درء تعارض العقل والنقل/4

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله فقد دعا إلى بدعة وضلالة والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وقد قال تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام: 135 ] وقال تعالى: { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف: 3 ] و[ كان النبي يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ] وقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في سياق حجة الوداع: [ إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله تعالى ] وفي الصحيح: [ أنه قيل لعبد الله بن أبي أوفى: هل وصى رسول الله بشيء؟ قال: لا قيل: فلم وقد كتب الوصية على الناس؟ قال: وصى بكتاب الله ]

وقد قال تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [ البقرة: 213 ] وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [ النساء: 59 ] ومثل هذا كثير

وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له وفي مقام النظر أيضا فعليه أن يعتصم أيضا بالكتاب والسنة ويدعوا إلى ذلك وله أن يتكلم مع ذلك ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة فإن الله سبحانه وتعالى ضرب الأمثال في كتابه وبين بالبراهين العقلية توحيده وصدق رسله وأمر المعاد وغير ذلك من أصول الدين وأجاب عن معارضة المشركين كما قال تعالى: { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } [ الفرقان: 33 ]

وكذلك كان رسول الله في مخاطباته ولما قال: [ ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن كثير؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخليا به فالله أعظم ] ولما سأله أيضا عن إحياء الموتى ضرب له المثل بإحياء النبات

وكذلك السلف فروى عن ابن عباس أنه لما أخبر بالرؤية عارضه السائل بقوله تعالى { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام: 103 ] فقال له: ألست ترى السماء فقال: بلي قال: أتراها كلها؟ قال: لا فبين له أن نفي الإدراك لا يقتضي نفي الرؤية

وكذلك الأئمة كالإمام أحمد في رده على الجهمية لما بين دلالة القرآن على علوه تعالى واستوائه على عرشه وأنه مع ذلك عالم بكل شيء كما دل على ذلك قوله تعالى: { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } [ الحديد: 4 ] فبين أن المراد بذكر المعية أنه عالم بهم كما افتتح الآية بالعلم وختماها العلم وبين سبحانه أنه مع علوه على العرش يعلم ما الخلق عاملون كما في حديث العباس بن عبد المطلب الذي رواه داود وغيره عن النبي قال فيه [ والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه ] فبين الإمام أحمد إمكان ذلك بالاعتابر العقلي وضرب مثلين ولله المثل الأعلى فقال: لو أن رجلا في يده قوارير فيها ماء صاف لكان بصره قد أحاط بما فيها مع مباينته فالله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بصره بخلقه وهو مستو على عرشه وكذلك لو أن رجلا بنى دارا لكان مع خروجه عنها يعلم ما فيها فالله الذي خلق العالم يعلمه مع علوه عليه كما قال تعالى { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك: 14 ]

وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضة بالعقل وادعى أن العقل يعارض النصوص فإنه قد يحتاج إلي حل شبهته وبيان بطلانها فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظا مجملة مثل أن يقول: لو كان فوق العرش لكان جسما أو لكان مركبا وهو منزه عن ذلك ولو كان له علم وقدرة لكان جسما وكان مركبا وهو منزه عن ذلك ولو خلق واستوى وأتى لكان تحله الحوادث وهو منزه عن ذلك ولو قامت به الصفات لحلته الأعراض وهو منزه عن ذلك

فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟

فإن أراد بها حقا وباطلا قبل الحق ورد الباطل مثل أن يقول: أنا أريد بنفي الجسم نفي قيامه بنفسه وقيام الصفات به ونفي كونه مركبا ن فنقول: هو قائم بنفسه وله صفات قائمة به وأنت سميت هذا تجسيما لم يجز أن أدع الحق الذي دل عليه صحيح المنقول وصريح المعقول لأجل تسميتك أنت له بهذا

وأما قولك: ليس مركبا فإن أردت به أنه سبحانه ركبه مركب أو كان متفرقا فتركب وأنه يمكن تفرقه وانفصاله فالله تعالى منزه عن ذلك وإن أردت أنه موصوف بالصفات مباين للمخلوقات فهذا المعني حق ولا يجوز رده لأجل تسميتك له مركبا فهذا ونحوه مما يجاب به

وإذا قدر أن المعارض أصر على تسمية المعاني الصحيحة التي ينفيها بألفاظه الاصطلاحية المحدثة مثل أن يدعي أن ثبوت الصفات المخلوقات يستحق أن يسمى في اللغة تجسيما وتركيبا ونحو ذلك قيل له: هب أنه سمي بهذا الاسم فنفيك له أما أن يكون بالشرع وإما أن يكون بالعقل

وأما الشرع فليس فيه ذكر هذه الأسماء في حق الله لا بنفي ولا إثبات ولم ينطق أحد من سلف الأمة وأئمتها في حق الله تعالى بذلك لا نفيا ولا إثباتا بل قول القائل: إن الله جسم أو ليس بجسم أو جوهر أو ليس بجوهر أو متحيز أو ليس بمتحيز أو في جهة أو ليس في جهة أو تقوم به الأعراض والحوادث أو لا تقوم به ونحو ذلك ـ كل هذه الأقوال محدثة بين أهل الكلام المحدث لم يتكلم السلف والأئمة فيها لا بإطلاق النفي ولا بإطلاق الإثبات بل كانوا ينكرون على أهل الكلام الذين يتكلمون بمثل هذا النوع في حق الله تعالى نفيا وإثباتا

وإن أردت أن نفي ذلك معلوم بالعقل وهو الذي تدعيه النفاة ويدعون أن نفيهم المعلوم بالعقل عارض نصوص الكتاب والسنة

قيل له: فالأمور العقلية المحضة لا عبرة فيها بالألفاظ فالمعني إذا كان معلوما إثباته بالعقل لم يجز نفيه لتعبير المعبر عنه بأي عبارة بها وكذلك إذا كان معلوما انتفاؤه بالعقل لم يجز إثباته بأي عبارة عبر بها المعبر وبين له بالعقل ثبوت المعنى الذي نفاه وسماه بألفاظه الاصطلاحية

وقد يقع في محاورته إطلاق هذه الألفاظ لأجل اصطلاح ذلك النافي ولغته وإن كان المطلق لها لا يستجيز إطلاقها في غير هذا المقام كما إذا قال الرافضي: أنتم ناصبة تنصبون العداوة لآل محمد فقيل له: نحن نتولى الصحابة والقرابة فقال: لا ولاء إلا ببراء فمن لم يتبرأ من الصحابة لم يتول القرابة فيكون قد نصب لهم العداوة

فيقال له: هب أن هذا يسمي نصبا فلم قلت: إن هذا محرم؟ فلا دلالة لك علي ذم النصب بهذا التفسير كما لا دلالة علي ذم الرفض بمعنى موالاة أهل البيت إذ كان الرجل مواليا لأهل البيت كما يحب الله ورسوله ومنه قول القائل :

إن كان رفضا حب آل محمد... فليشهد الثقلان أني رافضي

وقول القائل أيضا :

إذا كان نصبا ولاء الصحاب... فإني كما زعموا ناصبي

وإن كان رفضا ولاء الجميع... فلا برح الرفض من جانبي

الألفاظ نوعان[عدل]

النوع الأول[عدل]

والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان نوع مذكور في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل الإجماع فهذا يجب اعتبار معناه وتعليق الحكم به فإن كان المذكور به مدحا استحق صاحبه المدح وإن كان ذما استحق الذم وإن أثبت شيئا وجب إثباته وإن نفي شيئا وجب نفيه لأن كلام الله حق وكلام رسوله حق وكلام أهل الإجماع حق وهذا كقوله تعالى { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص: 1 - 4 ] وقوله تعالى { هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن } [ الحشر: 22 - 23 ] ونحو ذلك من أسماء الله وصفاته

وكذلك قوله تعالى { ليس كمثله شيء } [ الشورى: 11 ] وقوله تعالى { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام: 103 ] وقوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } [ القيامة: 22 - 23 ] وأمثال ذلك مما ذكره الله تعالى ورسوله فهذا كله حق

ومن دخل في اسم مذموم في الشرع كان مذموما كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك ومن دخل في اسم محمود في الشرع كان محمودا كاسم المؤمن والتقي والصدق ونحو ذلك

النوع الثاني[عدل]

وأما الألفاظ التي ليس له أصل في الشرع فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها إلا أن يبين أنه يوافق الشرع والألفاظ التي تعارض بها النصوص هي من هذا الضرب كلفظ الجسم والحيز والجهةوالجوهروالعرض فمن كانت معارضته بمثل هذه الألفاظ لم يجز له أن يكفر مخالفه إن لم يكن قوله مما يبين الشرع أنه كفر لأن الكفر حكم شرعي متلقي عن صاحب الشريعة والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرأ في الشرع كما أنه ليس كل ما كان صوابا في العقل تجب في الشرع معرفته

ومن العجب قول من يقول من أهل الكلام: إن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم الكلام الذي يعرف بمجرد العقل وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات عندهم وهذه طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب الإرشاد وأمثالهم

فيقال لهم: هذا الكلام تضمن شيئين: أحدهما: أن أصول الدين هي التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع والثاني: أن المخالف لها كافر وكل من المقدمتين وإن كانت باطلة فالجمع بينهما متناقض وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم إلا بالعقل يكفر وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليهم وسلم فيما أخبر به أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم

وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول وهذا ظاهر على قول من لا يوجب شيئا ولا يحرمه إلا بالشرع فإنه لو قدر عدم الرسالة لم يكن كفر محرم ولا إيمان واجب عندهم ومن أثبت ذلك بالعقل فإنه لا ينازع أنه بعد مجيء الرسول تعلق الكفر والإيمان بما جاء به لا بمجرد ما يعلم بالعقل فكيف يجوز أن يكون الكفر معلقا بأمور لا تعلم إلا بالعقل؟ إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور التي لا تعلم إلا بالعقل كفر فيكون حكم الشرع مقبولا لكن معلوم أن هذا لا يوجد في الشرع بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان وكلاهما متعلق بالكتاب والرسالة فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته ولا كفر مع تصديقه وطاعته

ومن تدبر هذا رأى أهل البدع من النفاة يعتمدون على مثل هذا فيبتدعون بدعا بآرائهم ليس فيها كتاب ولا سنة ثم يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه وهذا حال من كفر الناس بما أثبتوه من الأسماء والصفات التي يسميهما هو تركيبا وتجسيما وإثبات لحلول الصفات والأعراض به ونحو ذلك من الأقوال التي ابتدعتها الجهمية والمعتزلة ثم كفروا من خالفهم فيها

والخوارج الذين تأولوا آيات من القرآن وكفروا من خالفهم فيها أحسن حالا من هؤلاء فإن أولئك علقوا الكفر بالكتاب والسنة لكن غلطوا في فهم النصوص وهؤلاء علقوا الكفر بكلام ماأنزل الله به من سلطان

ولهذا كان ذم السلف للجهمية من أعظم الذم حتى قال عبد الله بن المبارك: إنا لنكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية

بل الحق أنه لو قدر أن بعض الناس غلط في معان دقيقة لا تعلم إلا بنظر العقل وليس فيها بيان في النصوص والإجماع لم يجز لأحد أن يكفر مثل هذا ولا يفسقه بخلاف من نفى ما أثبتته النصوص الظاهرة المتواترة فهذا أحق بالتكفير إن كان المخطئ في هذا الباب كافرا

وليس المقصود هنا بيان مسائل التكفير فإن هذا مبسوط في موضع آخر ولكن المقصود أن عمدة المعارضين للنصوص النبوية أقوال فيها اشتباه وإجمال فإذا وقع الاستفسار والاستفصال تبين الهدى من الضلال فإن الأدلة السمعية معلقة بالألفاظ الدالة على المعاني وأما دلالة مجرد العقل فلا اعتبار فيها بالألفاظ

