درء تعارض العقل والنقل/23

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


تابع كلام الإمام أحمد[عدل]

قال الإمام أحمد عن الجهمية فإن سألهم الناس عن قوله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى: 11 يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو فوق العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا يعقل ولا غاية ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل هو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون شيئين مختلفين وفي نسخة ولا يوصف بوصفين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون ولا له جسم وليس هو معقولا وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتون بشيء وفي نسخة لا يثبتون شيئا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى فقالوا لم يتكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح على الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله

فهذا الذي وصفه الإمام أحمد وغيره من علماء السلف من كلام الجهمية هو كلام من وافقهم من القرامطة الباطنية والمتفلسفة المتبعين لأرسطو كابن سينا وأمثاله ممن يقول إنه الوجود المطلق أو المقيد بالقيود السلبية ونحو ذلك وهو حقيقة كلام القائلين بوحدة الوجود

ولهذا ذكر عنهم أنهم سلبوه كل ما يتميز به موجود عن موجود فسلبوه الصفات والأفعال وسائر ما يختص بموجود

ولما قالوا هو شيء لا كالأشياء علم الأئمة مقصودهم فإن الموجودين لا بد أن يتفقا في مسمى الشيء فإذا لم يكن هناك قدر اتفقا فيه اصلا لزم أن لا يكونا جميعا موجودين وهذا مما يعرف بالعقل

ولهذا قال الإمام أحمد فقلنا إن الشيء الذي كالأشياء قد عرف أهل العقل إنه لا شيء فبين أن هذا مما يعرف بالعقل وهذا مما يعلم بصريح المعقولات

ولهذا كان قول جهم المشهور عنه الذي نقله عنه عامة الناس أنه لا يسمى الله شيئا لأن ذلك بزعمه يقتضي التشبيه لأن اسم الشيء إذا قيل على الخالق والمخلوق لزم اشتراكهما في مسمى الشيء وهذا تشبيه بزعمه

وقوله باطل فإنه سبحانه وإن كان لا يماثله شيء من الأشياء في شيء من الأشياء فمن المعلوم بالعقل أن كل شيئين فهما متفقان في مسمى الشيء وكل موجودين فيها متفقان في مسمى الوجود وكل ذاتين فهما متفقان في مسمى الذات فإنك تقول الشيء والموجود والذات ينقسم إلى قديم ومحدث وواجب وممكن وخالق ومخلوق ومورد التقسيم بين الأقسام

وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع وبينا غلط من جعل اللفظ مشتركا اشتراكا لفظيا

وهذا الذي نبه عليه الإمام أحمد من أن مسمى الشيء والوجود ونحو ذلك معنى عام كلي تشترك فيه الأشياء كلها والموجودات كلها هو المعلوم بصريح العقل الذي عليه عامة العقلاء

ومن نازع فيه فلا بد أن يقول به أيضا فيتناقض كلامه في ذلك كما تناقض فيه كلام الشهر ستاني والرازي والآمدي وغيرهم إذ يجعلونه تارة عاما مقسوما مشتركا اشتراكا لفظيا ومعنويا بين الأشياء الموجودات ويجعلونه تارة مشتركا اشتراكا لفظيا فقط كلفظ المشتري المشترك بين المبتاع والكوكب ولفظ سهيل المشترك بين الكوكب وبين الرجل المسمى بسهيل ولفظ الثريا المشترك بين الكوكب وبين المرأة المسماة ثريا

كما قيل :

أيها المنكح الثريا سهيلا... عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت... وسهيل إذا استقل يمان

ولما كان هذا مما يعرف بالعقل قال أحمد فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتمون بشيء أي لا يقصدون شيئا فإن المؤتم بالشيء يؤمه ويقصده والإمام الطريق لأن السالك يأتم به وهو أيضا الكتاب الذي يأتم به القارىء وهو الإمام الذي يأتم به المصلي والأمة القدوة الذي يؤتم به أي يقتدى والأمة أيضا الدين يقال فلان لا أمة له أي لا دين له ولا نحلة له

قال الشاعر :

وهل يستوي ذو أمة وكفور

وقول النابغة :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

فقول أحمد لا يأتمون بشيء أي لا يدينون بدين ومن روي أنه قال إنكم لا تثبتون شيئا فقوله ظاهر فإن قول الجهمية يتضمن أنهم لا يثبتون في الخارج ربا خالقا للعالم

ثم قال فإذا قيل للجهمية من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء

فقال أحمد في هذا الموضع قد عرف المسلمون وقال هناك قد عرف الناس لأنه هنا تكلم في كونه معبودا وأنهم يعبدون وهناك تكلم في كونه موجودا فلما وصفوه بالسلب المحض أخبر أن أهل العقل يعلمون أن الموصوف بالسلب المحض هو العدم فعرف الناس أنهم لا يثبتون شيئا

وهنا لما سألهم: من يعبدون؟ فأخبروا انهم يعبدون مدبر الخلق وقالوا: إنه مجهول لا يعرف بصفة عرف المسلمون أنهم لا يعبدون شيئا لأن العبادة أصلها قصد المعبود وإرادته والقصد والإرادة مستلزمة للعلم بالمراد المقصود

فما يكون مجهولا لا يعرف بصفة يمتنع ان يكون مقصودا فيمتنع أن يكون معبودا والعبادة هي أمر ديني أمر الله بها ورسوله وهي أصل دين المسلمين

فلهذا قال هنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فبين أن الناس يعلمون بعقلهم أنهم لا يثبتون شيئا وأن المسلمين يعرفون أنهم لا يعبدون شيئا وبين أن الجاهل إذا سمع قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله

وهذا الذي ذكره الإمام أحمد أصل قول هؤلاء النفاة الجهمية وسر مذهبهم وكلما كان الرجل أعقل وأعرف وأعلم وأفضل وأخبر بحقيقة الأمر في نفسه وبقول هؤلاء النفاة أزداد في ذلك بصيرة وإيمانا ويقينا وعرفانا

وقد ذكر ابن جرير في تاريخه نسخة الكتاب الذي أرسل في المحنة المشهورة لما كان المأمور قد ذهب إلى ناحية طرسوس وأرسل كتابا إلى الناس ببغداد وأمر نائبه إسحاق بن إبراهيم أن يقرأه على الناس ويدعوهم إلى موافقته فامتنع العلماء عن الإجابة حتى أرسل كتابا يهدد بن الناس وأمر بقتل القاضيين إذا لم يجيبا: قاضي الشرقية والغربية وهما: بشر بن الوليد وعبد الرحمن بن إسحاق فأجاب الناس كرها واعترفوا بذلك وامتنع عن الإجابة سبعة فقيدوهم فأجاب منهم خمسة وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح النيسابوري فأرسلوهما مقيدين فمات محمد بن نوح في الطريق فبقي أحمد بن حنبل ومات المأمون قبل أن يصير إليه أحمد والمقصود أنه ذكر في كتابه لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فوافقه من لم يعرف حقيقة هذه الكلمة وذكر عن أحمد أنه قال: لا يشبه الأشياء وليس كمثله شيء ونحو ذلك أو كما قال

وأما قوله: بوجه من الوجوه فامتنع منها وذلك لأنه عرف أن مضمون ذلك التعطيل المحض فإنه يقتضي أنه ليس بموجود ولا شيء ولا حي ولا عليم ولا قدير ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى

وهذا النفي حقيقة قول القرامطة والله تعالى: ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه بل هو سبحانه في كل ما هو موصوف به مختص بما لا يماثله فيه غيره وله المثل الأعلى

ولكن لفظ الشبه فيه إجمال وإبهام فما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور ولو كونهما موجودين وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل منهما

فإذا قيل: هذا لا يوافق هذا بوجه من الوجوه ولا يواطئه بوجه من الوجوه كان هذا ممتنعا

وكذلك إذا أريد بقول القائل لا يشبهه بوجه من الوجوه هذا المعنى بخلاف ما إذا أراد بذلك المماثلة والمساواة والمكافاة أو أراد ذلك بلفظ المشاركة والموافقة والمواطأة فإنه سبحانه لا يماثل شيء بوجه من الوجوه ولا شريك له بوجه من الوجوه لا سيما والكليات التي يتفق فيها الشيئان إنما هي في الأذهان لا في الأعيان فليس في الموجودات الخارجية اثنان اشتركا في شيء فضلا عن أن يكون الخالق تعالى مشاركا لغيره في شيء من الأشياء سبحانه وتعالى

والقرامطة الباطنية كالجهمية الذين ينفون أن يسمى الله بشيء من الأسماء التي يسمى بها مخلوق لبسوا على الناس بلفظ التشبيه والتركيب ولهذا أنكر جماهير الطوائف عليهم من المعتزلة والنجارية والضرارية ومتكلمة الصفاتية وغيرهم بل أنكر عليهم من أنكر من الفلاسفة مع تناقض كثير من الناس معهم

ولهذا زعم أبو العباس الناشيء أن الأسماء التي يسمى بها الله ويسمى بعض عباده بها هي حقيقة في الله مجاز في عباده نقيض قول القرامطة الباطنية والجهمية

ولهذا كان السلف يجعلون الجهمية زنادقة ولم يكن إذا ذاك ظهرت ملاحدة الشيعة بل في عصر محنة الجهمية في خلافة المأمون والمعتصم ونحوهما شرعت طوائف الملاحدة الباطنية تظهر مع ظهور الجهمية كما ظهرت الخرمية أصحاب بابك الخرمي وهذا احد ألقاب الباطنية

ويقال إنه سنة عشرين وهي السنة التي ضرب فهذا فيها أحمد ظهرت أوائل القرامطة الذين ظهروا بالعراق ثم صارت لهم شوكة بهجر مع الجناني وأتباعه ثم ظهرت دعوتهم الكبرى بأرض المغرب ثم مصر إلى أن فتحها أهل السنة بعد ذلك وبقاياهم في الأرض متفرقون

وهؤلاء لهم أنواع من الإلحاد في غير الأسماء والصفات وإنما المقصود هنا بيان إلحاد الجهمية: نفاة الأسماء والصفات فهؤلاء الذين ينفون حقائق أسماء الله الحسنى ويقولون: إنما يسمى بها مجازا أو المقصود بها غيره أو لا يعرف معناها أصل تلبيسهم هو ما في إطلاق هذه الأسماء مما يظنونه من التشبيه الذي يجب نفيه ولهذا عظم كلام المسلمين في هذا الباب وقد بسط في غير هذا الموضع

كلام الجويني عن صفات الله تعالى[عدل]

وتحقيق هذا الموضع من أعظم أصول الدين كما قال أبو المعالي الجويني في الإرشاد من صفات القديم مخالفته للحوادث فالرب لا يشبه شيئا من الحوادث ولا يشبهه شيء منها

قال: والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين فقد غلت طائفة في النفي فعطلت وغلت طائفة في الإثبات فاما الغلاة في النفي فقالوا: الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه وقالوا على هذا القديم سبحانه لا يوصف بالوجود بل يقال: ليس بمعدوم وكذلك لا يوصف بانه قادر عالم حي بل يقال: ليس بعاجز ولا جاهل ولا ميت

قال وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية وأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول بمماثلة القديم الحوادث

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: وهذا الذي قاله أبو المعالي من الاعتناء بهذا الأصل متفق عليه بين الطوائف والذي ذكره عن النفاة هو قول الجهمية الذي ذكره الإمام أحمد ولهذا نقلوا عن جهم أنه لا يسمى الله بشيء ونقلوا عنه أنه لا يسميه باسم من الأسماء التي يسمي بها الخلق: كالحي والعالم والسميع والبصير بل يسميه قادرا خالقا لأن العبد عنده ليس بقادر إذ كان هو رأس الجهمية الجبرية

ولما كان كل موجودين لا بد أن يكون بينهما اتفاق من بعض الوجوه واختلاف من بعض الوجوه وقد أنكر طائفة من الناس ذلك وقالوا المتماثلان لا يختلفان بحال والمختلفان لا يشتبهان في شيء البتة

واضطرب من خالف شيئا من السنة في الأصل الذي يضبطه في نفي التشبيه إذ جعل مسمى التشبيه والتمثيل واحدا فقالت الباطنية وبعض الفلاسفة إن الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه والتماثل

وقال النجار والقلانسي: المثلان هما المجتمعان في صفة من صفات الإثبات إذا لم يكن أحدهما بالثاني لحترز بهذا القيد عن القديم والحادث

تابع كلام الجويني[عدل]

قال أبو المعالي فأما الرد على الفلاسفة فمن أوجه أحدها: الاتفاق على أن السواد يشارك البياض في بعض صفات الإثبات: من الوجود والعرضية واللونية ثم هما مختلفان وكذلك الجوهر والعرض والقديم والحادث لا يمتنع اشتراكهما في صفة واحدة مع اختلافهما في سائر الصفات ويقال لهم: أثبتوا الصانع المدبر أم لا تثبتونه؟ فإن أثبتوه لزمهم من الحكم بإثباته ما حاذروه فإن الحادث ثابت فاستويا في الثبوت ولا واسطة بين الإثبات والنفي فإن قالوا: ليس بمنفي قيل لهم: نفي النفي إثبات كما أن نفي الإثبات نفي وإذا لزم الثبوت من نفي النفي حصلت المماثلة فإن قالوا: نحن لا نطلق الإثبات على صفاته ولا ننطق به قلنا: قد نطقتم في صفات الرب بالإثبات أو بصيغة تتضمنه والمقصود من العبارات معناها ثم نقول أتعتقدون ثبوت الإله سبحانه؟ فإن قالوا: لا نعتقده قطع الكلام عنهم فيما هو فرع له على أنهم راغموا البديهة لعلمنا بأن نفي النفي إثبات وإن قالوا: نعتقد الثبوت ولا ننطق به قلنا كلامنا في الحقائق لا في الإطلاقات فإن قالوا فصفوا الإله بالثبوت والوجود ولا تنطقوا به واعتقدوا وجود الحادث ولا تنطقوا به لتنفي المماثلة لفظا فغن المماثلة لفظا مما يتوقى في العقائد قلنا: يتوقى اللفظ لأدائه إلى الحدوث أو إلى النقص فكل مالا يؤدي إلى الحدوث وإلى النقص لا نكثرت به ثم محاذرة التعطيل أولى من محاذرة التشبيه قال: ومما يتمسك به أن نقول هلا قلتم: الاشتراك في صفة النفي يوجب الاشتباه؟ وما الفرق بين صفة الإثبات والنفي في هذا الباب؟ ثم نقول: الرب سبحانه معقول ومذكور كالحادث وهو سبحانه مخالف للحادث ولا مخالفة إلا بين اثنين

قال فأما ما قيد النجار به كلامه فليس بعاصم فإن التماثل يتلقى من الاجتماع في الصفة فأما كون أحدهما بالثاني أو المصير إلى أنه ليس به فلا أثر له في التشابه والتماثل

واختار أبو المعالي ما اختاره القاضي أبو بكر وأمثاله ويشاركهم في ذلك طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلي وقالوا: إن المثلين كل موجودين ثبت لكل واحد منهما من صفات النفس ما ثبت للآخر ولا يجوز أن ينفرد أحد المثلين عن الآخر بصفة نفس ويجوز أن ينفرد بصفة معنى وقوعا يجوز مثلها على مماثلة وبيان ذلك أن الجواهر متماثلة لتساويها في صفات الأنفس إذ لا يستبد جوهر عن جوهر بالتحيز وقبول العرض والقيام بالنفس وقد يختص بعض الجواهر بضروب من الأعراض يجوز أمثالها في سائر الجواهر ويجوز أن يشارك الشيء ما يخالفه في الوجود مثل كونهما عرضين لونين خلافا للباطنية قالوا: ولا يجوز ان يتماثل الشيئان من وجه ويختلفا من وجه لأنه إذا قلنا: المثلان هما المتساويان في جميع صفات النفس فإذا اختلف الشيئان من وجه فليسا متماثلين من كل وجه إذ يستحيل التماثل في جميع الوجوه مع الاختلاف في وجه من الوجوه

تعليق ابن تيمية[عدل]

قلت: هذا بناء على أصل تلقوه من المعتزلة وهو أن الجواهر والأجسام متماثلة بخلاف الأعراض فإنها قد تختلف وقد تتماثل

