فرق الشيعة للنوبختي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
  ► كتاب الفرق والمقالات فرق الشيعة للقمي ◄  


 ]]
image page
نزل نسخة مطبوعة

أما بعد فإن فرق الأمة كلها المتشيعة وغيرها اختلفت في الإمامة في كل عصر ووقت كل إمام بعد وفاته وفي عصر حياته منذ قبض الله محمدا . وقد ذكرنا في كتابنا هذا ما يتناهى إلينا من فرقها وآرائها واختلافها وما حفظنا مما روي لنا من العلل التي من أجلها تفرقوا واختلفوا وما عرفنا في ذلك من تاريخ الأوقات وبالله التوفيق ومنه العون.

قبض رسول الله في شهر ربيع الأول سنة عشر من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكانت نبوته عليه السلام ثلاثا وعشرين سنة. وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.

فافترقت الأمة ثلاث فرق:

فرقة منها سميت الشيعة، وهم شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام، ومنهم افترقت صنوف الشيعة كلها.

وفرقة منهم ادعت الإمرة والسلطان وهم الأنصار ودعوا إلى عقد الأمر لسعد بن عبادة الخزرجي.

وفرقة مالت إلى أبي بكر بن أبي قحافة، وتأولت فيه أن النبي لم ينص على خليفة بعينه، وأنه جعل الأمر إلى الأمة تختار لأنفسها من رضيته، واعتل قوم منهم برواية ذكروها أن رسول الله أمره في ليلته التي توفي فيها بالصلاة بأصحابه فجعلوا ذلك الدليل على استحقاقه إياه وقالوا: رضيه النبي لأمر ديننا ورضيناه لأمر دنيانا. وأوجبوا له الخلافة بذلك. فاختصمت هذه الفرقة وفرقة الأنصار وصاروا إلى سقيفة بني ساعدة ومعهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة الثقفي. وقد دعت الأنصار إلى العقد لسعد بن عبادة الخزرجي والاستحقاق للأمر والسلطان، فتنازعوا هم والأنصار في ذلك حتى قالوا: منا أمير ومنكم أمير. فاحتجت هذه الفرقة عليهم بأن النبي عليه السلام قال: «الأئمة من قريش» وقال بعضهم إنه قال الإمامة لا تصلح إلا في قريش. فرجعت فرقة الأنصار ومن تابعهم إلى أمر أبي بكر غير نفر يسير مع سعد بن عبادة ومن اتبعه من أهل بيته، فإنه لم يدخل في بيعته حتى خرج إلى الشام مراغما لأبي بكر وعمر، فقتل هناك بحوران قتله الروم، وقال آخرون قتلته الجن فاحتجوا بالشعر المعروف وفي روايتهم أن الجن قالت:

قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده ** ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده

وهذا قول فيه بعد النظر إلخ لأنه ليس في التعارف أن الجن ترمي بني آدم بالسهام فتقتلهم.

فصار مع أبي بكر السواد الأعظم والجمهور الأكثر، فلبثوا معه ومع عمر مجتمعين عليهما راضين بهما.

وقد كانت فرقة اعتزلت عن أبي بكر فقالت: لا نؤدي الزكاة إليه حتى يصح عندنا لمن الأمر ومن استخلفه رسول الله بعد ونقسم الزكاة بين فقرائنا وأهل الحاجة منا.

وارتد قوم فرجعوا عن الإسلام. ودعت بنو حنيفة إلى نبوة مسيلمة، وقد كان ادعى النبوة في حياة رسول الله فبعث أبو بكر إليهم الخيول عليها خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي فقاتلهم وقتل مسيلمة وقتل من قتل ورجع من رجع منهم إلى أبي بكر، فسموا أهل الردة.

ولم يزل هؤلاء جميعا على أمر واحد حتى نقموا على عثمان بن عفان أمورا أحدثها وصاروا بين خاذل وقاتل إلا خاصة أهل بيته وقليلا من غيرهم حتى قتل. فلما قتل بايع الناس عليا عليه السلام فسموا الجماعة.

ثم افترقوا بعد ذلك فصاروا ثلاث فرق:

فرقة أقامت على ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام.

وفرقة منهم اعتزلت مع سعد بن مالك، وهو سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله ، فإن هؤلاء اعتزلوا عن علي عليه السلام وامتنعوا من محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضا به فسموا المعتزلة وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الابد، وقالوا: لا يحل قتال علي ولا القتال معه. وذكر بعض أهل العلم أن الأحنف بن قيس التميمي اعتزل بعد ذلك في خاصة قومه من بني تميم لا على التدين بالاعتزال لكن على طلب السلامة من القتل وذهاب المال، وقال لقومه: اعتزلوا الفتنة أصلح لكم.

وفرقة خالفت عليا عليه السلام، وهم طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام وعائشة بنت أبي بكر، فصاروا إلى البصرة فغلبوا عليها وقتلوا عمال علي عليه السلام بها وأخذوا المال، فسار إليهم علي عليه السلام فقتل طلحة والزبير وهزموا، وهم أصحاب الجمل. وهرب قوم منهم فصاروا إلى معاوية بن أبي سفيان ومال معهم أهل الشام وخالفوا عليا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان وألزموا عليا وأصحابه دمه ثم دعوا إلى معاوية وحاربوا عليا، وهم أهل صفين.

ثم خرجت فرقة ممن كان مع علي عليه السلام وخالفته بعد تحكيم الحكمين بينه وبين معاوية وأهل الشام وقالوا: لا حكم إلا لله، وكفروا عليا عليه السلام وتبرؤا منه وأمروا عليهم ذا الثدية، وهم المارقون. فخرج علي عليه السلام فحاربهم بالنهروان فقتلهم وقتل ذا الثدية فسموا الحرورية لوقعة حروراء وسموا جميعا الخوارج، ومنهم افترقت فرق الخوارج كلها.

فلما قتل علي عليه السلام التقت الفرقة التي كانت معه والفرقة التي كانت مع طلحة والزبير وعائشة فصاروا فرقة واحدة مع معاوية بن أبي سفيان إلا القليل منهم من شيعته ومن قال بإمامته بعد النبي ، وهم السواد الأعظم وأهل الحشو وأتباع الملوك وأعوان كل من غلب، أعني الذين التقوا مع معاوية، فسموا جميعا المرجئة لأنهم توالوا المختلفين جميعا وزعموا أن أهل القبلة كلهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالإيمان ورجوا لهم المغفرة.

وافترقت المرجئة بعد ذلك فصارت إلى أربع فرق:

فرقة منهم غلوا في القول، وهم الجهمية أصحاب جهم بن صفوان وهم مرجئة أهل خراسان.

وفرقة منهم الغيلانية وهم أصحاب غيلان بن مروان وهم مرجئة أهل الشام.

وفرقة منهم الماصرية أصحاب عمرو بن قيس الماصر وهم مرجئة أهل العراق منهم أبو حنيفة ونظراؤه.

وفرقة منهم يسمون الشكاك والبترية أصحاب الحديث، منهم سفيان بن سعيد الثوري وشريك بن عبد الله وابن أبي ليلي ومحمد بن إدريس الشافعي ومالك بن أنس ونظراؤهم من أهل الحشو والجمهور العظيم، وقد سموا الحشوية.

فقالت أوائلهم في الإمامة: خرج رسول الله من الدنيا ولم يستخلف علي دينه من يقوم مقامه في لم الشعث وجمع الكلمة والسعي في أمور الملك والرعية وإقامة الهدنة وتأمير الأمراء وتجييش الجيوش والدفع عن بيضة الإسلام وردع المعاند وتعليم الجاهل وإنصاف المظلوم، وجوزوا فعل هذا الفعل لكل إمام أقيم بعد الرسول .

ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: على الناس أن يجتهدوا آراءهم في نصب الإمام وجميع حوادث الدين والدنيا إلى اجتهاد الرأي. وقال بعضهم: الرأي باطل ولكن الله عز وجل أمر الخلق أن يختاروا الإمام بعقولهم.

وشذت طائفة من المعتزلة عن قول أسلافها فزعمت أن النبي نص على صفة الإمام ونعته ولم ينص على اسمه ونسبه. وهذا قول أحدثوه قريبا.

وكذلك قالت جماعة من أهل الحديث هربت حين عضها حجاج الإمامية ولجأت إلى أن النبي نص على أبي بكر بأمره إياه بالصلاة وتركت مذهب أسلافها في أن المسلمين قالوا بعد وفاة الرسول عليه السلام رضينا لدنيانا بإمام رضيه رسول الله لديننا.

واختلف أهل الإهمال في إمامة الفاضل والمفضول، فقال أكثرهم هي جائزة في الفاضل والمفضول إذا كانت في الفاضل علة تمنع من إمامته. ووافق سائرهم أصحاب النص على أن الإمامة لا تكون إلا للفاضل المتقدم.

واختلف الكل في الوصية، فقال أكثر أهل الإهمال توفي رسول الله ولم يوص إلى أحد من الخلق، فقال بعضهم قد أوصى على معنى أنه أوصى الخلق بتقوى الله عز وجل.

ثم اختلفوا جميعا في القول بالإمامة وأهلها، فقالت البترية وهم أصحاب الحسن بن صالح بن حي ومن قال بقوله إن عليا عليه السلام هو أفضل الناس بعد رسول الله وأولاهم بالإمامة وإن بيعة أبي بكر ليست بخطأ ووقفوا في عثمان وثبتوا حزب علي عليه السلام وشهدوا على مخالفيه بالنار، واعتلوا بأن عليا عليه السلام سلم لهما ذلك فهو بمنزلة رجل كان له على رجل حق فتركه له.

وقال سليمان بن جرير الرقي ومن قال بقوله إن عليا عليه السلام كان الإمام وإن بيعة أبي بكر وعمر كانت خطأ ولا يستحقان اسم الفسق عليها من قبل التأويل لأنهما تأولا فأخطآ، وتبرؤوا من عثمان فشهدوا عليه بالكفر، ومحارب علي عليه السلام عندهم كافر.

وقال ابن التمار ومن قال بقوله إن عليا عليه السلام كان مستحقا للإمامة وإنه أفضل الناس بعد رسول الله وإن الأمة ليست بمخطئة خطأ إثم في توليتها أبا بكر وعمر ولكنها مخطئة بترك الأفضل، وتبرؤا من عثمان ومن محارب علي عليه السلام وشهدوا عليه بالكفر.

وقال الفضل الرقاشي وأبو شمر وغيلان بن مروان وجهم بن صفوان ومن قال بقولهم من المرجئة إن الإمامة يستحقها كل من قام بها إذا كان عالما بالكتاب والسنة وأنه لا تثبت الإمامة إلا بإجماع الأمة كلها.

وقال أبو حنيفة وسائر المرجئة: لا تصلح الإمامة إلا في قريش، كل من دعا منهم إلى الكتاب والسنة والعمل بالعدل وجبت إمامته ووجب الخروج معه وذلك للخبر الذي جاء عن النبي أنه قال: «الأئمة من قريش».

وقالت الخوارج كلها إلا النجدية منهم الإمامة تصلح في أفناء الناس كلهم من كان منهم قائما بالكتاب والسنة عالما بهما وأن الإمامة تثبت بعقد رجلين.

وقالت النجدية من الخوارج: الأمة غير محتاجة إلى إمام ولا غيره وإنما علينا وعلى الناس أن نقيم كتاب الله عز وجل فيما بيننا.

وقالت المعتزلة: إن الإمامة يستحقها كل من كان قائما بالكتاب والسنة، فإذا اجتمع قرشي ونبطي وهما قائمان بالكتاب والسنة ولينا القرشي، والإمامة لا تكون إلا بإجماع الأمة واختيار ونظر.

وقال ضرار بن عمرو إذا اجتمع قرشي ونبطي ولينا النبطي وتركنا القرشي لأنه أقل عشيرة وأقل عددا فإذا عصى الله وأردنا خلعه كانت شوكته أهون وإنما قلت ذلك نظرا للإسلام.

وقال إبراهيم النظام ومن قال بقوله: الإمامة تصلح لكل من كان قائما بالكتاب والسنة لقول الله عز وجل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وزعموا أن الناس لا يحب عليهم فرض الإمامة إذا هم أطاعوا الله وأصلحوا سرائرهم وعلانيتهم فإنهم لن يكونوا كذا إلا وعلم الإمام قائم باضطرار يعرفون عينه فعليهم اتباعه ولن يجوز أن يكلفهم الله عز وجل معرفته ولم يضع عندهم علمه فيكلفهم المحال.

وقالوا في عقد المسلمين الإمامة لأبي بكر إنهم قد أصابوا في ذلك وإنه كان أصلحهم في ذلك الوقت بالقياس والخبر. أما القياس فإنه لما وجد أن الإنسان لا يعمد إلى الذل لرجل ولا يتابعه في كل ما قال إلا من ثلاث طرق: إما أن يكون رجلا له عشيرة تعينه على استعباد الناس أو رجلا عنده مال فيبذل الناس له لماله أو دين برز فيه على الناس فلما وجدنا أبا بكر أقلهم عشيرة وأفقرهم علمنا أنه إنما قدم للدين، وأما الخبر فاجتماع الناس عليه ورضاهم بإمامته وقد قال النبي : "لم يكن الله تبارك وتعالى ليجمع أمتي على ضلال" ولو كان اجتماع الناس عليه خطأ لكان في ذلك فساد الصلاة وجميع الفرائض وإبطال القرآن وهو الحجة علينا بعد النبي ، وهذه علة المعتزلة والمرجئة بأجمعهم.

وزعم عمرو بن عبيد وضرار بن عمرو وواصل بن عطاء وهم أصول المعتزلة فقال عمرو بن عبيد ومن قال بقوله إن عليا عليه السلام كان أولى بالحق من غيره، وقال ضرار بن عمرو لست أدري أيهم أهدى أعلي أم طلحة والزبير، وقال واصل بن عطاء: مثل علي ومن خالفه مثل المتلاعنين لا يدرى من الصادق منهما ومن الكاذب. وأجمعوا جميعا على أن يتولوا القوم في الجملة وأن إحدى الفرقتين ضالة لا شك من أهل النار وأن عليا وطلحة والزبير إن شهدوا بعد اقتتالهم على درهم لم يجيزوا شهادتهم وإن انفرد علي مع رجل من عرض الناس أجازوا شهادته وكذلك طلحة والزبير، وزعموا أنهم يسمونهم باسم الإيمان على الأمر الأول ما اجتمعوا فإذا انفردوا لم يسموا واحدا منهم على الانفراد مؤمنا ولم يجيزوا شهادته.

وأما البترية من أصحاب الحديث أصحاب الحسن بن صالح بن حي وكثير النواء وسالم بن أبي حفصة والحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل وأبي المقدام ثابت الحداد ومن قال بقولهم فإنهم دعوا إلى ولاية علي عليه السلام ثم خلطوها بولاية أبي بكر وعمر وأجمعوا جميعا أن عليا خير القوم جميعا وأفضلهم، وهم مع ذلك يأخذون بأحكام أبي بكر وعمر ويرون المسح على الخفين وشرب النبيذ المسكر وأكل الجري.

واختلفوا في حرب علي عليه السلام ومحاربة من حاربه فقالت الشيعة والزيدية ومن المعتزلة إبراهيم بن سيار النظام وبشر بن المعتمر ومن قال بقولهما من المرجئة أبو حنيفة وأبو يوسف وبشر المريسي ومن قال بقولهم إن عليا عليه السلام كان مصيبا في حربه طلحة والزبير وغيرهما وإن جميع من قاتل عليا عليه السلام وحاربه كان على خطأ وجب على الناس محاربتهم مع علي عليه السلام. والدليل على ذلك قول الله عز وجل في كتابه: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} فقد وجب قتالهم لبغيهم عليه لأنهم ادعوا ما ليس لهم وما لم يكونوا أولياءه من الطلب بدم عثمان فبغوا عليه واعتلوا بالخبر عن علي عليه السلام في قوله: أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فقد قاتلهم ووجب قتالهم.

وقال بكر ابن أخت عبد الواحد ومن قال بقوله: إن عليا وطلحة والزبير مشركون منافقون، وهم مع ذلك جميعا في الجنة لقول رسول الله : «اطلع الله عز وجل على أهل بدر فقال اصنعوا ما شئتم قد غفرت لكم»

وقالت بقية المعتزلة ضرار بن عمرو ومعمر وأبو الهذيل العلاف وبقية المرجئة: إنا نعلم أن أحدهما مصيب والآخر مخطئ فنحن نتولى كل واحد منهم على الانفراد ولا نتولاهم على الاجتماع، وعلتهم في ذلك أن كل واحد منهم قد ثبتت ولايته وعدالته بالإجماع فلا تزول عنه العدالة إلا بالإجماع.