وكل فول لم يرد لفظه ولا معناه في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة فإنه لا يدخل في الأدلة السمعية ولا تعلق للسنة والبدعة بموافقته ومخالفته فضلا عن أن يعلق بذلك كفر وإيمان وإنما السنة موافقة للأدلة الشرعية والبدعة مخالفتها

وقد يقال عما لم يعلم أنه موافق لها أو مخالف: إنه بدعة إذ الأصل أنه ما لم يعلم أنه من الشرع فلا يتخذ شريعة ودينا فمن عمل عملا لم يعلم أنه مشروع فقد تذرع إلي البدعة وإن كان ذلك العمل تبين له فيما بعد أنه مشروع وكذلك من قال في الدين قولا بلا دليل شرعي فإنه تذرع إلى البدعة وإن تبين له فيما بعد موافقته للسنة

والمقصود هنا أن الأقوال التي ليس لها أصل في الكتاب والسنة والإجماع ـ كأقوال النفاة التي تقولها الجهمية والمعتزلة وغيرهم وقد يدخل فيها ما هو حق وباطل ـ هم يصفون بها أهل الإثبات للصفات الثابتة بالنص فإنهم يقولون: كل من قال: إن القرآن عير مخلوق أو إن الله يرى في الآخرة أو إنه فوق العالم فهو مجسم مشبه حشوى

وهذه الثلاثة مما اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها وحكى إجماع أهل السنة عليها غير واحد من الأئمة والعالمين بأقوال السلف مثل أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن إبراهيم وداود بن علي وعثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وأمثال هؤلاء ومثل عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري ومثل أبي بكر الإسماعيلي وأبي نعيم الأصبهاني وأبي عمر بن عبد البر وأبي عمر الطلمنكي ويحيى بن عمار السجستاني وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي القاسم التميمي ومن لا يحصي عدده إلا الله من أنواع أهل العلم

فإذا قال النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم: لو كان الله يرى في الآخرة لكان في جهة وما كان في جهة فهو جسم وذلك على الله محال أو قالوا: لو كان الله تكلم بالقرآن بحيث يكون الكلام قائما به لقامت به الصفات والأفعال وذلك يستلزم أن يكون محلا للأعراض والحوادث وما كان محلا للأعراض والحوادث فهو جسم والله منزه عن ذلك لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث العالم وحدوث العالم إنما علم بحدوث الأجسام فلو كان جسم ليس بمحدث لبطلت دلالة إثبات الصانع

فهذا الكلام ونحوه هو عمدة النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في بعض بدعتهم وهذا ونحوه في العقليات التي يزعمون أنها عارضت نصوص الكتاب والسنة

فيقال لهؤلاء: أنتم لم تنفوا ما نفيتموه بكتاب ولا سنة ولا إجماع فإن هذه الألفاظ ليس لها وجود في النصوص بل قولكم: لو رؤي لكان في جهة وما كان في جهة فهو جسم وما كان جسم فهو محدث كلام تدعون أنكم علمتم صحته بالعقل حينيئذ فتطالبون بالدلالة العقلية على هذا النفي وينظر فيه بنفس العقل

ومن عارضكم من المثبتة أهل الكلام من المرجئة وغيرهم كالكرامية والهشامية وقال لكم فليكن هذا لازما للرؤية وليكن هو جسما أو قال لكم: أنا أقول إنه جسم وناظركم على ذلك بالمعقول وأثبته بالمعقول كما نفيتموه بالمعقول لم يكن لكم أن تقولوا له: أنت مبتدع في إثبات الجسم فإنه يقول لكم: وأنتم مبتدعون في نفيه فالبدعة في نفيه كالبدعة في إثباته وإن لم تكن أعظم بل النافي أحق بالبدعة من المثبت لأن المثبت أثبت ما أثبتته النصوص وذكر هذا معاضدة للنصوص وتأييدا لها وموافقة لها وردا على من خالف موجبها

فإن قدر أنه أنه ابتدع في ذلك كانت بدعته أخف من بدعة من نفى ذلك نفيا عارض به النصوص ن ودفع موجبها ومقتضاها فإن ما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين وما لم يعلم أنه خالفها فقد يسمى بدعة

قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله فهذه بدعة ضلالة وبدعة لم تخالف شيئا من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر: نعمت البدعة هذه هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل

ومن المعلوم أن قو ل نفاة الرؤية والصفات والعلو على العرش والقائلين بأن الله لم يتلكم بل خلق كلاما في غيره ونفيهم ذلك لأن إثبات ذلك تجسيم هو إلي مخالفة الكتاب والسنة والإجماع السلفي والآثار أقرب من قول من أثبت ذلك وقال ـ مع ذلك ـ ألفاظا يقول: : إنها توافق معنى الكتاب والسنة لا سيما والنفاة متفقون على أن ظواهر النصوص تجسيم عندهم وليس عندهم بالنفي نص فهم معترفون بأن قولهم هو البدعة وقول منازعهم أقرب إلى السنة

ومما يوضح هذا أن السلف والأئمة كثر كلامهم في ذم الجهمية النفاة للصفات وذموا المشبهة أيضا وذلك في كلامهم أقل بكثير من ذم الجهمية لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه وأما ذكر التجسيم وذم المجسمة فهو لا يعرف في كلام أحد من السلف والأئمة كما لا يعرف في كلامهم أيضا القول بأن الله جسم أو ليس بجسم بل ذكروا في كلامهم الذي أنكروه على الجهمية نفي الجسم كما ذكره أحمد في كتاب الرد على الجهمية: ولما ناظر برغوث وألزمه بأنه جسم امتنع أحمد من موافقته على النفي والإثبات وقال: هو أحد صمد لم يلد ولم يولد لم يكن له كفوا أحد

مثال: الكلام على الرؤية[عدل]

والمقصود هنا أن نفاة الرؤية ـ من الجهمية والمعتزلة وغيرهم ـ إذا قالوا: إثباتها يستلزم أن يكون الله جسما وذلك منتف وادعوا أن العقل دل على المقدمتين احتيج حينئذ إلى بيان بطلان المقدمتين أو إحداهما فإما أن يبطل نفس التلازم أونفي اللازم أو المقدمتان جميعا

وهنا افترقت طرق مثبتة الرؤية: فطائفة نازعت في الأولى كالأشعري وأمثاله ـ وهو الذي حكاه الأشعري عن أهل الحديث وأصحاب السنة وقالوا: لا نسلم أن كل مرئي يجب أن يكون جسما

فقالت النفاة: لأن كل مرئي في جهة وما كان في جهة فهو جسم فافترقت نفاة الجسم على قولين: طائفة قالت: لا نسلم أن كل مرئي يكون في جهة وطائفة قالت: لا نسلم أن كل ما كان في جهة فهو جسم فادعت نفاة الرؤية أن العلم الضروري حاصل بالمقدمتين وأن المنازع فيهما مكابر

وهذا هو البحث المشهور بين المعتزلة والأشعرية فلهذا صار الحذاق من متأخري الأشعرية على نفي الرؤية وموافقة المعتزلة فإذا أطلقوها موافقة لأهل السنة فسروها بما تفسرها به المعتزلة وقالوا: المزاع بيننا وبين المعتزلة لفظي

وطائفة نازعت في المقدمة الثانية ـ وهي أنتفاء اللازم ـ وهي كالهشامية والكرامية وغيرهم فأخذت المعتزلة وموافقوهم يشنعون على هؤلاء وهؤلاء وإن كان في قولهم بدعة وخطأ ففي قول المعتزلة من البدعة والخطأ أكثر مما في قولهم

ومن أراد أن يماظر مناظرة شرعية بالعقل الصريح فلا يلتزم لفظا بدعيا ولا يخالف دليلا عقليا ولا شرعيا فإنه يسلك طريق أهل السنة والحديث والأئمة الذين لا يوافقون على إطلاق الإثبات ولا النفي بل يقولون: ما تعنون بقولكم: إن كل مرئي جسم؟

فإن فسروا ذلك بان كل مرئي يجب أن يكون قد ركبه مركب أو أن يكون كان متفرقا فاجتمع أو أنه يمكن تفريقه ونحو ذلك منعوا هم المقدمة الأولى وقالوا: هذه السماوات مرئية مشهودة ونحن لا نعلم أنها كانت متفرقة مجتمعة وإذا جاز أن يرى ما يقبل التفريق فما لا يقبله أولى بإمكان رؤيته فالله تعالى أحق بأن تمكن رؤيته من السماوات ومن كل قائم بنفسه فإن المقتضى للرؤية لا يجوز أن يكون أمرا عدميا بل لا يكون إلا وجوديا وكلما كان الوجود أكمل كانت الرؤية أجوز كما قد بسط في غير هذا الموضع

وإن قالوا: مرادنا بالجسم المركب أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة نازعوهم في هذا وقالوا: دعوى كون السماوات مركبة من جواهر منفردة أو من مادة وصورة دعوى ممنوعة أو باطلة وبينوا فساد قول من يدعي هذا وقول من يثبت الجوهر الفرد أو يثبت المادة والصورة وقالوا: إن الله خلق هذا الجسم المشهود هكذا وإن ركبه ركبه من أجسام أخري وهو سبحانه يخلق الجسم من الجسم كما يخلق الإنسان من الماء المهين وقد ركبت العظام في مواضعها من بدن ابن آدم وركب الكواكب في السماء ن فهذا معروف وأما أن يقال إنه خلق أجزاء لطيفة لا تقبل الانقسام ثم ركب منها العالم فهذا لا يعلم بعقل ولا سمع بل هو باطل لأن كل جزء لا بد أن يتميز منه جانب عن جانب والأجزاء المتصاغرة كأجزاء الماء تستحيل عند تصغرها كما يستحيل الماء إلى الهواء مع أن المستحيل يتميز بعضه عن بعض

وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع وبين أن الأدلة العقلية بينت جواز الرؤية وإمكانها وليست العمدة على دليل الأشعري ومن وافقه في الاستدلال لأن المصحح للرؤية مطلق الوجود بل ذكرت أدلة عقلية دائرة بين النفي والإثبات لا حيلة لنفاة الرؤية فيها

والمقصود هنا بيان كلام كلي في جنس ما تعارض به نصوص الإثبات من كلام النفاة الذي يسمونه عقليات

وإن قالوا: مرادنا أن المرئي لا بد أن كون معاينا تجاه الرائي وما كان كذلك فهو جسمونحو هذا الكلام قالوا لهم: الصادق المصدوق قال: [ إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ] وقال: [ هل تضامون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا قال: فهل تضامون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا قال: فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ] وهذا تشبيه للرؤية لا للمرئي بالمرئي وفي لفظ في الصحيح: [ إنكم ترون ربكم عيانا ] فإذن قد أخبرنا أنا نراه عيانا

وقد أخبرنا أيضا أنه قد: استوى على العرش فهذه النصوص يصدق بعضها بعضا والعقل أيضا يوافقها ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته فوق سماواته وأن وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانس له محال في بديهة العقل فإذا كانت الرؤية مستلزمة لهذه المعاني فهذا حق وإذا سميتم انتم هذا قولا بالجهة وقولا بالتجسيم لم يكن هذا القول نافيا لما علم بالشرع والعقل إذ كان معنى هذا القول ـ والحال هذه ـ ليس منتفيا لا بشرع ولا عقل

ويقال لهم: ما تعنون بأن هذا إثبات للجهة والجهة ممتنعة؟ أتعنون بالجهة أمرا وجوديا أو أمرا عدميا؟

فإن أردتم أمرا وجوديا ـ وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق والله فوق سماواته بائن من مخلوقاته لم يكن ـ والحالة هذه ـ في جهة موجودة فقولكم: إن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة قول باطل فإن سطح العالم مرئي وليس هو في عالم آخر

وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي كما تقولون: إن الجسم في حيز ولاحيز تقدير مكان وتجعلون ما وراء العالم حيزا

