شفاء العليل/الباب السادس عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب السادس عشر: فيما جاء في السنة من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد كما هو منفرد بخلق ذواتهم وصفاتهم

قال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد حدثنا علي بن عبد الله ثنا مروان بن معاوية ثنا أبو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال النبي : "إن الله يصنع كل صانع وصنعته" قال البخاري: "وتلا بعضهم عند ذلك: {وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}" حدثنا محمد أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة نحوه موقوفا عليه وأما استشهاد بعضهم بقوله تعالى: {وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} بحمل ما على المصدر أي خلقكم وأعمالكم فالظاهر خلاف هذا وأنها موصولة أي خلقكم وخلق الأصنام التي تعملونها فهو يدل على خلق أعمالهم من جهة اللزوم فإن الصنم اسم للآلة التي حل فيها العمل المخصوص فإذا كان مخلوقا لله كان خلقه متناولا لمادته وصورته قال البخاري: وحدثنا عمرو بن محمد حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن طاووس عن ابن عمر: "كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك" قال البخاري: وحدثني إسماعيل قال حدثني مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاووس قال: "أدركت ناسا من أصحاب رسول الله يقولون كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" ورواه مسلم في صحيحه عن طاووس وقال سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله : "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" قال البخاري: وقال ليث عن طاووس عن ابن عباس ": {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} حتى العجز والكيس" قال البخاري: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول سمعت يحيى بن سعيد يقول: "ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة" قال البخاري: "حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة" وقال جابر بن عبد الله: "كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فيسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به قال: ويسمى حاجته" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح فقوله: "إذا هم أحدكم بالأمر" صريح في أنه الفعل الاختياري المتعلق بإرادة العبد وإذا علم ذلك فقوله "أستقدرك بقدرتك" أي أسألك أن تقدرني على فعله بقدرتك ومعلوم أنه لم يسأل القدرة المصححة التي هي سلامة الأعضاء وصحة البنية وإنما سأل القدرة التي توجب الفعل فعلم أنها مقدورة لله ومخلوقة له وأكد ذلك بقوله: "فإنك تقدر ولا أقدر" أي تقدر أن تجعلني قادرا فاعلا ولا أقدر أن أجعل نفسي كذلك وكذلك قوله: "تعلم ولا أعلم" أي حقيقة العلم بعواقب الأمور ومآلها والنافع منها والضار عندك وليس عندي وقوله يسره لي أو اصرفه عني فإنه طلب من الله تيسيره إن كان له فيه مصلحة وصرفه عنه إن كان فيه مفسدة وهذا التيسير والصرف متضمن إلقاء داعية الفعل في القلب أو إلقاء داعية الترك فيه ومتى حصلت داعية الفعل حصل الفعل وداعية الترك امتنع الفعل وعند القدرية ترجيح فاعلية العبد على الترك منه ليس للرب فيه صنع ولا تأثير فطلب هذ التيسير منه لا معنى له عندهم فإن تيسير الأسباب التي لا قدرة للعبد عليها موجود ولم يسأله العبد وقوله: "ثم رضني به" يدل على أن حصول الرضا وهو فعل اختياري من أفعال القلوب أمر وقدور للرب تعالى وهو الذي يجعل نفسه راضيا وقوله: "فاصرفه عني واصرفني عنه" صريح في أنه سبحانه هو الذي يصرف عبده عن فعله الاختياري إذا شاء صرفه عنه كما قال تعالى في حق يوسف الصديق: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء} وصرف السوء والفحشاء هو صرف دواعي القلب وميله إليهما فينصرفان عنه بصرف دواعيهما وقوله "وأقدر لي الخير حيث كان" يعم الخير المقدور للعبد من طاعته وغير المقدور له فعلم أن فعل العبد للطاعة والخير أمر مقدور لله إن لم يقدره الله لعبده لم يقع من العبد ففي هذا الحديث الشفاء في مسألة القدر وأمر النبي الداعي به أن يقدم بين يدي هذا الدعاء ركعتين عبودية منه بين يدي نجواه وإن يكونا من غير الفريضة ليتجرد فعلهما لهذا الغرض المطلوب ولما كان الفعل الاختياري متوقفا على العلم والقدرة والإرادة لا يحصل إلا بها توسل الداعي إلى الله بعلمه وقدرته وإرادته التي يؤتيه بها من فضله وأكد هذا