وقالت الحشوية وأبو بكر الأصم ومن قال بقولهم: إن عليا وطلحة والزبير لم يكونوا مصيبين في حربهم وإن المصيبين هم الذين قعدوا عنهم وأنهم يتولونهم جميعا ويتبرؤن من حربهم ويردون أمرهم إلى الله عز وجل.

واختلفوا في تحكيم الحكمين؛ فقالت الخوارج: الحكمان كافران، وكفر علي عليه السلام حين حكّمهما. واعتلوا بقول الله عز وجل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} و {الظالمون} و {الفاسقون} وبقوله تبارك وتعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} فتركه القتال كفر.

وقالت الشيعة والمرجئة وإبراهيم النظام وبشر بن المعتمر إن عليا عليه السلام كان مصيبا في تحكيمه لما أبى أصحابه إلا التحكيم وامتنعوا من القتال فنظر للمسلمين ليتألفهم وإنما أمرهما أن يحكما بكتاب الله عز وجل فخالفا فهما اللذان ارتكبا الخطأ وهو الذي أصاب. واعتلوا في ذلك بأن رسول الله وادع أهل مكة ورد أبا جندل سهيل بن عمرو إلى المشركين يحجل في قيوده وبتحكيمه سعد بن معاذ فيما بينه وبين بني قريظة والنضير من اليهود.

وقال أبو بكر الأصم: نفس خروجه خطأ وتحكيمه خطأ وإن أبا موسى الأشعري أصاب حين خلعه حتى يجتمع الناس على إمام.

وقال سائر المعتزلة: كل مجتهد مصيب وقد اجتهد علي عليه السلام فأصاب ولسنا نتهمه في قوله فهو محق.

وقالت الحشوية نحن لا نتكلم في هذا بشيء ونرد أمرهم إلى الله عز وجل فإن يكن حقا فالله أولى حقا كان أو باطلا ونتولاهم جميعا على الأمر الأول.

وكل هذه الصنوف والفرق التي ذكرناها من أهل الإرجاء والخوارج وغيرهم مختلفون فيما بينهم فرقا كثيرة يطول ذكرها يؤثمون بعضهم على بعض في الإمامة والأحكام والفتوى والتوحيد وجميع فنون الدين، ينكر بعضهم من بعض ويكفر بعضهم بعضا، أكثر ما عندهم أن سموا أنفسهم على اختلاف مذاهبهم الجماعة، يعنون بذلك أنهم مجتمعون على ولاية من وليهم من الولاة برا كان أو فاجرا، فتسموا بالجماعة على غير معنى الاجتماع على دين بل صحيح معناهم معنى الافتراق.

فجميع أصول الفرق كلها الجامعة لها أربع فرق: الشيعة والمعتزلة والمرجئة والخوارج.

فأول الفرق الشيعة وهم فرقة علي بن أبي طالب عليه السلام المسمون بشيعة علي عليه السلام في زمان النبي وبعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته. منهم المقداد بن الأسود وسلمان الفارسي وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري وعمار بن ياسر ومن وافق مودته مودة علي عليه السلام، وهم أول من سمي باسم التشيع من هذه الأمة، لأن اسم التشيع قديم، شيعة إبراهيم وموسى وعيسى والأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

فلما قبض الله عز وجل نبيه افترقت فرقة الشيعة ثلاث فرق:

فرقة منهم قالت إن عليا عليه السلام إمام مفترض الطاعة بعد رسول الله واجب على الناس القبول منه والأخذ ولا يجوز غيره الذي وضع عنده النبي من العلم ما يحتاج إليه الناس من الدين والحلال والحرام وجميع منافع دينهم ودنياهم ومضارها وجميع العلوم جليلها ودقيقها واستودعه ذلك كله واستحفظه إياه ولذا استحق الإمامة ومقام النبي لعصمته وطهارة مولده وسابقته وعلمه وسخائه وزهده وعدالته في رعيته وأن النبي نص عليه وأشار إليه باسمه ونسبه وعينه وقلد الأمة إمامته ونصبه لهم علما وعقد له عليهم إمرة المؤمنين وجعله أولى الناس منهم بأنفسهم في مواطن كثيرة مثل غدير خم وغيره وأعلمهم أن منزلته منزلة هارون من موسى صلى الله عليهما إلا أنه لا نبي بعده، فهذا دليل إمامته ولا معنى إلا النبوة والإمامة، وإذ جعله نظير نفسه في أنه أولى بهم منهم بأنفسهم في حياته ولقوله لبني وليعة: "لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي" فمقام النبي لا يصلح من بعده إلا لمن هو كنفسه والإمامة من أجل الأمور بعد النبوة. وقالوا إنه لا بد مع ذلك من أن يقوم مقامه بعده رجل من ولده من ولد فاطمة بنت محمد عليهم السلام معصوم من الذنوب طاهر من العيوب تقي نقي مأمون رضي مبرأ من الآفات والعاهات في كل من الدين والنسب والمولد يؤمن منه العمد والخطأ والزلل منصوص عليه من الإمام الذي قبله مشار إليه بعينه واسمه، الموالي له ناج والمعادي له كافر هالك والمتخذ دونه وليجة ضال مشرك وأن الإمامة جارية في عقبه ما اتصلت أمور الله وأمره ونهيه. فلم تزل هذه الفرقة ثابتة على إمامته على ما ذكرنا حتى قتل علي عليه السلام في شهر رمضان ضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله ليلة تسع عشرة وتوفي ليلة إحدى وعشرين ليلة الأحد سنة أربعين من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة، فكانت إمامته ثلاثين سنة وخلافته أربع سنين وتسعة أشهر. وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف رضي الله عنهما وهو أول هاشمي ولد بين هاشميين.

وفرقة قالت إن عليا كان أولى الناس بعد رسول الله بالناس لفضله وسابقته وعلمه وهو أفضل الناس كلهم بعده وأشجعهم وأسخاهم وأورعهم وأزهدهم، وأجازوا مع ذلك إمامة أبي بكر وعمر وعدوهما أهلا لذلك المكان والمقام، وذكروا أن عليا عليه السلام سلم لهما الأمر ورضي بذلك وبايعهما طائعا غير مكره وترك حقه لهما فنحن راضون كما رضّى الله المسلمين له ولمن بايع، لا يحل لنا غير ذلك ولا يسع منا أحدا إلا ذلك، وأن ولاية أبي بكر صارت رشدا وهدى لتسليم علي ورضاه، ولولا رضاه وتسليمه لكان أبو بكر مخطئا ضالا هالكا، وهم أوائل البترية.

وخرجت من هذه الفرقة فرقة قالت إن عليا عليه السلام أفضل الناس لقرابته من رسول الله ولسابقته وعلمه ولكن كان جائزا للناس أن يولوا عليهم غيره إذا كان الوالي الذي يولونه مجزئا، أحب ذلك أو كرهه، فولاية الوالي الذي ولوا على أنفسهم برضى منهم رشد وهدى وطاعة لله عز وجل وطاعته واجبة من الله عز وجل، فمن خالفه من قريش وبني هاشم عليا كان أو غيره من الناس فهو كافر ضال.

وفرقة منهم يسمون الجارودية قالوا بتفضيل علي عليه السلام ولم يروا مقامه يجوز لأحد سواه وزعموا أن من دفع عليا عن هذا المكان فهو كافر وأن الأمة كفرت وضلت في تركها بيعته، وجعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي عليهما السلام ثم في الحسين عليه السلام ثم هي شورى بين أولادهما فمن خرج منهم مستحقا للإمامة فهو الإمام. وهاتان الفرقتان هما اللتان ينتحلان أمر زيد بن علي بن الحسين وأمر زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ومنها تشعبت صنوف الزيدية.

فلما قتل علي عليه السلام افترقت التي تثبت على إمامته وأنها فرض من الله عز وجل ورسوله عليه السلام فصاروا فرقا ثلاثة:

فرقة منهم قالت إن عليا لم يقتل ولم يمت ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا وهي أول فرقة قالت في الإسلام بالوقف بعد النبي من هذه الأمة وأول من قال منها بالغلو وهذه الفرقة تسمى السبأية أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم وقال إن عليا عليه السلام أمره بذلك فأخذه علي فسأله عن قوله هذا فأقر به فأمر بقتله فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين أتقتل رجلا يدعو إلى حكم أهل البيت وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك فصيره إلى المدائن. وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب علي عليه السلام أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا عليه السلام وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة فقال في إسلامه بعد وفاة النبي في علي عليه السلام بمثل ذلك، وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه، فمن هناك قال من خالف الشيعة إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية. ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي علي بالمدائن قال للذي نعاه: كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة وأقمت على قتله سبعين عدلا لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل ولا يموت حتى يملك الأرض.

وفرقة قالت بإمامة محمد بن الحنفية لأنه كان صاحب راية أبيه يوم البصرة دون أخويه فسموا الكيسانية. وإنما سموا بذلك لأن المختار بن أبي عبيد الثقفي كان رئيسهم وكان يلقب كيسان وهو الذي طلب بدم الحسين بن علي صلوات الله عليهما وثأره حتى قتل من قتلته وغيرهم من قتل، وادعى أن محمد بن الحنفية أمره بذلك وأنه الإمام بعد أبيه. وإنما لقب المختار كيسان لأن صاحب شرطته المكنى بأبي عمرة كان اسمه كيسان وكان أفرط في القول والفعل والقتل من المختار جدا وكان يقول إن محمد بن الحنفية وصي علي بن أبي طالب وأنه الأمام وأن المختار قيمه وعامله ويكفر من تقدم عليا ويكفر أهل صفين والجمل وكان يزعم أن جبرئيل عليه السلام يأتي المختار بالوحي من عند الله عز وجل فيخبره ولا يراه وروي بعضهم أنه سمى بكيسان مولى علي بن أبي طالب عليه السلام وهو الذي حمله على الطلب بدم الحسين بن علي عليه السلام ودله على قتلته وكان صاحب سره ومؤامرته والغالب على أمره.

وفرقة لزمت القول بإمامة الحسن بن علي بعد أبيه إلا شرذمة منهم، فإنه لما وادع الحسن معاوية وأخذ منه المال الذي بعث به إليه وصالح معاوية الحسن طعنوا فيه وخالفوه ورجعوا عن إمامته فدخلوا في مقالة جمهور الناس وبقي سائر أصحابه على إمامته إلى أن قتل فلما تنحى عن محاربة معاوية وانتهى إلى مظلم ساباط وثب عليه رجل من هنالك يقال له الجراح بن سنان فأخذ بلجام دابته ثم قال الله أكبر أشركت كما أشرك أبوك من قبل وطعنه بمغول في أصل فخده فقطع الفخذ إلى العظم فاعتنقه الحسن وخرا جميعا فاجتمع الناس على الجراح فوطؤه حتى قتلوه ثم حمل الحسن على سرير فأتي به المدائن فلم يزل يعالج بها في منزل سعد بن مسعود الثقفي حتى صلحت جراحته ثم انصرف إلى المدينة فلم يزل جريحا من طعنته كاظما لغيظه متجرعا لريقه على الشجا والأذى من أهل دعوته حتى توفي عليه السلام في آخر صفر سنة سبع وأربعين وهو ابن خمس وأربعين سنة وستة أشهر، وقال بعضهم إنه ولد سنة ثلاث من الهجرة من شهر رمضان. وإمامته ست سنين وخمسة أشهر. وأمه فاطمة بنت رسول الله وأمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب.

فنزلت هذه الفرقة القائلة بإمامة الحسن بن علي بعد أبيه إلى القول بإمامة أخيه الحسين عليهما السلام فلم تزل على ذلك حتى قتل في أيام يزيد بن معاوية قتله عبيد بن زياد الذي يقال له ابن أبي سفيان وهو ابن مرجانة وكان عامل يزيد بن معاوية على العراقين الكوفة والبصرة، فوجه إليه إلى البادية الجيوش فاستقبله بعضها بالبادية فلم يزالوا ماضين حتى وردوا كربلاء فبعث عبيد الله حينئذ عمر بن سعد بن أبي وقاص وجعله على محاربته فقتله عمر بن سعد وقتل عليه السلام بكربلاء يوم الاثنين يوم عاشوراء لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وستين وهو ابن ست وخمسين سنة وخمسة أشهر وأمه فاطمة بنت رسول الله . وكانت إمامته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وخمسة عشر يوما.

فلما قتل الحسين حارت فرقة من أصحابه وقالت قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين لأنه إن كان الذي فعله الحسن حقا واجبا صوابا من موادعته معاوية وتسليمه عند عجره عن القيام بمحاربتة مع كثرة أنصار الحسن وقوتهم فما فعله الحسين من محاربتة يزيد بن معاوية مع قلة أنصار الحسين وضعفهم وكثرة أصحاب يزيد حتى قتل وقتل أصحابه جميعا باطل غير واجب لأن الحسين كان أعذر في القعود عن محاربة يزيد وطلب الصلح والموادعة من الحسن في القعود عن محاربة معاوية، وإن كان ما فعله الحسين حقا واجبا صوابا من مجاهدته يزيد بن معاوية حتى قتل وقتل ولده وأصحابه فقعود الحسن وتركه مجاهدة معاوية وقتاله ومعه العدد الكثير باطل؛ فشكّوا لذلك في إمامتهما ورجعوا فدخلوا في مقالة العوام، وبقي سائر أصحاب الحسين على القول الأول بإمامته حتى مضى.

ثم افترقوا بعده ثلاث فرق:

ففرقة قالت بإمامة محمد بن الحنفية وزعمت أنه لم يبق بعد الحسن والحسين أحد أقرب إلى أمير المؤمنين عليه السلام من محمد بن الحنفية فهو أولى الناس بالإمامة كما كان الحسين أولى بها بعد الحسن من ولد الحسن فمحمد هو الإمام بعد الحسين.

وفرقة قالت إن محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى هو الإمام المهدي وهو وصي علي بن أبي طالب عليه السلام ليس لأحد من أهل بيته أن يخالفه ولا يخرج عن إمامته ولا يشهر سيفه إلا بإذنه، وإنما خرج الحسن بن علي إلى معاوية محاربا له بإذن محمد ووادعه وصالحه بإذنه وأن الحسين إنما خرج لقتال يزيد بإذنه ولو خرجا بغير إذنه هلكا وضلا وأن من خالف محمد بن الحنفية كافر مشرك وأن محمدا استعمل المختار بن أبي عبيد على العراقين بعد قتل الحسين وأمره بالطلب بدم الحسين وثأره وقتل قاتليه وطلبهم حيث كانوا وسماه كيسان لكيسه ولما عرف من قيامه ومذهبه فيهم فهم يسمون المختارية ويدعون الكيسانية.

فلما توفي محمد بن الحنفية بالمدينة في المحرم سنة إحدى وثمانين وهو ابن خمس وستين سنة -عاش في زمان أبيه أربعا وعشرين سنة وبقي بعد أبيه إحدى وأربعين سنة، وأمه خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن يربع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن طيم بن علي بن بكر بن وائل، وإليها كان محمد ينسب- تفرق أصحابه فصاروا ثلاث فرق:

فرقة قالت إن محمد بن الحنفية هو المهدي، سماه علي عليه السلام مهديا لم يمت ولا يموت ولا يجوز ذلك ولكنه غاب ولا يدرى أين هو وسيرجع ويملك الأرض ولا إمام بعد غيبته إلى رجوعه، وهم أصحاب أبي كرب ويسمون الكربية. وكان حمزة بن عمارة البربري منهم وكان من أهل المدينة ففارقهم وادعى أنه نبي وأن محمد بن الحنفية هو الله عز وجل تعالى عن ذلك علوا كبيرا وأن حمزة هو الإمام وأنه ينزل عليه سبعة أسباب من السماء فيفتح بهن الأرض ويملكها، فتبعه على ذلك ناس من أهل المدينة وأهل الكوفة، فلعنه أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليه السلام وبرئ منه وكذبه وبرئت منه الشيعة. فاتبعه على رأيه رجلان من نهد يقال لأحدهما صائد وللآخر بيان فكان بيان تبانا يتبن التبن بالكوفة ثم ادعى أن محمد بن علي بن الحسين أوصى إليه، وأخذه خالد بن عبد الله القسري هو وخمسة عشر رجلا من أصحابه فشدهم بأطنان القصب وصب عليهم النفط في مسجد الكوفة وألهب فيهم النار فأفلت منهم رجل فخرج بنفسه ثم التفت فرأى أصحابه تأخذهم النار فكر راجعا إلى أن ألقى نفسه في النار فاحترق معهم. وكان حمزة بن عمارة نكح ابنته وأحل جميع المحارم وقال من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه، فأصحاب أبي كرب وأصحاب صائد وأصحاب بيان ينتظرون رجوعهم ورجوع أصحابه ويزعمون أن محمد بن الحنفية يظهر بنفسه بعد الاستتار عن خلقه، ينزل إلى الدنيا ويكون أمير المؤمنين وهذه آخرتهم.