وحقيقة هذا القول أن الأجسام متماثلة من كل وجه لا تختلف من وجه دون وجه بل الثلج مماثل للنار من كل وجه والتراب مماثل للذهب من كل وجه والخبز مماثل للحديد من كل وجه إذ كانا متماثلين في صفات النفس عندهم

وهذا القول فيه من مخالفة الحس والعقل ما يستغنى به عن بسط الرد على صاحبه بل أصل دعوى تماثل الأجسام من أفسد الأقوال بل القول في تماثلها واختلافها كالقول في تماثل الأعراض واختلافها فإنها تتماثل تارة وتختلف أخرى وتفريقهم بين الصفات النفسية والمعنوية اللازمة للمعين يشبه تفريق أهل المنطق بين الصفات الذاتية واللازمة للماهية وكلاهما قول فاسد لا حقيقة له بل قول هؤلاء أفسد من قول أهل المنطق

وإذا وقع الكلام في جسم مطلق وجوهر مطلق فهذا لا وجود له في الخارج وإن وقع في الوجود من الأجسام: كالنار والماء والتراب والإنسان والفرس والذهب والبر والتمر فكل جسم من هذه الأجسام له صفات نفسية لازمة له لا تزول إلا باستحالة نفسه فدعوى المدعي أنه ليس له من الصفات النفسية إلا التحيز وقبول العرض والقيام بالنفس أفسد من قول أهل المنطق فإن أولئك جعلوا مثلا كون الحيوان حساسا متحركا بالإرادة من الصفات الذاتية وهؤلاء لم يجعلوا له صفة نفسية إلا كونه جسما

والتحيز وقبول العرض والقيام بالنفس أمر تشترك فيه الأجسام كلها والأمور المختلفة تشترك في لوازم كثيرة كاشتراك الألوان المختلفة في اللونية والعرضية ليس حقيقة النار مجرد كونها متحيزة قابلة للعرض قائمة بالنفس بل هذا من لوازمها

وأيضا فقد يسلم هؤلاء القائلون بامتناع التشابه من وجه دون وجه كأبي المعالي وغيره أن الأعراض المختلفة تشترك في أمور وقد صرحوا بأن القديم والحادث يستويان في الثبوت وأنه يشارك المحدث في أمور

والاشتراك في بعض صفات الإثبات لا يكون تماثلا وهذا تصريح بأن المختلفين يستويان ويشتركان في بعض الصفات فكيف يمكن أن يقال مع هذا إن المختلفين لا يشتبهان من بعض الوجوه وقد صرح بتساويهما في بعض الأشياء؟ وغاية هذا أن يقال إنهما لا يختلفان بوجه من الوجوه في الصفات النفسية وإن اشتبها في الصفات المعنوية

وهذا مع أن اللفظ لا يدل فيعود إلى ما ذكر وقد أخبر الله تعالى في كتابه بنفي تساوي بعض الأجسام وتماثلها كما أخبر بنفي ذلك عن بعض الأعراض فقال الله تعالى: { وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات } فاطر 19 - 22

وقال تعالى { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } الزمر 9

وقال تعالى { ليسوا سواء } آل عمران 113

وقال تعالى: { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } الحشر 20 وقال تعالى { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } محمد 38 فنفى أن يكون بعض الأجسام مثلا أو مساويا لغيره

وإذا قيل: إن الأجسام اختلفت بما عرض لها من الأعراض

قيل: من الأعراض ما يكون لازما لنوع الجسم أو للجسم المعين كما يلزم الحيوان أنه حساس متحرك بالإرادة ويلزم الإنسان انه ناطق وكما يلزم الإنسان المعين ما يخصه من إحساسه وقوة تحركه بالإرادة ونطقه وغير ذلك من الأمور المعينة التي لا يشركه في عينها غيره فهذا لا يجوز أن يكون عارضا له إذ هو لازم له

وما يعقل جسم مجرد عن جميع هذه الصفات عرضت له بعد ذلك فإذا كانت الأجسام تختلف بالأعراض وهي لازمة لها كان من لوازمها أن تكون مختلفة

وتمام هذا أن الأشياء تتماثل وتختلف بذواتها لا نحتاج أن نقول: تتماثل في ذواتها والذات تختلف بصفاتها

ولهذا كان الصواب أن الرب سبحانه غير مماثل لخلقه بل هو مخالف لهم بذاته لا نقول: إنه مساو لهم بذاته وإنما خالفهم بصفاته

ودعوى من ادعى: أن الأجسام مركبة من جواهر لا تنقسم قائمة بأنفسها ليس لها شيء من هذه الأعراض ولكن لما تركبت صارت متصفة بهذه الصفات كاتصاف النار بالحرارة والماء بالرطوبة دعوى باطلة بالعقل والحس فإن الجسم المعين كهذه النار لم تكن أجزاؤه قط عارية عن كونها نارا بل النار لازمة لها

وإذا قيل: قد كان هواء فصار نارا

قيل: نعم وتلك الأجزاء الهوائية لم تكن قط إلا هواء واستحالة الجسم إلى جسم آخر مشهود معروف عند العامة والخاصة كما يقول الفقهاء: إذا استحال الخمر خلا أو العذرة رمادا والخنزير ملحا ونحو ذلك وكما يكون الإنسان منيا ثم يصير علقة ثم مضغة

فإما أن يقال: إن أجزاء العذرة تفرقت وهي بعينها باقية حين صارت رمادا وإنما تغيرت صفاتها كما يتغير اللون والشكل بمنزلة الثوب المصبوغ وبمنزلة الخاتم إذا عمل درهما فهذا مكابرة للحس لأن الفضة التي كانت خاتما هي بعينها التي جعلت درهما أو سوارا وإنما تغير شكلها كالشمعة إذا غير شكلها

وكذلك إذا صبغ الجسم أو تحرك فهنا اختلفت صفاته التي هي أعراضه وأما المني إذا صار آدميا والهواء إذا صار نارا والنار إذا طفئت صارت هواء فهنا نفس حقيقة الشيء استحالت فخلق من الأولى ما هو مخالف لها وفنيت الأولى ولم يبق من نفس حقيقتها شيء ولكن بقي ما خلق منها كما يبقى الإنسان الذي خلق من أبيه بعد موت أبيه ولا يقول عاقل: إنه عبارة عن أجزاء كانت في أبيه فتفرقت فيه

وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا فساد قول من يقول: الأجسام مركبة من الجواهر التي لا تنقسم أو مركبة من جوهرين قائمين بأنفسهما مادة وصورة

ومن عرف هذا زاحت عنه شبهات كثيرة في الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر في الخلق وفي البعث وفي إحياء الأموات وإعادة الأبدان وغير ذلك مما هو مذكور في غير هذا الموضع

فهذا الموضع يحتاج إلى تحقيقه كل من نظر في هذه الأمور فإنه بمعرفته تزول كثير من الشبهات المتعلقة باله واليوم الآخر ويعرف من الكلام الذي ذمه السلف والمعقول الذي يقال إنه معارض للرسول وما يتبين به أن هؤلاء خالفوا الحس والعقل

وذلك أنا نشهد هذه الأعيان المرئية تتحول من حال إلى حال كما نشهد أن الشمس والقمر والكواكب تتحرك وتبزغ تارة وتأفل أخرى ونشهد أيضا أن السحاب والرياح تتحرك لكن السحاب نشهد اجتماعه وتفرقه وخروج الودق من خلاله ونشهد الماء يتحرك ويجتمع ويفترق ونشهد النبات والحيوان ينمي ويعتدي ومثل هذا منتف في الماء والهواء والأفلاك وحركته بالنمو والاغتذاء ليست من جنس حركة الماء والهواء والنجوم فإن هذه توجب من تغير النامي المغتذي واستحالته مالا توجبه تلك فإن الكواكب هي في نفسها لم تستحل وتغير بالحركة بخلاف الطفل إذا كبر بعد صغره والزرع إذا استغلظ واستوى على سوقه

ونشهد مع ذلك أن الحطب يصير رمادا ودخانا وكذلك الدهن يصير دخانا والماء يصير بخارا وليس هذا مثل كبر الصغير بل هذا فيه من الاستحالة والانقلاب من حقيقة إلى حقيقة ما ليس في نبات الزرع والحيوان

ونشهد إخراج الله من الأرض والشجر: الزرع والثمر وإخراج الحيوان من الحيوان

كما قال تعالى { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء } فاطر 27 - 28 وقال تعالى { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } الروم 19