المعنى بتجرده وبراءته من ذلك فقال "إنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر" وأمر الداعي أن يعلق التيسير بالخير والصرف بالشر وهو علم الله سبحانه تحقيقا للتفويض إليه واعترافا بجهل العبد بعواقب الأمور كما اعترف بعجزه ففي هذا الدعاء إعطاء العبودية حقها وإعطاء الربوبية حقها وبالله المستعان، وفي الترمذي وغيره من حديث الحسن بن علي قال: "علمني رسول الله كلمات أقولهن في الوتر اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت وتعاليت" فقوله: "اهدني" سؤال للهداية المطلقة التي لا يتخلف عنها الاهتداء وعند القدرية أن الرب سبحانه وتعالى عن قولهم لا يقدر علة هذه الهداية وإنما يقدر على هداية البيان والدلالة المشتركة بين المؤمنين والكفار وقوله "فيمن هديت" فيه فوائد أحدها: أنه سؤال له أن يدخله في جملة المهديين وزمرتهم ورفقتهم الثانية: توسل إليه بإحسانه وإنعامه أي يا ربي قد هديت من عبادك بشرا كثيرا فضلا منك وإحسانا فأحسن إليّ كما أحسنت إليهم كما يقول الرجل للملك اجعلني من جملة من أغنيته وأعطيته وأحسنت إليه الثالثة: إن ما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم ولا بأنفسهم وإنما كان منك فأنت الذي هديتهم وقوله "وعافني فيمن عافيت" إنما يسأل ربه العافية المطلقة وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان والغفلة والإعراض وفعل ما لا يحبه وترك ما يحبه فهذا حقيقة العافية ولهذا ما سئل الرب شيئا أحب إليه من العافية لأنها كلمة جامعة للتخلص من الشر كله وأسبابه وقوله "وتولني فيمن توليت" سؤال للتولي الكامل ليس المراد به ما فعله بالكافرين من خلق القدرة وسلامة الآلة وبيان للطريق فإن كان هذا هو ولايته للمؤمنين فهو ولي الكفار كما هو ولي المؤمنين وهو سبحانه يتولى أولياءه بأمور لا توجد في حق الكفار من توفيقهم وإلهامهم وجعلهم مهديين مطيعين ويدل عليه قوله "إنه لا يذل من واليت" فإنه منصور عزيز غالب بسبب توليك له وفي هذا تنبيه على أن من حصل له ذل في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولي الله وإلا فمع الولاية الكاملة ينتفي الذل كله ولو سلط عليه بالأذى من في أقطارها فهو العزيز غير الذليل وقوله "وقني شر ما قضيت" يتضمن أن الشر بقضائه فإنه هو الذي يقي منه وفي المسند وغيره أن رسول الله قال لمعاذ بن جبل: "يا معاذ والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" وهذه أفعال اختيارية وقد سأل الله أن يعينه على فعلها وهذا الطلب لا معنى له عند القدرية فإن الإعانة عندهم الإقدار والتمكين وإزاحة الأعذار وسلامة الآلة وهذا حاصل للسائل وللكفار أيضا والإعانة التي سألها أن يجعله ذاكرا شاكرا محسنا لعبادته كما في حديث ابن عباس عنه في دعائه المشهور: "رب أعني ولا تعن علي وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي وانصرني علي من بغى علي رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك رهابا لك مطواعا لك مخبتا إليك أواها منيبا رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة صدري" رواه الإمام أحمد في المسند وفيه أحد وعشرون دليلا فتأملها وفي الصحيحين أنه كان يقول بعد انقضاء صلاته: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وكان يقول ذلك الدعاء عند اعتداله من الركوع ففي هذا نفي الشريك عنه بكل اعتبار وإثبات عموم الملك له بكل اعتبار وإثبات عموم الحمد وإثبات عموم القدرة وأن الله سبحانه إذا أعطى عبدا فلا مانع له وإذا منعه فلا معطي له، وعند القدرية أن العبد قد يمنع من أعطى الله ويعطي من منعه فإنه يفعل باختياره عطاء ومنعا لم يشأه الله ولم يجعله معطيا مانعا فيتصور أن يكون لمن أعطى مانع ولمن منع معط وفي الصحيح أن رجلا سأله أن يدله على عمل يدخل به الجنة فقال: "إنه ليسير على من يسره الله عليه" فدل على أن التيسير الصادر من قبله سبحانه يوجب اليسر في العمل وعدم التيسير يستلزم عدم العمل لأنه ملزومه والملزوم ينتفي لانتفاء لازمه والتيسير بمعنى التمكين وخلق الفعل وإزاحة الأعذار وسلامة الأعضاء حاصل للمؤمن والكافر والتيسير المذكور في الحديث أمر آخر وراء ذلك وبالله التوفيق والتيسير وفي الصحيح عنه أنه قال لأبي موسى: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله" وقد أجمع المسلمون على هذه الكلمة وتلقيها بالقبول وهي شافية كافية في إثبات القدر وإبطال قول القدرية وفي بعض الحديث "إذا قالها العبد قال الله أسلم عبدي واستسلم وفي بعضه فوض إليّ عبدي" قال بعض المنتسبين للقدر لما كانت القدرة بالنسبة إلى الفعل وإلى الترك بحصول الدواعي على التسوية وما دام الأمر كذلك امتنع صدور الفعل فإذا رجح جانب الفعل على الترك بحصول الدواعي وإزالة الصوارف حصل الفعل وهذه القوة هي المشار إليها بقولنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وشأن الكلمة أعظم مما قال فإن العالم العلوي والسفلي له تحول من حال إلى حال وذلك التحول لا يقع إلا بقوة يقع بها التحول فكذلك الحول وتلك القوة قائمة بالله وحده ليست بالتحويل فيدخل في هذا كل حركة في العالم العلوي والسفلي وكل قوة على تلك الحركة سواء كانت الحركة قسرية أو إرادية أو طبيعية وسواء كانت من الوسط أو إلى الوسط أو على الوسط وسواء كانت في الكم أو الكيف أو في الأين كحركة النبات وحركة الطبيعة وحركة الحيوان وحركة الفلك وحركة النفس والقلب والقوة على هذه الحركات التي هي حول فلا حول ولا قوة إلا بالله ولما كان الكنز هو المال النفيس المجتمع الذي يخفى على أكثر الناس وكان هذا شأن هذه الكلمة كانت كنزا من كنوز الجنة فأوتيها النبي من كنز تحت العرش وكان قائلها أسلم واستسلم لمن أزمة الأمور بيديه وفوض أمره إليه وفي المسند والسنن عن أبي الديلمي قال: "أتيت أبي كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه عني من قلبي فقال: إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير ذلك كنت من أهل النار قال فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت فكل منهم حدثني بمثل ذلك عن رسول الله " وهذا الحديث حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه وله شأن عظيم وهو دال على أن من تلكم به أعرف الخلق بالله وأعظمهم له توحيدا وأكثرهم له تعظيما وفيه الشفاء التام في باب العدل والتوحيد فإنه لا يزال يجول في نفوس كثير من الناس كيف يجتمع القضاء والقدر والأمر والنهي وكيف يجتمع العدل والعقاب على المقضي المقدر الذي لا بد للعبد من فعله ثم سلك كل طائفة في هذا المقام واديا وطريقا فسلك الجبرية وادي الجبر وطريق المشيئة المحضة الذي يرجح مثلا على مثل من غير اعتبار علة ولا غاية ولا حكمة قالوا وكل ممكن عدل والظلم هو الممتنع لذاته فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لكان متصرفا في ملكه والظلم تصرف القادر في غير ملكه وذلك مستحيل عليه سبحانه قالوا ولما كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة لم تكن الأعمال سببا للنجاة فكانت رحمته للعباد هي المستقلة بنجاتهم فكانت رحمته خيرا من أعمالهم وهؤلاء راعوا جانب الملك وعطلوا جانب الحمد والله سبحانه له الملك وله الحمد وسلكت القدرية وادي العدل والحكمة ولم يوفوه حقه وعطلوا جانب التوحيد وحاروا في هذا الحديث ولم يدروا ما وجهه وربما قابله كثير منهم بالتكذيب والرد له وأن الرسول لم يقل ذلك قالوا وأي ظلم يكون أعظم من تعذيب من استنفذ أوقات عمره كلها واستفرغ قواه في طاعته وفعل ما يحبه ولم يعصه طرفة عين وكان يعمل بأمره دائما فكيف يقول الرسول أن تعذيب هذا يكون عدلا لا ظلما ولا يقال أن حقه عليهم وما ينبغي له أعظم من طاعاتهم فلا تقع تلك الطاعات في مقابلة نعمه وحقوقه فلو عذبهم لعذبهم بحقه عليهم لأنهم إذا فعلوا مقدورهم من طاعته لم يكلفوا بغيره فكيف يعذبون على ترك ما لا قدرة لهم عليه وهل ذلك إلا بمنزلة تعذيبهم على كونهم لم يخلقوا السماوات والأرض ونحو ذلك مما لا يدخل تحت مقدورهم قالوا فلا وجه لهذا الحديث إلا رده أو تأويله وحمله على معنى يصح وهو أنه لو أراد تعذيبهم جعلهم أمة واحدة على الكفر فلو عذبهم في هذه الحال لكان غير ظالم لهم وهو لم يقل لو عذبهم مع كونهم مطيعين له عابدين له لعذبهم وهو غير ظالم لهم ثم أخبر أنه لو عمهم بالرحمة لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم ثم أخبر أنه لا يقبل من العبد عمل حتى يؤمن بالقدر والقدر هو علم الله بالكائنات وحكمه فيها ووقفت طائفة أخرى في وادي الحيرة بين القدر والأمر والثواب والعقاب فتارة يغلب عليهم شهود القدر فيغيبون به عن الأمر وتارة يغلب عليهم شهود الأمر فيغيبون عن القدر وتارة يبقون في حيرة وعمى وهذا كله إنما سببه الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة التي بنوا عليها ولو جمعوا بين الملك والحمد والربوبية والإلهية والحكمة والقدرة وأثبتوا له الكمال المطلق ووصفوه بالقدرة التامة الشاملة والمشيئة العامة النافذة التي لا يوجد كائن إلا بعد وجودها والحكمة البالغة التي ظهرت في كل