فيقال لكم: الجهة ـ والحيز ـ إذا كان أمرا عدميا فهو لا شيء وما كان في جهة عدمية أو حيز عدمي فليس هو في شيء ولا فرق بين قول القائل: هذا ليس في شيء وبين قوله: هو في العدم أو أمر عدمي فإذا كان الخالق تعالى مباينا للمخلوقات عاليا عليها وما ثم موجود إلا الخالق أو المخلوق لم يكن معه غيره من الموجودات فضلا عن أن يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره أو يحيط به

فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا نسبوه إلى البدعة أيضا وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة وردا باطلا بباطل

مثال آخر: كلمة جبر[عدل]

ونظير هذا القصص المعروفة التي ذكرها الخلال في كتاب السنة هو وغيره في مسألة اللفظ ومسألة الجبر ونحوهما من المسائل فإنه لما ظهرت القدرية النفاة للقدر وأنكروا أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأن يكون خالقا لكل شيء وأن تكون أفعال العباد من مخلوقاته أنكر الناس هذه البدعة فصار بعضهم يقول في مناظرته: هذا يلزم منه أن يكون الله مجبرا للعباد على أفعالهم وأن يكون قد كلفهم ما لا يطيقونه فالتزم بعض من ناظرهم من المثبتة إطلاق ذلك وقال: نعم يلزم الجبر والجبر حق فأنكر الأئمة ـ ك الأوزاعي وأحمد بن حنبل ونحوهما ـ ذلك على الطائفتين ويروى إنكار إطلاق الجبر عن الزبيدي وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم وقال الأوزاعي وأحمد ونحوهما: من قال إنه جبر فقد أخطأ ومن قال لم يجبر فقد أخطأ بل يقال: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ونحو ذلك

وقالوا: ليس للجبر أصل في الكتاب والسنة وإنما الذي في السنة لفظ الجبل لا لفظ الجبر فإنه قد صح [ عن النبي أنه قال لأشج عبد القيس إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة فقال: أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليه؟ فقال: بل خلقين جبلت عليهما فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ]

وقالوا: إن لفظ الجبر لفظ مجمل فإن الجبر إذا أطلق في الكلام فهم منه إجبار الشخص على خلاف مراده كما تقول الفقهاء: إن الأب يجبر ابنته على النكاح أو لا يجبرها وإن الثيب البالغ العاقل لا يجبرها أحد على النكاح بالاتفاق وفي البكر البالغ نزاع مشهور ويقولون: إن ولي الأمر يجبر المدين على وفاء دينه ونحو ذلك فهذه العبارات معناها إجبار الشخص على خلاف مراده وهو كلفظ الإكراه: إما أن يحمله على الفعل الذي يكرهه ويبغضه فيفعل خوفا من وعيده وإما أن يفعل به الشيء بغير فعل منه

ومعلوم أن الله سبحانه تعالى إذا جعل في قلب العبد إرادة للفعل ومحبة له حتى يفعله ـ كما قال تعالى { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات: 7 ] ـ لم يكن هذا جبرا بهذا التفسير ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى فإنه هو الذي جعنل الراضي راضيا والمحب محبا والكاره كارها

وقد يراد بالجبر نفس جعل العبد فاعلا ونفس خلقه متصفا بهذه الصفات كما في قوله تعالى: { إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا } [ المعارج: 19 - 20 ] فالجبر بهذا التفسير حق ومنه قول محمد بن كعب القرظي في تفسير اسمه الجبار قال: هو الذي جبر العباد على ما أراد ومنه قول علي رضي الله عنه في الأثر المشهور عنه في الصلاة على النبي : اللهم داحي المدحوات فاطر المسموكات جبار القولب على فطراتها: شقيها وسعيدها فالأئمة منعت من إطلاق القول بإثبات لفظ الجبر أو نفيه بدعة يتناول حقا باطلا

مثال ثالث: اللفظ بالقرآن[عدل]

وكذلك مسألة اللفظ فإنه لما كان السلف والأئمة متفقين على أن القرآن كلام الله غير مخلوق وقد علم المسلمون أن القرآن بلغه جبريل عن الله إلي محمد وبلغه محمد إلي الخلق وأن الكلام إذا بلغه المبلغ عن قائله لم يخرج عن كونه كلام المبلغ عنه بل هو كلام لمن قاله مبتدئا لا كلام من بلغه عنه مؤديا

فالنبي إذا قال [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] وبلغ هذا الحديث عنه واحد بعد واحد حتى وصل إلينا كان من المعلوم أنا إذا سمعناه من المحدث به إنما سمعنا كلام رسول الله الذي تلكم به بلفظه ومعناه وإنما سمعناه من المبلغ عنه بفعله وصوته ونفس الصوت الذي تلكم به النبي لم نسمعه وإنما سمعنا صوت المحدث عنه والكلام كلام رسول الله لا كلام المحدث

فمن قال: إن هذا الكلام ليس كلام رسول الله كان مفتريا وكذلك من قال: إن هذا لم يتكلم به رسول الله وإنما أحدثه في غيره أو إن النبي لم يتكلم بلفظه وحروفه بل كان ساكتا أو عاجزا عن التكلم بذلك فعلم غيره ما في نفسه فنظم هذه الألفاظ ليعبر بها عما في نفس النبي او نحو هذا الكلام ـ فمن قال هذا كان مفتريا ومن قال: إن هذا الصوت المسموع صوت النبي كان مفتريا

فإذا كان هذا معقولا في كلام المخلوق فكلام الخالق أولى بإثبات ما يستحقه من صفات الكمال وتنزيه الله أن تكون صفاته وأفعاله هي صفات العباد وأفعالهم أو مثل صفات العباد وأفعالهم

فالسلف والأئمة كانوا يعلمون أن هذا القرآن المنزل المسموع من القارئين كلام الله كما قال تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } [ التوبة: 6 ] ليس هو كلاما لغيره لا لفظه ولا معناه ولكن بلغه عن الله حبريل وبلغه محمد رسو ل الله عن جبريل ولهذا أضافه الله إلى كل من الرسولين لأنه بلغه وأداه لا لأنه أحدث لا لفظه ولا معناه إذ لو كان أحدهما هو الذي أحدث ذلك لم يصح إضافة الإحداث إلى الآخر فقال تعالى { إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين } [ الحاقة: 40 - 43 ] فهذا محمد وقال تعالى { إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين } [ المطففين: 19 - 21 ] فهذا تجبريل عليه السلام

وقد توعد الله تعالى من قال { إن هذا إلا قول البشر } [ المدثر: 25 ] فمن قال: إن هذا القرآن قول البشر فقد كفر: وقال بقول الوحيد الذي أوعده الله سقر ومن قال: إن شيئا منه قول البشرفقد قال ببعض قوله ومن قال: إنه ليس بقول رسول كريم وإنما هو قول شاعر أو مجنون أو مفتر أو قال: هو قول شيطان نزل به عليه ونحو ذلك فهو أيضا كافر ملعون

وقد علم المسلمون الفرق بين أن يسمع كلام المتكلم منه أو من المبلغ عنه وأن موسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة وأنا نحن نسمع كلام الله من المبلغين عنه وإذا كان الفرق ثابتا بين من سمع كلام النبي منه وبين من سمعه من الصاحب المبلغ عنه فالفرق هنا أولى لأن أفعال المخلوق وصفاته أشبه بأفعال المخلوق وصفاته من أفعاله وصفاته بأفعال الله وصفاته

ولما كانت الجهمية يوقلون: إن الله لم يتكلم في الحقيقة بل خلق كلاما في غيره ومن أطلق منهم أن الله تكلم حقيقة فهذا مراده فالنزاع بينهم لفظي ـ كان من المعلوم أن القائل إذا قال: هذا القرآن مخلوق كان مفهوم كلامه أن الله لم يتكلم بهذا القرآن وأنه ليس هو كلامه بل خلقه في غيره

وإذا فسر مراده بأني أردت أن حركات العبد وصوته والمداد مخلوق كان هذا المعني ـ وإن كان صحيحا ـ ليس هو مفهوم كلامه ولا معنى قوله فإن المسلمين إذا قالوا: هذا القرآن كلام الله لم يريدوا بذلك أن أصوات القارئين وحركاتهم قائمة بذات الله كما أنهم إذا قالوا: هذا الحديث حديث رسول الله لم يريدوا بذلك: أن حركات المحدث وصوته قامت بذات رسول الله بل وكذلك إذا قالوا في إنشاد لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

هذا شعر لبيد وكلام لبيد لم يريدوا بذلك أن صوت المنشد هو صوت لبيد بل أرادوا أن هذا القول المؤلف لفظه ومعناه وهو لبيد وهذا منشد له فمن قال: إن هذا القرآن مخلوق أو: إن القرآن المنزل مخلوق أو نحو هذه العبارات كان بمنزلة من قال: إن هذا الكلام ليس هو كلام الله ن وبمنزلة من قال عن الحديث المسموع من المحدث: إن هذا ليس كلام رسول الله وإن النبي لم يتكلم بهذا الحديث وبمنزلة من قال: إن هذا الشعر ليس هو شعر لبيد ولم يتكلم به لبيد ومعلوم أن هذا كله باطل

ثم إن هؤلاء صاروا يقولون: هذا القرآن المنزل المسموع هو تلاوة القرآن وقراءته وتلاوة القرآن مخلوقة وقراءة القرآن مخلوقة ويقولون: تلاوتنا للقرآن مخلوقة وقراءتنا له مخلوقة ويدخلون في ذلك نفس الكلام المسموع ويقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق يدخلون في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع

فأنكر الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة هذا وقالوا: اللفظية جهمية وقالوا: افترقت التجهمية ثلاث فرق: فرقة قالت: القرآن مخلوق وفرقة قالت: نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق وفرقة قالت: تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق

فلما انتشر ذلك عن أهل السنة غلطت طائفة فقالت: لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتلاوتنا له غير مخلوقة فبدع الإمام أحمد هؤلاء وأمر بهجرهم

ولهذا ذكر الأشعري في مقالاته هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث فقال: والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو مبتدع عندهم ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع

وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في صريح السنة أنه سمع غير واحد من أصحابه يذكر عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع

وصنف أبو أحمد بن قتيبة في ذلك كتابا وقد ذكر أبو بكر الخلال هذا في كتاب السنة وبسط القول في ذلك وذكر ما صنفه أبو بكر المروزي في ذلك وذكر قصة أبي طالب المشهورة التي نقلها عنه أكابر أصحابه كعبد الله وصالح ابنيه والمروزي وأبي محمد فوران ومحمد بن إسحاق الصاغني وغير هؤلاء

وكان أهل الحديث قد أفتوقوا في ذلك فصار طائفة منهم يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق وليس مراده صوت العبد كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وطوائف غير هؤلاء

وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف فيه ففهم ذلك بعض الأئمة فصار يقول: أفعال العباد أصواتهم مخلوقة ردا لهؤلاء كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة

وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة وأهواء للنفوس حصل بسبب ذلك نوع من الفرقة والفتنة وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج نحوه وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وغيرهما

وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث وهم من أصحاب أحمد بن حنبل ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلوفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ

وصار قوم يطلقون القول بأن التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء وليس مرادهم بالتلاوة المصدر ولكن الإنسان إذا تكلم بالكلام فلا بد له من حركة ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة والقول والكلام يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك ويكون الكلام نوعا من العمل وقسما منه ويراد به تارة ما يقترن بالحركة ويكون عنها لا نفس الحركة فيكون الكلام قسيما للعمل ونوعا آخر ليس هو منه ولهذا تنازع العلماء في لفظ العلم المطلق: هل يدخل فيه الكلام؟ على قولين معروفين لأصحاب أحمد وغيرهم وبنوا على ذلك ما إذا حلف لا يعمل اليوم علملا فتكلم هل يحنث أم لا؟ على قولين وذلك لأن لفظ الكلام قد يدخل في العمل وقد لا يدخل