وقال تعالى { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا } الآية الأنعام 99

وقال { وجعلنا من الماء كل شيء حي } الأنبياء 30 وقال { الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر } إبراهيم 32 - 33 فنحن نشهد الثمر يخرج من الخشب ليست حقيقة الخشب حقيقة الرطب والعنب والرمان ثم إذا أخرج الثمرة تكون خضراء ثم تصير صفراء ثم تصير حمراء فتختلف ألوانها وتكبر بعد صغرها

ونرى الألوان المختلفة التي يخلقها الله للحيوان والنبات وغير ذلك من أسود وأحمر وأصفر وأبيض ونفرق بين اختلافها ألوانها وحركاتها وطعومها بالحلاوة والحموضة وغير ذلك وبين اختلافها بالنمو والاغتذاء وكبرها بعد الصغر وبين خروج السنبلة من الحبة والشجرة من النواة وخروج الثمرة من الشجرة فاختلافها بالحركة والسكون والاجتماع والافتراق كتفريق الماء وجمعه وتفريق التراب وجمعه ليس يوجب اختلاف شيء من حقيقة الجسم وبعد ذلك اختلاف ألوانه وطعومه فإن كونه أحمر وأخضر وأصفر وحلوا وحامضا هو اختلاف يزيد على مجرد الحركة كحركة الكواكب والرياح

ثم اختلافه بالنمو والاعتداء مثل كبر الصغير من الحيوان والنبات اختلاف آخر فيه من التغير والزيادة وغير ذلك ما ليس في مجرد تغير اللون والحركة

ثم يصير الماء بخارا والحطب دخانا أو رمادا نوع آخر فيه انقلاب الحقيقة واستحالتها ما ليس في ذلك

ثم إخراج الثمرات من الشجر والإنسان من المني والزرع من النبات أمر آخر غير هذا كله فإن الشجرة لم تنقص بخروج الثمرة منها ولا استحالت حقيقتها وكذلك الأرض لم تنقص بخروج الزرع منها ولا استحالت حقيقتها

وكذلك خروج الإنسان من أمه وخروج البيضة من الدجاجة ولكن خلق الفروج من البيضة من جنس خلق الإنسان من المني

والذي يعقل من اجتماع الأجزاء وافتراقها أن تفترق مع بقاء حقيقتها مثل الماء تفرق حتى تصير أجزاؤه في غاية الصغر وهو ماء وكذلك الزئبق ونحوه فإذا استحالت بعد هواء لم يبق ماء ولا زئبق ومن قال إنه بعد انقلابه بقيت الأجزاء كما تبقى إذا تصغرت أجزاؤه فقد خالف الحس والعقل ولا يعقل الماء ونحوه جزءا إلا وهو ماء فإذا صار هواء لم يكن في الهواء جزء هو ماء بل جزء الهواء هواء

وكذلك الحطب تكسر أجزاؤه إلى أن تتصاغر فإذا صار رمادا فأجزاء الرماد مخالفة لأجزاء الحطب ليست هذه الأجزاء تلك فبقاء الشيء مع تغير أعراضه شيء وانقلاب حقيقته شيء آخر

ولهذا تفرق اللغة والشرع بين هذا وهذا وتجعل هذا جنسا مخالفا لهذا في جميع الأحكام بخلاف ما إذ ا كانت حقيقته باقية وقد تبدلت أعراضها فالحكم المعلق بالذهب والفضة إذا تعلق بعينه كالربا مثلا هو ثابت فيه وإن تغيرت صورة وأشكاله فسواء كان مجتمعا مضروبا أو مصوغا على أي صورة كان أو مفترقا بالإنكسار بخلاف حكمه لما كان ترابا في المعدن قبل أن يصير ذهبا وفضة

وكذلك النوى حكمه وحقيقته غير حكم النخلة وحقيقتها وأما الشجر والثمر فأبعد من هذا كله لأنه لا نشهد هناك من انقلاب أجزاء الشجرة واستحالتها ما نشهد من هذه المنقلبات وإنما نشهد خروج ثمرة لها طعم ولون وريح من خشبة مخالفة لها غاية المخالفة مع أن تلك الخشبة قد تزيد وتنمي مع خروج الثمرة منها وإن كان في ذلك استحالة لطينتها من الماء والهواء والتراب لكن خلق الحيوان والنبات والمعدن من العناصر ليس هو من جنس استحالة هذه المولدات بعضها إلى بعض لا سيما إذا كان بأفعالنا بل كلما بعد التسبب بأفعالنا يكون خلقه أعجب والإبداع للأعيان فيه أعظم

وما كان أقرب إلى مفعولاتنا يكون أبعد من إبداع الأعيان بل وعن انقلاب الحقائق إلى تغير الصفات إلى أن تنتهي إلى مطلق الحركة التي ليس فيها من تغير الذات شيء كحركة أحدنا بالمشي والقيام والقعود وحركة الكواكب فإن جنس الحركة هو المقدور للآدميين ابتداء وهو أبعد الأعراض والأحوال عن تغير الأعيان والحقائق ولهذا لا يسمى هذا في اللغة المعروفة تغيرا أصلا ولا يقول أحد عند الإطلاق للكواكب إذا كانت سائرة وللإنسان إذا كان ماشيا متغيرا اللهم إلا مع قرينة تبين المراد بخلاف ما إذا تغير لونه بحمرة أو صفرة فإنهم قد يقولون قد تغير ويقولون تغير الهواء إذا برد بعد السخونة ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيرا وإن سمي بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا

والمقصود أن قول من يقول إن هذه المخلوقات التي يخلقها الله بعضها من بعض ليس خلقه لها إلا تغيير صفاتها وأن حقيقة كل شيء جواهر أصلية متماثلة باقية لا تتغير حقيقتها أصلا ولكن تكثر تلك الأجزاء وتقل كلام لا حقيقة له وهو متضمن أمورا باطلة إثبات جواهر قائمة بأنفسها مخلوقة وراء هذه الأعيان المشهودة وذاك باطل لا حقيقة له

وإثبات هؤلاء لهذه الجواهر الحسية من جنس إثبات آخرين لجواهر عقلية قائمة بأنفسها وراء هذه الأعيان المشهودة يسمونها المادة والصورة وإثبات أن هذه الجواهر متماثلة والأعيان المشهودة متماثلة وهو أمر لا حقيقة له

فدعوى أن خلق الله لمخلوقاته من الحيوان والنبات والمعدن ليس إلا إحداث أعراض وصفات ليس فيه خلق قائمة بنفسها ولا إحداث لأجسام وجواهر قائمة بنفسها كما تحرك الرياح والمياه وتفرق الماء في مجاريه وهو أيضا من أبطل الباطل

وهذا من أعظم ضلال هؤلاء حيث عمدوا إلى ما هو من أعظم آيات الرب الدالة الشاهدة بوجوده وقدرته ومشيئته وعلمه وحكمته ورحمته أنكروا وجودها بالكلية وادعوا أنه ليس في ذلك إبداع عين ولا خلق شيء قائم بنفسه وإنما هو إحداث أعراض والواحد منا يقدر على إحداث بعض الأعراض ثم اقتصروا في ذلك على مجرد إحداث أعراض وصفات

ثم أرادوا أن يثبتوا إبداعه لجميع الأعيان بان ادعوا وجود جواهر منفردة لا حقيقة لها وادعوا في الأعيان المختلفات تماثلا لا حقيقة له

ثم أرادوا أن يثبتوا حدوث هذه الجواهر بمجرد قيام الأعراض أو الحركات بها وذلك من أبعد الأشياء عن الدلالة على المطلوب فاحتاجوا إلى تلك المقدمات الباطلة التي ناقضوا بها عقول العقلاء وكذبوا بها ما جاءت به الرسل من الأنباء واحتاجوا أن ينفوا حقيقة الرب بعد أن نفوا حقيقة مخلوقاته وآل الأمر بهم إما إلى نفي صفاته أيضا وإما إلى إثبات صفات لا موصوف لها كما لم يثبتوا من آياته إلا ما يحدث من صفات الأشياء

ومن تدبر هذا كله وتأمله وتبين له أن ما جاء به القرآن من بيان آيات الرب ودلائل توحيده وصفاته هو الحق المعلوم بصريح المعقول وأن هؤلاء خالفوا القرآن في أصول الدين في دلائل المسائل وفي نفس المسائل خلافا خالفوا به القرآن والإيمان وخالفوا به صريح عقل الإنسان وكانوا في قضاياهم التي يذكرونها في خلاف ذلك أهل كذب وبهتان وإن لم يكونوا متعمدين الكذب بل التبس عليهم ما ابتدعوه من الهذيان

الوجه الحادي والعشرون[عدل]

أن يقال: معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين للرسل بل هو جماع كل كفر كما قال الشهرستاني في أول كتابه المعروف بالملل والنحل ما معناه: أصل كل شر هو من معرضة النص بالرأي وتقديم الهوى على الشرع

وهو كما قال فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه وبين أن المتبعين لما أنزل هم أهل الهدى والفلاح والمعرضين عن ذلك هم أهل الشقاء والضلال

كما قال تعالى: { قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } [ طه: 123 - 126 ]

وقال تعالى: { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ الأعراف 35 - 36 ]

وقد أخبر عن أهل النار أنهم إنما دخلوها لمخالفة الرسل قال تعالى: { ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } [ الأنعام: 128 ] إلى قوله: { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } [ الأنعام: 130 ]

وقال تعالى: { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } [ الزمر: 71 ]

وقال تعالى: { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } [ الملك: 8، 9 ]

ومعلوم أن الكلام الذي جاءت به الرسل عن الله نوعان: إما إنشاء وإما خبر والإنشاء يتضمن الأمر والنهي والإباحة فأصل السعادة تصديق خبره وطاعة أمره وأصل الشقاوة معارضة خبره وأمره بالرأي والهوى وهذا هو معرضة النص بالرأي وتقديم الهوى على الشرع

ولهذا كان ضلال من ضل من أهل الكلام والنظر في النوع الخبري بمعارضة خبر الله عن نفسه وعن خلقه بعقلهم ورأيهم وضلال من ضل من أهل العبادة والفقه في النوع الطلبي بمعارضة أمر الله الذي هو شرعه بأهوائهم وآرائهم

والمقصود هنا أن معارضة أقوال الرسل بأقوال غيرهم من فعل الكفار كما قال تعالى: { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } [ غافر: 4 ] إلى قوله: { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } [ غافر: 5 ]

وقوله تعالى: { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق } [ الكهف: 56 ]

وقوله تعالى: { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } [ غافر 4 ] مصدق لقول النبي : [ مراء في القرآن كفر ]

ومن المعلوم أن كل من عارض القرآن وجادل في ذلك بعقله ورأيه فهو داخل في ذلك وإن لم يزعم تقديم كلامه على كلام الله ورسوله بل إذا قال ما يوجب المرية والشك في كلام الله فقد دخل في ذلك فكيف بمن يزعم أن ما يقوله بعقله ورأيه مقدم على نصوص الكتاب والسنة

وقال تعالى: { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } الآية [ غافر: 56 ]

وقال: { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } [ غافر: 35 ]

والسلطان هو الكتاب المنزل من السماء كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين

وشواهده كثيرة كقوله تعالى: { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } [ الروم: 35 ]

وقوله: { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [ النجم: 23 ] في سورة الأعراف ويوسف والنجم فمن عارض آيات الله المنزلة برأيه وعقله من غير سلطان أتاه دخل في معنى هذه الآية

وهذا مما يبين أنه لا يجوز معارضة كتاب الله إلا بكتاب الله ولا يجوز معارضته بغير ذلك

وكتاب الله نوعان: خبر وأمر كما تقدم أما الخبر فلا يجوز أن يتناقض ولكن قد يفسر أحد الخبرين الآخر ويبين معناه وأما الأمر فيدخله النسخ ولا ينسخ ما أنزل الله إلا بما أنزل الله فمن أراد أن ينسخ شرع الله الذي أنزله برأيه وهواه كان ملحدا وكذلك من دفع خبر الله برأيه ونظره كان ملحدا

والقرامطة جمعوا هذا وهذا وزعموا أن محمد بن إسماعيل هو السابع الذي نسخ دين محمد وكذلك تعرض لدعوى النبوة غير واحد من الملاحدة

وآخرون يدعون ما هو عندهم أعلى من النبوة: إما ختم الولاية عند من يزعم أن الولاية أفضل من النبوة كمذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله وإما دعوى الفلسفة والحكمة التي هي في زعم كثير منهم أعلى من النبوة

وهؤلاء الملاحدة نوعان: نوع يزعم أنه نزل عليه كما يدعي ذلك من يدعيه من ملاحدة أهل النسك والتصوف

ثم من هؤلاء من يقول: إن الله أنزل عليه ذلك ومنهم من يقول: ألقي إلي أوحي إلي ولا يسمي الموحي

وقوم يزعمون أنهم يقولون ذلك بعقلهم ورأيهم

وقد جمع الله هؤلاء بقوله: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } [ الأنعام: 93 ] فذكر سبحانه من يفترى الكذب على الله ومن يقول أنه يوحى إليه ومن زعم أنه يقول كلاما مثل الكلام الذي أنزله الله

وهذا الأصل هو مما يعلم بالضرورة من دين الرسل من حيث الجملة: يعلم أن الله إذا أرسل رسولا فإنما يقول من يناقض كلامه ويعارضه من هو كافر فكيف بمن يقدم كلامه على كلام الرسول؟ وأما المؤمنون بما جاء به فلا يتصور أن يقدموا أقوالهم على قوله بل قد أدبهم الله بقوله: { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } [ الحجرات: 1 ]

ولكن البدع مشتقة من الكفر فلهذا كانت معارضة النصوص الثابتة عن الأنبياء بآراء الرجال هي من شعب الكفر وإن كان المعارض لهذا بهذا يكون مؤمنا بما جاء به الرسول في غير محل التعارض

وإذا كان أصل معارضة الكتب الإلهية بقول فلان وفلان من أصول الكفر علم أن ذلك كله باطل وهذا مما ينبغي للمؤمن تدبره فإنه إذا حاسب نفسه على ذلك علم تصديق ذلك ومما بين هذا :

الوجه الثاني والعشرون[عدل]

وهو أن يقال: إن الله سبحانه ذم من ذمه من أهل الكفر على أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا

كما قال تعالى: { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون * قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون } [ آل عمران: 98 - 99 ]

وقال تعالى: { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } [ الأعراف: 86 ]

وقال: { ألا لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا } [ هود: 18 - 19 ]

وقال: { وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله } [ إبراهيم: 2 ]

ومعلوم أن سبيل الله هو ما بعث الله به رسله مما أمر به وأخبر عنه فمن نهى الناس نهيا مجردا عن تصديق رسل الله وطاعتهم فقد صدهم عن سبيل الله فكيف إذا نهاهم عن التصديق بما أخبرت به الرسل وبين أن العقل يناقض ذلك وأنه يجب تقديمه على ما أخبرت به الرسل؟

ومعلوم أن من زعم أن العقل الصريح الذي يجب اتباعه يناقض ما جاء به الرسل وذلك هو سبيل الله فقد بغى سبيل الله عوجا أي طلب له العوج فإنه طلب أن يبين اعوجاج ذلك وميله عن الحق وأن تلك السبيل الشرعية السمعية المروية عن الأنبياء عوجا لا مستقيمة وأن المستقيم هو السبيل التي ابتدعها من خالف سبيل الأنبياء ويوضح هذا

الوجه الثالث والعشرون[عدل]

وهو أن يقال: من المعلوم أن الله أخبر أنه أرسل رسله بالهدى والبيان لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فقال تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } [ التوبة: 33 ] وقال تعالى: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } [ الشورى: 52 - 53 ]

وقال تعالى: { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } [ إبراهيم: 1 - 2 ] إلى قوله: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ إبراهيم: 4 ]

وقد قال تعالى: { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [ النحل: 35 ]

وقال: { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } [ العنكبوت: 18 ]

وقال: { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } [ الأعراف: 157 ]

قال تعالى: { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } [ المائدة: 15 - 16 ]

وقال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } [ النحل: 144 ]

وقال تعالى: { ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } [ يوسف: 111 ]

وقال تعالى: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } [ النحل: 89 ]

وقال تعالى: { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } [ البقرة 2 - 5 ]

ونظائر هذا في القرآن كثيرة

وإذا كان كذلك فيقال: أمر الإيمان بالله واليوم الآخر: إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق أو بما يدل على الباطل أو لم يتكلم: لا بما يدل على حق ولا بما يدل على باطل

ومعلوم أنه إذا قدر في شخص من الأشخاص أنه لم يتكلم في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر: لا بحق ولا بباطل ولا هدى ولا ضلال بل سكت عن ذلك لم يكن قد هدى الناس ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور ولا بين لهم ولا كان معه ما يستضيء به السالك المستدل

فإن قدر أن هذا الشخص تكلم بما يفهم منه نقيض الحق وبما يدل على ضد الصواب وكان مدلول كلامه في ذلك معلوم الفساد بصريح العقل - لكان هذا الشخص قد أضل بكلامه وما هدى وكان مخرجا لمن اتبعه بكلامه من النور إلى الظلمات كحال الطاغوت الذين قال الله فيهم: { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } [ البقرة: 257 ]

ومن زعم أن ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة قد عارضه صريح المعقول الذي يجب تقدمه عليه فقد جعل الرسول شبيها بالشخص الثاني الذي أضل بكلامه من وجه ويجعله بمنزلة من جعله كالساكت الذي لم يضل ولم يهد من وجه آخر

فإنه إذا زعم أن الحق والهدى هو قول نفاة الصفات الذي يعلم بالعقل عنده فمعلوم أن كلام الله ورسوله لم يدل على قول النفاة دلالة يحصل بها الهدى والبيان للمخاطبين بالقرآن إن كان قول النفاة هو الحق

ومعلوم أن كلام الله ورسوله دل على إثبات الصفات المناقض لقول النفاة دلالة بينة بقول جمهور الناس: إنها دلالة قطعية على ذلك والمعتزلة ونحوهم من النفاة معترفون بأنها دلالة ظاهرة فإذا كان الرسول لم يظهر للناس إلا إثبات الصفات دون نفيها وكان الحق في نفس الأمر نفيها لكان بمنزلة الشخص الذي كتم الحق وذكر نقيضه

وهذا خلاف ما نعته الله في كتابه فدل على أن هذا الطريق التي يسوغ فيها تقديم عقول الرجال - في أصول التوحيد والإيمان على كلام الله ورسوله تناقض دين الرسول مناقضة بينة بل مناقضة معلومة بالاضطرار من دين الإسلام لمن تدبر حقيقة هذا القول وعرف غائلته ووباله وحينئذ فنقول :

الوجه الرابع والعشرون[عدل]

إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن أو الحكمة الذي بلغته إلينا قد تضمن أشياء كثيرة تناقض ما علمنا بعقولنا ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان ذلك قدحا فيما علمنا به صدقك فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك وكلامك نعرض عنه لا نتلقى منه هدى ولا علم - لم يكن مثل هذا الرجل مؤمنا بما جاء به الرسول ولم يرض الرسول منه بهذا بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول إذ العقول متفاوتة والشبهات كثيرة والشيطان لا يزال يلقي الوساوس في النفوس فيمكن حينئذ أن يلقي في قلب غير واحد من الأشخاص ما يناقض عامة ما أخبر به الرسول وما أمر به

وقد ظهر ذلك في القرامطة الباطنية الذين ردوا عامة الظاهر الذي جاء به من الأمر والخبر وزعموا أن العقل ينافي هذا الظاهر الذي بينه الرسول

ثم قد يقولون: الظاهر خطاب للجمهور والعامة حتى يصل الشخص إلى معرفة الحقيقة التي يزعمون أنها تناقض ما بينه الرسول وحينئذ تسقط عنه طاعة أمره ويسوغ له تكذيب خبره

ومن المعلوم لعامة المسلمين أن قول الباطنية الذي يتضمن مخالفة الرسول معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام

وكذلك ما أخبر به في المعاد قد قال متكلمة المسلمين: إن قول الفلاسفة المناقض لذلك معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام

وهكذا ما اخبر به الرسول من أسماء الله وصفاته يعلم أهل الإثبات أن قول النفاة فيه معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام

وأصل هذا الإلحاد معارضة ما جاءت به الأنبياء بالعقول والآراء

الوجه الخامس والعشرون[عدل]

وهو أن الله سبحانه وتعالى قد بين في كتابه أن معارضة مثل هذا فعل الشياطين المعادين للأنبياء

قال تعالى: { اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين * ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل * ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } [ الأنعام: 106 - 110 ] أي وما يشعركم أن الآيات إذا جاءت لا يؤمنون وأنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة فقوله: { نقلب أفئدتهم } معطوف على قوله { لا يؤمنون } وكلاهما داخل في معنى قوله: { وما يشعركم } وبهذا تزول شبهة من لم يفهم الآية فظن أن ( أن ) بمعنى ( لعل ) لتوهمه أن قوله: { ونقلب } فعل مبتدأ إلى قوله: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون * أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } [ الأنعام: 112 - 115 ]

ومن تدبر هؤلاء الآيات علم أنها منطبقة على من يعارض كلام الأنبياء بكلام غيرهم بحسب حاله فإن هؤلاء هم أعداء ما جاءت به الأنبياء

وأصل العداوة والبغض كما أن الولاية والحب ومن المعلون أنك لا تجد أحدا ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله ويود أن تلك الآية لم تكن نزلت وأن ذلك الحديث لم يرد ولو أمكنه كشط ذلك في المصحف لفعله

قال بعض السلف: لا ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه

وقيل عن بعض رؤوس الجهمية - إما بشر المريسي أو غيره: أنه قال: ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن فأقروا به في الظاهر ثم صرفوه بالتأويل ويقال أنه قال: إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل

ولهذا تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية بل قد يختار كتمان ذلك والنهي عن إشاعته وتبليغه خلافا لما أمر الله به ورسوله من التبليغ عنه

كما قال: [ ليبلغ الشاهد الغائب ]

وقال: [ بلغوا عني ولوا آية ]

وقال: [ نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ]

وقد ذم الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزله الله لأنه معارض لما يقولونه وفيهم جاء الأثر المعروف عن عمر: قال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم السنن أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها وسئلوا فقالوا في الدين برأيهم فذكر أنهم أعداء السنن

وبالجملة فكل من أبغض شيئا من الكتاب والسنة ففيه من عداوة النبي بحسب ذلك وكذلك من أحب ذلك ففيه من الولاية بحسب ذلك

قال عبد الله بن مسعود: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله وعدو الأنبياء هم شياطين الإنس والجن

كما [ قال النبي لأبي ذر: تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن فقال: أو للإنس شياطين؟ فقال: نعم شر من شياطين الجن وهؤلاء يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ]

والزخرف هو الكلام المزين كما يزين الشيء بالزخرف وهو المذهب وذلك غرور لأنه يغر المستمع والشبهات المعارضة لما جاءت به الرسل هي كلام مزخرف يغر المستمع

ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة فهؤلاء المعارضون لما جاءت به الرسل تصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة كما رأيناه وجربناه

ثم قال: { أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } [ الأنعام: 114 ] وهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله تعالى بما أنزله من الكتاب المفصل

كما قال تعالى في الآية الأخرى: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } [ الشورى: 10 ]

وقال تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [ البقرة: 213 ]

وقال تعالى: { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } [ الأنعام: 114 ] جملة في موضع الحال

وقوله: { أفغير الله أبتغي حكما } [ الأنعام: 114 ] استفهام استنكار يقول كيف أطلب حكما غير الله وقد أنزل الكتاب مفصلا يحكم بيننا

وقوله ( مفصلا ) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين بخلاف ما يزعمه من يعارضه بآراء الرجال ويقول إنه لا يفهم معناه ولا يدل على مورد النزاع فيجعله إما مجملا لا ظاهر له أو مؤولا لا يعلم عين معناه ولا يدل على عين المعنى المراد به

ولهذا كان المعرضون عن النصوص المعارضون لها كالمتفقين على أنه لا يعلم عين المراد به وإنما غايتهم أن يذكروا احتمالات كثيرة ويقولون: يجوز أن يكون المراد واحدا منها ولهذا أمسك من امسك منهم عن التأويل لعدم العلم بعين المراد

فعلى التقديرين لا يكون عندهم الكتاب الحاكم مفصلا بل مجملا ملتبسا أو مؤولا بتأويل لا دليل على إرادته