موجود لعلموا حقيقة الأمر وزالت عنهم الحيرة ودخلوا إلى الله سبحانه من باب أوسع من السماوات السبع وعرفوا أنه لا يليق بكماله المقدس إلا ما أخبر به عن نفسه على ألسنة رسله وأن ما خالفه ظنون كاذبة وأوهام باطلة تولدت بين أفكار باطلة وآراء مظلمة فنقول وبالله التوفيق وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله، الرب تبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره هو المنعم على الحقيقة بصنوف النعم التي لا يحصيها أهل سماواته وأرضه فإيجادهم نعمة منه وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه وإعطائهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة منه وإدرار الأرزاق عليهم على اختلاف أنواعها وأصنافها نعمة منه وتعريفهم نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه وإجراء ذكره على ألسنتهم ومحبته ومعرفته على قلوبهم نعمة منه وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه وقيامه بمصالحهم دقيقها وجليلها نعمة منه وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعايشهم نعمة منه وذكر نعمه على سبيل التفصيل لا سبيل إليه ولا قدرة للبشر عليه ويكفي أن النفس من أدنى نعمه التي لا يكادون يعدونها وهو أربعة وعشرون ألف نفس في كل يوم وليلة فلله على العبد في النفس خاصة أربعة وعشرون ألف نعمة كل يوم وليلة دع ما عدا ذلك من أصناف نعمه على العبد ولكل نعمة من هذه النعم حق من الشكر يستدعيه ويقتضيه فإذا وزعت طاعات العبد كلها على هذه النعم لم يخرج قسط كل نعمة منها إلا جزء يسير جدا لا نسبة له إلى قدر تلك النعمة بوجه من الوجوه قال أنس بن مالك ينشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه ذنوبه وديوان فيه العمل الصالح فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من نعمه فتقوم فتستوعب عمله كله ثم تقول أي رب وعزتك وجلالك ما استوفيت ثمني وقد بقيت الذنوب والنعم فإذا أراد الله بعبد خيرا قال ابن آدم ضعفت حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمي فما بيني وبينك وفي صحيح الحاكم حديث "صاحب الرمانة الذي عبد الله خمسمائة سنة يأكل كل يوم رمانة تخرج له من شجرة ثم يقوم إلى صلاته فسأل ربه وقت الأجل أن يقبضه ساجدا وأن لا يجعل للأرض عليه سبيلا حتى يبعث وهو ساجد فإذا كان يوم القيامة وقف بين يدي الرب فيقول تعالى أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول رب بل بعملي فيقول الرب جل جلاله قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فتؤخذ نعمة البصر بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضلا عليه فيقول أدخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي رب برحمتك رب برحمتك أدخلني الجنة فيقول ردوه فيوقف بين يديه فيقول يا عبدي من خلقك ولم تكن شيئا فيقول أنت يا رب فيقول من قواك على عبادة خمسمائة سنة فيقول أنت يا رب فيقول من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح وأخرج لك كل يوم رمانة وإنما تخرج مرة في السنة وسألتني أن أقبضك ساجدا ففعلت ذلك بك فيقول أنت يا رب فيقول الله فذلك برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة" رواه من طريق يحيى بن بكير حدثنا الليث بن سعد عن سليمان بن هرم عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي والإسناد صحيح ومعناه صحيح لا ريب فيه فقد صح عنه أنه قال: "لن ينجو أحد منكم بعمله وفي لفظ لن يدخل احد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" فقد أخبر : "أنه لا ينجي أحدا عمله من الأولين ولا من الآخرين إلا أن يرحمه ربه سبحانه" فتكون رحمته خير له من عمله لأن رحمته تنجيه وعمله لا ينجيه فعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم ببعض حقه عليهم ومما يوضحه أنه كلما كملت نعمة الله على العبد عظم حقه عليه وكان ما يطالب به من الشكر أكثر مما يطالب من دونه فيكون حق الله عليه أعظم وأعماله لا تفي بحقه عليه وهذا إنما يعرفه حق المعرفة من عرف الله وعرف نفسه هذا كله لو لم يحصل للعبد من الغفلة والإعراض والذنوب ما يكون في قبالة طاعاته فكيف إذا حصل له من ذلك ما يوازي طاعاته أو يزيد عليها فإن من حق الله على عبده أن يعبده لا يشرك به شيئا وأن يذكره ولا ينساه وأن يشكره ولا يكفره وأن يرضى به ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وليس الرضا بذلك مجرد إطلاق هذا اللفظ وحاله وإرادته وتكذيبه وتخالفه فكيف يرضى به ربا من يسخط