فالأول كما في قول النبي [ لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فقال رجل: لو لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان ] أخرجاه في الصحيحين فقد جعل فعل هذا الذي يتلوه آناء الليل والنهار عملا كما قال: لعملت فيه مثل ما يعلم فلان

والثاني كما في قوله تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر: 10 ] وقوله تعالى { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } [ يونس: 61 ] فالذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المقترن بالحركة وهي الكلام المتلو وآخرون قالوا: بل التلاوة غير المتلو والقراءة غير المقروء والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليس هي كلام الله ولا أصوات العباد هي صوت الله وهذا الذي قصده البخاري وهو مقصود صحيح

وسبب ذلك أن لفظ: التلاوة والقراءة واللفظ مجمل مشترك: يراد به المصدر ويراد به المفعول

فمن قال: اللفظ ليس هو الملفوظ والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر كان معني كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع وهذا صحيح

ومن قال اللفظ هو الملفوظ والقول هو نفسه المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول المراد به الكلام المقول الملفوظ هو الكلام المقول الملفوظ وهذا صحيح فمن قال: اللفظ بالقرآن أو القراءة أو التلاوة مخلوقة أو لفظي بالقرآن أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو وذلك هو كلام الله تعالى وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعني صحيحا لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره

ولهذا قال أحمد في بعض كلامه: من قال لفظي بالقرآن كخلوق يريد به القرآن فهو جهمي أحترازا عما إذا أراد به فعله وصوته وذكر اللالكائي أن بعض من كان يقول ذلك رأى في منامه كأن عليه فروة رجل يضربه فقال له: لا تضربني فقال: إني لا أضربك وإنما أضرب الفروة فقال: إن الضرب إنما يقع ألمه علي فقال هكذا إذا قلت: لفظي بالقرآن مخلوق وقع الخلق على القرآن

ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق أو تلاوتي دخل في ذلك المصدر الذي هو علمه وأفعال العباد مخلوقة ولو قال: أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق لا نفس حركاتي قيل له: لفظك هذا بدعة وفيه إجمال وإيهام وإن كان مقصودك صحيحا كما يقال للأول إذا قال: أردت أن فعلي مخلوق: لفظك أيضا بدعة وفيه إجمال وإيهام وإن كان مقصودك صحيحا

فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا وهذا وكان هذا وسطا بين الطرفين وكان أحمد وغيره من الأئمة يقولون: القرآن تحيث تصرف كلام الله غير مخلوق فيجعلون القرآن نفسه حيث تصرف غير مخلوق من غير أن يقترن بذلك ما يشعر أن أفعال العباد وصفاتهم غير مخلوق

وصارت كل طائفة من النفاة والمثبتة في مسألة التلاوة تحكي قولها عن أحمد وهم ـ كما ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال: إن كل واحدة من هاتين الطائفتين تذكر قولها عن أحمد وهم يفقهون قوله لدقة معناه

ثم صار ذلك التفرق موروثا في أتباع الطائفتين فصارت طائفة تقول: إن اللفظ بالقرآن غير مخلوق موافقة ل أبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وأمثالهما كأبي عبد الله بن منده وأهل بيته وأبي عبد الله بن حامد وأبي نصر السجزي وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي يعقوب الفرات الهروي وغيرهم

وقوم يقولون نقيض هذا القول من غير دخول في مذهب ابن كلاب

مع اتفاق الطائفتين على أن القرآن كله كلام الله لم يحدث غيره شيئا منه ولا خلق منه شيئا في غيره: لا حروفه ولا معانيه ـ مثل حسين الكرابيسي وداود بن علي الأصبهاني وأمثالهما

وحدث مع هذا من يقول بقول ابن كلاب: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس المتكلم هو الأمر بكل ما أمر به والنهي عن كل ما نهى عنه والإخبار بكل ما أخبر به وإنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة

وجمهور الناس من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم أنكروا ذلك وقالوا: إن فساد هذا معلوم بصريح العقل فإن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن ولا معنى { قل هو الله أحد } هو معنى { تبت يدا أبي لهب } وكان يوافقهم على إطلاق القول بأن التلاوة غير المتلو وأنها مخلوقة من لا يوافقهم على هذا المعنى بل قصده أن التلاوة هي أفعال العباد وأصواتهم

وصار أقوام يطلقون القول بأن التلاوة غير المتلو وأن اللفظ بالقرآن مخلوق فمنهم من يعرف أنه موافق لابن كلاب ومنهم من يعرف مخالفته له ومنهم من لا يعرف منه لا هذا ولا هذا وصار أبو الحسن الأشعري ونحوه ـ ممن يوافق ابن كلاب على قوله ـ موافقا للإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في المنع من إطلاق هذا وهذا فيمنعون أن يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق وهؤلاء منعوه من جهة كونه يقال في القرآن: إنه يلفظ أو لا يلفظ وقالوا اللفظ: الطرح والرمي ومثل هذا لا يقال في القرآن

ووافق هؤلاء على التعليل بهذا طائفة ممن لا يقول بقول ابن كلاب في الكلام كالقاضي أبي يعلى وأمثاله ووقع بين أبي نعيم الأصبهاني وأبي عبد الله بن منده في ذلك ما هو معروف وصنف أبو نعيم في ذلك كتابه في الرد على اللفظية والحلولية ومال فيه إلى كجانب النفاة الفائلين بأن الىلاوة مخلوقة كنا مال ابن منده إلى جانب من يقول إنها غير مخلوقه وحكى كل منهما من الحق وجد فيه من المنقول الثبت عن الأئمة ما يوافقه

وكذلك وقع بين أبي ذر الهروي وأبي نصر السجزي في ذلك حتى صنف أبو نصر السجزي كتابه الكبير في ذلك المعروف بالإبانة وذكر فيه من الفوائد والآثار والانتصار للسنة وأهلها أمورا عظيمة المنفعة لكنه نصر فيه قول من يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق وأنكر على ابن قتيبة وغيره ما ذكروه من التفصيل ورجح طريقة من هجر البخاري وزعم أن أحمد بن حنبل كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق وأنه رجع إلى ذلك وأنكر ما نقله الناس عن أحمد من إنكار على الطائفتين وهي مسألة أبي طالب المشهورة

وليس الأمر كما ذكره فإن الإنكار على الطائفتين مستفيض عن أحمد عند أخص الناس به من أهل بيته وأصحابه الذين اعتنوا بجمع كلام الإمام أحمد ك المروزي والخلال وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهم وقد ذكروا من ذلك ما يعلم لك عارف له أنه أثبت الأمور عن أحمد

وهؤلاء العراقيون أعلم بأقوال أحمد من المتنسبين إلى السنة والحديث من أهل خرسان الذين كان ابن منده وأبو نصر وأبو إسماعيل الهروي وأمثالهم يسلكون حذرهم ولهذا صنف عبد الله بن عطاء الإبراهيمي كتابا فيمن أخذ عن أحمد العلم فذكر طائفة ذكر منهم أبو بكر الخلال وظن أنه أبو محمد الخلال شيخ القاضي أبي يعلي وأبي بكر الخطيب فاشتبه عليه هذا بهذا

وهذا كما أن العرقيين المنتسبين إلى أهل الإثبات من أبتاع ابن كلاب كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني وأمثالهم أقرب إلى السنة وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله من أهل خراسان المائلين إلى طريقة ابن كلاب ولهذا كان القاضي أبو بكر بن الطيب يكتب في أجوبته أحيانا: محمد بن الطيب الحنبلي كما كان يقول الأشعري إذ كان الأشعري وأصحابه منتسبين إلي أحمد بن حنبل وأمثاله من أئمة السنة وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل وصدقة بن الحسين وابن الجوزي وأمثالهم

وكان أبو ذر الهروي قد أخذ طريقة ابن الباقلاني وأدخلها إلى الحرم ويقال إنه أول من أدخلها إلى الحرم وعنه أخذ ذلك من أخذه من أهل المغرب فإنهم كانوا يسمعون عليه البخاري ويأخذون ذلك عنه كما أخذه أبو الوليد الباجي ثم رحل الباجي إلى العرق فأخذ طريقة الباقلاني عن أبي جعفر السمناني قاضي الموصل صاحب ابن الباقلاني ونحن قد بسطنا الكلام في هذه المسائل وبينا ما حصل فيها من النزاع والاضطراب في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانو يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة لما فيه من لبس الحق بالباطل ن ممع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها فإن ما كان مأثورا حصلت له الألفة وما كان معروفا حصلت به المعرفة كما يرى عن مالك رحمه الله أنه قال: إذا قل العلم ظهر الجفاء وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء فإذا لم يكن اللفظ منقولا ولا معناه معقولا ظهر الجفاء والأهواء ولهذا تجد قوما كثيرين يحبون قوما ويبغضون قوما لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها بل يوالون على إطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلا صحيحا عن النبي وسلف الأمة ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها ولا يعرفون لازمها ومقتضاها وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة وجعلها مذاهب يدعى إليها ويوالي ويعادى عليها

وقد ثبت في الصحيح [ أن النبي كان يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ] فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هي أصول معصومة وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي عليها ويعادي غير النبي وما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة يوالون علي ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون

ولهذا كان أصحاب رسول الله والتابعون لهم بإحسان ـ وإن تنازعوا فيما تنازعوا فيه من الأحكام ـ فالعصمة بينهم ثابتة وهم يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول فبعضهم يصيب الحق فيعظم الله أجره ويرفع درجته وبعظهم يخطئ بعد إجتهاده في طلب الحق فيغفر الله له خطأه تحقيقا لقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } [ البقرة: 286 ] سواء كان خطؤهم في حكم علمي أو حكم خبري نظري كتنازعهم في الميت هل يعذب ببكاء أهله عليه؟ وهل يسمع الميت قرع نعالهم؟ وهل رأي محمد ربه؟

وأبلغ من ذلك أن شريحا أنكر قراءة من قرأ { بل عجبت ويسخرون } [ الصافات: 12 ] وقال: إن الله لا يعجب فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه كان عبد الله أعلم منه أو قال: أفقه منه ـ وكان يقرأ ) بل عجبت ) فأنكر على شريح إنكاره مع أن شريحا من أعظم الناس قدرا عند المسلمين ونظائر هذا متعددة

والأقوال إذا حكيت عن قائلها أو نسبت الطوائف إلى متبوعها فإنما ذاك على سبيل التعريف والبيان وأما المدح والذم والموالاة والمعاداة فعلى الأسماء المذكورة في القرآن العزيز كاسم المسلم والكافر والمؤمن والمنافق والبر والفاجر والصادق والكاذب والمصلح والمفسد وأمثال ذلك وكون القول صوابا أو خطأ يعرف بالأدلة الدالة على ذلك المعلومة بالعقل والسمع والأدلة الدالة على العلم لا تتناقض كما تقدم

والتناقض هو أن يكون أحد الدليلين يناقض مدلول الآخر: إما بأن ينفي أحدهما عين ما يثبته الآخر وهذا هو التناقض الخاص الذي بذكره أهل الكلام والمنطق وهو اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى وأما التناقض لمطلق فهو أن يكون موجب أحد الدليلين ينافي موجب الآخر: إما بنفسه وإما بلازمه مثل أن ينفي أحدهما لازم الآخر أو يثبت ملزومه فإن انتقاء لازم الشيء يقتضي انتفاءه وثبوت ملزومه يقتضي ثبوته

ومن هذا الباب الحكم على الشيئين المتماثلين من كل وجه مؤثر في الحكم بحكمين مختلفين فإن هذا تناقض أيضا إذ حكم الشيء حكم مثله فإذا حكم على مثله بنقيض حكمه كان كما لو حكم عليه بنقيض حكمه

وهذا التناقض العام هو الاختلاف الذي نفا الله تعالى عن كتابه بقوله عز وجل: { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [ النساء: 82 ] وهو الاختلاف الذي وصف الله به قول الكفار في قوله تعالى { إنكم لفي قول مختلف * يؤفك عنه من أفك } [ الذاريات: 8 - 9 ]

وضد هذا هو التشابه العام الذي وصف الله به القرآن في قوله { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } [ الزمر: 23 ] وهذا ليس هو التشابه الخاص الذي وصف الله تعالى به القرآن في قوله { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } [ آل عمران: 7 ] فإن ذلك التشابه العام يراد به التناسب والتصادق والائتلاف

وضده: الاختلاف الذي هو التناقض والتعارض فالأدلة الدالة على العلم لا يجوز أن تكون متناقضة متعارضة وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء ومن صار من أخل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة والحيرة فإنما ذلك لفساد استدلاله إما لتقصيره وإما لفساد دليله ومن أعظم أسباب ذلك الألفاظ المجملة التي تشتبه معانيها

وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب والسنة بأقوالهم بنوا أمرهم على اصل فاسد وهو أنهم جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة التي جعلوها أصول دينهم وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هدى فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه كما يجعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا به صفات الله ونفوا بها رؤيته في الآخرة وعلوه على خلقه وكون القرآن كلامه ونحو ذلك جعلوا تلك الأقوال محكمة وجعلوا قول الله ورسوله مؤولا عليها أو مردودا أو غير ملتفت إليه ولا متلقى للهدى منه فتجد أحدهم يقول: ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا له كم ولا كيف ولا تحله الأعراض والحوادث ونحو ذلك وليس بمباين للعالم ولا خارج عنه

فإذا قيل: إن الله أخبر أن له علما وقدرة قالوا لو كان له علم وقدرة للزم أن تحله الأعراض وأن يكون جسما وأن يكون له كيفية وكمية وذلك منتف عن الله لما تقدم

ثم قد تقول: إن الرسول قصد بما ذكره من أسماء الله وصفاته أمورا لا نعرفها وقد تقول: إنه قصد خطاب الجمهور فإفهامهم الأمر على غير حقيقته لأن مصلحتهم في ذلك قد يفسر صفة بصفة كما يفسر الحب والرضا والغضب بالإرادة أو السمع والبصر بالعلم والكلام والإرادة والقدرة بالعلم ويكون القول في الثانية كالقول في الأولى يلزمها من اللوازم في النفي والإثبات ما يلزم التي نفاها فيكون مع جمعه في كلامه أنواعا من السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات قد فرق بين المتماثلين: بأن جعل حكم أحدهما مخالفا لحكم الآخر ويكون قد عطل النصوص عن مقتضاها ونفى بعض ما يستحق الله من صفات الكمال ويكون النافي لما أثبته هو قد تسلط عليه وأورد عليه فيما أثبته هو نظير ما أورده هو على من أثبت ما نفاه وإن كان النافي لما أثبته أكثر تناقضا منه

ثم هؤلاء يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المجملة دينا يوالون عليه ويعادون بل يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه ويقول: مسائل أصول الدين: المخطئ فيها يكفر وتكون تلك المسائل مما ابتدعوه

معلوم أن الخوارج هم مبتدعة مارقون كما ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي وإجماع الصحابة ذمهم والطعن عليهم وهم إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرا لاعتقادهم أنه خالف القرآن فمن ابتدع أقوالا ليس له أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرا كان قوله شرا من قول الخوارج ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن قول الجهمية شر من قول الخوارج

وأصل قول الجهمية هو نفي الصفات بما يزعمون من دعوى العقليات التي عارضوا بها النصوص إذ كان العقل الصريح الذي يستحق أن تسمى قضاياه عقليات موافقا للنصوص لا مخالفا لها ولما كان قد شاع في عرف الناس أن قول الجهمية مبناه على النفي صار الشعراء ينظمون هذا المعنى كقول أبي تمام :

جهمية الأوصاف إلا أنهم... قد لقبوها جوهر الأشياء

فهؤلاء ارتكبوا أربع عظائم: أحدها: ردهم لنصوص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والثاني: ردهم ما يوافق ذلك من معقول العقلاء والثالث: جعل ما خالف ذلك من أقوالهم المجملة أو الباطلة هي أصول الدين والرابع: تكفيرهم أو تفسيقهم أو تخطئتهم لمن خالف هذه الأقوال المبتدعة المخالفة لصحيح المنقول وصريح المعقول

وأما أهل العلم والإيمان: فهم على نقيض هذه الحال يجعلون كلام الله وكلام رسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه وإليه يرد ما تنازع الناس فيه فما وافقه كان حقا وما خالفه كان باطلا ومن كان قصده متابعته من المؤمنين وأخطأ بعد اجتهاده الذي أستفرغ به وسعه غفر الله له خطأه سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الحبرية او المسائل العلمية فإنه ليس كل ما كان معلوما متيقنا لبعض الناس يجب أن يكون معلوما متيقنا لغيره

وليس كل ما قال رسول الله يعلمه كل الناس ويفهمونه بل كثير منهم لم يسمع كثيرا منه وكثير منهم قد يشتبه عليه ما أراده وإن كان كلامه في نفسه محكما مقرونا بما يبين مراده لكن أهل العلم يعلمون ما قاله ويميزون بين النقل الذي يصدق به والنقل الذي يكذب به ويعرفون ما يعلم به معاني كلامه فإن الله تعالى أمر الرسول بالبلاغ المبين وهو أطوع الناس لربه فلا بد أن يكون قد بلغ البلاغ المبين ومع البلاغ المبين لا يكون بيانه ملتبسا مدلسا

معنى الاستواء على العرش[عدل]

والآيات التي ذكر الله فيها أنها متشابهات لا يعلم تأوليها إلا الله إنما نفى عن غيره علم تأويلها لا علم تفسيرها ومعناها كما أنه لما سئل مالك رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ـ وكذلك ربيعة قبله ـ فبين مالك أن معنى الاستواء معلوم وأن كيفيته مجهولة فالكيف المجهول هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وأما ما يعلم من الاستواء وغيره فهو من التفسير الذي بينه الله ورسوله

والله تعالى قد أمرنا أن نتدبر القرآن وأخبر أنه أنزله لتعقله ولا يكون التدبر والعقل إلا لكلام بين المتكلم مراده به فأما من تكلم بلفظ يحتمل معاني كثيرة ولم يبين مراده منها فهذا لا يمكن أن يتدبر كلامه ولا يعقل ولهذا تجد عامة الذين يزعمون أن كلام الله يحتمل وجوها كثيرة وأنه لم يبين مراده من ذلك قد اشتمل كلامهم من الباطل على ما لا يعلمه إلا الله بل في كلامهم من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات وإن كانوا لم يتعمدوا الكذب كالمحدث الذي يغلط في حديثه خطأ بل منتهى أمرهم: القرمطة في السمعيات والسفسطة في العقليات وهذان النوعان مجمع الكذب والبهتان

فإذ قال القائل: استوى يحتمل خمسة عشر وجها أو أكثر أو أقل كان غالطا فإن قول القائل: استوى على كذا له معنى وقوله: استوى إلى كذا له معنى وقوله: استوى وكذا له معنى وقوله: استوى بلا حرف يتصل به له معنى فمعانيه تنوعت بتنوع ما يتصل به من الصلات كحرف الاستعلاء والغاية وواو الجمع أو ترك تلك الصلات

وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن كلام الله مبين غاية البيان موفى حق التوفية في الكشف والإيضاح وقد بسط الكلام على هذا النص وغيره وبين نحو من عشرين دليلا على أن هذه الآية نص في معنى واحد لا يحتمل معنى آخر وكذلك ذكر هذا في غير هذا النص

فإن الكلام هنا أربعة أنواع: أحدهما: أن نبين أن ما جاء به الكتاب والسنة فيه الهدى والبيان

والثاني: أن نبين أن ما يقدر من الاحتمالات فهي باطلة قد دل الدليل الذي به يعرف مراد المتكلم على أنه لم يردها

الثالث: أن نبين أن ما يدعى أنه معارض لها من العقل فهو باطل

الرابع: أن نبين أن العقل موافق لها معاضد لا مناقض لها معارض

ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات فاسد متناقض الوجه الثامن عشر

أن يقال: ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات في أمر التوحيد والنبوة والمعاد قد بينا فساده في غير هذا الموضع وتناقضه وأن معتقد صحته من أجهل الناس وأضلهم في العقل كما بينا انتهاءهم في نفي الصفات والأفعال إلى حجة التركيب والتشبيه والاختصاص وانتهاءهم في جحد القدر إلى تعارض الأمر والمشيئة وانتهاءهم في مسألة حدوث العالم والمعاد إلى إنكار الأفعال

وبينا أن ما يذكرونه على النفي ألفاظ مجملة مشتبهة تتناول حقا وباطلا كقولهم: : إن الرب تعالى لو كان موصوفا بالصفات من العلم والقدرة وغيرها مباينا للمخلوقات لكان مركبا من ذات وصفات ولكان مشاركا لغيره في الوجود وغيره ومفارقا له في الوجوب وغيره فيكون مركبا مما به الاشتراك والامتياز ولكان له حقيقة غير مطلق الوجود فيكون مركبا من وجود وماهية ولكان جيما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة والمركب مفتقر إلى جزئه والمفتقر إلى جزئه لا يكون واجبا بنفسه

معنى المركب[عدل]

وقد بينا فساد هذا الكلام بوجوه كثيرة يضيق عنها هذا الموضع فإن مدار هذه الحجة على ألفاظ مجملة فإن المركب يراد به ما ركبه غيره وما كان مفترقا فاجتمع كأجزاء الثوب والطعام والأدوية من السكنجبين وغيره وهذا هو المركب في لغة العرب وسائر الأمم

وقد يراد بالمركب ما يمكن تفريق بعضه عن بعض ومعلوم أن الله تعالى منزه عن جميع هذه التركيبات

ويراد بالمركب في عرفهم الخاص ما تميز منه شيء كتميز العلم عن القدرة وتميز ما يرى ونحو ذلك وتسمية هذا المعنى تركيبا وضع وضعوه ليس وافقا للغة العرب ولا لغة أحد من الأمم وإن كان هذا مركبا فكل ما في الوجود مركب فإنه ما من موجود إلا ولا بد أن يعلم منه شيء دون شيء والمعلوم ليس الذي هو غير معلوم

وقولهم: إنه مفتقر إلى جزئه تلبيس فإن الموصوف بالصفات اللازمة له يمتنع أن تفارقه أو يفاقها وليست له حقيقة غير الذات الموصوفة حتى يقال: إن تلك الحقيقة مفتقرة إلى غيرها والصفة اللازمة يسميها بعض الناس غير الموصوف وبعض الناس يقول: ليست غير الموصوف ومن الناس من لا يطلق عليها لفظ المغايرة بنفي ولا إثبات حتى يفصل ويقول إن أريد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فهي غير وإن أريد بهما ما جاز مفارقة أحدهما للآخر بزمان أو مكان أو فليست بغير فإن لم يقل: هي غير الموصوف لم يكن هناك غير لازم للذات فضلا عن أن تكون مفتقرة إله وإن قيل: هي غيره فهي والذات متلازمان لا توجد إحداهما إلا مع الأخرى ومثل هذا التلازم بين الشيئين يقتضي كون وجود أحدهما مشروطا بالآخر وهذا ليس بممتنع وإنما الممتنع أن يكون يقتضي كون وجود أحدهما إلا مع الأخر وهذا ليس بممتنع وإنما الممتنع أن يكون كل من الشيئين موجبا للآخر فالدور في العلل ممتنع والدور في الشروط جائز

