كذا، والله تعالى يقول في تكليمه لموسى: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " ويقول تعالى إذا نزل الليل الغابر: " من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفر لي فاغفر له " وإذا كان القائل ملكا قال - كما في الحديث الذي في الصحيحين: " إذا أحب الله العبد نادى في السماء يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل وينادي في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في الأرض " فقال جبريل في ندائه عن الله تعالى: " إن الله يحب فلانا فأحبوه "، وفي نداء الرب يقول: " من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " كان قيل: فقد روي أنه يأمر مناديا فينادي، قيل هذا ليس في الصحيح، فإن صح أمكن الجمع بين الخبرين بأن ينادي هو ويأمر مناديا ينادي. أما أن يعارض بهذا النقل النقل الصحيح المستفيض الذي اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول مع أنه صريح في أن الله تعالى هو الذي يقول: " من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " فلا يجوز.

مذهب الجهمية والمعتزلة والكلابية في كلام الله تعالى

وكذلك جهم كان ينكر أسماء الله تعالى فلا يسميه شيئا ولا حيا ولا غير ذلك إلا على سبيل المجاز، قال لأنه إذا سمي باسم تسمى به المخلوق كان تشبيها، وكان جهم مجبرا يقول: إن العبد لا يفعل شيئا، فلهذا نقل عنه أنه سمى الله قادرا لأن العبد عنده ليس بقادر.

ثم إن المعتزلة الذين اتبعوا عمرو بن عبيد على قوله في القدر والوعيد دخلوا في مذهب جهم، فأثبتوا أسماء الله تعالى ولم يثبتوا صفاته، وقالوا نقول أن الله متكلم حقيقة، وقد يذكرون إجماع المسلمين على أن الله متكلم حقيقة، لئلا يضاف إليهم أنهم يقولون إنه غير متكلم، لكن معنى كونه سبحانه متكلما عندهم أنه خلق الكلام في غيره، فمذهبهم ومذهب الجهمية في المعنى سواء، لكن هؤلاء يقولون هو متكلم حقيقة وأولئك ينفون أن يكون متكلما حقيقة. وحقيقة قول الطائفتين أنه غير متكلم، فإنه لا يعقل متكلم إلا من قام به الكلام، ولا مريد إلا من قامت به الإرادة، ولا محب ولا راض ولا مبغض ولا رحيم إلا من قام به الإرادة والمحبة والرضى والبغض والرحمة، وقد وافقهم على ذلك كثير ممن انتسب في الفقه إلى أبي حنيفة من المعتزلة. وغيرهم من أئمة المسلمين ليس فيهم من يقول بقول المعتزلة لا في نفي الصفات ولا في القدر ولا المنزلة بين المنزلتين ولا إنفاذ الوعيد.

ثم تنازع المعتزلة والكلابية في حقيقة المتكلم، فقالت المعتزلة: المتكلم من فعل الكلام ولو أنه أحدثه في غيره، ليقولوا أن الله يخلق الكلام في غيره وهو متكلم به، وقالت الكلابية: المتكلم من قام به الكلام وإن لم يكن متكلما بمشيئته وقدرته ولا فعل فعلا أصلا، بل جعلوا المتكلم بمنزلة الحي الذي قامت به الحياة، وإن لم تكن حياته بمشيئته ولا قدرته الحاصلة بفعل من أفعاله.