ما يقضيه له إذا لم يكن موافقا لإرادته وهواه فيظل ساخطا به متبرما يرضى وربه غضبان ويغضب وربه راض فهذا إنما رضي من ربه حظا لم يرض بالله ربا وكيف يدعي الرضا بالإسلام دينا من ينبذ أصوله خلف ظهره إذا خالفت بدعته وهواه وفروعه وراءه إذا لم يوافق غرضه وشهوته وكيف يصح الرضا بمحمد رسولا من لم يحكمه على ظاهره وباطنه ويتلق أصول دينه وفروعه من مشكاته وحده وكيف يرضى به رسولا من يترك ما جاء به لقول غيره ولا يترك قول غيره لقوله ولا يحكمه ويحتج بقوله إلا إذا وافق تقليده ومذهبه فإذا خالفه لم يلتفت إلى قوله والمقصود أن من حقه سبحانه على كل أحد من عبيده أن يرضى به ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وأن يكون حبه كله لله وبغضه في الله وقوله لله وتركه لله وأن يذكره ولا ينساه ويطيعه ولا يعصيه ويشكره ولا يكفره وإذا قام بذلك كله كانت نعم الله عليه أكثر من عمله بل ذلك نفسه من نعم الله عليه حيث وفقه له ويسره وأعانه عليه وجعله من أهله واختصه به على غيره فهو يستدعي شكرا آخر عليه ولا سبيل له إلى القيام بما يجب لله من الشكر أبدا فنعم الله تطالبه بالشكر وأعماله لا تقابلها وذنوبه وغفلته وتقصيره قد تستنفد عمله فديوان النعم وديوان الذنوب يستنفدان طاعاته كلها هذا وأعمال العبد مستحقة عليه بمقتضى كونه عبدا مملوكا مستعملا فيما يأمره به سيده فنفسه مملوكة وأعماله مستحقة بموجب العبودية فليس له شيء من أعماله كما أنه ليس له ذرة من نفسه فلا هو مالك لنفسه ولا صفاته ولا أعماله ولا لما بيده من المال في الحقيقة بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه لمالكه أعظم استحقاقا من سيد اشترى عبدا بخالص ماله ثم قال اعمل وأد إليّ فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء فلو عمل هذا العبد من الأعمال ما عمل فإن ذلك كله مستحق عليه لسيده وحق من حقوقه عليه فكيف بالمنعم المالك على الحقيقة الذي لا تعد نعمه وحقوقه على عبده ولا يمكن أن تقابلها طاعاته بوجه فلو عذبه سبحانه لعذبه وهو غير ظالم له وإذا رحمه فرحمته خير له من أعماله ولا تكون أعماله ثمنا لرحمته البتة فلولا فضل الله ورحمته ومغفرته ما هنا أحدا عيش البتة ولا عرف خالقه ولا ذكره ولا آمن به ولا أطاعه فكما أن وجود العبد محض وجوده وفضله ومنته عليه وهو المحمود على إيجاده فتوابع وجوده كلها كذلك ليس للعبد منها شيء كما ليس له في وجوده شيء فالحمد كله لله والفضل كله له والإنعام كله له والحق له على جميع خلقه ومن لم ينظر في حقه عليه وتقصيره وعجزه عن القيام به فهو من أجهل الخلق بربه وبنفسه ولا تنفعه طاعاته ولا يسمع دعاؤه قال الإمام أحمد حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: "بلغني أن نبي الله موسى مر برجل يدعو ويتضرع فقال يا رب ارحمه فإني قد رحمته فأوحى الله تعالى إليه لو دعاني حتى ينقطع فؤاده ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه" والعبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه ونعمه وحقوقه وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته فهو يعلم أن ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه وأن أقضيته كلها عدل فيه وأن ما فيه من الخير فمجرد فضله ومنته وصدقته عليه ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي" فلا يرى نفسه إلا مقصرا مذنبا ولا يرى ربه إلا محسنا متفضلا وقد قسم الله خلقه إلى قسمين لا ثالث لهما تائبين وظالمين فقال: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وكذلك جعلهم قسمين معذبين وتائبين فمن لم يتب فهو معذب ولا بد قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وأمر جميع المؤمنين من أولهم إلى أخرهم بالتوبة ولا يستثنى من ذلك أحد وعلق فلاحهم بها قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وعدد سبحانه من جملة نعمه على خير خلقه وأكرمهم عليه وأطوعهم له وأخشاهم له أن تاب عليه وعلى خواص أتباعه فقال: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} ثم كرر توبته عليهم فقال: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقدم توبته عليهم على توبة الثلاثة الذين خلفوا وأخبر سبحانه أن الجنة التي وعدها أهلها في التوراة والإنجيل أنها يدخلها التائبون فذكر عموم التائبين أولا ثم خص النبي والمهاجرين والأنصار بها ثم خص الثلاثة الذين خلفوا فعلم بذلك احتياج جميع الخلق إلى توبته عليهم ومغفرته لهم وعفوه عنهم وقد قال تعالى لسيد ولد آدم وأحب