شفاء العليل/الباب الثاني والعشرون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره وإثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها

قالت النفاة قد أجلبتم علينا بما استطعتم من خيل الأدلة ورجلها فاسمعوا الآن ما يبطله ثم أجيبوا عنه إن أمكنكم الجواب فنقول ما قاله أفضل متأخريهم محمد بن عمر الرازي: "كل من فعل فعلا لأجل تحصيل مصلحة أو لدفع مفسدة فإن كان تحصيل تلك المصلحة أولى من عدم تحصيلها كان ذلك الفاعل قد استفاد بذلك الفعل تحصيل ذلك" ومن كان كذلك كان ناقصا بذاته مستكملا بغيره وهو في حق الله محال وإن كان تحصيلها وعدمه بالنسبة إليه سواء فمع ذلك لا يحصل الرجحان فامتنع تحصيلها ثم أورد سؤالا وهو لا يقال حصولها واللاحصولها بالنسبة إليه وإن كان على التساوي إلا أن حصولها للعبد أولى من عدم حصولها له فلأجل هذه الأولوية العائدة إلى العبد يرجح الله سبحانه الوجود على العدم ثم أجاب بأنا نقول تحصيل تلك المصلحة وعدم تحصيلها له إما أن يكونا متساويين بالنسبة إلى الله أو لا يستويان وحينئذ يعود التقسيم المذكور قال المثبتون الجواب عن هذه الشبهة من وجوه أحدها أن قولك أن كل من فعل لغرض يكون ناقصا بذاته مستكملا بغيره ما تعني بقولك أنه يكون ناقصا بذاته أتعني به أنه يكون عادما لشيء من الكمال الذي لا يجب أن يكون له قبل حدوث ذلك المراد أم تعني به أن يكون عادما لما ليس كمالا قبل وجوده أم تعني به معنى ثالثا فإن عنيت الأول فالدعوى باطلة فإنه لا يلزم من فعله لغرض حصوله أولى من عدمه أن يكون عادما لشيء من الكمال الواجب قبل حدوث المراد فإنه يمتنع أن يكون كمالا قبل حصوله وإن عنيت الثاني لم يكن عدمه نقصا فإن الغرض ليس كمالا قبل وجوده وما ليس بكمال في وقت لا يكون عدمه نقصا فيه فما كان قبل وجوده عدمه أولى من وجوده وبعد وجوده وجوده أولى من عدمه لم يكن عدمه قبل وجوده نقصا ولا وجوده بعد عدمه نقصا بل الكمال عدمه قبل وقت وجوده وجوده وقت ووجوده وإذا كان كذلك فالحكم المطلوبة والغايات من هذا النوع وجودها وقت وجودها هو الكمال وعدمها حينئذ نقص وعدمها وقت عدمها كمال ووجودها حينئذ نقص وعلى هذا فالنافي هو الذي نسب النقص إلى الله لا المثبت وإن عنيت به أمرا ثالثا فلا بد من بيانه حتى ننظر فيه الجواب الثاني إن قولك يلزم أن يكون ناقصا بذاته مستكملا بغيره أتعني به أن الحكمة التي يجب وجودها إنما حصلت له من شيء خارج عنه أم تعني أن تلك الحكمة نفسها غير له وهو مستكمل بها فإن عنيت الأول فهو باطل فإنه لا رب غيره ولا خالق سواه ولم يستفد سبحانه من غيره كمالا بوجه من الوجوه بل العالم كله إنما استفاد الكمال الذي فيه منه سبحانه وهو لم يستفد كماله من غيره كما لم يستفد وجوده من غيره وإن عنيت الثاني فتلك الحكمة صفته سبحانه وصفاته ليست غيرا له فإن حكمته قائمة به وهو الحكيم الذي له الحكمة كما أنه العليم الذي له العلم والسميع الذي له السمع والبصير الذي له البصر فثبوت حكمته لا يستلزم استكماله بغير منفصل عنه كما أن كماله سبحانه بصفاته وهو لم يستفدها من غيره الجواب الثالث أنه سبحانه إذا كان إنما يفعل لأجل أمر هو أحب إليه من عدمه كان اللازم من ذلك حصول مراده الذي يحبه وفعل لأجله وهذا غاية الكمال وعدمه هو النقص فإن من كان قادرا على تحصيل ما يحبه وفعله في الوقت الذي يحب على الوجه الذي يحب فهو الكامل حقا لا من لا محبوب له أو له محبوب لا يقدر على فعله الجواب الرابع أن يقال أنت ذكرت في كتبك أنه لم يقم على نفي النقص عن الله دليل عقلي واتّبعت في ذلك الجويني وغيره وقلتم إنما ينفى النقص عنه عز وجل بالسمع وهو الإجماع فلم تنفوه عن الله عز وجل بالعقول ولا بنص منقول عن الرسول بل بما ذكرتموه من الإجماع وحينئذ فإنما ينفى بالإجماع ما انعقد الإجماع على نفيه والفعل بحكمه لم ينعقد الإجماع على نفيه فلم تجمع الأمة على انتفاء التعليل لأفعال الله فإذا سميت أنت ذلك نقصا لم تكن هذه التسمية موجبة لانعقاد الإجماع على نفيها فإن قلت أهل الإجماع أجمعوا على نفي النقص وهذا نقص قيل نعم الأمة مجمعة على ذلك ولكن الشأن في هذا الوصف المعني أهو نقص فيكون قد أجمعت على نفيه فهذا أول المسألة والقائلون بإثباته ليس هو عندهم نقصا بل هو عين الكمال ونفيه عين النقص وحينئذ فنقول في الجواب الخامس أن إثبات الحكمة كمال كما تقدم تقريره ونفيه نقص والأمة مجمعة على انتفاء النقص عن الله بل العلم بانتفائه عن الله تعالى من أعلى العلوم الضرورية المستقرة في فطر الخلق فلو كانت أفعاله معطلة عن الحكم والغايات المحمودة لزم النقص وهو محال ولزوم النقص من انتفاء الحكم أظهر في العقول والفطر والعلوم الضرورية والنظرية من لزوم النقص من إثبات ذلك وحينئذ فتقول في الجواب السادس النقص إما أن يكون جائزا أو ممتنعا فإن كان جائزا بطل دليلك وإن كان ممتنعا بطل دليلك أيضا فبطل الدليل على التقديرين الجواب السابع أن النقص منتف عن الله عز وجل عقلا كما هو منتف عنه سمعا والعقل والنقل يوجب اتصافه بصفات الكمال والنقص هو ما يضاد صفات الكمال فالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة صفات كمال وأضدادها نقص فوجب تنزيهه عنها لمنافاتها لكماله وأما حصول ما يحبه الرب تعالى في الوقت الذي يحبه فإنما يكون كمالا إذا حصل على الوجه الذي يحبه فعدمه قبل ذلك ليس نقصا إذ كان لا يحب وجوده قبل ذلك الجواب الثامن أن يقال الكمال الذي يستحقه سبحانه وتعالى هو الكمال الممكن أو الممتنع فالأول مسلم والثاني باطل قطعا فلم قلت أن وجود الحادث في غير وقته الذي وجد فيه ممكن بل وجود الحادث في الأزل ممتنع فعدمه لا يكون نقصا الجواب التاسع أن عدم الممتنع لا يكون كمالا فإن الممتنع ليس بشيء في الخارج وما ليس بشيء لا يكون عدمه نقصا فإنه إن كان في المقدور ما لا يحدث إلا شيئا بعد شيء كان وجوده في الأزل ممتنعا فلا يكون عدمه نقصا وإنما يكون الكمال وجوده حين يمكن وجوده، الجواب العاشر أن يقال أنه تعالى أحدث أشياء بعد أن لم يكن محدثا لها كالحوادث المشهودة حتى أن القائلين بكون الفلك قديما عن عله موجبة يقرون بذلك ويقولون أنه يحدث الحوادث بواسطته وحينئذ فنقول هذا الإحداث إما أن يكون صفة كمال وإما أن لا يكون فإن كان صفة كمال فقد كان فاقدا لها قبل ذلك وإن لم يكن صفة كمال فقد اتصف بالنقص فإن قلت نحن نقول بأنه ليس صفة كمال ولا نقص قيل فهلا قلتم ذلك في التعليل وأيضا فهذا محال في حق الرب تعالى فإن كل ما يفعله يستحق عليه الحمد وكل ما يقوم من صفاته فهو صفة كمال وضده نقص وقد ينازع النظار في الفاعلية هل هي صفة كمال أم لا وجمهور المسلمين من جميع الفرق يقولون هي صفة كمال وقالت طائفة ليست صفة كمال ولا نقص وهو قول أكثر الأشعرية فإذا التزم له هذا القول قيل له الجواب من وجهين أحدهما أن من المعلوم تصريح العقل أن من يخلق أكمل ممن لا يخلق كما قال تعالى:

{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وهذا استفهام إنكار يتضمن الإنكار على من سوى بين الأمرين يعلم أن أحدهما أكمل من الآخر قطعا ولا ريب أن تفضيل من يخلق على من لا يخلق في الفطر والعقول كتفضيل من يعلم على من لا يعلم ومن يقدر على من لا يقدر ومن يسمع ويبصر على من لا يسمع ولا يبصر ولما كان هذا مستقرا في فطر بني آدم جعله الله تعالى من آلة توحيده وحججه على عباده قال تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون} وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} وقال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فمن سوى بين صفة الخالقية وعدمها فلم يجعل وجودها كمالا ولا عدمها نقصا فقد أبطل حجج الله وأدلة توحيده وسوى بين ما جعل بينهما أعظم التفاوت وحينئذ فنقول في الجواب الحادي عشر إذا كان الأمر كما ذكرتم فلم لا يجوز أن يفعل لحكمة يكون وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء كما أنه عندكم لم يحدث ما يحدثه مع كون الإحداث والخلق وعدمه بالنسبة إليه سواء مع أن هذه إرادة لا تعقل في الشاهد فقولوا مثل ذلك في الحكمة وأن ذلك لا يعقل لا سيما والفعل عندكم هو المفعول المنفصل فجوزوا أيضا أن يفعل لحكمة منفصلة وأنتم إنما قلتم ذلك فرارا من قيام الحوادث به ومن التسلسل فكذلك قولوا بنظير ذلك في الحكمة والذي يلزم أولئك فهو نظير ما يلزمكم سواء، الجواب الثاني عشر أن يقال العقل الصريح يقضي بأن من لا حكمة لفعله ولا غاية يقصدها به أولى بالنقص ممن يفعل لحكمة كانت معدومة ثم صارت موجودة في الوقت الذي اقتضت حكمته إحداث الفعل فيه فكيف يسوغ لعاقل أن يقول فعله للحكمة يستلزم النقص وفعله لا لحكمة لا نقص فيه، الجواب الثالث عشر أن هؤلاء النفاة يقولون أنه سبحانه يفعل ما يشاء من غير اعتبار حكمة فيجوزون عليه كل ممكن حتى الأمر بالشرك والكذب والظلم والفواحش والنهي عن التوحيد والصدق والعدل والعقاب وحينئذ فنقول إذا جازت عليه هذه المرادات وليس في إرادتها نقص وهذا مراد فلا نقص فيه فقولهم من فعل شيئا لشيء كان ناقصا بدونه قضية كلية ممنوعة العموم وعمومها أولى بالمنع من قول القائل من أكرم أهل الجهل والظلم والفساد وأهان أهل العلم والعدل والبر كان سفيها جائرا وهذا عند النفاة جائز على الله ولم يكن به سفيها جائرا وكذلك قول القائل من أرسل إماءه وعبيده يفجر بعضهم ببعض ويقتل بعضهم بعضا وهو قادر على أن يكفيهم كان سفيها والله قد فعل ذلك ولم يدخل في عموم هذه القضية فكذا القضية الكلية التي ادعوا ثبوتها في محل النزاع أولى أن تكون باطلة منتقضة، الجواب الرابع عشر أنه لو سلم لهم أنه مستكمل بأمر حادث لكان هذا من الحوادث المرادات وكل ما هو حادث مراد عندهم فليس بقبيح فإن القبيح عندهم ليس إلا مخالفة الأمر والنهي والله ليس فوقه آمر ولا ناه فلا ينزه عندهم عن شيء من الممكنات البتة إلا ما أخبر بأنه لا يكون فإنهم ينزهونه عن كونه لمخالفة حكمته والقبيح عندهم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة وما دخل تحت القدرة لم يكن قبيحا ولا مستلزما نقصا عندهم وجماع ذلك بالجواب الخامس عشر أنه ما من محذور يلزم من تجويز فعله لحكمة إلا والمحاذير التي يلزم من كونه يفعل لا لحكمة أعظم امتناعا فإن كانت تلك المحاذير غير ممتنعة كانت محاذير إثبات الحكمة أولى بعدم الامتناع وإن كانت محاذير إثبات الحكمة ممتنعة فمحاذير نفيها أولى بالامتناع، الجواب السادس عشر أن فعل الحي العالم الاختياري لا لغاية ولا لغرض يدعوه إلى فعله لا يعقل بل هو من الممتنعات لهذا لا يصدر إلا من مجنون أو نائم أو زائل العقل فإن الحكمة والعلة الغائية هي التي تجعل المريد مريدا فإنه إذا علم بمصلحة الفعل ونفعه وغايته انبعثت إرادته إليه فإذا لم يعلم في الفعل مصلحة ولا كان له فيه غرض صحيح ولا داع يدعوه إليه فلا يقع منه إلا على سبيل العبث هذا الذي لا يعقل العقلاء سواه وحينئذ فنفي الحكمة والعلة والغاية عن فعل أحكم الحاكمين نفي لفعله الاختياري في الحقيقة وذلك أنقص النقص وقد تقدم تقرير ذلك وبالله التوفيق.

فصل: قال نفاة الحكمة هب أن الحجة بطلت فلا يلزم من بطلان دليل بطلان الحكم فنحن نذكر حجة غيرها فنقول لو كان فعله تعالى معللا بعلة فتلك العلة إن كانت قديمة لزم من قدمها قدم الفعل وهو محال وإن كانت محدثة افتقر كونه موجودا لتلك العلة إلى علة أخرى وهو محال وهذا معنى قول القائل علة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه قالوا ونحن نقرر هذه الحجة تقريرا أبسط من هذا فنقول لو كان فعله تعالى لحكمة فتلك الحكمة إما قديمة أو محدثة فإن كانت قديمة فإما أن يلزم من قدمها الفعل قدم الفعل أو لا يلزم فإن لزم فهو محال وإن لم يلزم القدم والفعل موجود بدونها فالحكمة غير حاصلة من ذلك الفعل لحصوله دونها وما لا يكون الحكمة متوقفة على حصوله لا يكون متوقفا عليها وهو المطلوب وإن كانت الحكمة حادثة بحدوث الفعل فإما أن تفتقر إلى فاعل أو لا تفتقر إلى فاعل فإن لم تفتقر لزم حدوث من غير فاعل وهو محال وإن افتقرت إلى فاعل فذلك الفاعل إما أن يكون هو الله أو غيره لا يجوز أن يكون غيره لأنه لا خالق إلا الله وإن كان هو الله فإما أن يكون له في فعله غرض أو لا غرض له فيه فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في الأول ويلزم التسلسل وإن كان الثاني فقد خلا فعله عن الغرض وهو المطلوب فإن قلت فعله لذلك الغرض لغرض هو نفسه فما خلا عن غرض ولم يلزم التسلسل قلنا فيلزم مثله في كل مفعول مخلوق وهو أن يكون الغرض منه هو نفسه من غير حاجة إلى غرض آخر وهو المطلوب فهذه حجة باهرة وافية بالغرض قال أهل الحكمة بل هي حجة داحضة باطلة من وجوه والجواب عنها من وجوه الجواب الأول أن نقول لا يخلو إما أن يمكن أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع أو لا يمكن واحد منهما فإن أمكن أن يكون قديم العين أو النوع أمكن في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون كذلك وإن لم يمكن أن يكون الفعل قديم العين ولا النوع فيقال إذا كان فعله حادث العين أو النوع كانت الحكمة كذلك فالحكمة يحذى بها حذو الفعل فما جاز عليه جاز عليها وما امتنع عليه امتنع عليها الجواب الثاني أن من قال أنه خالق مكون في الأزل لما لم يكن بعد قال قولي هذا كقول من قال هو مريد في الأزل لما لم يكن بعد فقولي بقدم كونه فاعلا كقول هؤلاء بقدم كونه مريدا وعلى هذا فيمكنني أن أقول بقدم الحكمة التي يخلق ويريد لأجلها ولا يلزم من قدم الحكمة قدم الفعل كما لم يلزم من قدم الإرادة قدم المراد وكما يلزم من قدم صفة التكوين قدم المكون فقولي في قدم الحكمة مع حدوث الفعل التي فعل لأجلها كقولكم في قدم الإرادة والتكوين سواء وما لزمني لزمكم مثله وجوابكم هو جوابي بعينه ولا يمتنع ذلك على أصول طائفة من الطوائف فإن من قال من الفلاسفة أن فعله قديم للمفعول المعني يقول أن الحكمة قديمة ومن قال بحدوث أعيان الفعل ودوام نوعه يقول ذلك في الحكمة سواء ومن قال بحدوث نوع الفعل وقيامه بالرب قال ذلك في الحكمة أيضا كما يقوله كثير من النظار فلا يمتنع على أصل طائفة من الطوائف إثبات الحكمة في فعله سبحانه الجواب الثالث قولك يفتقر كونه محدثا لتلك العلة إلى علة أخرى ممنوع فإن هذا إنما يلزم أن لو قيل كل حادث فلا بد له من علة ونحن لا نقول هذا بل نقول يفعله لحكمة ومعلوم أن المفعول لأجله مراد للفاعل محبوب له والمراد المحبوب تارة يكون مرادا لنفسه وتارة يكون مرادا لغيره والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى المراد لنفسه قطعا للتسلسل وهذا كما نقوله في خلقه بالأسباب أنه يخلق كذا بسبب كذا وكذا بسبب كذا حتى ينتهي الأمر إلى أسباب لا سبب لها سوى مشيئة الرب فكذلك يخلق لحكمة وتلك الحكمة لحكمة حتى ينتهي الأمر إلى حكمة لا حكمة فوقها الجواب الرابع أن النفاة يقولون كل مخلوق فهو مراد لنفسه لا لغيره وحينئذ فلا يمتنع أن يكون بعض المخلوقات مرادا لغيره وينتهي الأمر إلى مراد لنفسه بل هذا أولى بالجواز من جعل كل مخلوق مرادا لنفسه وكذلك في الأمر يكون مرادا لغيره حتى ينتهي إلى أمر مراد لنفسه الجواب الخامس أن يقال غاية ما ذكرتم أنه يستلزم التسلسل ولكن أي نوعي التسلسل هو اللازم التسلسل الممتنع أو الجائز فإن عنيتم الأول منع اللزوم وإن عنيتم الثاني منع انتفاء اللازم فإن التسلسل في الآثار المستقبلة ممكن بل واجب وفي الآثار الماضية فيه قولان للناس والتسلسل في العلل والفاعلين محال باتفاق العقلاء بأن يكون لهذا الفاعل فاعل قبله وكذلك ما قبله إلى غير نهاية وأما أن يكون الفاعل الواحد القديم الأبدي لم يزل يفعل ولا يزال فهذا غير ممتنع إذا عرف هذا فالحكمة التي لأجلها يفعل الفعل تكون حاصلة بعده فإذا كان بعدها حكمة أخرى فغاية ذلك أن يلزم حوادث لا نهاية لها وهذا جائز بل واجب باتفاق المسلمين ولم ينازع إلا بعض أهل البدع من الجهمية والمعتزلة فإن قيل فيلزم من هذا أن لا تحصل الغاية المطلوبة أبدا قيل بل اللازم أن لا تزال الغاية المطلوبة حاصلة دائما وهذا أمر معقول في الشاهد فإن الواحد من الناس يفعل الشيء لحكمة يحصل بها محبوبه ثم يلزم من حصول محبوبه محبوب آخر يفعل لأجله وهلم جرا حتى لو تصور دوامه أبدا لكانت هذه حاله وكماله فلم تزل محبوباته تحصل شيئا بعد شيء وهذا هو الكمال الذي يريده مع غناه التام الكامل عن كل ما سواه وفقر ما سواه إليه من جميع الوجوه وهل الكمال إلا ذلك وفواته هو النقص وهو سبحانه كتب على نفسه الرحمة والإحسان فرحمته وإحسانه من لوازم ذاته فلا يكون إلا رحيما محسنا وهو سبحانه إنما أمر العباد بما يحبه ويرضاه وأراد لهم من إحسانه ورحمته ما يحبه ويرضاه لكن فرق بين ما يريد هو سبحانه أن يخلقه ويفعله لما يحصل به من الحكمة التي يحبها فهذا يفعله سبحانه ولا بد من وجوده وبين ما يريد من العباد أن يفعلوه ويأمرهم بفعله ويحب أن يقع منهم ولا يشاء خلقه وتكوينه ففرق بين ما يريد خلقه وما يأمر به ولا يريد خلقه فإن الفرق بين ما يريد الفاعل أن يفعله وما يريد من المأمور أن يفعله فرق واضح والله سبحانه له الخلق والأمر فالخلق فعله والأمر قوله ومتعلقه أفعال عباده وهو سبحانه قد يأمر عبده ويريد من نفسه أن يعين عبده على فعل ما أمره لتحصل حكمته ومحبته من ذلك المأمور به وقد يأمره ولا يريد من نفسه إعانته على فعل المأمور لما له من الحكمة الثابتة في هذا الأمر وهذا الترك يأمره لئلا يكون له عليه حجة ولئلا يقول ما جاءني من نذير ولو أمرتني لبادرت إلى طاعتك ولم يرد من نفسه إعانته لأن محله غير قابل لهذه النعمة والحكمة التامة تقتضي أن لا توضع النعم عند غير أهلها وأن تمنع من أهلها قال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وقال: {لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وقال: {لَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} ولا يقال فهلا سوى بين خلقه في جعلهم كلهم أهلا لذلك فإن هذا ممكن له ولا أن يقال فهلا سوى بين صورهم وأشكالهم وأعمارهم وأرزاقهم ومعاشهم وهذا وإن كان ممكنا فالذي وقع من التفاوت بينهم هو مقتضى حكمته البالغة وملكه التام وربوبيته فاقتضت حكمته أن سوى بينهم في الأمر وفاوت بينهم في الإعانة عليه كما فاوت بينهم في العلوم والقدر والغنى والحسن والفصاحة وغير ذلك والتخصيصات الواقعة في ملكه لا تناقض حكمته بل هي من أدل شيء على كمال حكمته ولولاها لم يظهر فضله ومنه قال تعالى: {وَلَكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} فضلا من الله ونعمة والله عليم بمن يصلح لهذه النعمة حكيم في وضعها عند أهلها ومنعها غير أهلها وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ الله وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وقالت الرسل لقومهم: {نْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ الله يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} الآية وفي حديث مثل المؤمنين واليهود والنصارى قال تعالى لأهل الكتاب هل ظلمتكم من حقكم من شيء قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ الله وَكَفَى بِالله عَلِيماً} أي يعلم أين يضع فضله ومن يصلح له ممن لا يصلح بل يمنعه غير أهله ولا يضعه عند غير أهله وهذا كثير في القرآن يذكر أن تخصيصه هو فضله ورحمته فلو ساوى بين الخلائق لم يعرف قدر فضله ونعمته ورحمته فهذا بعض ما في تخصيصه من الحكمة وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: "أن موسى قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر" فمواضع التحصل ومواقع الفصل التي يقدح بها نفاة الحكمة هي من أدل شيء على كمال حكمته سبحانه ووضعه للفضل مواضعه وجعله عند أهله الذين هم أحق به وأولى من غيرهم وهو الذي جعلهم كذلك بحكمته وعلمه وعزته وملكه فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ولا يجب بل لا يمكن المشاركة في حكمته بل ما حصل للخلائق كلهم من العلم بها كنقرة عصفور في البحر المحيط وأي نقص في دوام حكمته شيئا بعد شيء كما تدوم إرادته وكلامه وأفعاله وإحسانه وجوده وإنعامه وهل الكمال إلا في هذا التسلسل فماذا نفر النفاة منه أنفرهم أن يقال لم يزل ولا يزال حيا عليما قديرا حكيما متكلما محسنا جوادا ملكا موصوفا بكل كمال غنيا عن كل ما سواه لا تنفد كلماته ولا تتناهى حكمته ولا تعجز قدرته ولا يبيد ملكه ولا تنقطع إرادته ومشيئته بل لم يزل ولا يزال له الخلق والأمر والحكمة والحكم وهل النقص إلا سلب ذلك عنه والله الموفق بفضله وإعانته الجواب السادس إن الرب تبارك وتعالى إذا خلق شيئا فلا بد من وجود لوازمه ولا بد من عدم أضداده فوجود الملزوم بدون لازمه محال ووجود الضد مع ضده ممتنع والمحال ليس بشيء ولا يتصور العقل وجوده في الخارج وإذا كان هذا التسلسل الجائز من لوازم خلقه وحكمته لم يكن في القول محذور بل كان المحذور في نفيه توضيحه الجواب السابع أنه لم يقم دليل عقلي ولا سمعي على امتناع دوام أفعال الرب في الماضي والمستقبل أصلا وكل أدلة النفاة من أولها إلى آخرها باطلة وقد كفى مؤنة إبطالها الرازي والآمدي في أكثر كتبهما وغيرها وأما إثبات الحكمة فقد قام على صحته العقل والسمع والفطرة وسائر أنواع الأدلة مما تقدمت الإشارة إلى بعض ذلك فكيف يقدح في هذا المعلوم الصحيح بذلك النفي الذي لم يقم على صحته دليل البتة الجواب الثامن أن التسلسل إما أن يكون ممكنا أو ممتعنا فإن كان ممكنا بطل استدلالكم وإن كان ممتنعا أمكن أن يقال في دفعه تنتهي المرادات إلى مراد لنفسه لا لغيره وينقطع التسلسل الجواب التاسع أن يقال ما المانع أن تكون الفاعلية معللة بعلة قديمة قولكم يلزم من قدمها قدم المعلول ينتقص عليكم بالإرادة فإنها قديمة ولم يلزم من قدمها قدم المراد فإن قلتم الإرادة القديمة تعلقت بالمراد الحادث في وقت حدوثه واقتضت وجوده حينئذ فهلا قلتم أن الحكمة القديمة تعلقت بالمراد وقت حدوثه كما قلتم في الإرادة فإن قلتم شأن الإدارة التخصيص قيل لكم وكذلك الحكمة شأنها تخصيص الشيء بزمانه ومكانه وصفته فالتخصيص مصدره الحكمة والإرادة والعلم والقدرة فإن لزم من قدم الحكمة قدم الفعل لزم من قدم الإرادة قدمه وإن لم يلزم ذلك لم يلزم هذا الجواب العاشر أن يقال لو لم يكن فعله لحكمة وغاية مطلوبة لم يكن مريدا فان المريد لا يعقل كونه مريدا إلا إذا كان يريد لغرض وحكمة فإذا انتفت الحكمة والغرض انتفت الإرادة ويلزم من انتفاء الإرادة أن يكون موجبا بالذات وهو علة تامة في الأزل لمعلوله فيلزم أن يقارنه جميع معلوله ولا يتأخر فيلزم من ذلك قدم الحوادث المشهودة وإنما لزم ذلك من انتفاء الحكمة والغرض المستلزمة لنفي الإرادة المستلزمة للإيمان الذاتي المستلزم لقدم الحوادث وتقرير هذا وبسطه في غير هذا الموضع.