ولفظالافتقار هنا: إن أريد به افتقار المعلول إلى علته كان باطلا وإن أريد به أفتقار المشروط إلى شرطه ـ فهذا هو تلازم من الجانبين وليس ذلك ممتنعا والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرا إلى ما هو خارج عن نفسه فأما ما كان صفة لازمة لذاته وهو داخل في مسمى أسمه فقول القائل: إنه مفتقر إليها كقوله: إنه مفتقر إلى نفسه فإن القائل إذا قال: دعوت الله أو عبدت الله كان اسم الله متناولا للذات المتصفة بصفاتها ليس أسم الله أسما للذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها

مذهب النفاة في الصفات والرد عليه[عدل]

وحقيقة ذلك أنه لا تكون نفسه إلا بنفسه ولا تكون ذاته إلا بصفاته ولا تكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى أسمها وهذا نحق ولكن قول القائل إن هذا افتقار إلى غيره تلبيس فإن ذلك يشعر أنه مفتقر إلى ما هو منفصل عنه وهذا باطل لأنه قد تقدم أن لفظ الغير يراد به ما كان مفارقا له بوجود أو زمان أو مكان ويراد يه ما أمكن العلم به دونه والصفة لا تسمى غيرا له بهذا المعنى وأما بالمعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطا بصفات وأن يكون مستلزما لصفات وإن سميت تلك الصفات غيرا فليس في إطلاق اللفظ ما يمنع صحة المعاني العقلية سواء جاز إطلاق اللفظ أو لم يجز

وهؤلاء عمدوا إلى المعاني كالصحيحة العقلية وأطلقوا عليها ألفاظا مجملة تتناول الباطل الممتنع كالرافض الذي يسمى أهل السنة ناصبة فيوهم أنهم نصبوا العداوة لأهل البيت رضي الله عنهم

وقد بينا في غير هذا الموضع أن إثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منه لكل عاقل وأنه لا خروج عن ذلك: إلا بجحد وجود الإرادة فقود هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى وهذا منتهي الإلحاد وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد ولا مخلص من هذا إلا بإثبات الصفات مع نفي مماثلة المخلوقات وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات

وذلك أن نفاة الصفات من المتفلسفة ونحوهم يقولون: إن العاقل والمعقول والعقل والعاشق والمعشوق والعشق واللذة واللذيذ والملتذ: هو شيء واحد وإنه موجود واجب له عناية ويفسرون عنايته بعلمه أو عقله ثم يقولون: وعلمه أو عقله هو ذاته وقد يقولون: إنه حي عليم قدير مريد متكلم سميع بصير ويقولون: إن ذلك كله شيء واحد فإرادته عين قدرته وقدرته عين علمه وعلمه عين ذاته

وذلك أن من أصلهم: أنه ليس له صفة ثبوتية بل صفاته: إما سلب كقولهم: ليس بجسم ولا متحيز وإما إضافة كقولهم: مبدأ وعلة وإما مؤلف منهما كقولهم: عاقل ومعقول وعقل ويعبرون عن هذه المعاني بعبارات هائلة كقولهم: إنه ليس فيه كثرة كم ولا كثرة كيف أو إنه ليس له أجزاء حد ولا أجزاء كم أو أنه لا بد من إثباته موحدا توحيدا منزها مقدسا عن المقولات العشر: عن الكم والكيف والأين والوضع والإضافة ونحو ذلك

ومضمون هذه العبارات وأمثالها نفي صفاته وهم يسمون نفي الصفات توحيدا وكذلك المعتزلة ومن ضاهاهم من الجهمية يسمون ذلك توحيدا

وهم ابتدعوا هذا التعطيل الذي يسمونه توحيدا وجعلوا اسم التوحيد واقعا على غير ما هو واقع عليه في دين المسلمين فإن التوحيد الذي بعث الله له رسله وأنزل به كتبه هو أن يعبد الله لا يشرك به شيئا ولا يجعل له ندا كما قال تعالى { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين } [ الكافرون: 1 - 6 ]

ومن تمام التوحيد أن يوصف الله تعالى يما وصف به نفسه وبما وصفه رسوله ويصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل كما قال تعالى { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص: 1 - 4 ]

ومن هنا ابتدع من ابتدع لمن اتبعه على نفي الصفات اسم الموحدين وهؤلاء منتهاهم أن يقولوا: هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق كما قاله طائفة منهم أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما قاله ابن سينا وأتباعه أو يقولون: هو الوجود المطلق لا بشرط كما يقوله القونوي وأمثاله

ومعلوم بصريح العقل الذي لم يكذب قط أن هذه الأقوال باطلة متناقضة من وجوه :

الرد على نفاة الصفات من وجوه[عدل]

أحدهما: أن جعل عين العلم عين القدرة ونفس القدرة هي نفس الإدارة والعناية ونفس الحياة هي نفس العلم والقدرة ونفس العلم نفس الفعل والإبداع ونحو ذلك معلوم الفساد بالضرورة فإن هذه حقائق متنوعة ن فإن جعلت هذه الحقيقة هي تلك كان بمنزلة من يقول: إن حقيقة السواد هي حقيقة الطعم هي حقيقة اللون وأمثال ذلك مما يجعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة

الوجه الثاني: أنه من المعلوم أن القائم بنفسه ليس هو القائم بغيره والجسم ليس هو العرض والموصوف ليس هو الصفة والذات ليست هي النعوت فمن قال: إن العالم هو العلم والعلم هو العالم فضلاله بين وكذلك معلوم أن العلم ليس هو المعلوم فمن قال: إن العلم هو المعلوم والمعلوم هو العلم فضلاله بين أيضا

ولفظ العقل إذا أريد به المصدر فليس المصدر هو العاقل الذي هو اسم الفاعل ولا المعقول الذي هو اسم مفعول وإذا أريد بالعقل جوهر قائم بنفسه فهو العاقل فإذا كان يعقل نفسه أو غيره فليس عين عقله لنفسه أو غيره هو عين ذاته وكذلك إذا سمى عاشقا ومعشوقا بلغتهم أو قيل: محبوب ومحب بلغة المسلمين فليس الحب والعشق هو نفس العاشق ولا المحب ولا العشق ولا الحب هو المعشوق ولا المحبوب بل التمييز بين مسمى المصدر ومسمى اسم الفاعل واسم المفعول والتفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فطر العقول ولغات الأمم فمن جعل أحدهما هو الآخر كان قد أتى من السفسطة بما لا يخفى على من يتصور ما يقول: ولهذا كان منتهى هؤلاء السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات

الوجه الثالث: أن يقال: الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية أو لا بشرط مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج وإنما يوجد في الذهن وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق كإنسان مطلق بشرط الإطلاق وحيوان مطلق بشرط الإطلاق جسم مطلق بشر الإطلاق ووجود مطلق بشرط الإطلاق: لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان

ولما اثبت قدماؤهم الكليات المجردة ع الأعيان التي يسمونها المثل الأفاطونية أنكر ذلك حذاقهم وقالوا: هذه لا تكون إلا في الذهن ثم الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة قالوا: إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة ن ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان بل يمتنع أن تكون شرطا في وجود الأعيان فإنها إما أن تكون صفة للأعيان أو جزءا منها

وصفة الشيء لا تكون خالقة للموصوف وجزء الشيء لا يكون خالقا للجملة فلو قدر أن في الخارج وجودا مطلقا بشرط الإطلاق امتنع أن يكون مبدعا لغيره من الموجودات بل امتنع أن يكون شرطا في وجود غيره فإذن تكون المحدثات والممكنات المعلوم حدوثها وافتقارها إلى الخالق المبدع مستغنية عن هذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق إن قيل: إن له وجودا في الخارج فكيف إذا كان الذي قال هذا القول هو من أشد الناس إنكارا على من جعل وجود هذه الكليات المطلقة المجردة عن الأعيان خارجا عن الذهن

وهم قد قرروا ا العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه فجعلوا الوجود المطلق موضوع هذا العلم لكن هذا هو المطلق الذي ينقسم إلى واجب وممكن وعلة ومعلول وقديم ومحدث

ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق أو بشرط سلب الأمور الثبةتية ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضا لشيء من الماهيات والحقائق

وهذا التعبير مبني على أصلهم تالفاسد وهو ا الوجود يعرض للحقائق الثابتة في الخارج بناء على أنه في الخارج وجود الشيء غير حقيقته فيكون في الخارج حقيقة يعرض لها الوجود تارة ويفارقها أخرى

ومن هنا فرقوا في منطقهم بين الماهية والوجود وهم لو فسروا الماهية بما يكون في الأذهان والوجود بما يكون في الأعيان لكان هذا صحيحا لا ينازع فيه عاقلن وهذا هو الذي تخيلوه في الأصل لكن توهموا أن تلك الماهية التي في الذهن هي بعينها الموجود الذي في الخارج فظنوا أن في هذا الإنسان المعين جواهر عقلية قائمة بأنفسها مغيرة لهذا المعين مثل كونه حيوانا ناطقا وحساسا ومتحركا بالإرادة ونحو ذلك

والصواب أن هذه كلها أسماء لهذا المعين كل اسم يتضمن صفة ليست هي الصفة التي يتضمنها الاسم الآخر فالعين في الخارج هو هو ليس هناك جوهران اثنان حتى يكون أحدهم عارضا للآخر أو معروضا بل هناك ذات وصفات وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أنه لم يمكن ابن سينا وأمثاله أن يجعلوه الوجود المنقسم إلى واجب وممكن فجعلوه الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية كما بين ذلك في شفائه وغيره من كتبه

وهذا مما قد بين هو ـ ومما يعلم كل عاقل ـ أنه يمتنع وجوده في الخارج ثم إذا جعل مطلقا بشرط الإطلاق لم يجز أن ينعت بنعت يوجب امتيازه فلا يقال: هو واجب بنفسه ولا ليس بواجب بنفسه فلا يوصف بنفي ولا إثبات لن هذا نوع من التمييز والتقييد

وهذا حقيقة قول القرامطة الباطنية الذين يمتنعون عن وصفه بالنفي والإثبات ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع

وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية دون العدمية فهو أسوأ جالا من المقيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية فإنه يشارك غيره في مسمى الوجود ويمتاز عنه بأمور وجودية وهو يمتاز عنها بأمور عدمية فيكون كل من الموجودات أكمل منه

وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية معا كان أقرب إلى الوجود من أن يمتاز بسلب الوجود دون العدم وإن كان هذا ممتنعا فذاك ممتنع أيضا وهو أقرب إلى العدم فلزمهم أن يكون الوجود الواجب الذي لا يقبل العد هو الممتنع الذي لا يتصور وجوده في الخارج وإنما يقدره الذهن تقديرا كما يقدر كون الشيء موجودا معدوما أو لا موجودا ولا معدوما فلزم الجمع بين النقيضين والخلو عن النقيضين

وهذا من أعظم الممتنعات بإتفاق العقلاء ن بل قد يقال: إن جميع الممتنعات ترجع إلى الجمع بين النقيضين فلهذا كان ابن سينا وأمثاله من أهل دعوة القرامطة الباطنية من أتباع الحاكم الذي كان بمصر وهؤلاء وأمثالهم من رؤوس الملاحدة الباطنيةن وقد ذكر ذلك عن نفسه وأنه كان هو وأهل بيته من أهل دعوة هؤلاء المصريين الذين يسميهم المسلمون الملاحدة لإلحادهم في أسماء الله وآياته إلحادا أعظم من إلحاد اليهود والنصاري

وأما ملاحدة المتصوفة: كابن عربي الكائي وصاحبه الصدر القونوي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم فقد يقولون: هو الوجود المطلق كما قاله القونوي وجعله هو الوجود من حيث هو هو مع قطع النظر عن كونه واجبا وممكنا وواحدا وكثيرا وهذا معنى قول ابن سبعين وأمثاله القائلين بالإحاطة