وفرقة قالت إن محمد بن الحنفية حي لم يمت وانه مقيم بجبال رضوى بين مكة والمدينة تغذوه الآرام، تغدو عليه وتروح فيشرب من ألبانها ويأكل من لحومها، وعن يمينه أسد وعن يساره أسد يحفظانه إلى أوان خروجه ومجيئه وقيامه وقال بعضهم عن يمينه أسد وعن يساره نمر. وهو عندهم الإمام المنتظر الذي بشر به النبي أنه «يملأ الأرض عدلا وقسطا» فثبتوا على ذلك حتى فنوا وانقرضوا إلا قليلا من أبنائهم وهم إحدى فرق الكيسانية.

ومن الكيسانية السيد إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري الشاعر، وهو الذي يقول:

يا شعب رضوى ما لمن بك لا يرى ** حتى متى تحمى وأنت قريب

يا ابن الوصي ويا سمي محمد ** وكنيه نفسي عليك تذوب

لو غاب عنا عمر نوح أيقنت ** منا النفوس بأنه سيؤب

ويقول فيه أيضا:

ألا حي المقيم بشعب رضوى ** وأهد له بمنزله السلاما

أضر بمعشر والوك منا ** وسموك الخليفة والإماما

وعادوا فيك أهل الأرض طرا ** مقامك عنهم سبعين عاما

لقد أمسى بجانب شعب رضوى ** تراجعه الملائكة الكلاما

وما ذاق ابن خولة طعم موت ** ولا وارت له أرض عظاما

وإن له به لمقيل صدق ** وأندية تحدثه كراما

وقد روى قوم أن السيد ابن محمد رجع عن قوله هذا وقال بإمامة جعفر بن محمد عليه السلام وقال في توبته ورجوعه في قصيدة أولها: تجعفرت باسم الله والله أكبر. وكان السيد يكنى أبا هاشم.

وفرقة منهم قالت إن محمد بن الحنفية مات والإمام بعده عبد الله بن محمد ابنه، وكان يكنى أبا هاشم وهو أكبر ولده وإليه أوصى أبوه فسميت هذه الفرقة الهاشمية بأبي هاشم.

وقالت فرقة مثل قول الكيسانية في أبيه بأنه المهدي وأنه حي لم يمت وأنه يحيي الموتى، وغلوا فيه.

فلما توفي أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية تفرق أصحابه أربع فرق:

ففرقة منهم قالت: مات عبد الله بن محمد وأوصى إلى أخيه علي بن محمد -وكانت أمه قضاعية تسمى أم عثمان بنت أبي جدير بن عبدة بن معتب بن الجد بن العجلان بن حارثة بن ضبيعة بن حرام بن جعل بن عمرو بن جثم بن ودم بن ذبيان بن هميم بن ذهل بن هني بن بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وأن الذين ذكروا أنه أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب- غلطوا في الاسم فأوصى علي بن محمد إلى ابنه الحسن، وأمه أم ولد، وأوصى الحسن إلى ابنه علي بن الحسن وأمه لبانة بنت أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأوصى علي بن الحسن إلى ابنه الحسن بن علي وأمه علية بنت عون بن علي بن محمد بن الحنفية، والوصية عندهم في ولد محمد بن الحنفية لا تخرج إلى غيرهم ومنهم يكون القائم المهدي، وهم الكيسانية الخلص الذين غلبوا على هذا الاسم. وهذه الفرقة خاصة تسمى المختارية.

إلا أنه خرجت منهم فرقة فقطعوا الإمامة بعد ذلك من عقبه وزعموا أن الحسن مات ولم يوص إلى أحد ولا وصي بعده ولا إمام حتى يرجع محمد بن الحنفية فيكون هو القائم المهدي.

وفرقة قالت أوصى أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الخارج بالكوفة، وأمه أم عون بنت عون بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وهو يومئذ غلام صغير فدفع الوصية إلى صالح بن مدرك وأمره أن يحفظها حتى يبلغ عبد الله بن معاوية فيدفعها إليه فهو الإمام وهو العالم بكل شيء، حتى غلوا فيه وقالوا إن الله عز وجل نور وهو في عبد الله بن معاوية. وهؤلاء أصحاب عبد الله بن الحارث فهم يسمون الحارثية. وكان ابن الحارث هذا من أهل المدائن. فهم كلهم غلاة يقولون من عرف الإمام فليصنع ما شاء. وعبد الله بن معاوية هو صاحب أصفهان الذي قتله أبو مسلم في جيشه.

وفرقة قالت أوصى عبد الله بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب لأنه مات عنده بأرض الشراة بالشام وأنه دفع إليه الوصية إلى أبيه علي بن عبد الله بن العباس، وذلك أن محمد بن علي كان صغيرا عند وفاة أبي هاشم وأمره أن يدفعها إليه إذا بلغ فلما بلغ دفعها إليه فهو الإمام وهو الله عز وجل وهو العالم بكل شيء فمن عرفه فليصنع ما شاء، وهؤلاء غلاة الروندية. واختصم أصحاب عبد الله بن معاوية وأصحاب محمد بن علي في وصية أبي هاشم فرضوا برجل منهم يكنى أبا رياح وكان من رؤسهم وعلمائهم فشهد أن أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية أوصى إلى محمد بن علي بن العباس فرجع جل أصحاب عبد الله بن معاوية إلى القول بإمامة محمد بن علي وقويت الروندية بهم.

وفرقة قالت إن الإمام القائم المهدي هو أبو هاشم وولي الخلق ويرجع فيقوم بأمور الناس ويملك الأرض ولا وصي بعده، وغلوا فيه وهم البيانية أصحاب بيان النهدي وقالوا إن أبا هاشم نبئ بيانا عن الله عز وجل، فبيان نبي، وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل: {هذا بيان للناس وهدى} وادعى بيان بعد وفاة أبي هاشم النبوة وكتب إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين يدعوه إلى نفسه والإقرار بنبوته ويقول له: أسلم تسلم وترتق في سلم وتنج وتغنم فإنك لا تدري أين يجعل الله النبوة والرسالة وما على الرسول إلا البلاغ وقد أعذر من أنذر. فأمر أبو جعفر محمد بن علي رسول بيان فأكل قرطاسه الذي جاء به وقتل بيان على ذلك وصلب وكان اسم رسوله عمر بن أبي عفيف الأزدي.

فلما قتل أبو مسلم عبد الله بن معاوية في حبسه افترقت فرقته بعده ثلاث فرق وقد كان مال إلى عبد الله بن معاوية شُذاذ صنوف الشيعة برجل من أصحابه يقال له عبد الله بن الحارث وكان أبوه زنديقا من أهل المدائن فأبرز لأصحاب عبد الله فأدخلهم في الغلو والقول بالتناسخ والأظلة والدور وأسند ذلك إلى جابر بن عبد الله الأنصاري ثم إلى جابر بن يزيد الجعفي فخدعهم بذلك حتى ردهم عن جميع الفرائض والشرائع والسنن وادعى أن هذا مذهب جابر بن عبد الله وجابر بن يزيد، رحمهما الله فإنهما قد كانا من ذلك بريئين.

وفرقة منهم قالت إن عبد الله بن معاوية حي لم يمت وأنه مقيم في جبال أصفهان لا يموت أبدا حتى يقود نواصيها إلى رجل من بني هاشم من ولد علي وفاطمة.

وفرقة قالت إن عبد الله بن معاوية هو القائم المهدي الذي بشر به النبي أنه يملك الأرض ويملأها قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا، ثم يسلم عند وفاته إلى رجل من بني هاشم من ولد علي بن أبي طالب عليه السلام فيموت حينئذ.

وفرقة قالت إن عبد الله بن معاوية قد مات ولم يوص وليس بعده إمام، فتاهوا وصاروا مذبذبين بين صنوف الشيعة وفرقها لا يرجعون إلى أحد، فالكيسانية كلها لا إمام لها وإنما ينتظرون الموتى إلا العباسية فإنها تثبت الإمامة في ولد العباس وقادوها فيهم إلى اليوم. فهذه فرق الكيسانية والعباسية والحارثية. ومنهم تفرقت فرق الخرمدينية ومنهم كان بدء الغلو في القول حتى قالوا إن الأئمة آلهة وإنهم أنبياء وإنهم رسل وإنهم ملائكة، وهم الذين تكلموا بالأظلة وفي التناسخ في الأرواح وهم أهل القول بالدور في هذه الدار وإبطال القيامة والبعث والحساب، وزعموا أن لا دار إلا الدنيا وأن القيامة إنما هي خروج الروح من بدن ودخوله في بدن آخر غيره إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا وأنهم مسرورون في هذه الأبدان أو معذبون فيها والأبدان هي الجنات وهي النار وأنهم منقولون في الأجسام الحسنة الإنسية المنعمة في حياتهم ومعذبون في الأجسام الردية المشوهة من كلاب وقردة وخنازير وحيات وعقارب وخنافس وجعلان، محولون من بدن الى بدن معذبون فيها هكذا أبد الأبد فهي جنتهم ونارهم، لا قيامة ولا بعث ولا جنة ولا نار غير هذا على قدر أعمالهم وذنوبهم وإنكارهم لأئمتهم ومعصيتهم لهم فإنما تسقط الأبدان وتخرب إذ هي مساكنهم فتتلاشى الأبدان وتفنى وترجع الروح في قالب آخر منعم أو معذب وهذا معنى الرجعة عندهم، وإنما الأبدان قوالب ومساكن بمنزلة الثياب التي يلبسها الناس فتبلى وتطرح ويلبس غيرها وبمنزلة البيوت يعمرها الناس فإذا تركوها وعمروا غيرها خربت والثواب والعقاب على الأرواح دون الأجساد وتأولوا في ذلك قول الله تعالى: {في أي صورة ما شاء ركبك} وقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} وقوله عز وجل: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} فجميع الطير والدواب والسباع كانوا أمما ناسا خلت فيهم نذر من الله عز وجل واتخذ بهم عليهم الحجة فمن كان منهم صالحا جعل روحه بعد وفاته وإخراب قالبه وهدم مسكنه إلى بدن صالح فأكرمه ونعمه ومن كان منهم كافرا عاصيا نقل روحه إلى بدن خبيث مشوه يعذبه فيه بالدنيا وجعل قالبه في أقبح صورة ورزقه أنتن رزق وأقذره، وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن} فكذب الله تعالى هؤلاء ورد عليهم قولهم لمعصيتهم إياه فقال: {كلا بل لا تكرمون اليتيم} وهو النبي ، {ولا تحاضون على طعام المسكين} وهو الإمام {وتأكلون التراث أكلا لما} لا تخرجون حق الإمام مما رزقكم وأجراه لكم.

ومنهم فرقة تسمى المنصورية وهم أصحاب أبي منصور وهو الذي ادعى أن الله عز وجل عرج به إليه فأدناه منه وكلمه ومسح يده على رأسه وقال له بالسرياني: أي بني وذكر أنه نبي ورسول وأن الله اتخذه خليلا. وكان أبو منصور هذا من أهل الكوفة من عبد القيس وله فيها دار وكان منشؤه بالبادية وكان أميا لا يقرأ فادعى بعد وفاة أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أنه فوض إليه أمره وجعله وصيه من بعده ثم ترقى به الأمر إلى أن قال كان علي بن أبي طالب عليه السلام نبيا ورسولا وكذا الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وأنا نبي ورسول والنبوة في ستة من ولدي يكونون بعدي أنبياء آخرهم القائم وكان يأمر أصحابه بخنق من خالفهم وقتلهم بالاغتيال ويقول من خالفكم فهو كافر مشرك فاقتلوه فإن هذا جهاد خفي، وزعم أن جبرئيل عليه السلام يأتيه بالوحي من عند الله عز وجل وأن الله بعث محمدا بالتنزيل وبعثه هو -يعني نفسه- بالتأويل فطلبه خالد بن عبد الله القسري فأعياه ثم ظفر عمر الخناق بابنه الحسين بن أبي منصور وقد تنبأ وادعى مرتبة أبيه وجبيت إليه الأموال وتابعه على رأيه ومذهبه بشر كثير وقالوا بنبوته فبعث به للمهدي فقتله في خلافته وصلبه بعد أن اقر بذلك وأخذ منه مالا عظيما وطلب أصحابه طلبا شديدا وظفر بجماعة منهم فقتلهم وصلبهم.

فهؤلاء صنوف الغالية من أصحاب عبد الله بن معاوية والعباسية الروندية وغيرهم، غير أن أصحاب عبد الله بن معاوية يزعمون أنهم يتعارفون في انتقالهم في كل جسد صاروا فيه على ما كانوا عليه مع نوح عليه السلام في السفينة ومع النبي ويزعمون في كل عصر وزمانه ويسمون أنفسهم بأسماء أصحاب النبي ويزعمون أن أرواحهم فيهم ويتأولون في ذلك قول علي بن أبي طالب عليه السلام وقد روي أيضا عن النبي أن: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» فنحن نتعارف كما قال علي عليه السلام وكما روي عن النبي . وقال بعضهم بالتناسخ وتنقل الأرواح مدة ووقت وهو أن كل دور في الأبدان الإنسية فذلك للمؤمنين خاصة فتحول إلى الدواب للنزهة مثل الأفراس والشهاري وفي غيرها مما يكون لمواكب الملوك والخلفاء على قدر أديانهم وطاعتهم لأئمتهم فيحسن إليها في علفها وإمساكها وتجليلها بالديباج وغيره من الجلال النظيفة المرتفعة والسروج المحلاة وكذلك ما كان منها لأوساط الناس والعوام فإنما ذلك على قدر إيمانهم فتمكث في ذلك الانتقال ألف سنة ثم تحول إلى الأبدان الإنسية عشرة آلاف سنة وإنما ذلك امتحان لها لكيلا يدخلهم العجب فتزول طاعتهم وأما الكفار والمشركون والمنافقون والعصاة فينتقلون في الأبدان المشوهة الوحشة عشرة آلاف سنة ما بين الفيل والجمل إلى البقة الصغيرة وتأولوا في ذلك قول الله عز وجل: {حتى يلج الجمل في سم الخياط} ونحن نعلم ما هو في خلق الجمل وما كان مثله من الخلق لا يقدر أن يلج في سم الخياط وقول الله لا يكذب ولابد من أن يكون ذلك ولا يتهيأ إلا بنقصان خلقه وتصغيره في كل دور حتى يرجع الفيل والجمل إلى حد البقة الصغيرة فتدخل حينئذ في سم الخياط فإذا خرج من سم الخياط رد إلى الأبدان الإنسية ألف سنة فصار في الخلق الضعيف المحتاج وكلف الأعمال والتعب وطلب المكسب بالمشقة فبين دباغ وحجام وكناس وغير ذلك من الصناعات المذمومة القذرة على قدر معاصيهم فيمتحنون في هذه الأجسام بالإيمان بالأئمة والرسل والأنبياء ومعرفتهم فلا يؤمنون ويكذبون ولا يعرفون فلا يزالون متنقلين في هذه الأبدان الإنسية على هذه الحال من حال إلى حال ألف سنة ثم يردون بعد ذلك العذاب إلى الأمر الأول عشرة آلاف سنة فهذه حالهم أبد الآبدين ودهر الداهرين هذه قيامتهم وبعثهم وهذه جنتهم ونارهم وهذه الرجعة عندهم لا رجوع بعد الموت والقوالب تفنى وتتلاشى ولا تعود ولا ترد أبدا.

وقالت الزيدية والمغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد لا ننكر لله قدرة ولا نؤمن بالرجعة ولا نكذب بها وإن شاء الله تعالى أن يفعل فعل.

وقالت الكيسانية يرجع الناس في أجسامهم التي كانوا فيها ويرجع محمد وجميع النبيين فيؤمنون به ويرجع علي بن أبي طالب فيقتل معاوية بن أبي سفيان وآل أبي سفيان ويهدم دمشق ويغرق البصرة.