فصل: قال نفاة الحكمة جميع الأغراض يرجع حاصلها إلى شيئين تحصيل اللذة والسرور ودفع الألم والحزن والغم والله سبحانه قادر على تحصيل هذين المطلوبين ابتداء من غير شئ من الوسائط ومن كان قادرا على تحصيل المطلوب ابتداء بغير واسطة كان توسله إلى تحصيله بالوسائط عبثا وهو على الله محال قال أصحاب الحكمة عن هذه الشبهة أجوبة الجواب الأول أن يقال لا ريب إن الله على كل شئ قدير لكن لا يلزم إذا كان الشيء مقدورا ممكنا أن تكون الحكمة المطلوبة لوجوده يمكن تحصيلها مع عدمه فإن الموقوف على الشيء يمتنع حصوله بدونه كما يمتنع حصول الابن بكونه ابنا بدون الأب فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال والجمع بين الضدين محال ولا يقال فيلزم العجز لأن المحال ليس بشيء فلا تتعلق به القدرة والله على كل شئ قدير فلا يخرج ممكن عن قدرته البتة، الجواب الثاني أن دعوى كون توسط أحد الأمرين إذا كان شرطا أو سببا له عبث دعوى كاذبة باطلة فإن العبث هو الذي لا فائدة فيه وأما توسط الشرط أو السبب أو المادة التي يحدث فيها ما يحدثه فليس بعبث توضيحه، الجواب الثالث أن حصول الأعراض والصفات التي يحدثها الله سبحانه في موادها شروط لحصول تلك المواد ولا يتصور وجودها بدونها فتوسطها أمر ضروري لا بد منه فينقلب عليكم دليلكم ونقول هل يقدر سبحانه على إيجاد تلك الحوادث بدون توسط موادها الحاملة لها أولا يمكن فإن قلتم يمكن ذلك كان توسطها عبثا وإن قلتم لا يقدر كان تعجيزا فإن قلتم هذا فرض مستحيل والمحال ليس بشيء قيل صدقتم وهذا جوابنا بعينه، الجواب الرابع أن يقال إذا كان في خلق تلك الوسائط حكم أخرى تحصل بخلقها للفاعل وفي خلقها مصالح ومنافع لتلك الوسائط لم يكن توسطها عبثا ولم تكن الحكمة حاصلة بعدمها كما أنه سبحانه إذا جعل رزق بعض خلقه في البخارات مثلا فاقتضى ذلك أن تخليق الصانع إلى من يحتاج فينتفع هؤلاء بالصانع وهؤلاء باليمن كان في ذلك مصلحة هؤلاء وهؤلاء وإذا تأملت الوجود رأيته قائما بذلك شاهدا على منكري الحكمة فكم لله سبحانه في إحداث تلك الوسائط من حكم ومصالح ومنافع للعباد لو بطلت تلك الوسائط لفاتت تلك الحكم والمصالح، الجواب الخامس قولك يلزم العبث وهو على الله محال فيقال إن كان العبث عليه محالا لزم أن لا يفعل ولا يأمر إلا لمصلحة وحكمة فبطل قولك بقولك وإن لم يكن العبث عليه محالا بطلت هذه الحجة فيتحقق بطلانها على التقديرين، الجواب السادس أن يقال ما المانع أن يفعل سبحانه أشياء معللة وأشياء غير معللة بل مرادة لذاتها وإذا جاز هذا جاز أن يقال أن هذه الوسائط غير معللة ولا يمكنك نفي هذا القسم إلا بأن تقول أن شيئا من أفعاله غير معلل البتة وأنت إنما نفيت هذا بلزوم العبث في توسط تلك الأمور ولا يلزم من انتفاء التعليل في بعض الأفعال انتفاؤه في الجميع فإنه لا يجب أن يكون كل شيء لعلة فأنت نفيت جواز التعليل وغاية هذه الحجة لو صحت أن تدل على أنه لا يجب في كل شيء أن يكون لعلة فلم يثبت الحكم والدليل وهذا كما يقول الفقهاء مع قولهم بالتعليل أن من الأحكام ما يفيد غير معلل فهلا قلت في الخلق كقولهم في الأمر وهذا إنما هو بطريق الإلزام وإلا فالحق أن جميع أفعاله وشرعه لها حكم وغايات لأجلها شرع وفعل وأن لم يعلمها الخلق على التفصيل فلا يلزم من عدم علمهم بها انتفاؤها في نفسها، الجواب السابع أن غاية هذه الشبهة أن يكون سبحانه قادرا على تحصيل تلك الحكم بدون تلك الوسائط كما هو قادر على تحصيلها بها وإذا كان الأمران مقدوران له لم يكن العدول عن أحد المقدورين إلى الآخر عبثا إلا إذا كان المقدور الآخر مساويا لهذا من كل وجه ولا يمكن عاقلا أن يقول أن تعطيل تلك الوسائط وعدمها مساو من كل وجه لوجودها وهذا من أعظم البهت وأبطل الباطل وهو يتضمن القدح في الحس والعقل والشرع كما هو قدح في الحكمة فإن من جعل وجود الرسل وعدمهم سواء ووجود الشمس والقمر والنجوم والمطر والنبات والحيوان وعدمها سواء ووجود هذه الوسائط جميعها وعدمها سواء فلم يدع للمكابرة موضعها، الجواب الثامن قولك جميع الأغراض يرجع حاصلها إلى شيئين اللذة الهم والحزن أتريد به الغرض الذي يفعل لأجلها الحيوان أو الحكمة التي يفعل الله سبحانه لأجلها أم تريد به ما هو أعم من ذلك فإن أردت الأول لم تفدك شيئا وإن أردت الثاني أو الثالث كانت دعوى مجردة لا برهان عليها فإن حكمة الرب تعالى فوق تحصيل اللذة ودفع الغم والحزن فإنه يتعالى عن ذلك بل ليس كمثل حكمته شيء كما أنه موصوف بالإرادة وليست كإرادة الحيوان فإن الحيوان يريد ما يريده ليجلب له منفعة أو يدفع به عنه مضرة وكذلك غضبه ليس مشابها لغضب خلقه فإن غضب المخلوق هو غليان دم قلبه طلبا للانتقام والله يتعالى عن ذلك وكذلك سائر صفاته فكما أنه ليس كمثله شيء في إرادته ورضاه وغضبه ورحمته وسائر صفاته فهكذا حكمته سبحانه لا تماثل حكمة المخلوقين بل هي أجل وأعلى من أن يقال أنها تحصيل لذة أو دفع حزن فالمخلوق لنقصه يحتاج أن يفعل ذلك لأن مصالحه لا تتم إلا به والله سبحانه غني بذاته عن كل ما سواه لا يستفيد من خلقه كمالا بل خلقهم يستفيدون كمالهم منه، الجواب التاسع أن يقال قد دل الوحي مع العقل على أنه سبحانه يحب ويبغض أما الوحي فالقرآن مملوء من ذلك وأما العقل فما نشاهد في العالم من إكرام أوليائه وأهل طاعته وإهانة أعدائه وأهل معصيته شاهد لمحبته لهؤلاء ورضاه عنهم وبغضه لهؤلاء وسخطه عليهم ومعلوم قطعا أن من يحب ويبغض أكمل محبة وبغض وهو قادر على تحصيل محابه فإن حكمته فيما يفعله ويتركه أتم حكمة وأكملها فهو يفعل ما يفعله لأنه يوصل إلى محابه ويترك ما يتركه لأنه لا يحبه وإذا فعل ما يكرهه لم يفعله إلا لإفضائه إلى ما يحب وإن كان مكروها في نفسه فإن أردت باللذة والسرور والهم والحزن الحب والبغض فالرب تعالى يحب ويبغض لم يلزم من كونه يفعل لحكمة أن يتصف بذلك، الجواب العاشر أنه سبحانه إذا كان قادرا على تحصيل ذلك بدون الوسائط وهو قادر على تحصيله بها كان فعل النوعين أكمل وأبلغ في القدرة وأعظم في ملكه وربوبيته من كونه لا يفعل إلا بأحد النوعين والرب تعالى تتنوع أفعاله لكمال قدرته وحكمته وربوبيته فهو سبحانه قادر على تحصيل تلك الحكمة بواسطة إحداث مخلوق من فصل وبدون إحداثه بل بما يقوم به من أفعاله اللازمة وكلماته وثنائه على نفسه وحمده لنفسه فمحبوبه يحصل بهذا وهذا وذلك أكمل ممن لا يحصل محبوبه إلا بأحد النوعين، الجواب العاشر أن الرب سبحانه كامل في أوصافه وأسمائه وأفعاله فلا بد من ظهور آثارها في العالم فإنه محسن ويستحيل وجود الإحسان بدون من يحسن إليه ورزاق فلا بد من وجود من يرزقه وغفار وحليم وجواد ولطيف بعباده ومنان ووهاب وقابض وباسط وخافض ورافع ومعز ومذل وهذه الأسماء تقتضي متعلقات تتعلق بها وآثارا تتحقق بها فلم يكن بد من وجود متعلقاتها وإلا تعطلت تلك الأوصاف وبطلت تلك الأسماء فتوسط تلك الآثار لا بد منه في تحقق معاني تلك الأسماء والصفات فكيف يقال أنه عبث لا فائدة فيه وبالله التوفيق.

فصل: قال نفاة الحكمة لو وجب أن يكون خلقه وأمره معللا بحكمة وغرض لكان خلق الله العالم في وقت معين دون ما قبله ودون ما بعده معللا برعاية غرض ومصلحة ثم تلك المصلحة والغرض إما أن يقال كان حاصلا قبل ذلك الوقت أو لم يكن حاصلا قبله فإن كان ما لأجله أوجد الله العالم في ذلك الوقت حاصلا قبل أن أوجده فيلزم أن يقال أنه كان موجدا له قبل أن لم يكن موجدا له وذلك محال وإن قلنا أن ذلك الغرض والمصلحة لم يكن حاصلا قبل ذلك الوقت وإنما حدث في ذلك الوقت فنقول حصول ذلك الغرض في ذلك الوقت إما أن يكون مفتقرا إلى المحدث أو لا يفتقر فإن لم يفتقر فقد حدث الشيء لا عن موجد ومحدث وهو محال وأن افتقر إلى محدث فإن افتقر تخصص إحداث ذلك الغرض بذلك الوقت إلى غرض آخر عاد التقسيم الأول فيه ولزم التسلسل وإن لم يفتقر إلى رعاية غرض آخر فحينئذ تكون موجدية الله سبحانه وخالقيته غنية عن الأغراض والمصالح وهذا هو المطلوب قالوا وهذه الحجة كما أنها قائمة في اختصاص العالم بذلك الوقت المعين فهي قائمة في اختصاص كل حادث من الحوادث بوقته المعين وملخصها أن إحداث الحادث في وقته إن كان لغرض فإن كان ذلك الغرض حاصلا قبله لزم حدوثه قبل حدوثه وإلا افتقر إلى الإحداث فإحداثه إن كان لغرض تسلسل وإلا ثبت المطلوب قال أهل الحكمة هذه الحجة بعينها مذكورة في ضمن الحجة الثانية التي تقدمت وكأنكم يعجبكم التشييع بكره الباطل وجميع ما أجبناكم به هناك فهو الجواب ههنا بعينه فغاية هذا أنه تسلسل في الآثار لا في المؤثرات وتسلسل في الحوادث المستقبلة وذلك جائز بل واجب باتفاق المسلمين سوى قول حبهم والعلاف وغاية الأمر أن يكون في الحوادث ما يراد لنفسه وفيها ما يراد لغيره والحكمة المطلوبة لنفسها لا تفتقر إلى أخرى تراد لأجلها وأن هذا الدليل لو صحت مقدماته وهيهات فإنما يدل على أن أفعاله تعالى لا يجب تعليلها ولا يلزم من ذلك أن لا يجوز تعليلها فنفي الوجوب شيء ونفي الجواز شيء فهب أنا سلمنا الأول فأين دليل الثاني وغايتها أنها تدل على عدم تعليل بعض الحوادث لا على عدم تعليل جميعها وبالجملة فما تقدم هناك مغزاها عن الإطالة في الأجوبة وسر المسألة أن دوام فاعليته في المستقبل متفق عليه والسلف على دوامها في الماضي وإنما خالف في ذلك كثير من أهل الكلام.

فصل: قال نفاة الحكمة قد قام الدليل على أنه سبحانه خالق كل شيء فأي حكمة أو مصلحة في خلق الكفر والفسوق والعصيان وأي حكمة في خلق من علم أنه يكفر ويفسق ويظلم ويفسد الدنيا والدين وأي حكمة في خلق كثير من الجمادات التي وجودها وعدمها سواء وكذلك كثير من الأشجار والنبات والمعادن المعطلة والحيوانات المهملة بل العادية المؤذية وأي حكمة في خلق السموم والأشياء المضرة وأي حكمة في خلق إبليس والشياطين وإن كان في خلقهم حكمة فأي حكمة في بقائه إلى آخر الدهر وإماتة الرسل والأنبياء وأي حكمة في إخراج آدم وحواء من الجنة وتعريض الذرية لهذا البلاء العظيم وقد أمكن أن يكونوا في أعظم العافية وأي حكمة في إيلام الحيوانات وإن كان في إيلام المكلفين منها حكمة فما الحكمة في إيلام غير المكلف كالبهائم والأطفال والمجانين وأي حكمة له في خلقه خلقا يعذبهم بأنواع العذاب الدائم الذي لا ينقطع وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب قتلا وأسرا وعقوبة واستبعادا وأي حكمة في تكليف الثقلين وتعريضهما بالتكليف لأنواع المشاق والعذاب قالوا ونحن والعقلاء نعلم علما ضروريا إن خلود أهل النار فيها فعل الله ونعلم ضرورة أنه لا فائدة في ذلك تعود إليه ولا إلى المعذبين ولا إلى غيرهم قالوا ويكفينا في ذلك مناظرة الأشعري لأبي هاشم الجبائي حين سأله عن ثلاثة إخوة مات أحدهم مسلما قبل البلوغ وبلغ الآخران فمات أحدهما مسلما والآخر كافرا فاجتمعوا عند رب العالمين فبلغ المسلم البالغ المرتبة العليا بعمله وإسلامه فقال أخوه يا رب هلا رفعتني إلى منزلة أخي المسلم فقال إنه عمل أعمالا لم تعملها فقال يا رب فهلا أحييتني حتى أعمل مثل عمله قال علمت أن موتك صغيرا خير لك إذ لو بلغت لكفرت فصاح الأخ الثالث من أطباق الجحيم وقال يا رب فهلا أمتني صغيرا قبل البلوغ كما فعلت بأخي فما جوابه قال فانقطع الشيخ ولم يذكر جوابا قال نفاة الحكمة وهذا قاطع في المسألة لا غبار عليه وقال تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} وقال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}ٌ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} فرد الأمر إلى محض مشيئته وأخبر أن صدور الأشياء كلها عنها وقالوا وأصل ضلال الخلق هو طلب تعليل أفعال الرب كما قال شيخ الإسلام في تائيته:

وأصل ضلال الخلق من كل فرقة هو الخوض في فعل الإله بعلة

فإنهم لما طلبوا علة أفعاله فأعجزهم العلم بها افترقوا بعد ذلك فطائفة ردت الأمر إلى الطبيعة والأفلاك التزمت مكابرة الحس والعقل وقالوا أن أهل خلود النار في النار أنفع لهم وأصلح من كونهم في الجنة وأن إبقاء إبليس يغوي الخلق ويضلهم أنفع لهم من إماتته وإن إماتة الأنبياء أصلح للأمم من إبقائهم بينهم وأن تعذيب الأطفال خير لهم من رحمتهم إلى غير ذلك من المحالات التي قادهم إليها الخوض في تعليل أفعال من لا يسأل عما يفعل فلذلك قلنا أن الصواب القول بعدم التعليل وتخلصنا من الحبائل والإشراك التي وقعتم فيها قال أهل الحكمة ليست هذه الأسئلة والاعتراضات التي قد جئتم بها في حكمة أحكم الحاكمين بأقوى من الأسئلة والاعتراضات التي قدح بها أهل الإلحاد في وجوده سبحانه وقد أقاموا أربعين شبهة تنفي وجوده وكذلك اعتراضات المكذبين لرسله وقد حكيتم أنتم عنهم ثمانين اعتراضا وكذلك الاعتراضات التي قدح بها المعطلة في إثبات صفات كماله قد علمتم شأنها وكبرها وكذلك الاعتراضات التي نفي بها الجهمية علوه على خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لعباده وقد علمتم الاعتراضات التي اعترض بها أهل الفلسفة على كونه خالقا للعالم في ستة أيام وعلى كونه يقيم الناس من قبورهم ويبعثهم إلى دار السعادة أو الشقاء ويبدل هذا العالم ويأتي بغيره واعتراضات هؤلاء وأسئلتهم أضعاف اعتراضات نفاة الحكمة وغايات أفعاله المقصودة وكذلك اعتراضات نفاة القدر وأسئلتهم إلى غير ذلك وقد اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن أقام في هذا العالم لكل حق جاحدا ولكل صواب معاندا كما أقام لكل نعمة حاسدا ولكل شر رائدا وهذا من تمام حكمته الباهرة وقدرته القاهرة ليتم عليهم كلمته وينفذ فيهم مشيئته ويظهر فيهم حكمته ويقضي بينهم بحكمه ويفاضل بينهم بعلمه ويظهر فيهم آثار صفاته العليا وأسمائه الحسنى ويتبين لأوليائه وأعدائه يوم القيامة أنه لم يخل لحكمة ولم يخلق خلقه عبثا ولا يتركهم سدا وأنه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا وأن له الحمد التام الكامل على جميع ما خلقه وقدره وقضاه وعلى ما أمر به ونهى عنه وعلى ثوابه وعقابه وأنه لم يضع من ذلك شيئا إلا في محله الذي لا يليق به سواه قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ الله مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} وإذا تبين لأهل الموقف ونفذ فيهم قضاؤه الفصل وحكمه العدل نطق الكون أجمعه بحمده كما قال تعالى: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وجواب هذه الأسئلة من وجوه أحدها أن الحكمة إنما تتعلق بالحدوث والوجود والكفر والشرور وأنواع المعاصي راجعة إلى مخالفة نهي الله ورسوله وترك ما أمر به وليس ذلك من متعلق الإيجاد في شيء ونحن إنما التزمنا أن ما فعله الله وأوجده فله فيه حكمة وغاية مطلوبة وأما ما تركه سبحانه ولم يفعله فإنه وإن كان إنما تركه لحكمة في ذلك فلم يدخل في كلامنا فلا يرد علينا وقد قيل أن الشر ليس إليه بوجه فإنه عدم الخير وأسبابه والعدم ليس بشيء كاسمه فإذا قلنا أن أفعال الرب تعالى واقعة وغاية محمودة لم يرد علينا تركه يوضحه الجواب الثاني وهو أنه سبحانه قد يترك ما لو خلقه لكان في خلقه له حكمة فيتركه لعدم محبته لوجوده أو لكون وجوده يضاد ما هو أحب أو لاستلزام وجوده فوات محبوب له آخر وعلى هذا فتكون حكمته في عدم خلقه أرجح من حكمته في خلقه والجمع بين الضدين مستحيل فرجح سبحانه أعلى الحكمتين بتفويت أدناهما وهذا غاية الحكمة فخلقه وأمره مبني على تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بتفويت المرجوحة التي لا يمكن الجمع بينها وبين تلك الراجحة وعلى دفع المفاسد الخالصة أو الراجحة وإن وجدت المفاسد المرجوحة التي لا يمكن الجمع بين عدمها وعدم تلك الراجحة وخلاف هذا هو خلاف الحكمة والصواب الجواب الثالث أن يقال غاية ذلك انتفاء الحكمة في هذا النوع من المقدورات فيلزم من ذلك انتفاؤها في جميع خلقه وحكمه فهب أن هذا النوع لا حكمة فيه فمن أين يستلزم ذلك نفي الحكمة والغرض في كل شيء كيف وفيه من الحكم والغايات المحمودة ما هو معلوم لأهل البصائر الراسخين في العلم كما سننبه على ذلك منه إن شاء الله، الجواب الرابع أنا لم ندع حكمة يجب أو يمكن اطّلاع الخلق على تفاصيلها فإن حكمة الله أعظم وأجل من ذلك فما المانع من اشتمال ما ذكرتم من الصور وغيرها على الحكم حجة ينفرد الله بعلمها كما قال للملائكة وقد سألوه عن ذلك أني أعلم ما لا تعلمون فمن يقول بلزوم الحكمة لأفعاله وأحكامه مطلقا لا يوجب مشاركة خلقه له في العلم بها، الجواب الخامس أن الله سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وله في جميع ما ذكرتم وغيره حكمة ليست من جنس الحكمة التي للمخلوقين كما أن فعله ليس مماثلا فعلهم ولا قدرته وإرادته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه مماثلا لصفات المخلوقين، الجواب السادس أن الحكمة تابعة للعلم والقدرة فمن كان أعلم وأقدر كانت أفعاله أحكم وأكمل والرب منفرد بكمال العلم والقدرة فحكمته بحسب علمه وقدرته كما تقدم تقريره فحكمته متعلقة بكل ما تعلق به علمه وقدرته، الجواب السابع أن الأدلة القاطعة قد قامت على أنه حكيم في أفعاله وأحكامه فيجب القول بموجبها وعدم العلم بحكمته في الصور المذكورة لا يكون مسوغا لمخالفة تلك الأدلة القاطعة لا سيما وعدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه، الجواب الثامن أن كماله المقدس يمنع خلو هذه الصور التي تقصيتم عن الحكمة وكماله أيضا يأبى إطلاع خلقه على جميع حكمته فحكمته تمنع إطلاع خلقه على جميع حكمته بل الواحد منا لو أطلع غيره على جميع شأنه وأمره عد سفيها جاهلا وشأن الرب أعظم من أن يطلع كل واحد من خلقه على تفاصيل حكمته، الجواب التاسع أنكم إما أن تعترفوا بأن له حكمة في شيء من خلقه وأمره أو تنكروا أن يكون له في شيء من خلقه وأمره حكمة فإن أنكرتم ذلك وما هو من الظالمين ببعيد كذبتم جميع كتب الله ورسوله والعقل والفطرة والحسن وكذبتم عقولكم قبل تكذيب العقلاء فإن جحد حكمة الله الباهرة في خلقه وأمره بمنزلة جحد الشمس والقمر والليل والنهار وغير مستنكر لكثير من الطوائف أهل الكلام المكابرة في جحد الضروريات وإن أقررتم بحكمة في بعض خلقه وأمره قيل لكم فأي الأمرين أولى به وجود تلك الحكمة أم عدمها فإن قلتم عدمها أولى من وجودها كان هذا غاية الكذب والبهت والمحال وإن قلتم وجودها أكمل قيل فهل هو قادر على تحصيلها في جميع خلقه وأحكامه أم غير قادر فإن قلتم غير قادر جئتم بالعظيمة في العقل والدين وانسلختم من عقولكم وأذهانكم وإن قلتم بل هو قادر على ذلك قيل فإذا كان قادرا على شيء وهو كمال في نفسه ووجوده خير من عدمه وهو أولى به فكيف يجوز نفيه عنه فإن قلتم إنما نفياه لأنا لم نطلع على حقيقته قيل صدقتم والله سائلكم في جميع ما تنفونه عن الله إنما مستندكم في نفيه عدم الاطّلاع على حقيقته ولم تكتفوا بقبول قول الرسل فصرتم إلى النفي، الجواب العاشر أن العقلاء قاطبة متفقون على أن الفاعل إذا فعل أفعالا ظهرت فيها حكمته ووقعت على أتم الوجوه وأوفقها للمصالح المقصودة بها ثم إذا رأوا أفعاله قد تكررت كذلك ثم جاءهم من أفعاله ما لا يعلمون وجه حكمته فيه لم يسعهم غير التسليم لما عرفوا من حكمته واستقر في عقولهم منها وردوا منها ما جهلوه إلى محكم ما علموه هكذا نجد أرباب كل صناعة مع أستاذهم حتى أن النفاة يسلكون هذا المسلك بعينه مع أئمتهم وشيوخهم فإذا جاءهم إشكال على قواعد أئمتهم ومذاهبهم قالوا هم أعلم منا وهم فوقنا في كل علم ومعرفة وحكمة ونحن معهم كالصبي مع معلمه وأستاذه فهلا سلكوا هذا السبيل مع ربهم وخالقهم الذي بهرت حكمته العقول وكان نسبتها إلى حكمته أولى من نسبة عين الخفاش إلى جرم الشمس ولو أن العالم الفاضل المبرز في علوم كثيرة أعرض على من لا يشاركه في صنعته ولا هو من أهلها وقدح في أوضاعها لخرج عن موجب العقل والعلم وعد ذلك نقصا وسفها فكيف بأحكم الحاكمين وأعلم العالمين وأقدر القادرين، الجواب الحادي عشر أن الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار والعلو والسفل والطيب والخبيث والخفيف والثقيل والحلو والمر والبرد والألم واللذة والحياة والموت والداء والدواء فخلق هذه المتقابلات هو محل ظهور الحكمة الباهرة ومحل ظهور القدرة القاهرة والمشيئة النافذة والملك الكامل التام فتوهم تعطيل خلق هذه المتضادات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها وذلك عين المحال فإن لكل صفة من الصفات العليا حكما ومقتضيات وأثرا هو مظهر كمالها وإن كانت كاملة في نفسها لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها فلا يجوز تعطيله فإن صفة القادر تستدعي مقدورا وصفة الخالق تستدعي مخلوقا وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر المعز المذل العفو الرءوف تستدعي آثارها وأحكامها فلو عطلت تلك الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه لم يظهر كمالها وكانت معطلة عن مقتضياتها وموجباتها فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها وتضعها مواضعها فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه وفات كمال الملك والتصرف فإن الملك إذا اقتصر تصرفه على مقدور واحد من مقدوراته فإما أن يكون عاجزا عن غيره فيتركه عجزا أو جاهلا بما في تصرفه في غيره من المصلحة فيتركه جهلا وأما أقدر القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد لأن ذلك نقص في ملكه فالكمال كل الكمال في العطاء والمنع والخفض والرفع والثواب والعقاب والإكرام والإهانة والإعزاز والإذلال والتقديم والتأخير والضر والنفع وتخصيص هذا على هذا وإيثار هذا على هذا ولو فعل هذا كله بنوع واحد متماثل الأفراد لكان ذلك منافيا لحكمته وحكمته تأباه كل الإباء فإنه لا يفرق بين متماثلين ولا يسوى بين مختلفين وقد عاب على من يفعل ذلك وأنكر على من نسبه إليه والقرآن مملوء من عيبه على من يفعل ذلك فكيف يجعل له العبيد ما يكرهون ويضربون له مثل السوء وقد فطر الله عباده على إنكار ذلك من بعضهم على بعض وطعنهم على من يفعله وكيف يعيب الرب سبحانه من عباده شيئا ويتصف به وهو سبحانه إنما عابه لأنه نقص فهو أولى أن يتنزه عنه وإذا كان لا بد من ظهور آثار الأسماء والصفات ولا يمكن ظهور آثارها إلا في المتقابلات والمتضادات لم يكن في الحكمة بد من إيجادها إذ لو فقدت لتعطلت الأحكام بتلك الصفات وهو محال يوضحه الوجه الثاني عشر أن من أسمائه الأسماء المزدوجة كالمعز المذل والخافض الرافع والقابض الباسط والمعطي المانع ومن صفاته الصفات المتقابلة كالرضا والسخط والحب والبغض والعفو والانتقام وهذه صفات كمال وإلا لم يتصف بها ولم يتسم بأسمائها وإذا كانت صفات كمال فإما أن يتعطل مقتضاها وموجبها وذلك يستلزم تعطيلها في أنفسها وإما أن تتعلق بغير محلها الذي يليق بأحكامها وذلك نقص وعيب يتعالى عنه فيتعين تعلقها بمحالها التي تليق بها وهذا وحده كاف في الجواب لمن كان له فقه في باب الأسماء والصفات ولا غيره يغيره يوضحه الوجه الثالث عشر أن من أسمائه الملك ومعنى الملك الحقيقي ثابت له سبحانه بكل وجه وهذه الصفة تستلزم سائر صفات الكمال إذ من المحال ثبوت الملك الحقيقي التام لمن ليس له حياة ولا قدرة ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا فعل اختياري يقوم به وكيف يوصف بالملك من لا يأمر ولا ينهى ولا يثيب ولا يعاقب ولا يعطي ولا يمنع ولا يعز ويذل ويهين ويكرم وينعم وينتقم ويخفض ويرفع ويرسل الرسل إلى أقطار مملكته ويتقدم إلى عبيده بأوامره ونواهيه فأي ملك في الحقيقة لمن عدم ذلك وهذا يبين أن المعطلين لأسمائه وصفاته جعلوا مماليكه أكمل منه ويأنف أحدهم أن يقال في أمره وملكه ما يقوله هو في ربه فصفة ملكية الحق مستلزمة لوجود ما لا يتم التصرف إلا به والكل منه سبحانه فلم يتوقف كمال ملكه على غيره فإن كل ما سواه مسند إليه متوقف في وجوده على مشيئته وخلقه يوضحه الوجه الرابع عشر أن كمال ملكه بأن يكون مقارنا بحمده فله الملك وله الحمد والناس في هذا المقام ثلاث فرق فالرسل وأتباعهم أثبتوا له الملك والحمد وهذا مذهب من أثبت له القدر والحكمة وحقائق الأسماء والصفات ونزهه عن النقائص ومشابهة المخلوقات ويوحشك في هذا المقام جميع الطوائف غير أهل السنة الذين لم يتحيزوا إلى نحلة ولا مقالة ولا متبوع من أهل الكلام الفرقة الثانية الذين أثبتوا له الملك وعطلوا حقيقة الحمد وهم الجبرية نفاة الحكمة والتعليل القائلين بأنه يجوز عليه كل ممكن ولا ينزه عن فعل قبيح بل كل ممكن فإنه لا يقبح منه وإنما القبيح المستحيل لذاته كالجمع بين النقيضين فيجوز عليه تعذيب ملائكته وأنبيائه ورسله وأهل طاعته وإكرام إبليس وجنوده وجعلهم فوق أوليائه في النعيم المقيم أبدا ولا سبيل لنا إلى العلم باستحالة ذلك إلا من نفى الخلف في خبره فقط فيجوز أن يأمر بمشيئته ومشيئة أنبيائه والسجود للأصنام وبالكذب والفجور وسفك ونهب الأموال وينهى عن البر والصدق والإحسان والعفاف ولا فرق في نفس الأمر بين ما أمر به ونهى عنه إلا التحكم بمحض المشيئة وأنه أمر بهذا ونهى عن هذا من غير أن يكون فيما أمر به صفة حسن تقتضي محبته والأمر به ولا فيما نهى عنه صفة قبح تقتضي كراهته والنهي عنه فهؤلاء عطلوا حمده في الحقيقة وأثبتوا له ملكا بلا حمد مع أنهم في الحقيقة لم يثبتوا له ملكا فإنهم جعلوه معطلا في الأزل والأبد لا يقوم به فعل البتة وكثير منهم عطله عن صفات الكمال التي لا يتحقق كونه ملكا وربا وإلها إلا بها فلا ملكا أثبتوا ولا حمدا الفرقة الثالثة أثبتوا له نوعا من الحمد وعطلوا كمال ملكه وهم القدرية الذين أثبتوا نوعا من الحكمة ونفوا لأجلها كمال قدرته فحافظوا على نوع من الحمد عطلوا له كمال الملك وفي الحقيقة لم يثبتوا لا هذا ولا هذا فإن الحكمة التي أثبتوها جعلوها راجعة إلى المخلوق لا يعود إليه سبحانه حكمها والملك الذي أثبتوه فإنهم في الحقيقة إنما قرروا نفيه لنفي قيام الصفات التي لا يكون ملكا حقا إلا بها ونفي قيام الأفعال الاختيارية فلم يقم به عندهم وصف ولا فعل ولا له إرادة ولا كلام ولا سمع ولا بصر ولا فعل ولا له حب ولا بغض معطل عن حقيقة الملك والحمد والمقصود أن عموم ملكه يستلزم إثبات القدر وأن لا يكون في ملكه شيء بغير مشيئته فالله أكبر من ذلك وأجل وعموم حمده يستلزم أن لا يكون في خلقه وأمره ما لا حكمة فيه ولا غاية محمودة يفعل لأجلها ويأمر لأجلها فالله أكبر وأجل من ذلك يوضحه الوجه الخامس عشر أن مجرد الفعل من غير قصد ولا حكمة ولا مصلحة يقصده الفاعل لأجلها لا يكون متعلقا للحمد فلا يحمد عليه حتى لو حصلت به مصلحة من غير قصد الفاعل لحصولها لم يستحق الحمد عليها كما تقدم تقريره بل الذي يقصد الفعل لمصلحة وحكمة وغاية محمودة وهو عاجز عن تنفيذ مراده أحق بالحمد من قادر لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة ولا لقصد الإحسان هذا المستقر في فطر الخلق والرب سبحانه حمده قد ملأ السماوات والأرض وما بينهما وما بعد ذلك فملأ العالم العلوي والسفلي والدنيا والآخرة ووسع حمده ما وسع علمه فله الحمد التام على جميع خلقه ولا حكم يحكم إلا بحمده ولا قامت السماوات والأرض إلا بحمده ولا يتحول شيء في العالم العلوي والسفلي من حال إلى حال إلا بحمده ولا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار إلا بحمده كما قال الحسن رحمة الله عليه: "لقد دخل أهل النار النار وأن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا" وهو سبحانه إنما أنزل الكتاب بحمده وأرسل الرسل بحمده وأمات خلقه بحمده ويحييهم بحمده ولهذا حمد نفسه على ربوبيته الشاملة لذلك كله فالحمد لله رب العالمين وحمد نفسه على إنزال كتبه فالحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وحمد نفسه على خلق السماوات والأرض: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وحمد نفسه على كمال ملكه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فحمد ملأ الزمان والمكان والأعيان وعم الأقوال كلها: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وكيف لا يحمد على خلقه كله وهو الذي أحسن كل شيء خلقه وعلى صنعه وقد أتقنه: {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وعلى أمره وكله حكمة ورحمة وعدل ومصلحة وعلى نهيه وكل ما نهى عنه شر وفساد وعلى ثوابه وكله رحمة وإحسان وعلى عقابه وكله عدل وحق فلله الحمد كله وله الملك كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله والمقصود أنه كلما كان الفاعل أعظم حكمة كان أعظم حمدا وإذا عدم الحكمة ولم يقصدها بفعله وأمره عدم الحمد الوجه السادس عشر أنه سبحانه يجب أن يشكر ويحب أن يشكر عقلا وشرعا وفطرة فوجوب شكره أظهر من وجوب شكره أظهر من وجوب كل واجب وكيف لا يجب على العباد حمده وتوحيده ومحبته وذكر آلائه وإحسانه وتعظيمه وتكبيره والخضوع له والتحدث بنعمته والإقرار بها بجميع طرق الوجوب فالشكر أحب شيء إليه وأعظم ثوابا وأنه خلق الخلق وأنزل الكتب وشرع الشرائع وذلك يستلزم خلق الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل ومن جملتها أن فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة في خلقهم وأخلاقهم وأديانهم وأرزاقهم ومعايشهم وآجالهم فإذا رأى المعافى المبتلى والغني الفقير والمؤمن الكافر عظم شكره لله وعرف قدر نعمته عليه وما خصه به وفضله به على غيره فازداد شكرا وخضوعا واعترافا بالنعمة، وفي أثر ذكره الإمام أحمد في الزهد: "أن موسى قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر" فإن قيل فقد كان من الممكن أن يسوى بينهم في النعم ويسوى بينهم في الشكر كما فعل بالملائكة قيل لو فعل ذلك لكان الحاصل من الشكر نوع آخر غير النوع الحاصل منه على هذا الوجه والشكر الواقع على التفضيل والتخصيص أعلى وأفضل من غيره ولهذا كان شكر الملائكة وخضوعهم وذلهم لعظمته وجلاله بعد أن شاهدوا من إبليس ما جرى له ومن هاروت وماروت ما شاهدوه أعلى وأكمل مما كان قبله وهذه حكمة الرب ولهذا كان شكر الأنبياء وأتباعهم بعد أن عاينوا هلاك أعدائهم وانتقام الرب منهم وما أنزل بهم من بأسه أعلى وأكمل وكذلك شكر أهل الجنة في الجنة وهم يشاهدون أعداءه المكذبين لرسله المشركين به في ذلك العذاب فلا ريب أن شكرهم حينئذ ورضاهم ومحبتهم لربهم أكمل وأعظم مما لو قدر اشتراك جميع الخلق في النعيم فالمحبة الحاصلة من أوليائه له والرضا والشكر وهم يشاهدون بين جنسهم في ضد ذلك من كل وجه أكمل وأتم، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء، ولولا خلق القبيح لما عرفت فضيلة الجمال والحسن ولولا خلق الظلام لما عرفت فضيلة النور ولولا خلق أنواع البلاء لما عرف قدر العافية ولولا الجحيم لما عرف قدر الجنة ولو جعل الله سبحانه النهار سرمدا لما عرف قدره ولو جعل الليل سرمدا لما عرف قدره وأعرف الناس بقدر النعمة من ذاق البلاء وأعرفهم بقدر الفقر من قاسى مرائر الفقر والحاجة ولو كان الناس كلهم على صورة واحدة من الجمال لما عرف قدر الجمال وكذلك لو كانوا كلهم مؤمنين لما عرف قدر الإيمان والنعمة به فتبارك من له في خلقه وأمره الحكم البوالغ والنعم السوابغ يوضحه الوجه السابع عشر أنه سبحانه يجب أن يعبد بأنواع العبودية ومن أعلاها وأجلها عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه والجهاد في سبيله وبذل مهج النفوس في مرضاته ومعارضة أعدائه وهذا النوع هو ذروة سنام العبودية وأعلى مراتبها وهو أحب أنواعها إليه وهو موقوف على ما لا يحصل بدونه من خلق الأرواح التي تواليه وتشكره وتؤمن به والأرواح التي تعاديه وتكفر به ويسلط بعضها على بعض لتحصل بذلك محابه على أتم الوجوه وتقرب أوليائه إليه لجهاد أعدائه ومعارضتهم فيه وإذلالهم وكبتهم ومخالفة سبيلهم فتعلو كلمته ودعوته على كلمة الباطل ودعوته ويتبين بذلك شرف علوها وظهورها ولو لم يكن للباطل والكفر والشرك وجود فعلي أي شيء كانت كلمته ودعوته تعلو فإن العلو أمر لشيء يستلزم غالبا ما يعلى عليه وعلو الشيء على نفسه محال والوقوف على الشيء لا يحصل بدونه يوضحه الوجه الثامن عشر أن من عبوديته العتق والصدقة والإيثار والمواساة والعفو والصفح والصبر وكظم الغيظ واحتمال المكاره ونحو ذلك مما لا يتم إلا بوجود متعلقه وأسبابه فلولا لم تحصل عبودية العتق فالرق من أثر الكفر ولولا الظلم والإساءة والعدوان لم تحصل عبودية الصبر والمغفرة وكظم الغيظ ولولا الفقر والحاجة لم تحصل عبودية الصدقة والإيثار والمواساة فلو سوى بين خلقه جميعهم لتعطلت هذه العبوديات التي هي أحب شيء إليه ولأجلها خلق الجن والإنس ولأجلها شرع الشرائع وأنزل الكتب وأرسل الرسل وخلق الدنيا والآخرة وكما أن ذلك من صفات كماله فلو لم يقدر الأسباب التي يحصل بها ذلك لغاب هذا الكمال وتعطلت أحكام تلك الصفات كما مر توضيحه الوجه التاسع عشر أنه سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح يقدر أو يخطر ببال أو يدور في خلد وحصول هذا الفرح موقوف على التوبة الموقوفة على وجود ما يتاب منه وما يتوقف عليه الشيء لا يوجد بدونه فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال ولا ريب أن وجود الفرح أكمل من عدمه فمن تمام الحكمة تقدير أسبابه ولوازمه وقد نبه أعلم الخلق بالله على هذا المعنى بعينه حيث يقول في الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم" فلو لم يقدر الذنوب والمعاصي فلمن يغفر وعلى من يتوب وعمن يعفو ويسقط حقه ويظهر فضله وجوده وحلمه وكرمه وهو واسع المغفرة فكيف يعطل هذه الصفة أم كيف يتحقق بدون ما يغفر ومن يغفر له ومن يتوب وما يتاب عنه فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمة وغاية محمودة فكيف والحكم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال وكان بعض العباد يدعو في طوافه اللهم اعصمني من المعاصي ويكرر ذلك فقيل له في المنام أنت سألتني العصمة وعبادي يسألوني العصمة فإذا عصمتكم من الذنوب فلمن أغفر وعلى من أتوب وعمن أعفو ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه يوضحه الوجه العشرون أنه قد يترتب على خلق من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة ما لم يكن يحصل بدون ذلك فلولا كفر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان وبقيت يتحدث بها الناس على ممر الزمان ولولا كفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه ولولا كفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة ولا كفر فرعون لما ظهرت تلك الآيات والعجائب يتحدث بها الأمم أمة بعد أمة واهتدى من شاء الله فهلك بها من هلك عن بينه وحي بها من حي عن بينة وظهر بها فضل الله وعدله وحكمته وآيات رسله وصدقهم فمعارضة الرسل وكسر حججهم ودحضها والجواب عنها وإهلاك الله لهم من أعظم أدلة صدقهم وبراهينه ولولا مجيء المشركين بالحد والحديد والعدد والشوكة يوم بدر لما حصلت تلك الآية العظيمة التي يترتب عليها من الإيمان والهدى والخير ما لم يكن حاصلا مع عدمها وقد بينا أن الموقوف على الشيء لا يوجد بدونه ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع فلله كم عمرت قصة بدر من ربع أصبح آهلا بالإيمان وقد فتحت لأولي النهى من باب وصلوا منه إلى الهدى والإيقان وكم حصل بها من محبوب للرحمن وغيظ للشيطان وتلك المفسدة التي حصلت في ضمنها للكفار مغمورة جدا بالنسبة إلى مصالحها وحكمها وهي كمفسدة المطر إذا قطع المسافر وبل الثياب وخرب بعض البيوت بالنسبة إلى مصلحة العامة وتأمل ما حصل بالطوفان وغرق آل فرعون للأمم من الهدى والإيمان الذي غمر مفسدة من هلك به حتى تلاشت في جنب مصلحته وحكمته فكم لله من حكمة في آياته التي ابتلى بها أعداءه وأكرم فيها أولياءه وكم له فيها من آية وحجة وتبصرة وتذكرة ولهذا أمر سبحانه رسوله أن يذكر بها أمته فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} فذكرهم بأيامه وإنعامه ونجاتهم من عدوهم وإهلاكهم وهم ينظرون فحصل بذلك من ذكره وشكره ومحبته وتعظيمه وإجلاله ما تلاشت فيه مفسدة إهلاك الأبناء وذبحهم واضمحلت فإنهم صاروا إلى النعيم وخلصوا من مفسدة العبودية لفرعون إذ كبروا وسومهم له سوء العذاب وكان الألم الذي ذاقه الأبوان عند الذبح أيسر من الآلام التي كانوا تجرعوها باستعباد فرعون وقومه لهم بكثير فحظي بذلك الآباء والأبناء وأراد سبحانه أن يرى عباده ما هو من أعظم آياته وهو أن يربي هذا المولود الذي ذبح فرعون ما شاء الله من الأولاد في طلبه في حجر فرعون وفي بيته وعلى فراشه فكم في ضمن هذه الآية من حكمة ومصلحة ورحمة وهداية وتبصرة وهي موقوفة على لوازمها وأسبابها ولم تكن لتوجد بدونها فإنه ممتنع فمصلحة تلك الآية وحكمتها غمرت مفسدة ذبح الأبناء وجعلتها كأن لم تكن وكذلك الآيات التي أظهرها سبحانه على يد الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم والعجائب والحكم والمصالح والفوائد التي في تلك القصة التي تزيد على الألف لم تكن لتحصل بدون ذلك السبب الذي كان فيه مفسدة حزونة يعقوب ويوسف ثم انقلبت تلك المفسدة مصالح اضمحلت في جنبها تلك المفسدة بالكلية وصارت سببا لأعظم المصالح في حقه وحق يوسف وحق الإخوة وحق امرأة العزيز وحق أهل مصر وحق المؤمنين إلى يوم القيامة فكم جنى أهل المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ورسله من هذه القصة من ثمرة وكم استفادوا بها من علم وحكمة وتبصرة وكذلك المفسدة التي حصلت لأيوب من مس الشيطان به بنصب وعذاب اضمحلت وتلاشت في جنب المصلحة والمنفعة التي حصلت له ولغيره عند مفارقة البلاء وتبدله بالنعماء بل كان ذلك السبب المكروه هو الطريق الموصل إليها والشجرة التي جنيت ثمار تلك النعم منها وكذلك الأسباب التي أوصلت خليل الرحمن إلى أن صارت النار عليه بردا وسلاما من كفر قومه وشركهم وتكسيره أصنامهم وغضبهم لها وإيقاد النيران العظيمة له وإلقائه فيها بالمنجنيق حتى وقع في روضة خضراء في وسط النار وصارت آية وحجة وعبرة ودلالة للأمم قرنا بعد قرن فكم لله سبحانه في ضمن هذه الآية من حكمة بالغة ونعمة سابغة ورحمة وحجة وبينة لو تعطلت تلك الأسباب لتعطلت هذه الحكم والمصالح والآيات وحكمته وكماله المقدس يأبى ذلك وحصول الشيء بدون لازمه ممتنع وكم بين ما وقع من المفاسد الجزئية في هذه القصة وبين جعل صاحبها إماما للحنفاء إلى يوم القيامة وهل تلك المفاسد الجزئية إلا دون مفسدة الحر والبرد والمطر والثلج بالنسبة إلى مصالحها بكثير ولكن الإنسان كما قال الله تعالى: {ظَلُوماً جَهُولاً} ظلوم لنفسه جهول بربه وعظمته وجلاله وحكمته وإتقان صنعه وكم بين إخراج رسول الله من مكة على تلك الحال ودخوله إليها ذلك الدخول الذي لم يفرح به بشر حبورا لله وقد اكتنفه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله والمهاجرون والأنصار قد أحدقوا به والملائكة من فوقهم والوحي من الله ينزل عليه وقد أدخله حرمه ذلك الدخول فأين مفسدة ذلك الإخراج الذي كان كأن لم يكن ولولا معارضة السحرة لموسى بإلقاء العصي والحبال حتى أخذوا أعين الناس واسترهبوهم لما ظهرت آية عصا موسى حتى ابتلعت عصيهم وحبالهم ولهذا أمرهم موسى أن يلقوا أولا ثم يلقي هو بعدهم ومن تمام ظهور آيات الرب تعالى وكمال اقتداره وحكمته أن يخلق مثل جبريل صلوات الله وسلامه عليه الذي هو أطيب الأرواح العلوية وأزكاها وأطهرها وأشرفها وهو السفير في كل خير وهدى وإيمان وصلاح ويخلق مقابله مثل روح اللعين إبليس الذي هو أخبث الأرواح وأنجسها وشرها وهو الداعي إلى كل شر وأصله ومادته وكذلك من تمام قدرته وحكمته أن خلق الضياء والظلام والأرض والسماء والجنة والنار وسدرة المنتهى وشجرة الزقوم وليلة القدر وليلة الوباء والملائكة والشياطين والمؤمنين والكفار والأبرار والفجار والحر والبرد والداء والدواء والآلام واللذات والأحزان والمسرات واستخرج سبحانه من بين ما هو من أحب الأشياء إليه من أنواع العبوديات والتعرف إلى خلقه بأنواع الدلالات ولولا خلق الشياطين والهوى والنفس الأمارة لما حصلت عبودية الصبر ومجاهدة النفس والشيطان ومخالفتهما وترك ما يهواه العبد ويحبه لله فإن لهذه العبودية شأنا ليس لغيرها ولولا وجود الكفار لما حصلت عبودية الجهاد ولما نال أهله درجة الشهادة ولما ظهر من يقدم محبة فاطره وخالقه على نفسه وأهله وولده ومن يقدم أدنى حظ من الحظوظ عليه فأين صبر الرسل وأتباعهم وجهادهم وتحملهم لله أنواع المكاره والمشاق وأنواع العبودية المتعلقة بالدعوة وإظهارها لولا وجود الكفار وتلك العبودية تقتضي علمه وفضله وحكمته ويستخرج منه حمده وشكره ومحبته والرضا عنه يوضحه الوجه الحادي والعشرون أنه قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق ولذلك حف الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ولذلك أخرج صفيه آدم من الجنة وقد خلقها له واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب فما أخرجه منها إلا ليدخله إليها أتم دخول فلله كم بين الدخول الأول والدخول الثاني من التفاوت وكم بين دخول رسول الله مكة في جواد المطعم بن عدي ودخوله إليها يوم الفتح وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خلقوا فيها وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه وأغناه بعد فقره وهداه بعد ضلاله وجمع قلبه بعد شتاته وفرحة من لم يذق تلك المرارات وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات كما قال تعالى: {تِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.

وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب يوضحه الوجه الثاني والعشرون أن العقلاء قاطبة متفقون على استحسان أتعاب النفوس في تحصيل كمالاتها من العلم والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة وطلب محمدة من ينفعهم حمده وكل من كان أتعب في تحصيل ذلك كان أحسن حالا وأرفع قدرا وكذلك يستحسنون أتعاب النفوس في تحصيل الغنى والعز والشرف ويذمون القاعد عن ذلك وينسبونه إلى دناءة الهمة وخسة النفس وضعة القدر:

دع المكارم لا تنهض لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وهذا التعب والكد يستلزم آلاما وحصول مكاره ومشاق هي الطريق إلى تلك الكمالات ولم يقدحوا بتحمل تلك في حكمة من يحملها ولا يعدونه عائبا بل هو العقل الوافر ومن أمر غيره به فهو حكيم في أمره ومن نهاه عن ذلك فهو سفيه عدو له هذا في مصالح المعاش فكيف بمصالح الحياة الأبدية الدائمة والنعيم المقيم كيف لا يكون الآمر بالتعب القليل في الزمن اليسير الموصل إلى الخير الدائم حكيما رحيما محسنا ناصحا لمن يأمره وينهاه عن ضده من الراحة واللذة التي تقطعه عن كماله ولذته ومسرته الدائمة هذا إلى ما في أمره ونهيه من المصالح العاجلة التي بها سعادته وفلاحه وصلاحه ونهيه عما فيه مضرته وعطبه وشقاوته فأوامر الرب تعالى رحمة وإحسان وشفاء ودواء وغذاء للقلوب وزينة للظاهر والباطن وحياة للقلب والبدن وكم في ضمنه من مسرة وفرحة ولذة وبهجة ونعيم وقرة عين فما يسميه هؤلاء تكاليف إنما هو قرة العيون وبهجة النفوس وحياة القلوب ونور العقول وتكميل للفطر وإحسان تام إلى النوع الإنساني أعظم من إحسانه إليه بالصحة والعافية والطعام والشراب واللباس فنعمته على عباده بإرسال الرسل إليهم وإنزال كتبه عليهم وتعريفهم أمره ونهيه وما يحبه وما يبغضه أعظم النعم وأجلها وأعلاها وأفضلها بل لا نسبة لرحمتهم بالشمس والقمر والغيث والنبات إلى رحمتهم بالعلم والإيمان والشرائع والحلال والحرام فكيف يقال أي حكمة في ذلك وإنما هو مجرد مشقة ونصب بغير فائدة فوالله أن من زعم ذلك وظنه في أحكم الحاكمين لأضل من الأنعام وأسوأ حالا من الحمير ونعوذ بالله من الخذلان والجهل بالرحمن وأسمائه وصفاته وهل قامت مصالح الوجود إلا بالأمر والنهي وإرسال الرسل وإنزال الكتب ولولا ذلك لكان الناس بمنزلة البهائم يتهارجون في الطرقات ويتسافدون تسافد الحيوانات لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى صواب وأنت ترى الأمكنة والأزمنة التي خفيت فيها آثار النبوة كيف حال أهلها وما دخل عليهم من الجهل والظلم والكفر بالخالق والشرك بالمخلوق واستحسان القبائح وفساد العقائد والأعمال فإن الشرائع بتنزيل الحكيم العليم أنزلها وشرعها الذي يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد وأسباب سعادتهم الدنيوية والأخروية فجعلها غذاء ودواء وشفاء وعصمة وحصنا وملجأ وجنة ووقاية وكانت بالقياس إلى مصالح الأبدان بمنزلة حكيم عالم ركب للناس أمرا يصلح لكل مرض ولكل ألم وجعله مع ذلك غذاء للأصحاء فمن يغذي به من الأصحاء غذّاه ومن يداوي به من المرض شفاه وشرائع الرب تعالى فوق ذلك وأجل منه وإنما هو تمثيل وتقريب فلا أحسن من أمره ونهيه وتحليله وتحريمه أمره قوت وغذاء وشفاء ونهيه حمية وصيانة فلم يأمر عباده بما أمرهم به حاجة منه إليهم ولا عبثا بل رحمة وإحسانا ومصلحة ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه بخلا عليهم بل حماية وصيانة عما يؤذيهم ويعود عليهم بالضرر إن تناولوه فكيف يتوهم من له مسكة من عقل خلوها من الحكم والغايات المحمودة المطلوبة لأجلها ولهذا استدل كثير من العقلاء على النبوة بنفس الشريعة واستغنوا بها عن طلب المعجزة وهذا من أحسن الاستدلال فإن دعوة الرسل من أكبر شواهد صدقهم وكل من له خبرة بنوع من أنواع العلوم إذا رأى حاذقا قد صنف فيه كتابا جليلا عرف أنه من أهل ذلك العلم بنظره في كتابه وهكذا كل من له عقل وفطرة سليمة وخبرة بأقوال الرسل ودعوتهم إذا نظر في هذه الشريعة قطع قطعا نظير القطع بالمحسوسات أن الذي جاء بهذه الشريعة رسول صادق وأن الذي شرعها أحكم الحاكمين ولقد شهد لها عقلاء الفلاسفة بالكمال والتمام وأنه لم يطرق العالم ناموس أكمل ولا أحكم هذه شهادة الأعداء وشهد لها من زعم أنه من الأولياء بأنها لم تشرع لحكمة ولا لمصلحة وقالوا أي حكمة في الإلزام بهذه التكاليف الشاقة المتعبة وأي مصلحة للمكلف في ذلك وأي غرض للمكلف وما هي إلا محض المشيئة المجردة من قصد غاية أو حكمة ولو استحي هؤلاء من العقلاء لمنعهم الحياء من تسويد القلوب والأوراق بمثل ذلك وهل تركت الشريعة خيرا ومصلحة إلا جاءت به وأمرت به وندبت إليه وهل تركت شرا ومفسدة إلا نهت عنه وهل تركت لمفرح أفراحا أو لمتعنت تعنتا أو لسائل مطلبا فمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وعند نفاة الحكم أنه يجوز عليه ضد ذلك الحكم من كل وجه وأنه لا فرق بينه وبين ضده في نفس الأمر إلا لمجرد التحكم والمشيئة فلوا اجتمعت حكمة جميع الحكماء من أول الدهر إلى آخره ثم قيست إلى حكمة هذه الشريعة الكاملة الحكيمة الفاضلة لكانت كقطرة من بحر وإنما نعني بذلك الشريعة التي أنزلها الله على رسوله وشرعها للأمة ودعاهم إليها لا الشريعة المبدلة ولا المؤولة ولا ما غلط فيه الغالطون وتأوله المتأولون فإن هذين النوعين قد يشتملان على فساد وشر بل الشر والفساد الواقع بين الأمة من هاتين الشريعتين اللتين نسبتا إلى الشريعة المنزلة من عند الله عمدا أو خطأ وإلا فالشريعة على وجهها خير محض ومصلحة من كل وجه ورحمة وحكمة ولطف بالمكلفين وقيام مصالحهم بها فوق قيام مصالح أبدانهم بالطعام والشراب فهي مكملة للفطر والعقول مرشدة إلى ما يحبه الله ويرضاه ناهية عما يبغضه ويسخطه مستعملة لكل قوة وعضو حركة في كماله الذي لا كمال له سواه آمرة بمكارم الأخلاق ومعاليها ناهية عن دنيئها وسفسافها واختصار ذلك أنه شرع استعمال كل قوة وكل عضو وكل حركة في كمالها ولا سبيل إلى معرفة كمالها على الحقيقة إلا بالوحي فكانت الشرائع ضرورية في مصالح الخلق وضرورتها له فوق كل ضرورة تقدر فهي أسباب موصلة إلى سعادة الدارين ورأس الأسباب الموصلة إلى حفظ صحة البدن وقوته واستفراغ أخلاطه ومن لم يتصور الشريعة على هذه الصورة فهو من أبعد الناس عنها وقد جعل الحكيم العليم لكل قوة من القوى ولكل حاسة من الحواس ولكل عضو من الأعضاء كمالا حسيا وكمالا معنويا وفقد كماله المعنوي شر من فقد كماله الحسي فكماله المعنوي بمنزلة الروح والحسي بمنزلة الجسم فأعطاه كماله الحسي خلقا وقدرا وأعطاه كماله المعنوي شرعا وأمرا فبلغ بذلك غاية السعادة والانتفاع بنفسه فلم يدع للإحسان إليه والاعتناء بمصالحه وإرشاده إليها وإعانته على تحصيلها إفراحا يفرحه ولا شفاء يطلبه بل أعطاه من ذلك ما لم يصل إليه إفراحه ولا تدرك معرفته ويكفي العاقل البصير الحي القلب فكرة في فرع واحد من فروع الأمر والنهي وهو الصلاة وما اشتملت عليه من الحكم الباهرة والمصالح الباطنة والظاهرة والمنافع المتصلة بالقلب والروح والبدن والقوى التي لو اجتمع حكماء العالم قاطبة واستفرغوا قواهم وأذهانهم لما أحاطوا بتفاصيل حكمها وأسرارها وغاياتها المحمودة بل انقطعوا كلهم دون أسرار الفاتحة وما فيها من المعارف الإلهية والحكم الربانية والعلوم النافعة والتوحيد التام والثناء على الله بأصول أسمائه وصفاته وذكر أقسام الخلقة باعتبار غاياتهم ووسائلهم وما في مقدماتها وشروطها من الحكم العجيبة من تطهير الأعضاء والثياب والمكان وأخذ الزينة واستقبال بيته الذي جعله إماما للناس وتفريغ القلب وإخلاص النية وافتتاحها بكلمة جامعة لمعاني العبودية دالة على أصول الثناء وفروعه مخرجة من القلب الالتفات إلى ما سواه والإقبال على غيره فيقدم بقلبه الوقوف بين يدي عظيم جليل أكبر من كل شيء وأجل من كل شيء وأعظم من كل شيء بلا سبب في كبريائه السماوات وما أظلت والأرض وما أقلت والعوالم كلها عنت له الوجوه وخضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة قاهر عباده ناظر إليهم عالم بما تكن صدورهم يسمع كلامهم ويرى مكانهم لا يخفى عليه خافية من أمرهم ثم أخذ في تسبيحه وحمده وذكر تبارك اسمه وتعالى جده وتفرده بالإلهية ثم أخذ في الثناء عليه بأفضل ما يثنى عليه به من حمده وذكر ربوبيته للعالم وإحسانه إليهم ورحمته بهم وتمجيده بالملك الأعظم في اليوم الذي لا يكون فيه ملك سواه حتى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ويدينهم بأعمالهم ثم إفراده بنوعي التوحيد توحيد ربوبيته استعانة به وتوحيد إلهيته عبودية له ثم سؤاله أفضل مسئول وأجل مطلوب على الإطلاق وهو هداية الصراط المستقيم الذي نصبه لأنبيائه ورسله وأتباعهم وجعله صراطا موصلا لمن سلكه إليه وإلى جنته وأنه صراط من اختصهم بنعمته بأن عرفهم الحق وجعلهم متبعين له دون صراط أمة الغضب الذي عرفوا الحق ولم يتبعوه وأهل الضلال الذين ضلوا عن معرفته واتّباعه فتضمنت تعريف الرب والطريق الموصل إليه والغاية بعد الوصول وتضمنت الثناء والدعاء وأشرف الغايات وهي العبودية وأقرب الوسائل إليها وهي الاستعانة مقدما فيها على الوسيلة والمعبود المستعان على الفعل إيذانا لاختصاصه وإن ذلك لا يصلح إلا له سبحانه وتضمنت ذكر الإلهية والربوبية والرحمة فيثنى عليه ويعبد بإلهيته ويخلق ويرزق ويميت ويحيى ويدبر الملك ويضل من يستحق الإضلال ويغضب على من يستحق الغضب بربوبيته وحكمته وينعم ويرحم ويجود ويعفو ويغفر ويهدي ويتوب برحمته فلله كم في هذه السورة من أنواع المعارف والعلوم والتوحيد وحقائق الإيمان ثم يأخذ بعد ذلك في تلاوة ربيع القلوب وشفاء الصدور ونور البصائر وحياة الأرواح وهو كلام رب العالمين فيحل به في ما شاء من روضات مونقات وحدائق معجبات زاهية أزهارها مونقة ثمارها قد ذللت قطوفها تذليلا وسهلت لمتناولها تسهيلا فهو يجتني من تلك الثمار خيرا يؤمر به وشرا ينهى عنه وحكمة وموعظة وتبصرة وتذكرة وعبرة وتقريرا لحق ودحضا لباطل وإزالة لشبهة وجوابا عن مسألة وإيضاحا لمشكل وترغيبا في أسباب فلاح وسعادة وتحذيرا من أسباب خسران وشقاوة ودعوة إلى هدى ورد عن ردي فتنزل على القلوب نزول الغيث على الأرض التي لا حياة لها بدونه ويحل منها محل الأرواح من أبدانها فأي نعيم وقرة عين ولذة قلب وابتهاج وسرور لا يحصل له في هذه المناجاة والرب تعالى يسمع لكلامه جاريا على لسان عبده ويقول حمدني عبدي أثنى علي عبدي مجدني عبدي ثم يعود إلى تكبير ربه عز وجل فيجد ربه عهد التذكرة كونه أكبر من كل شيء بحق عبوديته وما ينبغي أن يعامل به ثم يرجع جاثيا له ظهره خضوعا لعظمته وتذللا لعزته واستكانة لجبروته مسبحا له بذكر اسمه العظيم فنزه عظمته عن حال العبد وذله وخضوعه وقابل تلك العظمة بهذا الذل والانحناء والخضوع قد تطامن وطأطأ رأسه وطوى ظهره وربه فوقه يرى خضوعه وذله ويسمع كلامه فهو ركن تعظيم وإجلال كما قال : "أما الركوع فعظموا فيه الرب" ثم عاد إلى حاله من القيام حامدا لربه مثنيا عليه بأكمل محامده وأجمعها وأعمها مثنيا عليه بأنه أهل الثناء والمجد ومعترفا بعبوديته شاهدا بتوحيده وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وأنه لا ينفع أصحاب الجدد والأموال والحظوظ جدودهم عنه ولو عظمت ثم يعود إلى تكبيره ويخر له ساجدا على أشرف ما فيه وهو الوجه فيعفره في التراب ذلا بين يديه ومسكنه وانكسارا وقد أخذ كل عضو من البدن حظه من هذا الخضوع حتى أطراف الأنامل ورؤوس الأصابع وندب له أن يسجد معه ثيابه وشعره فلا يكفيه وأن لا يكون بعضه محمولا على بعض وأن يتأسر التراب بجبهته وينال قبل وجهة المصلى ويكون رأسه أسفل ما فيه تكميلا للخضوع والتذليل لمن له العز كله والعظمة كلها وهذا أيسر اليسير من حقه على عبده فلو دام كذلك من حين خلق إلى أن يموت لما أدى حق ربه عليه ثم أمر أن يسبح ربه الأعلى فيذكر علوه سبحانه في حال سفوله وهو وينزهه عن مثل هذه الحال وأن من هو فوق كل شيء وعال على كل شيء ينزه عن السفول بكل معنى بل هو الأعلى بكل معنى من معاني العلو ولما كان هذا غاية ذل العبد وخضوعه وانكساره كان أقرب ما يكون الرب منه في هذه الحال فأمر أن يجتهد في الدعاء لقربه من القريب المجيب وقد قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه وأرفع شأنا وفصل بينهما بركن مقصود في نفسه يجتهد فيه بالحمد والثناء والتمجيد وجعل بين خضوع خضوع قبله وخضوع بعده وجعل خضوع السجود بعد الحمد والثناء والمجد كما جعل خضوع الركوع بعد ذلك فتأمل هذا الترتيب العجيب وهذا التنقل في مراتب العبودية كيف ينتقل من مقام الثناء على الرب بأحسن أوصافه وأسمائه وأكمل محامده إلى من له خضوعه وتذلله أن له هذا الثناء ويستصحب في مقامه خضوعه بما يناسب ذلك المقام ويليق به فتذكر عظمة الرب في حال خضوعه وعلوه في حال سفوله ولما كان أشرف أذكار الصلاة القرآن شرع في أشرف أحوال الإنسان وهي هيئة القيام التي قد انتصب فيها قائما على أحسن هيئة ولما كان أفضل أركانها الفعلية السجود شرع فيها بوصف التكرار وجعل خاتمة الركعة وغايتها التي انتهت إليها مطابق افتتاح الركعة بالقرآن واختتامها بالسجود أول سورة افتتح بها الوحي فإنها بدئت بالقراءة وختمت بالسجود وشرع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد ويسأل ربه أن يغفر له ويرحمه ويرزقه ويهديه ويعافيه وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة بعد مرة كما شرع تكرار الأذكار والدعوات مرة بعد مرة ليستعد بالأول لتكميل ما بعده ويجبر بما بعده ما قبله وليشبع القلب من هذا الغذاء وليأخذ رواه ونصيبه وافرا من الدواء ليقاومه فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء فإذا تناول الجائع الشديد الجوع من اللقمة أو اللقمتين كان غناؤها عنه وسدها من جوعه يسيرا جدا وكذلك المرض الذي يحتاج إلى قدر يغني من الدواء إذا أخذ منه المريض قيراطا من ذلك لم يزل مرضه بالكلية وأزال بحسبه فما حصل الغذاء أو الشفاء للقلب بمثل الصلاة وهي لصحته ودوائه بمنزلة غذاء البدن ودوائه ثم لما أكمل صلاته شرع له أن يقعد قعدة العبد الذليل المسكين لسيده ويثني عليه بأفضل التحيات ويسلم على من جاء بهذا الحظ الجزيل ومن نالته الأمة على يديه ثم يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله المشاركين له في هذه العبودية ثم يتشهد شهادة الحق ثم يعود فيصلي على من علم الأمة هذا الخير ودلهم عليه ثم شرع له أن يسأل حوائجه ويدعو بما أحب ما دام بين يدي ربه مقبلا عليه فإذا قضى ذلك أذن له في الخروج منها بالتسليم على المشاركين له في الصلاة هذا إلى ما تضمنته الأحوال والمعارف من أول المقامات إلى آخرها فلا تجد منزلة من منازل السير إلى الله ولا مقاما من مقامات العارفين إلا وهو في ضمن الصلاة وهذا الذي ذكرناه من شأنها كقطرة من بحر فكيف يقال أنها تكليف محض لم يشرع لحكمة ولا لغاية قصدها الشارع بل هي محض وكلفة ومشقة مستندة إلى محض المشيئة لا لغرض ولا لفائدة البتة بل مجرد قهر وتكليف وليست سببا لشيء من مصالح الدنيا والآخرة ثم تأمل أبواب الشريعة ووسائلها وغاياتها كيف تجدها مشحونة بالحكم المقصودة والغايات الحميدة التي شرعت لأجلها التي لولاها لكان الناس كالبهائم بل أسوأ حالا فكم في الطهارة من حكمة ومنفعة للقلب والبدن وتفريح للقب وتنشيط للجوارح وتخفيف من أحمال ما أوجبته الطبيعة وألقاه عز النفس من درن المخالفات فهي منظفة للقلب والروح والبدن وفي غسل الجنابة من زيادة النعومة والإخلاف على البدن نظير ما تحلل منه بالجنابة ما هو من أنفع الأمور وتأمل كون الوضوء في الأطراف التي هي محل الكسب والعمل فجعل في الوجه الذي فيه السمع والبصر والكلام والشم والذوق وهذه الأبواب هي أبواب المعاصي والذنوب كلها منها يدخل إليها ثم جعل في اليدين وهما طرفاه وجناحاه اللذان بهما يبطش ويأخذ ويعطي ثم في الرجلين اللتين بهما يمشي ويسعى ولما كان غسل الرأس مما فيه أعظم حرج ومشقة جعل مكانه المسح وجعل ذلك مخرجا للخطايا من هذه المواضع حتى يخرج مع قطر الماء من شعره وبشره كما ثبت عن النبي من حديث أبي هريرة قال: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان يبطشها يداه مع الماء أو مع آخر قطر فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب" رواه مسلم وفي صحيح مسلم أيضا عن عثمان بن عفان قال قال رسول الله : "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه حتى يخرج من تحت أظفاره" فهذا من أجل حكم الوضوء وفوائده وقال نفاة الحكمة أنه تكليف ومشقة وعناء محض لا مصلحة فيه ولا حكمة شرع لأجلها ولو لم يكن في مصلحته وحكمته إلا أنه سيماء هذه الأمة وعلامتهم في وجوههم وأطرافهم يوم القيامة بين الأمم ليست لأحد غيرهم ولو لم يكن فيه من المصلحة والحكمة إلا أن المتوضئ يطهر يديه بالماء وقلبه بالتوبة ليستعد للدخول على ربه ومناجاته والوقوف بين يديه طاهر البدن والثوب والقلب فأي حكمة ورحمة ومصلحة فوق هذا ولما كانت الشهوة تجري في جميع البدن حتى أن تحت كل شعرة شهوة سرى غسل الجنابة إلى حيث سرت الشهوة كما قال النبي : "إن تحت كل شعرة جنابة" فأمر أن يوصل الماء إلى أصل كل شعرة فيبرد حرارة الشهوة فتسكن النفس وتطمئن إلى ذكر الله وتلاوة كلامه والوقوف بين يديه فوالله لو أن أبقراط ودونه أوصوا بمثل هذا لخضع أتباعهم لهم فيه وعظموهم عليه غاية التعظيم وأبدوا له من الحكم والفوائد ما قدروا عليه ثم لما كان العبد خارج الصلاة مهمل جوارحه قد أسامها في مراتع الشهوات والحظوظ أمر العبودية بجميع جوارحه كلها على ربه بحظها من عبوديته فيسلم قلبه وبدنه وجوارحه وحواسه وقواه لربه عز وجل واقفا بين مقبلا بكله عليه معرضا عمن سواه متنصلا من إعراضه عنه وجنايته على حقه ولما كان هذا طبعه وذاته أمران يجدد هذا الركوع إليه والإقبال عليه وقتا بعد وقت لئلا يطول عليه الأمد فينسى ربه وينقطع عنه بالكلية وكانت الصلاة من أعظم نعم الله عليه وأفضل هداياه التي ساقها إليه فأبى نفاة الحكمة إلا جعلها كلفة وعناء وتعبا لا لحكمة ولا لمصلحة البتة إلا مجرد القهر والمشيئة وقد فتح ذلك الباب فساق الشريعة كلها من أولها إلى آخرها هذا المساق واستدل بما ظهر لك على ما خفي عنك ولعل الحكمة فيما لم تعلمه أعظم منها فيما علمته فإن الذي علمته على قدر عقلك وفهمك وما خفي عنك فهو فوق عقلك وفهمك ولو تتبعنا تفصيل ذلك لجاء عدة أسفار فيكتفي منه بأدنى بينة والله المستعان، الوجه الثالث والعشرون أن هذه الجمادات والحيوانات المختلفة الأشكال والمقادير والصفات والمنافع والقوى والأغذية والنباتات التي هي كذلك فيها من الحكم والمنافع ما قد أكثرت الأمم في وصفه وتجربته على ممر الدهور ومع ذلك فلم يصلوا منه إلا إلى أيسر شيء وأقله بل لو اتفق جميع الأمم لم يحيطوا علما بجميع ما أودع واحد من ذلك النوع من الحكم والمصالح هذا إلى ما في ضمن ذلك من الاعتبار والدلالة الظاهرة على وجود الخالق ومشيئته واختياره وعلمه وقدرته وحكمته فإن المادة الواحدة لا تحتمل بنفسها هذه الصورة الغريبة والأشكال المتنوعة والمنافع والصفات ولو تركبت مع غيرها فليس حدوث هذه الأنواع والصور بنفس التركيب أيضا ولا هو مفيض له فحصول هذا التنوع والتفاوت والاختلاف في الحيوان والنبات من أعظم آيات الرب تعالى ودلائل ربوبيته وقدرته وحكمته وعلمه وأنه فعال لما يريد اختيارا ومشيئة فتنويع مخلوقاته وحدوثها شيئا بعد شئ من أظهر الدلالات وتأمل كيف أرشد القرآن إلى ذلك في غير موضع كقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقول تعالى: {وَالله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فتأمل كيف نبه سبحانه باختلاف الحيوانات في المشي مع اشتراكها في المادة على الاختلاف فيما وراء ذلك من أعضائها وأشكالها وقواها وأفعالها وأغذيتها ومساكنها فنبه على الاشتراك والاختلاف فيشير إلى يسير منه فالطير كلها تشترك في الريش والجناح وتتفاوت فيما وراء ذلك أعظم تفاوت واشتراك ذوات الحوافر في الحافر كالفرس والحمار والبغل وتفاوتها في ما وراء ذلك واشتراك ذوات الأظلاف في الظلف وتفاوتها في غير ذلك واشتراك ذوات القرون فيها وتفاوتها في الخلق والمنافع والأشكال واشتراك حيوانات الماء في كونها سابحة تأوي فيها وتتكون فيها وتفاوتها أعظم تفاوت عجز البشر إلى الآن عن حصره واشتراك الوحوش في البعد عن الناس والتفاوت عنهم وعن مساكنهم وتفاوتها في صفاتها وأشكالها وطبائعها وأفعالها أعظم تفاوت يعجز البشر عن حصره واشتراك الماشي منها على بطنه في ذلك وتفاوت نوعه واشتراك الماشي على رجلين في ذلك وتفاوت نوعه أعظم تفاوت وكل من هذه الأنواع له علم وإدراك وتحيل على جلب مصالحه ودفع مضاره يعجز كثير منها نوع الإنسان فمن أعظم الحكم الدلالة الظاهرة على معرفة الخالق الواحد المستولي بقوته وقدرته وحكمته على ذلك كله بحيث جاءت كلها مطيعة منقادة منساقة إلى ما خلقها له على وفق مشيئته وحكمته وذلك أدل شيء على قوته القاهرة وحكمته البالغة وعلمه الشامل فيعلم إحاطة قدرة واحدة وعلم واحد وحكمة واحدة أعني بالنوع من قادر واحد حكيم واحد بجميع هذه الأنواع وأضعافها مما لا تعلمه العقول البشرية كما قال: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ} فيجمع غايات فعله وحكمة خلقه وأمره إلى غاية واحدة هي منتهى الغايات وهي إلهية الحق التي كل إلهية سواها فهي باطل ومحال فهي غاية الغايات ثم ينزل منها إلى غايات أخر هي وسائل بالنسبة إليها وغايات بالنسبة إلى ما دونها وأن إلى ربك المنتهى فليس وراءه معلوم ولا مطلوب ولا مذكور إلا العدم المحض وليس في الوجود إلا الله ومفعولاته وهي آثار أفعاله وأفعاله آثار صفاته وصفاته قائمة به من لوازم ذاته والمقصود إن الغايات المطلوبة العلم بإحاطة علم واحد من عالم واحد وفعل واحد من فاعل واحد وقدرة واحدة من قادر واحد وحكمة واحدة من حكيم واحد بجميع ما فيه على اختلاف ما فيه واجتمعت غايات فعله وأمره إلى غاية واحدة وذلك من أظهر أدلة توحيد الإلهية كما ابتدأت كلها من خالق واحد وقادر واحد ورب واحد ودل على الأمرين أعني توحيد الربوبية والإلهية النظام الواحد والحكمة الجامعة للأنواع المختلفة مع ضدها وتعذرها ودل افتقار بعضها إلى بعض وتشبك بعضها ببعض ومعاونة بعضها ببعض وارتباطه به على أنها صنع فاعل واحد ورب واحد فلو كان معه آلهة وأرباب غيره كما لا ترضى ملوك الدنيا أن يحتاج مملوك احدهم إلى مملوك غيره مثله لما في ذلك من النقص والعيب المنافي لكمال الاقتدار والغناء ودل انتظامها في الوجود ووقوعها في ثباتها واختلافها على أكمل الوجوه وأحسنها على انتهائها إلى غاية واحدة ومطلوب واحد هو إلهها الحق ومعبودها الأعلى الذي لا إله لها غيره ولا معبود لها سواه فتأمل كيف دل اختلاف الموجودات وثباتها واجتماعها فيما اجتمعت فيه وافتراقها فيما افترقت على إله واحد ورب واحد ودلت على صفات كماله ونعوت جلاله فالموجودات بأسرها كعسكر واحد له ملك واحد وسلطان واحد يحفظ بعضه ببعض وينظم مصالح بعضه ببعض ويسد خلل بعضه ببعض فيمد هذا بهذا ويقوي هذا بهذا وينقص من هذا