خلقه إليه عفا الله عنك فهذا خبر منه وهو أصدق القائلين أو دعاء لرسوله بعفوه عنه وهو طلب من نفسه وكان يقول في سجوده أقرب ما يكون من ربه: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وقال لأطوع نساء الأمة وأفضلهن وخيرهن الصديقة بنت الصديق وقد قالت له يا رسول الله لئن وافقت ليلة القدر فما أدعو به قال: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو سبحانه لمحبته للعفو والتوبة خلق خلقه على صفات وهيئات وأحوال تقتضي توبتهم إليه واستغفارهم وطلبهم عفوه ومغفرته وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله : "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" والله تعالى يحب التوابين والتوبة من أحب الطاعات إليه ويكفي في محبتها شدة فرحه بها كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله : "قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني والله للهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة" وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن رسول الله : "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال أرجع إلى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده" وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير يرفعه إلى النبي قال: "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده من رجل حمل زاده ومزاده على بعير ثم سار حتى كان بفلاة فأدركته القائلة فنزل فقال تحت شجرة فغلبته عينه وانسل بعيره فاستيقظ فسعى شرفا فلم ير شيئا ثم سعى شرفا ثانيا ثم سعى شرفا ثالثا فلم ير شيئا فأقبل حتى أتى إلى مكانه الذي قال فيه فبينا هو قاعد فيه إذ جاء بعيره يمشي حتى وضع خطامه في يده" فالله أشد فرحا بتوبة العبد من هذا حين وجد بعيره فتأمل محبته سبحانه لهذه الطاعة التي هي أصل الطاعات وأساسها فإن من زعم أن أحدا من الناس يستغني عنها ولا حاجة به إليها فقد جهل حق الربوبية ومرتبة العبودية وينتقص بمن أغناه بزعمه عن التوبة من حيث زعم أنه معظم له إذ عطله عن هذه الطاعة العظيمة التي هي من أجل الطاعات والقربة الشريفة التي هي من أجل القربات وقال لست من أهل هذه الطاعة ولا حاجة بك إليها فلا قدر الله حق قدره ولا قدر العبد حق قدره وقد جعل بعض عباده غنيا عن مغفرة الله وعفوه وتوبته إليه وزعم أنه لا يحتاج إلى ربه في ذلك وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله : "للهُ أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب عن أحدكم من رجل كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع وقد يئس من راحلته فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح" وأكمل الخلق أكملهم توبة وأكثرهم استغفارا وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" ولما سمع أبو هريرة هذا من النبي كان يقول ما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد عنه: "إني لأستغفر الله في اليوم والليلة اثني عشر ألف مرة بقدر ديتي" ثم ساقه من طريق آخر وقال: "بقدر ذنبه" وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا محمد بن راشد عن مكحول عن رجل عن أبي هريرة قال: "ما جلست إلى أحد أكثر استغفارا من رسول الله " قال الرجل: "وما جلست إلى أحد أكثر استغفارا من أبي هريرة" وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني أن رسول الله قال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" وفي السنن والمسند من حديث ابن عمر قال: "كنا نعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل ثنا يونس عن حميد بن هلال عن أبي بردة قال جلست إلى الشيخ من أصحاب رسول الله في مسجد الكوفة فحدثني قال: سمعت رسول الله أو قال قال رسول الله : "يا أيها الناس توبوا إلى الله عز وجل واستغفروه فإني أتوب إلى الله وأستغفره كل يوم مائة مرة" قال الإمام أحمد وثنا يحيى عن شعبة ثنا عمرو بن مرة قال سمعت أبا بردة قال سمعت الأغر يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله يقول: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم عز وجل فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة" وقال أحمد ثنا يزيد أنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن عائشة قالت كان النبي يقول: "اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤا استغفروا" وكان من دعائه في أول الصلاة عند الاستفتاح بعد التكبير: "اللهم أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت لبيك وسعديك والخير في يديك وأنا بك وإليك تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب إليك" رواه مسلم وفي الصحيحين عنه أنه كان يقول في دعائه: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" وكان يقول هذا سرا لم يعلم به من خلفه حتى سأله عنه أبو هريرة وروى عنه علي بن أبي طالب أنه كان إذا استفتح الصلاة قال لا إله إلا أنت ظلمت نفسي وعملت سوأ فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وفي الصحيحين أنه كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى: "أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملأ السماوات وملأ الأرض وملأ ما شئت من شيء بعد اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ" وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله أوله وآخره علانيته وسره" وفي مسند الإمام أحمد أنه كان يقول في صلاته: "اللهم اغفر لي ووسع عليّ في ذاتي وبارك لي فيما رزقتني" وفي صحيح مسلم عن فروة بن نوفل قال: قلت لعائشة حدثيني بشيء كان رسول الله يدعو به في صلاته قالت: نعم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما علمت ومن شر ما لم أعلم وكان يقول بين السجدتين اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني" وكان يقول في قيامه إلى الصلاة بالليل: "اللهم لك الحمد" الحديث وفيه "فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت" وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن النبي كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير"، وحقيقة الأمر أن العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له وإحسانه إليه وقيامه بمصالحه وتدبيره له وفقير إليه من جهة إلهيته وكونه معبوده وإلهه ومحبوبه الأعظم الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون أحب شيء إليه فيكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله ووالده وولده ومن الخلق كلهم وفقير إليه من جهة معافاته له من أنواع البلاء فإنه إن لم يعافيه منها هلك ببعضها وفقير إليه من جهة عفوه عنه ومغفرته له فإن لم يعف عن العبد ويغفر له فلا سبيل إلى النجاة فما نجى أحد إلا بعفو الله ولا دخل الجنة إلا برحمة الله وكثير من الناس ينظر إلى نفس ما يتاب منه فيراه نقصا ولا ينظر إلى كمال الغاية الحاصلة بالتوبة وأن العبد بعد التوبة النصوح خير منه قبل الذنب ولا ينظر إلى كمال الربوبية وتفرد الرب بالكمال وحده وأن لوازم البشرية لا ينفك منها البشر وأن التوبة غاية كل أحد من ولد آدم وكماله كما كانت هي غايته وكماله فليس للعبد كمال بدون التوبة البتة كما أنه ليس له انفكاك عن سببها فإنه سبحانه هو المتفرد المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار والعبد هو الفقير المحتاج إليه المضطر إليه بكل وجه وبكل اعتبار فرحمته للعبد خير له من عمله فإن عمله لا يستقل بنجاته ولا سعادته ولو وكل إلى عمله لم ينج به البتة فهذا بعض ما يتعلق بقوله : "إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم" ومما يوضحه أن شكره سبحانه مستحق عليهم بجهة ربوبيته لهم وكونهم عبيده ومماليكه وذلك يوجب عليهم أن يعرفوه ويعظموه ويوحدوه ويتقربوا إليه تقرب العبد المحب الذي يتقلب في نعمه ولا غناء به عنه طرفة عين فهو يدأب في التقرب إليه بجهده ويستفرغ في ذلك وسعه وطاقته ولا يعدل به سواه في شيء من الأشياء ويؤثر رضا سيده على إرادته وهواه بل لا هوى له ولا إرادة إلا فيما يريد سيده ويحبه وهذا يستلزم علوما وأعمالا وإرادات وغرائم لا يعارضها غيرها ولا يبقى له معها التفات إلى غيره بوجه ومعلوم أن ما يطبع عليه البشر لا يفي بذلك وما يستحقه الرب تعالى لذاته وأنه أهل أن يعبد أعظم مما يستحقه لإحسانه فهو المستحق لنهاية العبادة والخضوع والذل لذاته ولإحسانه وإنعامه وفي بعض الآثار "لو لم أخلق جنة ولا نارا لكنت أهلا أن أعبد" ولهذا يقول أعبد خلقه له يوم القيامة وهم الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك فمن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يعبد به ويستحقه لذاته وإحسانه فلا نسبة للواقع منهم إلى ما يستحقه بوجه من الوجوه فلا يسعهم إلا عفوه وتجاوزه وهو سبحانه أعلم بعباده منهم بأنفسهم فلو عذبهم لعذبهم بما يعلمه منهم وإن لم يحيطوا به علما ولو عذبهم قبل أن يرسل رسله إليهم على أعمالهم لم يكن ظالما لهم كما أنه سبحانه لم يظلمهم