وأما أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع الأسدي ومن قال بقولهم فإنهم افترقوا لما بلغهم أن أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام لعنه وبرئ منه ومن أصحابه فصاروا أربع فرق، وكان أبو الخطاب يدعي أن أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام جعله قيمه ووصيه من بعده وعلمه اسم الله الأعظم ثم ترقى إلى أن ادعى النبوة ثم ادعى الرسالة ثم ادعى أنه من الملائكة وأنه رسول الله إلى أهل الأرض والحجة عليهم.

ففرقة منهم قالت إن أبا عبد الله جعفر بن محمد هو الله جل وعز وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وأن أبا الخطاب نبي مرسل أرسله جعفر وأمر بطاعته وأحلوا المحارم من الزنا والسرقة وشرب الخمر وتركوا الزكاة والصلاة والصيام والحج وأباحوا الشهوات بعضهم لبعض وقالوا من سأله أخوه ليشهد له على مخالفيه فليصدقه ويشهد له فإن ذلك فرض عليه واجب وجعلوا الفرائض رجالا سموهم والفواحش والمعاصي رجالا وتأولوا على ما استحلوا قول الله عز وجل: {يريد الله أن يخفف عنكم} وقالوا خفف عنا بأبي الخطاب ووضع عنا الأغلال والآصار يعنون الصلوة والزكاة والصيام والحج فمن عرف الرسول النبي الإمام فليصنع ما أحب.

وفرقة قالت: بزيع نبي رسول مثل أبي الخطاب أرسله جعفر بن محمد وشهد بزيع لأبي الخطاب بالرسالة، وبرئ أبو الخطاب وأصحابه من بزيع.

وفرقة قالت: السري رسول مثل أبي الخطاب أرسله جعفر وقال إنه قوي أمين وهو موسى {القوي الأمين} وفيه تلك الروح وجعفر هو الإسلام والإسلام هو السلام وهو الله عز وجل ونحن بنو الإسلام كما قالت اليهود: {نحن أبناء الله وأحباؤه} وقد قال رسول الله : "سلمان ابن الإسلام"، فدعوا إلى نبوة السري ورسالته وصلوا وصاموا وحجوا لجعفر بن محمد ولبوا له فقالوا لبيك يا جعفر لبيك.

وفرقة قالت جعفر بن محمد هو الله عز وجل وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما هو نور يدخل في أبدان الأوصياء فيحل فيها، فكان ذلك النور في جعفر ثم خرج منه فدخل في أبي الخطاب فصار جعفر من الملائكة ثم خرج من أبي الخطاب فدخل في معمر وصار أبو الخطاب من الملائكة فمعمر هو الله عز وجل، فخرج ابن اللبان يدعو إلى معمر وقال إنه الله عز وجل وصلى له وصام وأحل الشهوات كلها ما أحل منها وما حرم وليس عنده شيء محرم وقال لم يخلق الله هذا إلا لخلقه فكيف يكون محرما وأحل الزنا والسرقة وشرب الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير ونكاح الأمهات والبنات والأخوات ونكاح الرجال. ووضع عن أصحابه غسل الجنابة وقال كيف أغتسل من نطفة خلقت منها. وزعم أن كل شيء أحله الله في القرآن وحرمه فإنما هو أسماء رجال فخاصمه قوم من الشيعة وقال لهم إن اللذين زعمتم أنهما صارا من الملائكة قد برئا من معمر وبزيع وشهدا عليهما أنهما كافران شيطانان وقد لعناهما فقالوا إن الذين ترونهما جعفرا وأبا الخطاب شيطانان تمثلا في صورة جعفر وأبي الخطاب يصدان الناس عن الحق، وجعفر وأبو الخطاب ملكان عظيمان عند الإله الأعظم إله السماء، ومعمر إله الأرض وهو مطيع لإله السماء يعرف فضائله وقدره. فقالوا لهم كيف يكون هذا ومحمد لم يزل مقرا بأنه عبد الله وأن الهه وإله الخلق أجمعين إله واحد وهو الله وهو رب السماء والأرض وإلهما لا إله غيره فقالوا إن محمد كان يوم قال هذا عبدا رسولا أرسله أبو طالب وكان النور الذي هو الله في عبد المطلب ثم صار في أبي طالب ثم صار في محمد ثم صار في علي بن أبي طالب عليه السلام فهم آلهة كلهم قالوا لهم كيف هذا وقد دعا محمد أبا طالب إلى الإسلام والإيمان فامتنع أبو طالب من ذلك وقد قال النبي : "إني مستوهبه من ربي وإنه واهبه لي" قالوا إن محمدا وأبا طالب كانا يسخران بالناس قال الله عز وجل: {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} وقال تعالى: {فيسخرون منهم سخر الله منهم} وأبو طالب هو الله عز وجل وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فلما مضى أبو طالب خرجت الروح وسكنت في محمد وكان هو الله عز وجل في الحق وكان علي بن أبي طالب هو الرسول فلما مضى محمد خرجت منه الروح وصارت في علي فلم تزل تتناسخ في واحد بعد واحد حتى صارت في معمر.

فهذه فرق أهل الغلو ممن انتحل التشيع وإلى الخرمدينية والمزدكية والزنديقية والدهرية مرجعهم جميعا لعنهم الله. وكلهم متفقون على نفي الربوبية عن الجليل الخالق تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا وإثباتها في بدن مخلوق مأوف على أن البدن مسكن لله وأن الله تعالى نور وروح ينتقل في هذه الأبدان - تعالى الله عن ذلك - إلا أنهم مختلفون في رؤسائهم الذين يتولونهم يبرأ البعض من بعض ويلعن بعضهم بعضا.

ثم إن الشيعة العباسية الروندية افترقت ثلاث فرق ففرقة منهم يسمون الأبا مسلمية أصحاب أبي مسلم قالوا بإمامته وادعوا أنه حي لم يمت وقالوا بالإباحات وترك جميع الفرائض وجعلوا الإيمان المعرفة لإمامهم فقط فسموا الخرمدينية وإلى أصلهم رجعت فرقة الخرمية.

وفرقة أقامت على ولاية أسلافها وولاية أبي مسلم سرا وهم الرزامية أصحاب رزام وأصلهم مذهب الكيسانية.

وفرقة منهم يقال لها الهريرية أصحاب أبي هريرة الراوندي، وهم العباسية الخلص الذين قالوا الإمامة لعم النبي العباس بن عبد المطلب رحمة الله عليه وتثبت على ولاية أسلافها الأولى سرا، وكرهوا أن يشهدوا على أسلافهم بالكفر وهم مع ذلك يتولون أبا مسلم ويعظمونه وهم الذين غلوا في القول في العباس وولده.

وفرقة منهم قالت إن محمد بن الحنفية كان الإمام بعد أبيه علي بن أبي طالب، فلما مات أوصى إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد فأوصى أبو هاشم إلى محمد بن علي بن العباس بن عبد المطلب لأنه مات عنده بالشام بأرض الشراة فأوصى محمد بن علي إلى ابنه إبراهيم بن محمد المسمى بالإمام وهو أول من عقدت له الإمامة من ولد العباس وإليه دعا أبو مسلم ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد عبد المطلب وهو أول من تخلف من ولد العباس بن عبد المطلب ثم أوصى أبو العباس إلى أخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد فسمي المنصور فلما مضى المنصور أوصى إلى ابنه المهدي محمد بن عبد الله، استخلفه بعده، فردهم المهدي عن إثبات الإمامة لمحمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم وأثبت الإمامة بعد النبي للعباس بن عبد المطلب ودعاهم إليها وقال كان العباس عمه ووارثه وأولى الناس به وإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا عليه السلام وكل من دخل في الخلافة بعد النبي غاصبون متوثبون فأجابوه فعقد الإمامة للعباس بعد رسول الله . وأم العباس نتيلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد بن مناة بن الضحيان وهو عامر بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط. ثم عقدها بعد العباس لعبد الله بن العباس وأمه أم الفضل وقثم وعبيد الله وعبد الرحمن واسمها لبابة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن روبية بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة. ثم عقدها بعد عبد الله لعلي بن عبد الله المعروف بالسجاد وكان متعبدا وأمه زرعة بنت مشرح بن معد يكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية بن عمرو بن حجر بن الولادة الحارث بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن كندة. ثم عقدها بعد لإبراهيم بن محمد الإمام وأمه أم ولد يقال لها فاطمة فعقدها بعد إبراهيم لأخيه عبد الله أبي العباس وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان بن قطن بن زياد بن الحرث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحرث بن كعب. ثم عقدها لأخيه عبد الله أبي جعفر المنصور وأمه ولد بربرية يقال لها سلامة. وكان أبو العباس جعل ولاية العهد لأخيه أبي جعفر ولابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن العباس فخالفه عبد الله بن علي بن عبد الله فادعى الإمامة ووصية أبي العباس فقاتله أبو مسلم فهزمه فهرب وتوارى بالبصرة فأخذه بعد ذلك بأمان، وهو صاحب عبد الله بن المقفع الزنديق، فقتل قتله المنصور. فلما اطمأنت الخلافة للمنصور واستوى أمره وقوي وقتل أبا مسلم وكبر ابنه محمد بن عبد الله سماه المهدي وبايع له وقدمه على عيسى بن موسى وجعل عيسى بعده وأعطى عيسى على ذلك عشرين ألف درهم. فافترقت حينئذ شيعته واضطربت وأنكرت ما كان منه وأبوا قبول بيعة المهدي وقالوا لأصحابهم من أين جاز لكم متابعة المهدي وتأخير عيسى بن موسى وقد عقد له أبو العباس العهد بعد المنصور فقالوا من قِبل أمر أمير المؤمنين المنصور لنا بذلك وهو الإمام الذي قد افترض الله طاعته قالوا فإن أبا العباس كان مفترض الطاعة من الله قبله وهو أمر ببيعة أبي جعفر العباس وبيعة عيسى بن موسى بعده فكيف جاز لكم تأخيره وتقديم المهدي بين يديه قالوا إنما الطاعة للإمام ما دام حيا فإذا مات وقام غيره كان الأمر أمر القائم ما دام حيا قالوا أفرأيتم إن مات أمير المؤمنين المنصور والمهدي حي وعيسى بن موسى حي فأنكر الناس أمر أمير المؤمنين في بيعة المهدي كما أنكرتم أنتم أمر أبي العباس في بيعة عيسى بن موسى هل يجوز ذلك قالوا لا يجوز ذلك وقد بويع له قالوا فكيف جاز لكم أن تؤخروا عيسى وتقدموا المهدي ولم تكونوا بايعتم له فثبتوا على إمامة عيسى بن موسى وأنكروا إمامة المهدي وأجروها في ولد عيسى إلى اليوم وأم عيسى بن موسى أم ولد فلما حضرت المهدي الوفاة عقد الإمامة لابنه موسى وسماه الهادي وجعل ابنه هارون بعده وسماه الرشيد وأسقط عيسى. وأم المهدي أم موسى بنت منصور بن عبد الله بن شمر بن يزيد بن وارد بن معد يكرب بن الوازع بن ذي عيش بن ونج بن وصاة بن عبد الله بن سميع بن الحرث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وأم الهادي والرشيد أم ولد يقال لها الخيزران.

ومن العباسية فرقتان قالتا بالغلو في ولد العباس رحمة الله عليه فرقة منها تسمى الهاشمية وهم أصحاب أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية قالت إن الإمام عالم يعلم كل شيء وهو بمنزلة النبي في جميع أموره ومن لم يعرفه لم يعرف الله وليس بمؤمن بل هو كافر مشرك. وقادوا الإمامة عن أبي هاشم إلى ولد العباس.

وفرقة قالت الإمام عالم بكل شيء وهو الله -عز وجل وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- ويحيي ويميت، وأبو مسلم نبي مرسل يعلم الغيب أرسله أبو جعفر المنصور وهم من الروندية أصحاب عبد الله الروندي. وشهدوا أن المنصور هو الله جل الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا فإنه يعلم سرهم ونجواهم وأعلنوا القول بذلك ودعوا اليه فبلغ قولهم المنصور فأخذ منهم جماعة فأقروا بذلك فاستتابهم وأمرهم بالرجوع عن قولهم ذلك فقالوا المنصور ربنا وهو يقتلنا شهداء كما قتل أنبيائه ورسله على يدي من شاء من خلقه وأمات بعضهم بالهدم والغرق وسلط على بعضهم السباع وقبض أرواح بعضهم فجأة وبالعلل وكيف شاء وذلك له يفعل ما يشاء بخلقه لا يسئل عما يفعل فثبتوا على ذلك إلى اليوم وادعوا أن أسلافهم مضوا على هذا القول ولكنهم كتموه عن الناس وكان ذلك ذنبا منهم يتوب الله منه عليهم وليس هو بمخرجهم من الإيمان ولا من طاعة إمامهم.

وأما الشيعة العلوية الذين قالوا بفرض الإمامة لعلي بن أبي طالب عليه السلام من الله ومن رسوله فإنهم ثبتوا على إمامته ثم إمامة الحسن من بعده ثم إمامة الحسين بعد الحسن، ثم افترقوا بعد قتل الحسين عليه السلام فرقا.

فنزلت فرقة إلى القول بإمامة علي بن الحسين وكان يكنى بأبي محمد ويكنى بأبي بكر وهي كنيته الغالبة عليه فلم تزل مقيمة على إمامته حتى توفي بالمدينة في المحرم في أول سنة أربع وتسعين وهو ابن خمس وخمسين سنة. وكان مولده في سنة ثمان وثلاثين. وأمه أم ولد يقال لها سلافة وكانت تسمى قبل أن تسبى جهانشاه وهي ابنة يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز بن هرمز وكان يزدجرد آخر ملوك فارس.

وفرقة قالت انقطعت الإمامة بعد الحسين إنما كانوا ثلاثة أئمة مسمين بأسمائهم استخلفهم رسول الله وأوصى إليهم وجعلهم حججا على الناس وقواما بعده واحدا بعد واحد فلم يثبتوا إمامة لأحد بعدهم.

وفرقة قالت إن الإمامة صارت بعد مضي الحسين في ولد الحسن والحسين فهي فيهم خاصة دون سائر ولد علي بن أبي طالب وهم كلهم فيها شرع سواء من قام منهم ودعا لنفسه فهو الإمام المفروض الطاعة بمنزلة علي بي أبي طالب واجبة إمامته من الله عز وجل على أهل بيته وسائر الناس كلهم فمن تخلف عنه في قيامه ودعائه إلى نفسه من جميع الخلق فهو هالك كافر، ومن ادعى منهم الإمامة وهو قاعد في بيته مرخي عليه ستره فهو كافر مشرك، وكل من اتبعه على ذلك وكل من قال بإمامته وهم الذين سموا السرحوبية وأصحاب أبي خالد الواسطي واسمه يزيد وأصحاب فضيل بن الزبير الرسان وزياد بن المنذر وهو الذي يسمى أبا الجارود ولقبه سرحوبا محمد بن علي بن الحسين بن علي. وذكر أن سرحوبا شيطان أعمى يسكن البحر، وكان أبو الجارود أعمى البصر أعمى القلب. فالتقوا هؤلاء مع الفرقتين اللتين قالتا إن عليا أفضل الناس بعد النبي فصاروا مع زيد بن علي بن الحسين عند خروجه بالكوفة فقالوا بإمامته فسموا كلهم في الجملة الزيدية إلا أنهم مختلفون فيما بينهم في القرآن والسنن والشرائع والفرائض والأحكام.

وذلك أن السرحوبية قالت الحلال حلال آل محمد والحرام حرامهم والأحكام أحكامهم وعندهم جميع ما جاء به النبي كله كامل عند صغيرهم وكبيرهم والصغير منهم والكبير في العلم سواء لا يفضل الكبير الصغير من كان منهم في الخرق والمهد إلى أكبرهم سنا.

وقال بعضهم من ادعى أن من كان منهم في المهد والخرق ليس علمه مثل علم رسول الله فهو كافر بالله مشرك وليس يحتاج أحد منهم أن يتعلم من أحد منهم ولا من غيرهم العلم ينبت في صدورهم كما ينبت الزرع المطر فالله عز وجل قد علمهم بلطفه كيف شاء. وإنما قالوا بهذه المقالة كراهة أن يلزموا الإمامة بعضهم دون بعض فينتقض قولهم إن الإمامة صارت فيهم جميعا فهم فيها شرع سواء. وهم مع ذلك لا يروون عن أحد منهم علما ينتفعون به إلا ما يروون عن أبي جعفر محمد بن علي وأبي عبد الله جعفر بن محمد وأحاديث قليلة عن زيد بن علي وأشياء يسيرة عن عبد الله بن الحسن المحض؛ ليس مما قالوا وادعوه في أيديهم شيء أكثر من دعوى كاذبة لأنهم وصفوهم بأنهم يعلمون كل شيء تحتاج إليه الأمة من أمر دينهم ودنياهم ومنافعها ومضارها بغير تعليم.