ومعلوم أن المطلق لا بشرط ـ كالإنسان المطلق لا بشرط ـ يصدق على هذا الإنسان وهذا الإنسان وعلى الذهني والخارجي فالوجود المطلق لا بشرط يصدق على الواجب والممكن والواحد والكثير والذهني والخارجي وحينئذ فهذا الوجود المطلق ليس موجودا في الخارج مطلقا بلا ريب

ومن قال: إن الكلي الطبيعي موجود في الخارج فقد يريد به حقا وباطلا فإن أراد بذلك أن ما هو كلي في الذهن موجود في الخارج معينا: أي تلك الصورة الذهنية مطابقة للأعيان الموجودة في الخارج كما يطابق الاسم لمسماه والمعني الذهني الموجود الخارجي فهذا صحيح وإن أراد بذلك أن نفس الموجود في الخارج كلي حين وجوده في الخارج فهذا باطل مخالف للحس والعقل فإن الكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه

وكل موجود في الخارج معين متميز بنفسه عن غيره يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه أعني هذه الشركة التي يذكرونها في هذا الموضع وهي اشتراك الأعيان في النوع واشتراك الأنواع في الجنس وهي اشتراك الكليات في الجزئيات

والقسمة المقابلة لهذه الشركة هي قسمة الكلي إلى جزئياته كقسمة الجنس إلى أنواع والنوع إلى أعيانه

وأما الشركة التي يذكرها الفقهاء في كتاب الشركة والقسمة المقابلة لها التي يذكرها الفقهاء في باب القسمة وهي المذكورة في قوله تعالى { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } [ القمر: 28 ] وقوله { لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجرات: 44 ] فتلك شركة في الأعيان الموجودة في الخارج وقسمتها قسمة للكل إلى أجزاءه كقسمة الكلام إلى الاسم والفعل والحرف والأول كقسمة الكلمة الاصطلاحية إلى اسم وفعل وحرف

وإذا عرف أن المقصود الشركة في الكليات لا في الكل فمعلوم أنه لا شركة في المعينات فهذا الإنسان المعين ليس فيه شيء من هذا المعين ولا في هذا شيء من هذا ومعلوم أن الكلي الذي يصلح لاشتراك الجزئيات فيه لا يكون هو جزءا من الجزئي الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه

فمن قال: إن الإنسان الكلي جزء من هذا الإنسان المعين أو إن الإنسان المطلق جزء من هذا المعين بمعني أن هذا المعين فيه شيء مطلق أو شيء كلي فكلامه ظاهر الفساد

وبهذا تنحل شبه كثيرة توجد في كلام الرازي وأمثاله من أهل المنطق ونحوهم ممن التبس عليهم هذا المقام

وجود الله هل هو ماهيته أو زائد على ماهيته؟[عدل]

وبسبب التباس هذا عليهم حاروا في وجود الله تعالى: هل هو ماهيته أم هو زائد على ماهيته؟ وهل لفظ الوجود مقول بالتواطؤ والتشكيك أو مقول بالاشتراك اللفظي؟

فقالوا: إن قلنا: إن لفظ الوجود مشترك اشتراكا لفظيا لزم ألا يكون الوجود منقسما إلى واجب وممكن وهذا خاف ما اتفق عليه العقلاء وما يعلم بصريح العقل

وإن قلنا: إنه متواطئ أو مشكك لزم أن تكون الموجودات مشتركة في مسمى الوجود فيكون الوجود مشتركا بين الواجب والممكن فيحتاج الوجود المشترك إلى ما يميز وجود هذا عن وجود هذا والامتياز يكون بالحقائق المختصة فيكون وجود هذا زائدا على ماهيته فيكون الوجود الواجب مفتقرا إلى غيره

ويذكرون ما يذكره الرازي وأتباعه: أن للناس في وجود الرب تعالى ثلاثة أقوال فقط: أحدها أن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي فقط

والثاني: أن وجود الواجب زائد على ماهيته

والثالث: أنه وجود مطلق ليس له حقيقة غير الوجود المشروط بسلب كل ماهية ثبوتية عنه

رأي ابن تيمية[عدل]

فيقال لهم: الأقوال الثلاثة باطلة والقول الحق ليس واحدا من الثلاثة

وإنما أصل الغلط هو توهمهم أنا إذا قلنا: إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لزم أن يكون في الخارج وجود هو نفسه الواجب وهو نفسه في الممكن وهذا غلط فليس في الخارج بين الموجودين شيء هو نفسه فيهما ولكن لفظالوجود ومعناه الذي في الذهن والخط الذي يدل على اللفظ يتناول الموجودين ويعمهما وهما يشتركان فيه فشمول معنى الوجود الذي في الذهن لهما كشمول لفظ الوجود والخط الذي يكتب به هذا اللفظ لهما فهما مشتركان في هذا وأما نفس ما يوجد في الخارج فإنما يشتبهان فيه من بعض الوجوه فأما أن تكون نفس ذات هذا وصفته فيها شيء من ذات هذا وصفته فهذا مما يعلم فساده كل من تصوره ومن توقف فيه فلعدم تصوره له

وحينئذ فالقول في اسم الوجود كالقول في اسم الذات والعين والنفس والماهيةوالحقيقة وكما أن الحقيقة تنقسم إلى: حقيقة واجبة وحقيقة ممكنة وكذلك لفظ الماهية ولفظ الذات ونحو ذلك فكذلك لفظ الوجود فإذا قلنا: إن الحقيقة أو الماهية تنقسم إلى واجبة وممكنة لم يلزم أن تكون ماهية الواجب فيها شيء من ماهية الممكن فذلك إذا قيل: الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لم يلزم أن يكون الوجود الواجب فيه شيء من وجود غيره بل ليس فيه وجود مطلق ولا ماهية مطلقة بل ماهيته هي حقيقية وهي وجوده

وإذا كان المخلوق المعين وجوده الذي في الخارج هو نفس ذاته وحقيقته وماهيته التي في الخارج ليس في الخارج شيئان فالخالق تعالى أولى أن تكون حقيقته هي وجوده الثابت الذي لا يشركه فيه أحد وهو نفس ماهيته التي هي حقيقته الثابتة في نفس الأمر

ولو قدر أن الوجود المشترك بين الواجب والممكن موجود فيهما في الخارج وأن الحيوانية المشتركة هي بعينها في الناطق والأعجم: كان تميز أحدهما عن الآخر بوجود خاص كما يتميز الإنسان بحيوانية تخصه وكما أن السواد والبياض إذا اشتركا في مسمى اللون تميز أحدهما بلونه الخاص عن الآخر

وهؤلاء الضالون يجعلون الواحد اثنين والأثنين واحد فيجعلون هذه الصفة هي هذه الصفة ويجعلون الصفة هي الموصوف فيجعلون الاثنين واحدا كما قالوا: إن العلم هو القدرة وهو الإرادة والعلم هو العالم ويجعلون الواحد اثنين كما يجعلون الشيء المعين الذي هو هذا الإنسان هو عدتة جواهر: : إنسان وحيوان وناطق وناطق وحساس ومتحرك بالإرادة ويجعلون كلا من هذه الجواهر غير الآخر ومعلوم أنه جوهر واحد له صفات متعددة وكما يفرقون بين المادة والصورة ويجعلونهما جوهرين عقليين قائمين بأنفسهما وإنما المعقول هو قيام الصفات بالموصوفات والاعراض بالجواهر كالصورة الصناعية: مثل صورة الخاتم والدرهم والسرير والثوب فإنه عرض قائم بجوهر هو الفضة والخشب والغزل وكذلك الاتصال والانفصال قائمان بمحل هو الجسم

وهكذا يجعلون الصورة الذهنية ثابتة في الخارج كقولهم في المجردات المفارقات للمادة وليس معهم ما يثبت أنه مفارق إلا النفس الناطقة إذا فارقت البدن بالموت والمجردات هي الكليات التي تجردها النفس من الأعيان المشخصة فيرجع الأمر إلى النفس وما يقوم بها ويجعلون الموجد في الخارج هو الموجود في الذهن كما يجعلون الوجود الواجب هو الوجود المطلق

فهذه الأمور من أصول ضلالهم: حيث جعلوا الواحد متعددا والمتعدد وحدا وجعلوا من في الذهن في الخارج وجعلوا ما في الذهن ولزم من ذلك أن يجعلوا الثبت منتفيا والمنتفي ثابتا فهذه الأمور من أجناس ضلالهم وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أنا ننبه على بعض ما نبين به تناقضهم وضلالهم في عقلياتهم التي نفوا بها صفات الله عز وجل وعارضوا بها نصوص الرسول الثابتة بصحيح المنقول الموافقة لصريح المعقول وكلما أمعن الفاضل الذكي في معرفة أقوال هؤلاء الملاحدة ومن وافقهم في بعض أقوالهم من أهل البدع كنفاة بعض الصفات الذين يزعمون أن المعقول عارض كلام الرسول وأنه يجب تقديمه عليه فإنه يتبين له انه يعلم بالعقل الصريح ما يصدق ما أخبر به الرسول وما به يتبين فساد ما يعارض ذلك

ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة وصاروا يدخلون فيها من المعاني ماليس هو المفهوم منها في لغات الأمم ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه ولا ريب أن فيه دقة وغموضا لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته فأخذ يعترض علهم قالوا له: أنت لا تفهم هذا وهذا لا يصلح لك فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل ونقلوا الناس في مخاطبتهم درجات كما ينقل إخوانهم القرامطة المستجيبين لهم درجة حتى يوصلوهم إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي مضمونه جحد الصانع وتكذيب رسله وجحد شرائعه وفساد العقل والدين والدخول في غاية الإلحاد ن المشتمل على غاية الفساد في المبدأ والمعاد

كيف نعرف الضلال ونتجنبه[عدل]

وهذا القدر الذي وقع فيه ضلال المتفلسفة لم يقصده عقلاؤهم في الأصل بل كان غرضهم تحقيق الأمور والمعارف لكن وقعت لهم شبهات ضلوا بها كما ضل من ضل ابتداء من المشركين منهم ومن غيرهم من الكفار ممن ضل ببعض الشبهات ولهذا يجب على من يريد كشف ضلال هؤلاء وأمثالهم: أن يوافقهم على لفظ مجمل حتى يتبين معناه ويعرف مقصوده ويكون الكلام في المعاني العقلية المبينة لا في معان مشتبهة بألفاظ مجملة

واعلم أن هذا نافع في الشرع والعقل :

أما الشرع: فإن علينا أن نؤمن بما قاله الله ورسوله فكل ما ثبت أن الرسول قاله فعلينا أن نصدق به وإن لم نفهم معناه لأنا قد علمنا أنه الصادق المصدوق الذي لا يقول على الله إلا الحق وما تنازع فيه الأمة من الألفاظ المجملة كلفظ المتحيز والجهة والجسم والجوهر والعرض وأمثال ذلك فليس على أحد أن يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء لا في النفي ولا في الإثبات حتى يتبين له معناه فإن كان المتكلم بذلك أراد معنى صحيحا وافقا لقول المعصوم كان ما أراده حقا وإن كان أراد به معنى مخالفا لقول المعصوم كان ما أراده باطلا

ثم يبقى النظر في إطلاق ذلك اللفظ ونفيه وهي مسألة فقهية فقد يكون المعنى صحيحا ويمتنع من إطلاق اللفظ لما فيه من مفسدة وقد يكون اللفظ مشروعا ولكن المعنى الذي أراده المتكلم باطل كما قال علي رضي الله عنه ـ لمن قال من الخوارج المارقين لا حكم إلا لله: كلمة حق أريد بها باطل

وقد يفرق بين اللفظ الذي يدعى به الرب فإنه لا يدعى إلا بالأسماء الحسنى وبين ما يخبر به عنه لإثبات حق أو نفي باطل

وإذا كان في باب العبارة عن النبي علينا أن نفرق بين مخاطبته وبين الإخبار عنه فإذا خاطبناه كان علينا أن نتأدب بآداب الله تعالى حيث قال { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } [ النور: 63 ] فلا نقول: يا محمد يا أحمد كما يدعو بعضنا بعضا بل نقول: يا رسول الله يا نبي الله

والله سبحانه وتعالى خاطب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم فقال { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } [ البقرة: 35 ] { يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك } [ هود: 48 ] { يا موسى * إني أنا ربك } [ طه: 11 - 12 ] { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } [ آل عمران: 55 ] ولما خاطبه قال { يا أيها النبي } [ التحريم: 1 ] { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة: 41 ] { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة: 67 ] { يا أيها المزمل } [ المزمل: 1 ] { يا أيها المدثر } [ المدثر: 1 ] فنحن أحق أن نتأدب في دعائه وخطابه

وأما إذا كان في مقام الإخبار عنه قلنا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وقلنا: محمد رسول الله وخاتم النبيين فنخبر عنه باسمه كما أخبر الله سبحانه لما أخبر عنه { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } [ الحزاب: 40 ] وقال { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا } [ الفتح: 29 ] وقال { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } [ آل عمران: 144 ] وقال { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } [ محمد: 2 ]

فالفرق بين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت بالشرع والعقل وبه يظهر الفرق بين ما يدعى الله به من الأسماء الحسنى وبين ما يخبر به عنه وجل مما هو حق ثابت لإثبات ما يستحقه سبحانه من صفات الكمال ونفي ما تنزه عنه عز وجل من العيوب والنقائص فإنه الملك القدوس السلام سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا

وقال تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } [ الأعراف: 180 ] مع قوله { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } [ الأنعام: 19 ] ولا يقال في الدعاء: يا شيء

وأما نفع هذا الاستفسار في العقل: فمن تكلم بلفظ يحتمل معاني لم يقبل قوله ولم يرد حنى نستفسره ونستفصله حتى يتبين المعنى المراد ويبقى الكلام في المعاني العقلية لا في المنازعات اللفظية فقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء ومن كان متكلما بالمعقول الصرف لم يتقيد بلفظ بل يجرد بأي عبارة دلت عليه

أرباب المقالات تلقوا عن أسلافهم مقالات بألفاظ لهم: منها ما كان أعجميا فعربت كما عربت ألفاظ اليونان والهند والفرس وغيرهم وقد يكون المترجم عنهم صحيح الترجمة وقد لا يكون صحيح الترجمة ومنها ما هو عربي

ونحن إنما نخاطب المم بلغتنا العربية فإذا نقلوا عن أسلافهم لفظ الهيولى والصورة والمادة والعقل والنفس والصفات الذاتية والعرضية والمجرد والتركيب والتأليف والجسم والجوهر والعرض والماهية والجزءونحو ذلك بين ما تحتمل هذه الألفاظ من المعاني كما إذا قال قائلهم: النوع مركب من الجنس والفصل كتركيب الإنسان من الحيوان والناطق أو من الحيوانية والناطقية وإن هذه أجزاء الإنسان وأجزاء الحد والواجب سبحانه إذا كان له صفات لزم أن يكون مركبا ولمركب مفتقر إلى أجزائه والمفتقر إلى أجزائه لا يكون واجبا ـ استفسروا عن لفظ التركيب والجزء والافتقار والغير فإن جميع هذه الألفاظ فيها اشتراك والتباس وإجمال

فإذا قال القائل: الإنسان مركب من الحيوان والناطق أو من الحيوانية والناطقية

قيل له: أتعني بذلك الإنسان الموجود في الخارج وهو هذا الشخص وهذا الشخص أو تعني الإنسان المطلق من حيث هو هو؟

فإن أراد الأول قيل له: هذا الإنسان وهذا الإنسان وغيرهما إذا قلت ك هو مركب من هذين الجزأين

فيقال لك: الحيوان والناطق جوهران قائمان بأنفسهما

فإذا قلت: هما جزءان للإنسان الموجود في الخارج لزم أن يكون الإنسان الموجود في الخارج فيه جوهران: أحدهما حيوان والآخر ناطق غير الإنسان المعين وهذا مكابرة للحس والعقل

وإن قال: أنا أريد بذلك أن الإنسان يوصف بأنه حيوان وأنه ناطق

قيل له: هذا معنى صحيح لكن تسمية الصفات أجزاء ودعوى أن الموصوف مركب منها وأنها متقدمة عليه ومقومة له في الوجودين الذهني والخارجي كتقدم الجزء على الكل والبسيط على المركب ونحو ذلك مما يقولونه في هذا الباب: هو مما يعلم فساده بصريح العقل

وإن قال: هو مركب من الحيوانية والناطقية

قيل له: إن أردت بالحيوانية والناطقية: الحيوان والناطقن كان الكلام واحدا وإن أردت العرضين القائمين بالحي الناطق وهما: صفتاه كان مضمونه أن الموصوف مركب من صفاته وأنها أجزاء له ومقومة له وسابقة عليه ومعلوم أن الجوهر لا يتركب من الأعراض وأن صفات الموصوف لا تكون سابقة له في الوجود الخارجي

وإن قال: أنا أريد بذلك أن الإنسان من حيث هو هو مركب من ذلك

قيل له: إن الإنسان من حيث هو هو لا وجود له في الخارج بل هذا هو الإنسان المطلق والمطلقات لا تكون مطلقة إلا في الأذهان فقد جعلت المركب هو ما يتصوره الذهن وما يتصوره الذهن هو مركب من الأمور التي يقدرها الذهن فإذا قدرت في النفس جسما حساسا متحركا بالإرادة ناطقا كان هذا المتصور في الذهن مركبا من هذه الأمور وإن قدرت في النفس حيوانا ناطقا كان مركبا من هذا وهذا وإن قدرت حيوانا صاهلا كان مركبا من هذا وهذا

وإن قلت: إن الحقائق الموجودة في الخارج مركبة من هذه الصور الذهنية كان هذا معلوم الفساد بالضرورة

وإن قلت: إن هذه مطابقة لها وصادقة عليها فهذا يكون صحيحا إذا كان ما في النفس علما لا جهلا

وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن سوغ جعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة بالعين كان كلامه مستلزما أن يجعل وجود الحقائق المتنوعة وجودا واحدا بالعين بل هذا أولى لأن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود فمن اشتبه عليه أن العلم هو القدرة وأنهما نفس الذات العالمة القادرة: كان أن يشتبه عليه أن الوجود واحد أولى وأحرى

وهذه الحجة المبينة على التركيب هي أصل قول الجهمية نفاة الصفات والأفعال وهم الجهمية من المتفلسفة ونحوهم ويسمون ذلك التوحيد

حجة الأعراض عند المتكلمين[عدل]

وأما المعتزلة وأتباعهم فقد يحتجون بذلك لكن عمدتهم الكبرى حجتهم التي زعموا أنهم أثبتوا بها حدوث العالم وهي حجة الأعراض فإنهم استدلوا على حدوث العالم بحدوث الأجسام واستدلوا على حدوث الأجسام بأنها مستلزمة للأعراض كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق ثم قالوا: إن الأعراض أو بعض الأعراض حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فاحتاجوا في هذه الطريق إلى إثبات الأعراض أولا ثم إثبات لزومها للجسم

فادعى قوم أن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض وأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده وادعوا أن كل جسم له طعم ولون وريح وأن العرض لا يبقى زمانين كما زعم ذلك من سلكه من أهل الكلام الصفاتية نفاه الفعل الاختياري القائم بذاته كالقاضي أبو بكر وأبي المعالي ونحوهما ومن يوافقهم أحيانا كالقاضي أبي يعلى وغيره ولما ادعوا أن الأعراض جميعها لا تبقى زمانين لزم أن تكون حادثة شيئا بعد شيء والجسم لا يخلو منها فيكون حادثا بناء على امتناع حوادث لا أول لها

وعلى هذه الطريق اعتمد كثير منهم في حدوث العالم ومن متأخريهم أبو الحسن الآمدي وغيره

وأما جمهور العقلاء فأنكروا ذلك وقالوا: من المعلوم أن الجسم يكون متحركا تارة وساكنا أخرى

وهل السكون أمر وجودي أو عدمي؟ على قولين

وأما الاجتماع والافتراق فمبني على إثبات الجوهر الفرد

فمن قال بإثباته قال: إن الجسم لا يخلو عن الأكوان الأربعة وهي: الاجتماع والافتراق والحركة والسكون ومن لم يقل بإثباته لم يجعل الاجتماع من الأعراض الزائدة على ذات الجسم

ونفاة الجوهر الفرد كثير من طوائف أهل الكلام وأهل الفلسفة كالهشامية والنجارية والضرارية والكلابية وكثير من الكرامية

وأما من قال: إن نفيه هو قول أهل الإلحاد وإن القول بعدم تماثل الأجسام ونحو ذلك هو من أقوال أهل الإلحاد: فهذا من أقوال المتكلمين كصاحب الإرشاد ونحوه ممن يظن أن هذا الدليل الذي سلكوه في إثبات العالم هو أصل الدين فما يفضي إلى إبطال هذا الدليل لا يكون إلا من أقوال الملحدين

ومن لم يقل بأن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض قال: إنه يستلزم بعضها كالأكوان أو الحركة والسكون وإن ذلك حادث وهذه الطريقة هي التي يسلكها أكثر المعتزلة وغيرهم ممن قد يوافقهم أحيانا في بعض الأمور ك أبي الوفاء بن عقيل وغيره

ثم هؤلاء بعد أن أثبتوا لزوم الأعراض أو بعضها للجسم وأثبتوا حدوث ما يلزم الجسم أو حدوث بعضه احتاجوا إلى أن يقولوا: ما لم يسبق الحوادث فهو حادث فمنهم من اكتفى بذلك ظنا منهم أن ذلك ظاهر ومنهم من تفطن لكون ذلك مفتقرا إلى إبطال حوادث لا أول لها إذ يمكن أن يقال: إن الحادث بعد أن لم يكن هو كل شخص شخص من أعيان الحوادث وأما النوع فلم يزل فتكلموا هنا في إبطال وجود ما لا نهاية له بطريق التطبيق والموازاة والمسامتة

وملخص ذلك أن ما لا يتناهى إذا فرض فيه حد كزمن الطوفان وفرض حد بعد ذلك كزمن الهجرة وقدر امتداد هذين إلى ما لا نهاية له فإن لزم كون الزائد مثل الناقص وإن تفاضلا لزم وقوع التفاضل فيما لا يتناهى

وهذه نكتة الدليل فإن منازعيهم جوزوا مثل هذا التفاضل إذا كان ما لا يتناهى ليس هو موجودا له أول وآخر وألزموهم بالأبد وذلك إذا أخذ ما لا يتناهى في أحد الطرفين قدر متناهيا من الطرف الآخر كما إذا قدرت الحوادث المتناهية إلى زمن الطوفان وقدرت إلى زمن الهجرة فإنها كانت لا تتناهى من الطرف المتقدم فإنها متناهية من الطرف الذي يلينا

فإذا قال القائل: إذا طبقنا بين هذه وهذه فإن تساويا لزم أن يكون الزائد كالناقص أو أن يكون وجود الزيادة كعدمها وإن تفاضلا لزم وجود التفاضل فيما لا يتناهى

كان لهم عنه جوابان :

أحدهما: أنا لا نسلم إمكان التطبيق مع التفاضل وإنما يمكن التطبيق بين المتماثلين لا بين المتفاضلين

والجواب الثاني: أن هذا يستلزم التفاضل بين الجانب التناهي لا بين الجانب الذي لا يتناهى وهذا لا محذور فيه

ولبعض الناس جواب ثالث وهو أن التطبيق إنما يمكن في الموجود لا في المعدوم

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55