بمقته لهم قبل إرسال رسوله على كفرهم وشركهم وقبائحهم فإنه سبحانه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ولكن أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه برسالته وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه ولا يقوم بذلك أحد كان حقه سبحانه على كل أحد وله المطالبة به وإن لم يغفر له ويرحمه وإلا عذبه فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه فإن لم يحفظهم هلكوا وإن لم يرزقهم هلكوا وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا ولهذا قال أبوهم آدم وأمهم حواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهذا شأن ولده من بعده وقد قال موسى كليمه سبحانه: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وقال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وقال: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} وقال خليله إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وقال أول رسله إلى أهل الأرض: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقال لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَق} إلى قوله: {وَاسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} وقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} وقد تقدم حديث ابن عباس في دعائه : "رب أعني ولا تعن عليّ" وفيه "رب تقبل توبتي واغسل حوبتي" الحديث وقد أخبر سبحانه عن أعبد البشر داود أنه استغفر ربه راكعا وأناب وقال تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِك} وقال عن نبيه سليمان: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وقال عن نبيه يونس أنه ناداه في الظلمات: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال صديق الأمة وخيرها وأبرها وأتقاها لله بعد رسوله: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني أنك أنت الغفور الرحيم" فاستفتح الخبر عن نفسه بأداة التوكيد التي تقتضي تقرير ما بعدها ثم ثنى بالإخبار عن ظلمه لنفسه ثم وصف ذلك الظلم بكونه ظلما كبيرا ثم طلب من ربه أن يغفر له مغفرة من عنده أي لا يبلغها علمه ولا سعيه بل هي محض منته وإحسانه وأكبر من عمله فإذا كان هذا شأن من وزن بالأمة فرجح بهم فكيف بمن دونه.

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض | الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم | الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي لآدم | الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه | الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر | الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي | الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب | الباب الثامن: في قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر | الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى | الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة | الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة | الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال | الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما | الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب | الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال | الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا | الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال | الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني | الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني | الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي | الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها | الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها | الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره | الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا | الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله : "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء | الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من قواعد الدين | الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه | الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال | الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه