مجموعة الرسائل والمسائل/قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
مجموعة الرسائل والمسائل المؤلف ابن تيمية
قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر


قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان وغير ذلك

بسم الله الرحمن الرحيم

قال شيخنا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه

الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

أما بعد، فهذه قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان ونحو ذلك، وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم جعلوها نوعين: نوعا يختص بالسفر الطويل وهو القصر والفطر، ونوعا يقع في الطويل والقصير كالتيمم والصلاة على الراحلة، وأكل الميتة هو من هذا القسم، وأما المسح على الخفين والجمع بين الصلاتين فمن الأول، وفي ذلك نزاع.

والكلام في مقامين؛ أحدهما: الفرق بين السفر الطويل والقصير فيقال:

المقام الأول: الفرق بين السفر الطويل والقصير

هذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله بل الأحكام التي علقها الله بالسفر به مطلقا كقوله تعالى في آية الطهارة: " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط ". وقال تعالى في آية الصوم: " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ". وقوله تعالى: " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ". وقول النبي : " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ". وقول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر. وقول عمر: صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم. وقوله : " يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ". وقول صفوان بن عسال: أمرنا رسول الله إذا كنا سفرا أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط أو بول أو نوم. وقول النبي : " إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ". وقوله : " السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليتعجل الرجوع إلى أهله ".

نوط الشارع الرخص بالسفر مطلقا

فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقا لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله؛ وهذا الذي ذكر من تعليق الشارع الحكم بمسمى الاسم المطلق وتفريق بعض الناس بين نوع ونوع من غير دلالة شرعية له نظائر:

منها: أن الشارع علق الطهارة بمسمى الماء في قوله: " فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا " ولم يفرق بين ماء وماء ولم يجعل الماء نوعين طاهرا وطهورا.

ومنها: أن الشارع علق المسح بمسمى الخف ولم يفرق بين خف وخف فيدخل في ذلك المفتوق والمخروق وغيرهما من غير تحديد ولم يشترط أيضا أن يثبت بنفسه.

ومن ذلك: أنه أثبت الرجعة في مسمى الطلاق بعد الدخول ولم يقسم طلاق المدخول بها إلى طلاق بائن ورجعي.

ومن ذلك: أنه أثبت الطلق الثالثة بعد طلقتين وافتداء والافتداء الفرقة بعوض وجعلها موجبة للبينونة بغير طلاق يحسب من الثلاث. وهذا الحكم معلق بهذا المسمى لم يفرق فيه بين لفظ ولفظ.

ومن ذلك: أنه علق الكفارة بمسمى أيمان المسلمين في قوله تعالى: " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " وقوله: " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " ولم يفرق بين يمين ويمين من أيمان المسلمين، فجعل أيمان المسلمين المنعقدة تنقسم إلى مكفرة وغير مكفرة مخالف لذلك.

ومن ذلك: أنه علق التحريم بمسمى الخمر ولبين أن الخمر هي المسكر في قوله : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " ولم يفرق بين مسكر ومسكر.

ومن ذلك: أنه علق الحكم بمسمى الإقامة كما علقه بمسمى السفر ولم يفرق بين مقيم ومقيم، فجعل المقيم نوعين نوعا تجب عليه الجمعة بغيره ولا تنعقد به، ونوعا تنعقد به، لا أصل له.

بل الواجب أن هذه الأحكام لما علقها الشارع بمسمى السفر فهي تتعلق بكل سفر سواء كان ذلك السفر طويلا أو قصيرا، ولكن ثم أمور ليست من خصائص السفر بل تشرع في السفر والحضر فإن المضطر إلى أكل الميتة لم يخص الله حكمه بسفر لكن الضرورة أكثر ما تقع به في السفر فهذا لا فرق فيه بين الحضر والسفر الطويل والقصير فلا يجعل هذا معلقا بالسفر.

الجمع بين الصلاتين في الحضر

وأما الجمع بين صلاتين فهل يجوز في السفر القصير؟ فيه وجهان في مذهب أحمد: أحدهما: لا يجوز كمذهب الشافعي قياسا على القصر. والثاني: يجوز كقول مالك لأن ذلك شرع في الحضر للمرض والمطر فصار كأكل الميتة. إنما علته الحاجة لا السفر وهذا هو الصواب، فإن الجمع بين الصلاتين ليس معلقا بالسفر وإنما يجوز للحاجة بخلاف القصر.

وأما الصلاة على الراحلة فقد ثبت في الصحيح بل استفاض عن النبي أنه كان يصلي على راحلته في السفر أي وجه توجهت به ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، وهل يسوغ ذلك في الحضر؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره، فإذا جوز في الحضر ففي القصر أولى وأما إذا منع في الحضر فالفرق بينه وبين القصر والفطر يحتاج إلى دليل.

الأقوال في حد السفر للفطر والقصر

المقام الثاني: حد السفر الذي علق الشارع به الفطر والقصر

وهذا مما اضطرب الناس فيه، قيل: ثلاثة أيام، وقيل: يومين قاصدين، وقيل: أقل من ذلك حتى قيل: ميل. والذين حددوا ذلك بالمسافة منهم من قال: ثمانية وأربعون ميلا، وقيل: ستة وأربعون، وقيل: خمسة وأربعون، وقيل أربعون، وهذه أقوال عن مالك، وقد قال أبو محمد المقدسي: لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجها. وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتا بنص ولا إجماع ولا قياس وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير ويجعلون ذلك حدا للسفر الطويل ومنهم من لا يسمي سفرا إلا ما بلغ هذا الحد وما دون ذلك لا يسميه سفرا فالذين قالوا: ثلاثة أيام احتجوا بقوله: " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن " وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: " لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم " وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: " مسيرة يومين " وثبت في الصحيح: " مسيرة يوم " وفي السنن: " بريدا " فدل على أن ذلك كله سفر وإذنه له في المسح ثلاثة أيام إنما هو تجويز لمن سافر ذلك وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر، كما أذن للمقيم أن يمسح يوما وليلة وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة، والذين قالوا: يومين اعتمدوا على قول ابن عمر وابن عباس والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة حتى ابن عمر وابن عباس وما روي " يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان " إنما هو من قول ابن عباس ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعا إلى النبي باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث وكيف يخاطب النبي أهل مكة بالتحديد وإنما أقام بعد الهجرة زمنا يسيرا وهو بالمدينة لا يحد لأهلها حدا كما حده لأهل مكة وما بال التحديد يكون لأهل مكة دون غيرهم من المسلمين؟

الشارع لم يحدد مسافة السفر

وأيضا فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليدا وليس هو مما يقطع به والنبي لم يقدر الأرض بمساحة أصلا فكيف يقدر الشارع لأمته حدا لم يجربه له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع الناس فلا بد أن يكون مقدار السفر معلوما علما عاما، وذرع الأرض مما لا يمكن بل هو إما متعذر وإما متعسر، لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق فإنما يمسحونه على خط مستو أو خطوط منحنية انحناء مضبوطا ومعلوم أن المسافرين قد يعرفون غير تلك الطريق وقد يكون في المسافة صعود وقد يطول سفر بعضهم لبطء حركته ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته والسبب الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض.

والموجود في كلام النبي والصحابة في تقدير الأرض بالأزمنة كقوله في الحوض " طوله شهر وعرضه شهر " وقوله: " بين السماء والأرض خمسمائة سنة " وفي حديث آخر: " إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة " فقيل الأول بالسير المعتاد سير الإبل والأقدام والثاني سير البريد فإنه في العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات، وكذلك الصحابة يقولون يوم تام ويومان ولهذا قال من حده بثمانية وأربعين ميلا مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام لكن هذا لا دليل عليه.

أقل ما قيل في سفر الرخص

وإذا كان كذلك فنقول كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف فما كان سفرا في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة فإن هذه المسافة بريد وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع بالسنة، والبريد هو نصف يوم بسير الإبل والأقدام وهو ربع مسافة يومين وليلتين وهو الذي قد يسمى مسافة، وهو الذي يمكن الذاهب إليها أن يرجع من يومه وأما ما دون هذه المسافة إن مسافة القصر محدودة بالمساحة فقد قيل يقصر في ميل، وروي عن ابن عمر أنه قال لو سافرت ميلا لقصرت، قال ابن حزم لم نجد أحدا يقصر في أقل من ميل، ووجد ابن عمرو وغيره يقصرون في هذا القدر، ولم يحد الشارع في السفر حدا فقلنا بذلك اتباعا للسنة مطلقة ولم نجد أحدا يقصر بما دون الميل، ولكن هو على أصله وليس هذا إجماعا فإذا كان ظاهر النص يتناول ما دون ذلك لم يضره أن لا يعرف أحدا ذهب إليه كعادته في أمثاله وأيضا فليس في قول ابن عمر أنه لا يقصر في أقل من ذلك وأيضا فقد ثبت عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في يوم أو يومين فإما أن تتعارض أقواله أو تحمل على اختلاف الأحوال والكلام في مقامين:

المقام الأول: أن من سافر مثل سفر أهل مكة إلى عرفات يقصر وأما إذا قيل ليست محدودة بالمسافة بل الاعتبار بما هو سفر فمن سافر ما يسمى سفرا قصر وإلا فلا.

وقد يركب الرجل فرسخا يخرج به لكشف أمر وتكون المسافة أميالا ويرجع في ساعة أو ساعتين ولا يسمى مسافرا وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة بأن يسير على الإبل والأقدام سيرا لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه، والدليل على ذلك من وجوه:

قصر النبي في أيام الحج بأهل مكة

أحدها: أنه قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أن النبي في حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة وفي أيام منى وكذلك أبو بكر وعمر بعده وكان يصلي خلفهم أهل مكة ولم يأمروهم بإتمام الصلاة ولا نقل أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أن النبي قال لأهل مكة لما صلى بالمسلمين ببطن عرنة الظهر ركعتين قصرا وجمعا، ثم العصر ركعتين: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم " ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر ولا نقل أحد أن أحدا من الحجيج لا أهل مكة ولا غيرهم خلاف ما صلى بجمهور ما صلى بجمهور المسلمين أو نقل أن النبي أو عمر قال بهذا اليوم: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " فقد غلط، وإنما نقل أن النبي قال هذا في جوف مكة لأهل مكة عام الفتح وقد ثبت أن عمر بن الخطاب لأهل مكة لما صلى في جوف مكة ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعا وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمنى أيام منى لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة بل لو أخروا صلاة العصر ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصرا لنقل ذلك فكيف إذا أتموا الظهر أربعا دون سائر المسلمين؟ وأيضا إذا أخذوا في إتمام العصر والنبي قد شرع في الظهر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام وإما أن يفوتهم معه بعض العصر بل أكثرها فكيف إذا كانوا يتمون الصلوات؟ وهذا حجة على كل أحد وهو على من يقول إن أهل مكة جمعوا معه أظهر.

الأقوال في قصر الصلاة

وذلك أن العلماء تنازعوا في أهل مكة هل يقصرون ويجمعون بعرفة على ثلاثة أقوال: فقيل لا يقصرون ولا يجمعون وهذا هو المشهور عند أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالقاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول لاعتقادهم أن ذلك معلق بالسفر الطويل وهذا قصير.

والثاني انهم يجمعون ولا يقصرون وهذا مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد ومن أصحاب الشافعي والمنقولات عن أحمد توافق هذا فإنه أجاب في غير موضع بأنهم لا يقصرون ولم يقل لا يجمعون وهذا هو الذي رجحه أبو محمد المقدسي في الجمع وأحسن في ذلك.

والثالث: أنهم يجمعون ويقصرون وهذا مذهب مالك وإسحق بن راهويه وهو قول طاوس وابن عيينة وغيرهما من السلف وقول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي كأبي الخطاب في العبادات الخمس وهو الذي رجحه أبو محمد المقدسي وغيره من أصحاب أحمد فإن أبا محمد وموافقيه رجحوا الجمع للمكي بعرفة.

وأما القصر فقال أبو محمد: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه والمعلوم إن الإجماع لم ينعقد على خلافه وهو اختيار طائفة من علماء أصحاب أحمد كان بعضهم يقصر الصلاة في مسيرة بريد وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبرها فإن من تأمل الأحاديث في حجة الوداع وسياقها علم علما يقينا أن الذين كانوا مع النبي من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصرا وجمعا ولم يفعلوا خلاف ذلك ولم ينقل أحد قط عن النبي أنه قال لا بعرفة ولا بمزدلفة ولا منى: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم مسافر " وإنما نقل أنه قال ذلك في نفس مكة كما رواه أهل السنن عنه وقوله ذلك في داخل مكة دون عرفة ومزدلفة ومنى دليل على الفرق وقد روي من جهة أهل العراق عن عمر أنه كان يقول بمنى " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " وليس له إسناد.

الأقوال في الجمع بين الصلاتين

وإذا ثبت ذلك فالجمع بين الصلاتين قد يقال إنه لأجل النسك كما تقوله الحنفية وطائفة من أصحاب أحمد وهو مقتضى نصه فإنه يمنع المكي من القصر بعرفة ولم يمنعه من الجمع، وقال في جمع المسافر أنه يجمع في الطويل كالقصر عنده، وإذا قيل الجمع لأجل النسك ففيه قولان: أحدهما: لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة كما تقوله الحنفية والثاني أنه يجمع لغير ذلك من الأسباب المقتضية للجمع وإن لم يكن سفرا وهو مذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وقد يقال لأن ذلك سفر قصي وهو يجوز الجمع في السفر القصير كما قال هذا وهذا بعض الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فإن الجمع لا يختص بالسفر والنبي لم يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة ولم يجمع بمنى ولا في ذهابه وإيابه ولكن جمع قبل ذلك في غزوة تبوك والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر كما قصر للسفر بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة وكان جمع عرفة لأجل العبادة وجمع مزدلفة لأجل السير الذي جد فيه وهو سيره إلى مزدلفة وكذلك كان يصنع في سفره، كان إذا جد به السير أخر الأولى إلى وقت الثانية، ثم ينزل فيصليهما جميعا كما فعل بمزدلفة وليس في شريعته ما هو خارج عن القياس بل الجمع الذي جمعه هناك يشرع أن يفعل نظيره كما يقوله الأكثرون ولكن أبو حنيفة يقول هو خارج عن القياس وقد علم أن تخصيص العلة إذا لم تكن لفوات شرط أو وجود مانع دل على فسادها وليس فيما جاء من عند الله اختلاف ولا تناقض بل حكم الشيء حكم مثله والحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها.

أدلة قصر الصلاة في كل سفر

وأما القصر فلا ريب أنه من خصائص السفر ولا تعلق له بالنسك ولا مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنهم بسفر وعرفة عن المسجد بريد كما ذكره الذين مسحوا ذلك وذكره الأزرقي في أخبار مكة فهذا قصر في سفر قدره بريد وهم لما رجعوا إلى منى كانوا في الرجوع من السفر وإنما كان غاية قصدهم بريدا وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم والله لم يرخص في الصلاة ركعتين إلا لمسافر فعلم أنهم كانوا مسافرين والمقيم إذا اقتدى بمسافر فإنه يصلي أربعا كما قال النبي لأهل مكة في مكة " أتموا صلاتكم فإنا قوم مسافر " وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء ولكن في مذهب مالك نزاع.

الدليل الثاني: أنه قد نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم أو زوج تارة يقدر وتارة يطلق وأقل ما روي في التقدير بريد فدل ذلك على أن البريد يكون سفرا كما أن الثلاثة الأيام تكون سفرا واليومين تكون سفرا واليوم يكون سفرا هذه الأحاديث ليس لها مفهوم بل نهي عن هذا وهذا وهذا.

الدليل الثالث: أن السفر لم يحده الشرع وليس له حد في اللغة فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه فما كان عندهم سفرا فهو سفر والمسافر يريد أن يذهب إلى مقصده ويعود إلى وطنه وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها ويرجع في نصفها وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي والعدو على الخصم والحضانة وغير ذلك مما هو معروف في موضعه، وهو أحد القولين في مذهب أحمد فلو كانت المسافة محددة لكان أحدها بالبريد أجود لكن الصواب أن السفر ليس محددا بمسافة بل يختلف فيكون مسافرا في مسافة بريد وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرا.

الدليل الرابع: أن المسافر رخص الله له أن يفطر في رمضان وأقل الفطر يوم ومسافة البريد يذهب إليها ويرجع في يوم فيحتاج إلى الفطر في شهر رمضان ويحتاج أن يقصر الصلاة بخلاف ما دون ذلك فإنه قد لا يحتاج فيه إلى قصر ولا فطر إذا سافر أول النهار ورجع قبل الزوال وإذا كان غدوه يوما ورواحه يوما فإنه يحتاج إلى القصر والفطر وهذا قد يقتضي أنه قد يرخص له أن يقصر ويفطر في بريد وإن كان قد لا يرخص له في أكثر منه إذا لم يعد مسافرا.

الدليل الخامس: أنه ليس تحديد من حد المسافة بثلاثة أيام بأولى ممن حدها بيومين ولا اليومان بأولى من يوم فوجب أن لا يكون لها حد بل كل ما يسمى سفرا يشرع، وقد ثبت بالسنة القصر في مسافة بريد فعلم أن في الأسفار ما قد يكون بريدا وأدنى ما يسمى سفرا في كلام الشارع البريد.

ترجيح رواية القصر في بريد، وتضعيف أثر القصر في ميل

وأما ما دون البريد كالميل فقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه كان يأتي قباء كل سبت وكان يأتيه راكبا وماشيا ولا ريب أهل قباء وغيرهم من أهل العوالي كانوا يأتون إلى النبي بالمدينة ولم يقصر الصلاة هو ولا هم.

وقد كانوا يأتون الجمعة من نحو ميل وفرسخ ولا يقصرون الصلاة والجمعة على من سمع النداء والنداء قد يسمع من فرسخ وليس كل من وجبت عليه الجمعة أبيح له القصر والعوالي بعضها من المدينة وإن كان اسم المدينة يتناول جميع المساكن كما قال تعالى: " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق " وقال: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ".

وأما ما نقل عن ابن عمر فينظر فيه هل هو ثابت أم لا فإن ثبت فالرواية عنه مختلفة وقد خالفه غيره من الصحابة ولعله أراد إذا قطعت من المسافة ميلا ولا ريب أن قباء من المدينة أكثر من ميل وما كان ابن عمر ولا غيره يقصرون الصلاة إذا ذهبوا إلى قباء فقصر أهل مكة الصلاة بعرفة وعدم قصر أهل المدينة الصلاة إلى قباء ونحوها مما حول المدينة دليل على الفرق والله أعلم.

والصلاة على الراحلة إذا كانت مختصة بالسفر لا تفعل إلا فيما يسمى سفرا ولهذا لم يكن النبي يصلي على راحلته في خروجه إلى مسجد قباء مع أنه كان يذهب إليه راكبا وماشيا ولا كان المسلمون الداخلون من العوالي يفعلون ذلك وهذا لأن هذه المسافة قريبة كالمسافة في المصر واسم المدينة يتناول المساكن كلها فلم يكن هناك إلا أهل المدينة والأعراب كما دل عليه القرآن فمن لم يكن من الأعراب كان من أهل المدينة وحينئذ فيكون مسيره إلى قباء كأنه في المدينة فلو سوغ ذلك سوغت الصلاة في المصر على الراحلة وإلا فلا فرق بينهما.

والنبي لما كان يصلي بأصحابه جمعا وقصر ألم يكن يأمر أحدا منهم بنية الجمع والقصر بل خرج من المدينة إلى مكة يصلي ركعتين من غير جمع ثم صلى بهم الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلي العصر بعدها ثم صلى بهم العصر ولم يكونوا نووا الجمع وهذا جمع تقديم وكذلك لما خرج من المدينة صلى بهم بذي الحليفة العصر ركعتين ولم يأمرهم بنية قصر وفي الصحيح أنه لما صلى إحدى صلاتي العشي وسلم من اثنتين قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: " لم أنس ولم تقصر " قال: بلى قد نسيت، قال: " أكما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: نعم، فأتم الصلاة ولو كان القصر لا يجوز إلا إذا نووه لبين ذلك ولكانوا يعلمون ذلك والإمام أحمد لم ينقل عنه فيما أعلم أنه اشترط النية في جمع ولا قصر ولكن ذكره طائفة من أصحابه كالخرقي والقاضي.

وأما أبو بكر عبد العزيز وغيره فقالوا: إنما يوافق مطلق نصوصه.

وقالوا: لا يشترط للجمع ولا للقصر نية، وهو قول الجمهور من العلماء كمالك وأبي حنيفة وغيرهما، بل قد نص أحمد على أن المسافر له أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع كما نقله عنه أبو طالب والمروزي وذكر ذلك القاضي في الجامع الكبير فعلم أنه لا يشترط في الجمع النية.

لا تشترط المقارنة لمن يجمع

ولا تشترط أيضا المقارنة فإنه لما أباح أن تصلى العشاء قبل مغيب الشفق وعلله بأنه يجوز له الجمع لم يجز إن زاد به الشفق الأبيض لأن مذهبه المتواتر عنه أن المسافر يصلي العشاء بعد مغيب الشفق الأحمر وهو أول وقتها عنده وحينئذ يخرج وقت المغرب عنده فلم يكن مصليا لها في وقت المغرب بل في وقتها الخاص، وأما في الحضر فاستحب تأخيرها إلى أن يغيب الأبيض قال لأن الحمرة قد تسترها الحيطان فيظن أن الأحمر غاب ولم يغب فإذا غاب الأبيض تيقن مغيب الحمرة فالشفق عنده في الموضعين الحمرة لكن لما كان الشك في الحضر لاستتار الشفق بالحيطان احتاط بدخول الأبيض فهذا مذهبه المتواتر عن نصوصه الكثيرة.

وقد حكى بعضهم رواية عنه: أن الشفق في الحضر الأبيض وفي السفر الأحمر، وهذه الرواية حقيقتها كما تقدم وإلا فلم يقل أحمد ولا غيره من علماء المسلمين أن الشفق في نفس الأمر يختلف بالحضر والسفر، وأحمد قد علل الفرق، فلو حكي عنه لفظ مجمل كان المفسر من كلامه يبينه. وقد حكى بعضهم رواية عنه: أن الشفق مطلق البياض وما أظن هذا إلا غلطا عليه، وإذا كان مذهبه أن أول الشفق إذا غاب في السفر خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، وهو يجوز للمسافر أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق، وعلل ذلك بأنه يجوز له الجمع، علم أنه صلاها قبل مغيبها لا بعد مغيب الأحمر فإنه حينئذ لا يجوز التعليل بجواز الجمع.

الثاني: أن ذلك من كلامه يدل على أن الجمع عنده هو الجمع في الوقت وإن لم يصل إحداهما بالأخرى كالجمع في وقت الثانية على المشهور من مذهبه ومذهب غيره وأنه إذا صلى المغرب في أول وقتها والعشاء في آخر وقت المغرب حيث يجوز له الجمع جاز ذلك، وقد نص أيضا على نظير هذا فقال إذا صلى إحدى صلاتي الجمع في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس وهذا نص منه على أن الجمع هو جمع في الوقت لا تشترط فيه المواصلة وقد تأول ذلك بعض أصحابه على قرب الفصل وهو خلاف النص ولأن النبي لما صلى بهم بالمدينة ثمانيا جميعا وسبعا جميعا لم ينقل أنه أمرهم ابتداء بالنية ولا السلف بعده وهذا قول الجمهور كأبي حنيفة ومالك وغيرهما وهو في القصر مبني على فرض المسافر فصارت الأقوال للعلماء في اقتران الفعل ثلاثة:

مذاهب العلماء في اقتران صلاتي الجمع

أحدها: أنه لا يجب الاقتران لا في وقت الأولى ولا الثانية كما قد نص عليه أحمد كما ذكرناه في السفر وجمع المطر.

والثاني: أنه يجب الاقتران في وقت الأولى دون الثانية وهذا هو المشهور عند أكثر أصحابه المتأخرين وهو ظاهر مذهب الشافعي فإن كان الجمع في وقت الأولى اشترط الجمع وإن كان في وقت الآخرة فإنه يصلي الأولى في وقت الثانية وأما الثانية فيصليها في وقتها فتصح صلاته لها وإن أخرها ولا يأثم بالتأخير وعلى هذا تشترط الموالاة في وقت الأولى دون الثانية.

والثالث: تشترط الموالاة في الموضعين كما يشترط الترتيب وهذا وجه في مذهب الشافعي وأحمد ومعنى ذلك أنه إذا صلى الأولى وأخر الثانية أثم وإن كان وقعت صحيحة لأنه لم يكن له إذا أخر الأولى إلا أن يصلي الثانية معها فإذا لم يفعل ذلك كان بمنزلة من أخرها إلى وقت الضرورة ويكون قد صلاها في وقتها معه الإثم.

حكم الموالاة بين صلاتي الجمع

والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال لا في وقت الأولى ولا في وقت الثانية فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة، وهو شبيه بقول من حمل الجمع على الجمع بالفعل وهو أن يسلم من الأولى في آخر وقتها ويحرم بالثانية في أول وقتها كما تأول جمعه على ذلك طائفة من العلماء أصحاب أبي حنيفة وغيرهم، ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها فإنه يريد أن يبتدئ فيها إذا بقي من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث في المغرب، ويريد مع ذلك أن لا يطيلها، وإن كان بنية الإطالة تشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك، وإذا دخل في الصلاة ثم بدا له أن يطيلها أو أن ينتظر أحدا ليحصل الركوع والجماعة لم يشرع ذلك ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت، ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الأشياء علما وعملا وهو يشغل قلب المصلي غير مقصود الصلاة والجمع شرع رخصة ودفعا للحرج عن الأمة، فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد ومع ما ينقض مقصود الصلاة؟

فعلم أنه كان إذا أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء يفعل ذلك على الوجه الذي يحصل به التيسير ورفع الحرج له ولأمته ولا يلتزم أنه لا يسلم من الأولى إلا قبل خروج وقتها الخاص وكيف يعلم ذلك المصلي في الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل التحديد بالظل والمصلي في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبي آلات حسابية يعرف بها الوقت، ولا موقت يعرف ذلك بالآلات الحسابية، والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بالشفق، فيحتاج إلى أن ينظر إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض؟ والمصلي في الصلاة منهي عن مثل ذلك.

وإذا كان يصلي في بيت أو فسطاط أو نحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر عليه في الصلاة النظر إلى المغرب فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحرى السلام في آخر وقت المغرب بل لا بد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل خروج الوقت.

أغلاط للفقهاء في الجمع بين الصلاتين

ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي أنه كان يراعيه بل ولا أصحابه، فهؤلاء لا يمكن الجمع على قولهم في غالب الأوقات لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل، وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران الفعل، وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين في وقت واحد أو وقتين، وأولئك قالوا لا يكون الجمع إلا في وقتين، وذلك يحتاج إلى تفريق الفعل وكلا القولين ضعيف.

والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا، والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة وفي بعض أسفاره وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين وقد يقعان معا في آخر وقت الأولى وقد يقعان معا في أول وقت الثانية، وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا وكل هذا جائز لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة ففي عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة.

الجمع في المطر والتقديم والتأخير فيه

وكذلك جمع المطر، السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب حتى اختلف مذهب أحمد هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية؟ على وجهين وقيل إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع وفيه وجه ثالث أن الأفضل التأخير وهو غلط مخالف للسنة والإجماع القديم وصاحب هذا القول ظن أن التأخير في الجمع أفضل مطلقا لأن الصلاة يجوز فعلها بعد الوقت عند النوم والنسيان، ولا يجوز فعلها قبل الوقت بحال، بل لو صلاها قبل الزوال وقبل الفجر أعادها، وهذا غلط فإن الجمع بمزدلفة إنما المشروع فيه تأخير المغرب إلى وقت العشاء بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين وما علمت أحدا من العلماء سوغ له هناك أن يصلي العشاء في طريقه، وإنما اختلفوا في المغرب هل له أن يصليها في طريقه على قولين، وأما التأخير فهو كالتقديم، بل صاحبه أحق بالذم، ومن نام عن صلاة أو نسيها فإن وقتها في حقه حين يستيقظ ويذكرها، وحينئذ هو مأمور بها لا وقت لها إلا ذلك فلم يصلها إلا في وقتها.

وأما من صلى قبل الزوال وطلوع الفجر الذي يحصل به، فإن كان متعمدا فهذا فعل ما لم يؤمر به، وأما إن كان عاجزا عن معرفة الوقت كالمحبوس الذي لا يمكنه معرفة الوقت فهذا في أجزائه قولان للعلماء وكذلك في صيامه إذا صام حيث لا يمكنه معرفة شهور رمضان كالأسير إذا صام بالتحري ثم تبين له أنه قبل الوقت ففي أجزائه قولان للعلماء وأما من صلى في المصر قبل الوقت غلطا فهذا لم يفعل ما أمر به وهل تنعقد صلاته نفلا أو تقع باطلة؟ على وجهين في مذهب أحمد وغيره.

والمقصود أن الله لم يبح لأحد أن يؤخر الصلاة عن وقتها بحال كما لم يبح له أن يفعلها قبل وقتها فليس جمع التأخير بأولى من جمع التقديم، بل ذاك بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل وقد يكون هذا أفضل، وهذا مذهب جمهور العلماء وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره، ومن أطلق من أصحابه القول بتفضيل أحدهما مطلقا فقد أخطأ على مذهبه.

الأحاديث في الجمع تقديما وتأخيرا

وأحاديث الجمع الثابتة عن النبي مأثورة من حديث ابن عمر وابن عباس وأنس ومعاذ وأبي هريرة وجابر، وقد تأول هذه الأحاديث من أنكر الجمع على تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أول وقتها، وقد جاءت الروايات الصحيحة بأن الجمع كان يكون في وقت الثانية وفي وقت الأولى وجاء الجمع مطلقا، والمفسر يبين المطلق ففي الصحيحين من حديث سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء. رواه مسلم. وروى مسلم من حديث يحيى بن سعيد: حدثنا عبيد الله أخبرنا عن ابن عمر أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق ويذكر أن رسول الله كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء.

حديث ابن عمر في جمع التأخير

قال الطحاوي: حديث ابن عمر إنما فيه الجمع بعد مغيب الشفق من فعله وذكر عن النبي أنه جمع بين الصلاتين ولم يذكر كيف كان جمعه؛ هذا إنما فيه التأخير من فعل ابن عمر لا فيما رواه عن النبي فذكر المثبتون ما رواه محمد ابن يحيى الذهلي حدثنا حماد بن مسعدة عن عبيد الله بن عمر عن نافع: أن عبد الله بن عمر أسرع السير فجمع بين المغرب والعشاء فسألت نافعا فقال: بعد ما غاب الشفق بساعة وقال: إني رأيت رسول الله يفعل ذلك إذا جد به السير، ورواه سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر استصرخ على صفية بنت أبي عبيد وهو بمكة وهي بالمدينة فأقبل فسار حتى غربت وبدت النجوم فقال رجل كان يصحبه: الصلاة الصلاة، فسار ابن عمر فقال له سالم: الصلاة، فقال: إن رسول الله كان إذا عجل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين. فسار حتى إذا غاب الشفق جمع بينهما وسار ما بين مكة والمدينة ثلاثا.

وروى البيهقي هذين بإسناد صحيح مشهور، قال: ورواه معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع، وقال في الحديث فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هوي من الليل ثم نزل فصلى المغرب والعشاء قال: وكان رسول الله يفعل ذلك إذا جد به السير أو حزبه أمر قال: ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع فذكر أنه سار قريبا من ربع الليل ثم نزل فصلى ورواه من طريق الدارقطني حدثنا ابن صاعد والنيسابوري حدثنا العباس ابن الوليد بن يزيد أخبرني عمر بن محمد بن يزيد حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر أنه أقبل من مكة وجاءه خبر صفية بنت أبي عبيد فأسرع السير فلما غابت الشمس قال له إنسان من أصحابه: الصلاة، فسكت ثم سار ساعة فقال له صاحبه: الصلاة، فقال الذي قال له: الصلاة، إنه ليعلم من هذا علما لا أعلمه فسار حتى إذا كان بعد ما غاب الشفق بساعة نزل فأقام الصلاة وكان لا ينادي لشيء من الصلاة في السفر فأقام فصلى المغرب والعشاء جميعا جمع بينهما ثم قال: إن رسول الله كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق بساعة، وكان يصلي على ظهر راحلته أين توجهت به السبحة في السفر ويخبر أن رسول الله كان يصنع ذلك.

قال البيهقي: اتفقت رواية يحيى بن سعيد الأنصاري وموسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر وأيوب السختياني وعمر بن محمد بن زيد على أن جمع عبد الله بن عمر بين الصلاتين بعد غيوبة الشفق وخالفهم من لا يدانيهم في حفظ أحاديث نافع، وذكر أن ابن جابر رواه عن نافع ولفظه: حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى بنا ثم أقبل علينا فقال: كان رسول الله إذا عجل به الأمر صنع هكذا، وقال: وبمعناه رواه فضيل بن غزوان وعطاف بن خالد عن نافع، ورواية الحفاظ من أصحاب نافع أولى بالصواب فقد رواه سالم بن عبد الله وأسلم مولى عمر وعبد الله بن دينار وإسماعيل بن عبد الرحمن بن ذويب عن ابن عمر نحو روايتهم، أما حديث سالم فرواه عاصم ابن محمد عن أخيه عمر بن محمد عن سالم، وأما حديث ابن أبي مريم: أن محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن أبيه قال: كنت مع ابن عمر فبلغه عن صفية شدة وجع فأسرع حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعتمة جمع بينهما وقال: إني رأيت رسول الله إذا جد به السير أخر المغرب وجمع بينهما، رواه البخاري في صحيحه عن ابن أبي مريم.

وأسند أيضا من كتاب يعقوب بن سفيان أن أبو صالح وابن بكير قالا: حدثنا الليث قال: قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: حدثني عبد الله بن دينار وكان من صالحي المسلمين صدقا ودينا قال: غابت الشمس ونحن مع عبد الله بن عمر فسرنا فلما رأيناه قد أمسى قلنا له الصلاة، فسكت حتى غاب الشفق وتصوبت النجوم فنزل فصلى الصلاتين جميعا ثم قال: رأيت رسول الله إذا جد به السير صلى صلاتي هذه، يقول جمع بينهما بعد ليل.

وأما حديث إسماعيل بن عبد الرحمن فأسند من طريق الشافعي وأبي نعيم عن ابن عيينة عن أبي نجيح عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذئيب قال: صحبت ابن عمر فلما غابت الشمس هبنا أن نقول له قم إلى الصلاة فلما ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء نزل فصلى ثلاث ركعات وركعتين ثم التفت إلينا فقال: هكذا رأيت رسول الله يفعل.

حديث أنس في جمع التقديم

وأما حديث أنس ففي الصحيحين عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول الله إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. هذا لفظ الفعل عن عقيل عنه، ورواه مسلم من حديث ابن وهب حدثني جابر بن إسماعيل عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس عن رسول الله أنه كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق. ورواه مسلم من حديث شبابة: حدثنا الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول الله إذا أراد أن يجمع بين الظهر والعصر في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما، ورواه من حديث الإسماعيلي: أنا الفرياني أنا إسحق بن راهويه أنا شبابة بن سوار عن ليث عن عقيل عن أنس كان رسول الله إذا كان في السفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل. قلت: هكذا في هذه الرواية وهي مخالفة للمشهور من حديث أنس.

وأما حديث معاذ فمن إفراد مسلم رواه من حديث مالك وزهير بن معاوية وقرة بن خالد وهذا لفظ مالك عن أبي الزبير المكي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبرهم أنهم خرجوا مع رسول الله فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء.

جواز جمع الصلاتين للحاجة لا للسفر

قلت: الجمع على ثلاث درجات: أما إذا كان سائرا في وقت الأولى فإنما ينزل في وقت الثانية فهذا هو الجمع الذي ثبت في الصحيحين من حديث أنس وابن عمر وهو نظير جمع مزدلفة. وأما إذا كان وقت الثانية سائرا أو راكبا فجمع في وقت الأولى فهذا نظير الجمع بعرفة، وقد روي ذلك في السنن كما سنذكره إن شاء الله. وأما إذا كان نازلا في وقتهما جميعا نزولا مستمرا فهذا ما علمت روي ما يستدل به عليه الأحاديث معاذ هذا فإن ظاهره أنه كان نازلا في خيمة في السفر وأنه أخر الظهر ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل إلى بيته ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنزل وأما السائر فلا يقال دخل وخرج، بل نزل وركب، وتبوك هي آخر غزوات النبي ولم يسافر بعدها إلا حجة الوداع، وما نقل أنه جمع فيها إلا بعرفة ومزدلفة وأما بمنى فلم ينقل أحد أنه جمع هناك بل نقلوا أنه كان يقصر الصلاة هناك، ولا نقلوا أنه كان يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ولا يقدم الثانية إلى أول وقتها وهذا دليل على أنه كان يجمع أحيانا في السفر وأحيانا لا يجمع وهو الأغلب على أسفاره أنه لم يكن يجمع بينهما وهذا يبين أن الجمع ليس من سنة السفر كالقصر بل يفعل للحاجة سواء كان في السفر أو في الحضر فإنه قد جمع أيضا في الحضر لئلا يحرج أمته، فالمسافر إذا احتاج إلى الجمع جمع سواء كان ذلك لسيره وقت الثانية، أو وقت الأولى وشق النزول عليه أو كان مع نزوله لحاجة أخرى مثل أن يحتاج إلى النوم والاستراحة وقت الظهر ووقت العشاء فينزل وقت الظهر وهو تعبان سهران جائع محتاج إلى راحة وأكل ونوم فيؤخر الظهر إلى وقت العصر ثم يحتاج أن يقدم العشاء مع المغرب وينام بعد ذلك ليستيقظ نصف الليل لسفره، فهذا ونحوه يباح له الجمع.

وأما النازل أياما في قرية أو مصر وهو في ذلك كأهل المصر فهذا وإن كان يقصر لأنه مسافر فلا يجمع كما أنه لا يصلي على الراحلة ولا يصلي بالتيمم ولا يأكل الميتة، فهذه الأمور أبيحت للحاجة ولا حاجة به إلى ذلك بخلاف القصر فإنه سنة صلاة السفر.

الجمع بين أحاديث الجمع بين الصلاتين

والجمع في وقت الأولى كما فعله النبي بعرفة فمأثور في السنن مثل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث المفضل بن فضالة عن الليث بن سعد عن هاشم بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن رسول الله كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم نزل فجمع بينهما. قال الترمذي حديث معاذ حديث حسن غريب.

قلت: وقد رواه قتيبة عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لكن أنكروه على قتيبة. قال البيهقي تفرد به قتيبة عن الليث وذكر عن البخاري، قال قلت لقتيبة مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل فقال: كتبته مع خالد المدائني، قال البخاري: وكان خالد هذا يدخل الأحاديث على الشيوخ. قال البيهقي: وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفل، فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل فهي محفوظة صحيحة.

قلت: وهذا الجمع الذي فسره هشام بن سعد عن أبي الزبير، والذي ذكره مالك يدخل في الجمع الذي أطلقه الثوري وغيره فمن روى عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ أن رسول الله جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء عام تبوك وهذا الجمع الأول ليس في المشهور من حديث أنس لأن المسافر إذا ارتحل بعد زيغ الشمس ولم ينزل وقت العصر فهذا مما لا يحتاج إلى الجمع بل يصلي العصر في وقتها وقد يتصل سيره إلى الغروب فهذا يحتاج إلى الجمع بمنزلة جمع عرفة لما كان الوقوف متصلا إلى الغروب صلى العصر مع الظهر إذ كان الجمع بحسب الحاجة.

ما روي من السنة في صفة الجمع

وبهذا تتفق أحاديث النبي ، وإلا فالنبي لا يفرق بين متماثلين، ولم ينقل أحد عنه أنه جمع بمنى ولا بمكة عام الفتح ولا في حجة الوداع مع أنه أقام بها بضعة عشر يوما يقصر الصلاة، ولم يقل أحد إنه جمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة فعلم أنه لم يكن جمعه لقصره وقد روي الجمع في وقت الأولى في المصر من حديث ابن عباس أيضا موافقة لحديث معاذ ذكره أبو داود فقال: وروى هشام بن عروة عن حسين بن عبد الله عن كريب عن ابن عباس عن النبي نحو حديث الفضل.

قلت: هذا الحديث معروف عن حسين وحسين هذا ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به ولا يعتمد عليه وحده فقد تكلم فيه علي بن المديني والنسائي ورواه البيهقي من حديث عثمان بن عمر عن ابن جريج عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي أن رسول الله كان إذا زالت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر وإذا لم تزل حتى يرتحل سار حتى إذا دخل وقت العصر نزل فجمع الظهر والعصر وإذا غابت الشمس وهو في منزله جمع بين المغرب والعشاء وإذا لم تغب حتى يرتحل سار حتى أتت العتمة نزل فجمع بين المغرب والعشاء، قال البيهقي: ورواه حجاج بن محمد عن ابن جريج أخبرني حسين عن كريب وكان حسين سمعه منهما جميعا واستشهد على ذلك برواية عبد الرزاق عن ابن جريج وهي معروفة وقد رواها الدارقطني وغيره وهي من كتب عبد الرزاق قال عبد الرزاق: عن ابن جريج حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة وعن كريب عن ابن عباس أن ابن عباس قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله في السفر؟ قلنا بلى، قال: كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينهما وبين العشاء وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما قال الدارقطني: ورواه عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج عن هشام ابن عروة عن حسين عن كريب فاحتمل أن يكون ابن جريج سمعه ولا من هشام بن عروة عن حسين كقول عبد المجيد عنه ثم لقي ابن جريج حسينا فسمعه منه كقول عبد الرزاق وحجاج عن ابن جريج، قال البيهقي: وروي عن محمد بن عجلان ويزيد بن الهادي وأبي أويس المدني عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس، وهو بما تقدم من شواهده يقوى، وذكر ما ذكره البخاري تعليقا: حديث إبراهيم بن طهمان عن الحسين عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله جمع بن الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر مسيره، وجمع بين المغرب والعشاء. أخرجه البخاري في صحيحه فقال: وقال إبراهيم بن طهمان.. فذكره.

قلت: قوله: على ظهر سيره، قد يراد به على ظهر سيره في وقت الأولى وهذا مما لا ريب ويدخل فيه ما إذا كان على ظهر سيره في وقت الثانية كما جاء صريحا عن ابن عباس، قال البيهقي: وقد روى أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس لا نعلمه إلا مرفوعا بمعنى رواية الحسين وذكر ما رواه إسماعيل بن إسحاق ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس ولا أعلمه إلا مرفوعا وإلا فهو عن ابن عباس أنه كان إذا نزل منزلا في السفر فأعجبه المنزل أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، قال إسماعيل: حدثنا عارم حدثنا حماد فذكره، قال عارم هكذا حدث به حماد قال: كان إذا سافر فنزل منزلا فأعجبه المنزل فأقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، ورواه حماد بن سلمة عن أيوب من قول ابن عباس قال إسماعيل ثنا الحجاج عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال: إذا كنتم سائرين فنبا بكم المنزل فسيروا حتى تصيبوا تجمعون بينهما، وإن كنتم نزولا فعجل بكم أمر فاجمعوا بينهما ثم ارتحلوا.

قلت: فحديث ابن عباس في الجمع بالمدينة صحيح من مشاهير الصحاح كما سيأتي إن شاء الله.

تأخير المغرب إلى مغيب الشفق

وأما حديث جابر ففي سنن أبي داود وغيره من حديث عبد العزيز بن محمد عن مالك عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله غابت له الشمس بمكة فجمع بينهما بسرف. قال البيهقي: ورواه من حديث الحماني عن عبد العزيز، ورواه الأجلح عن أبي الزبير كذلك قال أبو داود: حدثنا محمد بن هشام جار أحمد بن حنبل حدثنا جعفر بن عون عن هشام ابن سعيد قال بينهما عشرة أميال يعني بين مكة وسرف.

قلت: عشرة أميال ثلاثة فراسخ وثلث، والبريد أربعة فراسخ، وهذه المسافة لا تقطع في السير الحثيث حتى يغيب الشفق، فإن الناس يسيرون من عرفة عقب المغرب ولا يصلون إلى جمع إلا وقد غاب الشفق، ومن عرفة إلى مكة بريد، فجمع دون هذه المسافة وهم لا يصلون إليها إلا بعد غروب الشفق فكيف بسرف، وهذا يوافق حديث ابن عمر وأنس وابن عباس أنه إذا كان سائرا أخر المغرب إلى أن يغرب الشفق ثم يصليهما جميعا.

قال البيهقي: والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين مع الثابت عن رسول الله ، ثم عن أصحابه، ثم ما أجمع عليه المسلمون من جمع الناس بعرفة ثم بالمزدلفة، وذكر ما رواه البخاري من حديث سعيد عن الزهري أخبرني سالم عن عبد الله بن عمر قال: رأيت رسول الله إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء.

قال سالم: وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك إذا أعجله السير في السفر يقيم صلاة المغرب فيصليها ثلاثا ثم يسلم، ثم قلما يلبث حتى يقيم صلاة العشاء ويصليها ركعتين ثم يسلم ولا يسبح بينهما بركعة ولا يسبح بعد العشاء بسجدة حتى يقوم من جوف الليل.

وروى مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال لسالم بن عبد الله بن عمر ما أشد ما رأيت أباك عبد الله بن عمر أخر المغرب في السفر؟ قال: غربت له الشمس بذات الجيش فصلاها بالعقيق، قال البيهقي رواه عن الثوري عن يحيى بن سعيد وزاد فيه: ثمانية أميال.

ورواه ابن جريج عن يحيى بن سعيد وزاد فيه قال: قلت أي ساعة تلك؟ قال: قد ذهب ثلث الليل أو ربعه، قال ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن نافع قال: فسار أميالا ثم نزل فصلى، قال يحيى: وذكر لي نافع هذا الحديث مرة أخرى فقال: سار قريبا من ربع الليل ثم نزل فصلى.

جمع التقديم ومن فعله من السلف

وروي من مصنف سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس أنه كان يجمع بين الصلاتين في السفر ويقول: هي سنة. ومن حديث علي بن عاصم أخبرني الجريري وسلمان التيمي عن أبي عثمان النهدي قال: كان سعيد بن زيد وأسامة بن زيد إذا عجل بهما السير جمعا بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.

وروينا في ذلك عن سعيد بن أبي وقاص وأنس بن مالك، وروي عن عمر وعثمان، وذكر ما ذكره مالك في الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: سألت سالم بن عبد الله هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم لا بأس بذلك ألا ترى صلاة الناس بعرفة؟

وذكر في كتاب يعقوب بن سفيان ثنا عبد الملك بن أبي سلمة ثنا الداروردي عن زيد بن أسلم وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومحمد بن المنكدر وأبي الزناد في أمثال لهم خرجوا إلى الوليد وكان أرسل إليهم يستفتيهم في شيء فكانوا يجمعون بين الظهر والعصر إذ زالت الشمس.

قلت: فهذا استدلال من السلف بجمع عرفة على نظيره وأن الحكم ليس مختصا وهو جمع تقديم للحاجة في السفر.

جمع النبي بين الصلاتين بالمدينة ترخيصا لأمته

وأما الجمع بالمدينة لأجل المطر أو غيره فقد روى مسلم وغيره من حديث أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: صلى رسول الله الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا من غير خوف ولا سفر. وممن رواه عن أبي الزبير مالك في موطأه وقال: أظن ذلك كان في مطر. قال البيهقي: وكذلك رواه زهير بن معاوية وحماد بن سلمة عن أبي الزبير: في غير خوف ولا سفر، إلا إنهما لم يذكرا المغرب والعشاء وقالا: بالمدينة، ورواه أيضا ابن عيينة وهشام بن سعد عن أبي الزبير بمعنى رواية مالك وساق البيهقي طرقها وحديث زهير رواه مسلم في صحيحه ثنا أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله الظهر والعصر جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر.

قال أبو الزبير: فسألت سعيدا لم فعل ذلك؟ قال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته. قال وقد خالفهم قرة في الحديث فقال: في سفرة سافرها إلى تبوك. وقد رواه مسلم من حديث قرة عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جمع رسول الله في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال أراد أن لا يحرج أمته.

قال البيهقي: وكان قرة أراد حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ فهذا لفظ حديثه، وروى سعيد بن جبير الحديثين جميعا فسمع قرة أحدهما ومن تقدم ذكره الآخر، قال: وهذا أشبه فقد روى قرة حديث أبي الطفيل أيضا.

قلت: وكذا رواه مسلم فروي هذا المتن من حديث معاذ ومن حديث ابن عباس فإن قرة ثقة حافظ وقد روى الطحاوي حديث قرة عن أبي الزبير فجعله مثل حديث مالك عن أبي الزبير، حديث أبي الطفيل وحديثه هذا عن سعيد، فدل ذلك على أن أبا الزبير حدث بهذا وبهذا، قال البيهقي: ورواه حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير فخالف أبا الزبير في متنه، وذكره من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: جمع رسول الله بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قيل له: فما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. وفي رواية وكيع قال سعيد: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك رسول الله ؟ قال: كيلا يحرج أمته. ورواه مسلم في صحيحه.

قال البيهقي: ولم يخرجه البخاري مع كون حبيب بن أبي ثابت من شرطه، ولعله إنما أعرض عنه - والله أعلم - لما فيه من الاختلاف على سعيد بن جبير قال: ورواية الجماعة عن أبي الزبير أولى أن تكون محفوظة، فقد رواه عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس بقريب من معنى رواية مالك عن أبي الزبير.

قلت: تقديم رواية أبي الزبير على رواية حبيب ابن أبي ثابت لا وجه له، فإن حبيب بن أبي ثابت من رجال الصحيحين، فهو أحق بالتقديم من أبي الزبير، وأبو الزبير من إفراد مسلم، وأيضا فأبو الزبير اختلف عنه عن سعيد بن جبير في المتن، تارة يجعل ذلك في السفر كما رواه عنه قرة موافقة لحديث أبي الزبير عن أبي الطفيل، وتارة يجعل ذلك في المدينة كما رواه الأكثرون عنه عن سعيد.

الجمع بين الصلاتين رخصة لا تتقيد بالمطر ولا غيره

فهذا أبو الزبير قد روي عنه ثلاثة أحاديث: حديث أبي الطفيل عن معاذ في جمع السفر، وحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله، وحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس الذي فيه جمع المدينة، ثم قد جعلوا هذا كله صحيحا لأن أبا الزبير حافظ فلم لا يكون حديث حبيب بن أبي ثابت أيضا ثابتا عن سعيد بن جبير وحبيب أوثق من أبي الزبير؟ وسائر أحاديث ابن عباس الصحيحة تدل على ما رواه حبيب، فإن الجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن لأجل المطر، وأيضا فقوله بالمدينة يدل على أنه لم يكن في السفر، فقوله: جمع بالمدينة في غير خوف ولا مطر، أولى بأن يقال من غير خوف ولا سفر، ومن قال أظنه في المطر، فظن ظنه ليس هو في الحديث، بل مع حفظ الرواة، فالجمع صحيح، قال من غير خوف ولا مطر، وقال ولا سفر، والجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن بهذا ولا بهذا، وبهذا استدل أحمد به على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى، فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى، وهذا من باب التنبيه بالفعل، فإنه إذا جمع ليرفع الحرج الحاصل بدون الخوف والمطر والسفر، فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها.

الجمع بين الصلاتين رخصة لا للسفر ولا للنسك

ومما يبين أن ابن عباس لم يرد الجمع للمطر - وإن كان الجمع للمطر أولى بالجواز - بما رواه مسلم من حديث حماد بن زيد عن الزبير بن الخريت عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة، قال فجاء رجل من بني تيم لا يفتر: الصلاة - الصلاة - فقال: أتعلمني بالسنة لا أم لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته.

ورواه مسلم أيضا من حديث عمران بن حدير عن ابن شقيق قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت ثم قال: الصلاة، فسكت ثم قال: لا أم لك أتعلمنا بالصلاة وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله .

نفي احتمال أن يكون الجمع لأجل المطر

فهذا ابن عباس لم يكن في سفر ولا في مطر، وقد استدل بما رواه على ما فعله فعلم أن الجمع الذي رواه لم يكن في مطر، ولكن كان ابن عباس في أمر مبهم من أمور المسلمين يخطبهم فيما يحتاجون إلى معرفته، ورأى أنه إن قطعه فأتت مصلحته، فكان ذلك عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع، فإن النبي كان يجمع بالمدينة لغير خوف ولا مطر، بل للحاجة تعرض له كما قال: أراد أن لا يحرج أمته، ومعلوم أن جمع النبي بعرفة ومزدلفة لم يكن لخوف ولا مطر ولا لسفر أيضا، فإنه لو جمعه للسفر، لجمع في الطريق ولجمع بمكة، كما كان يقصر بها، ولجمع لما خرج من مكة إلى منى وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولم يجمع بمنى قبل التعريف ولا جمع بها بعد التعريف أيام منى، بل يصلي كل صلاة ركعتين غير المغرب، ويصليها في وقتها، ولا جمعه أيضا كان للنسك، فإنه لو كان كذلك لجمع من حين أحرم فإنه من حينئذ صار محرما فعلم أن جمعه المتواتر بعرفة ومزدلفة لم يكن لمطر ولا خوف، ولا لخصوص النسك ولا لمجرد السفر، فهكذا جمعه بالمدينة الذي رواه ابن عباس، وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن أمته، فإذا احتاجوا إلى الجمع جمعوا.

بطلان كل ما تأولوا به حديث الجمع بالمدينة

قال البيهقي: ليس في رواية ابن شقيق عن ابن عباس من هذين الوجهين الثابتين عنه نفي المطر، ولا نفي السفر، فهو محمول على أحدهما أو على ما أوله عمرو بن دينار، وليس في روايتهما ما يمنع ذلك التأويل فيقال يا سبحان الله! ابن عباس كان يخطب بهم بالبصرة، فلم يكن مسافرا ولم يكن هناك مطر، وهو ذكر جمعا يحتج به على مثل ما فعله، فلو كان ذلك لسفر أو مطر كان ابن عباس أجل قدرا من أن يحتج على جمعه بجمع المطر أو السفر، وأيضا فقد ثبت في الصحيحين عنه أن هذا الجمع كان بالمدينة، فكيف يقال لم ينف السفر؟ وحبيب ابن أبي ثابت من أوثق الناس وقد روى عن سعيد أنه قال: من غير خوف ولا مطر.

وأما قوله: إن البخاري لم يخرجه، فيقال: هذا من أضعف الحجج فهو لم يخرج أحاديث أبي الزبير وليس كل من كان من شرطه يخرجه.

وأما قوله: ورواية عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء، قريب من رواية أبي الزبير، فإنه ذكر ما أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن رسول الله صلى بالمدينة سبعا وثمانيا: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي رواية البخاري عن حماد بن زيد فقال لأيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ فقال: عسى، فيقال هذا الظن من أيوب وعمرو، فالظن ليس من مالك وسبب ذلك أن اللفظ الذي سمعوه لا ينفي المطر، فجوزوا أن يكون هو المراد، ولو سمعوا رواية حبيب بن أبي ثابت الثقة الثبت لم يظنوا هذا الظن، ثم رواية ابن عباس هذه حكاية فعل مطلق، لم يذكر فيها نفي خوف ولا مطر، فهذا يدلك على أن ابن عباس كان قصده بيان جواز الجمع بالمدينة في الجملة، ليس مقصوده تعيين سبب واحد، فمن قال إنما أراد جمع المطر وحده فقد غلط عليه، ثم عمرو بن دينار تارة يجوز أن يكون للمطر موافقة لأيوب، وتارة يقول هو وأبو الشعثاء: أنه كان جمعا في الوقتين كما في الصحيحين عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار: سمعت جابر ابن زيد يقول سمعت ابن عباس يقول صليت مع رسول الله ثمانيا جميعا وسبعا جميعا، قال: قلت يا أبا الشعثاء أراه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء، قال: وأنا أظن ذلك، فيقال ليس الأمر كذلك. لأن ابن عباس كان أفقه وأعلم من أن يحتاج إذا كان قد صلى كل صلاة في وقتها الذي تعرف العامة والخاصة جوازه أن يذكر هذا الفعل المطلق دليلا على ذلك، وأن يقول: أراد بذلك أن لا يخرج أمته. وقد علم أن الصلاة في الوقتين قد شرعت بأحدايث المواقيت، وابن عباس هو ممن روى أحاديث المواقيت، وإمامة جبريل له عند البيت، وقد صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، فإن كان النبي إنما جمع على هذا الوجه فأي غرابة في هذا المعنى؟ ومعلوم أنه كان قد صلى في اليوم الثاني كلا الصلاتين في آخر الوقت وقال: " الوقت ما بين هذين " فصلاته للأولى وحدها في آخر الوقت أولى بالجواز، وكيف يليق بابن عباس أن يقول فعل ذلك كيلا يحرج أمته، والوقت المشهور هو أوسع وأرفع للحرج من هذا الجمع الذي ذكروه، وكيف يحتج على من أنكر عليه التأخير لو كان النبي إنما صلى في الوقت المختص بهذا الفعل وكان له في تأخيره المغرب حين صلاها قبل مغيب الشفق وحدها، وتأخير العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه ما يغنيه عن هذا؟ وإنما قصد ابن عباس بيان جواز تأخير المغرب إلى وقت العشاء ليبين أن الأمر في حال الجمع أوسع منه في غيره. وبذلك يرتفع الحرج عن الأمة، ثم ابن عباس قد ثبت عنه في الصحيح أنه ذكر الجمع في السفر. وأن النبي جمع بين الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر سيره. وقد تقدم ذلك مفصلا، فعلم أن لفظ الجمع في عرفة وعادته إنما هو الجمع في وقت إحداهما.

الجمع من غير خوف ولا علة

وأما الجمع في الوقتين فلم يعرف أنه تكلم به، فكيف يعدل عن عادته التي يتكلم بها ما ليس كذلك؟ وأيضا فابن شقيق يقول: حاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته. أتراه حاك في صدره أن الظهر لا يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت؟ وأن العصر لا يجوز تقديمها إلى أول الوقت؟ وهل هذا مما يخفى على أقل الناس علما حتى يحيك في صدره منه؟ وهل هذا مما يحتاج أن ينقله إلى أبي هريرة أو غيره حتى يسأله عنه؟ إن هذا مما تواتر عند المسلمين وعلموا جوازه، وإنما وقعت شبهة لبعضهم في المغرب خاصة، وهؤلاء يجوزون تأخيرها إلى آخر وقتها، فالحديث حجة عليهم كيفما كان، وجواز تأخيرها ليس معلقا بالجمع، بل يجوز تأخيرها مطلقا إلى آخر الوقت حين يؤخر العشاء أيضا، وهكذا فعل النبي حين بين أحاديث المواقيت، وهكذا في الحديث الصحيح " وقت المغرب ما لم يغب نور الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل " كما قال: " وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله ووقت العصر ما لم تصفر الشمس " فهذا الوقت المختص الذي بينه بقوله وفعله وقال: " الوقت ما بين هذين " ليس له اختصاص بالجمع ولا تعلق به. ولو قال قائل: قوله جمع بينهما بالمدينة من غير خوف ولا سفر، المراد به الجمع في الوقتين كما يقول ذلك من يقوله من الكوفيين، لم يكن بينه وبينهم فرق. فلماذا يكون الإنسان من المطففين لا يحتج لغيره كما يحتج لنفسه؟ ولا يقبل لنفسه ما يقبله لغيره؟

وأيضا فقد ثبت هذا من غير حديث ابن عباس ورواه الطحاوي حدثنا ابن خزيمة وإبراهيم بن أبي داود وعمران بن موسى قال أنا الربيع بن يحيى الأشناني حدثنا سفيان الثوري عن محمد ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: جمع رسول الله بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة للرخصة من غير خوف ولا علة، لكن ينظر حال هذا الأشناني.

وجمع المطر عن الصحابة، فما ذكره مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء ليلة المطر جمع معهم في ليلة المطر، قال البيهقي: ورواه العمري عن نافع فقال: قبل الشفق وروى الشافعي في القديم، أنبأنا بعض أصحابنا عن أسامة بن زيد عن معاذ بن عبد الله بن حبيب أن ابن عباس جمع بينهما في المطر قبل الشفق، وذكرنا ما رواه أبو شيخ الأصبهاني بالإسناد الثابت عن هشام بن عروة وسعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كانوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة إذا جمعوا بين الصلاتين ولا ينكر ذلك، وبإسناده عن موسى بن عقبة أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر، وأن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبا بكر ابن عبد الرحمن ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معهم ولا ينكرون ذلك.

آثار الجمع وما تدل عليه

فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين، مع أنه لم ينقل أن أحدا من الصحابة والتابعين أنكر ذلك فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك، لكن لا يدل على أن النبي لم يجمع إلا للمطر، بل إذا جمع لسبب هو دون المطر مع جمعه أيضا للمطر كان قد جمع من غير خوف ولا مطر، كما أنه إذا جمع في السفر وجمع في المدينة كان قد جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر، فقول ابن عباس جمع من غير كذا ولا كذا ليس نفيا منه للجمع بتلك الأسباب بل إثبات منه لأنه جمع بدونها وإن كان قد جمع بها أيضا.

ولو لم ينقل أنه جمع بها فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بها بطريق الأولى، فيدل ذلك على الجمع للخوف والمطر، وقد جمع بعرفة ومزدلفة من غير خوف ولا مطر.

فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة وأمثال ذلك من الصور.

الجمع من غير عذر من الكبائر

وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر، وروى الثوري في جامعه عن سعيد عن قتادة عن أبي العالية عن عمر ورواه يحيى بن سعد عن يحيى بن صبح حدثني حميد بن هلال عن أبي قتادة يعني العدوي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل له ثلاث من الكبائر: الجمع بين الصلاتين إلا من عذر، والفرار من الزحف والنهب. قال البيهقي: أبو قتادة أدرك عمر فإن كان شهده كتب فهو موصول وإلا فهو إذا انضم إلى الأول صار قويا. وهذا اللفظ يدل على إباحة الجمع للعذر ولم يخص عمر عذرا من عذر. قال البيهقي: وقد روي فيه حديث موصول عن النبي في إسناده من لا يحتج به وهو من رواية سلمان التيمي عن حنش الصنعائي عن عكرمة عن ابن عباس.. ا هـ.

فصل في تمام الكلام في القصر وسبب إتمام عثمان الصلاة بمنى

وقد تقدم فيها بعض أقوال الناس، والقولان الأولان مرويان عن الزهري وقد ذكرهما أحمد، روى عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري قال إنما صلى عثمان بمنى أربعا لأنه قد عزم على المقام بعد الحج، ورجح الطحاوي هذا الوجه مع أنه ذكر الوجهين الآخرين فذكر ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب عن الزهري قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعا لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربع قال الطحاوي فهذا يخبر أنه فعل ما فعل ليعلم الأعراب به أن الصلاة أربع. فقد يحتمل أن يكون لما أراد أن يريهم ذلك نوى الإقامة فصار مقيما فرضه أربع فصلى بهم أربعا فالسبب الذي حكاه معمر الزهري ويحتمل أن يكون فعل ذلك وهو مسافر لتلك العلة قال: والتأويل الأول أشبه عندنا لأن الأعراب كانوا بالصلاة وأحكامها في زمن رسول الله أجهل منهم بها وبحكمها في زمن عثمان وهم بأمر الجاهلية حينئذ أحدث عهدا إذ كانوا في زمن رسول الله إلى العلم بفرض الصلوات أحوج منهم إلى ذلك في زمن عثمان، فلما كان رسول الله لم يتم الصلاة لتلك العلة، ولكنه قصرها ليصلوا معه صلاة السفر على حكمها ويعلمهم صلاة الإقامة على حكمها كان عثمان أحرى أن لا يتم بهم الصلاة لتلك العلة قال الطحاوي وقد قال آخرون: إنما إتمام الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا من حل وارتحل واحتجوا بما رواه عن حماد ابن سلمة عن قتادة قال: قال عثمان بن عفان: إنما يقصر الصلاة من حمل الزاد والمزاد وحل وارتحل. وروى بإسناده المعروف عن سعيد بن أبي عروبة وقد رواه غيره بإسناد صحيح عن عثمان بن سعد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عباس بن عبد الله بن أبي ربيعة أن عثمان بن عفان كتب إلى عماله: ألا لا يصلين الركعتين جاب ولا تأن ولا تاجر إنما يصلي الركعتين من كان معه الزاد والمزاد. وروي أيضا من طريق حماد بن سلمة أن أيوب السختياني أخبرهم عن أبي قلابة الجرفي عن عمه أبي المهلب قال: كتب عثمان أنه قال بلغني أن قوما يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجريم ثم يقصرون الصلاة وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو. قال ابن حزم: وهذان الإسنادان في غاية الصحة. قال الطحاوي قالوا وكان مذهب عثمان أن لا يقصر الصلاة إلا من يحتاج إلى حمل الزاد والمزاد ومن كان شاخصا فأما من كان في مصر يستغني به عن حمل الزاد والمزاد فإنه يتم الصلاة قالوا: ولهذا أتم عثمان بمنى لأن أهلها في ذلك الوقت كثروا حتى صارت مصرا يستغني من حل به عن حمل الزاد والمزاد. قال الطحاوي: وهذا المذهب عندنا فاسد، لأن منى لم تصر في زمن عثمان أعمر من مكة في زمن رسول الله ، وقد كان رسول الله يصلي بها ركعتين، ثم صلى بها أبو بكر بعده كذلك، ثم صلى بها عمر بعد أبي بكر كذلك فإذا كانت مع عدم احتياج من حل بها إلى حمل الزاد والمزاد، تقصر فيها الصلاة فما دونها من المواطن أحرى أن يكون كذلك قال: فقد انتفت هذه المذاهب كلها لفسادها عن عثمان أن يكون من أجل شيء منها قصر الصلاة، غير المذهب الأول، الذي حكاه معمر عن الزهري، فإنه يحتمل أن يكون من أجلها أتمها، وفي الحديث أن إتمامه كان لنيته الإقامة على ما روينا فيه، وعلى ما كشفنا من معناه.

الرد على الطحاوي فيما تأول به إتمام عثمان

قلت: الطحاوي مقصوده أن يجعل ما فعله عثمان موافقا لأصله، وهذا غير ممكن فإن عثمان من المهاجرين والمهاجرون كان يحرم عليهم المقام بمكة ولم يرخص النبي لهم، إذا قدموا مكة للعمرة أن يقيموا بها أكثر من ثلاث بعد قضاء العمرة كما قال في الصحيحين عن العلاء بن الحضرمي أن النبي رخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثا، ولهذا لما توفي ابن عمر بها أمر أن يدفن بالحل ولا يدفن بها. وفي الصحيحين أن النبي لما عاد سعد بن أبي وقاص، وقد كان مرض في حجة الوداع، خاف سعد أن يموت بمكة فقال: يا رسول الله أخلف عن هجرتي، فبشره النبي بأنه لا يموت بها.

وقال: " إنك لن تموت حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون "، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله أن مات بمكة.

ومن المعروف عن عثمان أنه كان إذا اعتمر ينيخ راحلته، فيعتمر ثم يركب عليها راجعا فكيف يقال إنه نوى المقام بمكة؟ ثم هذا من الكذب الظاهر، فإن عثمان ما أقام بمكة قط، بل كان إذا حج يرجع إلى المدينة.

وقد حمل الشافعي وأصحابه وطائفة من متأخري أصحاب أحمد، كالقاضي وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم فعل عثمان على قولهم، فقالوا: لما كان المسافر مخيرا بين الإتمام والقصر، كان كل منهما جائزا، وفعل عثمان هذا، لأن القصر جائز والإتمام جائز، وكذلك حملوا فعل عائشة واستدلوا بما رووه من جهتها، وذكر البيهقي قول من قال أتمها لأجل الأعراب، ورواه من سنن أبي داود، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد عن أيوب عن الزهري، أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب، لأنهم كثروا عامين فصلى بالناس أربعا، ليعلمهم أن الصلاة أربع.

وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا يعقوب عن حميد ثنا سليمان بن سالم مولى عبد الرحمن بن حميد عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن عثمان بن عفان أنه أتم الصلاة بمنى ثم خطب الناس فقال: أيها الناس إن السنة سنة رسول الله وسنة صاحبيه، ولكنه حدث العام من الناس فخفت أن تعيبوا، قال البيهقي وقد قيل غير هذا والأشبه أن يكون رآه رخصة فرأى الإتمام جائزا كما رأته عائشة.

استبعاد أن يكون عثمان أتم لمجرد الترخيص

قلت: وهذا بعيد فإن عدول عثمان عما داوم عليه رسول الله وخليفتاه بعده مع أنه أهون عليه، وعلى المسلمين ومع ما علم من حلم عثمان واختياره له ولرعيته، أسهل الأمور وبعده عن التشديد والتغليظ لا يناسب أن يفعل الأمر الأثقل الأشد مع ترك ما داوم عليه رسول الله وخليفتاه بعده، ومع رغبة عثمان في الإقتداء بالنبي وخليفته بعده لمجرد كون هذا المفضول جائزا، إن لم ير أن في فعل ذلك مصلحة راجحة بعثته على أن يفعله، وهب أن له أن يصلي أربعا فكيف يلزم بذلك من يصلي خلفه، فإنهم إذا ائتموا به صلوا بصلاته فيلزم المسلمين بالفعل الأثقل مع خلاف السنة لمجرد كون ذلك جائزا، وكذلك عائشة.

موافقة السلف لعثمان ومخالفة بعض الصحابة له

وقد وافق عثمان على ذلك غيره من السلف أمراؤهم وغير أمرائهم، وكانوا يتمون وأئمة الصحابة لا يختارون ذلك، كما روى مالك عن الزهري أن رجلا أخبره عن عبد الرحمن بن المسور مخرمة وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانا جميعا في سفر وكان سعد بن أبي وقاص يقصر الصلاة ويفطر وكانا يتمان الصلاة ويصومان فقيل لسعد نراك تقصر من الصلاة وتفطر ويتمان فقال سعد: نحن أعلم، وروى شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال كنا مع سعد بن أبي وقاص في قرية من قرى الشام فكان يصلي ركعتين فنصلي نحن أربعا فنسأله عن ذلك فيقول سعد: نحن أعلم. وروى مالك عن ابن شهاب عن صوان بن عبد الله بن صفوان قال: جاء عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان فصلى بنا ركعتين ثم انصرف فأتممنا لأنفسنا.

قلت: عبد الله بن صفوان كان مقيما بمكة فلهذا أتموا خلف ابن عمر. وروى مالك عن نافع أن ابن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعا وإذا صلى لنفسه ركعتين، قال البيهقي والأشبه أن يكون عثمان رأى القصر رخصة فرأى الإتمام جائزا كما رأته عائشة قال: وقد روي ذلك عن غير واحد من الصحابة مع اختيارهم القصر ثم روى الحديث المعروف من رواية عبد الرزاق عن إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ليلى قال أقبل سلمان في اثني عشر راكبا من أصحاب النبي فحضرت الصلاة فقالوا تقدم يا أبا عبد الله فقال: إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم إن الله هدانا بكم، قال فتقدم رجل من القوم فصلى بهم أربعا، قال: فقال سلمان ما لنا ولا لمربعة إنما كان يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج قال: فبين سلمان بمشهد هؤلاء الصحابة أن القصر رخصة.

تعليل كراهية سلمان للإتمام

قلت: هذه القضية كانت في خلافة...

وسلمان قد أنكر التربيع وذلك أنه كان خلاف السنة المعروفة عندهم فإنه لم تكن الأئمة يربعون في السفر وقوله ونحن إلى الرخصة أحوج؛ يبين أنها رخصة وهي رخصة مأمور بها كما أن أكل الميتة في المخمصة رخصة وهي مأمور بها وفطر المريض رخصة وهو مأمور به والصلاة بالتيمم رخصة مأمور بها والطواف بالصفا والمروة قد قال الله فيه: " فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " وهو مأمور به إما ركن وإما واجب وإما سنة والذي صلى سلمان أربعا يحتمل أنه لا يرى القصر لمثله إما لأن سفره كان قصرا عنده وإما لأن سفره لم يكن عنده مما يقصر فيه الصلاة فإن من الصحابة من لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو غزو وكان لكثير من السلف والخلف نزاع في جنس سفر القصر وفي قدره فهذه القضية المعينة لم يتبين فيها حال الإمام ومتابعة سلمان له تدل على أن الإمام إذا فعل شيئا متأولا اتبع عليه كما إذا قنت متأولا أو كبر خمسا أو سبعا متأولا والنبي صلى خمسا واتبعه أصحابه ظانين أن الصلاة زيد فيها فلما سلم ذكروا ذلك فقال: " إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإن نسيت فذكروني ".

أقوال الأئمة في من أتم الصلاة المقصورة

وقد تنازع العلماء في الإمام إذا قام إلى خامسة هل يتابعه المأموم أو يفارقه ويسلم أو يفارقه وينتظره أو يخير بين هذا وهذا على أقوال معروفة وهي روايات عن أحمد أو رأى أن التربيع مكروه وتابع الإمام عليه فإن المتابعة واجبة ويجوز فعل المكروه لمصلحة راجحة ولا ريب أن تربيع المسافر ليس كصلاة الفجر أربعا فإن المسافر لو اقتدى بمقيم لصلى خلفه أربعا لأجل متابعة إمامه فهذه الصلاة تفعل في حال ركعتين وفي حال أربعا بخلاف الفجر فجاز أن تكون متابعة الإمام المسافر كمتابعة المسافر للمقيم لأن كلاهما اتبع إمامه وهذا القول وهو القول بكراهة التربيع أعدل الأقوال وهو الذي نص عليه أحمد في رواية الأثرم وقد سأله هل للمسافر أن يصلي أربعا فقال: لا يعجبني ولكن السفر ركعتان، وقد نقل عنه المروذي أنه قال: إن شاء صلى أربعا وإن شاء صلى ركعتين. ولا يختلف قول أحمد أن الأفضل هو القصر بل نقل عنه إذا صلى أربعا أنه توقف في الأجزاء ومذهب مالك كراهية التربيع وأنه يعيد في الوقت ولهذا يذكر في مذهبه هل تصح الصلاة أربعا؟ على قولين.

ومذهب الشافعي جواز الأمرين وأيهما أفضل فيه، قولان: أصحهما أن القصر أفضل كإحدى الروايتين عن أحمد، وهو اختيار كثير من أصحابه وتوقف أحمد عن القول بالأجزاء يقتضي أنه يخرج على قوله في مذهبه، وذلك أن غايته أنه زاد زيادة مكروهة وهذا لا يبطل الصلاة فإنه أتى بالواجب وزيادة والزيادة إذا كانت سهوا لا تبطل الصلاة باتفاق المسلمين، وكذلك الزيادة خطأ إذا اعتقد جوازها وهذه الزيادة لا يفعلها من يعتقد تحريمها وإنما يفعلها من يعتقدها جائزة ولا نص بتحريمها بل الأدلة دالة على كون ذلك مخالفا للسنة لا أنه محرم كالصلاة بدون رفع اليدين ومع الالتفات ونحو ذلك من المكروهات وسنتكلم إن شاء الله على تمام ذلك.

مذهب عثمان رضي الله عنه في قصر الصلاة

وأما إتمام عثمان فالذي ينبغي أن يحمل حاله على ما كان يقول لا على ما لم يثبت فقوله أنه بلغني أن قوما يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجريم يقصرون الصلاة وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو، وقوله بين فيه مذهبه وهو أنه لا يقصر الصلاة من كان نازلا في قرية أو مصر إلا إذا كان خائفا بحضرة عدو وإنما يقصر من كان شاخصا أي مسافرا وهو الحامل للزاد والمزاد أي للطعام والشراب، والمزاد وعاء الماء، يقول إذا كان نازلا مكانا فيه الطعام والشراب كان مترفها بمنزلة المقيم فلا يقصر لأن القصر إنما جعل للمشقة التي تلحق الإنسان وهذا لا تلحقه مشقة فالقصر عنده للمسافر الذي يحمل الزاد والمزاد وللخائف، ولما عمرت منى وصار بها زاد ومزاد لم ير القصر بها لا لنفسه ولا لمن معه من الحجاج، وقوله في تلك الرواية: ولكن حدث العام لم يذكر فيها ما حدث فقد يكون هذا هو الحادث، وإن كان قد جاءت الجهال من الأعراب وغيرهم يظنون أن الصلاة أربع فقد خاف عليهم أن يظنوا أنها تفعل في مكان فيه الزاد والمزاد أربعا وهذا عنده لا يجوز، وإن كان قد تأهل بمكة فيكون هذا أيضا موافقا فإنه إنما تأهل بمكان فيه الزاد والمزاد وهو لا يرى القصر لمن كان نازلا بأهله في مكان فيه الزاد والمزاد، وعلى هذا فجميع ما ثبت في هذا الباب من عذره يصدق بعضه بعضا.

وأما ما اعتذر به الطحاوي من أن مكة كانت على عهد النبي أعمر من منى في زمن عثمان فجواب عثمان له أن النبي في عمرة القضية ثم في غزوة الفتح ثم في عمرة الجعرانة كان خائفا من العدو وعثمان يجوز القصر لمن كان خائفا وإن كان نازلا في مكان فيه الزاد والمزاد فإنه يجوزه للمسافر ولمن كان بحضرة العدو، وإما حجة الوداع فقد كان النبي آمنا لكنه لم يكن نازلا بمكة وإنما كان نازلا بالأبطح خارج مكة هو وأصحابه فلم يكونوا نازلين بدار إقامة ولا بمكان فيه الزاد والمزاد. وقد قال أسامة: أين ننزل غدا؟ هل ننزل بدارك بمكة؟ فقال: " وهل ترك لنا عقيل من دار ننزل بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر وهذا المنزل بالأبطح بين المقابر ومنى.

مذهب عائشة في القصر

وكذلك عائشة رضي الله عنها أخبرت عن نفسها أنها إنما تتم لأن القصر لأجل المشقة وأن الإتمام لا يشق عليها، والسلف والخلف تنازعوا في سفر القصر في جنسه وفي قدره فكان قول عثمان وعائشة أحد أقوالهم فيها، وللناس في جنس سفر القصر أقوال أخر مع أن عثمان قد خالفه علي وابن مسعود وعرمان بن الحصين وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وغيرهم من علماء الصحابة فروى سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: اعتل عثمان وهو بمنى فأتى علي فقيل له: صل بالناس فقال: إن شئتم صليت بكم صلاة رسول الله ركعتين، قاولوا: لا إلا صلاة أمير المؤمنين يعنون أربعا، فأبى. وفي الصحيحين عن ابن مسعود...

الخلاف في جواز إتمام الرباعية في السفر

وقد تنازع الناس في الأربع في السفر على أقوال: أحدها: أن ذلك بمنزلة صلاة الصبح أربعا وهذا مذهب طائفة من السلف والخلف وهو مذهب أبي حنيفة وابن حزم وغيره من أهل الظاهر، ثم عند أبي حنيفة إذا جلس مقدار التشهد تمت صلاته والمفعول بعد ذلك كصلاة منفصلة قد تطوع بها، وإن لم يقعد مقدار التشهد بطلت صلاته، ومذهب ابن حزم وغيره أن صلاته باطلة كما لو صلى عندهم الفجر أربعا.

وقد روى سعيد في سننه عن الضحاك بن مزاحم قال: قال ابن عباس من صلى في السفر أربعا كمن صلى في الحضر ركعتين. قال ابن حزم وروينا عن عمر بن عبد العزيز وقد ذكر الإتمام في السفر لمن شاء فقال: لا، الصلاة في السفر ركعتان حتمان لا يصح غيرهما، وحجة هؤلاء أنه قد ثبت أن الله إنما فرض في السفر ركعتين والزيادة على ذلك لم يأت بها كتاب ولا سنة، وكل ما روي عن النبي من أنه صلى أربعا أو أقر من صلى أربعا فإنه كذب.

وأما فعل عثمان وعائشة فتأويل منهما أن القصر إنما يكون في بعض الأسفار دون بعض كما تأول غيرهما أنه لا يكون إلا في حج أو عمرة أو جهاد ثم قد خالفهما أئمة الصحابة وأنكروا ذلك. قالوا: لأن النبي قال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " فأمر بقبولها والأمر يقتضي الوجوب، ومن قال يجوز الأمران فعمدتهم قوله تعالى: " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " قالوا: وهذه العبارة إنما تستعمل في المباح لا في الواجب كقوله: " ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم " وقوله: " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة " ونحو ذلك، واحتجوا من السنة بما تقدم من أن النبي حسن لعائشة إتمامها وبما روي من أنه فعل ذلك واحتجوا بأن عثمان أتم الصلاة بمنى بمحضر الصحابة فأتموا خلفه وهذه كلها حجج ضعيفة.

تخطئة من جوز إتمام الرباعية في السفر

أما الآية، فنقول: قد علم بالتواتر أن النبي إنما كان يصلي في السفر ركعتين وكذلك أبو بكر وعمر بعده وهذا يدل على أن الركعتين أفضل كما عليه جماهير العلماء، وإذا كان القصر طاعة لله ورسوله وهو أفضل من غيره لم يجز أن يحتج بنفي الجناح على أنه مباح لا فضيلة فيه، ثم ما كان عذرهم عن كونه مستحبا هو عذر لغيرهم عن كونه مأمورا به أمر إيجاب، وقد قال تعالى في السعي: " فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " والطواف بين الصفا والمروة هو السعي المشروع باتفاق المسلمين وذلك إما ركن وإما واجب وإما سنة، وأيضا فالقصر وإن كان رخصة استباحة المحظور فقد تكون واجبة كأكل الميت للمضطر والتيمم لمن عدم الماء ونحو ذلك، هذا إن سلم أن المراد به قصر العدد، فإن للناس في الآية ثلاثة أقوال: قيل المراد به قصر العدد فقط وعلى هذا فيكون التخصيص بالخوف غير مفيد، والثاني أن المراد به قصر الأعمال فإن صلاة الخوف تقصر عن صلاة الأمن والخوف يبيح ذلك، وهذا يرد عليه أن صلاة الخوف جائزة حضرا وسفرا والآية أفادت القصر في السفر.

والقول الثالث: وهو الأصح - أن الآية أفادت قصر العدد وقصر العمل جميعا ولهذا علق ذلك بالسفر والخوف فإذا اجتمع الضرب في الأرض والخوف أبيح القصر الجامع لهذا ولهذا، وإذا انفرد السفر فإنما يبيح قصر العدد، وإذا انفرد الخوف فإنما يفيد قصر العمل.

صلاة الخوف ركعة، والسفر ركعتان، والإقامة أربع

ومن قال إن الفرض في الخوف والسفر ركعة كأحد القولين في مذهب أحمد وهو مذهب ابن حزم فمراده إذا كان خوف وسفر فيكون السفر والخوف قد أفادا القصر إلى ركعة كما روى أبو داود الطيالسي ثنا المسعودي هو عبد الرحمن هو عبد الرحمن بن عبد الله عن يزيد الفقير قال: سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما، قال جابر: لا، فإن الركعتين في السفر ليستا بقصر إنما القصر ركعة عند القتال.

وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. قال ابن حزم: ورويناه أيضا من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر عن النبي بأسانيد في غاية الصحة. قال ابن حزم: وبهذه الآية قلنا إن صلاة الخوف في السفر إن شاء ركعة وإن شاء ركعتين لأنه جاء في القرآن بلفظ " لا جناح " لا بلفظ الأمر والإيجاب وصلاها الناس مع النبي مرة ركعة فقط ومرة ركعتين فكان ذلك على الاختيار كما قال جابر.

صلاة المسافر ركعتان غير قصر

وأما صلاة عثمان فقد عرف إنكار أئمة الصحابة عليه ومع هذا فكانوا يصلون خلفه، بل كان ابن مسعود يصلي أربعا وإن انفرد ويقول: الخلاف شر، وكان ابن عمر إذا انفرد صلى ركعتين. وهذا دليل على أن صلاة السفر أربعا مكروهة عندهم ومخالفة للسنة ومع ذلك فلا إعادة على من فعلها وإذا فعلها الإمام اتبع فيها، وهذا لأن صلاة المسافر ليست كصلاة الفجر، بل هي من جنس الجمعة والعيدين، ولهذا قرن عمر بن الخطاب في السنة التي نقلها بين الأربع فقال: صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى. رواه أحمد والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: قال عمر، ورواه يزيد بن زياد ابن أبي الجعد عن زبيد الأيامي عن عبد الرحمن فهذه الأربعة ليست من جنس الفجر.

ومعلوم أنه يوم الجمعة يصلى ركعتين تارة ويصلي أربعا أخرى، ومن فاتته الجمعة إنما يصلي أربعا لا يصلي ركعتين وكذلك من لم يدرك منها ركعة عند الصحابة وجمهور العلماء كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها " وإذا حصلت شروط الجمعة خطب خطبتين وصلى ركعتين فلو قدر أنه خطب وصلى الظهر أربعا لكان تاركا للسنة ومع هذا فليسوا كمن صلى الفجر أربعا ولهذا يجوز للمريض والمسافر والمرأة وغيرهم ممن لا تجب عليهم الجمعة أن يصلي الظهر أربعا أن يأتم به في الجمعة فيصلي ركعتين فكذلك المسافر له أن يصلي ركعتين وله أن يأتم بمقيم فيصلي خلفه أربعا فإن قيل الجمعة يشترط لها الجماعة فلهذا كان حكم المنفرد فيها خلاف حكم المؤتم.

وهذا الفرق ذكره أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد قيل لهم اشتراط الجماعة في الصلوات الخمس فيه نزاع في مذهب أحمد وغيره والأقوى أنه شرط مع القدرة وحينئذ المسافر لما ائتم بالمقيم دخل في الجماعة الواجبة فلزمه اتباع الإمام كما في الجمعة، وإن قيل فللمسافرين أن يصلوا جماعة قيل ولهم أن يصلوا يوم الجمعة جماعة ويصلوا أربعا، وصلاة العيد قد ثبت عن علي أنه استخلف من صلى بالناس في المسجد أربعا ركعتين للسنة وركعتين لكونهم لم يخرجوا إلى الصحراء، فصلاة الظهر يوم الجمعة وصلاة العيدين تفعل تارة ثنتين وتارة أربعا كصلاة المسافر بخلاف صلاة الفجر، وعلى هذا تدل آثار الصحابة فإنهم كانوا يكرهون من الإمام أن يصلي أربعا ويصلون خلفه كما في حديث سلمان وحديث ابن مسعود وغيره مع عثمان ولو كان ذلك عندهم كمن يصلي الفجر أربعا لما استجازوا أن يصلوا أربعا كما لا يستجيز مسلم أن يصلي الفجر أربعا.

النهي عن وصل صلاة بأخرى

ومن قال: إنهم لما قعدوا قدر التشهد أدوا الفرض والباقي تطوع قيل له: من المعلوم أنه لم ينقل عن أحدهم أنه قال: نوينا التطوع بالركعتين. وأيضا فإن ذلك ليس بمشروع فليس لأحد أن يصلي بعد الفجر ركعتين بل قد أنكر النبي على من صلى بعد الإقامة السنة وقال الصبح أربعا. وقد صلى الإمام فكيف إذا وصل الصلاة بصلاة وقد ثبت في الصحيح أن النبي نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بكلام أو قيام.

وقد كان الصحابة ينكرون على من يصلي الجمعة وغيرها بصلاة تطوع فكيف يسوغون أن يصلي الركعتين في السفر إن كان لا يجوز إلا ركعتان بصلاة تطوع، وأيضا فلماذا وجب على المقيم خلف المسافر أن يصلي أربعا كما ثبت ذلك عن الصحابة وقد وافق عليه أبو حنيفة وأيضا فيجوز أن يصلي المقيم أربعا خلف المسافر ركعتين كما كان النبي وخلفاؤه يفعلون ذلك ويقولون: "أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر".

وهذا مما يبين أن صلاة المسافر من جنس صلاة المقيم فإنه قد سلم جماهير العلماء أن يصلي هذا خلف هذا كما يصلي الظهر خلف من يصلي الجمعة وليس هذا كمن صلى الظهر قضاء خلف من يصلي الفجر.

لا يشترط نية المسافر لقصر الرباعية

وأما من قال: إن المسافر فرضه أربع وله أن يسقط ركعتين بالقصر فقوله مخالف للنصوص وإجماع السلف والأصول وهو قول متناقض فإن هاتين الركعتين يملك المسافر إسقاطهما لا إلى بدل ولا إلى نظيره وهذا يناقض الوجوب فإنه يمتنع أن يكون الشيء واجبا على العبد ومع هذا لا يلزمه فعله ولا فعل بدله ولا نظيره - فعلم بذلك أن الفرض على المسافر الركعتان فقط، الذي يدل عليه كلام أحمد وقدماء الصحابة فإنه لم يشترط في القصر نية وقال: لا يعجبني الأربع وتوقف في إجزاء الأربع.

ولم ينقل أحد عن أحمد أنه قال: لا يقصر إلا بنية، وإنما هذا من قول الخرقي ومن اتبعه ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة في ذلك كما قاله جماهير العلماء وهو اختيار أبي بكر موافقة لقدماء الأصحاب كالخلال وغيره بل والأثرم وأبي داود وإبراهيم الحربي وغيرهم فإنهم لم يشترطوا النية لا في قصر ولا في جمع، وإذا كان فرضه ركعتين فإذا أتى بهما أجزأه ذلك سواء نوى القصر أو لم ينوه وهذا قول الجماهير كمالك وأبي حنيفة وعامة السلف وما علمت أحدا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان اشترط نية لا في قصر ولا في جمع ولو نوى المسافر الإتمام كانت السنة في حقه الركعتين، ولو صلى أربعا كان ذلك مكروها كما لو ينوه.

ولم ينقل قط أحد عن النبي أنه أمر أصحابه لا بنية القصر ولا نية جمع ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم مع أن المأمومين أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام فإن النبي لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعا، وصلى بهم العصر بذي الحليفة ركعتين وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله كلهم خرجوا يحجون معه وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر إما لحدوث عهده بالإسلام وإما لكونه لم يسافر بعد لا سيما النساء صلوا معه ولم يأمرهم بنية القصر وكذلك جمع بهم بعرفة ولم يقل لهم إني أريد أن أصلي العصر بعد الظهر حتى صلاها.

فصل في سفر القصر والفطر- الخلاف في السفر الشرعي وحكمه

السفر في كتاب الله وسنة رسوله في القصر والفطر مطلق ثم قد تنازع الناس في جنس السفر وقدره، أما جنسه فاختلفوا في نوعين: أحدهما حكمه فمنهم من قال لا نقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو وهذا قول داود وأصحابه إلا ابن حزم، قال ابن حزم وهو قول جماعة من السلف كما روينا من طريق ابن أبي عدي حدثنا جرير عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الأسود عن ابن مسعود قال: لا يقصر الصلاة إلا حاج أو مجاهد. وعن طاوس أنه كان يسأل عن قصر الصلاة فيقول إذا خرجنا حجاجا أو عمارا صلينا ركعتين. وعن إبراهيم التيمي أنه كان لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو جهاد، وحجة هؤلاء أنه ليس معنا نص يوجب عموم القصر للمسافر إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا وهذا سفر الجهاد، وأما السنة فإن النبي قصر في حجه وعمره وغزواته فثبت جواز هذا والأصل في الصلاة الإتمام فلا تسقط إلا حيث أسقطتها السنة.

الصواب صلاة القصر في كل سفر

ومنهم من قال: لا يقصر إلا في سفر يكون طاعة فلا يقصر في مباح كسفر التجارة وهذا يذكر رواية عن أحمد، والجمهور يجوزون القصر في السفر الذي يجوز فيه الفطر وهو الصواب لأن النبي قال: " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة " رواه عنه أنس بن مالك الكعبي وقد رواه أحمد وغيره بإسناد جيد، وأيضا فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب " ليس عليكم جناح أن تقصورا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " فقد أمن الناس، فقال عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله عن ذلك فقال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " وهذا يبين أن سفر الأمن يجوز فيه قصر العدد وإن كان ذلك صدقة من الله علينا أمرنا بقبولها.

وقد قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: إن شئنا قبلناها وإن شئنا لم نقبلها، فإن قبول الصدقة لا يجب، ليدفعوا بذلك الأمر بالركعتين وهذا غلط فإن النبي أمرنا أن نقبل صدقة الله علينا والأمر للإيجاب وكل إحسانه إلينا صدقة علينا فإن لم نقبل ذلك هلكنا وأيضا فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى، كما قال: صلاة الجمعة ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان، وهذا نقل عن النبي أنه سن للمسلمين الصلاة في جنس السفر ركعتين كما سن الجمعة والعيدين ولم يخص ذلك بسفر نسك أو جهاد، وأيضا فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، وهذا يبين أن المسافر لم يؤمر بأربع قط وحينئذ فما أوجب الله على المسافر أن يصلي أربعا وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ يدل على أن المسافر فرض عليه أربع، وحينئذ فمن أوجب على مسافر أربعا فقد أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله.

خلاف الأئمة في سفر القصر

فإن قيل قوله وضع يقتضي أنه كان واجبا قبل هذا كما قال إنه وضع عنه الصوم ومعلوم أنه لم يجب على المسافر صوم رمضان قط لكن لما انعقد سبب الوجوب فأخرج المسافر من ذلك سمي وضعا ولأنه كان واجبا في المقام فلما سافر وضع بالسفر كما يقال: من أسلم وضعت عنه الجزية مع أنها لا تجب على مسلم بحال، وأيضا فقد قال صفوان بن محرز: قلت لابن عمر: حدثني عن صلاة السفر، قال: أتخشى أن يكذب علي؟ قلت: لا، قال: ركعتان من خالف السنة كفر، وهذا معروف رواه أبو التياح عن مورق العجل عنه وهو مشهور في كتب الآثار، وفي لفظ صلاة السفر ركعتان ومن خالف السنة كفر وبعضهم رفعه إلى النبي ، فبين أن صلاة السفر ركعتان وأن ذلك من السنة التي خالفها فاعتقد خلافها فقد كفر، وهذه الأدلة دليل على أن من قال إنه لا يقصر إلا في سفر واجب فقوله ضعيف.

ومنهم من قال: لا يقصر في السفر المكروه ولا المحرم ويقصر في المباح وهذا أيضا رواية عن أحمد وهل يقصر في سفر النزهة؟ فيه عن أحمد راويتان

وأما السفر المحرم فمذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد لا يقصر فيه، وأما أبو حنيفة وطوائف من السلف والخلف فقالوا: يقصر في جنس الأسفار وهو قول ابن حزم وغيره، وأبو حنيفة وابن حزم وغيرهما يوجبون القصر في كل سفر وإن كان محرما كما يوجب الجميع التيمم إذا عدم الماء في السفر المحرم، وابن عقيل رجح في بعض المواضع القصر والفطر في السفر المحرم.

الآيات والأحاديث في أحكام السفر

والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعا في جنس السفر ولم يخص سفرا من سفر وهذا القول هو الصحيح فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر، قال تعالى: " فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " كما قال في آية التيمم: " وإن كنتم مرضى أو على سفر " الآية، وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين، ولم ينقل قط أحد عن النبي أنه خص سفرا من سفر مع علمه بأن السفر يكون حراما ومباحا ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من الواجبات ولو بين ذلك لنقلته الأمة وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئا، وقد علق الله ورسوله أحكاما بالسفر كقوله تعالى في التيمم: " وإن كنتم مرضى أو على سفر " وقوله في الصوم: " فمن كان مريضا أو على سفر " وقوله: " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ". وقول النبي : " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن " وقوله: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم " وقوله: " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة " ولم يذكر قط في شيء من نصوص الكتاب والسنة تقييد السفر بنوع دون نوع، فكيف يجوز أن يكون الحكم معلقا بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ورسوله ذلك؟ بل يكون بيان الله ورسوله متناولا للنوعين، وهكذا في تقسيم السفر إلى طويل وقصير وتقسيم الطلاق بعد الدخول إلى بائن ورجعي، وتقسيم الإيمان إلى يمين مكفرة وغير مكفرة، وأمثال ذلك مما علق الله ورسوله الحكم فيه بالجنس المشترك العام فجعله بعض الناس نوعين نوعا يتعلق به ذلك الحكم ونوعا لا يتعلق من غير دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة ولا نصا ولا استنباطا.

والذين قالوا: لا يثبت ذلك في السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى في الميتة: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه " وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن الباغي هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله والعادي هو العادي على المسلمين وهم المحاربون قطاع الطريق، قالوا: فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم فسائر الرخص أولى، وقالوا: إذا اضطر العاصي بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل ولا نبيح له إتلاف نفسه، وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي وأحمد، وأما أحمد ومالك فجوزوا له أكل الميتة دون القصر والفطر، قالوا: ولأن السفر المحرم معصية والرخص للمسافر إعانة على ذلك فلا تجوز الإعانة على المعصية.

الصحيح في تفسير الباغي والعادي والخوف والإثم

وهذه حجج ضعيفة، أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول، لأن الله أنزل هذا في السور المكية الأنعام والنحل وفي المدنية، ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت في سفر فليس السفر المحرم مختصا يقطع الطريق، والخروج على الإمام، ولم يكن على عهد النبي إمام يخرج عليه ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرا والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين، ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولا مسافرين بل كانوا من أهل العوالي مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد فكيف يجوز أن يفسر الآية بما لا تختص بالسفر وليس فيها كل سفر محرم؟ فالمذكور في الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقا للسفر المحرم فإنه قد يكون بلا سفر، وقد يكون السفر المحرم بدونه، وأيضا فقوله: " غير باغ " حال من " اضطر " فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد فإنه قال: " فلا إثم عليه " ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل لا عن نفس الحاجة إليه فمعنى الآية فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد، وهذا يبين أن المقصود أنه لا يبغي في أكله ولا يتعدى، والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان فالبغي ما جنسه ظلم والعدوان مجاوزة القدر المباح كما قرن بين الإثم والعداون في قوله: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " فالإثم جنس الشر والعدوان مجاوزة القدر المباح، فالبغي من جنس الإثم، قال تعالى: " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم بغيا بينهم " وقال تعالى: " فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه " فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد، وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد لكن قال كثير من المفسرين الجنف الخطأ والإثم لأنه لما خص الإثم بالذكر وهو العمد بقي الداخل في الجنف خطأ، ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود كما قال تعالى: " تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " ونحو ذلك، ومما يشبه هذا قوله: " ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا " والإسراف مجاوزة الحد في المباح، وأما الذنوب فما كان جنسه شر وإثم.

عموم أنواع الرخص للطائع والعاصي

وأما قولهم: إن هذا إعانة على المعصية فغلط لأن المسافر مأمور بأن يصلي ركعتين كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم وإذا عدم الماء في السفر المحرم كان عليه أن يتيمم ويصلي وما زاد على الركعتين ليست طاعة ولا مأمورا بها أحد من المسافرين، وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهيا عنه فصار صلاة الركعتين مثل أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن، فهل يصليها إلا ركعتين وإن كان عاصيا بسفره وإن كان إذا صلى وحده صلى أربعا؟ وكذلك صومه في السفر ليس برا ولا مأمورا به فإن النبي ثبت عنه أنه قال: " ليس من البر الصيام في السفر " وصومه إذا كان مقيما أحب إلى الله من صيامه في سفر محرم، ولو أراد أن يتطوع على الراحلة في السفر المحرم لم يمنع من ذلك، وإذا اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلي؟ ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عريانا؟ فإن قيل هذا لا يمكنه إلا هذا قيل والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين والمشروع في حقه أن لا يصوم، وقد اختلف الناس لو صام هل يسقط الفرض عنه؟ واتفقوا على أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه، وهذه المسألة ليس فيها احتياط، فإن طائفة يقولون من صلى أربعا أو صام رمضان في السفر المحرم لم يجزئه ذلك كما لو فعل ذلك في السفر المباح عندهم.

وطائفة يقولون لا يجزيه إلا صلاة أربع وصوم رمضان، وكذلك أكل الميتة واجب على المضطر سواء كان في السفر أو الحضر وسواء كانت ضرورية بسبب مباح أو محرم فلو ألقي ماله في البحر واضطر إلى أكل الميتة كان عليه أن يأكلها، ولو سافر سفرا محرما فأتعبه حتى عجز عن القيام صلى قاعدا، ولو قاتل قتالا محرما حتى أعجزته الجراح عن القيام صلى قاعدا، فإن قيل فلو قاتل قتالا محرما هل يصلي صلاة الخوف؟ قيل يجب عليه أن يصلي ولا يقاتل فإن كان لا يدع القتال المحرم فلا نبيح له ترك الصلاة بل إذا صلى صلاة خائف كان خيرا من ترك الصلاة بالكلية، ثم هل يعيد؟ هذا فيه نزاع، ثم إن أمكن فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة في الوقت وجب ذلك عليه لأنه مأمور بها، وأما إن خرج ولم يفعل ذلك، ففي صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع.

النوع الثاني من موارد النزاع

النوع الثاني: من موارد النزاع أن عثمان كان لا يرى مسافرا إلا من حمل الزاد والمزاد دون من كان نازلا لا يحتاج فيه إلى ذلك كالتاجر والتاني والجابي الذين يكونون في موضع لا يحتاجون فيه إلى ذلك ولم يقدر عثمان للسفر قدرا بل هذا الجنس عنده ليس بمسافر وكذلك قيل إنه لم ير نفسه والذين معه مسافرين بمنى لما صارت منى معمورة وذكر ابن أبي شبيبة عن ابن سيرين أنه قال: كانوا يقولون السفر الذي تقصر فيه الصلاة الذي يحمل فيه الزاد والمزاد ومأخذ هذا القول والله أعلم أن القصر إنما كان في السفر لا في المقام والرجل إذا كان مقيما في مكان يجد فيه الطعام والشراب لم يكن مسافرا بل مقيما بخلاف المسافر الذي يحتاج أن يحمل الطعام والشراب فإن هذا يلحقه من المشقة ما يلحق المسافر من مشقة السفر وصاحب هذا القول كأنه رأى الرخصة إنما تكون للمشقة والمشقة إنما تكون لمن يحتاج إلى حمل الطعام والشراب، وقد نقل عن غيره كلام يفرق فيه بين جنس وجنس. روى ابن أبي شيبة عن علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق ابن شهاب عن عبد الله ابن مسعود قال: لا يغرنكم سوادكم هذا من صلاتكم فإنه من مصركم، فقوله من مصركم يدل على أنه جعل السواد بمنزلة المصر لما كان تابعا، وروى عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنت مع حذيفة بالمدائن فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة فأذن لي وشرط علي أن لا أفطر ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه وبينهما نيف وستون ميلا. وعن حذيفة أن لا يقصر إلى السواد وبين الكوفة. والسواد تسعون ميلا. وعن معاذ بن جبل وعقبة بن عامر: لا يطأ أحدكم بماشية أحداب الجبال أو بطون الأودية وتزعمون أنكم سفر، لا ولا كرامة، إنما التقصير في السفر من الباءت من الأفق إلى الأفق.

من قال إن السفر ما يحمل فيه الزاد مطلقا

قلت: هؤلاء لم يذكروا مسافة محدودة للقصر لا بالزمان ولا بالمكان لكان جعلوا هذا الجنس من السير ليس سفرا كما جعل عثمان السفر ما كان فيه حمل زاد ومزاد فإن كانوا قصدوا ما قصده عثمان من أن هذا لا يزال يسير في مكان يحمل فيه الزاد والمزاد فهو كالمقيم فقد وافقوا عثمان لكن ابن مسعود خالف عثمان في إتمامه بمنى، وإن كان قصدهم أن أعمال البلد تبع له كالسواد مع الكوفة وإنما المسافر من خرج من عمل إلى عمل كما في حديث معاذ من أفق إلى أفق فهذا هو الظاهر ولهذا قال ابن مسعود عن السواد: فإنه من مصركم، وهذا كما أن ما حول المصر من البساتين والمزارع تابعة له فهم يجعلون ذلك كذلك وإن طال ولا يجدون فيه مسافة وهذا كما أن المخاليف وهي الأمكنة التي يستخلف فيها من هو خليفة عن الأمير العام بالمصر الكبير، وفي حديث معاذ من خرج من مخلاف إلى مخلاف يدل على ذلك ما رواه محمد بن بشار: حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا شعبة سمعت قيس بن عمران بن عمير يحدث عن أبيه عن جده أنه خرج مع عبد الله بن مسعود وهو رديفه على بغلة له مسيرة أربعة فراسخ فصلى الظهر ركعتين، قال شعبة: أخبرني بهذا قيس بن عمران وأبوه عمران بن عمير شاهدوا عمير مولى ابن مسعود، فهذا يدل على أن ابن مسعود لم يحد السفر بمسافة طويلة ولكن اعتبر أمرا آخر كالأعمال وهذا أمر لا يحد بمسافة ولا زمان لكن بعموم الولايات وخصوصها مثل من كان بدمشق فإذا سافر إلى ما هو خارج عن أعمالها كان مسافرا. وأصحاب هذه الأقوال كأنهم رأوا ما رخص فيه للمسافر إنما رخص فيه للمشقة التي تلحقه في السفر، واحتياجه إلى الرخصة، وعلموا أن المنتقل في المصر الواحد من مكان إلى مكان ليس بمسافر، وكذلك الخارج إلى ما حول المصر كما كان النبي يخرج إلى قبا كل سبت راكبا وماشيا، ولم يكن يقصر وكذلك المسلمون كانوا يتناوبون الجمعة من العوالي، ولم يكونوا يقصرون فكان المنتقل في العمل الواحد بهذه المثابة عندهم.

تخطئة كل جعل توابع المصر كالمصر في السفر

وهؤلاء يحتج عليهم بقصر أهل مكة مع النبي بعرفة ومزدلفة ومنى، مع أن هذه تابعة لمكة ومضافة إليها وهي أكثر تبعا لها من السواد للكوفة وأقرب إليها منها فإن بين باب شيبة وموقف الإمام بعرفة عند الصخرات التي في أسفل جبل الرحمة بريد بهذه المسافة وهذا السير وهم مسافرون وإذا قيل المكان الذي يسافرون إليه ليس بموضع مقام قيل بل كان هناك قرية نمرة والنبي لم يزل بها وكان بها أسواق وقريب منها عرنة التي تصل واديها بعرفة لأنه لا فرق بين السفر إلى بلد تقام فيه وبلد لا تقام فيه إذا لم يقصد الإقامة فإن النبي والمسلمين سافروا إلى مكة وهي بلد يمكن الإقامة فيه وما زالوا مسافرين في غزوهم وحجهم وعمرتهم، وقد قصر النبي الصلاة في جوف مكة عام الفتح وقال: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " وكذلك عمر بعده فعل ذلك رواه مالك بإسناد صحيح ولم يفعل ذلك رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر بمنى، ومن نقل ذلك عنهم فقد غلط وهذا بخلاف خروج النبي إلى قبا كل سبت راكبا وماشيا وخروجه إلى الصلاة على الشهداء فإنه قبل أن يموت بقليل صلى عليهم وبخلاف ذهابه إلى البقيع وبخلاف قصد أهل العوالي المدينة ليجمعوا بها فإن هذا كله ليس بسفر فإن اسم المدينة متناول لهذا كله وإنما الناس قسمان الأعراب وأهل المدينة ولأن الواحد منهم يذهب ويرجع إلى أهله في يومه من غير أن يتأهب لذلك أهبة السفر فلا يحمل زادا ولا مزادا لا في طريقه ولا في المنزل الذي يصل إليه ولهذا لا يسمى من ذهب إلى ربض مدينته مسافرا ولهذا تجب الجمعة على من حول المصر عند أكثر العلماء وهو يقدر بسماع النداء وبفرسخ ولو كان ذلك سفرا لم تجب الجمعة على من ينشئ لها سفرا فإن الجمعة لا تجب فكيف يجب أن يسافر لها؟

تحقيق معنى السفر

وعلى هذا فالمسافر لم يكن مسافرا لقطعه مسافة محدودة ولا لقطعه أياما محدودة بل كان مسافرا لجنس العمل الذي هو سفر وقد يكون مسافرا من مسافة قريبة ولا يكون مسافرا من أبعد منها مثل أن يركب فرسا سابقا ويسير بريد ثم يرجع من ساعة إلى بلده فهذا ليس مسافرا وإن قطع هذه المسافة في يوم وليلة ويحتاج في ذلك إلى حمل زاد ومزاد فكان مسافرا كما كان سفر أهل مكة إلى عرفة ولو ركب رجل فرسا سابقا إلى عرفة ثم رجع من يومه إلى مكة لم يكن مسافرا يدل على ذلك أن النبي لما قال: " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن - والمقيم يوما وليلة " فلو قطع بريدا في ثلاثة أيام كان مسافرا ثلاثة أيام ولياليهن فيجب أن يمسح مسح سفر ولو قطع البريد في نصف يوم لم يكن مسافرا فالنبي إنما اعتبر أن يسافر ثلاثة أيام سواء كان سفره حثيثا أو بطيئا سواء كانت الأيام طوالا أو قصارا ومن قدره ثلاثة أيام أو يومين جعلوا ذلك بسير الإبل والإقدام وجعلوا المسافة الواحدة حدا يشترك فيه جميع الناس حتى لو قطعها في يوم جعلوه مسافرا ولو قطع ما دونها في عشرة أيام لم يجعلوه مسافرا وهذا مخالف لكلام النبي .

المدائن المسورة وغير المسورة وما يلحق بها

وأيضا فالنبي في ذهابه إلى قبا والعوالي واحد ومجيء أصحابه من تلك المواضع إلى المدينة إنما كانوا يسيرون في عمران بين الأبنية والحوائط التي هي النخيل وتلك مواضع الإقامة لا مواضع السفر، والمسافر لا بد أن يخرج إلى الصحراء فإن لفظ السفر يدل على ذلك يقال سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف فيها بين المساكن لا يكون مسافرا قال تعالى: " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق " وقال تعالى: " ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه " فجعل الناس قسمين: أهل المدينة والأعراب، والأعراب هم أهل العمود، وأهل المدينة هم أهل المدر، فجميع من كان ساكنا في مدر كان من أهل المدينة ولم يكن للمدينة سور ينهز به داخلها من خارجها بل كانت محال محال وتسمى المحلة دارا، والمحلة القرية الصغيرة فيها المساكن وحولها النخل والمقابر ليست أبنية متصلة، فبنو مالك بن النجار في قريتهم حوالي دورهم أموالهم ونخيلهم، وبنو عدي بن النجار دارهم كذلك، وبنو مازن بن النجار كذلك، وبنو سالم كذلك وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن الخزرج كذلك، وبنو عمرو بن عوف كذلك وبنو عبد الأشهل كذلك، وسائر بطون الأنصار كذلك، كما قال النبي : " خير دور الأنصار دار بني النجار ثم دار بني عبد الأشهل ثم دار بني الحارث ثم دار بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير " وكان النبي قد نزل في بني مالك بن النجار وهناك بنى مسجده وكان حائطا لبعض بني النجار فيه نخل وخرب وقبور فأمر بالنخل فقطعت وبالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبنى مسجده هناك وكانت سائر دور الأنصار حول ذلك قال ابن حزم ولم يكن هناك مصر قال: وهذا أمر لا يجهله أحد بل هو نقل الكوافي عن الكوافي وذلك كله مدينة واحدة كما جعل الله الناس نوعين أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، فمن ليس من الأعراب فهو من أهل المدينة، لم يجعل للمدينة داخلا وخارجا وسورا وربضا كما يقال مثل ذلك في المدائن المسورة، وقد جعل النبي حرم المدينة بريدا في بريد والمدينة بين لابتين، واللابة الأرض التي ترابها حجارة سود وقال: " ما بين لابتيها حرم " فما بين لابتيها كله من المدينة وهو حرم فهذا بريد لا يكون الضارب فيه مسافرا، وإن كان المكي إذا خرج إلى عرفات مسافرا فعرفة ومزدلفة ومنى صحاري خارجة عن مكة ليست كالعوالي من المدينة وهذا أيضا مما يبين أنه لا اعتبار بمسافة محدودة فإن المسافر في المصر الكبير لو سافر يومين أو ثلاثة لم يكن مسافرا والمسافر عن القرية الصغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافرا فعلم أنه لا بد أن يقصد بقعة يسافر من مكان إلى مكان فإذا كان ما بين المكانين صحراء لا مساكن فيها يحمل فيها الزاد والمزاد فهو مسافر وإن وجد الزاد والمزاد بالمكان الذي يقصده.

الحجة في سفر: عمل النبي في حجة الوداع

وكان عثمان جعل حكم المكان الذي يقصده حكم طريقه فلا بد أن يعدم فيه الزاد والمزاد وخالفه أكثر علماء الصحابة وقولهم أرجح فإن النبي قصر بمكة عام فتح مكة وفيها الزاد والمزاد وإذا كانت منى قرية فيها زاد ومزاد فبينها وبين مكة صحراء يكون مسافرا من يقطعها كما كان بين مكة وغيرها، ولكن عثمان قد تأول في قصر النبي بمكة أنه كان خائفا لأنه لما فتح مكة والكفار كثيرون وكان قد بلغه أن هوازن جمعت له، وعثمان يجوز القصر لمن كان بحضرة عدو كما يحكى عن عثمان أنه يعني النبي إنما أمرهم بالمتعة لأنهم كانوا خائفين وخالفه علي وعمران بن حصين وابن عمر وابن عباس وغيرهم من الصحابة؛ وقولهم هو الراجح فإن النبي في حجة الوداع كان آمنا لا يخاف إلا الله وقد أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة والقصر وقصر العدد إنما هو معلق بالسفر ولكن إذا اجتمع الخوف والسفر أبيح قصر العدد وقصر الركعات وقد قال النبي هو وعمر بعده لما صليا بمكة: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " بين أن الواجب لصلاتهم ركعتين مجرد كونهم سفرا فلهذا الحكم تعلق بالسفر ولم يعلقه بالخوف. فعلم أن قصر العدد لا يشترط فيه خوف بحال وكلام الصحابة أو أكثرهم من هذا الباب يدل على أنهم لم يجعلوا السفر قطع مسافة محدودة أو زمان محدود يشترط فيه جميع الناس بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل فمن رأوه أثبتوا له حكم السفر وإلا فلا.

سبب اختلاف الصحابة في تحديد السفر

ولهذا اختلف كلامهم في مقدار الزمان والمكان فروى وكيع عن الثوري عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا سافرت يوما إلى العشاء فإن زدت فقصر، ورواه الحجاج بن منهال ثنا أبو عوانة عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن ابن عباس قال: لا يقصر المسافر في مسيرة يوم إلى العتمة إلا في أكثر من ذلك. وروى وكيع عن شعبة عن شبيل عن أبي جمرة الضبعي قال: قلت لابن عباس أقصر إلى الأيلة؟ قال: تذهب وتجيء في يوم؟ قلت: نعم، قال: لا، إلا يوم متاح. فهنا قد نهى أن يقصر إذا رجع إلى أهله في يوم هذه مسيرة بريد وأذن في يوم وفي الأول نهاه أن يقصر إلا في أكثر من يوم وقد روي نحو الأول عن عكرمة مولاه قال: إذا خرجت من عند أهلك فاقصر فإذا أتيت أهلك فأتمم. وعن الأوزاعي: لا قصر إلا في يوم تام. وروى وكيع عن هشام بن ربيعة بن الغاز الجرشي عن عطاء بن أبي رباح قلت لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ قال: لا، ولكن إلى الطائف وعسفان فذلك ثمانية وأربعون ميلا. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء قلت لابن عباس: أقصر إلى منى أو عرفة؟ قال: لا، ولكن إلى الطائف أو جدة أو عسفان فإذا وردت على ماشية لك أو أهل فأتم الصلاة، وهذا الأثر قد اعتمده أحمد والشافعي. قال ابن حزم: من عسفان إلى مكة بسير الخلفاء الراشدين اثنان وثلاثون ميلا؛ قال: وأخبرنا الثقاة أن من جدة إلى مكة أربعين ميلا.

قلت: نهيه عن القصر إلى منى وعرفة قد يكون لمن يقصد ذلك لحاجة ويرجع من يومه إلى مكة حتى يوافق ذلك ما تقدم من الروايات عنه ويؤيد ذلك أن ابن عباس لا يخفى عليه أن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي وأبي بكر وعمر في الحج إذا خرجوا إلى عرفة ومزدلفة ومنى وابن عباس من أعلم الناس بالسنة فلا يخفى عليه مثل ذلك وأصحابه المكيون كانوا يقصرون في الحج إلى عرفة ومزدلفة كطاوس وغيره وابن عيينة نفسه الذي روى هذا الأثر عن ابن عباس كان يقصر إلى عرفة في الحج وكان أصحاب ابن عباس كطاوس يقول أحدهم: أترى الناس - يعني أهل مكة - صلوا في الموسم خلاف صلاة رسول الله وهذه حجة قاطعة فإنه من المعلوم أن أهل مكة لما حجوا معه كانوا خلقا كثيرا وقد خرجوا معه إلى منى يصلون خلفه وإنما صلى بمنى أيام منى قصرا والناس كلهم يصلون خلفه أهل مكة وسائر المسلمين لم يأمر أحدا منهم أن يتم صلاته ولم ينقل ذلك أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ثم أبو بكر وعمر بعده كانا يصليان في الموسم بأهل مكة وغيرهم كذلك ولا يأمران أحدا بإتمام مع أنه قد صح عن عمر بن الخطاب أنه لما صلى بمكة قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، وهذا أيضا مروي عن النبي في أهل مكة عام الفتح لا في حجة الوداع فإنه في حجة الوداع لم يكن يصلي بمكة بل كان يصلي بمنزله وقد رواه أبو داود وغيره وفي إسناده مقال.

عذر من جعل مسافة القصر ستة عشر فرسخا

والمقصود أن من تدبر صلاة النبي بعرفة ومزدلفة ومنى بأهل مكة وغيرهم وأنه لم ينقل مسلم قط عنه أنه أمرهم بإتمام علم قطعا أنهم كانوا يقصرون خلفه وهذا من العلم العام الذي لا يخفى على ابن عباس ولا غيره ولهذا لم يعلم أحدا من الصحابة أمر أهل مكة أن يتموا خلف الإمام إذا صلى ركعتين فدل هذا لم يعلم واحد من الصحابة أمر أهل مكة أن يتموا خلف الإمام إذا صلى ركعتين فدل هذا على أن ابن عباس إنما أجاب به من سأله إذا سافر إلى منى أو عرفة سفرا لا ينزل فيه بمنى وعرفة بل يرجع من يومه فهذا لا يقصر عنده لأنه قد بين أن من ذهب ورجع من يومه لا يقصر وإنما يقصر من سافر يوما ولم يقل مسيرة يوم بل اعتبر أن يكون السفر يوما وقد استفاض عنه جواز القصر إلى عسفان وقد ذكر ابن حزم أنها اثنان وثلاثون ميلا وغيره يقول أربعة برد ثمانية وأربعون ميلا، والذين حدوها ثمانية وأربعين ميلا عمدتهم قول ابن عباس وابن عمر وأكثر الروايات عنهم تخالف ذلك فلو لم يكن إلا قولهما لم يجز أن يأخذ ببعض أقوالهما دون بعض بل إما أن يجمع بينهما وإما أن يطلب دليل آخر فكيف والآثار عن الصحابة أنواع أخر ولهذا كان المحددون بستة عشر فرسخا من أصحاب مالك والشافعي وأحمد إنما لهم طريقان بعضهم يقول لم أجد أحدا قال بأقل من القصر فيما دون هذا فيكون هذا إجماعا وهذه طريقة الشافعي وهذا أيضا منقول عن الليث ابن سعد فهذان الإمامان بينا عذرهما أنهما لم يعلما من قال بأقل من ذلك وغيرهما قد علم من قال بأقل من ذلك.

والطريقة الثانية: أن يقولوا هذا قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فصار إجماعا، وهذا باطل فإنه نقل عنهما هذا وغيره وقد ثبت عن غيرهما من الصحابة ما يخالف ذلك.

مسافة القصر عند مالك والشافعي وأحمد

وثم طريقة ثالثة سلكها بعض أصحاب الشافعي وأحمد وهي أن هذا التحديد مأثور عن النبي كما رواه ابن خزيمة في مختصر المختصر عن ابن عباس عن النبي أنه قال: " يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان " وهذا ما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنه كذب على النبي ولكن هو من كلام ابن عباس، أفترى رسول الله إنما حد مسافة القصر لأهل مكة دون أهل المدينة التي هي دار السنة والهجرة والنصرة ودون سائر المسلمين؟ وكيف يقول هذا وقد تواتر عنه أن أهل مكة صلوا خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى؟ ولم يحد النبي قط السفر بمسافة لا بريد ولا غير بريد ولا حدهما بزمان، ومالك قد نقل عنه أربعة برد كقول الليث والشافعي وأحمد وهو المشهور عنه، قال: فإن كانت أرض لا أميال فيها فلا يقصرون في أقل من يوم وليلة للثقل قال: وهذا أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي، وقد ذكر عنه لا قصر إلا في خمسة وأربعين ميلا فصاعدا. وروي عنه: لا قصر إلا في اثنين وأربعين ميلا فصاعدا، وروي عنه: لا قصر إلا في أربعين ميلا فصاعدا، وروى عنه إسماعيل ابن أبي أويس: لا قصر إلا في ستة وأربعين ميلا قصدا. ذكر هذه الروايات القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه المبسوط ورأى لأهل مكة خاصة أن يقصروا الصلاة في الحج خاصة إلى منى فما فوقها وهي أربعة أميال. وروى عنه ابن القاسم أنه قال فيمن خرج ثلاثة أميال كالرعاء وغيرهم فتأول فأفطر في رمضان: لا شيء عليه إلا القضاء فقط، وروي عن الشافعي أنه لا قصر في أقل من ستة وأربعين ميلا بالهاشمي.

الروايات عن ابن عمر في مسافة القصر

والآثار عن ابن عمر أنواع.. فروى محمد بن المثنى: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان الثوري سمعت جبلة بن سحيم يقول سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلا لقصرت الصلاة. وروى ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع حدثنا مسعر عن محارب بن زياد سمعت ابن عمر يقول: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر - يعني الصلاة -. محارب قاضي الكوفة من خيار التابعين أحد الأئمة ومسعر أحد الأئمة. وروى ابن أبي شيبة: حدثنا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن محمد بن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال: تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال. قال ابن حزم: محمد بن زيد هو طائي ولاه محمد بن أبي طالب القضاء بالكوفة مشهور من كبار التابعين. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قصر إلى ذات النصب قال: وكنت أسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر. قال عبد الرزاق: ذات النصب من المدينة على ثمانية عشر ميلا فهذا نافع يخبر عنه أنه قصر في ستة فراسخ وأنه كان يسافر بريدا وهو أربعة فراسخ فلا يقصر. وكذلك روى عنه ما ذكره غندر: حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب قال: خرجت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى ذات النصب وهي من المدينة على ثمانية عشر ميلا فلما أتاها قصر الصلاة، وروى معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة أربعة برد.

وما تقدم من الروايات يدل على أنه كان يقصر في هذا وفي ما هو أقل منه. وروى وكيع عن سعيد بن عبيد الطائي عن علي بن ربيعة الوالبي الأسدي قال: سألت ابن عمر عن تقصير الصلاة قال: حاج أو معتمر أو غاز؟ فقلت: لا ولكن أحدنا يكون له الضيعة في السواد، فقال: تعرف السويداء؟ فقلت: سمعت بها ولم أرها، قال: فإنها ثلاث وليلتان وليلة للمسرع إذا خرجنا إليها قصرنا، قال ابن حزم من المدينة إلى السويداء اثنان وسبعون ميلا أربعة وعشرون فرسخا.

قلت: فهذا مع ما تقدم يبين أن ابن عمر لم يذكر ذلك تحديدا لكن بين بهذا جواز القصر في مثل هذا لأنه كان قد بلغه أن أهل الكوفة لا يقصرون في السواد فأجابه ابن عمر بجواز القصر.

تعارض الروايات عن ابن عمر في القصر

وأما ما روي من طريق ابن جريج: أخبرني نافع أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر وهي مسيرة ثلاث قواصد لم يقصر فيما دونه، وكذلك ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب بن حميد كلاهما عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة فيما بين المدينة وخيبر وهي بقدر الأهواز من البصرة لا يقصر فيما دون ذلك - قال ابن حزم بين المدينة وخيبر كما بين البصرة والأهواز وهي مائة ميل غير أربعة أميال قال: وهذا مما اختلف فيه على ابن عمر ثم على نافع أيضا عن ابن عمر.

قلت: هذا النفي وهو أنه لم يقصر فيما دون ذلك غلط قطعا ليس هذا حكاية عن قوله حتى يقال إنه اختلف اجتهاده بل نفي لقصره فيما دون ذلك وقد ثبت عنه بالرواية الصحيحة من طريق نافع وغيره أنه قصر فيما دون ذلك فهذا قد يكون غلطا فمن روى عن أيوب إن قدر أن نافعا روى هذا فيكون حين حدث بهذا قد نسي أن ابن عمر قصر فيما دون ذلك فإنه قد ثبت عن نافع عنه أنه قصر فيما دون ذلك.

الروايات عن أنس في القصر

وروى حماد بن زيد حدثنا أنس بن سيرين قال: خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه وهي على رأس خمسة فراسخ فصلى بنا العصر في سفينة وهي تجري بنا في دجلة قاعدا على بساط ركعتين ثم سلم ثم صلى بنا ركعتين ثم سلم. وهذا فيه أنه إنما خرج إلى أرضه المذكورة ولم يكن سفره إلى غيرها حتى يقال: كانت من طريقه فقصر في خمسة فراسخ وهي بريد وربع وفي صحيح مسلم حدثنا ابن أبي شيبة وابن بشار كلاهما عن غندر عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال كان رسول الله إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة شك - صلى ركعتين ولم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا لأن السائل سأله عن قصر الصلاة وهو سؤال عما يقصر فيه ليس سؤالا عن أول صلاة يقصرها ثم إنه لم يقل أحد إن أول صلاة لا يقصرها إلا في ثلاثة أميال أو أكثر من ذلك فليس في هذا جواب لو كان المراد ذلك ولم يقل لك أحد فدل على أن أنسا أراد أنه من سافر هذه المسافة قصر، ثم ما أخبر به عن النبي فعل من النبي لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر أو كان ذلك هو الذي قطعه من السفر فإن كان أراد به أن ذلك كان سفره فهو نص، وإن كان ذلك الذي قطعه من السفر فأنس بن مالك استدل بذلك على أنه يقصر إليه إذا كان هو السفر يقول إنه لا يقصر إلا في السفر فلولا أن قطع هذه المسافة سفر لما قصر.

أقوال الظاهرية في مسافة القصر وأقلها ميل

وهذا يوافق قول من يقول لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفرا لا يكتفي مجرد قصده المسافة التي هي سفر وهذا قول ابن حزم وداود وأصحابه، وابن حزم يحد مسافة القصر بميل لكن داود وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو، وابن حزم يقول إنه يقصر في كل سفر، وابن حزم عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة وأصحابه يقولون إنه يفطر في كل سفر بخلاف القصر لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع وإنما فيه فعله أنه قصر في السفر ولم يجدوا أحدا قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولا عن ابن عمر.

وابن حزم يقول السفر هو البروز عن محلة الإقامة، لكن قد علم أن النبي خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا ولم يفطروا فخرج هذا عن أن يكون سفرا ولم يحدوا أقل من ميل يسمى سفرا؛ فإن ابن عمر قال لو خرجت ميلا لقصرت الصلاة فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفرا ولم نجد أعلى منها يسمى سفرا جعلنا هذا هو الحد، قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر فلا يقصر فيه ولا يفطر، وإذا بلغ الميل فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة ويفطر فيه فيمن حينئذ يقصر ويفطر وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه.

تحقيق شيخ الإسلام لمعنى السفر وروايات القصر

قلت: جعل هؤلاء السفر محدودا في اللغة قالوا: وأقل ما سمعنا أنه يسمى سفرا هو الميل وأولئك جعلوه محدودا بالشرع وكلا القولين ضعيف، أما الشارع فلم يحده، وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنهم قالوا: الفرق بين ما يسمى سفرا وما لا يسمى سفرا هو مسافة محدودة، بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل في الشرع واللغة، ثم لو كان محدودا بمسافة ميل، فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به فقد كان النبي يخرج أكثر من ميل من محله في الحجاز ولا يقصر ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع الذي يشتمله اسم مدينة ميلا قيل له فلا حجة لك في خروجه إلى المقابر والغائط لأن تلك لم تكن خارجا عن آخر حد المدينة، ففي الجملة كان يخرج إلى العوالي وإلى أحد كما كان يخرج إلى المقابر والغائط وفي ذلك ما هو أبعد من ميل، وكان النبي وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل ويأتون إليها أبعد من ميل ولا يقصرون كخروجهم إلى قباء والعوالي وأحد، ودخولهم للجمعة وغيرها من هذه الأماكن.

وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل فإن حرم المدينة بريد في بريد حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يوما وهذا يوما كما كان عمر بن الخطاب وصاحبه الأنصاري يدخل هذا يوما وهذا يوما، وقول ابن عمر: لو خرجت ميلا قصرت الصلاة هو كقوله: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر، وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من المسافة التي يقصدها فيكون قصده أني لا أؤخر القصر إلى أن أقطع مسافة طويلة وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول إذا سافر نهارا لم يقصر إلى الليل.

تحقيق أن السفر يعرف بالعرف لا بالزمان

وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه صلى الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين، وقد يحمل حديث أنس على هذا لكن فعله يدل على المعنى الأول، أو يكون مراد ابن عمر من سافر قصر، ولو كان قصده هذه المسافة إذا كان في صحراء بحيث يكون مسافرا لا يكون متنقلا بين المساكن فإن هذا ليس بمسافر باتفاق الناس، وإذا قدر أن هذا مسافر فلو قدر أنه مسافر أقل من الميل بعشرة أذرع فهو أيضا مسافر، فالتحديد بالمسافة لا أصل له في الشرع ولا لغة، ولا عرف ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقا بشيء لا يعرفونه، ولم يمسح أحد الأرض على عهد النبي ولا قدر النبي الأرض لا بأميال ولا فراسخ والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرا وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من يذهب ويرجع من يومه فإنه لا يكون في ذلك مسافرا فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثاني فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرا، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرا فالسفر يكون بالعمل الذي سمي سفرا لأجله، والعمل لا يكون إلا في زمان فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد سمي مسافرا وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد ولم يسم سفرا، وإن بعدت المسافة فالأصل هو العمل الذي يسمى سفرا، ولا يكون العمل إلا في زمان فيعتبر العمل الذي هو سفر ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم ليس له حد في الشرع ولا اللغة، بل سموه سفرا فهو سفر.

فصل في أن الإقامة خلاف السفر ولا يخلو حال أحد عنهما

وأما الإقامة فهي خلاف السفر فالناس رجلان مقيم ومسافر، ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين إما حكم مقيم وإما حكم مسافر، وقد قال تعالى: " يوم ظعنكم ويوم إقامتكم " فجعل للناس يوم ظعن ويوم إقامة، والله تعالى أوجب الصوم وقال: " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " فمن ليس مريضا ولا على سفر فهو صحيح المقيم، ولذلك قال النبي : " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة " فمن لم يوضع عنه الصوم وشطر الصلاة فهو المقيم.

وقد أقام النبي في حجته بمكة أربعة أيام ثم ستة أيام بمنى ومزدلفة وعرفة يقصر الصلاة هو وأصحابه فدل على أنهم كانوا مسافرين، وأقام في غزوة الفتح تسعة عشر يوما يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة، ومعلوم بالعادة أن ما كان يفعل بمكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام ولا أربعة حتى يقال إنه كان يقول اليوم أسافر غدا أسافر، بل فتح مكة، وأهلها وما حولها كفار محاربون له وهي أعظم مدينة فتحها وبفتحها ذلت الأعداء، وأسلمت العرب، وسرى السرايا إلى النواحي ينتظر قدومهم، ومثل هذه الأمور مما يعلم أنها لا تنقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة وكذلك في تبوك.

وأيضا فمن جعل للمقام حدا من الأيام إما ثلاثة وإما أربعة، وإما عشرة وإما اثني عشر، وإما خمسة عشر، فإن قال قولا لا دليل عليه من جهة الشرع وهي تقديرات متقابلة، فقد تضمنت هذه الأقوال تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: إلى مسافر وإلى مقيم مستوطن وهو الذي ينوي المقام في المكان، وهذا هو الذي تنعقد به الجمعة وتجب عليه، وهذا يجب عليه إتمام الصلاة بلا نزاع فإنه المقيم المقابل للمسافر، والثالث مقيم غير مستوطن أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام، وأوجبوا عليه الجمعة وقالوا لا تنعقد به الجمعة، وقالوا إنما تنعقد الجمعة بمستوطن.

غلط تقسيم المقيم إلى مستوطن وغيره في صلاة الجمعة

وهذا التقسيم وهو تقسيم المقيم إلى مستوطن وغير مستوطن تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع، ولا دليل على أنه تجب على من لا تنعقد به، بل من وجبت عليه انعقدت به، وهذا إنما قالوه لما أثبتوا مقيما يجب عليه الإتمام والصيام ووجدوه غير مستوطن فلم يمكن أن يقولوا تنعقد به الجمعة فإن الجمعة إنما تنعقد بالمستوطن، لكن إيجاب الجمعة على هذا، وإيجاب الصيام والإتمام على هذا هو الذي يقال إنه لا دليل عليه؛ بل هو مخالف للشرع، فإن هذه حال النبي بمكة في غزوة الفتح وفي حجة الوداع وحاله بتبوك، بل وهذه حال جميع الحجيج الذين يقدمون مكة ليقضوا مناسكهم ثم يرجعوا، وقد يقدم الرجل بمكة رابع ذي الحجة وقد يقدم قبل ذلك بيوم أو أيام، وقد يقدم بعد ذلك، وهم كلهم مسافرون لا تجب عليهم جمعة ولا إتمام، والنبي قدم رابعة من ذي الحجة وكان يصلي ركعتين لكن من أين لهم أنه لو قدم صبح ثالثة وثانية كان يتم ويأمر أصحابه بالإتمام؟ ليس في قوله وعمله ما يدل على ذلك ولو كان هذا حدا فاصلا بين المقيم والمسافر لبينه للمسلمين كما قال تعالى: " وما كان الله ليضل قوما بعد إذا هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها ليس هو أمرا معلوما لا بشرع ولا لغة ولا عرف.

تحريم الإقامة بمكة على المهاجرين

وقد رخص النبي للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا والقصر في هذا جائز عند الجماعة وقد سماه إقامة ورخص للمهاجر أن يقيمها فلو أراد المهاجر أن يقيم أكثر من ذلك بعد قضاء النسك لم يكن له ذلك وليس في هذا ما يدل على أن هذه المدة فرق بين المسافر والمقيم بل المهاجر ممنوع أن يقيم بمكة أكثر من ثلاث بعد قضاء المناسك أن الثلاث مقدار يرخص فيه فيما كان محظور الجنس قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج " وقال: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " وجعل ما تحرم المرأة بعده من الطلاق ثلاثا فإذا طلقها ثلاث مرات حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره لأن الطلاق في الأصل مكروه فأبيح منه للحاجة ما تدعو إليه الحاجة وحرمت عليه بعد ذلك إلى الغاية المذكورة، ثم المهاجر لو قدم مكة قبل الموسم بشهر أقام إلى الموسم فإن كان لم يبح له إلا فيما يكون سفرا كانت إقامته إلى الموسم سفرا فتقصر فيه الصلاة وأيضا فالنبي وأصحابه قدموا صبح رابعة من ذي الحجة فلو أقاموا بمكة بعد قضاء النسك ثلاثا كان لهم ذلك ولو أقاموا أكثر من ثلاث لم يجز لهم ذلك وجاز لغيرهم أن يقيم أكثر من ذلك، وقد أقام المهاجرون مع النبي عام الفتح قريبا من عشرين يوما بمكة ولم يكونوا بذلك مقيمين إقامة خرجوا بها عن السفر ولا كانوا ممنوعين لأنهم كانوا مقيمين لأجل تمام الجهاد وخرجوا منها إلى غزوة حنين وهذا بخلاف من لا يقدم إلا للنسك فإنه لا يحتاج إلى أكثر من ثلاث.

غلط من قطع معنى السفر بإقامة أربعة أيام

فعلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر ولا بتحديد السفر والذين حدوا ذلك بأربعة منهم من احتج بإقامة المهاجر وجعل يوم الدخول والخروج غير محسوب ومنهم من بنى ذلك على أن الأصل في كل من قدم لمصر أن يكون مقيما يتم الصلاة لكن ثبتت الأربعة بإقامة النبي في حجته فإنه أقامها وقصر،

وقالوا في غزوة الفتح وتبوك: أنه لم يكن عزم على إقامة مدة لأنه كان يريد عام الفتح غزو حنين وهذا الدليل مبني على أنه من قدم لمصر فقد خرج عن حد السفر وهو ممنوع بل هو مخالف للنص والإجماع والعرف، فإن التاجر الذي يقدم ليشتري سلعة أو يبيعها ويذهب هو مسافر عند الناس وقد يشتري السلعة ويبيعها في عدة أيام ولا يحد الناس في ذلك حدا.

والذين قالوا يقصر إلى خمسة عشر قالوا: هذا غاية ما قيل وما زاد على ذلك فهو مقيم بالإجماع، وليس الأمر كما قالوه وأحمد أمر بالإتمام فيما زاد على الأربعة احتياطا واختلفت الرواية عنه إذا نوى إقامة إحدى وعشرين هل يتم أو يقصر لتردد الاجتهاد في صلاة النبي يوم الرابع فإن كان صلى الفجر بمبيته وهو ذو طوى فإنما صلى بمكة عشرين صلاة وإن كان صلى الصبح بمكة فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة والصحيح أنه إنما صلى الصبح يومئذ بذي طوى ودخل مكة ضحى وكذلك جاء مصرحا به في أحاديث، قال أحمد في رواية الأثرم إذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك إثم واحتج بأن النبي قدم لصبح رابعة قال فأقام اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها، فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي قصر فلماذا جمع على أكثر من ذلك إثم قال الأثرم قلت له: فلم لم يقصر على ما زاد من ذلك؟ قال: لأنهم اختلفوا فيأخذ بالأحوط فيتم. قال قيل لأبي عبد الله يقول أخرج اليوم أخرج غدا ليقصر؟ فقال: هذا شيء آخر هذا لم يعزم. فأحمد لم يذكر دليلا على وجوب الإتمام إنما أخذ بالاحتياط وهذا لا يقتضي الوجوب وأيضا فإنه معارض يقول من يوجب القصر ويجعله عزيمة في الزيادة.

قصر علماء الصحابة الصلاة مدة أشهر وسنين

وقد روى الأثرم: حدثنا الفضل ابن دكين حدثنا مسعر عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال: أقمنا مع سعد بعمان أو بعمان شهرين فكان يصلي ركعتين ونصلي أربعا فذكرنا ذلك له فقال: نحن أعلم.

قال الأثرم: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول قال بعضهم: والثلج الذي يتفق في هذه المدة يعلم أنه لا يذوب في أربعة أيام فقد أجمع إقامة أكثر من أربعة. قال الأثرم: حدثنا مسلم ابن إبراهيم حدثنا هشام حدثنا يحيى عن حفص بن عبيد الله أن أنس ابن مالك أقام بالشام سنتين يقصر الصلاة. قال الأثرم: حدثنا الفضل بن دكين حدثنا هشام حدثنا ابن شهاب عن سالم قال: كان ابن عمر إذا أقام بمكة قصر الصلاة إلا أن يصلي مع الإمام وإن أقام شهرين إلا أن يجمع الإقامة، وابن عمر كان يقدم قبل الموسم بمدة طويلة حتى إنه كان أحيانا يحرم بالحج من هلال ذي الحجة، وهو كان من المهاجرين فما كان يحل له المقام بعد قضاء نسكه أكثر من ثلاث ولهذا أوصى لما مات أن يدفن بسرف لكونها من الحل حتى لا يدفن في الأرض التي هاجر منها. وقال الأثرم: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع قال: ما كان ابن عمر يصلي بمكة إلا ركعتين إلا أن يرفع المقام ولهذا أقام مرة ثنتي عشر يصلي ركعتين وهو يريد الخروج وهذا يبين أنه كان يصلي قبل الموسم ركعتين مع أنه نوى الإقامة إلى الموسم وكان ابن عمر كثير الحج وكان كثيرا ما يأتي مكة قبل الموسم بمدة طويلة. قال الأثرم: حدثنا ابن الطباع حدثنا القاسم بن موسى الفقير عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن ابن محيريز أن أبا أيوب الأنصاري وأبا صرمة الأنصاري وعقبة بن عامر شتوا بأرض الروم فصاموا رمضان وقاموه وأتموا الصلاة. قال الأثرم: حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن منصور عن أبي وائل قال: خرج مسروق إلى السلسلة فقصر الصلاة فأقام سنين يقصر حتى رجع وهو يقصر، قيل: يا أبا عائشة، ما يحملك على هذا؟ قال: اتباع السنة.

فصل في الذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعا

القصر في السفر صدقة من الله

والذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعا ظنوا أن النبي فعل ذلك أو فعله بعض أصحابه على عهده، فأقره عليه وظنوا أن صلاة المسافر ركعتين، وأربعا بمنزلة الصوم والفطر في رمضان وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة بأنهم كانوا يسافرون مع النبي فمنهم الصائم ومنهم المفطر، وهذا مما اتفق أهل العلم على صحته وأما ما ذكروه من التربيع فحسبه بعض أهل العلم صحيحا وبذلك استدل الشافعي وبعض أصحاب أحمد قال الشافعي لما ذكر قول النبي : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " فدل على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله والصدقة رخصة لا حتم من الله أن يقصر ودل على أن يقصر في السفر بلا خوف إن شاء المسافر أن عائشة قالت: كل ذلك فعل رسول الله أتم في السفر وقصر.

قلت: وهذا الحديث رواه الدارقطني وغيره من حديث أبي عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة أن النبي كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم، قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح، قال البيهقي: ولهذا شاهد من حديث دلهم بن صالح والمغيرة بن زياد وطلحة بن عمر وكلهم ضعيف، وروي حديث دلهم من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا دلهم بن صالح الكندي عن عطاء عن عائشة قالت: كنا نصلي مع النبي إذا خرجنا إلى مكة أربعا حتى نرجع.

وروى حديث المغيرة وهو أشهرها عن عطاء عن عائشة: أن النبي كان يقصر في السفر ويتم، وروى حديث طلحة بن عمر عن عطاء عن عائشة قالت: كل ذلك قد فعل رسول الله ، قد أتم وقصر وصام في السفر وأفطر. قال البيهقي وقد قال عمر بن ذر كوفي ثقة: أنا عطاء بن أبي رباح أن عائشة كانت تصلي في السفر المكتوبة أربعا وروى ذلك بإسناده ثم قال وهو كالموافق لرواية دلهم بن صالح وإن كان في رواية دلهم زيادة سند.

حديث إتمام عائشة ضعيف

قلت: أما ما رواه الثقة عن عطاء عن عائشة من أنها كانت تصلي أربعا فهذا ثابت عن عائشة معروف عنها من رواية عروة وغيره عن عائشة وإذا كان إنما أسنده هؤلاء الضعفاء والثقاة وثقوه على عائشة دل ذلك على ضعف المسند ولم يكن ذلك شاهدا للمسند قال ابن حزم في هذا الحديث انفرد به المغيرة بن زياد ولم يروه غيره، وقد قال فيه أحمد بن حنبل: ضعيف كل حديث أسنده منكر.

قلت: فقد روي من غير طريقه لكنه ضعيف أيضا وقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل أن أباه سئل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث منكر وهو كما قال الإمام أحمد وإن كان طائفة من أصحابه قد احتجوا به موافقة لمن احتج به كالشافعي ولا ريب أن هذا حديث مكذوب على النبي مع أن من الناس من يقول لفظه كان يقصر في السفر وتتم ويفطر وتصوم بمعنى أنها هي التي كانت تتم وتصوم وهذا أشبه بما روي عنها من غير هذا الوجه من أنه كذب عليها أيضا. قال البيهقي: وله شاهد قوي بإسناد صحيح وروي من طريق الدارقطني من طريق محمد بن يوسف حدثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله في عمرة في رمضان، فأفطر رسول الله وصمت وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت قال: " أحسنت يا عائشة " ورواه البيهقي من طريق آخر عن القاسم بن الحكم ثنا العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة لم يذكر إياه. قال الدارقطني: الأول متصل وهو إسناد حسن وعبد الرحمن قد أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق ورواه البيهقي من وجه ثالث من حديث أبي بكر النيسابوري ثنا عباس الدوري ثنا أبو نعيم حدثنا العلاء بن زهير ثنا عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت، فقال: " أحسنت يا عائشة " وما عاب علي. قال أبو بكر النيسابوري: هكذا قال أبو نعيم عن عبد الرحمن عن عائشة ومن قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ.

قلت: أبو بكر النيسابوري إمام في الفقه والحديث، وكان له عناية بالأحاديث الفقهية وما فيها من اختلاف الألفاظ وهو أقرب إلى طريقه أهل الحديث والعلم التي لا تعصب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمة الحديث المشهورين ولهذا رجح هذه الطريق وكذلك أهل السنن المشهورة لم يروه أحد منهم إلا النسائي ولفظه عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت، فقال: " أحسنت يا عائشة " وما عاب علي وهذا بخلاف من قد يقصد نصر قول شخص معين فتنطق له من الأدلة ما لو خلا عن ذلك القصد لم يتكلفه ولحكم ببطلانها.

