درء تعارض العقل والنقل/5

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وقد وافق هؤلاء على إمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل طوائف كثيرة ممن يقول بحدوث الأفلاك من المعتزلة والأشعرية والفلاسفة وأهل الحديث وغيرهم فإن هؤلاء جوزوا حوادث لا أول لها مع قولهم بأن الله أحدث السماوات والأرض بعد أن لم يكونا وألزموهم بالأبد ونشأ عن هذا البحث كلامهم في الحوادث المستقبلة فطرد إماما هذا الطريق الجهم بن صفوان إمام الجهمية الجبرية وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة القدرية فنفيا ثبوت ما لا يتناهى في المستقبل فقال الجهم بفناء الجنة والنار وأبو الهذيل اقتصر على القول بفناء حركات أهل الجنة والنار

وعن ذلك قال أبو المعالي بمسألة الاسترسال: وهو أن علم الرب تعالى يتناول الأجسام بأعيانها ويتناول أنواع الأعراض بأعيانها وأما آحاد الأعراض فيسترسل العلم عليها لامتناع ما لا يتناهى علما وعينا

وأنكر الناس ذلك عليه وقالوا فيه أقوالا غليظة حتى يقال: إن أبا القاسم القشيري هجره لأجل ذلك

وصار طوائف المسلمين في جواز حوادث لا تتناهى على ثلاثة أقوال :

قيل: لا يجوز في الماضي ولا في المستقبل

وقيل: يجوز فيهما

وقيل: يجوز في المستقبل دون الماضي

ثم إن المعتزلة والجهمية نفت أن يقوم بالله تعالى صفات وأفعال بناء على هذه الحجة

قولوا: لأن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم وبذلك استدلوا على حدوث الجسم

فجاء ابن كلاب ومن اتبعه فوافقوهم على إنتفاء قيام الأفعال به وخالفوهم في قيام الصفات فأثبتوا قيام الصفات به وقالوا: لا نسميها أعراضا لأنها باقية والأعراض لا تبقى

وأما ابن كرام وأتباعه: فلم يمتنعوا من تسمية صفات الله أعراضا كما لم يمتنعوا من تسميته جسما

وعن هذا الحجة ونحوها نشأ القول بأن القرآن مخلوق وأن الله تعالى لا يرى في الآخرة وأنه ليس فوق العرش ونحو ذلك من مقالات الجهمية النفاة لأن القرآن كلام وهو صفة من الصفات والصفات عندهم لا تقوم به وأيضا فالكلام يستلزم فعل المتكلم وعندهم لا يجوز قيام فعل به ولأن الرؤية تقتضي مقابلة ومعاينة والعلو يقتضي مباينة ومسامته وذلك من صفات الأجسام

وبالجملة فقد صاروا ينفون ما ينفونه من صفات الله تعالى لأن إثبات ذلك يقتضي أن يكون الموصوف جسما وذلك ممتنع لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث الأجسام فلو كان جسما لبطل دليل إثبات الصانع

ومن هنا قال هؤلاء: إن القول بما دل عليه السمع من إثبات الصفات والأفعال يقدح في أصل الدليل الذي به علمنا صدق الرسول

وقالوا إنه لا يمكن تصديق الرسول لو قدر أنه يخبر بذلك لأن صدقه لا يعلم بعد أن يثبت العلم بالصانع ولا طريق إلى إثبات العلم بالصانع إلا القول بحودث الأجسام

قالوا: وإثبات الصفات له يقتضي أنه جسم قديم فلا يكون كل جسم حادثا فيبطل دليل إثبات العلم به

وقالت المعتزلة ك أبي الحسين وغيره: إن صدق الرسول معلوم بالمعجزة والمعجزة معلومة بكون الله تعالى لا يظهرها على يد كاذب وذلك معلوم بكون إظهارها على يد الكذاب قبيحا والله منزه عن فعل القبيح وتنزيهه عن فعل القبيح معلوم بأنه غني عنه عالم بقبحه والغني عن الشيء العالم بقبحه لا يفعله وغناه معلوم بكونه ليس بجسم وكونه ليس بجسم معلوم بنفي الصفات فلو قامت به الصفات لكان جسما ولو كان جسما لم يكن غنيا وإذا لم يكن غنيا لم يمتنع عليه فعل القبيح فلا يؤمن أن يظهر المعجزة على يد كذاب فلا يبقى لنا طريق إلى العلم بصدق الرسول

فهذا الكلام ونحوه أصل دين المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة

وكذلك أبو عبدالله بن الخطيب وأمثاله: أثبتوا وجود الصانع بأربع طرق منها ثلاثة مبنية على أصلين وربما قالوا بست طرق منها خمسة مبنية على الأصلين المتقدمين في توحيد الفلاسفة وتوحيد المعتزلة

فإنه قال: الاستدلال على الصانع إما أن يكون: بالإمكان أو الحدوث وكلاهما: إما في الذات وإما في الصفات وربما قالوا: وإما فيهما

فالأول: إثبات إمكان الجسم بناء على حجة التركيب التي هي أصل الفلاسفة

والثاني: بيان حدوثه بناء على حجة حدوث الحركات والأعراض التي هي أصل المعتزلة

والثالث: إمكان الصفات بناء على تماثل الأجسام

والرابع: إمكانهما جميعا

والخامس: حدوث الصفات وهذا هو الطريق المذكور في القرآن

والسادس: حدوث الأجسام وصفاتها وهو مبني على ما تقدم

وهذه الطرق الست كلها مبنية على الجسم إلا الطريق الذي سماه حدوث الصفات يعني بذلك ما يحدثه الله في العالم من الحيوان والنبات والمعدن والسحاب والمطر وغير ذلك وهو إنما سمى ذلك حدوث الصفات متابعة لغيره ممن يثبت الجوهر الفرد ويقول بتماثل الأجسام وإن ما يحدثه الله تعالى من الحوادث إنما هو تحويل الجواهر التي هي أجسام من صفة إلى صفة مع بقاء أعيانها وهؤلاء ينكرون الاستحالة

وجمهور العقلاء وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم متفقون على بطلان قولهم وأن الله تعالى يحدث الأعيان ويبدعها وإن كان يحيل الجسم الأول إلى جسم آخر فلا يقولون: إن جرم النطفة باق في بدن الإنسان ولا جرم النواة باق في النخلة

والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع فإن هذه الجمل هي من جوامع الكلام المحدث الذي كان السلف والأئمة يذمونه وينكرون على أهله

والمقصود هنا أن هذه هي أعظم القواطع العقلية التي يعارضون بها الكتب الإلهية والنصوص النبوية وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها

فيقال لهم: أنتم وكل مسلم عالم تعلمون بالاضطرار أن إيمان السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يكن مبنيا على هذه الحجج المبنية على الجسم ولا أمر النبي أحدا أن يستدل بذلك على إثبات الصانع ولا ذكر الله تعالى في كتابه وفي آياته الدالة عليه وعلى وحدانيته شيئا من هذه الحجج المبنية على الجسم والعرض وتركيب الجسم وحدوثه وما يتبع ذلك

فمن قال: إن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بهذه الطريق كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام ومن قال: إن سلوك هذه الطريق واجب في معرفة الصانع تعالى كان قوله من البدع الباطلة المخالفة لما علم بالاضطرار من دين الإسلام

ولهذا كان عامة أهل العلم يعترفون بهذا: وبأن سلوك هذه الطريق ليس بواجب بل قد ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أن سلوك هذه الطريق بدعة محرمة في دين الرسل لم يدع إليها أحد من الأنبياء ولا من أتباعهم

ثم القائلون بان هذه الطريق ليست واجبة قد يقولون: إنها في نفسها صحيحة بل ينهى عن سلوكها لما فيها من الأخطار كما يذكر ذلك طائفة: منهم الأشعري والخطابي وغيرهما

وأما السلف والأئمة فينكرون صحتها في نفسها ويعيبونها لاشتمالها على كلام باطل ولهذا تكلموا في ذم هذا الكلام لأنه باطل في نفسه لا يوصل إلى الحق بل إلى باطل كقول من قال: الكلام الباطل لا يدل إلا على باطل وقول من قال: لو أوصى بكتب العلم لم يدخل فيها كتب علم الكلام وقول من قال: من طلب الدين بالكلام تزندق ونحو ذلك

ونحن الآن في هذا المقام نذكر ما لا يمكن مسلما أن ينازع فيه وهو أنا نعلم بالضرورة أن هذه الطريق لم يذكرها الله تعالى في كتابه ولا أمر بها رسوله ولا جعل إيمان المتبعين له موقوفا عليها فلو كان الإيمان بالله لا يحصل إلا بها لكان بيان ذلك من أهم مهمات الدين بل كان ذلك أصل أصول الدين لا سيما وكان يكون فيها أصلان عظيمان: إثبات الصانع وتنزيهه عن صفات الأجسام كما يجعلون هم ذلك أصل دينهم فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن الإيمان يحصل بدونها بل إيمان أفضل هذه الأمة وأعلمهم بالله كان حاصلا بدونها

فمن قال بعد هذا: إن العلم بصحة الشرع لا يحصل إلا بهذا الطريق ونحوها من الطرق المحدثة كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام وعلم أن القدح في مدلول هذه الطرق ومقتضاها وأن تقديم الشرع المعارض لها لا يكون قدحا في العقليات التي هي أصل الشرع بل يكون قدحا في أمور لا يفتقر الشرع إليها ولا يتوقف عليها وهو المطلوب

فتبين أن الشرع المعارض لمثل هذه الطرق التي إنها عقليات إذا قدم عليها لم يكن في ذلك محذور

بطلان استدلال المتكلمين بقصة الخليل على رأيهم[عدل]

ومن عجائب الأمور: أن كثيرا من الجهمية نفاة الصفات والأفعال ن ومن اتبعهم على نفي الأفعال: يستدلون على ذلك بقصة الخليل كما ذكر ذلك بشر المريسي وكثير من المعتزلة ومن أخذ ذلك عنهم أ وعمن أخذ ذلك عنهم كأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد والرازي وغيرهم وذكروا في كاتبهم أن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم الخليل عليه صلوات الله وسلامه وهو قوله { لا أحب الأفلين } [ الأنعام: 76 ]

قالوا: فاستدل بالأفول الذي هو الحركة والانتقال على حدوث ما قام به ذلك كالكوكب والقمر والشمس

وظن هؤلاء أن قول إبراهيم عليه السلام { هذا ربي } [ الأنعام: 77 ] أراد به: هذا خالق السماوات والأرض القديم الأزلي وأنه استدل على حدوثه بالحركة

وهذا خطأ من وجوه :

الوجه الأول[عدل]

أحدهما: أن قول الخليل { هذا ربي } ـ سواء قاله على سبيل التقدير لتقريع قومه أو على سبيل الاستدلال والترقي: أو غير ذلك ـ ليس المراد به: هذا رب العالمين القديم الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا كان قومه يقولون: إن الكواكب أو القمر أو الشمس رب العالمين الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا قال هذا أحد من اهل المقالات المعروفة التي ذكره الناس: لا من مقالات أهل التعطيل والشرك الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب ولا من مقالات غيرهم بل قوم إبراهيم كانوا يتخذونها أربابا يدعونها ويتقربون إليها بالبناء عليها والدعوة لها والسجود والقرابين وغير ذلك وهو دين المشركين الذين صنف الرازي كتابه على طريقتهم وسماه السر المكتوم في دعوة الكواكب والنجوم والسحر والطلاسم والعزائم

وهذا دين المشركين من الصبئين كالكشدانيين والكنعانيين واليونانيين وأرسطوا وأمثاله من أهل هذا الدين وكلامه معروف في السحر الطبيعي والسحر الروحاني والكتب المعروفة بذخيرة الإسكندر بن فليبس الذي يؤرخون به وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة

وكانت اليونان مشركين يعبدون الأوثان كما كان قوم إبراهيم مشركين يعبدون الأوثان ولهذا قال الخليل { إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } [ الزخرف: 26 - 27 ] وقال { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } [ الشعراء: 75 - 77 ] وأمثال ذلك مما يبين تبرؤه مما يعبدونه غير الله

وهؤلاء القوم عامتهم من نفاة صفات الله وأفعاله القائمة به كما هو مذهب الفلاسفة المشائين فإنهم يقولون: إن ليس له صفة ثبوتية بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وهو مذهب القرامطة الباطنية القائلين بدعوة الكواكب والشمس والقمر والسجود لها كما كان على ذلك من كان عليه من بني عبيد ملوك القاهرة وأمثالهم

فالشرك الذي نهي عنه الخليل وعادى أهله عليه كان أصحابه هم أئمة هؤلاء النفاة للصفات والأفعال وأول من أظهر هذا النفي في الإسلام: الجعد بن درهم معلم مروان بن محمد

قال الإمام أحمد: وكان يقال إنه من أهل حران وعنه أخذ الجهم بن صفوان مذهب نفاة الصفات وكان بحران أئمة هؤلاء الصابئة الفلاسفة بقايا أهل هذا الدين أهل الشرك ونفي الصفات والأفعال ولهم مصنفات في دعوة الكواكب كما صنفه ثابت بن قرة وأمثاله من الصابئة الفلاسفة أهل حران وكما صنفه أبو معشر البلخي وأمثاله وكان لهم بها هيكل العلة الأولى ن وهيكل العقل الفعال وهيكل النفس الكلية وهيكل زحل وهيكل المشتري وهيكل المريخ وهيكل الشمس وهيكل الزهرة وهيكل عطارد وهيكل القمر وقد بسط هذا في غير هذا الموضع

الوجه الثاني[عدل]

أنه لو كان المراد بقوله: { هذا ربي } أنه رب العالمين لكانت قصة الخليل حجة على نقيض مطلوبهم لأن الكوكب والقمر والشمس ما زال متحركا من حين بزوغه إلى عند أفوله وغروبه وهو جسم متحرك متحيز صغير فلو كان مراده هذا للزم أن يقال: إن: إبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من كون المتحرك المنتقل رب العالمين بل ولا كونه صغيرا بقدر الكوكب والشمس والقمر وهذا ـ مع كونه لا يظنه عاقل ممن هو دون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ـ فإن جوزوه عليه كان حجة عليهم لا لهم

الوجه الثالث[عدل]

أن الأفول هو المغيب والاحتجاب ليس هو مجرد الحركة والانتقال ولا يقول أحد ـ لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير ـ إن الشمس والقمر في حال مسيرهما في السماء: إنهما آفلان ولا يقول للكواكب المرئية في السماء في حال ظهورها وجريانها: إنها آفلة ولا يقول عاقل لكل من مشى وسافر وسار وطار: إنه آفل

الوجه الرابع[عدل]

أن هذا القول الذي قالوه لم يقله أحد من علماء السلف أهل التفسير ولا من أهل اللغة بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع

وبسبب هذا الابتداع أخذ ابن سينا وأمثاله لفظ الأفول بمعني الإمكان كما قال في إشاراته :

قال قوم إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكن إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوت قوله تعالى { لا أحب الأفلين } [ الأنعام: 76 ] فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما فهذا قوله

ومن المعلوم بالضرورة من لغة العرب: أنهم لا يسمون كل مخلوق موجود آفلا ولا كل موجود بغيره آفلا ولو كان الخليل أراد بقوله { لا أحب الأفلين } [ الأنعام: 76 ] هذا المعنى لم ينتظر مغيب الكوكب والشمس والقمر ففساد قول هؤلاء المتفلسفة في الاستدلال بالآية أظهر من فساد قول أولئك

وأعجب من هذا قول من قال في تفسيره: إن هذا قول المحققين

واستعارته لفظ: الهوي والحظيرة لا يوجب تبديل اللغة المعروفة في معنى الأفول فإن وضع هو لنفسه وضعا آخر فليس له أن يتلو عليه كتاب الله تعالى فيبدله أو يحرفه

وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيرا آخر كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته كمشكاة الأنوار وغيرها: أن الكواكب والشمس والقمر: هي النفس والعقل الفعال والعقل الأول ونحو ذلك

وشبهتهم في ذلك: أن إبراهيم أجل من أن يقول لمثل هذه الكواكب: إنه رب العالمين بخلاف ما ادعوه من النفس ومن العقل والفعال الذي يزعمون أنه رب كل ما تحت فلك القمر والعقل الأول الذي يزعمون أنه مبدع العالم كله

وقول هؤلاء ـ إن كان معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام ـ فابتداع أولئك طرق مثل هؤلاء على هذا الإلحاد

ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب: أن هذه المعاني ليست هي المفهوم من لفظ الكوكب والقمر والشمس

وأيضا فلو قدر أن ذلك كوكبا وقمرا وشمسا بنوع من التجوز: فهذا غايته أن يسوغ للإنسان أن يستعمل اللفظ في ذلك لكنه لا يمكنه أن يدعي أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون هذا بهذا القرآن نزل بلغة الذين خاطبهم الرسول فليس لأحد أن يستعمل ألفاظه في معان بنوع من التشبه والاستعارة ثم يحمل كلام من تقدمه على هذا الوضع الذي أحدثه هو

وأيضا فإنه قال تعالى { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } [ الأنعام: 76 ] فذكره منكرا: لأن الكواكب كثيرة ثم قال: { فلما رأى القمر } [ الأنعام: 77 ] { فلما رأى الشمس } [ الأنعام: 78 ] ] بصيغة التعريف لكي يبين أن المراد القمر والمعروف والشمس المعروفة وهذا صريح بأن الكواكب متعددة وأن المراد واحد منها وأن الشمس والقمر هما هذان المعروفان

وأيضا فإنه قال { لا أحب الأفلين } والأفول هو المغيب والاحتجاب فإن أريد بذلك المغيب عن الأبصار الظاهرة فما يدعونه من العقل والنفس لا يزال محتجا عن الأبصار لا يرى بحال بل وكذلك واجب الوجود فالأفول أمر يعود إلى حال العارف بها لا يكسبها صفة نقص ولا كمال ولا فرق في ذلك بينها وبين غيرها

وأيضا فالعقول عندهم عشرة والنفوس تسعة بعدد الأفلاك

فلو ذكر القمر والشمس فقط لكانت شبهتهم أقوى حيث يقولون: نور القمر مستفاد من نور الشمس كما أن النفس متولدة عن العقل مع ما في ذلك ـ لو ذكروه ـ من الفساد أما مع ذكر كوكب من الكواكب فقولهم هذا من أظهر الأقوال للقرامطة الباطنية فسادا لما في ذلك من عدم الشبه والمناسبة التي تسوغ في اللغة إرادة مثل هذا

والكم على فساد هذا طويل ليس هذا موضعه ولولا أن هذا وأمثاله هو من أسباب ضلال كير من الداخلين في العلم والعبادو إذ صاحب كتاب مشكاة الأنوار إنما بنى كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عز وجل لموسى ين عمران النبي كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة وجعل خلع النعلين الذي خوطب به موسى صلوات الله عليه وسلامه إشارة إلى ترك الدنيا والآخرة وإن كان قد يقرر خلع النعلين حقيقة لكن جعل هذا إشارة إلى أن من خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي

وهو من جنس قول من يقول: إن النبوة مكتسبة ولهذا كان أكابر هؤلاء يطمعون في النبوة فكن السهروردي المقتول يقول: لا أموت حتى يقال في: قم فأنذر وكان ابن سبعين يقول: لقد زرب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي ولما جعل خلع النعلين إشارة إلى ذلك أخذ ذلك ابن قسي ونحوه ووضع كتابه ففي خلع النعلين واقتباس النور من موضع القدمين من مثل هذا الكلام

ومن هنا دخل أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد حنى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق سبحانه وتعالى كما فعل صاحب الفصوصابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من الملاحدة المنتسبين إلى التصرف والتحقيق

وهم من جنس الملاحدة المنتسبين إلى التشيع لكن تظاهر هؤلاء من أقوال شيوخ الصوفية وأهل المعرفة بما التبس به حالهم على كثير من أهل العلم المنتسبين إلى العلم والدين بخلاف أولئك الذين تظاهروا بمذهب التشيع فإن نفور الجمهور عن مذهب الرافضبة مما الجمهور عن مثل هؤلاء بخلاف جنس أهل الفقر والزهد ومن يدخل في ذلك من متكلم ومتصرف وفقير وناسك وغير هؤلاء فإنهم لمشاركتهم الجمهور في الانتساب إلى السنة والجماعة يخفى من إلحاد الملحد الداخل فيهم ما لا يخفي من إلحاد ملاحدة الشيعة وإن كان إلحاد الملحد منهم أحيانا قد يكون أعظم كما حدثني نقيب الأشراف أنه قال لعفيف التلمساني: أنت نصيري فقال: نصير جزء مني والكلام على بسط هذا له موضع آخر غير هذا

فإن قيل: فهب أن تقديم الشرع عليها لا يكون قدحا في أصله لكنه تقديما له على أدلة عقلية فلا بد من بيان الموجب لتقديم الشرع

قيل: الجواب من وجوه :

أحدهما: أن المقصود هنا بيان أن تقديم الشرع على ما عارضه من مثل هذه العقليات المحدثة في الإسلام ليس تقديما له على أصله الذي يتوقف العلم بصحة الشرع عليه وقد حصل فإنا إنما ذكرنا في هذا المقام بيان بطلان من يزعم أنه يقدم العقل على الشرع المعارض له وذكرنا أن الواجب تقديم ما قام الدليل على صحته مطلقا

الجواب الثاني: أن نقول: الشرع قول المعصوم الذي قام الدليل على صحته وهذه الطرق لم يقم دليل على صحتها فلا يعارض ما علمت صحته بما لم تعلم صحته

الجواب الثالث: أن نقول: بل هذه الطرق المعارضة للشرع كلها باطلة في العقل وصحة الشرع مبنية على إبطالها لا على صحتها فهي باطلة بالعقل وبالشرع والقائل بها مخالف للعقل والشرع من جنس أهل النار الذين قالوا { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [ الملك: 10 ] وهكذا شأن جميع البدع المخالفة لنصوص الأنبياء فإنها مخالفة للسمع والعقل فكيف ببدع الجهمية المعطلة التي هي الأصل من كلام المكذبين للرسل

والكلام على إبطال هذه الوجوه على التفصيل وأن الشرع لا يتم إلا بإبطالها مبسوط في غير هذا الموضع لكن نحن نشير إلى ذلك في تمام هذا الكلام فنقول :

بطلان الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض الوجه التاسع عشر[عدل]

إن هذه المعارضات مبنية على التركيب وقد تقدمت الإشارة إلى بطلانه وأما الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض فنقول: قد أورد عليهم الفلاسفة سؤالهم المشهور وجوابهم عنه على أصلهم مما يقول جمهور العقلاء إنه معلوم الفساد بالضرورة

وذلك إما أن يكون صدر عنه بسبب حادث يقتضي الحدوث وإما أن لا يكون فإن لم يكن صدر عنه سبب حادث يقتضي الحدوث لزم ترجيح الممكن بلا مرجح وهو ممتنع في البديهة وإن حدث عنه سبب فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في حدوث غيره ويلزم التسلسل الممتنع فإتفاق العقلاء بخلاف التسلسل المتنازع فيه مع أن كلا النوعين باطل عند هؤلاء المتكلمين فهم مضطرون في هذا الدليل إلى الترجيح بلا مرجح تام أو إلى القول بالتسلسل والدور وكلاهما ممتنع عندهم

ومما ينبغي أن يعرف أن التسلسل الممتنع في هذا المكان ليس هو التسلسل المتنازع في جوازه بل هو مما اتفق العقلاء على امتناعه فإنه إذا قيل: إنه قدر أنه لم يكن يحدث شيئا قط ثم حدث حادث فإما أن يحدث بسبب حادث أو بلا سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح فالناس كلهم متفقون على أنه إذا قدر أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن لم يحدث إلا بسبب حادث وأن القول في كل ما يحدث قول واحد

وإذا قال القائل: فلم يحدث الحادث إلا بسبب حادث ثم زعم أن الحادث الأول يحدث بغير سبب حادث فقد تناقض فإن قوله: لا يحدث حادثقول عام فإذا جوز أن يحدث حادث بلا بسبب فقد تناقض ويسمى تسلسلا

ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في العلل والفاعلين والمؤثرات: بأن يكون للفاعل فاعل وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء

والثاني: التسلسل في الآثار: بأن يكون الحدث الثاني موقوفا على حادث قبله وذلك الحادث موقوف على حادث قبل ذلك وهلم جرا فهذا في جوازه قولان مشهوران للعقلاء وأئمة السنة والحديث ـ مع كثير من النظار أهل الكلام والفلاسفة ـ يجوزون ذلك وكثير من النظار وغيرهم يحيلون ذلك

وأما إذا قيل: لا يحدث حادث قط حتى يحدث حادث فهذا ممتنع باتفاق العقلاء وصريح العقل وقد يسمى هذا دورا فإنه إذا قيل: لا يحدث شيء حتى يحدث شيء كان هذا دورا فإن وجود جنس الحادث موقوف على وجود جنس الحادث وكونه سبحانه لم يزل مؤثرا يراد به مؤثرا في كل شيء وهذا لا يقوله عاقل لكنه لازم حجة الفلاسفة ويراد به لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء وهو موجب الأدلة العقلية التي توافق الأدلة السمعية

ولما أجاب بعضهم بأن المرجح هو القدرة أو الإرادة القديمة أو العلم القديم أو إمكان الحدوث ونحو ذلك قالوا لهم في الجواب: هذه الأمور إن لم يحدث بسببها سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح وإن حدث سبب حادث فالكلام في حدوثه كالكلام في حدوث ما حدث به

وعدل آخرون إلى الإلزام فقالوا: هذا يقتضي أن لا يحدث في العالم حادث والحس يكذبه فقالوا لهم: إنما يلزم هذا إذا كان التسلسل باطلا وأنتم تقولون بإبطاله وأما نحن فلا نقول بإبطاله وإذا كان الحدوث موقوفا على حوادث متجددة زال هذا المحذور

والتسلسل نوعان: تسلسل في العلل وقد اتفق العلماء على إبطاله وأما التسلسل في الشروط ففيه قولان مشهوران للعقلاء

وتنازع هؤلاء: هل الإلزام لهم صحيح أم لا؟ وبتقدير كون الإلزام صحيحا ليس فيه حل للشبهة وإذا لم تنحل كانت حجة على الفريقين وكان القول بموجبها لازما واعتبر ذلك بما ذكره أبو عبد الله الرازي في أشهر كتبه وهو كتاب الأربعين وما اعترض عليه به صاحب لباب الأربعين أبو الثناء محمود الأرموي وجوابه هو عنها فإنه الرازي ذكرها وذكر أجوبة الناس عنها وبين فسادها ثم أجاب هو بالإلزام مع أنه في مواضع أخر بجيب عنها بالأجوبة التي بين فسادها الموضع

قال حجتهم: جميع الممكنات مستندة إلى واجب الوجود فكل ما لا بد منه في مؤثريته إن لم يكن حاصلا في الأزل فحدوثه إن لم يتوقف على مؤثر وجد الممكن لا عن مؤثر وإن توقف عاد الكلام فيه وتسلسل وإن كان حاصلا: فإن وجب حصول الأثر معه لزم دوامه لدوامه وإن لم يجب أمكن حصول الأثر معه تارة وعدمه أخرى فيرجح أحدهما على الآخر وأن لم يتوقف على أمر وقع الممكن بلا مرجح وإن توقف لزم خلاف الفرض

ثم قال أجاب المتكلمون بوجه: الأول: أنه إنما أحدث العالم في ذلك الوقت لأن الإرادة لذاتها اقتضت التعلق بإيجاده في ذلك الوقت

قلت: هذا جواب جمهور الصفاتية الكلامية كابن كلاب والأشعري وأصحابهما ونه يجيب القاضي أبو بكر وأبو المعالي والتميميون من أصحاب أحمد والقاضي أبو يعلي وابن عقيل وابن الزاغوني وأمثالهم وبه أجاب الغزالي في تهافت الفلاسفة وزريفه عليه ابن رشد الحفيد وبه أجاب الأمدي وبه أجاب الرازي في بعض الموضع

قال: الجواب الثاني للمتكلمين: أنها اقتضت التعلق به في ذلك الوقت لتعلق العلم به

قلت: هذا الجواب ذكره طائفة من الأشعرية ومن الناس من يجعل المرجح مجموع العلم والإرادة والقدرة كما ذكره الشهرستاني ويمكن أن يجعل هذا جوابا آخر

قال: الجواب الثالث: لعل هناك حكمة خفية لأجلها أحدث في ذلك الوقت

قلت: هذا الجواب يجيب به من قد يعلل الأفعال كما هو مذهب المعتزلة والكرامية وغيرهم وقد يوافق المعتزلة ابن عقيل ونحوه كما قد يوافق الكرامية في تعليلهم القاضي أبو حازم ابن القاضي أبي بعلي وغيره

قال: الجواب الرابع: أن الأزلية مانعة من الإحداث لم سبق

الجواب الخامس: أنه لم يكن ممكنا قبله ثم صار ممكنا فيه

قلت: هذان الجوابان أو تاحدهما ذكرهما غير واحد من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية وغيرهم كالشهرستاني وغيره وهذا جواب الرازي في بعض المواضع

قال: الجواب السادس: أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالهارب من السبع إذا عرض له طريقتان متساويان والعطشان إذا وجد قدحين متساويين

قلت: هذا جواب أكثر الجهمية المعتزلة وبه أجاب الرازي في نهاية العقول فإنه قال في كتابه المعروف بنهاية العقول وهو عنده أجل ما صنفه الكلام ـ قال: قوله في المعارضة الأولى جميع جهات مؤثرية الباري عز وجل لا بد وأن يكون حاصلا في الأزل ويلزم من ذلك امتناع تخلف العالم عن الباري عز وجل

قلنا: هذا إنما يلزم إذا كان موجبا بالذات أما إذا كان قادرا فلا

قوله: القادر لما أمكنه أن يفعل في وقت وأن يفعل قبله وبعده توقفت فاعليته على مرجح

قلنا: المعتمد في دفع ذلك ليس إلا أن يقال: القادر لا يتوقف في فعله لأحد مقدوريه دون الآخر على مرجح

قوله: إذا جاز استغناء الممكن هنا عن المرجح فليجز في سائر المواضع ويلزم منه نفي الصانع

قلنا: قد ذكرنا أن بديهة العقل فرقت في ذلك بين القادر وبين غيره وما اقتضت البديهة الفرق بينهما لا يمكن دفعه

قلت وهذا الجواب هو جواب معروف عن المعتزلة وهو وأمثاله دائما في كتبهم يضعون هذا الجواب ويحتجون على المعتزلة في مسألة خلق الأفعال وغيرها بهذه الحجة هو أنه لا يتصور ترجيح الممكن لا من قادر ولا من غيره إلا بمرجح يجب عنده وجود الأثر

فهؤلاء إذا ناطروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لم يجيبوهم إلا بجواب المعتزلة هم دائما إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر عليهم بهذه الحجة التي احتجت بها الفلاسفة فإن كانت هذه الحجة صحيحة بطل احتجاجهم على المعتزلة وإن كانت باطلة بطل جوابهم للفلاسفة

وهذا غلب على المتفلسفة والمتكلمين المخالفين للكتاب والسنة تجدهم دائما بتناقضون فيحتجون بالمحجة التي يزعمون أنها برهان باهر ثم في موضع آخر يقولون: إن بديهة العقل يعلم به فساد هذه الحجة

آراء المتكلمين في إرادة الله تعالى[عدل]

وهو لما احتج في المحصول على إثبات الجبر وأن إثباته يمنع القول بالتحسين والتقبيح العقلي ذكر هذه الحجة وقال: فثبت بهذا البرهان الباهر أن هذه الحوادث إما أن تحدث ـ يعني من العبد القادر ـ على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق

وقال أيضا في تقريرها ههنا: العمدة في إثبات الصانع احتياج الممكن إلى المؤثر فلو جوزنا ممكنا يترجح أحد طرفيه على الآخر بلا مرجح لم يمكنا أن نحكم لشيء من الممكنات باحتياجه إلى المؤثر وذلك يسد باب إثبات الصانع

قال: وأما الهارب من السبع إذا عن له طريقان فإنا نمنع تساويهما من كل الوجوه وإن ساعدنا عليه ولكن الهارب من السبع يعتقد ترجح أحدهما على الآخر من بعض الوجوه أو يصير غافلا عن أحدهما فأما لو اعتقد الهارب تسويهما من كل الوجوه فإنه يستحيل منه والحال هذه أن يسلك أحدهما والدليل على أن الأمر كذلك أن الإنسان إذا تعرضت دواعيه إلى الحركات المتضادة فإنه يتوقف في كل موضع لا يمكنه أن يترك إلا عند حصول المرجح

وكما قال من جعل المرجح هو الإرادة: إن الإرادة اقتضت ترجيح ذلك المقدور على غيره ولا يمكن أن يقال: الإرادة لماذا رجحت ذلك الشيء على غيره؟ لأنه لو رجحت غيره عليه كان هذا السؤال عائدا وعلى هذا التقدير يلزم أن كون الإرادة مرجحة معلل بعلة أخرى وذلك محال لأن كون الإرادة مرجحة صفة نفسية لها كما أن كون العلم بحيث يعلم به المعلوم صفة نفسية له وذلك أمر ذاتي له ولما استحال تعليل الصفات الذاتية استحال تعليل كون الإرادة مرجحة

قال: وهذا الجواب باطل أيضا لأنا لا نعلل أصل كون الإرادة مرجحة وإنما نعلل كونها مرجحة لهذا الشيء على ضده ولا يلزم من تعليل خصوص المرجحية تعليل أصل المرجحية ألا ترى أن الممكن لما دار بين الوجود والعدم فإنا نحكم أنه لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح ولا يكون تعليل ذلك تعليلا لأصل كونه ممكنا فكذلك ههنا

قلت: نظير هذا قول من يقول من القدرية المعتزلة الشيعة ونحوهم: إن الله تعالى جعل العبد مختارا وخلقه مختارا إن شاء اختار هذا الفعل وإن شاء اختار هذا الفعل فهو يختار أحدهما باختياره

فيقال لهم: هو جعله أهلا للاختيار وقابلا للاختيار وجائزا منه الاختيار وممكنا منه الاختيار ونحو ذلك أو جعله مختارا لهذا الفعل على هذا؟

فإن قالوا بالأول قيل لهم: فوجود اختيار هذا الفعل دون هذا لا بد له من سبب وإذا كان العبد قابلا لهذا ولهذا فوجود أحد الاختيارين دون الآخر لا بد له من سبب أوجبه

وإن قالوا بالثاني أعترفوا بالحق وأن ما فيه من أختيار الفعل المعين هو من الله تعالى كما قال سبحانه { لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } [ التكوير: 28 - 29 ]

ولهذا إذا حقق القول عليهم وقيل لهم: فهذا الاختيار الحادث الذي كان به هذا الفعل وهو إرادة العبد الحادثة من المحدث لها؟

قالوا: الإرادة لا تعلل

فقلت لمن قال لي ذلك منهم: تعني بقولك: لا تعلل بالعله الغائية أي لا تعلم غايتها أو لا تعلل بالعلة الفاعلية فلا يكون لها محدث أحدثها؟

أما الأول فليس الكلام فيه هنا مع أنه هو يقول بتعليلها بذلك وأما الثاني فإنه معلوم الفساد بالضرورة فإنه من جوز في بعض الحوادث ان تحدث بلا فاعل أحدثها لزمه ذلك في غيره من الحوادث وهذا المقام حار فيه هؤلاء المتكلمون

فالمعتزلة القدرية: إما أن ينفوا إرادة الرب تعالى: وإما أن يقولوا بإرادة أحدثها في غير محل بلا إرادة كما يقوله البصريون منهم وهم أقرب إلى الحق من البغداديين منهم وهم في هذا كما قيل فيهم: طافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب ـ فإنهم التزموا عرضا يحدث لا في محل وحادثا يتحدث بلا إرادة كما التزموا في إرادة العبد أنها تحدث بلا فاعل فنفوا السبب الفاعل للإرادة مع أنهم يثبتون لها العلة الغائية ويقولون: إنما أراد الإحسان إلى الخلق ونحو ذلك

والذين قابلوهم من الأشعرية ونحوهم أثبتوا السبب الفاعل لإرادة العبد وأثبتوا لله إرادة قديمة تتناول جميع الحوادث لكن لم يثبتوا لها الحكمة المطلوبة والعاقبة المحمودة فكان هؤلاء بمنزلة من أثبت العلة الفاعلية دون الغائية وأولئك بمنزلة من أثبت العلة الغائية دون الفاعلية

آراء الفلاسفة[عدل]

والمتفلسفة المشاؤون يدعون إثبات العلة الفاعلية والغائية ويعللون ما في العالم من الحوادث بأسباب وحكم وهم عند التحقيق أعظم تناقضا من أولئك المتكلمين لا يثبتون لا علة فاعلية ولا غائية بل حقيقة قولهم: أن الحوادث التي تحدث لا محدث لها لن العلة التامة القديمة مستلزمة لمعلومها لا يمكن أن يحدث عنها شيء

وحقيقة قولهم: أن أفعال الرب تعالى ليس فيها حكمة ولا عاقبة محمودة لأنهم ينفون الإرادة ويقولون: ليس فاعلا مختارا ومن نفى الإرادة كان نفيه للمراد المطلوب بها الذي هو الحكمة الغائية أ ولى وأخرى ولهذا كان لهم من الاضطراب والتناقض في هذا الباب أعظم مما لطوائف أهل الملل كما قد بسط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا التنبيه على مجامع أقوال الطوائف الكبار وما فيها من التناقض وأن من عارض النصوص الإلهية بما يسميه عقليات إنما يعارضها بمثل هذا الكلام الذي هو نهاية إقدامهم وغاية مرامهم وهو نهاية عقولهم في دراية أصولهم

قال الرازي: قالت الفلاسفة: حاصل الكل اختيار أن كل ما لا بد منه في إيجاد العالم لم يكن حاصلا في الأزل لأنه جعل شرط الإيجاد أولا: الوقت الذي تعلقت الإرادة بإيجاده فيه وثانيا: الوقت الذي تعلق العلم به فيه وثالثا: الوقت المشتمل على الحكمة الخفية ورابعا: انقضاء الأزل وخامسا: الوقت الذي يمكن فيه وسادسا: ترجيح القادر وشيء منها لم يوجد في الأزل وقد أبطلنا هذا القسم

ثم قال عن الفلاسفة: والجواب المفصل عن الأول من وجهين :

أحدهما: أن إرادته لم تكن صالحة لتعلق إيجاده في سائر الاوقات كان موجبا بالذات ولزم قدم العالم وإن كانت صالحة فترجيح بعض الأوقات بالتعلق إن لم يتوقف على مرجح وقع الممكن لا لمرجح وإن توقف عاد الكلام فيه وتسلسل

والثاني: أن تعلق إرادته بإيجاده أن لم يكن مشروطا بوقت ما ملزم قدم المراد وإن كان مشروطا به كان ذلك الوقت حاضرا في الأزل وإلا عاد الكلام في كيفية إحداثه وتسلسل

وعن الثاني من وجهين :

الأول: أن العلم تابع للمعلوم التابع للإراداة فامتنع كون الإرادة تابعة للعلم

الثاني: أن تعين المعلوم محال فيمتنع عقلا إحداثه في وقت علم عدم حدوثه فيه وعدم إحداثه في وقت علم حدوثه فيه وذلك يوجب كونه موجبا بالذات

وعن الثالث من وجهين :

أحدهما: أن حدوث وقت تلك المصلحة إن كان لا لمحدث لزم نفي الصانع وأن كان لمحدث عاد الكلام فيه

وأيضا فتلك المصلحة إن كانت حاصلة قبل الوقت لزم حدوثها قبله وإلا فإن وجب حدوثها في ذلك الوقت جاز في غير ذلك ولزم نفي الصانع وإن لم يجب عاد الكلام في اختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة وتسلسل

الثاني: أنه مع العلم باشتمال ذلك الوقت على تلك المصلحة إن لم يمكنه الترك كان موجبا بالذات وإن أمكنه وتوقف الفعل على مرجح تسلسل وإلا وقع الممكن لا لمرجح

وعن الرابع من وجهين :

أحدهما: أن مسمى الأزل إن كان واجبا لذاته امتنع زواله وإلا استند إلى واجب لذاته ولزم المحذور

والثاني: أن الأزل نفي محض فامتنع كونه مانعا م الإيجاد

وعن الخامس: أن انقلاب الممتنع لذاته ممكنا لذاته محال

الثاني: أن الماهية لا يختلف قبولها للوجود أو لا قبولها لكونه شاملا للأوقات

وعن السادس من وجهين: الأول: أنه لما استويا بالنسبة إليه كان وقوع أحدهما من غير مرجح اتفاقيا وحينئذ يجوز في سائر الحوادث ذلك ولزم نفي الصانع

الثاني: أنه لما استويا بالنسبة إليه فترجح أحدهما إن لم يتوقف على نوع ترجيح منه كان وقوعه لا بإيقاعه بل من غير سبب ولزم نفي الصانع وإن توقف عاد التقسيم فيه: أنه هل كان حاصلا في الأزل أم لا؟

وأما فصل الهارب والعطشان فإنا نعلم أنه ما لم يحصل لهما ميل إلى أحدهما لم يرجح

قلت: هذه الوجوه بعضها حق لا حيلة فيه وبعضها فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا ذكر جواب الناس عن تلك الشبهة

ثم قال الرازي: والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول لوجوب دوام واجب الوجود ودوام الثاني لدوام الأول وهلم جرا وإن ينفي الحدوث أصلا

قال: فإن قلت: واجب الوجود علم الفيض يتوقف حدوث الأثر عنه على حدوث استعدادت القوابل بسبب الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول

قلت: حدوث العرض المعين لا بد له من سبب فذلك السبب: إن كان حادثا عاد الكلام في سبب حدوثه ولزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال وإن كان قديما لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر فكذلك في كلية العالم

اعتراض الأرموي على الرازي[عدل]

وقد اعترض الأرموي على هذا الجواب فقال :

والقائل أن يقول: إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث المسبب الفاعل بل يدل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه وإن عنيت به السبب الفاعل لم يلزم من حدوث العرض المعين حدوثه بل إما حدوثه أو حدوث بعض الشرائط وحدوث الشرائط والمعدات الغير متناهية على التعاقب جائز عندكم

قال: بل الجواب الباهر عنه: أنه لا يلزم من ذلك قدم العالم الجسماني لجواز أن يوجد في الأزل عقل أو نفس يصدر عنهما تصورات متعاقبة كل واحد منها بعد ما يليه حتى ينتهي إلى تصور خاص يكون شرطا لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم

رد ابن تيمة على الأرموي[عدل]

قلت: الإلزام الذي ألزمهم إياه الرازي صحيح متوجه وهو الجواب الثاني الذي أجابهم به الغزالي في كتاب التهافت

وأما اعتراض الأرموي فجوبه: أنه كان التقدير أن العلة التامة مستلزمة لمعلولها ومعلولها لازم لعلته: امتنع أن يحدث عنها شيء فما حدث لا بد له من سبب تام وحدوث السبب التام يستلزم حدوث سبب تام له فيلزم جود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال

وأما قوله: إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه

فيقال له: هذا التقسيم صحيح إذا نظر إلى الحادث من حيث الجملة وأما إذا نظر إلى حادث يمتنع حدوثه عن العل التامة فلا بد له من حدوث سبب تام

وإذا قال القائل: الفاعل القديم أحدثه لما حدث شرط حدوثه

قيل: الكلام في حدوث ذلك الشرط كالكلام في حدوث المشروط فلا بد من حدوث أمر لا يكون حادثا عن العلة التامة لأن العلة التامة القديمة يمتنع أن يحدث عنها شيء فإنه يجب مقارنة معلولها لها في الأزل والحادث ليس بمقارن لها في الأزل

وإذا قيل: حدث عنها بحدوث الاستعداد والشرائط

قيل: الكلام في كل ما يقدر حدوثه عن علة تامة مستلزمة لمعلولها فإن حدوث حادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها محال وهذا الإلزام صحيح لا محيد للفلاسفة عنه

وإذا قالوا: حدث عنها أمور متسلسلة واحد بعد واحد

قيل لهم: الأمور المتسلسلة يمتنع أن تكون صادرة عن علة تامة لأن العلة التامة القديم تستلزم معلولها فتكون معها في الأزل والحوادث المتسلسلة ليس معها في الأزل

وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا أن قولهم بحدوث الحوادث عن موجب تام أزلي لازم لهم في صريح العقل سواء حدثت عنه بواسائط لازمة له أو بغير وسائط وسواء سميت تلك الوسائط عقولا ونفوسا أو غير ذلك وسواء قيل: إن الصادر الأول عنه: العنصر كما يقول بعضهم أو قيل: بل هو العقل كما هو قول آخرين فإن الوسائط اللازمة ل قديمة معه لا يحدث فيها شيء إذ القول في حدوث ما يحدث فيها كالقول في غيره من الحوادث

وقولهم: إن حركات الفلك بسبب حدوث تصورات النفس وإرادتها المتعاقبة مع حدوث تلك عن الواجب بنفسه بواسطة العقل اللازم له أو بغير واسطة العقل أو القول بحدوثها عن العقل أو ما قالوا من هذا الجنس الذي يسندون فيه حدوث الحوادث إلى مؤثر قديم تام لم يحدث فيه شيء ـ هو قول يتضمن أن الحوادث حدثت عن علة تامة لا يحدث فيها شيء فإذا كان المؤثر التام الأزلي سواء جعل ذلك شرطا في حدوث غيره أو لم يجعل ومتي امتنع حدوث حادث عنه كان حدوث ما يدعونه من الاستعدادات والشرائط مفتقرا إلى سبب تام فيلزم وجود علل ومعلومات لا تتناهى دفعة كما ذكره الرازي وهذا من جيد كلامه

وأما الجواب الذي أجاب به الأرموي وذكر أنه باهر: فهو منقول من كلام الرازي في المطالب العالية وغيرها وهو منقوض بهذه المعارضة مع أنه جواب غاب بعضه موافق لقول أهل الملل وبعضه موافق لقول الفلاسفة الدهرية فإنه مبني على إثبات العقول والنفوس وأنها ليست أجساما وكونها قديمة أزلية لازمة لذات الله تعالى وهذه الأقوال ليست من أقوال أهل الملل بل هي أقوال باطلة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن ما يدعونه من المجردات إنما ثبوتها في الأذهان في الأعيان

وإنما أجاب الأرموي بهذا الجواب لأن هؤلاء المتأخرين ـ الكشهرستاني الرازي واللآمدي ـ زعموا أن ما ادعاه هؤلاء المتفلسفة من إثبات عقول ونفوس مجردة لا دليل للمتكلمين على نفيه وأن دليلهم على حدوث الأجسام لا يتضمن الدلالة على حدوث هذه المجردات

وهذا قول باطل بل أئمة الكلام صرحوا بأن انتفاء هذه المجردات وبطلان دعوى وجود ممكن ليس جسما ولا قائما بجسم: مما يعلم انتفاؤه بضرورة العقل كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالي وغيره بل قال طوائف من أهل النظر: إن الموجود منحصر في هذين النوعين وإن ذلك معلوم بضرورة العقل وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

والمقصود هنا: أن هذا الجواب الذي ذكره الأرموي مبني على هذا الأصل

ومضمونه: أن الرب تعالى موجب بالذات للعقول والنفوس الأزلية اللازمة لذاته لا فاعل لها بمشيئته وقدرته وهم يفسرون العقول بالملائكة فتكون الملائكة قديمة أ دخل فيه الخلق والإبداع هل هو أمر وجودي أو أمر عدمي؟ وهل الخلق هو المخلوق أو غير المخلوق؟

وفيها قولان مشهوران للناس والجمهور على أن الخلق ليس هو المخلوق هو قول أكثر العلماء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وهو قول أكثر أهل الكلام مثل طوائف من المعتزلة والرمجئة والشيعة وهو قول الكرامية وغيرهم وهو مذهب الصوفية ذكره صاحب التعرف في مذاهب التصوف المعروف ب الكلاباذي هو قول أكثر قمدماء الفلاسفة وطائفة من مأخريهم

وطائفة قالت: الخلق هو المخلوق وهو قول كثير من المعتزلة وقول الكلابية كالأشعري وأصحابه ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد ومالك وغيرهم

والمقصود هنا أنهم لما احتجوا على قدم العالم بأن كون الواجب مؤثرا في العالم غير ذاتيتهما لإمكان تعقلهما مع الذهول عنه ولأن كونه مؤثرا معلوم دون حقيقته ولأن المؤثرية نسبة بينهما فهي متأخرة ومغايرة

قال: وليس التأثير أمرا سلبيا لأنه نقيض قولنا: ليس بمؤثر فذلك الوجودي إن كان حادثا فتقر إلى مؤثر وكانت مؤثريته زائدة ولزم التسلسل وإن كان قديما ـ وهو صفة إضافية لا يعقل تحققها مع المضافين ـ فلزم قدمها

أجاب الرازي: بأن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر فتكون مؤثريته زائدة ويتسلسل

قلت: وهذا الجواب هو على قول من يقول: إن الخلق هو المخلوق وإنه ليس الفعل والإبداع والخلق إلا مجرد وقوع المفعول المنفصل عنه من غير زيادة أمر وجودي أصلا

فقال الأرموي: ولقائل أن يقول: التسلسل هاهنا واقع في الآثار لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر فتكون متأخرة على الأثر فاقتضت مؤثرية أخرى بعد الأثر حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية

قال: والمنكر هو التسلسل في المؤثرات

قال: بل الجواب عنه: أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى المتأخر عنه ولو بأزمنه كثيرة مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر

قلت: وقول الأرموي: لقائل أن يقول: التسلسل هاهنا واقع في الآثار لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعلقها على المؤثر والأثر فتكون متأخرة عن الأثر فاقتضت مؤثرية أخري بعد الأثر حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية :

يعترض عليه: بأن هذا يناقض قوله بعد هذا: بل الجواب عنه: أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإنه إن كان هذا القول صحيحا لم يلزم عن المؤثر وإن كانت الصفة العارضة للشيء لا تتوقف بل يكفي فيها تحقق المؤثرية فقط

ولكنه يجيب عن هذا بأن مقصودي أن ألزم غيري إذا قال: تتوقف المؤثرية على المؤثر والأثر بأن هذا تسلسل في الآثار لا في المؤثرات وهذا إلزام صحيح

لكن يقال له ك كان من تمام هذا الإلزام أن تقول: المؤثرية إذا كانت عندكم صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر كانت مستلزم لوجود الأثر فإن كونه مؤثرا بدون الأثر ممتنع وحينئذ فمعلوم أن الأثر يكون عقب التأثير الذي هو المؤثرية فإنه إذا خلق وجد المخلوق وإذا أثر في غيره حصل الأثر فالأثر يكون عقب التأثير وهو جعل المؤثرية متأخرة عن الأثر

وليس الأمر كذلك بل هي متقدمة على الأثر أو مقارنة له عند بعضهم ولم يقل أحد من العقلاء: إن المؤثرية متأخرة عن الأثر بل قال بعضهم: إن الأثر متأخر منفصل عنها وقال بعضهم: هو مقارن لها وقال بعضهم: هو متصل بها لا منفصل عنها ولا مقارن لها وهذا أصح الأقوال

ولكن على التقديرين: تكون المؤثرية حادثة بحدوث تمامها فيلزم أن يكون لها مؤثرية وتكون المؤثرية الثانية عقب الؤثرية الأولى وهذا مستقيم لا محذور فيه فتكون المؤثرية الأولى أوجبت كونه مؤثرا في الأثر المنفصل عنه وكونه مؤثرا في ذلك الأثر أوجب ذلك الأثر

وهذا على قول الجمهور الذين يقولون: الموجب يحصل عقب الموجب التام والأثر يحصل عقب المؤثر التام والمفعول يحصل عقب كمال الفاعلية والمعلول يحصل عقب كمال العلية

وأما من جعل الأثر مقارنا للمؤثر في الزمان كما تقوله طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم ـ فهؤلاء يلزم قولهم لوازم تبطله فإنه يلزم عند وجود المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة ومع المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة وهلم جرا وهذا تسلسل في تمام المؤثرية وهو من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار فإن التسلسل في تمام المؤثرية وهو من جنس التسلسل في المؤثرات أن يكون للمؤثر مؤثر معه لا يكون حال عدم المؤثر فإن الشيء لا يفعل في حال عدمه وإنما يفعل في حال وجوده فعند وجود التأثير لا بد من وجود المؤثر فإن المؤثر التام لا يكون حال عدم التأثير بل لا يكون إلا مع وجوده لكن نفس تأثيره يستعقب الأثر فإن جعل تمام المؤثرية مقارنا للأثر كان من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار

وقد يقول القائل: هذا الذي أراده الرازي بقوله: إن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر فتكون مؤثريته زائدة ويتسلسل فإنه قد يريد التسلسل المقارن لا المتعاقب فإنها إذا كانت زائدة افتقرت إلى مؤثر يقارنها كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والمتكلمين

والرازي قد يقول بهذا وحينئذ فهذا التسلسل باطل باتفاق العقلاء

فيقول القائل: هذا هو الإلزام الذي ألزم به الرازي الفلاسفة حيث قال: والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول لوجوب دوام واجب الوجود ودوام الثاني لدوام الأول وهلم جرا وإنه ينفي الحوادث أصلا

قال: فإن قلت: واجب الوجود عام الفيض يتوقف حدوث الأثر عنه على استعدادات القوابل فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول

قلت: حدوث العرض المعين لا بد له من سبب فذلك السبب إن كان حادثا عاد الكلام في سبب حدوثة ويلزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال وإن كان قديما لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر فكذلك في كلية العالم

فيقال: هذا الكلام الذي ذكره الرازي جيد مستقيم وهو إلزامهم الحوادث المشهودة التي قد يعبر عنها بالحوادث اليومية فإنه لا بد لها من مؤثر تام فإن كان قديما أمكن وجود الحادث عن القديم وبطل قولهم وإن كان حادثا فلا بد على قولهم أن يكون حادثا مع حدوث الأثر لا قبله لأنهم قد قرروا أن المؤثر التام يجب أن يكون أثره معه في الزمان لا يتأخر عنه فعلى قولهم هذا: يجب أن يكون المؤثر التام معه أثره والأثر معه مؤثره لا يتقدم زمان أحدهما على زمان الآخر وحينئذ فالحادث المعين يجب أن يكون مؤثره معه حادثا ويكون مؤثر ذلك المؤثر معه حادثا فيلزم وجود أسباب ومسببات هي علل ومعلومات لا نهاية لها في زمن واحد معلوم الفساد بضرورة العقل وقد اتفق العقلاء على امتناعه

واعتراض الأرموي عليه ساقط حينئذ

فإن ملخص قوله: إن اللازم حدوث المؤثر أو حدوث بعض شرائطه وهم يجوزون حدوث الشرائط والمعدات على سبيل التعاقب

فيقال لهم: هم يجوزون أن يكون بعد كل حادث حادث فيقولون: حدوث الحادث الأول شرط في حدوث الحادث الثاني والشرط موجود قبل المشروط

ولكن هذا يناقض قولهم: إن العلة التامة تستلزم أن يكون معلومها معها في الزمان وأن المعلوم يجب أن يكون موجودا مع تمام العلة لا يتأخر عن ذلك فإن موجب هذا أنه إذا حصل شرط تمام العلة حصل معه المعلول لا يتأخر عنه وكلما حدث حادث كان الشرط الحادث الذي به تمت عليه العلة حادثا معه لا قبله ثم ذلك الحادث أيضا يحدث الشرط الذي هو تمام علته معه لا قبله وهلم جرا فيلزم تسلسل تمام العلل في آن واحد وهو أن تمام علة هذا الحادث حدث في هذا الوقت وتمام علة هذا التمام حدث في هذا الوقت وهلم جرا

والتسلسل ممتنع في العلة وفي تمام العلة فكما لا يجوز أن يكون للعلة علة وللعلة علة إلى غير غاية فلا يجوز أن يكون لتمام العلة تمام ولتمام العلة تمام إلى غير غاية والتسلسل في العلل وفي تمامها متفق على امتناعه بين العقلاء معلوم فساده بضرورة العقل سواء قيل: إن المعلول يقارن العلة في الزمان أو قيل إنه يتعقب العلة

ولكن هؤلاء لا يتم قولهم بقدم شيء من العالم إلا إذا كان المعلول مقارنا للعلة التامة لا يتأخر عنها وحينئذ فيلزم أن يكون كل حادث تمام علته حادث معه وتمام علة ذلك التمام حادث معه وهلم جرا فيلزم وجود حوادث لا نهاية لها في آن واحد ليست متعاقبة وهذا مما يسلمون أنه ممتنع ويعلم بضرورة العقل أنه ممتنع وهو يشبه قول أهل المعاني أصحاب معمر

وإذ كان هذا لازما لقولهم لا محيد لهم عنه: لزم أن أحد أمرين: إما بطلان حجتهم وإما القول بأنه لا يحدث في العالم شيء والثاني باطل بالمشاهدة فتعين بطلان حجتهم

فتبين أن الذي ألزمهم إياه أبو عبد الله الرازي لا محيد عنه وأن الأرموي لم يفهم حقيقة الإلزام فأعترض عليه بما لا يقدح فيه

ولكن مثاب الغلط والاشتباه هنا: أن لفظ التسلسل إذا لم يرد به التسلسل في نفس الفعل فإنه يراد به التسلسل في الأثر بمعني أنه يحدث شيء ويراد به التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلا وهذا عند من يقول: إن المؤثر التام وأثره مقترنان في الزمان كما يقوله هؤلاء الدهرية فيقضي أن يكون ما يحدث من تمام المؤثر مقارنا للأثر لا يتقدم عليه فتبين به فساد حجتهم

وأما من قال: إن الأثر إنما يحصل عقب تمام المؤثر فيمكنه أن يقول بما ذكره الأرموي وهو أن كونه مؤثرا في الأثر المعين يكون مشروطا بحادث يحدث يكون الأثر عقبه ولا يكون الأثر مقارنا له

ولكن هذا يبطل قولهم بقدم شيء من العالم ويوافق أصل السنة وأهل الحديث الذين يقولون: لم يزل متكلما إذا شاء

فإنه على قول هؤلاء يقال: فعله لما يحدث من الحوادث مشروط بحدوث حادث به تتم مؤثرية المؤثر ولكن عقب حدوث ذلك التمام يحدث ذلك الحادث وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء أزلي إذ الأزلي لا يكون إلا مع تمام مؤثره ومقارنة الأثر للمؤثر زمانا ممتنعة

وحينئذ فإذا قيل: هو نفسه كاف في إبداع ما ابتدعه لا يتوقف فعله على شرط قيل: نعم كل ما يفعله لا يتوقف على غيره بل فعله لكل مفعول حادث يتوقف على فعل يقوم بذاته يكون المفعول عقبه وذلك الفعل أيضا مشروط بأثر حادث قبله

فقد تبين أن هذه المعقولات التي اضطرب فيها أكابر النظار وهي عندهم أصول العلم الإلهي إذا حققت غاية التحقيق: تبين أنها موافقة لما قاله أئمة السنة والحديث العارفون بما جاءت به الرسل وتبين أن خاصة المعقول خادمة ومعينة وشاهدة لما جاء به الرسول

قلت: المقصود هنا أن الأرموي ضعف الجواب بأن التسلسل المنكر هو تسلسل المؤثرات التي هي العلل وأما تسلسل الآثار فليس بمنكر وإذا كانت المؤثرية مسبوقة بمؤثرية لم يلزم إلا التسلسل في الآثار

وقوله: إن هذا يقتضي التسلسل في الآثار لا في المؤثرات كلام صحيح على قول من يقول: إن الأثر لا يجب أن يقارن المؤثر في زمان بل يتعقبه لأن المؤثرية المسبوقة بمؤثرية إنما حدث بالأولى كونها مؤثرة لا نفس المؤثر والفرق بين نفس المؤثر ونفس تأثيره هو الفرق بين الفاعل وفعله والمبدع وإبداعه والمقتضي واقتضائه والموجب وإيجابه وهو كالفرق بين الضارب وضربه والعادل وعدله والمحسن وإحسانه وهو فرق ظاهر

لكن احتجاجه بأن المؤثرية إذا كانت صفة إضافية يتوقف تحققها على المؤثر والأثر جاز أن تكون متقدمة على الأثر كما لزم أن تكون متأخرة عن الأثر :

ليس بمستقيم فإن كون الشيء مؤثرا في غيره لا يكون متأخرا عن أثره بل إما أن يكون مقارنا له أو سابقا عليه وإلا فوجود الأثر قبل التأثير ممتنع ولا يحتاج إلى هذا التقدير فإن كون التسلسل ها هنا واقعا في الآثار: أبين من أن يدل عليه بدليل صحيح من هذا الجنس فضلا عن أن يدل عليه بهذا الدليل

والجواب الذي ذكره ـ من أن الصفة العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها ـ هو جواب من يقول بأن التأثير قديم والأثر حادث

وهذا قول من يقبت لله تعالى صفة التخليق والتكوين في الأزل وإن كان المخلوق حادثا

وهو قول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأهل الكلام والصوفية وهو مبني على أن الخلق غير المخلوق وهذا قول أكثر الطوائف لكن منهم من صرح بأن الخلق قديم والمخلوق حادث ومنهم من صرح بتجدد الأفعال ومنهم من لا يعرف مذهبه في ذلك

فالذي ذكره البغي عن أهل السنة: إثبات صفة الخلق لله تعالى وأنه لم يزل خالقا وكذلك ذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذهب التصوف أنه مذهب الصوفية وكذلك ذكره الطحاوي وسائر أصحاب أبي حنيفة وهو قول جمهور أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وغيرهم وكذلك ذكره غير واحد من المالكية وذكر أنه قول أهل السنة والجماعة ومن هؤلاء من صرح بمعني الحركة لا بلفظها

وهؤلاء الذين يقولون بإثبات تأثير قديم هو الخلق والإبداع مع حدوث الأثر يجعلون ذلك بمنزلة وجود الإرادة القديمة مع حدوث المراد كما يقول بذلك الكلام وغيرهم من الصفاتية

فجواب أبي الثناء الأرموي موافق لقول هؤلاء الطوائف وهو قوله: الصفة المعارضة للشيء لا تتوقف إلا على وجود معروضها كما أن الإرادة القديمة لا تتوقف إلا على وجود المريد دون المراد عند من يقول بذلك وكذلك القدرة المتعلقة بالمستقبلات تتوقف على وجود القادر دون المقدور فكذلك قولهم في الخلق الذي هو الفعل وهو التأثير

ولكن هذا الجواب ضعيف فإن قوله: الصفة الإضافية العراضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى ا لتأخر عنه ولو بأزمنة كثيرة مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر يعترض عليه بأنك ادعيت دعوى كلية وأثبتها بمثال جزئي فادعيت أن كل صفة عارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها وهذه دعوى كلية ثم احتججت على ذلك بالتقدم العارض للمتقدم وهذا المثال لا يثبت القضية الكلية

ونظير هذا قولهم: ليس لمتعلق القول من القول صفة وجودية فإنه ليس لكون الشيء مذكورا أو مخبرا عنه صفة ثبوتية بذلك فإن المعدوم يقال: إنه مذكور ومخبر عنه فإن هذه دعوى والمثال جزئي

والتحقيق أن متعلق القول قد يكون له منه صفة وجودية كمتعلق التكوين والتحريم والإيجاب وقد يكون كمتعلق الإخبار

ثم يقال: الصفة العرضة للشيء بالنسبة إلى غيره: سواء كانت من الصفات الحقيقية المستلزمة للنسبة والإضافة كالإرادة والقدرة والعلم أو كانت من الصفات الإضافية عند من يجوز جواز إضافة محضة لا يستلزم صفة حقيقية قد تكون مستلزمة لوجود الاثنين المتضايفين المتباينين كالأبوة والنبوة فأن وجود أحدهما مستلزم لوجود الآخر وكذلك الفوقية والتحتية والتيامن والتياسر وكذلك العلة التامة مع معلومها فإنه ليس بينهما برزخ زمان وإن كان المعلوم لا يكون إلا متعقبا للعلة في الزمان لا يكون زمنه زمنها عند جمهور العقلاء كما قد بسط في موضع آخر

وأنتم احتججتم في غير موضع بأن القبول نسبة بين القابل والمقبول فلا يتحقق إلا مع تحققهما وجعلتم هذا مما احتججتم به على الكرامية في مسألة حلول الحوادث وقلتم: كونه قابلا للحدوث يجب أن يكون من لوازم ذاته وذلك إنما يمكن مع تحقق الحوادث في الأزل مع امتناع تحقق الحادث في الأزل :

فهذا التناقض من جنس قولكم إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل وقلتم: إذا كان قابلا للحوادث في الأزل لزم إمكان وجود الحوادث في الأزل فأي فرق بين إمكان القبول وإمكان المقدور وإمكان المفعول؟ وما تقدم الشيء على غيره وكونه مثل هذا قبل زمن هذا ولكن لا يلزم إذا لم يكن المتأخر مع المتقدم ألا يكون المقبول المقدور والأثر ممكنا مع وجود التأثير والقدرة والقبول حتى يقال: إنه خالق مع امتناع المخلوق وقادر مع امتناع المقدور وقابل مع امتناع المقبول

وأيضا فإن هذا الجواب بمنزلة جواب من يقول: إن الحوادث توجد بإرادة قديمة والمنازعون لهم ألزموهم بأن هذا ترجيح بلا مرجح كما تقدم

فهؤلاء يعترضون على جواب الأرموي وهؤلاء يعترضون عليه بأنه عند وجود الأثر الحادث: إما أن يتجدد تمام التأثير وإما أن لا يتجدد شيء لزم التسلسل كما تقدم وإن لم يتجدد لزم حدوث الحادث بدون سبب حادث وقد تقدم إبطاله بأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره

وكان الأرموي يمكنه أن يجيب ـ على أصله ـ بأن حدوث الأجسام موقوف على حدوث التصورات المتعاقبة في العقل أو النفس كما أجاب به عن الحجة الأولي

المقصود مما تقدم[عدل]

قلت: المقصود هنا أن يعرف نهاية ما ذكره هؤلاء في جواب الدهرية عن المعضلة الزباء والداهية الدهاء وما يخفي على العاقل الفاضل ما في هذه الأجوبة

ونحن ولله الحمد قد بينا الجواب عن جميع حجج الفلاسفة في غير هذا الموضع وبسطنا الكلام في ذلك وبينا كيف يمكن فساد استدلالهم من وجوه كثيرة وكيف تتمكن كل طائفة من المسلمين من قطعهم بجواب مركب من قولهم وقول طائفة أخرى من المسلمين حتى إذا احتاجوا إلى موافقة الدهرية على قدم الأفلاك وأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ونحو ذلك مما فيه تكذيب للرسول أو إلى موافقة طائفة أخري من طوائف المسلمين على بعض أقوالهم التي ليس فيها تبليغ للرسول بل ولا مخالفة لصريح العقل كان موافقتهم لطائفة من طوائف المسلمين على ما لا يكذبون به الرسول ولا يخالفون به المعقول أولى بهم من موافقة الدهرية على ما فيه تكذيب للرسل ومخالفة لصريح العقل وهذا مما تبين به أنه ليس في العقل الصريح ما يخالف النصوص الثابتة عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهو المقصود في هذا المقام

مثال في الإجابة على الفلاسفة الرد على قولهم بقدم العالم الكلام على امتناع التسلسل[عدل]

مثال الأجوبة التي يجاب بها هؤلاء الفلاسفة أن يقال: حجتكم الأولى على قدم العالم مبنية على مقدمتين: إحداهما: أن الممكن لا بد له من مرجح تام وامتناع التسلسل ولفظ التسلسل فيه إجمال قد تقدم الكلام عليه فإن التسلسل هنا: هو توقف جنس الحادث على الحادث وهذا متفق على امتناعه والتسلسل في غير هذا الموضع يراد به التسلسل في الفاعلين وفي الآثار والتسلسل في تمام الفاعلين هو من التسلسل في الفاعلين

فيقال لكم: التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل وفي تمامها أما تسلسل في الشروط أو الآثار: ففيه قولان للمسلمين وأنتم قائلون بجوازاه

فنقول: إما أن يكون هذا التسلسل جائزا أو ممتنعا فإن كان ممتنعا امتنع تسلسل الحوادث ولزم أن يكون لها أول وبطل قولكم بحوادث لا أول لها وأمتنع كون حركات الأفلاك أزلية وهذا يبطل قولكم

ثم نقول: العالم لو كان أزليا فإما أن يكون لا يزال مشتملا على حوادث: سواء قيل إنها حادثة في جسم أو عقل أو يقال: بل كان في الأزل ليس فيه حادث كما يقال: إنه كان جسما ساكنا فإن كان الأول لزم تسلسل الحوادث ونحن نتكلم على تقدير امتناع تسلسلها فبطل هذا التقدير وإن كانت الحوادث حدثت فيه بعد أن لم تكن لزم جواز صدور الحوادث عن قديم لم يتغير وهذا يبطل حجتكم ويجوب جواز حدوث الحوادث بلا حدوث سبب

وإن قلتم: إن التسلسل في الآثار جائز ـ وهو قولكم ـ بطل استدلالكم بهذه الحجة على قدم شيء من العالم فإنها لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم وإنما تدل على وجود دوام كون الرب فاعلا

فيقال لكم حينئذ: لم لا يجوز أن تكون الأفلاك أو كل ما يقدر موجودا في العالم أو كل ما يحدثه الله: موقوفا على حادث بعد حادث ويكون مجموع العالم الموجود الآن كالشخص الواحد من الأشخاص الحادثة؟

فتبين أن احتجاجكم على مطلوبكم باطل سواء كان تسلسل الحوادث جائزا أو لم يكن بل إذا لم يكن جائزا بطلت الحجة وبطل المذهب المعروف عندكم وهو أن حركات الأفلاك أزلية فإن هذا إنما يصح إذا كان تسلسل الحوادث جائزا فإذا كان تسلسلها ممتنعا لزم أن يكون لحركة الفلك أول وإن كان تسلسل الحوادث جائزا لم يكن في ذلك دلالة على قدم شيء من العالم لجواز أن يكون حدوث الأفلاك موقوفا على حوادث قبله وهلم جرا

فإن قلتم: هذا يستلزم قيام الحوادث المتسلسلة بالقديم

كان الجواب من وجوه: أحدها: أن هذا هو قولكم ليس هذا ممتنعا عندكم فإن الفلك قديم أزلي عندكم مع أنه جسم تقوم به الحوادث

الثاني: أنه يجوز أن تكون تلك الحوادث ـ إذا امتنع قيامها بواجب الوجود ـ قائمة بمحدث بعد محدث فإن كان صدور هذه الحوادث المتسلسلة عن الواجب القديم ممكنا بطلت حجتكم وإن كان ممتنعا بطل مذهبكم وحجتكم أيضا فإن قولكم: إن الحوادث الفلكية المتسلسلة صادرة عن قديم أزلي

الثالث: أنا نتكلم على تقدير إمكان تسلسل الحوادث وعلى هذا التقدير فلا بد من التزام أحد أمرين: إما قيام الحوادث بالواجب وإما تسلسل الحوادث عنه بدون قيام حادث به

الرابع أن يقال: قيام الحوادث بالقديم: إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا لزم حدوث الأفلاك وهو المطلوب وإن كان جائزا بطلت هذه الحجة

الخامس: أن من قال أهل الكلام بأن: القديم لا تحله الحوادث إنما قاله لأن تسلسل الحوادث في المحل يستلزم حدوثه عندهم فإن كان قولهم هذا صحيحا لزم حدوث الأفلاك والنفوس وكل ما يقوم به حوادث متسلسلة وهو يستلزم بطلان حجتكم لأنه حينئذ يمكن صدور العالم م تكن أو ما زال يحدث شيء بعد شيء والأول يستلزم حدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا باطل كما ذكرتموه في الحجة لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح والثاني: يمتنع أن يكون في الممكنات شيء قديم وهو نقيض مذهبكم

فإذا قالوا: نحن ما أحلنا قيام الحوادث بالواجب لكون القديم لا تحله الحوادث ـ فإن ذلك جائز عندنا ـ بل لأنه لا تقوم به الصفات

قيل لهم: فحينئذ سهلت القضية فإن جماهير أهل الملل من المسلمين وغيرهم بل ـ وجمهور الفلاسفة ـ يخالفونكم في هذا الأصل وقولكم في نفي الصفات أضعف بكثير من قول من قال: القديم لا تحله الحوادث

ولهذا كان كثير من المسلمين ـ كالكلابية ومن وافقهم ـ يقولون بإثبات الصفات للواجب دون قيام الحوادث به فإذا لم يكن لكم حجة على نفي قيام الحوادث به إلا ما هو حجة لكم على نفي الصفات كانت الأدلة على بطلان قولكم كثيرة جدا

وتبين حينئذ فساد قولكم بنفي الصفات وجعل المعاني المتعددة شيئا واحدا وأن قولكم: إن العاشق والمعشوق والعشق والعاقل والمعقول والعقل: شيء واحد وإن العالم هو العلم والقدرة هي الإرادة من أفسد الأقوال كما قد بين فيما تقدم لما نبهنا على تلبيسكم على المسلمين وتكلمنا على ما تسمونه تركيبا وأنه ـ بتقدير موافقتكم على أصطلاحكم الفاسد ـ لا حجة لكم على نفيه وهكذا تجابون على حجة التأثير

وقولهم: إن كان التأثير قديما لزم قدم الأثر وأن كان محدثا فإن كان المحدث جنس التأثير ـ وقيل بجواز ذلك ـ كان للحوادث ابتداء وبطل مذهبكم وإن قيل بامتناعه ـ وهو أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء ـ فهذا ممتنع باتفاق العقلاء وقد يسمى تسلسلا ودوارا وإن كان المحدث التأثير في شيء معين بعد حدوث معين قبله لزم التسلسل وقيام الحوادث بالقديم

فإنه يقال لهم: إما أن يكون التأثير أمرا وجوديا وإما أن لا يكون وجوديا فإن لم يكن وجوديا بطلت الحجة وهو جواب الرازي وهو جواب من يقول: الخلق نفس المخلوق وإن كان وجوديا فإما أن يكون قائما بذات المؤثر أو بغيره فإن كان قائما بذاته لزم جواز قيام الأمور الوجودية بواجب الوجود وهذا قول مثبتة الصفات

وعلى هذا التقدير فالتسلسل في الآثار والشروط إن كان ممكنا بطلت هذه الحجة وأمكن تسلسل التأثيرات القائمة بالقديم وإن كان ممتنعا لزم جواز حدوث الحوادث عن تأثر قديم ن فتبطل حجتكم

وإن كان التأثير ـ أو تمامه ـ قائما بغيره لزم جواز التسلسل في الشروط وأن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا أمكن تسلسل التأثير فبطلت الحجة

وذلك لأن التقدير أن تمام التأثير قائم بغير المؤثر وعلى هذا التقدير فإن لم يكن التسلسل ممكنا كان هناك تأثير قديم بغير ذات الله تعالى وهذا باطل لم يقل له أحد وإن قدر إمكانه أمكن حدوث الأفلاك عنه وهو المطلوب

ومما يجابون به عن حجة التأثير أن يقال أيضا: التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوث الأفلاك عن تأثير مسبوق بتأثير آخر وإن كان ممتنعا لزم إما حدوث الحوادث عن تأثير قديم أو كون التأثير عدميا وعلى التقديرين يبطل قولكم

وذلك لأن الحوادث مشهودة لا بد لها من إحداث محدث وذلك الإحداث هو التأثير فإن كان عديما بطلت الحجة وإن كان موجودا فإن كان قديما لزم حدوث الحوادث عن تأثير قديم فتبطل الحجة وإن كان التأثير محدثا ـ والتقدير أن التسلسل ممتنع ـ فيلزم أن يكون حدث بتأثير محدث فتبطل الحجة أيضا وهو جواب لا مخلص لهم عنه به ينقطع شغبهم

وأما أن يجابوا بقول يخالف فيه أكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم ويجعل خلق الله عز وجل للسماوات والأرض مبنيا على مثل هذا القول الذي هو جواب المعارضة: فهذا لا يرضى به عقل ولا ذو دين

بل يحب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام الذين يزعمون أنهم يبينون العلم واليقين بالأدلة والبراهين وإنما يستفيد الناظر في كلامهم كثرة الشكوك والشبهات وهم في أنفسهم عندهم شك وشبهة فيما يقولون: إنه برهان قاطع ولهذا يقول أحدهم في هذا الموضع: إنه برهان قاطع وفي موضع آخر يفسد ذلك البرهان

والذين يعارضون الثابت في الكتاب والسنة بما يزعمون أنه من العقليات القاطعة إنما يعارضونه يمثل هذه الحجج الداحضة

فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ولا وفي بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين

ولولا أنا قد بسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع ـ وهذا موضع تنبيه وإشارة لا موضع بسط ـ لكنا نبسط الكلام في ذلك ولكن نبهنا على ذلك

ملخص الرد على حجة التأثير[عدل]

وملخص ذلك في حجة التأثير الذي يسمى الخلق والإبداع والتكوين والإيجاب والاقتضاء والعلية والمؤثرية ونحو ذلك ـ أن يقال: التأثير في الحوادث: إما أن يكون وجوديا أو عدميا وإذا كان وجوديا: فإما إن يكون قديما أو حادثا وعلى كل تقدير فحجة الفلاسفة باطلة

أما إن كان عدميا فظاهر لأنه لا يستلزم حينئذ قدم الأثر إذ العدم لا يستلزم شيئا موجودا ولأنه إذ جاز أن يفعل الفاعل للمحدثات بعد أن لم يفعلها من غير تأثير وجودي أمكن حدوث العالم بلا تأثير وجودي كما هو قول الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وكثير من المعتزلة

وإن كان وجوديا فإما أن يكون قديما أو محدثا فإن كان التأثير قديما فإما أن يقال بوجوب كون الأثر متصلا بالتأثير والمكون متصلا بالتكوين وإما أن لا يقال بوجوب ذلك وإما أن يقال بوجوب المقارنة وإما أن يقال بإمكان انفصال الأثر عن التأثير

فإن قيل بوجوب ذلك فمعلوم حينئذ بالضرورة أن في العالم حوادث فيمتنع أن يكون التأثير في كل منها قديما بل لا بد من تأثيرات حادثة ويمتنع حينئذ أن يكون في العالم قديم لأن الأثر إنما يكون عقب التأثير والقديم لا يكون مسبوقا بغيره

وإن قيل: إن الأثر يقارن المؤثر فيكون زمانهما واحدا لزم أن لا يكون في العالم شيء حادث وهو خلاف المشاهدة

فإذا قيل بأن: التأثير لم يزل في شيء بعد شيء كان كل من الآثار حادثا ولزم حدوث كل ما سوى الله وإن كان كل حادث مسبوقا بحادث

وإن قيل: بل يتأخر الأثر عن التأثير القديم لزم إمكان حدوث الحوادث عن تأثير قديم كما هو قول كثير من أهل النظر وهو قول من يقول بإثبات الصفات الفعلية لله تعالى وهي صفة التخليق ويقول: إنها قديمة وهو قول طوائف من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد والصوفية وأهل الكلام وغيرهم

وإن كان التأثير محدثا فلا بد له من محدث فإن قيل بجواز حدوث الحوادث بإرادة قديمة أو إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح: جاز أن يحدث التأثير قائما بالمؤثر بقدرته أو بقدرته ومشيئته القديمة كما يجوز من يجوز وجود المخلوقات البائنة عنه بمجرد قدرته أو لمجرد قدرته ومشيئته القديمة

وإن قيل: لا يمكن حدوث الحوادث إلا بسبب حادث كان التأثير القائم بالمؤثر محدثا وإن كان التأثير محدثا فلا بد له من محدث وإحداث هذا التأثير تأثير وحينئذ فيكون تسلسل التأثيرات ممكنا وإذا كان ممكنا بطلت الحجة فظهر بطلانها على كل تقدير

وصاحب الأربعين وأمثاله من أهل الكلام إنما لم يجيبوا عنها بجواب قاطع لأن من جملة مقدماتها أن التسلسل ممتنع وهم يقولون بذلك والمحتج بها لا يقول بامتناع التسلسل فإن الدهرية يقولون بتسلسل الحوادث فإذا أجيبوا عنها بجواب مستقيم على كل قول كأن خيرا من أن يجابوا عنها بجواب لا يقول به إلا بعض طوائف أهل النظر وجمهور العقلاء يقولون: إنه معلوم الفساد بالضرورة

وقد ذكر الرازي هذه الحجة في غير هذا الموضع وذكر فيها أن القول بكون التأثر أمرا وجوديا أمر معلوم بالضرورية ثم أخذ يجيب عن ذلك بمنع كونها وجودية لئلا يلزم التسلسل

ومن المعلوم أن المقدمات التي يقول المنازع إنها ضرورية لا يجاب عنها بأمر نظري بل إن كان المدعي لكونها ضرورية أهل مذهب معين يمكن أنهم تواطأوا على ذلك القول وتلقاه بعضهم عن بعض أمكن فساد دعواهم وتبين أنها ليست ضرورية وإن كن مما تقر به الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا موافقة من بعضهم لبعض كالموافقة التي تحصل في المقالات الموروثة التي تقولها الطائفة تبعا لكبيرها لم يمكن دفع مثل هذه فإنه لو دفعت الضروريات التي يقر بها أهل الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا تشاعر لم يمكن إقامة الحجة على مبطل وهذا هو السفسطة التي لا يناظر أهلها إلا بالفعل فكل من جحد القاضايا الضرورية المستقرة في عقول بني آدم التي لم ينقلها بعضهم عن بعض كان سوفسطائيا

فإن ادعى المدعي أن التأثير أمر وجودي وذلك معلوم بالضرورة لم يقل له: بل هو عدمي لئلا يلزم التسلسل فإن التسلسل في الآثار فيه قولان مشهوران لمنظار المسلمين وغيرهم

والقول بجوازه هو قول طوائف: كطائفة من المعتزلة يسمون أصحاب المعاني من أصحاب معمر بن عباد الذين يقولون: للخلق إلى ما لا نهاية له لكن هؤلاء يثبتون تسلسلا في آن واحد وهو تسلسل في تمام التأثير وهو باطل وقول طوائف من أهل السنة والحديث كالذين يقولون: إن الحركة من لوازم الحياة وكل حي متحرك والذين يقولون: إنه لم يزل متكلما إذا شاء وغير هؤلاء

فإذا كان فيه قولان فإما أن يكون جائزا أو يكون العلم بامتناعه نظيرا خفيا

بل الجواب القاطع يكون بوجوه قد بسطناها في غير الموضع

منها ما ذكرناه وهو أن يقال: التأثير سواء كان وجوديا أو عديما وسواء كان التسلسل ممكنا أو ممتنعا فاحتجاجهم به على قدم العالم احتجاج باطل

أو يقال: إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوثه بتأثير حادث وإن لزم التسلسل وإن كان ممتنعا لزم حدوث الحوادث بدون تسلسل التأثير وهو يبطل الحجة فالحجة باطلة على التقديرين وهذا جواب مختصر جامع

فإن الحجة مبناها على أنه لا بد للحوادث من تأثير وجودي فإن كان محدثا لزم التسلسل وهو ممتنع وإن كان قديما لزم قدم الأثر

فيقال له: إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوثه عن تأثير حادث وذلك عن تأثير حادث وهلم جرا وامتناع التسلسل مقدمة من مقدمات الدليل فإذا بطلت مقدماته بطل إن كان التسلسل ممتنعا لزم أن تكون الحوادث حدثت عن تأثير وجودي قديم وحينئذ فيمكن حدوث العالم بدون تسلسل الحوادث عن تأثير قديم وهو المطلوب

وإن شئت أدخلت المقدمة الأولى في التقدير أيضا كما تقدم التنبيه عليه ن حتى يظهر الجواب على كل تقدير وعلى قول كل طائفة من نظار المسلمين إذ كان منهم من يقول: التأثير في المحدثات وجودي قديم ومنهم من يقول هو أمر عدمي ومنهم من يقول بتسلسل الآثار الحادثة

والدهري بنى حجته عل أنه لا بد من تأثير وجودي قديم وأنه حينئذ يلزم قدم الأثر

فيجاب على كل تقدير فيقال: التأثير إن كان عدميا بطلت المقدمة الأولى وجاز حدوث الحوادث بدون تأثير وجودي وإن كان وجوديا ـ وتسلسل الحوادث ممكن ـ أمكن حدوثه بآثار متسلسلة وبطل قولك بامتناع تسلسل الآثار وإن كان تسلسل الآثار ممتنعا لزم: إما التأثير القديم وإما التأثير الحادث بالقدرة أو بالقدرة والمشيئة القديمة وحينئذ فالحوادث مشهودة فتكون صادرة عن تأثير قديم أو حادث وإذا جاز صدور الحوادث عن تأثير قديم أو حادث بطلت الحجة

وأصل هذا الكلام: أنا نشهد حدوث الحوادث فلا بد لها من محدث هو المؤثر وإحداثه هو التأثير فالقول في إحداث هذه الحوادث والتأثير فيها كالقول في إحداث العالم والتأثر فيه

وهؤلاء الدهرية بنوا هذه الحجة على أنه لا بد من تأثير حادث فيفتقر إلى تأثير حادث كما بنوا الأولى على أنه لا بد من سبب حادث فمأخذ الحجتين من مشكاة التسلسل في الآثار: القائلون بقدم العالم والقائلون بحدوثه كما يجوزه طوائف من أهل الملل أو أكثر أهل الملل

فإذا أجيبوا على التقديرين وقيل لهم: إن كان التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وتلك وإن لم يكن جائزا بطلت أيضا هذه وتلك كان هذا جوابا قاطعا

ولكن لفظ التسلسل فيه إجمال واشتباه كما في لفظ الدور فإن الدور يراد به: الدور القبلي وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء ويراد به الدور المعي الاقتراني وهو جائز بصريح العقل واتفاق العقلاء ومن أطلق امتناع الدور فمراده الأول أو هو غالط في الإطلاق

ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهذا هو التسلسل الذي أمر التبي بأن يستعاذ بالله منه وأمر بالانتهاء عنه وأن يقول القائل: آمنت بالله ورسله

كما في الصحيحين [ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ] وفي رواية: [ لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق من خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله ] ورواية: [ ورسوله ] وفي رواية: [ لا يزالون بك يا أبا هريرة حتى يقولوا: هذا الله فمن خلق الله؟ قال: فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم به ثم قال: قوموا قوموا صدق خليلي ]

وفي الصحيح أيضا [ عن أنس بن مالك عن رسول قال قال الله: إن أمتك لا يزالون يسألون: ما كذا؟ وما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ ]

وهذا التسلسل في المؤثرات والفاعلين يقترن به تسلسل آخر وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير وهو نوعان: تسلسل في جنس الفعل وتسلسل في الفعل المعين

فالأول ـ مثل أن يقال: لا يفعل الفاعل شيئا أصلا حتى يفعل شيئا معينا أو لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء فهذا أيضا بالطل بصريح العقل واتفاق العقلاء

وهذا هو الذي يصح أن يجعل مقدمة في دوام الفاعلية بأن يقال: كل الأمور المعتبرة في كونه فاعلا: إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن حدث فيها شيء فالقول في حدوث ذلك الحادث كالقول في حدوث غيره فالأمور المعتبرة في حدوث ذلك الحادث: إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن كانت محدثة لزم أن لا يحدث شيء من الأشياء حتى يحدث شيء

وهذا جمع بين النقيضين وقد يسمى هذا دورا ويسمى تسلسلا وهذا هو الذي أجاب عنه من أجاب بالمعارضة بالحوادث المشهودة

وجوابه أن يقال: أتعني بالأمور المعتبرة الأمور المعتبرة في جنس كونه فاعلا أم الأمور المعتبرة في فعل شيء معين؟ أما الأول فلا يلزم من دوامها دوام فعل شيء من العالم وأما الثاني: فيجوز أن يكون كل ما يعتبر في حدوث المعين كالفلك وغيره حادثا ولا يلزم من حدوث شرط الحادث المعين هذا التسلسل بل يلزم منه التسلسل المتعاقب في الآثار وهو أن يكون قبل ذلك الحادث حادث وقبل ذلك الحادث حادث وهذا جائز عندهم وعند أئمة المسلمين وعلى هذا فيجوز أن يكون كل ما في العالم حادثا مع التزام هذا التسلسل الذي يجوزونه

وقد يراد بالتسلسل في حدوث الحادث العين أو في جنس الحوادث: أن يكون قد حدث مع الحادث تمام مؤثره وحدث مع حدوث تمام المؤثر وهلم جرا

وهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير

فقد تبين أن التسلسل إذا أريد به أن يحدث مع كل حادث حادث يقارنه يكون تما تأثيره مع الآخر حادث وهلم جرا فهذا ممتنع من جنس قول معمر في المعاني التسلسلة وإن أريد به أن يحدث قبل كل حادث حادث وهلم جرا فهذا فيه قولان وأئمة المسلمين وأئمة الفلاسفة يجوزونه

وكما أن التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير يراد به التسلسل المتعاقب شيئا بعد شيء ويراد به التسلسل المقارن شيئا مع شيء فقولنها أيضا: إن المؤثر يستلزم أثره يراد به أن يكون عقبه فهذا هو الاستلزام المعروف عند جمهور العقلاء وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء قديم

والناس لهم في أستلزام المؤثر أثره قولان :

فمن قال: إن الحادث يحدث في الفاعل بدون سبب حادث فإنه يقول: المؤثر التام لا يجب أن يكون أثره معه بل يجوز تراخيه ويقول: أن القادر المختار يرجع أحد مقدوريه بمجرد قدرته التي لم تزل أو بمجرد مشيئته التي لم تزل وإن لم يحدث عند وجود الحادث سبب

والقول الثاني: أن المؤثر التام يستلزم أثره لكن في معنى هذا الاستلزام قولين: أحدهما: أن يكون معه بحيث يكون زمان الأثر زمان المؤثر فهذا هو الذي تقوله المتفلسفة وهو معلوم الفساد بصريح العقل عند جمهور العقلاء

والثاني: أن يكون الأثر عقب تمام المؤثر وهذا يقر به جمهور العقلاء وهو يستلزم أن لا يكون في العالم شيء قديم بل كل ما فعله القديم الواجب بنفسه فهو محدث

وإن قيل: إنه لم يزل فعالا وإن قيل بدوام فاعليته فذلك لا يناقض حدوث كل ما سواه بل هو مستلزم لحدوث كل ما سواه فإن كل مفعول فهو محدث فكل ما سواه مفعول فهو محدث مسبوق بالعدم فإن المسبوق بغيره سبقا زمانيا لا يكون قديما والأثر المتعقب لمؤثره الذي زمانه عقب زمان تمام مؤثره ليس مقارنا له في الزمان بل زمنه متعقب لزمان تمام التأثير كتقدم بعض أجزاء الزمان على بحض وليس في أجزاء الزمان شيء قديم وإن كان جنسه قديما بل كل جزء من الزمان مسبوق بآخر فليس من التأثيرات المعينة تأثير قديم كما ليس من أجزاء الزمان جزء قديم

فمن تدبر هذه الحقائق وتبين له ما فيها من الاشتباه والالتباس: تبين له محارات أكابر النظار في هذه المهامه التي تحار فيها الأبصار والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

عمدة الفلاسفة في قدم العالم على مقدمتين

وحقيقة الأمر: أن هؤلاء الفلاسفة بنوا عمدتهم في قدم العالم على مقدمتين: إحداهما: أن الترجيح لا بد له من مرجح تام يجب به

والثانية أنه لو حدث الترجيح للزم التسلسل وهو باطل

وهم متناقضون قائلون بنقيض هاتين المقدمتين

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55