وأما سائر فرقهم فإنهم وسعوا الأمر فقالوا العلم مبثوث مشترك فيهم وفي عوام الناس هم والعوام من الناس فيه سواء، فمن أخذ منهم علما لدين أو دنيا مما يحتاج إليه أو أخذه من غيرهم من العوام فموسع له ذلك فإن لم يوجد عندهم ولا عند غيرهم مما يحتاجون إليه من علم دينهم فجائز للناس الاجتهاد والاختيار والقول بآرائهم، وهذا قول الزيدية الأقوياء منهم والضعفاء.

فأما الضعفاء منهم فسموا العجلية وهم أصحاب هارون بن سعيد العجلي.

وفرقة منهم يسمون البترية وهم أصحاب كثير النواء والحسن بن صالح بن حي وسالم بن أبي حفصة والحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل وأبي المقدام ثابت الحداد. وهم الذين دعوا الناس إلى ولاية علي عليه السلام ثم خلطوها بولاية أبي بكر وعمر، فهم عند العامة أفضل هذه الأصناف وذلك أنهم يفضلون عليا ويثبتون إمامة أبي بكر وينتقصون عثمان وطلحة والزبير ويرون الخروج مع كل من ولد علي عليه السلام يذهبون في ذلك إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويثبتون لمن خرج من ولد علي الامامة عند خروجه ولا يقصدون في الإمامة قصد رجل بعينه حتى يخرج، كل ولد علي عندهم على السواء من أي بطن كان.

وأما الأقوياء فمنهم أصحاب أبي الجارود وأصحاب أبي خالد الواسطي وأصحاب فضيل الرسان ومنصور بن أبي الأسود.

وأما الزيدية الذين يدعون الحسينية فإنهم يقولون من دعا إلى الله عز وجل من آل محمد فهو مفترض الطاعة، وكان علي بن أبي طالب إماما في وقت ما دعا الناس وأظهر أمره، ثم كان بعده الحسين إماما عند خروجه وقبل ذلك إذ كان مجانبا لمعاوية ويزيد بن معاوية حتى قتل، ثم زيد بن علي بن الحسين المقتول بالكوفة، أمة أم ولد، ثم يحيى بن زيد بن علي المقتول بخراسان، وأمه ريطة بنت أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، ثم ابنه الآخر عيسى بن زيد بن علي، وأمه أم ولد، ثم محمد بن عبد الله بن الحسن وأمه هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي. ثم من دعا إلى طاعة الله من آل محمد فهو إمام.

وأما المغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد فإنهم نزلوا معهم إلى القول بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن وتولوه وأثبتوا إمامته فلما قتل صاروا لا إمام لهم ولا وصي، ولا يثبتون لأحد إمامة بعده.

وأما الذين أثبتوا الإمامة لعلي بن أبي طالب ثم للحسن ثم للحسين ثم لعلي بن الحسين عليه السلام ثم نزلوا إلى القول بإمامة أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين باقر العلم فأقاموا على إمامته إلى أن توفي غير نفر يسير منهم فإنهم سمعوا رجلا منهم يقال له عمر بن رياح زعم أنه سأل أبا جعفر عن مسألة فأجابه فيها بجواب ثم عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجابه فيها بخلاف الجواب الأول فقال لأبي جعفر: هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي، فقال له: إن جوابنا ربما خرج على وجه التقية، فشكك في أمره وإمامته فلقي رجلا من أصحاب أبي جعفر يقال له محمد بن قيس فقال له: إني سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني فيها بجواب ثم سألته عنها في عام آخر فأجابني فيها بخلاف جوابه الأول فقلت له لم فعلت ذلك فقال فعلته للتقية وقد علم الله أني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يفتيني به وقبوله والعمل به فلا وجه لاتقائه إياي وهذه حالي، فقال له محمد بن قيس: فلعله حضرك من اتقاه؟ فقال: ما حضر مجلسه في واحدة من المسألتين غيري لا ولكن جوابيه جميعا خرجا على وجه التبخيت ولم يحفظ ما أجاب به في العام الماضي فيجيب بمثله. فرجع عن إمامته وقال لا يكون إماما من يفتي بالباطل على شيء بوجه من الوجوه ولا في حال من الأحوال ولا يكون إماما من يفتي تقية بغير ما يجب عند الله ولا من يرخي ستره ويغلق بابه ولا يسع الإمام إلا الخروج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمال بسببه إلى قول البترية ومال معه نفر يسير.

وبقي سائر أصحاب أبي جعفر عليه السلام على القول بإمامته حتى توفي وذلك في ذي الحجة سنة أربع عشرة ومائة وهو ابن خمس وخمسين سنة وأشهر ودفن بالمدينة في القبر الذي دفن فيه أبوه علي بن الحسين عليه السلام. وكان مولده سنة تسع وخمسين وقال بعضهم إنه توفي في سنة تسع عشرة ومائة وهو ابن ثلاث وستين سنة وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أي طالب وأمها أم ولد يقال لها صافية وكانت إمامته إحدى وعشرين سنة وقال بعضهم بل كانت أربعا وعشرين سنة.

فلما توفي أبو جعفر عليه السلام افترقت أصحابه فرقتين:

فرقة منهما قالت بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الخارج بالمدينة المقتول بها، وزعموا أنه القائم وأنه الإمام المهدي و[أنكروا] أنه قتل وقالوا إنه حي لم يمت مقيم بجبل يقال له العلمية وهو الجبل الذي في طريق مكة نجد، الحاجز عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة وهو الجبل الكبير وهو عنده مقيم فيه حتى يخرج لأن رسول الله قال: "القائم المهدي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي" وكان أخوه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن خرج بالبصرة ودعا إلى إمامة أخيه محمد بن عبد الله واشتدت شوكته فبعث إليه المنصور بالخيل فقتل بعد حروب كانت بينهم. وكان المغيرة بن سعيد قال بهذا القول لما توفي أبو جعفر محمد بن علي وأظهر المقالة بذلك فبرئت منه الشيعة أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام ورفضوه، فزعم أنهم رافضة وأنه هو الذي سماهم بهذا الاسم. ونصب بعض أصحاب المغيرة المغيرة إماما وزعم أن الحسين بن علي أوصى إليه ثم أوصى إليه علي بن الحسين ثم زعم أن أبا جعفر محمد بن علي -عليه السلام وعلى آبائه السلام- أوصى إليه فهو الإمام إلى أن يخرج المهدي، وأنكروا إمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد وقالوا: لا إمامة في بني علي بن أبي طالب بعد أبي جعفر محمد بن علي وأن الإمامة في المغيرة بن سعيد إلى خروج المهدي وهو عندهم محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن وهو حي لم يمت ولم يقتل، فسموا هؤلاء المغيرية باسم المغيرة بن سعيد مولى خالد بن عبد الله القسري. ثم تراقى الأمر بالمغيرة إلى أن زعم أنه رسول نبي وأن جبرئيل يأتيه بالوحي من عند الله فأخذه خالد بن عبد الله القسري فسأله عن ذلك فأقر به ودعا خالدا إليه، فاستتابه خالد فأبى أن يرجع عن قوله فقتله وصلبه. وكان يدعي أنه يحيي الموتى، وقال بالتناسخ وكذلك قول أصحابه إلى اليوم.

وأما الفرقة الأخرى من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي فنزلت إلى القول بإمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد، فلم تزل ثابتة على إمامته أيام حياته غير نفر منهم يسير، فإنهم لما أشار جعفر بن محمد إلى إمامة ابنه إسماعيل ثم مات إسماعيل في حياة أبيه رجعوا عن إمامة جعفر وقالوا كذبنا ولم يكن إماما لأن الإمام لا يكذب ولا يقول ما لا يكون، وحكوا عن جعفر أنه قال إن الله عز وجل بدا له في إمامة اسماعيل، فأنكروا البداء والمشيئة من الله وقالوا هذا باطل لا يجوز، ومالوا إلى مقالة البترية ومقالة سليمان بن جرير وهو الذي قال لأصحابه بهذا السبب إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدا وهما القول بالبداء وإجازة التقية، فأما البداء فإن أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعنهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم فيما كان ويكون والإخبار بما يكون في غد وقالوا لشيعتهم إنه سيكون في غد وفي غابر الأيام كذا وكذا فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمته الأنبياء وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا إنه يكون على ما قالوا قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك [فلم] يكونه. وأما التقية فإنه لما كثرت على أئمتهم مسائل شيعنهم في الحلال والحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين فأجابوا فيها وحفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوهم وكتبوه ودونوه ولم يحفظ أئمتهم تلك الأجوبة لتقادم العهد وتفاوت الأوقات لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد ولا في شهر واحد بل في سنين متباعدة وأشهر متباينة وأوقات متفرقة فوقع في أيديهم في المسألة الواحدة عدة أجوبة مختلفة متضادة وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة، فلما وقفوا على ذلك منهم ردوا إليهم هذا الاختلاف والتخليط في جواباتهم وسألوهم عنه وأنكروه عليهم فقالوا: من أين هذا الاختلاف وكيف جاز ذلك؟ قالت لهم أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية ولنا أن نجيب بما أحببنا وكيف شئنا لأن ذلك إلينا ونحن نعلم بما يصلحكم وما فيه بقاؤنا وبقاؤكم وكف عدوكم عنا وعنكم؛ فمتى يظهر من هؤلاء على كذب ومتى يعرف لهم حق من باطل؟ فمال إلى سليمان بن جرير هذا لهذا القول جماعة من أصحاب أبي جعفر وتركوا القول بإمامة جعفر عليهما السلام.

فلما توفي أبو عبد الله جعفر بن محمد افترقت شيعته بعده ست فرق. وتوفي صلوات الله عليه بالمدينة في شوال سنة ثمان وأربعين ومائة وهو ابن خمس وستين، وكان مولده في سنة ثلاث وثمانين ودفن في القبر الذي دفن فيه أبوه وجده في البقيع، وكانت إمامته أربعا وثلاثين سنة غير شهرين وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.

ففرقة منها قالت: إن جعفر بن محمد حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر ويلي أمر الناس وإنه هو المهدي، وزعموا أنهم رووا عنه أنه قال: إن رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوه فإني أنا صاحبكم وأنه قال لهم إن جاءكم من يخبركم عني أنه مرضني وغسلني وكفنني فلا تصدقوه فإني صاحبكم صاحب السيف. وهذه الفرقة تسمى الناووسية وسميت بذلك لرئيس لهم من أهل البصرة يقال له فلان بن فلان الناووس.

وفرقة زعمت أن الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه إسماعيل بن جعفر، وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه وقالوا كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس لأنه خاف فغيبه عنهم. وزعموا أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض يقوم بأمر الناس وأنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده وقلدهم ذلك له وأخبرهم أنه صاحبه والإمام لا يقول إلا الحق، فلما ظهر موته علمنا أنه قد صدق وأنه القائم وأنه لم يمت. وهذه الفرقة هي الإسماعيلية الخالصة. وأم إسماعيل وعبد الله ابني جعفر بن محمد فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأمها أم حبيب بنت عمر بن علي بن أبي طالب، وأمها أسماء بنت عقيل بن أبي طالب عليهم السلام.

وفرقة ثالثة زعمت أن الإمام بعد جعفر بن محمد محمد بن إسماعيل بن جعفر وأمه أم ولد، وقالوا إن الأمر كان لإسماعيل في حياة أبيه فلما توفي قبل أبيه جعل جعفر بن محمد الأمر لمحمد بن إسماعيل وكان الحق له ولا يجور غير ذلك لأنها لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسن والحسين عليهما السلام ولا تكون إلا في الأعقاب، ولم يكن لأخوي إسماعيل عبد الله وموسى في الإمامة حق كما لم يكن لمحمد بن الحنفية حق مع علي بن الحسين. وأصحاب هذا القول يسمون المباركية برئيس لهم كان يسمى المبارك مولى إسماعيل بن جعفر.

فأما الإسماعيلية فهم الخطابية أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع، وقد دخلت منهم فرقة في فرقة محمد بن إسماعيل وأقروا بموت إسماعيل بن جعفر في حياة أبيه وهم الذين خرجوا في حياة أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام فحاربوا عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس وكان عاملا على الكوفة فبلغه عنهم أنهم أظهروا الإباحات ودعوا إلى نبوة أبي الخطاب وأنهم مجتمعون في مسجد الكوفة فبعث إليه فحاربوه وامتنعوا عليه وكانوا سبعين رجلا فقتلهم جميعا فلم يفلت منهم إلا رجل واحد أصابته جراحات فعد في القتلى فتخلص وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمال الملقب بأبي خديجة وكان يزعم أنه مات فرجع، فحاربوا عيسى محاربة شديدة بالحجارة والقصب والسكاكين لأنهم جعلوا القصب مكان الرماح، وقد كان أبو الخطاب قال لهم قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا تضركم ولا تخل فيكم فقدمهم عشرة عشرة للمحاربة فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلا قالوا له: ما ترى ما يحل بنا من القوم وما نرى قصبنا يعمل فيهم ولا يؤثر وقد عمل سلاحهم فينا وقتل من ترى منا؟ فذكر لهم ما رواه العامة أنه قال لهم: إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي؟ وقال لهم ما رواه الشيعة: يا قوم قد بليتم وامتحنتم وأذن في قتلكم فقاتلوا على دينكم وأحسابكم ولا تعطوا بلدتكم فتذلوا مع أنكم لا تتخلصون من القتل فموتوا كراما. فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وأسر أبو الخطاب فأتي به عيسى بن موسى فقتله في دار الرزق على شاطئ الفرات وصلبه مع جماعة منهم ثم أمر بإحراقه فأحرقوا وبعث برؤوسهم إلى المنصور فصلبها على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام ثم أحرقت. وقال بعض أصحابه إن أبا الخطاب لم يُقتل ولا قتل أحد من أصحابه وإنما لبس على القوم وشبه عليهم وإنما حاربوا بأمر أبي عبد الله جعفر بن محمد وخرجوا من المسجد لم يرهم واحد ولم يجرح منهم [أحد] وأقبل القوم يقتل بعضهم بعضا على أنهم يقتلوا أصحاب أبي الخطاب وإنما يقتلون أنفسهم حتى جن عليهم الليل فلما أصبحوا نظروا في القتلى فوجدوا القتلى كلهم منهم ولم يجدوا من أصحاب أبي الخطاب قتيلا ولا جريحا، وهؤلاء هم الذين قالوا إن أبا الخطاب كان نبيا مرسلا أرسله جعفر بن محمد ثم إنه صيره بعد ذلك حين حدث هذا الأمر من الملائكة، لعن الله من يقول هذا. ثم خرج من قال بمقالته من أهل الكوفة وغيرهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بعد قتل أبي الخطاب فقالوا بإمامته وأقاموا عليها.