الخلاف بين السلف وفرق المتكلمين في صفات الله تعالى

وأما السلف وأتباعهم وجمهور العقلاء فالمتكلم المعروف عندهم من قام به الكلام وتكلم بمشيئته وقدرته، لا يعقل متكلم لم يقم به الكلام ولا يعقل متكلم بغير مشيئته وقدرته، فكان كل من تينك الطائفتين المبتدعتين أخذت بعض وصف المتكلم: المعتزلة أخذوا أنه فاعل والكلابية أخذوا أنه محل الكلام، ثم زعمت المعتزلة أنه يكون فاعلا للكلام في غيره وزعموا هم ومن وافقهم من أتباع الكلابية كأبي الحسن وغيره أن الفاعل لا يقوم به الفعل، وكان هذا مما أنكره السلف وجمهور العقلاء، وقالوا لا يكون الفاعل إلا من قام به الفعل، وإنه يفرق بين الفاعل والفعل والمفعول وذكر البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد" إجماع العلماء على ذلك. والذين قالوا: إن الفاعل لا يقوم به الفعل وقالوا مع ذلك أن الله فاعل أفعال العباد كأبي الحسن وغيره أن يكون الرب هو الفاعل لفعل العبد وأن العبد لم يفعل شيئا وأن جميع ما يخلقه العبد فعل له، وهم يصفونه بالصفات الفعلية المنفصلة عنه، ويقسمون صفاته إلى صفات ذات وصفات أفعال مع أن الأفعال عندهم هي المفعولات المنفصلة عنه فلزمهم أن يوصف بما خلقه من الظلم والقبائح مع قولهم أنه لا يوصف بما خلقه من الكلام وغيره فكان هذا تناقضا منهم تسلطت به عليهم المعتزلة. ولما قرروا ما هو من أصول أهل السنة وهو أن المعنى إذا قام بمحل اشتق به منه اسم ولم يشتق لغيره منه اسم كاسم المتكلم نقض عليهم المعتزلة ذلك باسم الخالق والعادل فلم يجيبوا عن النقض بجواب سديد.

وأما السلف والأئمة فأصلهم مطرد. ومما احتجوا به على أن القرآن غير مخلوق ما احتج به الإمام أحمد وغيره من قول النبي : " أعوذ بكلمات الله التامات " قالوا والمخلوق لا يستعاذ به، فعورضوا بقوله: " أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك " فطرد السلف والأئمة أصلهم وقالوا معافاته فعله القائم به، وأما العافية الموجودة في الناس فهي مفعوله.

بيان كل فرقة من المبتدعين فساد مذهب الأخرى والحق عند غيرهم

وكذلك قالوا: إن الله خالق أفعال العباد فأفعال العباد القائمة بهم مفعولة له لا نفس فعله، وهي نفس فعل العبد، وكان حقيقة قول أولئك نفي فعل الرب ونفي فعل العبد. فتسلطت عليهم المعتزلة في مسألة الكلام والقدر تسلطا بينوا به تناقضهم كما بينوا هم تناقض المعتزلة.

وهذا أعظم ما يستفاد من أقوال المختلفين الذين أقوالهم باطلة، فإنه يستفاد من قول كل طائفة بيان فساد قول الطائفة الأخرى، فيعرف الطالب فساد تلك الأقوال، ويكون ذلك داعيا له إلى طلب الحق، ولا تجد الحق إلا موافقا لما جاء به الرسول ولا تجد ما جاء به الرسول إلا موافقا لصريح المعقول، فيكون ممن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وممن له قلب يعقل به وأذن يسمع بها، بخلاف الذين قالوا: " لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ".

وقد وافق الكلابية على قولهم كثير من أهل الحديث والتصوف ومن أهل الفقه المنتسبين إلى الأئمة الأربعة وليس من الأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين من يقول بقولهم.

استدلال المتكلمين بإصطلاحات باطلة جعلوها مسلمة

وحدث مع الكلابية ونحوهم طوائف أخرى من الكرامية وغير الكرامية من أهل الفقه والحديث والكلام فقالوا أنه سبحانه متكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته، وهو يتكلم بحروف وأصوات بمشيئته وقدرته، ليتخلصوا بذلك من بدعتي المعتزلة والكلابية، لكن قالوا أنه لم يكن يمكنه في الأول أن يتكلم بل صار الكلام ممكنا بعد أن كان ممتنعا عليه، من غير حديث سبب أوجب إمكان الكلام وقدرته عليه، وهذا القول مما وافق الكرامية عليه كثير من أهل الكلام والفقه والحديث، لكن ليس من الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة المسلمين من نقل عنه مثل قولهم. وهذا مما شاركوا فيه الجهمية والمعتزلة فإن هؤلاء كلهم يقولون إنه لم يكن الكلام ممكنا له في الأزل ثم صار ممكنا له بعد أن كان ممتنعا عليه من غير حدوث سبب أوجب إمكانه لكن الجهمية والمعتزلة يقولون إنه خلق كلاما في غيره من غير أن يقوم به كلام لأنه لو قام به كلام بمشيئته وقدرته لقامت به الحوادث قالوا: ولا تقوم به الحوادث، قالت الجهمية والمعتزلة لأن الحوادث هي من جملة الصفات التي يسمونها الأعراض، وعندهم لا يقوم به شيء من الصفات قالوا لأن الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم وليس هو بجسم لأن الجسم لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وقالت الكلابية: بل تقوم به الصفات ولا تقوم به الحوادث، ونحن لا نسمي الصفات أعراضا لأن العرض عندنا لا يبقى زمانين وصفات الله تعالى باقية، وقالوا وأما الحوادث فلو قامت به لم يخل منها لأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.

فقال الجمهور المنازعون للطائفتين: أما قول أولئك لأنه لا تقوم به الصفات لأنها أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم وليس بجسم، فتسمية ما يقوم بغيره عرضا اصطلاح حادث، وكذلك تسمية ما يشار إليه جسما اصطلاح حادث أيضا، والجسم في لغة العرب هو البدن وهو الجسد كما قال غير واحد من أهل اللغة منهم الأصمعي وأبو عمرو، فلفظ الجسم يشبه لفظ الجسد وهو الغليظ الكثيف. والعرب تقول هذا جسيم وهذا أجسم من هذا أي أغلظ منه. قال تعالى: " وزاده بسطة في العلم والجسم ". وقال تعالى: " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم " ثم قد يراد بالجسم نفس الغلظ والكثافة ويراد به الغليظ الكثيف.

وكذلك النظار يريدون بلفظ الجسم تارة المقدار وقد يسمونه الجسم التعليمي، وتارة يريدون به الشيء المقدر وهو الجسمي الطبيعي، والمقدار المجرد عن المقدر كالعدد المجرد عن المعدود، وذلك لا يوجد إلا في الأذهان دون الأعيان. وكذلك السطح والخط والنقطة المجردة عن المحل الذي تقوم به لا يوجد إلا في الذهن. قالوا وإذا كان هذا معنى الجسم بلغة العرب فهو أخص من المشار إليه، فإن الروح القائمة بنفسها لا يسمونها جسما، بل يقولون خرجت روحه من جسمه ويقولون إنه جسم وروح ولا يسمون الروح جسما، ولا النفس الخارج من الإنسان جسما، لكن أهل الكلام اصطلحوا على أن كل ما يشار إليه يسمى جسما، كما اصطلحوا على أن كل ما يقوم بنفسه جوهرا، ثم تنازعوا في أن كل ما يشار إليه هل هو مركب من الجواهر الفردة أو من الماردة والصورة أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا على أقوال ثلاثة قد بسطت في غير هذا الموضع، ولهذا كان كثير منهم يقولون الجسم عندنا هو القائم بنفسه أو هو الموجود لا المركب.

نقض أدلة المتكلمين المبنية على اصطلاحاتهم في الجسم والجوهر والعرض إلخ

قال أهل العلم والسنة: فإذا قالت الجهمية وغيرهم من نفاة الصفات أن الصفات لا تقوم إلا بجسم والله تعالى ليس بجسم، قيل لهم إن أردتم بالجسم ما هو مركب من جواهر فردة أو ما هو مركب من المادة والصورة لم نسلم لكم المقدمة الأولى وهي قولكم أن الصفات لا تقوم إلا بما هو كذلك، قيل لكم: إن الرب تعالى قائم بنفسه والعباد يرفعون أيديهم إليه في الدعاء ويقصدونه بقلوبهم وهو العلي إلا علا سبحانه، ويراه المؤمنون بأبصارهم يوم القيامة عيانا كما يرون القمر ليلة البدر، فإن قلتم إن ما هو كذلك فهو جسم وهو محدث، - كان هذا بدعة مخالفة للغة والشرع والعقل، وإن قلتم نحن نسمي ما هو كذلك جسما ونقول إنه مركب - قيل تسميتكم التي ابتدعتموها هي من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، ومن عمد إلى المعاني بالشرع والعقل وسماها بأسماء منكرة لينفر الناس عنها قيل له النزاع في المعاني لا في الألفاظ ولو كانت الألفاظ موافقة للغة، فكيف إذا كانت من ابتداعهم، ومعلوم أن المعاني التي يعلم ثبوتها بالشرع والعقل لا تدفع بمثل هذا النزاع اللفظي الباطل، وأما قولهم إن كل ما كان يقوم به الصفات وترفع الأيدي إليه ويمكن أن يراه الناس بأبصارهم فإنه لا بد أن يكون مركبا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فهذا ممنوع بل هو باطل عند جمهور العقلاء من النظار والفقهاء وغيرهم، كما قد بسط في موضعه.

بطلان قولهم "العرض لا يبقى زمانين وما يقبل الحوادث حادث"

قال الجمهور: وأما تفريق الكلابية بين المعاني التي لا تتعلق بمشيئته وقدرته والمعاني التي تتعلق بمشيئته وقدرته التي تسمى الحوادث - ومنهم من يسمي الصفات أعراضا لأن العرض لا يبقى زمانين - فيقال قول القائل أن العرض الذي هو السواد والبياض والطول والقصر ونحو قول محدث في الإسلام، لم يقله أحد من السلف والأئمة، وهو قول مخالف لما عليه جماهير العقلاء من جميع الطوائف، بل من الناس من يقول إنه معلوم الفساد بالاضطرار، كما قد بسط في موضع آخر.

وأما تسمية المسمي للصفات أعراضا فهذا أمر اصطلاحي لمن قاله من أهل الكلام ليس هو عرف أهل اللغة ولا عرف سائر أهل العلم، والحقائق المعلومة بالسمع والعقل لا يؤثر فيها اختلاف الاصطلاحات، بل يعد هذا من النزاعات اللفظية، والنزاعات اللفظية أصوبها ما وافق لغة القرآن والرسول والسلف، فما نطق به الرسول والصحابة جاز النطق به باتفاق المسلمين، وما لم ينطقوا به ففيه نزاع وتفضيل ليس هذا موضعه.

وأما قول الكلابية ما يقبل الحوادث لا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، فقد نازعهم جمهور العقلاء في كلا المقدمتين حتى أصحابهم المتأخرون نازعوهم في ذلك، واعترفوا ببطلان الأدلة العقلية التي ذكرها سلفهم على نفي حلول الحوادث به، واعترف بذلك المتأخرون ومن أئمة الأشعرية والشيعة والمعتزلة وغيرهم كما قد بسط في غير هذا الموضع.

نظريات مذاهب المتكلمين المتعارضة في القرآن

وحدثت طائفة أخرى من السالمية وغيرهم ممن هو من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف ومنهم كثير ممن هو ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وكثر هذا في بعض المتأخرين المنتسبين إلى أحمد بن حنبل فقالوا بقول المعتزلة وبقول الكلابية: وافقوا هؤلاء في قولهم أنه قديم، ووافقوا أولئك في قولهم أنه حروف وأصوات، وأحدثوا قولا مبتدعا كما أحدث غيرهم فقالوا القرآن قديم وهو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لنفس الله تعالى أزلا وأبدا. واحتجوا على أنه قديم بحجج الكلابية، وعلى أنه حروف وأصوات بحجج المعتزلة. فلما قيل لهم الحروف مسبوقة بعضها ببعض فالباء قبل السين والشين قبل الميم، والقديم لا يسبق بغيره، والصوت لا يتصور بقاؤه فضلا عن قدمه، قالوا الكلام له وجود وماهية، كقول من فرق بين الوجود والماهية من المعتزلة وغيرهم. قالوا: والكلام له ترتيب في وجوده، وترتيب ماهية الباء للسين بالزمان هي في وجوده وهي مقارنة لها في ماهيتها لم تتقدم عليها بالزمان وإن كانت متقدمة بالمرتبة كتقدم بعض الحروف المكتوبة على بعض، فإن الكاتب قد يكتب آخر المصحف قبل أوله ومع هذا فإذا كتبه كان أوله متقدما بالمرتبة على آخره.

فقال لهم جمهور العقلاء: هذا مما يعلم فساده بالاضطرار، فإن الصوت لا يتصور بقاؤه، ودعوى وجود ماهية غير الوجود في الخارج دعوى فاسدة كما قد بسط في موضع آخر. والترتيب الذي في المصحف هو ترتيب للحروف المدادية والمداد أجسام، فهو كترتيب الدار والإنسان، وهذا أمر يوجد الجزء الأول منه مع الثاني بخلاف الصوت فإنه لا يوجد الجزء الثاني منه حتى يعدم الأول كالحركة، فقياس هذا بهذا قياس باطل، ومن هؤلاء من يطلق لفظ القديم ولا يتصور معناه، ومنهم من يقول يعني بالقديم أنه بدأ من الله وأنه غير مخلوق، وهذا المعنى صحيح لكن الذين نازعوا هل هو قديم أو قديم لم يعنوا هذا المعنى، فمن قال لهم إنه قديم وأراد هذا المعنى قد أراد معنى صحيحا لكنه جاهل بمقاصد الناس مضل لمن خاطبه بهذا الكلام مبتدع في الشرع واللغة.

ثم كثير من هؤلاء يقولون: إن الحروف القديمة والأصوات ليست هي الأصوات المسموعة من القراء ولا المداد الذي في المصحف ومنهم من يقول بل الأصوات المسموعة من القراء هو الصوت القديم، ومنهم من يقول بل يسمع من القارئ شيئان الصوت القديم وهو ما لا بد منه في وجود الكلام والصوت المحدث وهو ما زاد على ذلك، وهؤلاء يقولون المداد الذي في المصحف مخلوق لكن الحروف القديمة ليست هي المداد بل الأشكال والمقادير التي تظهر بالمداد، وقد تنقش في حجر وقد تخرق في ورق، ومنهم من يمنع أن يقال في المداد أنه قديم أو مخلوق، وقد يقول لا أمنع عن ذلك بل أعلم أنه مخلوق لكن أسد باب الخوض في هذا، وهو مع هذا من يتكلم بالحق ومن يبين الصواب الموافق للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة مع موافقته لصريح المعقول، ومع دفعه للشناعات التي يشنع بها بعضهم على بعض، وخوض الناس وتنازعهم في هذا الباب كثير قد بسطناه في مواضع، وإنما المقصود هنا ذكر قول مختصر جامع يبين الأقوال السديدة التي دل عليها الكتاب والسنة وكان عليها سلف الأمة في مسألة الكلام، التي حيرت عقول الأنام، والله تعالى أعلم.

هامش

  1. نقل من الجزء العشرين من "الكواكب" المودع في خزانة المكتبة العمومية بدمشق في المدرسة الظاهرية.
مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية
الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل | الشفاعة الشرعية والتوسل | أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم | إبطال وحدة الوجود | مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية | لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة | كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الشيخ نصر المنبجي | مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه | فتاوى لابن تيمية | الصحابة لا يجتمعون على ضلالة | قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر | مختارات من المسائل الكيلانية | مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله | مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم | الجهمية المعطلة كاليهود والحلولية كالنصارى والمسلمون وسط | اصطلاحات المتكلمين والفقهاء المخالفة للغة ومنها القديم والمحدث | اختلاف أدلة المتكلمين على إثبات الصانع وما ترتب عليه من البدع | فيما قاله في مسألة اللفظ | كفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه | حقيقة مذهب الاتحاديين | حقيقة مذهب الاتحاديين/حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية | معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد | رد قول بعض طواغيتهم إن العالم حدقة عين الله | كلام ابن عربي في خاتم النبوة وخاتم الولاية | بيان كفر الاتحادية وفساد قولهم | زعمهم أن الدعوة إلى عبادة الله مكر بالعباد | قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات | تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | رسالة العبادات الشرعية | مسألة في الغيبة | أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل | شرح حديث عمران بن حصين المرفوع كان الله ولم يكن شيء قبله | أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة | وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤجرات | عرش الرحمن وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وكونه فوق العالم كله