فيزيده في الآخر يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويبيد هذا فينشي مكانه من جنسه ما يقوم مقامه ويسد مسده فيشهد حدوث الثاني أن الذي أحدثه وأوجده هو الذي أحدث الأول لا غيره وأن حكمته لم تتغير وعلمه لم ينقص وقدرته لم تضعف وأنه لا يتغير بتغيير ما يغير منها ولا يضمحل باضمحلاله ولا يتلاشى بتلاشيه بل هو الحي القيوم العزيز الحكيم هذا إلى ما في لوازم مكبرها وانتظام بعضها ببعض وما يصدر عنها من الأفعال والآثار من حكم وأفعال أخرى وغايات أخر حكمها حكم موادها وحواملها كما نشاهده في أشخاصها وأعيانها مثال ذلك في أحدوثة واحدة إنك ترى المعدة تشاق الغذاء وتجتذبه إليها فانظر لوازم ذلك قبل تناوله ولوازمه بعد تناوله وما يترتب على تلك اللوازم من عمارة الدنيا فإذا جذبته إليها أنضجته وطبخته كما تنضج القدر ما فيها فتنضجه الإنضاج الذي تعده لتغذي أجزاء البدن وقواه وأرواحه به وهي إذا أنضجته لأجل نصيبها الذي ينالها منه فهو قليل من كثير بالنسبة إلى انتفاع غيرها به فيدفع ما فضل عن غذائها عنها إلى من هو شديد الحاجة إليه على قدر حاجته من غير أن يقصد ذلك أو يشعر به ولكن قد قصده وأحكمه من هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير يدبره بحكمته ولطفه وساقه في المجاري التي لا ينفذ فيها الإبر لدقة مسالكها حتى أوصله إلى المحتاج إليه الذي لا صلاح له إلا بوصوله إليه وكانت طبيعة الكبد ومزاجها في ذلك تلي طبيعة المعدة وفعلها يلي فعلها وكذلك الأمعاء وباقي الأعضاء كالكبد للقلب في أعداد الغذاء والقلب للرئة والرئة للقلب في أعداد الهواء وإصلاحه فالأعضاء الموجودة في الشخص إذا تأملتها وتأملت أفعالها ومنافعها وما تضمنه كل واحد منها من حكمة اختصت به كشكله ووصفه ومزاجه ووضعه من الشخص بذلك الموضع المعين علمت علما يقينا أن ذلك صادر عن خالق واحد ومدبر واحد وحكيم واحد فانتقل من هذا إلى أشخاص العالم شخصا شخصا من النوع الإنساني تجد الحكمة الواحدة الظاهرة في تلك الأفراد الكثيرة قد نفعت بعضهم بعض وأعانت بعضهم ببعض حراثا لزارع وزراعا لحاصد وحائكا لخياط وخياطا لنجار ونجارا لبناء فهذا يعين هذا بيده وهذا برجله وهذا يعينه بعينه وهذا بإذنه وهذا بلسانه وهذا بماله وإذ لا يقدر أحدهم على جميع مصالحه ولا يقوم بحاجاته ولا توجد في كل واحد منهم جميع خواص نوعه فهم بأشخاصهم الكثير كإنسان واحد يقوم بعضه بمصالح بعض قد كمل خواص الإنسانية في صفاته وأفعاله وصنائعه وما يراد منه فإن الواحد منهم لا يفي بأن يجمع جميع الفضائل العلمية والعملية والقوة والبقاء فجعل ذلك في النوع الإنساني بجملته والله سبحانه وقد فرق كمالات النوع في أشخاصه وجعل لكل شخص منها ما هو مستعد قابل له بحيث لو قيل أكثر من ذلك لأعطاه فإنه جواد لذاته قد فاض جوده وخيره على العالم كله وفضل عنه أضعاف ما فاض عليه فهو يفيضه على تعاقب الآنات أبدا وكذلك يفضل في الجنة فضل عن أهلها فينشئ لها خلقا يسكنهم فضلها وإنما يتخصص فضله بحسب استعداد العوامل والمعدات وذلك بمشيئته وحكمته فهو الذي أوجدها وهو الذي أعدها وهو الذي أمدها ولما كان جوده وفضله أوسع من حاجة الخلق لم يكن بد من بقاء كثير منه مبذولا في الوجود مهملا وهذا كضوء الشمس مثلا فإن مصالح الحيوان لا تتم إلا به وهي تشرق على مواضع فضلت عن حوائج بني آدم والحيوان وكذلك المطر والنبات وسائر النعم ومع ذلك فلم يعطل وجودها عن حكم ومصالح وعبر ودلالات وعطاء الرب ونعمه أوسع من حوائج خلقه فلا بد أن يبقى في المياه والأقوات والنبات وغير ذلك أجزاء مهملة ولا يقال ما الحكمة في خلقها فإن هذا سؤال جاهل ظالم فإن الحكمة في خلق الأرض وما عليها ظاهرة لكل بصير والمعمور بعضها لا كلها والرب تعالى واسع الجود دائمه فجوده وخيره عام دائم فلا يكون إلا كذلك فإن ذلك من لوازم علمه وقدرته وحكمته ولعلمه وقدرته وحكمته العموم والشمول والكمال المطلق بكل اعتبار فيعلم من استقراء العالم وأحواله انتهاؤه إلى عالم واحد وقادر واحد وحكيم واحد أتقن نظامه أحسن الإتقان وأوجده على أتم الوجود وهو سبحانه ناظم أفعال الفاعلين مع كثرتها ورابط بعضها ببعض ومعين بعضها ببعض وجاعل بعضها سببا لبعض وغاية لبعض وهذا من أدل الدليل على انه خالق واحد ورب واحد وقادر واحد دل على قدرته كثرة أفعاله وتنوعها في الوقت الواحد وتعاقبها على تتالي الآنات وتعين تصرفاته في مخلوقاته على كثرتها ودل على علمه وحكمته كون كل شيء كبير وصغير ودقيق وجليل داخلا في النظام الحكمي ليس منها شيء حتى مسام الشعر في الجلد ومراشح اللعاب في الفم ومجاري الشعب الدقيقة من العروق في أصغر الحيوانات التي تعجز عنها أبصارنا ولا تنالها قدرتنا وهذا فيما دق لصغره وفيما جل لعظمه كالرياح الحاملة للسحب إلى الأرض الجرز التي لا نبات بها فيمطرها عليها فيخرج بها نباتا ويحيي بها حيوانا ويجعل فيها جزأين من الطعام والشراب والأقوات والأدوية دع ما فوق ذلك من تسخير الشمس والقمر والنجوم واختلاف مطالعها ومغاربها لإقامة دولة الليل والنهار وفصول العام التي بها نظام مصالح من عليها فإذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع عباده فالسماء سقفه والأرض بساطه والنجوم زينته والشمس سراجه ومصالح سكانه والليل سكنهم والنهار معاشهم والمطر سقياهم والنبات غذاؤهم ودواهم وفاكهتهم والحيوان خدمهم ومنه قوتهم ولباسهم والجواهر كنوزهم وذخائرهم كل شيء منها لما يصلح له فضروب النبات لجميع حاجاتهم وصنوف الحيوانات معدة لجميع مصالحهم وذلك أدل دليل على وحدانية خالقه وقدرته فلم يكن لون السماء أزرق اتفاقا بل لحكمة باهرة فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر حتى أن في وصف الأطباء لمن أصابه ما أضر ببصره أو كلم بصره إدمان النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد فجعل أحكم الحاكمين أديم السماء بهذا اللون ليمسك الأبصار الراجعة فلا ينكأ فيها فهذا الذي أدركه الناس بعد الفكر والتجربة قد وجد مفروغا منه في الخلقة ولم يكن طلوع الشمس وغروبها على هذا النظام لغير علة ولا حكمة مطلوبة فكم من حكمة ومصلحة في ذلك من إقامة الليل والسكن فيه والنهار والمعاش فيه فلو جعل الله عليهم الليل سرمدا لتعطلت مصالحهم وأكثر معايشهم والحكمة في طلوعها أظهر من أن تنكر ولكن تأمل الحكمة في غروبها إذ لولا ذلك لم يكن للناس هدوء ولا قرار ولا راحة وكان الكد الدائم بتكافؤ أبدانهم وتسرع فسادها وكان ما على الأرض يحرق بدوام شروق الشمس من حيوان ونبات فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه ونظامه وكذلك الحكمة في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة وما في ذلك من الحكمة فإن في الشتاء تفور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد من ذلك مواد الثمار وتكيف الهواء فتنشأ منه السحاب ويحدث المطر الذي به حياة الأرض والحيوان وتشتد أفعال الحيوان وتقوى الأفعال الطبيعية وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد الكامنة في الشتاء وفي الصيف يسخن الهواء فتنضج الثمار ويتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض فيتهيأ للبناء وغيره وفي الخريف يصفو الهواء ويعتدل فيذهب بسورة حر الصيف وسمومه إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحكم وكذلك الحكمة في تنقل الشمس فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد لفاتت مصالح العالم ولما وصل شعاعها إلى كثير من الجهات لأن الجبال والجدران يحجبانها عنها فاقتضت الحكمة الباهرة أن جعلت تطلع أول النهار من المشرق وتشرق على ما قابلها من وجه الغرب ثم لا تزال تغشى وجها بعد وجه حتى تنتهي إلى الغرب فتشرق على ما استتر عنها أول النهار فتأخذ جميع الجهات منها قسطا من النفع وكذلك الحكمة الباهرة في انتهاء مقدار الليل والنهار إلى هذا الحد فلو زاد مقدار أحدهما زيادة عظيمة لتعطلت المصالح والمنافع وفسد النظام وكذلك الحكمة في ابتداء القمر دقيقا ثم أخذه في الزيادة حتى يكمل ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى فكم في ذلك من حكمة ومصلحة ومنفعة للخلق فإن بذلك يعرفون الشهور والسنين والآجال وأشهر الحج والتاريخ ومقادير الأعمار ومدد الإجارات وغيرها وهذا وإن كان يحصل بالشمس إلا أن معرفته بالقمر وزيادته ونقصانه أمر يشترك فيه الناس كلهم وكذلك الحكمة في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل فإنه مع الحاجة إلى الليل وظلمته لهدوء الحيوان وبرد الهواء عليه وعلى النبات لم يجعل ظلاما محضا لا ضياء فيه فلا يمكن فيه سفر ولا عمل وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في النهار ولشدة الحر فيتمكنون في ضوء القمر من أعمال كثيرة وجعل نوره باردا ليقاوم حرارة نور الشمس فبرد سمومه فيعتدل الأمر ويكسر كيفية كل منهما كيفية الآخر ويزيل ضررها وكذلك الحكمة في خلق النجوم فإن فيها من الهداية في البر والبحر والاستدلال على الأوقات وزينة السماء وغير ذلك ما لم يكن حاصلا بمجرد الاتفاق كما يقوله نفاة الحكمة واقتضت هذه الحكمة أن جعلت نوعين نوعا منها يظهر وقتا ويحتجب آخر ونوعا آخر لا يزال ظاهرا غير محتجب بل جعل ظاهرا بمنزلة الإعلام التي يهتدي بها الناس في الطرقات المجهولة وهم ينظرون إليها متى أرادوا ويهتدون بها إلى حيث شاؤا وجعلت الحكمة في النوع الأول الاستدلال بظهوره على أمور تعاديه متى طلع في وقت يعني دل على تلك الأمور فقامت المصلحة والحكمة بالنوعين مع ما في خلقها من حكم أخرى ومصالح لا يهتدي إليها العباد فما خلق الله شيئا سدى وقد نظم الله سبحانه الحوادث الأرضية بالأزواج والأجرام العلوية أكمل نظام يعجز عقول البشر عن الإحاطة ببعضه وقد استفرغت الأمم السابقة قوى أذهانها في إدراك ذلك فلم يصل منه إلا إلى مالا نسبة له إلى ما خفي عليها بوجه ما وقد جعل الخلاق العليم سبحانه النجوم فرقتين فرقة منها لازمة مراكزها من الفلك ولا تسير إلا بسيره وفرقة أخرى مطلقة تنتقل في البروج وتسير بأنفسها غير سير فلكها فلكل منها مسيران مختلفان أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب والآخر خاص لنفسه نحو المشرق وقد شبه هذا النوع بنملة تدب على رحا والرحا تدور ذات اليمين والنملة تدور ذات الشمال فللنملة في تلك الحال حركتان مختلفتان أحداهما حركة بنفسها تتوجه أمامها والأخرى بغيرها هي مقهورة عليها تبعا للرحى تجذبها إلى خلفها فلهذا النوع من النجوم حركتان مختلفتان على وزن وتقدير لا يعدوه فزعم نفاة الحكمة أن ذلك أمر اتفاقي لا لحكمة ولا لغرض مقصود فإن قلت فما الغرض المقصود بذلك وأي حكمة فيه قيل استدل بما عرفت من الحكمة على ما خفي عنك منها ولا تجعل ما خفي عليك دليلا على بطلانها مع أن من بعض الحكم في ذلك أنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي تكون من تنقل المتنقل منها ومسيرها في كل واحد من البروج كما يستدل على أمور كثيرة وحوادث جمة بتنقل الشمس والقمر والسيارات في منازلها ولو كانت كلها متنقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يقاس عليه فإنه إنما يقاس مسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة كما يقاس سير السائر على الأرض بالمنازل التي يقطعها وبالجملة فلو كانت كلها بحال واحدة لبطل النظام الذي اقتضته الحكمة التي جعلها هكذا فذلك تقدير العزيز العليم وصنع الرب الحكيم وكيف يرتاب ذو بصيرة أن ذلك كله تقدير مقدر حكيم أتقن ما صنعه وأحكم ما دبره ويعرف بما فيه من الحكم والمصالح والمنافع إلى خلقه فشدت العقول والفطر بأنه ذو الحكمة الباهرة والقدرة القاهرة والعلم التام المحيط وأنه لم يخلق ذلك باطلا ولا من الحكمة عاطلا وكذلك الحكمة في تعاقب الحر والبرد على التدريج على أبدان الحيوان والنبات فإن قيامهما وكمالهما لما كان بذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يدخل أحدهما على الآخر وهلة فلا يتحمله بل بالتدريج قليلا قليلا إلى أن ينتهي منتهاه ويحصل المقصود به من غير ضرر يعم وهذا كله بأسباب هي منشأ الحكم والمصالح فلا يبطل السبب بإثبات الحكمة ولا الحكمة بالسبب ولا السبب والحكمة بالمشيئة فيكون من الذين يبخس حظهم من العقل والسمع وكذلك الحكمة في خلق النار على ما هي عليه كامنة في حاملها فإنها لو كانت ظاهرة كالهواء والماء والتراب لأحرقت العالم وما فيه ولم يكن بد من ظهورها في الأحايين للحاجة إليها فجعلت مخزونة في الأجسام توري عند الحاجة إليها فتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها ثم تخبوا إذ استغنى عنها فجعلت على خلقه وتقدير وتدبير حصل به الاستمتاع بها والانتفاع مع السلامة من ضررها ثم في النار خلة أخرى وهي أنها مما خص به الإنسان دون سائر الحيوان فإن الحيوانات لا تستعمل النار ولا تستمتع بها ولما اقتضت الحكمة الباهرة ذلك اغتنت الحيوانات عنها في لباسها وأقواتها فأعطيت من الشعور والأوبار ما يغنيها عنها وجعلت أغذيتها بالمفردات التي لا تحتاج إلى طبخ وخبز ولما كانت الحاجة إليها شديدة جعل من الآلات والأسباب ما يتمكن به من إثارتها إذا شاء ومن إبطالها ومن حكمها هذه المصابيح التي يوقدها الناس فيتمكنون بها من كثير حاجاتهم ولولاها لكان نصف أعمارهم بمنزلة أصحاب القبور وأما منافعها في إنضاج الأغذية والأدوية والدفء فلا يخفى وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} أي تذكر بنار الآخرة فيحترز منها ويستمتع بها المقوون وهم النازلون بالفيفاء وهي الأرض الخالية وخص هؤلاء بالذكر لشدة حاجتهم إليها في خبزهم وطبخهم حيث لا يجدون ما يشترونه فيغنيهم عن ما يصنعونه بالنار وكذلك الحكمة في خلق النسيم وما فيه من المصالح والعبر فإنه حياة هذه الأبدان وقوامها من خارج ومن داخل وفيه طرد هذه الأصوات فيؤديها إلى السامع وهو الحامل لهذه الأراييح يؤديها إلى المسام وينقلها من موضع إلى موضع وهو الذي يزجي السحاب ويسوقه من مكان إلى مكان على ظهره كالروايا على ظهور الإبل وهو الذي يسير السحاب أولا فيكون كسفا متفرقة فيؤلف بينه ثانيا فيصير طبقا واحدا ثم يلقحه ثالثا كما يلقح الفحل الأنثى فيحمل الماء كما تحمل الأنثى من لقاح الفحل ثم يسوقه رابعا إلى أحوج الأماكن والحيوان إليه ثم يعصره خامسا حتى لا يخرج ماؤه ثم يذروا ماءه بعد عصره سادسا حتى لا يسقط جملة فيهلك ما يقع عليه ثم يربي النبات سابعا فيكون له بمنزلة الماء والغذاء يجففه بحرارته ثامنا لئلا يعفن ولا يمكن بقاؤه ولهذا اقتضت الحكمة الباهرة أن تكون الرياح مختلفة المهاب والصفات والطبائع فزعم نفاة الحكمة أن هذا كله أمر اتفاقي لا سبب ولا غاية وهذا لو تتبعناه لجاء عدة أسفار بل لو تتبعنا خلقة الإنسان وحده وما فيها من الحكم والغايات لعجزنا نحن وأهل الأرض عن الإحاطة بتفصيل ذلك فلنرجع إلى جواب نفاة الحكمة والتعليل فنقول، في الوجه الرابع والعشرين قولهم أي حكمة في خلق إبليس وجنوده ففي ذلك من الحكم مالا يحيط بتفصيله إلا الله فمنها أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في الله وإغاظته وإغاظة أوليائه والاستعاذة به منه والإلجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه وقدمنا أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه ومنها خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر وخوف آخر كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد ومنها أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب وجعل هذا الأب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه فلله كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة ومنها أنه محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم فإنه سبحانه خلق النوع الإنساني من الأرض وفيها السهل والحزن والطيب والخبيث فلا بد أن يظهر فيهم ما كان في مادتهم كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعا أن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على مثل ذلك منهم الطيب والخبيث والسهل والحزن وغير ذلك فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره فلا بد إذا من سبب يظهر ذلك وكان إبليس محكا يميز به الطيب من الخبيث كما جعل أنبيائه ورسله محكا لذلك التمييز قال تعالى: {مَا كَانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فأرسله إلى المكلفين وفيهم الطيب والخبيث فانضاف الطيب إلى الطيب والخبيث إلى الخبيث واقتضت حكمته البالغة ان خلطهم في دار الامتحان فإذا صاروا إلى دار القرار يميز بينهم وجعل لهؤلاء دارا على حدة ولهؤلاء دارا على حدة حكمة بالغة وقدرة قاهرة ومنها أن يظهر كمال قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض والضياء والظلام والجنة والنار والماء والنار والحر والبرد والطيب والخبيث ومنها أن خلق أحد الضدين من كمال حسن ضده فإن الضد إنما يظهر حسنه بضده فلولا القبيح لم تعرف فضيلة الجميل ولولا الفقر لم يعرف قدر الغنا كما تقدم بيانه ريبا ومنها أنه سبحانه يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله ومنها أن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضاء ونحوها أحب العبودية إلى الله سبحانه وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله وتقديم محبته على كل ما سواه فالجهاد ذروة سنام العبودية وأحبها إلى الرب سبحانه فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصى حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا فالله ومنها أن في خلق من يضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ولطائف صنعه ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه كما تقدم من ظهور آية الطوفان والعصا واليد وفلق البحر وإلقاء الخليل في النار وأضعاف أضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته وعلمه وحكمته فلم يكن بد من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم ومنها أن المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد وفيها الإشراق والإضاءة والنور فأخرج منها سبحانه هذا وهذا كما أن المادة الترابية الأرضية فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والأحمر والأسود والأبيض فأخرج منها ذلك كله حكمة باهرة وقدرة قاهرة وآية دالة على أنه كمثله شيء وهو السميع البصير ومنها أن من أسمائه الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل المنتقم وهذه الأسماء تستدعي متعلقات يظهر فيها إحكامها كأسماء الإحسان والرزق الرحمة ونحوها ولا بد من ظهور متعلقات هذه وهذه ومنها أنه سبحانه الملك التام الملك ومن تمام ملكه عموم تصرفه وتنوعه بالثواب والعقاب والإكرام والإهانة والعدل والفضل والإعزاز والإذلال فلا بد من وجود من يتعلق به أحد النوعين كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر ومنها أن من أسمائه الحكيم والحكمة من صفاته سبحانه وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي لا يليق به سواه فاقتضت خلق المتضادات وتخصصي كل واحد منها لا يليق به غيره من الإحكام والصفات والخصائص وهل تتم الحكمة إلا بذلك فوجود هذا النوع من تمام الحكمة كما أنه من كمال القدرة ومنها أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه فلله الحمد التام الكامل على هذا وهذا وهو يحمد نفسه على ذلك كله ويحمده عليه ملائكته ورسله وأوليائه ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة كما له عليه الحمد التام فلا يجوز تعطيل حمده كما لا يجوز تعطيل حكمته ومنها أنه سبحانه يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده فاقتضى ذلك خلق من يشرك به ويضاده في حكمه ويجتهد في مخالفته ويسعى في مساخطه بل يشبهه سبحانه وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات ويرزقه ويعاقبه ويمكن له من أسباب ما يلتذ به من أصناف النعم ويجيب دعاءه ويكشف عنه السوء ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته فلله كم في ذلك من حكمة وحمد ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالاته كما في الصحيح عنه أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعاقبهم" وفي الصحيح عنه فيما يروي عن ربه: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي له ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته" وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب ويعاقبه ويدفع عنه ويدعوه إلى جنته ويقبل توبته إذا تاب إليه ويبدله بسيئاته حسنات ويلطف به في جميع أحواله ويؤهله لإرسال رسله ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به قال الفضيل بن عياض: "ما من ليلة يختلط ظلامها إلا نادى الجليل جل جلاله من أعظم مني جودا الخلائق لي عاصون وأنا أكلأهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا أجود بالفضل على العاصي وأتفضل على المسيء من ذا الذي دعاني فلم ألبه ومن ذا الذي سألني فلم أعطه أنا الجواد ومني الجود أنا الكريم ومني الكرم ومن كرمي أني أعطي العبد ما سألني وأعطيه ما لم يسألني ومن كرمي أني أعطي التائب كأنه لم يعصني فأين عني يهرب الخلق وأين عن بابي يتنحى العاصون" وفي أثر إلهي: "أني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي" وفي أثر حسن: "ابن آدم ما أنصفتني خيري إليك نازل وشرك إلى صاعد كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك وكم تتبغض إلى بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح" وفي الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقا يظهر فيهم أحكامها وآثارها فالمحبة للعفو خلق من يحسن العفو عنه ولمحبته للمغفرة خلق من يغفر له ويحلم عنه ويصبر عليه ولا يعاجله بل يكون يحب أمانه وإمهاله ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته ولمحبته للجود والإحسان والبر خلق من يعامله بالإساءة والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان فلولا خلق من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وله في كل شيء حكمة باهرة كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات إنما ذكرنا منه قطرة من بحر وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه فكم حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب المسخوط له من محبوب له تبارك وتعالى يتصل في حبه ما حصل به من مكروهه والحكيم الباهر الحكمة هو الذي يحصل أحب الأمرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه ويسخطه إذا كان طريقا إلى حصول ذلك المحبوب ووجود الملزوم بدون لازمه محال فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من السرور والمعاصي ما حصل فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له من جهاد في سبيله ومخالفة هوى النفس وشهوتها له ويحتمل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته وأحب شيء للحبيب أن يرى محبه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدق محبته:

من أجلك قد جعلت خدي أرضا للشامت والحسود حتى ترضا

وفي أثر إلهي: "بغيتي ما يتحمل المتحملون من أجلي" فلله ما أحب إليه احتمال محبيه إذا أعدائه لهم فيه وفي مرضاته وما أنفع ذلك الأذى لهم وما أحمدهم لعاقبته وماذا ينالون به من كرامة حبيبهم وقربه قرة عيونهم به ولكن حرام على منكري محبة الرب تعالى أن يشموا لذلك رائحة أو يدخلوا من هذا الباب أو يذوقوا من هذا الشراب:

فقل للعيون العمى للشمس أعين سواك يراها في مغيب ومطلع

وسامح يؤسا لم يؤهل لحبهم فما يحسن التخصيص في كل موضع

فإن أغضب هذا المخلوق ربه فقد أرضاه فيه أنبيائه ورسله وأوليائه وذلك الرضاء أعظم من ذلك الغضب وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي والمخالفات فإنه سبحانه أشد فرحا بتوبة عبده من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه إذا وجدها في المفاوز المهلكات وإن أغضبه ما جرى على أنبيائه ورسله من هذا العدو فقد سره وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربه ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه وهذا الرضاء أعظم عنده وأبر لديه من فوات ذلك المكروه المستلزم لفوات هذا المرضي المحبوب وإن أسخطه أكل آدم من الشجرة فقد أرضاه توبته وإنابته وخضوعه وتذلله بين يديه وانكساره له وإن أغضبه إخراج أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك لخروج فقط أرضاه أعظم الرضاء دخوله إليها ذلك الدخول وإن أسخطه قتلهم أوليائه وأحبائه وتمزيق لحومهم وإراقة دمائهم فقد أرضاه نيلهم الحياة التي لا أطيب منها ولا أنعم ولا ألذ في قربه وجواره وإن أسخطه معاصي عباده فقد أرضاه شهود ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة مغفرته وعفوه وبره وكرمه وجوده والثناء عليه بذلك وحمده وتمجديه بهذه الأوصاف التي حمده بها وأثنى عليه بها أحب إليه وأرضى له من فوات تلك المعاصي وفوات هذه المحبوبات واعلم أن الحمد هو الأصل الجامع لذلك كله فهو عقد نظام الخلق والأمر والرب تعالى له الحمد كله بجميع وجوهه واعتباراته وتصاريفه فما خلق شيئا ولا حكم بشيء إلا وله فيه الحمد فوصل حمده إلى حيث وصل خلقه وأمره حمدا حقيقا يتضمن محبته والرضا به وعنه والثناء عليه والإقرار بحكمته البالغة في كل ما خلقه وأمر به فتعطيل حكمته غير تعطيل حمده كما تقدم بيانه فكما أنه لا يكون إلا حميدا فلا يكون إلا حكيما فحمده وحكمته كعلمه وقدرته وحياته من لوازم ذاته ولا يجوز تعطيل شيء من صفاته وأسمائه عن مقتضياتها وآثارها فإن ذلك يستلزم النقص الذي يناقض كماله وكبريائه وعظمته يوضحه، الوجه الخامس والعشرون إنه كما أن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء أنه يجود ويعطي ويمنح فمنها أن يعيذ وينصر ويغيث فكما يحب أن يلوذ به اللائذون يحب أن يعوذ به العائذون وكمال الملوك أن يلوذ بهم أولياؤهم ويعوذوا بهم كما قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه:

يأمن ألوذ به فيما أومله ومن أعوذ به مما أحاذره

لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنتن جابره

ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله والمقصود أن ملك الملوك يحب أن يلوذ به مماليكه وأن يعوذوا به كما أمر رسوله أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه وبذلك يظهر تمام نعمته على عدوه إذا أعاذه وأجاره من عدوه فلم يكن إعاذته وإجارته منه بأدنى النعمتين والله تعالى يحب أن يكمل نعمته على عباده المؤمنين ويريهم نصره لهم على عدوهم وحمايتهم منه وظفرهم بهم فيا لها من نعمة كمل بها سرورهم ونعيمهم وعدل أظهره في أعدائه وخصمائه:

وما منهما الإله فيه حكمة يقصر عن إدراكها كل باحث

الوجه السادس والعشرون قوله أي حكمة في إبقاء إبليس إلى آخر الدهر وإماتة الرسل فكم لله في ذلك من حكمة تضيق بها الأوهام فمنها أنه سبحانه لما جعله محكا ومحنة يخرج به الطيب من الخبيث ووليه من عدوه اقتضت حكمته إبقاءه ليحصل الغرض المطلوب بخلقه ولو أماته لفات ذلك الغرض كما أن الحكمة اقتضت بقاء أعدائه الكفار في الأرض إلى آخر الدهر ولو أهلكهم البتة لتعطلت الحكم الكثيرة في إبقائهم فكما اقتضت حكمته امتحان أبي البشر اقتضت امتحان أولاده من بعده به فتحصل السعادة لمن خالفه وعاداه وينحاز إليه من وافقه ووالاه ومنها أنه لما سبق حلمه وحكمته أنه لا نصيب له في الآخرة وقد سبق له طاعة وعبادة جزاه بها في الدنيا بأن أعطاه البقاء فيها إلى آخر الدهر فإنه سبحانه لا يظلم أحدا حسنة عملها فأما المؤمن فيجزيه بحسناته في الدنيا وفي الآخرة وأما الكافر فيجزيه بحسنات ما عمل في الدنيا فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له شيء كما ثبت هذا المعنى في الصحيح عن النبي ومنها أن إبقاءه لم يكن كرامة في حقه فإنه لو مات كان خيرا له وأخف لعذابه وأقل لشره ولكن لما غلظ ذنبه بالإصرار على المعصية ومخاصمة من ينبغي التسليم لحكمه والقدح في حكمته والخلف على اقتطاع عباده وصدهم عن عبوديته كانت عقوبة الذنب أعظم عقوبة بحسب تغلظه فأبقى في الدنيا وأملى له ليزداد هذا إثما على أثم ذلك الذنب فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره فيكون رأس أهل الشر في العقوبة كما كان رأسهم في الشر والكفر ولما كان مادة كل شر فعنه ينشأ جوزي في النار مثل فعله فكل عذاب ينزل بأهل النار يبدأ به فيه ثم يسري منه إلى أتباعه عدلا ظاهرا أو حكمة بالغة ومنها أنه قال في مخاصمته لربه أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا وعلم سبحانه أن في الذرية من لا يصلح لمساكنته في داره ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والروث أبقاه له وقال له بلسان القدر هؤلاء أصحابك وأوليائك فاجلس في انتظارهم وكلما مر بك واحد منهم فشأنك به فلو صلح لي لما ملكتك منه فإني أتولى الصالحين وهم الذي يصلحون لي وأنت ولي المجرمين الذين غنوا عن موالاتي وابتغاء مرضاتي قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} فأما إماتة الأنبياء والمرسلين فلم يكن ذلك لهوانهم عليه ولكن ليصلوا إلى محل كرامته ويستريحوا من نكد الدنيا وتعبها ومقاساة أعدائهم وأتباعهم وليحي الرسل بعدهم يرى رسولا بعد رسول فإماتتهم أصلح لهم وللأمة أما هم فلراحتهم من الدنيا ولحوقهم بالرفيق الأعلى في أكمل لذة وسرور ولا سيما وقد خيرهم ربهم بين البقاء في الدنيا واللحاق به وأما الأمم فيعلم أنهم لم يطيعوهم في حياتهم خاصة بل أطاعوهم بعد مماتهم كما أطاعوهم في حياتهم وأن أتباعهم لم يكونوا يعبدونهم بل يعبدون الله بأمرهم ونهيهم والله هو الحي الذي لا يموت فكم في إماتتهم من حكمة ومصلحة لهم وللأمم هذا وهم بشر ولم يخلق الله البشر في الدنيا على خلقة قابلة للدوام بل جعلهم خلائف في الأرض يخلف بعضهم بعضا فلو أبقاهم لفاتت المصلحة والحكمة في جعلهم خلائف ولضاقت بهم الأرض فالموت كمال لكل مؤمن ولولا الموت لما طاب العيش في الدنيا ولا هناء لأهلها بها فالحكمة في الموت كالحكمة في الحياة، الوجه السابع والعشرون قوله أي حكمة ومصلحة في إخراج آدم من الجنة إلى دار الابتلاء والامتحان فالجواب أن يقال كم لله سبحانه في ذلك من حكمة وكل فيه من نعمة ومصلحة تعجز العقول عن معرفتها على التفصيل ولو استفرغت قواها كلها في معرفة ذلك وإهباط آدم وإخراجه من الجنة كان يعسر كماله ليعود إليها على أحسن أحواله وهو سبحانه إنما خلقه ليستعمره وذريته في الأرض ويجعلهم خلفاء يخلف بعضهم بعضا فخلفهم سبحانه ليأمرهم وينهاهم ويبتليهم وليست الجنة دار ابتلاء وتكليف فأخرج الأبوين إلى الدار التي خلقوا منها وفيها ليتزودوا منها إلى الدار التي خلقوا لها فإذا وفوا تعب دار التكليف ونصبها عرفوا قدر تلك الدار وشرفها وفضلها ولو نشأوا في تلك الدار لما عرفوا قدر نعمته عليهم بها فأسكنهم دار الامتحان وعرضهم فيها لأمره ونهيه لينالوا بالطاعة أفضل ثوابه وكرامته وكان من الممكن أن يحصل لهم النعيم المقيم هناك لكن الحاصل عقيب الابتلاء والامتحان ومعانات الموت وما بعده وأهوال القيامة والعبور على الصراط نوع آخر من النعيم لا يدرك قدره وهو أكمل من نعيم من خلق في الجنة من الولدان والحور العين بما لا يشبه بينهما بوجه من الوجوه ومن الحكم في ذلك أنه سبحانه أراد أن يتخذ من ذرية آدم رسلا وأنبيائه وشهداء يحبهم ويحبونه وينزل عليهم كتبه ويعهد إليهم عهده ويستعبدهم له في السراء والضراء ويؤثرون محابه ومراضيه على شهواتهم وما يحبونه ويهوونه فاقتضت حكمته أن أنزلهم إلى دار ابتلاهم فيها بما ابتلاهم ليكملوا بذلك الابتلاء مراتب عبوديته ويعبدونه بما تكرهه نفوسهم وذلك محض العبودية وإلا فمن يعبد الله إلا بما يحبه ويهواه فهو في الحقيقة إنما يعبد نفسه وهو سبحانه يحب من أوليائه أن يولوا فيه ويعادوا فيه ويبذلوا نفوسهم في مرضاته ومحابه وهذا كله لا يحصل في دار النعيم المطلق ومن الحكمة في إخراجه من الجنة ما تقدم التنبيه عليه من اقتضاء أسماء الله الحسنى لمسمياتها ومتعلقاتها كالغفور الرحيم التواب العفو المنتقم الخافض الرافع المعز المذل المحيي المميت الوارث ولا بد من ظهور أثر هذه الأسماء ووجود ما يتعلق به فاقتضت حكمته أن إنزال الأبوين من الجنة ليظهر مقتضى أسمائه وصفاته فيهما وفي ذريتهما فلو تربت الذرية في الجنة لفاتت أثار هذه الأسماء وتعلقاتها والكمال الإلهي يأبى ذلك فإنه الملك الحق المبين والملك هو الذي يأمر وينهى ويكرم ويهين ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل فأنزل الأبوين والذرية إلى دار تجري عليهم هذه الأحكام وأيضا فإنهم أنزلوا إلى دار يكون إيمانهم تاما فإن الإيمان قول وعمل وجهاد وصبر واحتمال وهذا كله إنما يكون في دار الامتحان لا في جنة النعيم وقد ذكر غير واحد من أهل العلم منهم أبو الوفا بن عقيل وغيره أن أعمال الرسل والأنبياء والمؤمنين في الدنيا أفضل من نعيم الجنة قالوا لأن نعيم الجنة حظهم وتمتعهم فأين يقاس إلى الإيمان وأعماله والصلوات وقراءة القرآن والجهاد في سبيل الله وبذل النفوس في مرضاته وإيثاره على هواها وشهواتها فالأيمان متعلق به سبحانه وهو حقه عليهم ونعيم الجنة متعلق بهم وهو حظهم فهم إنما خلقوا للعبادة والجنة دار نعيم لا دار تكليف وعبادة وأيضا فإنه سبحانه سبق حكمه وحكمته بأن يجعل في الأرض خليفة وأعلم بذلك ملائكته فهو سبحانه قد أراد بكون هذا الخليفة وذريته في الأرض قبل خلقه لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة فلم يكن بد من إخراجه من الجنة إلى دار قد سكناهم فيها قبل أن يخلقه وكان ذلك التقدير بأسباب وحكم فمن أسبابه النهي عن تلك الشجرة وتخليته بينه وبين عدوه حتى وسوس إليه بالأكل وتخليته بينه وبين نفسه حتى وقع في المعصية وكانت تلك الأسباب موصلة إلى غايات محمودة مطلوبة يترتب على خروجه من الجنة ثم يترتب على خروجه أسباب أخر جعلت غايات لحكم أخر ومن تلك الغايات عوده إليها على أكمل الوجوه فذلك التقدير وتلك الأسباب وغاياتها صادرة عن محض الحكمة البالغة التي يحمده عليها أهل السماوات والأرض والدنيا والآخرة فما قدر أحكم الحاكمين ذلك باطلا ولا دبره عبثا ولا أخلاه من حكمته البالغة وحمده التام وأيضا فإنه سبحانه قال للملائكة: {نِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ثم أظهر سبحانه من علمه وحكمته الذي خفي على الملائكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعرفونه بأن جعل من نسله من أوليائه وأحبائه ورسله وأنبيائه من يتقرب إليه بأنواع التقرب ويبذل نفسه في محبته ومرضاته يسبح بحمده أناء الليل وأطراف النهار ويذكره قائما وقاعدا وعلى جنبه ويعبده ويذكره ويشكره في السراء والضراء والعافية والبلاء والشدة والرخاء فلا يثنيه عن ذكره وشكره وعبادته شدة ولا بلاء ولا فقر ولا مرض ويعبده مع معارضة الشهوة وغلبات الهوى وتعاضد الطباع لأحكامها ومعاداة بني جنسه وغيرهم له فلا يصده ذلك عن عبادته وشكره وذكره والتقرب إليه فإن كانت عبادتكم لي بلا معارض ولا ممانع فعبادة هؤلاء لي مع هذه المعارضات والموانع والشواغل وأيضا فإنه سبحانه أراد أن يظهر لهم ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر فذلك الخير وهذا الشر كامن في نفوس لا يعلمونها فلا بد من إخراجه وإبرازه لكي يعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به وأيضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه أطوارا وأصنافا وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وبنيه على كثير ممن خلق تفضيلا جعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم وكانت العبودية أفضل أحوالهم وأعلى درجاتهم أعني العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا ولهذا أرسل الله جبريل إلى سيد هذا النوع الإنساني يخيره بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا نبيا فاختار بتوفيق ربه له أن يكون عبدا رسولا وذكره سبحانه بأتم العبودية في أشرف مقاماته وأفضل أحواله كمقام الدعوة والتحدي والإسراء وإنزال القرآن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ}: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} فأثنى عليه ونوه الله لعبوديته التامة له ولهذا يقول أهل الموقف حين يطلبون الشفاعة اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا يحصل إلا بها كان من أعظم الحكمة أن أخرجوا إلى دار تجري عليهم فيها أحكام العبودية وأسبابها وشروطها وموجباتها فكان إخراجهم من الجنة تنكيلا لهم وإتماما لنعمته عليهم مع ما في ذلك من محبوبات الرب تعالى فإنه يحب إجابة الدعوات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات ومغفرة الزلات وتكفير السيئات ودفع البليات وإعزاز من يستحق العز وإذلال من يستحق الذل ونصر المظلوم وجبر الكسير ورفع بعض خلقة على بعض وجعلهم درجات ليعرف قدر فضله وتخصيصه فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار يحصل فيها محبوباته سبحانه وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها فالوقوف على الشيء لا بدونه وإيجاد لوازم الحكمة من الحكمة كما أن إيجاد لوازم العدل من العدل كما ستقف عليه في فصل إيلام الأطفال إن شاء الله، الوجه الثامن والعشرون أنه سبحانه أبرز خلقه من العدم إلى الوجود ليجري عليه أحكام أسمائه وصفاته فيظهر كماله المقدس وإن كان لم يزل كاملا فمن كماله ظهور آثار كماله في خلقه وأمره وقضائه وقدره ووعده ووعيده ومنعه وإعطائه وإكرامه وإهانته وعدله وفضله وعفوه وإنعامه وسعة حلمه وشدة بطشه وقد اقتضى كماله المقدس سبحانه أنه كل يوم هو في شأن فمن جملة شؤونه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويشفي مريضا ويفك عانيا وينصر مظلوما ويغيث ملهوفا ويحبر كسيرا ويغني فقيرا ويجيب دعوة ويقيل عثرة ويعز ذليلا ويذل متكبرا ويقصم جبارا ويميت ويحيي ويضحك ويبكي ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع ويرسل رسله من الملائكة ومن البشر في تنفيذ أوامره وسوق مقاديره التي قدرها إلى مواقيتها التي وقتها لها وهذا كله لم يكن ليحصل في ذات البقاء وإنما اقتضت حكمته البالغة حصوله في دار الامتحان والابتلاء يوضحه، الوجه التاسع والعشرون أن كمال ملكه التام اقتضى كمال تصرفه فيه بأنواع التصرف ولهذا جعل الله سبحانه الدور ثلاثة دارا أخلصها للنعيم واللذة والبهجة والسرور ودارا أخلصها للألم والنصب وأنواع البلاء والشرور ودارا خلط خيرها بشرها ومزج نعيمها بشقائها ومزج لذتها بألمها يلتقيان ويطالبان وجعل عمارة تينك الدارين من هذه الدار وأجرى أحكامه على خلقه في الدور الثلاثة بمقتضى ربوبيته وإلهيته وعزته وحكمته وعدله ورحمته فلو أسكنهم كلهم دار البقاء من حين أوجدهم لتعطلت أحكام هذه الصفات ولم يترتب عليها آثارها يوضحه، الوجه الثلاثون أن يوم المعاد الأكبر يوم مظهر الأسماء والصفات وأحكامها ولهذا يقول سبحانه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} وقال: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} حتى أن الله سبحانه ليتعرف إلى عباده ذلك اليوم بأسماء وصفات لم يعرفوها في هذه الدار فهو يوم ظهور المملكة العظمى والأسماء الحسنى والصفات العلى فتأمل ما أخبر به والله ورسوله من شأن ذلك اليوم وأحكامه وظهور عزته تعالى وعظمته وعدله وفضله ورحمته وآثار صفاته المقدسة التي لو خلقوا دار البقاء لتعطلت وكماله سبحانه ينفي ذلك وهذا دليل مستقل لمن عرف الله تعالى وأسمائه وصفاته على وقوع المعاد وصدق الرسل فيما أخبروا به عن الله عنه فيطابق دليل العقل ودليل السمع على وقوعه، الوجه الحادي والثلاثون أن الله سبحانه يحب أن يعبد بأنواع التعبدات كلها ولا يليق ذلك إلا بعظمته وجلاله ولا يحسن ولا ينبغي إلا الإله وحده ومن المعلوم أن أنواع التعبد الحاصلة في دار الابتلاء والامتحان لا يكون في دار المجازاة وإن كان في هذه الدار بعض المجازاة وكمالها وتمامها إنما هو في تلك الدار وليست دار عمل وإنما هي دار جزاء وثواب أوجب كماله المقدس أن يجزي فيها الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى فلم يكن بد من دار تقع فيها الإساءة والإحسان ويجري على أهلها أحكام الأسماء والصفات ثم يعقبها دارا يجازي فيها المحسن والمسيء ويجري على أهلها فيها أحكام الأسماء والصفات فتعطيل أسمائه وصفاته ممتنع ومستحيل وهو تعطيل لربوبيته وإلهيته وملكه وعزه وحكمته فمن فتح له باب من الفقه في أحكام الأسماء والصفات وعلم اختصاصها لآثارها ومتعلقاتها واستحالة تعطيلها علم أن الأمر كما أخبرت به الرسل وأنه لا يجوز عليه سبحانه ولا ينبغي له غيره وأنه ينزه عن خلاف ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص وهذا باب عزيز من أبواب الإيمان فيفتحه الله على من يشاء من عباده ويحرمه من يشاء، الوجه الثاني والثلاثون أنه كم لله سبحانه من حكمة وحمد وأمر ونهي وقضاء وقدر في جعل بعض عباده فتنة لبعض كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} فهو سبحانه جعل أوليائه فتنة لأعدائه وأعداءه فتنته لأوليائه والملوك فتنة للرعية والرعية فتنة لهم والرجال فتنة للنساء وهن فتنة لهم والأغنياء فتنة للفقراء والفقراء فتنة لهم وابتلى كل أحد بضد جعله متقابلا فما استقرت أقدام الأبوين على الأرض إلا وضدهما مقابلهما واستمر الأمر في الذرية كذلك إلى أن يطوي الله الدنيا ومن عليها وكم له سبحانه في مثل هذا الابتلاء والامتحان من حكمة بالغة ونعمة سابغة وحكم نافذ وأمر ونهي وتصريف دال على ربوبيته وإلهيته وملكه وحمده وكذلك ابتلاء عباده بالخير والشر في هذه الدار هو من كمال حكمته ومقتضى حمده التام، الوجه الثالث والثلاثون أنه لولا هذا الابتلاء والامتحان لما ظهر فضل الصبر والرضا والتوكل والجهاد والعفة والشجاعة والحلم والعفو والصفح والله سبحانه يحب أن يكرم أوليائه بهذه الكمالات ويحب ظهورها عليهم ليثني بها عليهم هو وملائكته وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة واللذة والسرور وإن كانت مرة المبادئ فلا أحلى من عواقبها ووجود الملزم بدون لازمه ممتنع وقد أجرى الله سبحانه حكمته بأن كمال الغايات تابعة لقوة أسبابها وكمالها ونقصانها لنقصانها فمن كمل أسباب النعيم واللذة كملت له غاياتها ومن حرمها حرمها ومن نقصها نقص له من غاياتها وعلى هذا قام الجزاء بالقسط والثواب والعقاب وكفى بهذا العالم شاهدا لذلك فرب الدنيا والآخرة واحد وحكمته مطردة فيهما وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون يوضحه، الوجه الرابع والثلاثون وهو أن أفضل العطاء وأجله على الإطلاق الإيمان وجزاؤه وهو لا يتحقق إلا بالامتحان والاختبار قال تعالى: {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فذكر سبحانه في هذه السورة أنه لا بد أن يمتحن خلقه ويفتنهم ليتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر ومن يشكره ويعبده ممن يكفره ويعرض عنه ويعبد غيره وذكر أحوال الممتحنين في العاجل والآجل وذكر أئمة الممتحنين في الدنيا وهم الرسل وأتباعهم وعاقبة أمرهم وما صاروا إليه وافتتح بالإنكار على من يحسب أنه يتخلص من الامتحان والفتنة في هذه الدار إذا دعى الإيمان وأن حكمته سبحانه وشأنه في خلقه يأبى ذلك وأخبر عن سر هذه الفتنة والمحنة وهو تبيين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر وهو سبحانه كان يعلم ذلك قبل وقوعه ولكن اقتضى عدله وحمده أنه لا يجزي العباد بمجرد علمه فيهم بل بمعلومه إذا وجد وتحقق والفتنة هي التي أظهرته وأخرجته إلى الوجود فحينئذ حسن وقوع الجزاء عليه ثم أنكر سبحانه على من لم يلتزم الإيمان به ومتابعة رسله خوف الفتنة والمحنة التي يمتحن بها رسله وأتباعهم ظنه وحسبانه أنه بإعراضه عن الإيمان وتصديق رسله يتخلص من الفتنة والمحنة فإن بين يديه من الفتنة والمحنة والعذاب أعظم وأشق مما فر عنه فإن المكلفين بعد إرسال الرسل إليهم بين أمرين إما أن يقول أحدهم آمنت وإما أن لا يقول بل يستمر على السيئات فمن قال آمنا امتحنه الرب تعالى وابتلاه لتتحقق بالإيمان حجة إيمانه وثباته عليه وأنه ليس بإيمان عافية ورخاء فقط بل إيمان ثابت في حالتي النعماء والبلاء ومن لم يؤمن فلا يحسب أنه يعجز ربه تعالى ويفوته بل هو في قبضته وناصيته بيده فله من البلاء أعظم مما ابتلى به من قال آمنت فمن آمن به وبرسله فلا بد أن يبتلي من أعدائه وأعداء رسله بما يؤلمه ويشق عليه ومن لم يؤمن به وبرسله فلا بد أن يعاقبه فيحصل له من الألم والمشقة أضعاف ألم المؤمنين فلا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أشد ثم ينقطع ويعقبه أعظم اللذة والكافر يحصل له اللذة والسرور ابتداء ثم ينقطع ويعقبه أعظم الألم والمشقة وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات فيلتذون بها ابتداء ثم تعقبها الآلام لم بحسب ما نالوه منها والذين يصبرون عنها ينالون بفقدها ابتداء ثم يعقب ذلك الألم من اللذة والسرور بحسب ما صبروا عنه وتركوه منها فالألم واللذة أمر ضروري لكل إنسان لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير والآجل الدائم العظيم بون ولهذا كان خاصة العقل النظر في العواقب والغايات فمن ظن أنه يتخلص من الألم بحيث لا يصيبه البتة فظنه أكذب الحديث فإن الإنسان خلق عرضة للذة والألم والسرور والحزن والفرح والغم وذلك من جهتين من جهة تركبه وطبيعته وهيئته فإنه مركب من أخلاط متفاوتة متضادة يمتنع أو يعز اعتدالها من كل وجه بل لا بد أن يبغي بعضها على بعض فيخرج عن حد الاعتدال فيحصل الألم ومن جهة بني جنسه فإنه مدني بالطبع لا يمكنه أن يعيش وحده بل لا يعيش إلا معهم وله ولهم لذاذات ومطالب متضادة ومتعارضة لا يمكن الجمع بينها بل إذا حصل منها شيء فات منها أشياء فهو يريد منهم أن يوافقوه على مطالبه وإرادته وهم يريدون منه ذلك فإن وافقهم حصل له من الألم والمشقة بحسب ما فاته من إرادته وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وسعوا في تعطيل مراداته كما لم يوافقهم على مراداتهم فيحصل له من الألم والتعذيب بحسب ذلك فهو في ألم ومشقة وعناء وافقهم أو خالفهم ولا سيما إذا كانت موافقتهم على أمور يعلم أنها عقائد باطلة وإرادات فاسدة وأعمال تضره في عواقبها ففي موافقتهم أعظم الألم وفي مخالفتهم حصول الألم فالعقل والدين والمروءة والعلم تأمره باحتمال أخف الألمين تخلصا من أشدهما وبإيثار المنقطع منهما لينجو من الدائم المستمر فمن كان ظهيرا للمجرمين من الظلمة على ظلمهم ومن أهل الأهواء والبدع على أهوائهم وبدعهم ومن أهل الفجور والشهوات على فجورهم وشهواتهم ليتخلص بمظاهرتهم من ألم أذاهم أصابه من ألم الموافقة لهم عاجلا وآجلا أضعاف أضعاف ما فر منه وسنة الله في خلقه أن يعذبهم بإنذار من إيمانهم وظاهرهم وإن صبر على ألم مخالفتهم ومجانبتهم أعقبه ذلك لذة عاجلة وآجلة تزيد على لذة الموافقة بأضعاف مضاعفة وسنة الله في خلقه أن يرفعه عليهم ويذلهم به بحسب صبره وتقواه وتوكله وإخلاصه وإذا كان لا من الألم والعذاب فذلك في الله وفي مرضاته ومتابعة رسله أولى وأنفع منه في الناس ورضائهم وتحصيل مراداتهم ولما كان زمن التألم والعذاب فصبره طويل فأنفاسه ساعات وساعاته أيام وأيامه شهور وأعوام بلا سبحانه الممتحنين فيه بأن ذلك الابتلاء آجلا ثم ينقطع وضرب لأهله أجلا للقائه يسليهم به ويشكر نفوسهم ويهون عليهم أثقاله فقال: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فإذا تصور العبد أجل ذلك البلاء وانقطاعه وأجل لقاء المبتلى سبحانه وإثباته هان عليه ما هو فيه وخف عليه حمله ثم لما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدة للنفس وللشيطان ولبني جنسه وكان العامل إذا علم أن ثمرة علمه وتعبه يعود عليه وحده لا يشكره فيه غيره كأن أتم اجتهادا وأوفر سعيا فقال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وأيضا فلا يتوهم متوهم أن منفعة هذه المجاهدة والصبر والاحتمال يعود على الله سبحانه فإنه غني عن العالمين لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم بل أمرهم بما يعود نفعه ومصلحته عليهم في معاشهم ومعادهم ونهاهم عما يعود مضرته وعتيه عليهم في معاشهم ومعادهم فكانت ثمرة هذا الابتلاء والامتحان مختصة بهم واقتضت حكمته أن نصب ذلك سببا مقضيا إلى يميز الخبيث من الطيب والشقي من الغوي ومن يصلح له ممن لا يصلح قال تعالى: {مَا كَانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فابتلاهم سبحانه بإرسال الرسل إليهم بأوامره ونواهيه واختياره فامتاز برسله طيبهم من خبيثهم وجيدهم من رديئهم فوقع الثواب والعقاب على معلوم أظهره ذلك الابتلاء والامتحان ثم لما كان الممتحن لا بد أن ينحرف عن طريق الصبر والمجاهدة لدواعي طبيعته وهواه وضعفه عن مقاومة ما ابتلي به وعده سبحانه أن يتجاوز له عن ذلك ويكفره عنه لأنه لما أمر به والتزم طاعته اقتضت رحمته أن كفر عنه سيئاته وجازاه بأحسن أعماله ثم ذكر سبحانه ابتلاء العبد بأبويه وما أمر به من طاعتهما وصبره على مجاهدتهما له على أن لا يشرك به فيصبر على هذه المحنة والفتنة ولا يطيعهما بل يصاحبهما على هذه الحال معروفا ويعرض عنهما إلى متابعة سبيل رسله وفي الإعراض عنهما وعن سبيلهما والإقبال على من خالفهما وعلى سبيله من الامتحان والابتلاء ما فيه ثم ذكر سبحانه حال من دخل في الإيمان على ضعف عزم وقلة صبر وعدم ثبات على المحنة والابتلاء وأنه إذا أوذي في الله كما جرت به سنة الله واقتضت حكمته من ابتلاء أوليائه بأعدائه وتسليطهم عليهم بأنواع المكاره والأذى لم يصبر على ذلك وجزع منه وفر منه ومن أسبابه كما يفر من عذاب الله فجعل فتنة الناس له على الإيمان وطاعة رسله كعذاب الله لمن يعذبه على الشرك ومخالفة رسله وهذا يدل على عدم البصيرة وأن الإيمان لم يدخل قلبه ولا ذاق حلاوته حتى سوى بين عذاب الله له على الإيمان بالله ورسوله وبين عذاب الله لمن لم يؤمن به وبرسله وهذا حال من يعبد الله على حرف واحد لم ترسخ قدمه في الإيمان وعبادة الله فهو من المفتونين المعذبين وإن فر من عذاب الناس له على الإيمان ثم ذكر حال هذا عند نصرة المؤمنين وأنهم إذا نصروا لجأ إليهم وقال كنت معكم والله سبحانه يعلم من قلبه خلاف قوله ثم ذكر سبحانه ابتلاء نوح بقومه ألف سنة إلا خمسين عاما وابتلاء قومه بطاعته فكذبوه فابتلاهم بالغرق ثم بعده بالخرق ثم ذكر ابتلاء إبراهيم بقومه وما ردوا عليه وابتلاهم بطاعته ومتابعته ثم ذكر ابتلاء لوط بقومه وابتلاءهم به وما صار إليه أمره وأمرهم ثم ذكر ابتلاء شعيب بقومه وابتلاءهم به وما انتهت إليه حالهم وحاله ثم ذكر ما ابتلى به عادا وثمودا وقارون وفرعون وهامان وجنودهم من الإيمان به وعبادته وحده ثم ما ابتلاهم به من أنواع العقوبات ثم ذكر ابتلاء رسوله محمد بأنواع الكفار من المشركين وأهل الكتاب وأمره أن يجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن ثم أمر عباده المبتلين بأعدائه أن يهاجروا من أرضهم إلى أرضه الواسعة فيعبدونه فيها ثم نبههم بالنقلة الكبرى من دار الدنيا إلى دار الآخرة على نقلتهم الصغرى من أرض إلى أرض وأخبرهم أن مرجعهم إليه فلا قرار لهم في هذه الدار دون لقائه ثم بين لهم حال الصابرين على الابتلاء فيه بأنه يبوؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها فسلاهم عن أرضهم ودارهم التي تركوها لأجله وكانت مباء لهم بأن بوأهم دارا أحسن منها وأجمع لكل خير ولذة ونعيم مع خلود الأبد وأن ذلك بصبرهم على الابتلاء وتوكلهم على ربهم ثم أخبرهم بأنه ضامن لرزقهم في غير أرضهم كما كان يرزقهم في أرضهم فلا يهتموا بحمل الرزق فكم من دابة سافرت من مكان إلى مكان لا تحمل رزقها ثم أخبرهم أن مدة الابتلاء والامتحان في هذه الدار قصيرة جدا بالنسبة إلى دار الحيوان والبقاء ثم ذكر سبحانه عاقبة أهل الابتلاء ممن لم يؤمن به وأن مقامهم في هذه الدار تمتع وسوف يعلمون عند النقلة منها ما فاتهم من النعيم المقيم وما حصلوا عليه من العذاب الأليم وذكر عاقبة أهل الابتلاء ممن آمن به وأطاع رسله وجاهد نفسه وعدوه في دار الابتلاء ما به هاديه وناصره فأخبر سبحانه أن أجل عطاه وأفضله في الدنيا والآخرة هو لأهل الابتلاء الذين صبروا على ابتلائه وتوكلوا عليه وأخبر أن أعظم عذابه وأشقه هو للذين لم يصبروا على ابتلائه وفروا منه وآثروا النعيم العاجل عليه فمضمون هذه السورة هو سر الخلق والأمر فإنها سورة الابتلاء والامتحان وبيان حال أهل البلوى في الدنيا والآخرة ومن تأمل فاتحتها ووسطها وخاتمها وجد في ضمنها أن أول الأمر ابتلاء وامتحان ووسطه صبر وتوكل وآخره هداية ونصر والله المستعان يوضحه، الوجه الخامس والثلاثون وهو أنه سبحانه أخبر أنه خلق السماوات والأرض العالم العلوي والسفلي ليبلونا أينا أحسن عملا وأخبر أنه زين الأرض بما عليها من حيوان ونبات ومعادن وغيرها لهذا الابتلاء وأنه خلق الموت والحياة لهذا الابتلاء فكان هذا الابتلاء غاية الخلق والأمر فلم يكن من بد من دار يقع فيها هذا الابتلاء وهي دار التكليف ولما سبق في حكمته أن الجنة دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان جعل قبلها دار الابتلاء جسرا يعبر عليه إليها ومزرعة يبذر فيها وميناء يزود منها وهذا هو الحق الذي خلق الخلق به ولأجله وهو أن يعبد وحده بما أمر به على ألسنة رسله فأمر ونهى على السنة ووعدنا بالثواب والعقاب ولم يخلق خلقه سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يتركهم هملا لا يثيبهم ولا يعاقبهم بل خلقوا للأمر والنهي والثواب والعقاب ولا يليق بحكمته وحمده غير ذلك.

فصل: وقد عرف من هذا الجواب عن قولهم أي حكمة في خلق النفس مريدة للخير والشر وهلا خلقت مريدة للخير وحده وكيف اقتضت الحكمة تمكينها من الشر مع القدرة على منعها منه وأي حكمة في إعطائها قوة وأسبابا يعلم المعطي أنها لا يفعل بها إلا الشر وحده وأي حكمة في إقرار هذه النفوس على غيها وظلمها وعدوانها ومعلوم أن يفعل لحكمة لا يفعل ذلك وأن من يفعل لحكمة إذا رأى عبيده يقتل بعضهم بعضا ويفسد بعضهم بعضا ويظلم بعضهم بعضا وهو قادر على منعهم فلا بدعة حكمته وهما لهم بحيث يتركهم كذلك فإما أن يكون عالما يما يأتون أو لا يكون قادرا على منعهم أو لا يكون ممن يفعل لغرض وحكمة والأولان مستحيلان في حق الرب تعالى فتعين الثالث ومبنى هذه الشبهة على أصل فاسد وهو قياس الرب على خلقه وتشبيههم في أفعاله بحيث يحسن منه ما يحصن منهم ويقبح منه ما يقبح منهم ولهذا كانت القدرية مشبهة الأفعال ومتأخروهم جمعوا بين هذا التشبيه وبين تعطيل الصفات فصاروا معطلين للصفات مشبهين في الأفعال وهذا الأصل الفاسد مما رده عليهم سائر العقلاء وقالوا قياس أفعال الرب على أفعال العباد من أفسد القياس وكذلك قياس حكمته على حكمتهم وصفاته على صفاتهم ومن المعلوم أن الرب تعالى علم أن عباده يقع منهم الكفر والظلم والفسوق وكان قادرا على أن لا يوجدهم وأن يوجدهم كلهم أمة واحدة على ما يحب ويرضى وأن يحول بينهم وبين بغي بعضهم ولكن حكمته البالغة أبت ذلك واقتضت إيجادهم على الوجه الذي هم عليه وهو سبحانه خلق النفوس أصنافا فصنف مريدا للخير وحده وهي نفوس الملائكة وصنف مريدا للشر وحده وهي نفوس الشياطين وصنف فيه إرادة النوعين وهي النفوس البشرية فالأولى الخير لهم طباع وهي محمودة عليه والشر للنفوس الثانية طباع وهي مذمومة عليه والصنف الثالث بحسب الغالب عليه من الوصفين فمن غلب عليه وصف الخير التحق بالصنف الأول ومن غلب عليه وصف الشر التحق بالصنف الثالث فإذا اقتضت الحكمة وجود هذا الصنف الثالث فإن يقتضي وجود الثاني أولى وأحرى والرب تعالى اقتضت قدرته وعزته وحكمته إيجاد المتقابلات في الذوات والصفات والأفعال كما تقدم وقد نوع خلقه تنويعا دالا على كمال قدرته وربوبيته فمن أعظم الجهل والضلال أن يقول القائل هلا كان خلقه كلهم نوعا واحدا فيكون العالم علوا كله أو نورا كله أو الحيوان ملكا كله وقد يقع في الأوهام الفاسدة أن هذا كان أولى وأكمل ويعرض الوهم الفاسد ما ليس ممكنا كمالا، الوجه السادس والثلاثون قوله وأي حكمة في إيلام الحيوانات غير المكلفة فهذه مسألة تكلم الناس فيها قديما وحديثا وتباينت طرقهم في الجواب عنها فالجاحدون للفاعل المختار الذي يفعل بمشيئته وقدرته يحيلون ذلك على الطبيعة المجردة وأن ذلك من لوازمها ومقتضياتها ليس بفعل فاعل ولا قدرة قادر ولا إرادة مريد ومنكرو الحكمة والتعليل يردون ذلك إلى محض المشيئة وصرف الإرادة تخصص مثلا على مثل بلا موجب ولا غاية ولا حكمة مطلوبة ولا سبب أصلا وظنوا أنهم بذلك يتخلصون من السؤال ويسدون على نفوسهم باب المطالبة وإنما سدوا على نفوسهم باب معرفة الرب وكماله وكمال أسمائه وأوصافه وأفعاله فعطلوا حكمته وحقيقة ألهيته وحمده وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار وأما من أثبت حكمة وتعليلا لا يعودا إلى الخالق بل إلى المخلوق سلكوا طريقة التعويض على تلك الآلام في حق من يبعث للثواب والعقاب وقالوا قد يكون في ذلك إثابة لإثابتهم بصبرهم وتألمهم وإثابة لهم وتعويضا في القيامة بما نالهم من تلك الآلام فلما أورد عليهم إيلام الحيوانات التي لا تثاب ولا تعاقب وأما المثبتون لحقائق أسماء الرب وصفاته وحكمته التي هي وصفه ولأجلها تسمى بالحكيم وعنها صدر خلقه وأمره فهم أعلم الفرق بهذا الشأن ومسلكهم فيه أصح المسالك وأسلم من التناقض والاضطراب فإنهم جمعوا بين إثبات القدرة والمشيئة العامة والحكمة الشاملة التي هي غاية الفعل وربطوا ذلك بالأسماء والصفات فتصادق عندهم السمع والعقل والشرع والفطرة وعلموا أن ذلك مقتضى الحكمة البالغة وأنه من لوازمها وأن لازم الحق حق ولازم العدل عدل ولوازم الحكمة من الحكمة فاعلم أن هاهنا أمرين نفسا متحركة بالإرادة والاختيار وطبيعة متحركة بغير الاختيار والإرادة وأن الشر منشأه من هذين المتحركين وعن هاتين الحركتين وخلقت هذه النفس وهذه الطبيعة على هذا الوجه فهذه تتحرك لكمالها وهذه تتحرك لكمالها وينشأ عن الحركتين خير وشر كما ينشأ عن حركة الأفلاك والشمس والقمر وحركة الرياح والماء والنار خير وشر فالخيرات الناشئة عن هذه الحركات مقصودة بالقصد الأول إما لذاتها وإما لكونها وسيلة إلى خيرات أتم منها والشرور الناشئة عنها غير مقصودة بالذات وإن قصدت قصد الوسائل واللوازم التي لا بد مها فما جبلت عليه النفس من الحركة هو من لوازم ذاتها فلا تكون النفس البشرية نفسا إلا بهذا اللازم فإذا قيل لم خلقت متحركة على الدوام فهو بمنزلة أن يقال لم كانت النفس نفسا ولم كانت النار نارا والريح ريحا فلو لم يخلق هذا ما كانت نفسا ولو لم تخلق الطبيعة هكذا ما كانت طبيعة ولو لم يخلق الإنسان على هذه الصفة والخلقة ما كان إنسانا فإن قيل فلم خلقت النفس على هذه الصفة قيل من كمال الوجود خلقها على هذه الصفة كما تقدم وكذلك كمال فاطرها ومبدعها اقتضى خلقها على هذه الصفة لما في ذلك من الحكم التي لا يحصيها إلا مبدعها سبحانه وإن كان في إيجاد هذه النفس شرا فهو شر جزئي بالنسبة إلى الخير الكلي الذي هو سبب إيجادها فوجودها خير من أن لا توجد فلو لم يخلق مثل هذه النفس لكان في الوجود نقص وفوات حكم ومصالح عظيمة موقوفة على خلق مثل هذه النفس ولهذا لما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} أجابهم سبحانه بأن في خلقه من الحكم والمصالح ما لا تعلمه الملائكة والخالق سبحانه يعلمه وإذا كانت الملائكة لا تعلم ما في خلق هذا الإنسان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء من الحكم والمصالح فغيرهم أولى أن لا يحيط به علما فخلق هذا الإنسان من تمام الحكمة والرحمة والمصلحة وإن كان وجوده مستلزما لشر فهو شر مغمور بما في إيجاده من الخير كإنزال المطر والثلج وهبوب الرياح وطلوع الشمس وخلق الحيوان والنبات والجبال والبحار وهذا كما أنه في خلقه فهو في شرعه ودينه وأمره فإن ما أمر به من الأعمال الصالحة خيره ومصلحته راجح وإن كان فيه شر فهو مغمور جدا بالنسبة إلى خيره وما نهى عنه من الأعمال والأقوال القبيحة فشره ومفسدته راجح والخير الذي فيه مغمور جدا بالنسبة إلى شره فسنته سبحانه في خلقه وأمره فعل الخير الخالص والراجح والأمر بالخير الخالص والراجح فإذا تناقضت أسباب الخير والشر والجمع بين النقيضين محال قدم أسباب الخير الراجحة على المرجوحة ولم يكن تفويت المرجوحة شرا ودفع أسباب الشر الراجحة بالأسباب المرجوحة ولم يكن حصول المرجوحة شرا بالنسبة إلى ما اندفع بها من الشر الراجح وكذلك سنته في شرعه وأمره فهو يقدم الخير الراجح وإن كان في ضمنه شر مرجوح ويعطل الشر الراجح وإن فات بتعطيله خير مرجوح هذه سنته فيما يحدثه ويبدعه في سماواته وأرضه وما يأمر به وينهى عنه وكذلك سنته في الآخرة وهو سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه وقد أتقن كل ما صنع وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة ويتفاوتون في العلم بتفاصيله وإذا عرف ذلك فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة وإما عدل وحكمة وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها وإما لدفع ألم هو أصعب منها وإما لتولدها عن لذات ونعم يولدها عنها أمر لازم لتلك اللذات وإما أن يكون من لوازم العدل أو لوازم الفضل والإحسان فيكون من لوازم الخير التي إن عطلت ملزوماتها فات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام والشرع والقدر أعدلا شاهد بذلك فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما سماه الله بقوله: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لأنواع من الآلام لصنوف من الحيوانات وأعظم لذات الدنيا لذة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها ومتولدة منها بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق كالعلم والشجاعة والزهد والعفة والحلم والمروءة والصبر والإحسان كما قال:

لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال

وإذا كانت الآلام أسبابا للذات أعظم منها وأدوم منها كان العقل يقضي باحتمالها وكثيرا ما تكون الآلام أسبابا لصحة لولا تلك الآلام لفاتت وهذا شأن أكبر أمراض الأبدان فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان مالا يعلمه إلا الله وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفجة وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمر لا يحس به إلا من فيه حياة فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها وقد أحصيت فوائد الأمراض فزادت على مائة فائدة وقد حجب الله سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره وجعلها جسرا موصلا إليها كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات وجعلها جسرا موصلا إليها ولهذا قالت العقلاء قاطبة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن الراحة لا تنال بالراحة وأن من آثر اللذات فاتته اللذات فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم إذ هي أسباب النعم وما تنال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمور جدا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها كما ينالها من حر الصيف وبرد الشتاء وحبس المطر والثلج وألم الحمل والولادة والسعي في طلب أقواتها وغير ذلك ولكن لذاتها أضعاف أضعاف آلامها وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام فسنة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزته ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك وقيل لكل منهم أرجع بصر العقل فهل ترى من خلل: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها والأشياء من خلافها فأخرج الحي من الميت والميت من الحي والرطب من اليابس واليابس من الرطب فكذلك أنشأ اللذات من الآلام والآلام من اللذات فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها وبعد فاللذة والسرور والخير والنعم والعافية والمصلحة والرحمة في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء وأكثر من أضدادها بأضعاف مضاعفة فأين آلام الحيوان من لذته وأين سقمه من صحته وأين جوعه وعطشه من شبعه وريه وتعبه من راحته قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ولن يغلب عسر يسرين وهذا لأن الرحمة غلبت الغضب والعفو سبق العقوبة والنعمة تقدمت المحنة والخير في الصفات والأفعال والشر في المفعولات لا في الأفعال فأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها خيرات فإن ألم الحيوان لم يعدم بألمه عافية من ألم هو أشد من ذلك الألم أو تهيئة لقوة وصحة وكمال أو عوضا لا نسبة لذلك الألم إليه بوجه ما فآلام الدنيا جميعها نسبتها إلى لذات الآخرة وخيراتها أقل من نسبة ذرة إلى جبال الدنيا بكثير وكذلك لذات الدنيا جميعها بالنسبة إلى آلام الآخرة والله سبحانه لم يخلق الآلام واللذات سدى ولم يقدرهما عبثا ومن كمال قدرته وحكمته أن جعل كل واحد منهما يثمر الأخرى هذا ولوازم الخلقة يستحيل ارتفاعها كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق فلا يكون المخلوق إلا فقيرا محتاجا ناقص العلم والقدرة فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يتألم في عالم الكون والفساد لم يكن حيوانا ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة والله لم يجعلها كذلك وإنما جعلها دارا ممتزجا ألمها بلذتها وسرورها بأحزانها وغمومها وصحتها بسقمها حكمة منه بالغة.

فصل: ولما كانت الآلام أدوية للأرواح والأبدان كانت كمالا للحيوان خصوصا لنوع الإنسان فإن فاطره وبارئه إنما أمرضه ليشفيه وإنما ابتلاه ليعافيه وإنما أماته ليحييه فهو سبحانه يسوق الحيوان والإنسان في مراتب كماله طورا بعد طور إلى آخر كماله بأسباب لا بد منها وكماله موقوف على تلك الأسباب ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع كوجود المخلوق بدون الحاجة والفقر والنقص ولوازم ذلك ولوازم تلك اللوازم ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله وحكمته وعلمه وكماله فيفرض أمورا ممتنعة ويقدرها تقديرا ذهنيا ويحسب أنها أكمل من الممكن الواقع ومع هذا فربها يرحمها لجهلها وعجزها ونقصها فإن اعترفت بذلك واعترفت له بكماله وحمده وقامت بمقتضى هذين الاعترافين كان نصيبها من الرحمة أوفر والله سبحانه افتتح الخلق بالحمد وختم أمر هذا العالم بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأنزل كتابه بالحمد وشرع دينه بالحمد وأوجب ثوابه وعقابه بالحمد فحمده من لوازم ذاته إذ يستحيل أن يكون إلا محمودا فالحمد سبب الخلق وغايته الحمد أوجبه وللحمد وجد فحمده واسع لما وسعه علمه ورحمته وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما فلم يوجد شيئا ولم يقدره ولم يشرعه إلا بحمده ولحمده وكل ما خلقه وشرعه فهو متضمن للغايات الحميدة ولا بد من لوازمها ولوازم لوازمها ولهذا ملأ حمده سماواته وأرضه وما بينهما وما شاء من شيء بعد مما خلقه ويخلقه بعد هذا الخلق فحمده ملأ ذلك كله وحمده تعالى أنواع حمد على ربوبيته وحمد على تفرده بها وحمد على ألوهيته وتفرده وحمد على نعمته وحمد على منته وحمد على حكمته وحمد على عدله في خلقه وحمد على غناه عن إيجاد الولد والشريك والولي من الذل وحمده على كماله الذي لا يليق بغيره فهو محمود على كل حال وفي كل آن ونفس وعلى كل ما فعل وكل ما شرع وعلى كل ما هو متصف به وعلى كل ما هو منزه عنه وعلى كل ما في الوجود من خير وشر ولذة وألم وعافية وبلاء فكما أن الملك كله له والقدرة كلها له والعزة كلها له والعلم كله له والجمال كله له والحمد كله له كما في الدعاء المأثور "اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله واليك يرجع الأمر كله وأنت أهل لأن تحمد" وما عمرت الدنيا إلا بحمده ولا الجنة إلا بحمده ولا النار إلا بحمده حتى أن أهلها ليحمدونه كما قال الحسن: "لقد دخل أهل النار النار وإن قلوبهم لتحمده ما وجدوا عليه من حجة ولا سبيل".

فصل: فإن قيل فأي لذة وأي خير ينشأ من العذاب الشديد الدائم الذي لا ينقطع ولا يفتر عن أهله بل أهله فيه أبد الآباد كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم طرفة عين قيل لعمر الله هذا سؤال يقلقل الجبال فضلا عن قلوب الرجال وعن هذا السؤال أنكر من أنكر حكمة العزيز الحكيم ورد الأمر إلى مشيئة محضة لا سبب لها ولا غاية وجوز على الله أن يعذب أهل طاعته وأولياءه وينزلهم إلى أسفل الجحيم وينعم أعداءه المشركين به ويرفعهم إلى أعلى جنات النعيم أبد الآباد وأن يدخل النار من شاء بغير سبب ولا عمل أصلا وأن يفاوت بين أهلها مع مساويهم في الأعمال ويسوي بينهم في العذاب مع تفاوتهم في الأعمال وأن يعذب الرجل بذنب غيره وأن يبطل حسناته كلها فلا يثيبه بها أو يثيب بها غيره وكل ذلك جائز عليه لا يعلم أنه لا يفعله إلا بخبر صادق إذ نسبه ذلك وضده إليه على حد سواء وقالوا ولا مخلص عن هذا السؤال إلا بهذا الأصل وربما تمسكوا بظاهر من القول لم يضعوه على مواضعه ولم يجمعوا بينه وبين أدلة العدل والحكمة وتعليق الأمور بأسبابها وترتيبها عليها وآثار الموازنة والمقابلة وأخطأوا في فهم القرآن كما أخطأوا في وصف الرب بما لا يليق به وفي التجويز عليه ما لا يجوز عليه وقابلهم مثبتو الأسباب والحكم من القدرية وزعموا أنهم يتخلصون من قبيح القول بما أثبتوه من الحكمة والتعليل ولكن وقعوا في نظيره أو ما هو شر منه حيث أوجبوا على الله سبحانه تخليد من أفنى عمره في طاعته ثم ارتكب كبيرة واحدة ومات مصرا عليها في النار مع أعدائه الكفار أبد الآباد ولم يرقبوا له طاعة ولم يرعوا له إسلاما وهم في هذا المذهب شر قولا من إخوانهم الجبرية فإن أولئك لم يوجبوا على الله ذلك الحكم وإنما جوزوه عليه وجوزوا أن لا يفعله وهؤلاء أوجبوا عليه تخليد أهل الكبائر مع الكفار ولم يجوزوا عليه إخراجهم منها وأصابهم في غلطهم على القرآن والسنة وما يجوز على الرب وما لا يجوز عليه ما أصاب إخوانهم من الجبرية ولما ظن غيرهم من أهل النظر والبحث أن هذا هو الفساد الذي أخبرت به الرسل وعلموا أن هذا مناف للحكمة والرحمة والعدل والمصلحة قالوا أن ذلك تخويف وتخييل لا حقيقة له يزع النفوس السبعية والبهيمية عن عدوانها وشهواتها فتقوم بذلك مصلحة الوجود وكان من أكبر أسباب إلحاد هؤلاء وكفرهم بالله واليوم الآخر نسبة أولئك مذاهبهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة إلى الرسل وإخبارهم أنهم دعوا إلى الإيمان بها كما أصابهم تعميم في باب مسألة حدوث العالم حيث أخبروهم أن الرسل أخبرت عن الله أنه لم يزل معطلا عن الفعل والفعل غير ممكن منه ثم انقلب من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي عند ابتدائه بلا تجدد سبب ولا أمر قام بالفاعل وقالوا من لم يعتقد هذا فليس بمؤمن ولا مصدق للرسل فهذا في المبدأ وذاك في المعاد ثم جاءت طائفة أخرى فطووا بساط الخلق والأمر جملة وقالوا كل هذا محال وتلبيس وما ثم وجودان بل الوجود كله واحد ليس هناك خالق ومخلوق ورب ومربوب وطاعة ومعصية وما الأمر إلا نسق واحد والتفريق من أحكام الوهم والخيال فالسماوات والأرض والدنيا والآخرة والأزل والأبد والحسن والقبيح كله شيء واحد وهو من عين واحدة ثم استدركوا فقالوا لا بل هو العين ونشأ الناس إلا من شاء الله بين هؤلاء الطوائف الأربع لا يعرفون سوى أقوالهم ومذاهبهم فعظمت البلية واشتدت المصيبة وصار أذكياء الناس زنادقة العالم وأدناهم إلى الخلاص أهل البلادة والبله والعقل والسمع عن هذه الفرق بمعزل ومنازلهم منهما أبعد منزل فنقول وبالله التوفيق والله المستعان وعليه التكلان، دل القرآن والسنة والفطرة وأدلة العقول أنه سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق ولم يخلق شيئا عبثا ولا سدى ولا باطلا وإنما أوجد العالم العلوي والسفلي ومن فيهما بالحق الذي هو وصفه واسمه وقوله وفعله وهو سبحانه الحق المبين فلا يصدر عنه إلا حق لا يقول إلا حقا ولا يفعل إلا حقا ولا يأمر إلا بالحق ولا يجازي إلا بحق فالباطل لا يضاف إليه بل الباطل ما لم يضف إليه كالحكم الباطل والدين الباطل الذي لم يأذن فيه ولم يشرعه على ألسنة رسله والمعبود الباطل الذي لا يستحق العبادة وليس أهلا لها فعبادته باطلة ودعوته باطلة والقول الباطل هو الكذب والزور والمحال من القول الذي لا يتعلق بحق موجود بل متعلقه باطل لا حقيقة له وهو سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته ومعرفته وأصل عبادته محبته على آلائه ونعمه وعلى كماله وجلاله وذلك أمر فطري ابتدأ الله عليه خلقه وهي فطرته التي فطر الناس عليها كما فطرهم على الإقرار به كما قالت الرسل لأممهم: {أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالخلق مفطورون على معرفته وتوحيده فلو خلوا وهذه الفطرة لنشأوا على معرفته وعبادته وحده وهذه الفطرة أمر خلقي خلقوا عليه ولا تبديل لخلقه فمضى الناس على هذه الفطرة قرونا عديدة ثم عرض لها موجب فسادها وخروجها عن الصحة والاستقامة بمنزلة ما يعرض للبدن الصحيح والطبيعة الصحيحة مما يوجب خروجهما عن الصحة إلى الانحراف فأرسل رسله ترد الناس إلى فطرتهم الأولى التي فطروا عليها فانقسم الناس معهم ثلاثة أقسام، منهم من استجاب لهم كل الاستجابة وانقاد إليهم كل الانقياد فرجعت فطرته إلى ما كانت عليه مع ما حصل لها من الكمال والتمام في قوتي العلم النافع والعمل الصالح فازدادت فطرتهم كمالا إلى كمالها فهؤلاء لا يحتاجون في المعاد إلى تهذيب وتأديب ونار تذيب فضلاتهم الخبيثة وتطهرهم من الأردن والأوساخ فإن انقيادهم للرسل أزال عنهم ذلك كله، وقسم استجابوا لهم من وجه دون وجه فبقيت عليهم بقية من الأدران والأوساخ التي تنافي الحق الذي خلقوا له فهيأ لهم العليم الحكيم من الأدوية الابتلاء والامتحان بحسب تلك الأدواء التي قامت بهم فإن وفت بالخلاص منها في هذه الدار وإلا ففي البرزخ فإن وفي بالخلاص وإلا ففي موقف القيامة وأهوالها ما يخلصهم من تلك البقية فإن وفي بها وإلا فلا بد من المداواة بالدواء الأعظم وآخر الطب الكي فيدخلون كير التمحيص والتخليص حتى إذا هذبوا ولم يبق للدواء فائدة أخرجوا من مارستان المرضى إلى دار أهل العافية كما دل على ذلك السنة المتواترة عن النبي وصرح به في قوله: "حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة" وكذلك قوله تعالى: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فلم يأذن لهم في دخولها إلا بعد طيبهم فإنها دار الطيبين فليس فيها شيء من الخبث أصلا ولهذا يلبث هؤلاء في النار على قدر حاجتهم إلى التطهر وزوال الخبث، القسم الثالث قوم لم يستجيبوا للرسل ولا انقادوا لهم بل استمروا على الخروج عن الفطرة ولم يرجعوا إليها واستحكم فسادها فيهم أتم استحكام لا يرجى لهم صلاح فهؤلاء لا يفي مجيء الدنيا ومصائب الموت وما بعده وأهوال القيامة بزوال أوساخهم وأدرانهم ولا يليق بحكمة العليم الحكيم أن يجاور بهم الطيبين في دارهم ولم يخلقوا للفناء فهؤلاء أهل دار الابتلاء والامتحان باقون فيها ببقاء ما معهم من درن الكفر والشرك والنار إنما أوقدت عليهم بأعمالهم الخبيثة فعذابهم بنفس أعمالهم السيئة لهم منها صور من العذاب يناسبها ويشاكلها فالعذاب باق عليهم ما بقيت حقائق تلك الأعمال وما تولد منها فما دامت موجبات العذاب باقية فالعذاب باق، يبقى أن يقال فهل ذهب أثر الفطرة الأولى بالكلية بحيث صارت كأن لم تكن وبطلت بالكلية وانتقل الأمر إلى العارض المفسد لها وعلى هذا فلا سبيل إلى خلاصهم من العذاب إذ هو أثر ذلك الفساد الذي أزال الفطرة أو يقال الفطرة لم تذهب بالكلية وإنما استحكم مرضها وفسادها وأصلها باق كما يستحكم مرض البدن وفساده والحياة قائمة به لكنها حياة لا تنفع فإذا قدر دواء كريه صعب التناول لا سبيل إلى الصحة إلا بتكرير تناوله مرارا كثيرة العدد جدا يزيل ذلك المرض العارض فيظهر أثر الفطرة الأولى فلا يحتاج بعده إلى الدواء هذا سر المسألة ومن يذهب إلى هذا التقدير الثاني فإنه يقول العقل لا يدل على امتناع ذلك إذ ليس فيه ما يحيله ونقول بل قد دل العقل والنقل والفطرة على أن الرب تعالى حكيم رحيم والحكمة والرحمة تأبى بقاء هذه النفوس في العذاب سرمدا أبد الآباد بحيث يدوم عذابها بدوام الله فهذا ليس من الحكمة والرحمة قالوا وقد دلت الدلائل الكثيرة من النصوص والاعتبار على أن ما شرعه الله في هذه الدار وقدره من العذاب والعقوبات فإنما هو لتهذيب النفوس وتصفيتها من الشر الذي فيها ولحصول مصلحة الزجر والاتعاظ وفطما للنفوس عن المعاودة وغير ذلك من الحكم التي إذا حصلت خلا التعذيب عن الحكمة والمصلحة فيبطل فإنه تعذيب عليم حكيم رحيم لا يعذب سدى ولا لنفع يعود إليه بالتعذيب بل كلا الأمرين محال وإذا لا يقع التعذيب إلا لمصلحة المعذب أو مصلحة غيره ومعلوم أنه لا مصلحة له ولا لغيره في بقائه في العذاب سرمدا أبد الآباد قالوا فمما دل عليه القرآن والسنة أن جنس الآلام لمصلحة بني آدم قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وقوله: {وَلِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} فأخبر أن ألم القتل والجراح في سبيله تمحيص أي تطهير وتصفية للمؤمنين وبشر الصابرين على ألم الجوع والخوف والفقر وفقد الأحباب وغيرهم بصلاته عليهم ورحمته وهدايته وقال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر الصديق: "يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وإننا لم نعمل سوأ فقال: يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن أليس يصبك الأذى قال: بلى قال: فذلك مما تجزون به" وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وفي هذا تبشير وتحذير إذ أعلمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا وهو أرحم أن يثني العقوبة على عبده بذنب قد عاقبه به في الدنيا كما قال : "من بلي بشيء من هذه القاذورات فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ومن عوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده" وفي الحديث: "الحدود كفارات لأهلها" وفي الصحيحين من حديث عبادة: "ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له" وفي الصحيح عنه : "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" وقال: "لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة" وفي حديث آخر: "إن المؤمن إذا مرض خرج مثل البردة في صفائها ولونها" وفي الحديث الآخر: "إن الحمى تنفي الذنوب كما ينفي الكير الخبيث الحديد" وفي حديث آخر: "لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم" ومن أسماء الحمى مكفرة الذنوب وفي الحديث الصحيح: "يقول الله عز وجل يوم القيامة عبدي مرضت فلم تعدني قال كيف أعودك وأنت رب العالمين قال مرض عبدي فلان فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده" وهذا أبلغ من قوله في الإطعام والإسقاء لوجدت ذلك عندي فهو سبحانه عند المبتلى بالمرض رحمة منه له وخيرا وقربا منه لكسر قلبه بالمرض فإنه عند المنكسرة قلوبهم وهذا أكبر من أن يذكر ورب الدنيا والآخرة واحد وحكمته ورحمته موجودة في الدنيا والآخرة بل ظهور رحمته في الآخرة أعظم فعذاب المؤمنين بالنار في الآخرة هو من هذا الباب كعذابهم في الدنيا بالمصائب والحدود وكذلك حبسهم بين الجنة والنار حتى يهذبوا وينقوا وقد علم بالنصوص الصحيحة الصريحة أن عذابهم في النار متفاوت قدرا ووقتا بحسب ذنوبهم وأنهم لا يخرجون منها جملة واحدة بل شيئا بعد شيء حتى يبقى رجل هو آخرهم خروجا وكذلك عذاب الكفار فيها متفاوت تفاوتا عظيما فالمنافقون في دركها الأسفل وأبو طالب أخف أهلها عذابا في ضحضاح من بئر يغلي منه دماغه وآل فرعون في أشد العذاب قالوا فإذا كان العذاب في الدار التي فيها رحمة واحدة من مائة رحمة هو رحمة بأهله ومصلحة لهم ولطف بهم فكيف في الدار التي يظهر فيها مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض وقد قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فأخبر أنه يعذبهم رحمة بهم ليردهم العذاب إليه كما يعذب الأب الشفيق ولده إذا فر منه إلى عدوه ليرجع إلى بره وكرامته وقال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً} وأنت تجد تحت هذه الكلمات أن تعذيبه لكم لا يزيد في ملكه ولا ينتفع به ولا هو سدى خال من حكمة ومصلحة وأنكم إذا بدلتم الشكر والإيمان بالكفر كان عذابكم منكم وكان كفركم هو الذي عذبتم به وإلا فأي شيء يلحقه من عذابكم وأي نفع يصل إليه منه

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض | الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم | الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي لآدم | الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه | الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر | الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي | الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب | الباب الثامن: في قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر | الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى | الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة | الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة | الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال | الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما | الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب | الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال | الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا | الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال | الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني | الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني | الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي | الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها | الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها | الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره | الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا | الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله : "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء | الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من قواعد الدين | الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه | الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال | الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه