مجموعة الرسائل والمسائل/الصحابة لا يجتمعون على ضلالة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


بسم الله الرحمن الرحيم

الصحابة رضي الله عنهم لا يجتمعون على ضلالة

فصل

في شروط عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه التي شرطها على أهل الذمة لما قدم الشام وشارطهم بمحضر من المهاجرين والأنصار، وعليها العمل عند أئمة المسلمين لقوله : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ".

وقوله : " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " لأن هذا صار إجماعا من أصحاب رسول الله الذين لا يجتمعون على ضلالة على ما نقلوه وفهموه من كتاب الله وسنة رسوله، وهذه الشروط مروية من وجوه مختصرة ومبسوطة.

شروط عمر رضي الله عنه على أهل الذمة

منها ما رواه سفيان الثوري عن مسروق بن عبد الرحمن بن عتبة قال: كتب عمر حين صالح نصارى الشام كتابا وشرط عليهم فيه أن لا يحدثوا في مدنهم ولا ما حولها ديرا ولا صومعة ولا كنيسة ولا قلاية لراهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يؤوا جاسوسا ولا يكتموا غش المسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركا ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم من مجالسهم إن أرادوا الجلوس ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتكنوا بكناهم ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفا ولا يتخذوا شيئا من سلاح ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهروا صليبا ولا شيئا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين بموتاهم ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيا ولا يرفعوا أصواتهم بقراءتهم في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين، فإن خالفوا شيئا مما اشترطوا عليهم فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.

وأما ما يرويه بعض العامة عن النبي أنه قال: " من آذى ذميا فقد آذاني " فهذا كذب على رسول الله لم يروه أحد من أهل العلم وكيف ذلك وأذاهم قد يكون بحق وقد يكون بغير حق بل قد قال الله تعالى: " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا " فكيف يحرم أذى الكفار مطلقا وأي ذنب أعظم من الكفر، ولكن في سنن أبي داود عن العرباض بن سارية عن النبي قال: " إن الله لم يأذن لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتب إلا بإذن، ولا ضرب أبشارهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذين عليهم ". وكان عمر بن الخطاب يقول: أذلوهم ولا تظلموهم.

زي أهل الذمة

وعن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله عن آبائهم عن رسول الله قال: " إلا من ظلم معاهدا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة ". وفي سنن أبي داود عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله : " ليس على مسلم جزية، ولا تصلح قبلتان بأرض " وهذه الشروط قد ذكرها أئمة العلماء من أهل المذاهب المتنوعة وغيرها في كتبهم واعتمدوها فقد ذكروا أن على الإمام أن يلزم أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في لباسهم، وشعورهم وكتبهم وركوبهم، بأن يلبسوا ثوبا يخالف ثياب المسلمين كالعسلي، والأزرق والأصفر والأدكن، ويشدوا الخرق في قلانسهم وعمائمهم والزنانير فوق ثيابهم، وقد أطلق طائفة من العلماء أنهم يؤخذون باللبس وشد الزنانير جميعا، ومنهم من قال: هذا يجب إذا شرط عليهم، وقد تقدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك عليهم جميعا حيث قال: ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة ولا غيرها من عمامة ولا نعلين إلى أن قال: ويلزمهم بذلك حيثما كانوا ويشدوا الزنانير على أوساطهم.

وهذه الشروط يجددها عليهم من يوفقه الله تعالى من ولاة أمور المسلمين كما جدد عمر بن عبد العزيز في خلافته وبالغ في اتباع سنة عمر بن الخطاب حيث كان من العلم والعدل والقيام بالكتاب والسنة بمنزلة ميزه الله بها عن غيره من الأئمة، وجددها هارون الرشيد وجعفر المتوكل وغيرهما وأمروا بهدم الكنائس التي ينبغي هدمها كالكنائس التي بالديار المصرية كلها ففي وجوب هدمها قولان ولا نزاع في جواز هدم ما كان بأرض العنوة إذا فتحت ولو أقرت بأيديهم لكونهم أهل الوطن كما أقرهم المسلمون على كنائس بالشام ومصر ثم ظهرت شعائر المسلمين فيما بعد في تلك البقعة بحيث بنيت فيها المساجد فلا يجتمع شعائر الكفر مع شعائر الإسلام كما قال النبي : " لا يجتمع قبلتان بأرض " ولهذا شرط عليهم عمر والمسلمون أن لا يظهروا شعائر دينهم.

تحريم الوقف على معابد أهل الكتاب

وأيضا فلا نزاع بين المسلمين أن أرض المسلمين لا يجوز أن تحبس على الديارات والصوامع ولا يصح الوقف عليها بل لو وقفها ذمي وتحاكم إلينا لم يحكم بصحة الوقف فكيف نحبس أموال المسلمين على معابد الكفار التي يشرك فيها بالرحمن ويسب الله ورسوله فيها أقبح سب.

وكان من سبب إحداث هذه الكنائس وهذه الأحباس عليها شيئان:

أحدهما: أن بني عبيد الله القداح الذين كان ظاهرهم الرفض وباطنهم النفاق يستوزرون تارة يهوديا وتارة نصرانيا واجتلب ذلك النصراني خلقا كثيرا وبنى كنائس كثيرة.

والثاني: استيلاء الكتاب من النصارى على أموال المسلمين فيدلسون فيها على المسلمين ما يشاؤون، والله أعلم. قاله أحمد بن تيمية.

بسم الله الرحمن الرحيم

لا تحل مشاركة الكتابيين في أعيادهم

مسألة: فيمن يفعل من المسلمين مثل طعام النصارى في النيروز ويفعل سائر المواسم مثل الغطاس، والميلاد وخميس العدس، وسبت النور، ومن يبيعهم شيئا يستعينون به على أعيادهم أيجوز للمسلمين أن يفعلوا شيئا من ذلك أم لا؟

الجواب: الحمد لله. لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام، ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نيران ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار زينة، وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصه، وأما إذ أصابه المسلمون قصدا فقد كره ذلك طوائف من السلف والخلف وأما تخصيصه بما تقدم ذكره فلا نزاع فيه بين العلماء بل قد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل هذه الأمور لما فيها من تعظيم شعائر الكفر.

وقال طائفة منهم من ذبح نطيحة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيرا.

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من تأسى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة. وفي سنن أبي داود عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله أن ينحر إبلا ببوانة فأتى رسول الله فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال النبي : " هل كان فيها من وثن يعبد من دون الله من أوثان الجاهلية؟ " قال: لا، قال: " فهل كان فيها عيد من أعيادهم " قال: لا، قال رسول الله : " أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " فلم يأذن النبي أن يوفي بنذره مع أن الأصل في الوفاء أن يكون واجبا حتى أخبره أنه لم يكن بها عيد من أعياد الكفار، وقال: " لا وفاء لنذر في معصية الله " فإذا كان الذبح بمكان كان فيه عيدهم معصية فكيف بمشاركتهم في نفس العيد؟

بل قد شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا أعيادهم في دار المسلمين وإنما يعملونه سرا في مساكنهم فكيف إذا أظهرها المسلمون حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تتعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم، وإذا كان الداخل لفرجة أو غيرها نهي عن ذلك لأن السخط ينزل عليهم فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم مما هي من شعائر دينهم؟

وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى: " والذين لا يشهدون الزور " قالوا أعياد الكفار فإذا كان هذا في شهودها من غير فعل، فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها؟ وقد روي عن النبي في المسند والسنن أنه قال: " من تشبه بقوم فهو منهم " وفي لفظ " ليس منا من تشبه بغيرنا " وهو حديث جيد فإذا كان هذا في التشبه بهم وإن كان في العادات فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك.

وقد كره جمهور الأئمة إما كراهة تحريم أو كراهة تنزيه أكل ما ذبحوه لأعيادهم وقرابينهم إدخالا له فيما أهل به لغير الله وما ذبح على النصب، وكذلك نهوا عن معاونتهم على أعيادهم بإهداء أو مبايعة وقالوا: إنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما، ولا دما، ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من دينهم لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين على ذلك لأن الله تعالى يقول: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ثم إن المسلم لا يحل له أن يعينهم على شرب الخمور بعصرها أو نحو ذلك فكيف على ما هو من شعائر الكفر؟ وإذا كان لا يحل له أن يعينهم هو فكيف إذا كان هو الفاعل لذلك، والله أعلم. قاله أحمد بن تيمية.

((تمت بحمد الله))

مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية
الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل | الشفاعة الشرعية والتوسل | أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم | إبطال وحدة الوجود | مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية | لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة | كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الشيخ نصر المنبجي | مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه | فتاوى لابن تيمية | الصحابة لا يجتمعون على ضلالة | قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر | مختارات من المسائل الكيلانية | مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله | مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم | الجهمية المعطلة كاليهود والحلولية كالنصارى والمسلمون وسط | اصطلاحات المتكلمين والفقهاء المخالفة للغة ومنها القديم والمحدث | اختلاف أدلة المتكلمين على إثبات الصانع وما ترتب عليه من البدع | فيما قاله في مسألة اللفظ | كفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه | حقيقة مذهب الاتحاديين | حقيقة مذهب الاتحاديين/حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية | معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد | رد قول بعض طواغيتهم إن العالم حدقة عين الله | كلام ابن عربي في خاتم النبوة وخاتم الولاية | بيان كفر الاتحادية وفساد قولهم | زعمهم أن الدعوة إلى عبادة الله مكر بالعباد | قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات | تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | رسالة العبادات الشرعية | مسألة في الغيبة | أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل | شرح حديث عمران بن حصين المرفوع كان الله ولم يكن شيء قبله | أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة | وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤجرات | عرش الرحمن وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وكونه فوق العالم كله