وصنوف الغالية افترقوا بعده على مقالات كثيرة واختلفوا ما في يد سلف أصحابهم ومذاهبهم. فقالت فرقة منهم إن روح جعفر بن محمد جعلت في أبي الخطاب ثم تحولت بعد غيبة أبي الخطاب في محمد بن إسماعيل بن جعفر ثم ساقوا الإمامة في ولد محمد بن إسماعيل وتشعبت منهم فرقة من المباركية ممن قال بهذه المقالة تسمى القرامطة، وإنما سميت بهذا برئيس لهم من أهل السواد من الأنباط كان يلقب قرمطوية كانوا في الأصل على مقالة المباركية ثم خالفوهم فقالوا لا يكون بعد محمد النبي إلا سبعة أئمة علي بن أبي طالب وهو إمام رسول والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ومحمد بن إسماعيل بن جعفر وهو الإمام القائم المهدي وهو رسول. وزعموا أن النبي انقطعت عنه الرسالة في حياته في اليوم الذي أمر فيه بنصب علي بن أبي طالب عليه السلام للناس بغدير خم فصارت الرسالة في ذلك اليوم في علي بن أبي طالب واعتلوا في ذلك بقول رسول الله : «من كنت مولاه فعلي مولاه» وأن هذا القول منه خروج من الرسالة والنبوة وتسليم منه في ذلك لعلي بن أبي طالب بأمر الله عز وجل وأن النبي بعد ذلك كان مأموما لعلي محجوجا به، فلما مضى علي عليه السلام صارت الإمامة في الحسن ثم صارت من الحسن في الحسين ثم في علي بن الحسين ثم في محمد بن علي ثم كانت في جعفر بن محمد ثم انقطت عن جعفر في حياته فصارت في إسماعيل بن جعفر كما انقطعت الرسالة عن محمد في حياته. ثم إن الله عز وجل بدا له في إمامة جعفر وإسماعيل فصيرها في محمد بن إسماعيل. واعتلوا في ذلك بخبر رووه عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: ما رأيت [مثل بداء] بدى لله عز وجل في إسماعيل، وزعموا أن محمد بن إسماعيل حي لم يمت وأنه في بلاد الروم وأنه القائم المهدي، ومعنى القائم عندهم أنه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد وأن محمد بن إسماعيل من أولي العزم، وأولو العزم عندهم سبعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وعليهم وعلي عليه السلام ومحمد بن إسماعيل على معنى أن السماوات سبع وأن الأرضين سبع وأن الإنسان بدنه سبع يداه ورجلاه وظهره وبطنه وقلبه وأن رأسه سبع عيناه وأذناه ومنخراه وفمه وفيه لسانه كصدره الذي فيه قلبه وأن الأئمة كذلك وقلبهم محمد بن إسماعيل. واعتلوا في نسخ شريعة محمد وتبديلها بأخبار رووها عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال: لو قام قائمنا علمتم القرآن جديدا، وأنه قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» ونحو ذلك من أخبار القائم وأن الله تبارك وتعالى جعل لمحمد بن إسماعيل جنة آدم صلى الله عليه ومعناها عندهم الإباحة للمحارم وجميع ما خلق في الدنيا وهو قول الله عز وجل: {وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} أي موسى بن جعفر بن محمد وولده من بعده من ادعى منهم الإمامة وزعموا أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين الذي حكاه الله عز وجل في كتابه وأن الدنيا اثنتا عشرة جزيرة في كل جزيرة حجة وأن الحجج اثنا عشر ولكل حجة داعية ولكل داعية يد يعنون بذلك أن اليد رجل له دلائل وبراهين يقيمها ويسمون الحجة الأب والداعية الأم واليد الابن يضاهئون قول النصارى في ثالث ثلاثة أن الله الأب جل الله عن ذلك علوا كبيرا والمسيح عليه السلام الابن وأمه مريم عليها السلام والحجة الأكبر هو الرب وهو الأب والداعية هي الأم واليد هو الابن - كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا وخسروا خسرانا مبينا. وزعموا أن جميع الأشياء التي فرضها الله تعالى على عباده وسنها نبيه وأمر بها لها ظاهر وباطن وأن جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة أمثال مضروبة وتحتها معان هي بطونها وعليها العمل وفيها النجاة وأن ما ظهر منها ففي استعماله الهلاك والشقاء وهي جزء من العقاب الأدنى عذب الله به قوما إذ لم يعرفوا الحق ولم يقولوا به. وهذا أيضا مذهب عامة أصحاب أبي الخطاب واستحلوا استعراض الناس بالسيف وقتلهم على مذهب البيهسية والأزارقة من الخوارج في قتل أهل القبلة وأخذ أموالهم والشهادة عليهم بالكفر واعتلوا في ذلك بقول الله عز وجل: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} رأوا سبي النساء وقتل الأطفال واعتلوا في ذلك بقول الله تبارك وتعالى: {لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} وزعموا أنه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل من قال بالإمامة ممن ليس على قولهم وخاصة من قال بإمامة موسى بن جعفر وولده من بعده وتأولوا في ذلك قول الله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} فالواجب أن نبدأ بهؤلاء ثم بسائر الناس. وعددهم كثير إلا أنه لا شوكة لهم ولا قوة، وهم بسواد الكوفة واليمن أكثر، ولعلهم أن يكونوا زهاء مائة ألف.

وقالت الفرقة الرابعة من أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد إن الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه محمد بن جعفر وأمه أم ولد يقال لها حميدة وهو وموسى واسحق بنو جعفر بن محمد لأم واحدة، وذلك أن بعضهم روى لهم أن محمد بن جعفر دخل على أبيه جعفر يوما وهو صبي صغير فعدا إليه فكبا في قميصه ووقع لحر وجهه فقام إليه جعفر وقبله ومسح التراب عن وجهه ووضعه على صدره وقال: سمعت أبي يقول إذا ولد لك ولد يشبهني فسمه باسمي فهو شبيهي وشبيه رسول الله وعلى سنته. فجعل هؤلاء الإمامة في محمد بن جعفر وولده من بعده وهذه الفرقة تسمى السمطية تنسب إلى رئيس لهم يقال له يحيى بن أبي السميط.

والفرقة الخامسة منهم قالت الإمامة بعد جعفر في ابنه عبد الله بن جعفر الأفطح، وذلك أنه كان عند مضي جعفر أكبر ولده سنا وجلس مجلس أبيه وادعى الإمامة ووصية أبيه واعتلّوا بحديث يروونه عن أبي عبد الله جعفر بن محمد أنه قال الإمامة في الأكبر من ولد الإمام، فمال إلى عبد الله والقول بإمامته جل من قال بإمامة أبيه جعفر بن محمد غير نفر يسير عرفوا الحق فامتحنوا عبد الله بمسائل في الحلال والحرام من الصلاة والزكاة وغير ذلك فلم يجدوا عنده علما، وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر هي الفطحية وسموا بذلك لأن عبد الله كان أفطح الرأس وقال بعضهم كان أفطح الرجلين وقال بعض الرواة نسبوا إلى رئيس لهم من أهل الكوفة يقال له عبد الله بن فطيح. ومال إلى هذه الفرقة جل مشايخ الشيعة وفقهائها ولم يشكوا في أن الإمامة في عبد الله بن جعفر وفي ولده من بعده فمات عبد الله ولم يخلف ذكرا فرجع عامة الفطحية عن القول بإمامته سوى قليل منهم إلى القول بإمامة موسى بن جعفر، وقد كان رجع جماعة منهم في حياة عبد الله إلى موسى بن جعفر ثم رجع عامتهم بعد وفاته عن القول به وبقي بعضهم على القول بإمامته ثم إمامة موسى بن جعفر من بعده. وعاش عبد الله بن جعفر بعد أبيه سبعين يوما أو نحوها.

وقالت الفرقة السادسة منهم إن الإمام موسى بن جعفر بعد أبيه، وأنكروا إمامة عبد الله، وخطّأوه في فعله وجلوسه مجلس أبيه وادعائه الإمامة. وكان فيهم من وجوه أصحاب أبي عبد الله عليه السلام مثل هشام بن سالم وعبد الله بن أبي يعفور وعمر بن يزيد بياع السابري ومحمد بن النعمان أبي جعفر الأحول مؤمن الطاق وعبيد بن زرارة وجميل بن دراج وأبان بن تغلب وهشام بن الحكم وغيرهم من وجوه الشيعة وأهل العلوم منهم والنظر والفقه، وثبتوا على إمامة موسى بن جعفر حتى رجع إلى مقالتهم عامة من كان قال بإمامة عبد الله بن جعفر فاجتمعوا جميعا على إمامة موسى بن جعفر سوى نفر منهم فإنهم ثبتوا على إمامة عبد الله ثم إمامة موسى بعده فأجازوها في أخوين بعد أن لم يجز ذلك عندهم منهم عبد الله بن بكير بن أعين وعمار بن موسى الساباطي وجماعة معهما. ثم إن جماعة المؤتمين بموسى بن جعفر لم يختلفوا في أمره فثبتوا على إمامته إلى حبسه في المرة الثانية. ثم اختلفوا في أمره فشكوا في إمامته عند حبسه في المرة الثانية التي مات فيها في حبس الرشيد فصاروا خمس فرق:

فرقة منهم زعمت أنه مات في حبس السندي بن شاهك وأن يحيى بن خالد البرمكي سمه في رطب وعنب بعثهما إليه فقتله وأن الإمام بعد موسى علي بن موسى الرضا.فسميت هذه الفرقة القطعية لأنها قطعت على وفاة موسى بن جعفر وعلى إمامة علي ابنه بعده ولم تشك في أمرها ولا ارتابت ومضت على المنهاج الأول.

وقالت الفرقة الثانية إن موسى بن جعفر لم يمت وإنه حي ولا يموت حتى يملك شرق الأرض وغربها ويملأها كلها عدلا كما ملئت جورا وإنه القائم المهدي وزعموا أنه خرج من الحبس ولم يره أحد نهارا ولم يعلم به وأن السلطان وأصحابه ادعوا موته وموهوا على الناس وكذبوا وأنه غاب عن الناس واختفى ورووا في ذلك روايات عن أبيه جعفر بن محمد عليها السلام أنه قال هو القائم المهدي فإن يدهده رأسه عليكم من جبل فلا تصدقوا فإنه القائم.

وقال بعضهم إنه القائم وقد مات ولا تكون الإمامة لغيره حتى يرجع فيقوم ويظهر. وزعموا أنه قد رجع بعد موته إلا أنه مختف في موضع من المواضع حي يأمر وينهى وأن أصحابه يلقونه ويرونه. واعتلوا في ذلك بروايات عن أبيه أنه قال: سمي القائم قائما لأنه يقوم بعدما يموت.

وقال بعضهم إنه قد مات وإنه القائم وإن فيه شبها من عيسى بن مريم صلى الله عليه وإنه لم يرجع ولكنه يرجع في وقت قيامه فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وأن أباه قال إن فيه شبها من عيسى بن مريم وإنه يقتل في يدي ولد العباس، فقد قتل.

وأنكر بعضهم قتله وقالوا مات ورفعه الله إليه وإنه يرده عند قيامه. فسموا هؤلاء جميعا الواقفة لوقوفهم على موسى بن جعفر أنه الإمام القائم ولم يأتموا بعده بإمام ولم يتجاوزوه إلى غيره.

وقد قال بعضهم ممن ذكر أنه حي أن الرضا عليه السلام ومن قام بعده ليسوا بأئمة ولكنهم خلفاؤه واحدا بعد واحد إلى أوان خروجه وأن على الناس القبول منهم والانتهاء إلى أمرهم. وقد لقب الواقفة بعض مخالفيها ممن قال بإمامة علي بن موسى الممطورة وغلب عليها هذا الاسم وشاع لها. وكان سبب ذلك أن علي بن إسماعيل الميثمي ويونس بن عبد الرحمن ناظرا بعضهم فقال له علي بن إسماعيل وقد اشتد الكلام بينهم: ما أنتم إلا كلاب ممطورة، أراد أنكم أنتن من جيف لأن الكلاب إذا أصابها المطر فهي أنتن من الجيف، فلزمهم هذا اللقب فهم يعرفون به اليوم لأنه إذا قيل للرجل إنه ممطور فقد عرف أنه من الواقفة على موسى بن جعفر خاصة لأن كل من مضى منهم فله واقفة قد وقفت عليه وهذا اللقب لأصحاب موسى خاصة.

وقالت فرقة منهم لا ندري أهو حي أم ميت لأنا قد روينا فيه أخبارا كثيرة تدل على أنه القائم المهدي فلا يجوز تكذيبها وقد ورد علينا من خبر وفاة أبيه وجده والماضين من آبائه عليهم السلام في معنى صحة الخبر فهذا أيضا مما لا يجوز رده وإنكاره لوضوحه وشهرته وتواتره من حيث لا يكذب مثله ولا يجوز التواطؤ عليه والموت حق والله عز وجل يفعل ما يشاء فوقفنا عند ذلك على إطلاق موته وعلى الإقرار بحياته ونحن مقيمون على إمامته لا نتجاوزها حتى يصح لنا أمره وأمر هذا الذي نصب نفسه مكانه وادعى الإمامة يعنون علي بن موسى الرضا، فإن صحت لنا إمامته كإمامة أبيه من قبله بالدلالات والعلامات الموجبة للإمامة بالإقرار منه على نفسه بإمامته وموت أبيه لا بإخبار أصحابه سلمنا له ذلك وصدقناه. وهذه الفرقة أيضا من الممطورة وقد شاهد بعضهم من أبي الحسن الرضا عليه السلام أمورا فقطع عليه بالإمامة. وصدقت فرقة منهم بعد ذلك روايات أصحابه وقولهم فيه فرجعت إلى القول بإمامته.

وفرقة منهم يقال لها البشرية أصحاب محمد بن بشير مولى بني أسد من أهل الكوفة قالت إن موسى بن جعفر لم يمت ولم يحبس وإنه حي غائب وإنه القائم المهدي وإنه في وقت غيبته استخلف على الأمر محمد بن بشير وجعله وصيه وأعطاه خاتمه وعلمه جميع ما يحتاج إليه رعيته وفوض إليه أموره وأقامه مقام نفسه فمحمد بن بشير الإمام بعده وإن محمد بن بشير لما توفي أوصى إلى ابنه سميع بن محمد بن بشير فهو الإمام ومن أوصى إليه سميع فهو الإمام المفترض الطاعة على الأمة إلى وقت خروج موسى وظهوره فما يلزم الناس من حقوقه في أموالهم وغير ذلك مما يتقربون به إلى الله عز وجل فالفرض عليهم أداؤه إلى هؤلاء إلى قيام القائم. وزعموا أن علي بن موسى ومن ادعى الإمامة من ولد موسى بعده فغير طيب الولادة ونفوهم عن أنسابهم وكفروهم في دعواهم الإمامة وكفروا القائلين بإمامتهم واستحلوا دماءهم وأموالهم وزعموا أن الفرض من الله عليهم إقامة الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وأنكروا الزكاة والحج وسائر الفرائض وقالوا بإباحة المحارم من الفروج والغلمان واعتلوا في ذلك بقول الله عز وجل: {أو يزوجهم ذكرانا وإناثا} وقالوا بالتناسخ وأن الأئمة عندهم واحد إنما هم منتقلون من بدن إلى بدن والمواساة بينهم واجبة في كل ما ملكوه من مال وكل شيء أوصى به رجل منهم في سبيل الله فهو لسميع بن محمد وأوصيائه من بعده ومذاهبهم مذاهب الغالية المفوضة في التفويض.

وولد موسى بن جعفر عليه السلام في سنة ثمان وعشرين ومائة وقال بعضهم سنة تسع وحمله الرشيد من المدينة لعشر ليال بقين من شوال سنة تسع وسبعين ومائة وقد قدم هارون الرشيد المدينة منصرفا من عمرة شهر رمضان ثم شخص هارون إلى الحج وحمله معه ثم انصرف على طريق البصرة فحبسه عند عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور ثم أشخصه إلى بغداد فحبسه عند السندي بن شاهك فتوفي في حبسه ببغداد لخمس ليال بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة وهو ابن خمس أو أربع وخمسين سنة ودفن في مقابر قريش ويقال في رواية أخرى إنه دفن بقيوده وإنه أوصى بذلك، فكانت إمامته خمسا وثلاثين سنة وشهورا، وأمه أم ولد يقال لها حميدة وهي أم أخويه إسحاق ومحمد ابني جعفر بن محمد عليه السلام.

ثم إن أصحاب علي بن موسى الرضا عليه السلام اختلفوا بعد وفاته فصاروا فرقا:

فرقة منهم قالت بالإمامة بعد علي بن موسى لابنه محمد بن علي ولم يكن له غيره وكان ختن المأمون على ابنته واتبعوا الوصية حيث ما دارت على المنهاج الأول من لدن النبي .

وفرقة قالت بإمامة أحمد بن موسى بن جعفر أوصى إليه وإلى الرضا وأجازوها في أخوين وأبوه جعله الوصي بعد علي بن موسى ومالوا إلى شبيه بمقالة الفطحية.

وفرقة منهم تسمى المؤلفة من الشيعة قد كانوا نصروا الحق وقطعوا على إمامة علي بن موسى وموت أبيه فصدقوا بذلك فلما توفي الرضا رجعوا إلى الوقف بعد موسى بن جعفر.

وفرقة منهم تسمى المحدثة كانوا من أهل الإرجاء وأصحاب الحديث فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر وبعده بإمامة علي بن موسى وصاروا شيعة رغبة في الدنيا وتصنعا، فلما توفي علي بن موسى رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء منهم والبصراء فدخلوا في إمامة علي بن موسى عليه السلام عندما أظهر المأمون فضله وعقد بيعته تصنعا للدنيا واستكانوا الناس بذلك دهرا فلما توفي علي بن موسى رجعوا إلى قومهم من الزيدية.

وتوفي علي بن موسى عليه السلام بطوس من كور خراسان وهو شاخص مع المأمون عند شخوصه إلى العراق في آخر صفر سنة ثلاث ومائتين وهو ابن خمس وخمسين سنة وكان مولده في سنة إحدى وخمسين ومائة وقال بعضهم في سنة ثلاث وخمسين ومائة وكانت إمامته عشرين سنة وسبعة أشهر ودفن بطوس في دار حميد بن قحطبة الطائي، وأمه أم ولد يقال لها شهد وقال بعضهم اسمها نجية. وكان أكبر ولد موسى بن جعفر وهم ثمانية عشر ذكرا وخمس عشرة بنتا لأمهات الأولاد. وكان المأمون أشخص إليه علي بن موسى وهو بخراسان مع رجاء بن أبي الضحاك في آخر سنة مأتين على طريق البصرة وفارس وكان الرضا أيضا ختن المأمون على ابنته.

وكان سبب الفرقتين اللتين ائتمت واحدة منها بأحمد بن موسى ورجعت الأخرى إلى القول بالوقف أن أبا الحسن الرضا توفي وابنه محمد ابن سبع سنين فاستصبوه واستصغروه وقالوا لا يجوز الإمام إلا بالغا ولو جاز أن يأمر الله عز وجل بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلف الله غير بالغ فكما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس ودقيقه وجليله وغامض الأحكام وشرائع الدين وجميع ما أتى به النبي وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها طفل غير بالغ، ولو جاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجة لجاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجتين وثلاثا وأربعا راجعا إلى الطفولية حتى يجوز أن يفهم ذلك طفل في المهد والخرق وذلك غير معقول ولا مفهوم ولا متعارف.

ثم إن الذين قالوا بإمامة أبي جعفر محمد بن علي بن موسى اختلفوا في كيفية علمه لحداثة سنه ضروبا من الاختلاف فقال بعضهم لبعض الإمام لا يكون إلا عالما وأبو جعفر غير بالغ وأبوه قد توفي فكيف علم ومن أين علم؟ فأجابوا فقال بعضهم لا يجوز أن يكون علمه من قبل أبيه لأن أباه حمل إلى خراسان وأبو جعفر ابن أربع سنين وأشهر ومن كان في هذه السن فليس في حد من يستفرغ تعليم معرفة دقيق الدين وجليله ولكن الله عز وجل علمه ذلك عند البلوغ بضروب مما يدل على جهات علم الإمام مثل الإلهام والنكت في القلب والنقر في الأذن والرؤيا الصادقة في النوم والملك المحدث له ووجوه رفع المنار والعمود والمصباح وعرض الأعمال لأن ذلك كله قد صحت الأخبار الصحيحة القوية الأسانيد فيه التي لا يجوز دفعها ولا رد مثلها.

وقال بعضهم قبل البلوغ هو إمام على معنى أن الأمر له دون غيره إلى وقت البلوغ فإذا بلغ علم لا من جهة الإلهام والنكت ولا الملك ولا لشيء من الوجوه التي ذكرتها الفرقة المتقدمة لأن الوحي منقطع بعد النبي بإجماع الأمة ولأن الإلهام إنما هو أن يلحقك عند الخاطر والفكر معرفة بشيء قد كانت تقدمت معرفتك به من الأمور النافعة فذكرته وذلك لا يعلم به الأحكام وشرائع الدين على كثرة اختلافها وعللها قبل أن يوقف بالسمع منها على شيء لأن أصح الناس فكرا وأوضحه خاطرا وعقلا وأحضره توفيقا لو فكر وهو لا يسمع بأن الظهر أربع والمغرب ثلاث والغداة ركعتان ما استخرج ذلك بفكره ولا عرفه بنظره ولا استدل عليه بكمال عقله ولا أدرك ذلك بحضور توفيقه ولا لحقه علم ذلك من جهة التوفيق أبدا ولا يعقل أن يعلم ذلك إلا بالتوقيف والتعليم فقد بطل أن يعلم شيئا من ذلك بالإلهام والتوفيق، لكن نقول إنه علم ذلك عند البلوغ من كتب أبيه وما ورثه من العلم فيها وما رسم له فيها من الأصول والفروع. وبعض هذه الفرقة تجيز القياس في الأحكام للإمام خاصة على الأصول التي في يديه لأنه معصوم من الخطأ والزلل فلا يخطئ في القياس وإنما صاروا إلى هذه المقالة لضيق الأمر عليهم في علم الإمام وكيفية تعليمه إذ ليس هو ببالغ عندهم.

وقال بعضهم الإمام يكون غير بالغ ولو قلّت سنه لأنه حجة الله فقد يجوز أن يعلم وإن كان صبيا ويجوز عليه الأسباب التي ذكرت من الإلهام والنكت والرؤيا والملك المحدث ورفع المنار والعمود وعرض الأعمال، كل ذلك جائز عليه وفيه، كما جاز ذلك عن سلفه من حجج الله الماضين. واعتلوا في ذلك بيحيى بن زكريا وأن الله آتاه الحكم صبيا وبأسباب عيسى بن مريم وبحكم الصبي بين يوسف بن يعقوب وامرأة الملك وبعلم سليمان بن داود حكما من غير تعليم وغير ذلك فإنه قد كان في حجج الله ممن كان غير بالغ عند الناس.

وولد محمد بن علي بن موسى للنصف من شهر رمضان سنة خمس وتسعين ومائة. وأشخصه المعتصم في خلافته إلى بغداد فقدمها لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين ومئتين وتوفي بها في هذه السنة في آخر ذي القعدة ودفن في مقبرة قريش عند جده موسى بن جعفر عليه السلام وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة وشهرين وعشرين يوما، وأمه أم ولد يقال لها الخيزران وكانت قبل ذلك تسمى درة فسميت الخيزران. وكانت إمامته سبع عشرة سنة.

فنزل أصحاب محمد بن علي الذين ثبتوا على إمامته إلى القول بإمامة ابنه ووصية علي بن محمد فلم يزالوا على ذلك سوى نفر منهم يسير عدلوا عنه إلى القول بإمامة أخيه موسى بن محمد ثم لم يلبثوا على ذلك إلا قليلا حتى رجعوا إلى إمامة علي بن محمد ورفضوا إمامة موسى بن محمد فلم يزالوا كذلك حتى توفي علي بن محمد، وكانت وفاته بسر من رأى، وكان المتوكل أشخصه من المدينة مع يحيى بن هرثمة بن أعين يوم الاثنين لثلاث خلون من رجب سنة أربع وخمسين ومئتين وهو يوم توفي ابن أربعين سنة، وكان قدومه إلى سر من رأى يوم الثلثاء لسبع ليال بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين ومئتين وكان مولده يوم الثلثاء لثلاث عشرة ليلة مضت من رجب سنة أربع عشرة ومئتين وأقام بسر من رأى داره إلى أن توفي عشرين سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام، وكانت إمامته ثلاثا وثلاثين سنة وسبعة أشهر وأمه أم ولد يقال لها سوسن وقال بعضهم اسمها سمانة.

وقد شذت فرقة من القائلين بإمامة علي بن محمد في حياته فقالت بنبوة رجل يقال له محمد بن نصير النميري وكان يدعي أنه نبي بعثه أبو الحسن العسكري، وكان يقول بالتناسخ والغلو في أبي الحسن ويقول فيه بالربوبية ويقول بالإباحة للمحارم ويحلل نكاح الرجال بعضهم بعضا في أدبارهم ويزعم أن ذلك من التواضع والتذلل وأنه إحدى الشهوات والطيبات وأن الله عز وجل لم يحرم شيئا من ذلك. وكان يقوي أسباب هذا النميري محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات، فلما توفي قيل له في علته وقد كان اعتقل لسانه: لمن هذا الأمر من بعدك؟ فقال: لأحمد، فلم يدروا من هو، فافترقوا ثلاث فرق فرقة قالت إنه أحمد ابنه وفرقة قالت هو أحمد بن موسى بن الحسن بن الفرات وفرقة قالت أحمد بن أبي الحسين محمد بن محمد بن بشر بن زيد فتفرقوا فلا يرجعون إلى شيء، وادعى هؤلاء النبوة عن أبي محمد فسميت النميرية.

فلما توفي علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا صلوات الله عليهم قالت فرقة من أصحابه بإمامة ابنه محمد وقد كان توفي في حياة أبيه بسر من رأى وزعموا أنه حي لم يمت واعتلوا في ذلك بأن أباه أشار إليه وأعلمهم أنه الإمام من بعده والإمام لا يجوز عليه الكذب ولا يجوز البداء فيه، فهو وإن كانت ظهرت وفاته لم يمت في الحقيقة ولكن أباه خاف عليه فغيبه وهو القائم المهدي وقالوا فيه بمثل مقالة أصحاب إسماعيل بن جعفر.

وقال سائر أصحاب علي بن محمد بإمامة الحسن بن علي وثبتوا له الإمامة بوصية أبيه، وكان يكنى بأبي محمد، سوى نفر يسير قليل فإنهم مالوا إلى أخيه جعفر بن علي وقالوا أوصى إليه أبوه بعد مضي محمد وأوجب إمامته وأظهر أمره. وأنكروا إمامة محمد أخيه وقالوا إنما فعل ذلك أبوه اتقاء عليه ودفاعا عنه وكان الإمام في الحقيقة جعفر بن علي.

وولد الحسن بن علي في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومئتين وتوفي بسر من رأى يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومئتين ودفن في داره في البيت الذي دفن فيه أبوه وهو ابن ثمان وعشرين سنة وصلى عليه أبو عيسى بن المتوكل. وكانت إمامته خمس سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام وتوفي ولم ير له أثر ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه وهي أم ولد يقال لها عسفان ثم سماها أبو الحسن حديثا.

فافترق أصحابه بعده أربع عشرة فرقة:

  1. ففرقة منها قالت إن الحسن بن علي حي لم يمت وإنما غاب وهو القائم ولا يجوز أن يموت ولا ولد له ظاهر لأن الأرض لا تخلو من إمام وقد ثبتت إمامته والرواية قائمة أن للقائم غيبتين فهذه الغيبة إحداهما وسيظهر ويعرف ثم يغيب غيبة أخرى، وقالوا فيه ببعض مقالة الواقفة على موسى بن جعفر. وإذا قيل لهذه الفرقة ما الفرق بينكم وبين الواقفة قالوا إن الواقفة أخطأت في الوقوف على موسى لما ظهرت وفاته لأنه توفي عن خلف قائم أوصى إليه وهو الرضا عليه السلام وخلف غيره بضعة عشر ذكرا وكل إمام ظهرت وفاته كما ظهرت وفاة آبائه وله خلف ظاهر معروف فهو ميت لا محالة وإنما القائم المهدي الذي يجوز الوقوف على حياته من ظهرت له وفاة عن غيره خلف فيضطر شيعته إلى الوقوف عليه إلى أن يظهر لأنه لا يجوز موت إمام بلا خلف فقد صح أنه غاب.
  2. وقالت الفرقة الثانية إن الحسن بن علي مات وعاش بعد موته وهو القائم المهدي لأنا روينا أن معنى القائم هو أن يقوم من بعد الموت ويقوم ولا ولد له ولو كان له ولد لصح موته ولا رجوع لأن الإمامة كانت تثبت لخلقه ولا أوصى إلى أحد فلا شك أنه القائم، والحسن بن علي قد مات لا شك في موته ولا ولد له ولا خلف ولا أوصى إذ لا وصية له ولا وصي وأنه قد عاش بعد الموت، وقد روينا أن القائم إذا بلغ الناس خبر قيامه قالوا كيف يكون فلان إماما وقد بليت عظامه فهو اليوم حي مستتر لا يظهر وسيظهر ويقوم بأمر الناس ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وإنما قالوا إنه حي بعد الموت وإنه مستتر خائف لأنه لا يجوز عندهم أن تخلو الأرض من حجة قائم على ظهرها عدل حي ظاهر أو خائف مغمود للخبر الذي روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال في بعض خطبه: اللهم إنك لا تخلي الأرض من حجة لك ظاهر أو مغمود لئلا تبطل حججك وبيناتك. فهذا دليل على أنه عاش بعد موته. وليس بين هذه الفرقة والفرقة التي قبلها فرق أكثر من أن هذه صححت موت الحسن بن علي عليه السلام وأن الأولى قالت إنه غاب وهو حي وأنكرت موته. وهذه أيضا شبيهة بفرقة من الواقفة على موسى بن جعفر عليه السلام. وإذا قيل لهم من أين قلتم هذا وما دليلكم عليه رجعوا إلى تأول الروايات.
  3. وقالت الفرقة الثالثة إن الحسن بن علي توفي والإمام بعده أخوه جعفر وإليه أوصى الحسن ومنه قبل الإمامة وعنه صارت إليه. فلما قيل لهم إن الحسن وجعفرا ما زالا متهاجرين متصارمين متعاديين طول زمانهما وقد وقفتم على صنائع جعفر ومخالفي الحسن وسوء معاشرته له في حياته ولهم من بعد وفاته في اقتسام مواريثه، قالوا إنما ذلك بينهما في الظاهر فأما في الباطن فكانا متراضيين متصافيين لا خلاف بينهما ولم يزل جعفر مطيعا له سامعا منه فإذا ظهر منه شيء من خلافه فعن أمر الحسن فجعفر وصي الحسن وعنه أفضت إليه الإمامة. ورجعوا إلى بعض قول الفطحية وزعموا أن موسى بن جعفر إنما كان إماما بوصية أخيه عبد الله إليه وعن عبد الله صارت إليه الإمامة لا عن أبيه، وأقروا بإمامة عبد الله بن جعفر وثبتوها بعد إنكارهم لها وجحودهم إياها وأوجبوا فرضها على أنفسهم ليصححوا بذلك مذهبهم. وكان رئيسهم والداعي لهم إلى ذلك رجل من أهل الكوفة من المتكلمين يقال له علي بن الطاحي الخزاز وكان مشهورا في الفطحية وهو ممن قوى إمامة جعفر وأمال الناس إليه وكان متكلما محجاجا وأعانته على ذلك أخت الفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني غير أن هذه أنكرت إمامة الحسن بن علي عليه السلام وقالت إن جعفرا أوصى أبوه إليه لا الحسن.
  4. وقالت الفرقة الرابعة إن الإمام بعد الحسن جعفر وإن الإمامة صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخيه محمد ولا من قبل الحسن ولم يكن إماما ولا الحسن أيضا لأن محمدا توفي في حياة أبيه وتوفي الحسن ولا عقب له وإنه كان مدعيا مبطلا والدليل على ذلك أن الإمام لا يموت حتى يوصي ويكون له خلف والحسن قد توفي ولا وصي له ولا ولد فادعاؤه الإمامة باطل، والإمام لا يكون من لا خلف له ظاهر معروف مشار إليه، ولا يجوز أيضا أن تكون الإمامة في الحسن وجعفر لقول أبي عبد الله جعفر بن محمد وغيره من آبائه صلوات الله عليهم إن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام، فدلنا ذلك على أن الإمامة لجعفر وأنها صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخويه.
  5. وأما الفرقة الخامسة فإنها رجعت إلى القول بإمامة محمد بن علي المتوفى في حياة أبيه وزعمت أن الحسن وجعفرا ادعيا ما لم يكن لهما وأن أباهما لم يشر إليهما بشيء من الوصية والإمامة ولا روي عنه في ذلك شيء أصلا ولا نص عليهما بشيء يوجب إمامتهما ولا هما في موضع ذلك وخاصة جعفر فإن فيه خصالا مذموما وهو بها مشهور ولا يجوز أن يكون مثلها في إمام عدل، وأما الحسن فقد توفي ولا عقب له، فعلمنا أن محمدا كان الإمام قد صحت الإشارة من أبيه إليه، والحسن قد توفي ولا عقب له ولا يجوز أن يموت إمام بلا خلف، ثم رأينا جعفرا في حياة الحسن وبعد مضيه ظاهر الفسق غير صائن لنفسه معلنا بالمعاصي وليس هذا صفة من يصلح للشهادة على درهم فكيف يصلح لمقام النبي لأن الله عز وجل لم يحكم بقول شهادة من يظهر الفسق والفجور فكيف يحكم له بإثبات الإمامة مع عظم فضلها وخطرها وحاجة الخلق إليها، وإذ هي السبب الذي يعرف به دينه ويدرك رضوانه فكيف تجوز في مظهر الفسق، وإظهار الفسق لا يجوز تقية هذا ما لا يليق بالحكيم عز وجل ولا يجوز أن ينسب إليه تبارك وتعالى. فلما بطل عندنا أن تكون الإمامة تصلح لمثل جعفر وبطلت عمن لا خلف له لم يبق إلا التعلل بإمامة أبي جعفر محمد بن علي أخيهما إذ لم يظهر منه إلا الصلاح والعفاف وأن له عقبا قائما معروفا مع ما كان من أبيه من الإشارة بالقول مما لا يجوز بطلان مثله، فلا بد من القول بإمامته وأنه القائم المهدي أو الرجوع إلى القول ببطلان الإمامة أصلا وهذا مما لا يجوز.
  6. وقالت الفرقة السادسة إن للحسن بن علي ابنا سماه محمدا ودل عليه وليس الأمر كما زعم من ادعى أنه توفي ولا خلف له وكيف يكون إمام قد ثبت إمامته ووصيته وجرت أموره على ذلك وهو مشهور عند الخاص والعام ثم توفي ولا خلف له ولكن خلفه قائم وولد قبل وفاته بسنين وقطعوا على إمامته وموت الحسن وأن اسمه محمد وزعموا أنه مستور لا يرى خائف من جعفر وغيره من أعدائه وأنها إحدى غيباته وأنه هو الإمام القائم وقد عرف في حياة أبيه ونص عليه ولا عقب لأبيه غيره فهو الإمام لا شك فيه.
  7. وقالت الفرقة السابعة بل ولد للحسن ولد بعده بثمانية أشهر وإن الذين ادعوا له ولدا في حياته كاذبون مبطلون في دعواهم لأن ذلك لو كان لم يخف كما لم يخف غيره ولكنه مضى ولم يعرف له ولد ولا يجوز أن يكابر في مثل ذلك ويدفع العيان والمعقول والمتعارف، وقد كان الحبل فيما مضى قائما ظاهرا ثابتا عند السلطان وعند سائر الناس وامتنع من قسمة ميراثه من أجل ذلك حتى بطل بعد ذلك عند السلطان وخفي أمره فقد ولد له ابن بعد وفاته بثمانية أشهر وقد كان أمر أن يسمى محمدا وأوصى بذلك وهو مستور لا يرى. واعتلوا في تجويز ذلك وتصحيحه بخبر يروى عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه قال ستبلون بالجنين في بطن أمه والرضيع.
  8. وقالت الفرقة الثامنة إنه لا ولد للحسن أصلا لأنا قد امتحنا ذلك وطلبناه بكل وجه فلم نجده ولو جاز لنا أن نقول في مثل الحسن وقد توفي ولا ولد له إن له ولدا خفيا لجاز مثل هذه الدعوى في كل ميت عن غير خلف ولجاز مثل ذلك في النبي أن يقال خلف ابنا نبيا رسولا وكذلك في عبد الله بن جعفر بن محمد أنه خلف ابنا وأن أبا الحسن الرضا عليه السلام خلف ثلاثة بنين غير أبي جعفر أحدهم الإمام، لأن مجيء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب كمجيء الخبر بأن النبي لم يخلف ذكرا من صلبه ولا خلف عبد الله بن جعفر ابنا ولا كان للرضا أربعة بنين، فالولد قد بطل لا محالة، ولكن هناك حبل قائم قد صح في سرية له وستلد ذكرا إماما متى ما ولدت، فإنه لا يجوز أن يمضي الإمام ولا خلف له فتبطل الإمامة وتخلو الأرض من الحجة. واحتج أصحاب الولد على هؤلاء فقالوا أنكرتم علينا أمرا قلتم بمثله ثم لم تقنعوا بذلك حتى أضفتم إليه ما تنكره العقول قلتم إن هناك حبلا قائما فإن كنتم اجتهدتم في طلب الولد فلم تجدوه فأنكرتموه لذلك فقد طلبنا معرفة الحبل وتصحيحه أشد من طلبكم واجتهدنا فيه أشد من اجتهادكم فاستقصينا في ذلك غاية الاستقصاء فلم نجده فنحن في الولد أصدق منكم لأنه قد يجوز في العقل والعادة والتعارف أن يكون للرجل ولد مستور لا يعرف في الظاهر ويظهر بعد ذلك ويصح نسبه، والأمر الذي ادعيتموه منكر شنيع ينكره عقل كل عاقل ويدفعه التعارف والعادة مع ما فيه من كثرة الروايات الصحيحة عن الأئمة الصادقين أن الحبل لا يكون أكثر من تسعة أشهر وقد مضى للحبل الذي ادعيتموه سنون وإنكم على قولكم بلا صحة ولا بينة.
  9. وقالت الفرقة التاسعة إن الحسن بن علي قد صحت وفاة أبيه وجده وسائر آبائه عليهم السلام فكما صحت وفاته بالخبر الذي لا يكذب مثله فكذلك صح أنه لا إمام بعد الحسن وذلك جائز في العقول والتعارف كما جاز أن تنقطع النبوة فلا يكون بعد محمد نبي فكذلك جاز أن تنقطع الإمامة، وقد روي عن الصادقين أن الأرض لا تخلو من حجة إلا أن يغضب الله على أهل الأرض بمعاصيهم فيرفع عنهم الحجة إلى وقت والله عز وجل يفعل ما يشاء، وليس في قولنا هذا بطلان الإمامة. وهذا جائز أيضا من وجه آخر كما جاز أن لا يكون قبل النبي فيما بينه وبين عيسى عليه السلام نبي ولا وصي ولما روينا من الأخبار أنه كانت بين الأنبياء فترات -ورووا ثلثمائة سنة، وروي مائتى سنة- ليس فيها نبي ولا وصي. وقد قال الصادق عليه السلام إن الفترة هي الزمان الذي لا يكون فيه رسول ولا إمام. والأرض اليوم بلا حجة إلا أن يشاء الله فيبعث القائم من آل محمد له فيحيي الأرض بعد موتها كما بعث محمدا على حين فترة من الرسل فجدد ما درس من دين عيسى ودين الأنبياء قبله صلى الله عليهم، فكذلك يبعث القائم إذا شاء جل وعز. والحجة علينا أن يبعث القائم وظهور الأمر والنهي المتقدمين والعلم الذي في أيدينا مما خرج عنهم إلينا والتمسك بالماضي مع الإقرار بموته كما كانت الحجة على الناس قبل ظهور نبينا أمر عيسى عليه السلام ونهيه وما خرج وعلم أوصيائه والتمسك بالإقرار بنبوته وبموته والإقرار بمن ظهر من أوصيائه.
  10. وقالت الفرقة العاشرة إن أبا جعفر محمد بن علي الميت في حياة أبيه كان الإمام بوصية من أبيه إليه وإشارته ودلالته ونصه على اسمه وعينه، ولا يجوز أن يشير إمام قد ثبتت إمامته وصحت على غير إمام، فلما حضرت وفاة محمد لم يجز أن لا يوصي ولا يقيم إماما ولا يجوز له أن يوصي إلى أبيه إذ إمامة أبيه ثابتة عن جده، ولا يجوز أيضا أن يأمر مع أبيه وينهى ويقيم من يأمر معه ويشاركه، وإنما ثبتت له الإمامة بعد مضي أبيه، فلما لم يجز إلا أن يوصي أوصى إلى غلام لأبيه صغير كان في خدمته يقال له نفيس وكان ثقة أمينا عنده ودفع إليه الكتب والعلوم والسلاح وما تحتاج إليه الأمة وأوصاه إذا حدث بأبيه حدث الموت يؤدي ذلك كله إلى أخيه جعفر ولم يطلع على ذلك أحدا غير أبيه وإنما فعل ذلك لتقل التهمة ولا يعلم به، وقبض أبو جعفر فلما علم أهل داره والمائلون إلى أبي محمد الحسن بن علي قصته وأحسوا بأمره حسدوه ونصبوا له وبغوه الغوائل. فلما أحس بذلك منهم وخاف على نفسه وخشي أن تبطل الإمامة وتذهب الوصية دعا جعفرا وأوصى إليه ودفع إليه جميع ما استودعه أبو جعفر محمد بن علي أخوه الميت في حياة أبيه ودفع إليه الوصية على نحو ما أمره، وكذلك فعل الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام لما خرج إلى الكوفة دفع كتبه والوصية وما كان عنده من السلاح وغيره إلى أم سلمة زوج النبي واستودعها ذلك كله وأمرها أن تدفعه إلى علي بن الحسين الأصغر إذا رجع إلى المدينة فلما انصرف علي بن الحسين من الشام إليها دفعت إليه جميع ذلك وسلمته له فهذا بتلك المنزلة في الامامة لجعفر بوصية نفيس إليه عن محمد أخيه. وأنكروا إمامة الحسن فقالوا لم يوص أبوه إليه ولا غير وصيته إلى محمد ابنه، وهذا عندهم صحيح فقالوا بإمامة جعفر من هذا الوجه وناظروا عليها. وهذه الفرقة تتقول على أبي محمد الحسن بن علي تقولا شديدا تكفره وتكفر من قال بإمامته وتغلوا في القول في جعفر وتدعي أنه القائم وتفضله على علي بن أبي طالب عليه السلام وتعتقد في ذلك بأن القائم أفضل الخلق بعد رسول الله . وأخذ نفيس ليلا وألقي في حوض كان في الدار كبير فيه ماء كثير فغرق فيه فمات فسميت هذه الفرقة النفيسية.
  11. وقالت الفرقة الحادية عشرة منهم لما سئلوا عن ذلك وقيل لهم ما تقولون في الإمام أهو جعفر أم غيره؟ قالوا: لا ندري ما نقول في ذلك أهو من ولد الحسن أم من أخوته فقد اشتبه علينا الأمر، إنا نقول إن الحسن بن علي كان إماما وقد توفي وإن الأرض لا تخلو من حجة، ونتوقف ولا نقدم على شيء حتى يصح لنا الأمر ويتبين.
  12. وقالت الفرقة الثانية عشرة وهم الإمامية ليس القول كما قال هؤلاء كلهم بل لله عز وجل في الأرض حجة من ولد الحسن بن علي وأمر الله بالغ وهو وصي لأبيه على المنهاج الأول والسنن الماضية، ولا تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام ولا يجوز ذلك ولا تكون إلا في غيبة الحسن بن علي إلى أن ينقضي الخلق متصلا ذلك ما اتصلت أمور الله تعالى، ولو كان في الأرض رجلان لكان أحدهما الحجة ولو مات أحدهما لكان الآخر الحجة ما دام أمر الله ونهيه قائمين في خلقه، ولا يجوز أن تكون الإمامة في عقب من لم تثبت له إمامة ولم تلزم العباد به حجة ممن مات في حياة أبيه ولا في ولده ولو جاز ذلك لصح قول أصحاب إسماعيل بن جعفر ومذهبهم ولثبتت إمامة محمد بن جعفر وكان من قال بها محقا بعد مضي جعفر بن محمد. وهذا الذي ذكرناه هو المأثور عن الصادقين الذي لا تدافع له بين هذه العصابة ولا شك فيه لصحة مخرجه وقوة أسبابه وجودة إسناده. ولا يجوز أن تخلو الأرض من حجة ولو خلت ساعة لساخت الأرض ومن عليها ولا يجوز شيء من مقالات هذه الفرق كلها فنحن مستسلمون بالماضي وإمامته مقرون بوفاته معترفون بأن له خلفا قائما من صلبه وأن خلفه هو الإمام من بعده حتى يظهر ويعلن أمره كما ظهر وعلن أمر من مضى قبله من آبائه ويأذن الله في ذلك إذ الأمر لله يفعل ما يشاء ويأمر بما يريد من ظهوره وخفائه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: اللهم إنك لا تخلي الأرض من حجة لك على خلقك ظاهرا معروفا أو خائفا مغمودا كيلا تبطل حجتك وبيناتك. وبذلك أمرنا وبه جاءت الأخبار الصحيحة عن الأئمة الماضين، لأنه ليس للعباد أن يبحثوا عن أمور الله ويقضوا بلا علم لهم ويطلبوا آثار ما ستر عنهم ولا يجوز ذكر اسمه ولا السؤال عن مكانه حتى يؤمر بذلك، إذ هو عليه السلام مغمود خائف مستور بستر الله تعالى وليس علينا البحث عن أمره، بل البحث عن ذلك وطلبه محرم لا يحل ولا يجوز لأن في إظهار ما ستر عنا وكشفه إباحة دمه ودمائنا، وفي ستر ذلك والسكوت عنه حقنهما وصيانتهما. ولا يجوز لنا ولا لأحد من المؤمنين أن يختاروا إماما برأي واختيار وإنما يقيمه الله لنا ويختاره ويظهره إذا شاء لأنه أعلم بتدبيره في خلقه وأعرف بمصلحتهم. والإمام عليه السلام أعرف بنفسه وزمانه منا. وقد قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام وهو ظاهر الأمر معروف المكان لا ينكر نسبه ولا تخفى ولادته وذكره شائع مشهور في الخاص والعام: من سماني باسم فعليه لعنة الله. ولقد كان الرجل من شيعته يتلقاه فيحيد عنه. وروي عنه أن رجلا من شيعته لقيه في الطريق فحاد عنه وترك السلام عليه فشكره على ذلك وحمده وقال له: لكن فلانا لقيني فسلم علي، ما أحسن، وذمه على ذلك وأقدم عليه بالمكروه. وكذلك وردت الأخبار عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال في نفسه من منع تسميته مثل ذلك. وأبو الحسن الرضا عليه السلام يقول: لو علمت ما يريد القوم مني لأهلكت نفسي عندي بما لا يوثق ديني بلعب الحمام والديكة وأشباه ذلك. فكيف يجوز في زماننا هذا مع شدة الطلب وجور السلطان وقلة رعايته لحقوق أمثالهم مع ما لقي عليه السلام من صالح بن وصيف وحبسه وتسميته من لم يظهر خبره ولا اسمه وخفيت ولادته. وقد رويت أخبار كثيرة أن القائم تخفى على الناس ولادته ويخمل ذكره ولا يعرف إلا أنه لا يقوم حتى يظهر ويعرف أنه إمام ابن إمام ووصي ابن وصي يؤتم به قبل أن يقوم، ومع ذلك فإنه لا بد من أن يعلم أمره ثقاته وثقات أبيه وإن قلوا ولا ينقطع من عقب الحسن بن علي عليه السلام ما اتصلت أمور الله عز وجل ولا ترجع إلى الإخوة ولا يجوز ذلك وأن الإشارة والوصية لا تصحان من الإمام ولا من غيره إلا بشهود، أقل ذلك شاهدان فما فوقهما. فهذا سبيل الإمامة والمنهاج الواضح الواجب الذي لم تزل الشيعة الإمامية الصحيحة التشيع عليه.
  13. وقالت الفرقة الثالثة عشرة مثل مقالة الفطحية الفقهاء منهم وأهل الورع والعبادة مثل عبد الله بن بكير بن أعين ونظرائه فزعموا أن الحسن بن علي توفي وأنه كان الإمام بعد أبيه وأن جعفر بن علي الإمام بعده كما كان موسى بن جعفر إماما بعد عبد الله بن جعفر للخبر الذي روي أن الإمامة في الأكبر من ولد الإمام إذا مضى وأن الخبر الذي روي عن الصادق عليه السلام أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام صحيح لا يجوز غيره وإنما ذلك إذا كان للماضي خلف من صلبه فإنها لا تخرج منه إلى أخيه بل تثبت في خلقه وإذا توفي ولا خلف له رجعت إلى أخيه ضرورة لأن هذا معنى الحديث عندهم. وكذلك قالوا في الحديث الذي روي أن الإمام لا يغسله إلا إمام وأن هذا عندهم صحيح لا يجوز غيره. وأقروا أن جعفر بن محمد عليه السلام غسله موسى وادعوا أن عبد الله أمره بذلك لأنه كان الإمام من بعده وإن جاز أن ما يغسله موسى لأنه إمام صامت في حضرة عبد الله فهؤلاء الفطحية الخلص الذين يجيزون الإمامة في أخوين إذا لم يكن الأكبر منهما خلف ولدا، والإمام عندهم جعفر بن علي على هذا التأويل ضرورة وعلى هذه الأخبار والمعاني التي وصفناها.