حديث عائشة في الإتمام غير متصل بل خطأ

والصواب ما قاله أبو بكر وهو أن هذا الحديث ليس بمتصل وعبد الرحمن إنما دخل على عائشة وهو صبي ولم يضبط ما قالته وقال فيه أبو محمد بن حزم هذا الحديث تفرد به العلاء ابن زهير الأزدي لم يروه غيره وهو مجهول وهذا الحديث خطأ قطعا فإنه قال فيه إنها خرجت مع رسول الله في عمرة في رمضان ومعلوم باتفاق أهل العلم أن رسول الله لم يعتمر في رمضان قط ولا خرج من المدينة في عمرة في رمضان بل ولا خرج إلى مكة في رمضان قط إلا عام الفتح فإنه كان حينئذ مسافرا في رمضان وفتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان باتفاق أهل العلم وفي ذلك السفر كان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر فلم يكن يصلي بهم إلا ركعتين ولا نقل أحد من أصحابه عنه أنه صلى في السفر أربعا والحديث المتقدم خطأ كما سنبينه إن شاء الله تعالى، وعام فتح مكة لم يعتمر، بل ثبت بالنقول المستفيضة التي اتفق عليها أهل العلم به إنما اعتمر بعد الهجرة أربع عمر منها ثلاث في ذي القعدة، والرابعة مع حجته: عمرة الحديبية لما صده المشركون فحل بالحديبية بالاحصار ولم يدخل مكة، وكانت في ذي القعدة، ثم اعتمر في العام القابل عمرة القضية، وكانت ذي القعدة أيضا، ثم لما قسم غنائم حنين بالجعرانة اعتمر من الجعرانة، وكانت عمرته في ذي القعدة أيضا، والرابعة مع حجته، ولم يعتمر بعد حجه لا هو ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لما كانت قد حاضت وأمرها أن تهل بالحج، ثم اعمرها مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم، ولهذا قيل لما بني هناك من المساجد مساجد عائشة فإنه لم يعتمر أحد من الصحابة على عهد النبي لا قبل الفتح ولا بعده عمرة من مكة إلا عائشة، فهذا كله تواترت به الأحاديث الصحيحة مثل ما في الصحيحين عن أنس أن رسول الله اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجه: عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين، وعمرة مع حجته. وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري اعتمر أربعا عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون، وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم، وعمرة حنين من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين وعمرة مع حجته.

وفي الصحيحين عن البرآء بن عازب قال: اعتمر رسول الله في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين. وهذا لفظ البخاري. وأراد بذلك العمرة التي أتمها وهي عمرة القضية والجعرانة، وأما الحديبية فلم يمكن إتمامها بل كان منحصرا لما صده المشركون وفيها أنزل الله آية الحصار باتفاق أهل العلم وقد ثبت في الصحيح عن عائشة لما قيل لها إن ابن عمر قال: إن رسول الله اعتمر في رجب فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله إلا وهو معه وما اعتمر في رجب قط ما اعتمر إلا وهو معه. وفي رواية عن عائشة قالت: لم يعتمر رسول الله إلا في ذي القعدة وكذلك عن ابن عباس رواهما ابن ماجة. وقد روى أبو داود عنها قالت: اعتمر رسول الله عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال، وهذا إن كان ثابتا عنها فلعله ابتداء سفره كان في شوال ولم تقل قط أنه اعتمر في رمضان فعلم أن ذلك خطأ محض.

حديث عائشة في الإتمام باطل

وإذا ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه لم يعتمر إلا في ذي القعدة وثبت أيضا أنه لم يسافر من المدينة إلى مكة ودخلها إلا ثلاث مرات عمرة القضية ثم غزوة الفتح ثم حجة الوداع وهذا مما لا يتنازع فيه أهل العلم بالحديث والسيرة وأحوال رسول الله ولم يسافر في رمضان إلى مكة إلا غزوة الفتح كان كل من هذين دليلا قاطعا على أن هذا الحديث الذي فيه أنها اعتمرت معه في رمضان وقالت: أتممت وصمت فقال: أحسنت، خطأ محض. فعلم قطعا أنه باطل لا يجوز لمن علم حاله أن يرويه عن النبي لقوله: " من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " ولكن من حدث من العلماء الذين لا يستحلون هذا فلم يعلموا أنه كذب.

فإن قيل فيكون قوله في رمضان خطأ وسائر الحديث يمكن صدقه قيل بل جميع طرقه تدل على أن ذلك كان في رمضان لأنها قالت: قلت أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال: أحسنت يا عائشة، وهذا إنما يقال في الصوم الواجب. وأما السفر في غير رمضان فلا يذكر فيه مثل هذا لأنه معلوم أن الفطر فيه جائز، وأيضا فقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الثابت عن الشعبي عن عائشة أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب ففرضت ثلاثا فكان رسول الله إذا سافر صلى الصلاة الأولى وإذا قام زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب لأنها وتر والصبح لأنها تطول فيها القراءة فقد أخبرت عائشة أنه كان إذا سافر صلى الصلاة الأولى ركعتين ركعتين، فلو كان تارة يصلي أربعا لأخبرت بذلك وهذا يناقض تلك الرواية المكذوبة على عائشة. وأيضا فعائشة كانت حديثة السن على عهد النبي فإن النبي مات وعمرها أقل من عشرين سنة لما بنى بها بالمدينة كان لها تسع سنين وإنما أقام بالمدينة عشرا فإذا كان قد بنى بها في أول الهجرة كان عمرها قريبا من عشرين ولو قدر أنه بنى بها بعد ذلك لكان عمرها حينئذ أقل، وأيضا فلو كانت كبيرة فهي إنما تتعلم الإسلام وشرائعه من النبي فكيف يتصور أن تصوم وتصلي معه في السفر خلاف ما يفعله هو وسائر المسلمين وسائر أزواجه ولا تخبره بذلك حتى تصل إلى مكة؟ هل يظن مثل هذا بعائشة أم المؤمنين؟ وما بالها فعلت هذا في هذه السفرة دون سائر أسفارها معه؟ وكيف تطيب نفسها بخلافه من غير استئذانه وقد ثبت عنها في الصحيحين بالأسانيد الثابتة باتفاق أهل العلم أنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة. وهذا من رواية الزهري عن عروة عن عائشة ورواية أصحابه الثقات ومن رواية صالح بن كيسان عن عروة وعن عائشة يرويه مثل ربيعة ومن رواية الشعبي عن عائشة، وهذا مما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه صحيح ثابت عن عائشة فكيف تقدم مع رسول الله على أن تصلي في السفر قبل أن تستأذنه وهي تراه والمسلمين معه لا يصلون إلا ركعتين، وأيضا فهي لما أتمت الصلاة بعد موت النبي لم يحتج بأنها فعلت ذلك على عهد النبي ولا ذكر ذلك أخبر الناس بها عروة ابن أختها بل اعتذرت بعذر من جهة الاجتهاد كما رواه النيسابوري والبيهقي وغيرهما بالأسانيد الثابتة عن وهب بن جرير: ثنا شعبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تصلي في السفر أربعا فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا ابن أخي إنه لا يشق علي.

وأيضا فالحديث الثابت عن صالح بن كيسان أن عروة بن الزبير حدثه عن عائشة أن الصلاة حين فرضت كانت ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر على ركعتين وأتمت في الحضر أربعا.

قال صالح: فأخبر بها عمر بن عبد العزيز فقال: إن عروة أخبرني أن عائشة تصلي أربع ركعات في السفر قال: فوجدت عروة يوما عنده فقلت: كيف أخبرتني عن عائشة فحدث مما حدثني به. فقال عمر: أليس حدثتني أنها كانت تصلي أربعا في السفر قال: بلى. وفي الصحيحين عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر. قال الزهري: قلت فما شأن عائشة كانت تتم الصلاة؟ قال: إنها تأولت كما تأول عثمان، فهذا عروة يروي عنها أنها اعتذرت عن إتمامها بأنها قالت: لا يشق علي، وقال: إنها تأولت كما تأول عثمان، فدل ذلك على أن إتمامها كان بتأويل من اجتهادها ولو كان النبي قد حسن لها الإتمام أو كان هو قد أتم لكانت قد فعلت ذلك اتباعا لسنة رسول الله وكذلك عثمان، ولم يكن ذلك مما يتأول بالاجتهاد.

ثم إن هذا الحديث أقوى ما اعتمد عليه من الحديث من قال بالإتمام في السفر وقد عرف أنه باطل فكيف بما هو أبطل منه وهو كون النبي كان يتم في السفر ويقصر، وهذا خلاف المعلوم بالتواتر من سنته التي اتفق عليها أصحابه نقلا عنه وتبليغا إلى أمته، لم ينقل عنه قط أحمد من أصحابه أنه صلى في السفر أربعا بل تواترت الأحاديث عنهم أنه كان يصلي في السفر ركعتين هو وأصحابه.

المحدثون المتعصبون للمذهب

والحديث الذي يرويه زيد العمي عن أنس بن مالك قال: إنا معاشر أصحاب رسول الله كنا نسافر فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المتم على المقصر. هو كذب بلا ريب وزيد العمي ممن اتفق العلماء على أنه متروك والثابت عن أنس إنما هو في الصوم، ومما يبين ذلك أنهم في السفر مع النبي لم يكونوا يصلون فرادى بل كانوا يصلون بصلاته بخلاف الصوم فإن الإنسان قد يصوم وقد يفطر فهذا الحديث من الكذب، وإن كان البيهقي روى هذا فهذا مما أنكر عليه ورآه أهل العلم لا يستوفي الآثار التي لمخالفيه كما يستوفي الآثار التي له، وأنه يحتج بآثار لو احتج بها مخالفوه لأظهر ضعفها وقدح فيها، وإنما أوقعه في هذا مع علمه ودينه ما أوقع أمثاله ممن يريد أن يجعل آثار النبي موافقة لقول واحد من العلماء دون آخر فمن سلك هذه السبيل دحضت حججه وظهر عليه نوع من التعصب بغير الحق كما يفعل ذلك من يجمع الآثار ويتأولها في كثير من المواضع بتأويلات يبين فسادها ليوافق القول الذي ينصره كما يفعله صاحب شرح الآثار أبو جعفر مع أنه يروي من الآثار أكثر مما يروي البيهقي لكن البيهقي ينقي الآثار ويميز بين صحيحها وسقيمها أكثر من الطحاوي.

ما كانت عائشة أعلم به من الرجال وعكسه

والحديث الذي فيه أنه كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم قد قيل أنه مصحف وإنما لفظه كان يقصر وتتم هي بالتاء ويفطر وتصوم هي ليكون معنى هذا الحديث معنى الحديث الآخر الذي إسناده أمثل منه فإنه معروف عن عبد الرحمن بن الأسود لكنه لم يحفظ عن عائشة. وأما نقل هذا الآخر عن عطاء فغلط على عطاء قطعا وإنما الثابت عن عطاء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعا كما رواه غيره، ولو كان عند عائشة عن النبي في ذلك سنة لكانت تحتج بها، ولو كان ذلك معروفا من فعله لم تكن عائشة أعلم بذلك من أصحابه الرجال الذين كانوا يصلون خلفه دائما في السفر فإن هذا السفر مما تكون عائشة أعلم به من غيرها من الرجال كقيامه بالليل واغتساله من الإكسال فضلا عن أن تكون مختصة بعلمه، بل أمور السفر أصحابه أعلم بحاله فيها من عائشة لأنها لم تكن تخرج معه في كل أسفاره فإنه قد ثبت في الصحيح عنها أنها قالت: كان رسول الله إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها معه، فإنما كان يسافر بها أحيانا وكانت تكون مخدرة في خدرها وقد ثبت عنها في الصحيح أنها لما سألها شريح بن هاني عن المسح على الخفين قالت: سل عليا فإنه كان يسافر مع النبي هذا والمسح على الخفين أمر قد يفعله النبي في منزله في السفر فتراه دون الرجال بخلاف الصلاة المكتوبة فإن النبي لم يكن يصليها في الحضر ولا في السفر إلا إماما بأصحابه، إلا أن يكون له عذر من مرض أو غيبة لحاجة كما غاب يوم ذهب ليصلح بين أهل قباء وكما غاب في السفر للطهارة فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم الصبح، ولما حضر النبي حسن ذلك وصوبه، وإذا كان الإتمام إنما كان والرجال يصلون خلفه فهذا مما يعلمه الرجال قطعا وهو مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإن ذلك مخالف لعادته في عامة أسفاره فلو فعله أحيانا لتوفرت هممهم ودواعيهم على نقله كما نقلوا عنه المسح على الخفين لما فعله، وإن كان الغالب عليه الوضوء وكما نقلوا عنه الجمع بين الصلاتين أحيانا، وإن كان الغالب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها الخاص، مع أن مخالفة لسنته أظهر من مخالفة بعض الوقت لبعض فإن الناس لا يشعرون بمرور الأوقات كما يشعرون بما يشاهدونه من اختلاف العذر فإن هذا أمر يرى بالعين إلى تأمل واستدلال بخلاف خروج وقت الظهر وخروج وقت المغرب فإنه يحتاج إلى تأمل، ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن جمعه إنما كان في غير عرفة ومزدلفة بأن يقدم الثانية ويؤخر الأولى إلى آخر وقتها، وقد روي أنه كان يجمع كذلك فهذا مما يقع فيه شبهة بخلاف الصلاة أربعا لو فعل ذلك في السفر فإن هذا لم يكن يقع فيه شبهة ولا نزاع، بل كان ينقله المسلمون.

خبر الواحد فيما تتوافر الدواعي على نقله

ومن جوز عليه أن يصلي في السفر أربعا - ولا ينقله أحد من الصحابة، ولا يعرف قط إلا من رواية واحد مضعف عن آخر عن عائشة، والروايات الثابتة عن عائشة لا توافقه بل تخالفه - فإنه لو روي له بإسناد من هذا الجنس أن النبي صلى الفجر مرة أربعا لصدق ذلك، ومثل هذا ينبغي أن يصدق بكل الأخبار التي من هذا الجنس التي ينفرد فيه الواحد، مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، ويعلم أنه لو كان حقا لكان ينقل ويستفيض، وهذا في الضعف مثل أن ينقل عنه أنه قال لأهل مكة بعرفة ومزدلفة ومنى: " أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " وينقل ذلك عن عمر ولا ينقل إلا من طريق ضعيف، مع العلم بأن ذلك لو كان حقا لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، وذلك مما روى أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة، قال: سأل سائل عمران بن الحصين عن صلاة رسول الله في السفر فقال: إن هذا الفتى يسألني عن صلاة رسول الله في السفر، فاحفظوهن عني، ما سافرت مع رسول الله سفرا قط، إلا صلى ركعتين حتى يرجع، وشهدت مع رسول الله حنينا والطائف فكان يصلي ركعتين، ثم حججت معه واعتمرت فصلى ركعتين ثم قال: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " ثم حججت مع أبي بكر واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين، ثم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ثم حججت مع عمر واعتمرت فصلى ركعتين وقال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ثم حججت مع عثمان واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين، ثم إن عثمان أتم، فما ذكره في هذا الحديث من أن النبي لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، هو مما اتفقت عليه سائر الروايات، فإن جميع الصحابة إنما نقلوا عن النبي أنه صلى في السفر ركعتين.تمرت فصلى ركعتين وقال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ثم حججت مع عثمان واعتمرت فصلى ركعتين ركعتين، ثم إن عثمان أتم، فما ذكره في هذا الحديث من أن النبي لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، هو مما اتفقت عليه سائر الروايات، فإن جميع الصحابة إنما نقلوا عن النبي أنه صلى في السفر ركعتين.

الغلط في حديث أمر أهل مكة بإتمام الصلاة أربعا

وأما ما ذكره من قوله: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " فهذا مما قاله بمكة عام الفتح، لم يقله في حجته، وإنما هذا غلط وقع في هذه الرواية. وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن حميد عن حماد بإسناده، رواه البيهقي من طرقه ولفظه: ما سافر رسول الله سفرا إلا صلى ركعتين، حتى يرجع ويقول: " يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " وغزا الطائف وحنين، فصلى ركعتين وأتى الجعرانة فاعتمر منها، وحججت مع أبي بكر واعتمرت، فكان يصلي ركعتين، وحججت مع عمر بن الخطاب فكان يصلي ركعتين، فلم يذكر قوله إلا عام الفتح، قبل غزوة حنين والطائف، ولم يذكر ذلك عن أبي بكر وعمر، وقد رواه أبو داود في سننه صريحا من حديث ابن علية: حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال: عرفت مع النبي وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة يصلي ركعتين يقول: " يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر " وهذا إنما كان في غزوة الفتح في نفس مكة لم يكن بمنى، وكذلك الثابت عن عمر أنه صلى بأهل مكة في الحج ركعتين، ثم قال عمر بعد ما سلم: أتموا الصلاة يا أهل مكة فإنا قوم سفر.

هذا ومما يبين ذلك أن هذا لم ينقله عن النبي أحد من الصحابة، لا ممن نقل صلاته ولا ممن نقل نسكه وحجه مع توفر الهمم والدواعي على نقله، مع أن أئمة فقهاء الحرمين كانوا يقولون إن المكيين يقصرون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى، أفيكون كان معروفا عندهم عن النبي خلاف ذلك؟ أم كانوا جهالا بمثل هذا الأمر الذي يشيع ولا يجهله أحد ممن حج مع النبي ؟.

وفي الصحيحين عن حارثة بن خزاعة قال: صلينا مع النبي بمنى أكثر ما كنا وآمنه ركعتين. حارثة هذا خزاعي وخزاعة منزلها حول مكة.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع وقال: صليت مع رسول الله بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين.

إعذار عثمان في إتمامه الصلاة بمنى

وإتمام عثمان رضي الله عنه قد قيل أنه كان لأنه تأهل بمكة، فصار مقيما، وفي المسند عن عبد الرحمن بن أبي ذآب، أن عثمان صلى بمنى أربع ركعات، فأنكر الناس عليه فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت، وإني سمعت رسول الله يقول: " من تأهل في بلد فليصل صلاة مقيم بمكة ثلاثة أيام ويقصر الرابعة " فإنه يقصر كما فعل النبي وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذاك، فإن عثمان كان من المهاجرين، وكان المقام بمكة حراما عليهم.

وفي الصحيحين أن النبي رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا، وكان عثمان إذا اعتمر يأمر براحلته، فتهيأ له فيركب عليها عقب العمرة، لئلا يقيم بمكة فكيف يتصور أنه يعتقد أنه صار مستوطنا بمكة إلا أن يقال إنه جعل التأهل إقامة لا إستيطانا، فيقال معلوم أن من أقام بمكة ثلاثة أيام، فإنه يقصر كما فعل النبي وهو لا يمكنه أن يقيم بها أكثر من ذلك، لكن قد يكون نفس التأهل مانعا من القصر، وهذا أيضا بعيد فإن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي وخلفائه بمنى، وأيضا فالأمراء بعد عثمان من بني أمية كانوا يتمون إقتداء به، ولو كان عذره مختصا به لم يفعلوا ذلك، وقيل إنه خشي أن الأعراب يظنون أن الصلاة أربع وهذا أيضا ضعيف، فإن الأعراب كانوا في زمن النبي أجهل منهم في زمن عثمان، ولم يتمم الصلاة وأيضا فهم يرون صلاة المسلمين في المقام أربع ركعات، وأيضا فظنهم أن السنة في صلاة المسافر أربع خطأ منهم، فلا يسوغ مخالفة السنة ليحصل بالمخالفة ما هو بمثل ذلك، وعروة قد قال إن عائشة تأولت كما تأول عثمان، وعائشة أخبرت أن الإتمام لا يشق عليها.

أن يكون ذلك كما رآه من رآه لأجل شقة السفر، ورأوا أن الدنيا لما اتسعت عليهم لم يحصل لهم من المشقة ما كان يحصل على من كان صلى أربعا، كما قد جاء عن عثمان من نهيه عن المتعة التي هي الفسخ، أن ذلك كان لأجل حاجتهم، إذ ذاك إلى هذه المتعة فتلك الحاجة قد زالت. 1

((تمت بحمد الله))

هامش

  1. ====جاء في آخر النسخة التي طبعنا عنها هذه الرسالة ما نصه==== ((هذا آخر ما وجدته من هذه القاعدة الجليلة، للشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان المنقول عنها يقول كاتبها إنه نقلها من نسخة بخط ابن القيم رحمهم الله، وقد وقع الفراغ غداة يوم الجمعة 8 صفر سنة 1341 في المدرسة الداودية من بغداد المحمية، وأنا الفقير عبد الكريم بن السيد عباس الأزجي. والحمد لله رب العالمين)).
مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية
الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل | الشفاعة الشرعية والتوسل | أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم | إبطال وحدة الوجود | مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية | لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة | كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الشيخ نصر المنبجي | مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه | فتاوى لابن تيمية | الصحابة لا يجتمعون على ضلالة | قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر | مختارات من المسائل الكيلانية | مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله | مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم | الجهمية المعطلة كاليهود والحلولية كالنصارى والمسلمون وسط | اصطلاحات المتكلمين والفقهاء المخالفة للغة ومنها القديم والمحدث | اختلاف أدلة المتكلمين على إثبات الصانع وما ترتب عليه من البدع | فيما قاله في مسألة اللفظ | كفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه | حقيقة مذهب الاتحاديين | حقيقة مذهب الاتحاديين/حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية | معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد | رد قول بعض طواغيتهم إن العالم حدقة عين الله | كلام ابن عربي في خاتم النبوة وخاتم الولاية | بيان كفر الاتحادية وفساد قولهم | زعمهم أن الدعوة إلى عبادة الله مكر بالعباد | قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات | تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | رسالة العبادات الشرعية | مسألة في الغيبة | أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل | شرح حديث عمران بن حصين المرفوع كان الله ولم يكن شيء قبله | أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة | وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤجرات | عرش الرحمن وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وكونه فوق العالم كله