ثم قال: { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } [ الأنعام: 114 ] وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن فمن نظر فيما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل علم علما يقينا لا يحتمل النقيض أن هذا وهذا جاءا من مشكاة واحدة لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات فإن التوراة مطابقة للقرآن موافقة له موافقة لا ريب فيها

وهذا مما يبين أن ما في التوراة من ذلك ليس هو من المبدل الذي أنكره عليهم القرآن بل هو من الحق الذي صدقهم عليه ولهذا لم يكن النبي وأصحابه ينكرون ما في التوراة من الصفات ولا يجعلون ذلك مما يدله اليهود ولا يعيبونهم بذلك ويقولون هذا تشبيه وتجسيم كما يعيبهم بذلك كثير من النفاة ويقولون: إن هذا مما حرفوه بل كان الرسول إذا ذكروا شيئا من ذلك صدقهم عليه كما صدقهم في خبر الحبر كما هو في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود وفي غير ذلك

ثم قال: { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } [ الأنعام: 115 ] فقرر أن ما أخبر الله به فهو صدق وما أمر به فهو عدل

وهذا يقرر أن ما في النصوص من الخبر فهو صدق علينا أن نصدق به ولا نعرض عنه ولا نعارضه ومن دفعه فإنه لم يصدق به وإن قال: أنا أصدق الرسول تصديقا مجملا فإن نفس الخبر الذي أخبر به الرسول وعارضه هو بعقله ودفعه لم يصدق به تصديقا مفصلا ولو صدق الرجل الرسول تصديقا مجملا ولم يصدقه تصديقا مفصلا فيما علم أنه أخبر به لم يكن مؤمنا له ولو أقر بلفظه مع إعراضه عن معناه الذي بينه الرسول أو صرفه إلى معان لا يدل عليها مجري الخطاب بفنون التحريف بل لم يردها الرسول فهذا ليس بتصديق في الحقيقة بل هو إلى التكذيب أقرب

الوجه السادس والعشرون[عدل]

وهو أن يقال: إن الله ذم أهل الكتاب على كتمان ما أنزل الله وعلى الكذب فيه وعلى تحريفه وعلى عدم فهمه

قال تعالى: { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون * ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون * فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون }

فذم المحرفين له والأميين الذين لا يعلمونه إلا أماني والذين يكذبون فيقولون لما يكتبونه هو من عند الله وما هو من عند الله كما ذم الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب وقد ذم الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في غير هذا الموضع

وهذه الأنواع الأربعة موجودة في الذين يعرضون عن كتاب الله ويعارضونه بآرائهم وأهوائهم فإنهم تارة يكتمون الأحاديث المخالفة لأقوالهم ومنهم طوائف يضعون أحاديث نبوية توافق بدعهم كالحديث التي تحتج به الفلاسفة: أول ما خلق الله العقل

والحديث الذي يحتج به الجهمية: كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان

والحديث الذي يحتجون به في نفي الرؤية: لا ينبغي لأحد أن يرى الله في الدنيا ولا في الآخرة

والحديث الذي يحتجون به في نفي العلو كالحديث الذي رواه ابن عساكر فيما أملاه في نفي الجهة عن شيخه ابن عبد الله العوسجي عن النبي أنه قال: الذي أين الأين فلا يقال له: أين وعرض به حديث ابن اسحق الذي رواه أبو داود وغيره الذي قال فيه: يستشفع بك على الله ويستشفع بالله عليك وأكثر فيه في القدح في ابن اسحق مع احتجاجه بحديث أجمع العلماء على أنه من أكذب الحديث وغاية ما قالوا فيه: إنه غريب

والأحاديث التي تحتج بها الاتحادية من هؤلاء وغيرهم مثل قولهم عن النبي أنه قال: رب زدني فيك تحيرا

ومثل الأحاديث التي يحتج بها الواصفون بالنقائص كحديث الجمل الأورق ونزوله عشية عرفه إلى الأرض يصافح الركبان ويعانق المشاة ونزوله إلى بطحاء مكة وقعوده على كرسي بين السماء والأرض ونزوله على صخرة بيت المقدس وأمثال ذلك

وكذلك ما يضعونه من الكتب بآرائهم وأذواقهم ويدعون أن هذا هو دين الله الذي يجب اتباعه وأما تحريفهم للنصوص بأنواع التأويلات الفاسدة التي يحرفون بها الكلم عن مواضعه فأكثر من أن يذكر كتأويلات القرامطة الباطنية والجهمية والقدرية وغيرهم

وأما عدم الفهم فإن النصوص التي يخالفونها تارة يحرفونها بالتأويل وتارة يعرضون عن تدبرها وفهم معانيها فيصيرون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ولهذا تجد هؤلاء معرضين عن القرآن والحديث فمنهم طوائف لا يقرون القرآن مثل كثير من الرافضة والجهمية لا تحفظ أئمتهم القرآن وسواء حفظوه أم لم يحفظوه لا يطلبون الهدى منه بل إما أن يعرضوا عن فهمه وتدبره كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإما أن يحرفوه بالتأويلات الفاسدة

وأما الحديث: فمنهم من لا يعرفه ولم يسمعه وكثير منهم لا يصدق به ثم إذا صدقوا به كان تحريفهم له وإعراضهم عنه أعظم من تحريف القرآن والإعراض عنه حتى أن منهم طوائف يقرون بما أخبر به القرآن من الصفات وأما الحديث إذا صدقوا به فهم لا يقرون بما أخبر به

وإذا تبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بالمعقولات لا بد له من كتمان أو كذب أو تحريف أو أمية مع عدم علم وهذه الأمور كلها مذمومة - دل ذلك على أن هؤلاء مذمومون في كتاب الله كما ذم الله أشباههم من أهل الكتاب وأن هؤلاء وأمثالهم دخلوا في قوله الذي ثبت عنه في الصحيح الذي قال فيه: [ لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن ]

فإن قيل: فما ذكرتموه قد يشعر بأنه ليس لأحد أن يعارض حديثا ولا يستشكل معناه وقد كان الصحابة يفعلون ذلك

حتى قد ثبت في الصحيح أن النبي لما قال: [ من نوقش الحساب عذب قالت عائشة: يا رسول الله أليس الله يقول: { فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا } [ الانشقاق: 7، 8 ]؟ فقال: ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب ]

ولما قال: [ لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة قالت له حفصة: أليس الله يقول: { وإن منكم إلا واردها } [ مريم: 71 ]؟ فقال: ألم تسمعي قوله: { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } [ مريم: 72 ] ]

[ وقال له عمر عام الحديبية: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ فقال: هل قلت لك: إنك تدخله هذا العام؟ قال لا: قال فإنك آتيه ومطوف به ]

قيل: لم يكن في الصحابة من يقول: إن عقله مقدم على نص الرسول وإنما كان يشكل على أحدهم قوله فيسأل عما يزيل شبهته فيتبين له أن النص لا شبهة فيه

فلما نفى النبي مناقشة الحساب عن الناجين لم ينف كل ما يسمى حسابا والحساب يراد به الموازنة بين الحسنات والسيئات وهذا يتضمن المناقشة ويراد به عرض الأعمال على العامل وتعريفه بها

ولهذا لما تنازع أهل السنة في الكفار: هل يحاسبون أم لا؟ كان فصل الخطاب إثبات الحساب بمعنى عد الأعمال وإحصائها وعرضها عليهم لا بمعنى إثبات حسنات نافعة لهم في ثواب يوم القيامة تقابل سيئاتهم

وكذلك لما قال النبي : [ لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ] لم يرد به المرور على الصراط فإن ذاك لا يسمى دخولا ولكن سماه الله ورودا بقوله: { وإن منكم إلا واردها }

ولفظ ( الورود ) يحتمل العبور والدخول وأيضا فالورود والدخول قد يراد: ورود أعلاها

وقد ثبت في الصحيح: [ أنهم إذا عبروا على الصراط: منهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كأجاويد الخيل ]

وفسر النبي الورود بهذا وهذا عام لجميع الخلق فلما قالت حفصة: أليس الله يقول: { وإن منكم إلا واردها } [ مريم: 71 ] لم تكن هذه معارضة صحيحة لما أخبر به فبين لها النبي - بعد أن زبرها - أن الله قال: { ثم ننجي الذين اتقوا } [ مريم: 72 ] فتلك النجاة هي المعنى الذي أراده بقوله: لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة

فإن قيل: فعائشة قد عارضت ما رواه عمر وغيره عن النبي : [ إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ] بقول الله تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام: 164 ] وعارضت ما رووه عن النبي [ من مخاطبة أهل القليب يوم بدر بقوله: { إنك لا تسمع الموتى } [ النمل: 80 ] ] قيل: الجواب من وجهين :

أحدهما: أنا لم ننكر انهم كانوا يعارضون نصا بنص آخر وإنما أنكرنا معارضة النصوص بمجرد عقلهم والنصوص لا تتعارض في نفس الأمر إلا في الأمر والنهي إذا كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا وأما الأخبار فلا يجوز تعارضها

وأما إذا قدر أن الإنسان تعارض عنده خبران أو أمران: عام وخاص وقدم الخاص على العام فإنه يعلم أن ذلك ليس يتعارض في نفس الأمر وأن المعنى الخاص لم يدخل في إرادة المتكلم باللفظ العام فالدليل الخاص يبين ما لم يرد باللفظ العام كما في قوله: { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء: 11 ] فالسنة بينت أن الكافر والعبد والقاتل لم يدخل في ذلك

هذا عند من يجعل اللفظ عاما لهؤلاء وأما من قال: العام في الأشخاص مطلق في الأحوال فإنه يقول: إن الآية تعم كل ولد ولكن لم يبين فيها الحال الذي يرث فيها الولد والحال التي لم يرث فيها ولكن هذا مبين في نصوص أخرى

وهؤلاء يقولون: لفظ القرآن باق على عمومه ولكن ما سكت عنه لفظ القرآن من الشروط والموانع بين في نصوص أخرى

وهكذا يقولون في قوله: { والسارق والسارقة } [ المائدة: 38 ] وأمثال ذلك من عمومات القرآن وظواهره لا يقولون: إن اللفظ متروك ولكن يقولون: ما سكت عنه اللفظ بين في نصوص أخرى ويقولون فرق بين ما يعمه اللفظ وبين ما سكت عنه من أحوال: ما عمه فإن اللفظ مطلق في ذاك لا عام فيه

وإذا كان في كلام الله ورسوله كلام مجمل أو ظاهر قد فسر معناه وبينه كلام آخر متصل به أو منفصل عنه لم يكن في هذا خروج عن كلام الله ورسوله ولا عيب في ذلك ولا نقص كما في الحديث الصحيح: [ يقول الله: عبدي جعت فلم تطعمني فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي عبدي عطشت فلم تسقني فيقول: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا عطش فلو أسقيته لوجدت ذلك عندي عبدي مرضت فلم تعدني فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده ]

فهذا الحديث قد قرن به الرسول بيانه وفسر معناه فلم يبقى في ظاهره ما يدل على باطل ولا يحتاج إلى معارضة بعقل ولا تأويل يصرف فيه ظاهره إلى باطنه بغير دليل شرعي

فأما أن يقال: إن في كلام الله ورسوله ما ظاهره كفر وإلحاد من غير بيان من الله ورسوله لما يزيل الفساد ويبين المراد فهذا هو الذي تقول أعداء الرسل الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب وهو الذي لا يوجد في كلام الله أبدا

وإيضاح ذلك في :

الوجه السابع والعشرون[عدل]

وهو أن نقول: الذين يعارضون كلام الله وكلام رسوله بعقولهم: إن كانوا من ملاحدة الفلاسفة والقرامطة قالوا إن الرسل أبطنت خلاف ما أظهرت لأجل مصلحة الجمهور حتى يؤول الأمر بهم إلى إسقاط الواجبات واستحلال المحرمات: إما للعامة وإما للخاصة دون العامة ونحو ذلك مما يعلم كل مؤمن أنه فاسد مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام وإن كانوا من أهل الفقه والكلام والتصوف الذين لا يقولون ذلك فلا بد لهم من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح

ولفظ ( التأويل ) يراد به التفسير كما يوجد في كلام المفسرين: ابن جرير وغيره

ويراد به حقيقة ما يؤول إليه الكلام وهو المراد بلفظ التأويل في القرآن

وأما بالمعنى الثاني فمنه ما لا يعلمه إلا الله ولهذا كانوا يثبتون العلم بمعاني القرآن وينفون العلم بالكيفية كقول مالك وغيره: الاستواء معلوم والكيف مجهول

فالعلم بالاستواء من باب التفسير وهو التأويل الذي نعلمه وأما الكيف فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وهو المجهول لنا

ويراد بالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح وهذا هو الذي تدعيه نفاة الصفاة والقدر ونحو ذلك من نصوص الكتاب والسنة

وهؤلاء قولهم متناقض فإنهم بنوه على أصلين فاسدين: فإنهم يقولون لا بد من تأويل بعض الظواهر كما في قوله: [ جعت فلم تطعمني ] وقوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض ونحو ذلك ثم أي نص خالف رأيهم جعلوه من هذا الباب فيجعلون تارة المعنى الفاسد هو الظاهر ليجعلوا في موضع آخر المعنى الظاهر فاسدا وهم مخطئون في هذا وهذا

ومضمون كلامهم أن كلام الله ورسوله في ظاهره كفر وإلحاد من غير بيان من الله ورسوله للمراد

وهذا قول ظاهر الفساد وهو أصل قول أهل الكفر والإلحاد

أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بينت المراد وأزالت الشبهة فإن الحديث الصحيح لفظه: [ عبدي مرضت فلم تعدني فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده ]

فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله نفسه لا يمرض وإنما الذي مرض عبده المؤمن

ومثل هذا لا يقال: ظاهره أن الله يمرض فيحتاج إلى تأويل لأن اللفظ إذا قرن به ما يبين معناه كان ذلك هو ظاهره كاللفظ العام إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة كقوله: { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } [ العنكبوت: 14 ] وقوله: { فصيام شهرين متتابعين } [ النساء: 92 ] ونحو ذلك فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفا كاملة ولا شهرين سواء كانا متفرقين أو متتابعين

وأما قوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض فهو أولا: ليس من الحديث الصحيح الثابت عن النبي فلا نحتاج أن ندخل في هذا الباب ولكن هؤلاء يقرنون بالأحاديث الصحيحة أحاديث كثيرة موضوعة ويقولون بتأول الجميع كما فعل بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأبو بكر بن فورك في كتاب مشكل الحديث حتى أنهم يتأولون حديث عرق الخيل وأمثاله من الموضوعات

هذا مع أن عامة ما فيه من تأويل الأحاديث الصحيحة هي تأويلات المريسي وأمثاله من الجهمية وقد يكون الحديث مناما كحديث رؤية ربه في أحسن صورة فيجعلونه يقظة ويجعلونه ليلة المعراج ثم يتأولونه

وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في إبطال التأويل ردا لكتاب ابن فورك وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عيانا ليلة المعراج ونحوه وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة كحديث قعود الرسول على العرش رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة وهي كلها موضوعة وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول

وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توفيقا لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول وما ثبت من كلام غيره سواء كان من المقبول أو المردود

ولهذا وغيره تكلم رزق الله التميمي وغيره مكن أصحاب أحمد في تصنيف القاضي أبي يعلى لها الكتاب بكلام غليظ وشنع عليه أعداؤه بأشياء هو منها بريء كما ذكر هو ذلك في آخر الكتاب

وما نقله عنه أبو بكر بن العربي في العواصم كذب عليه عن مجهول لم يذكره أبو بكر وهو من الكذب عليه مع أن هؤلاء - وإن كانوا نقلوا عنه ما هو كذب عليه ففي كلامه ما هو مردود نقلا وتوجيها وفي كلامه من التناقض من جنس ما يوجد في كلام الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي المعالي وأمثالهم ممن يوافق النفاة على نفيهم ويشارك أهل الإثبات على وجه يقول الجمهور: إنه جمع بين النقيضين

ويقال: إن أبا جعفر السمناني شيخ أبي الوليد الباجي قاضي الموصل كان يقول عليه ما لم يقله: ويقال عن السمناني إنه كان مسمحا في حكمه وقوله

والمقصود هنا أن ما لم يكن ثابتا عن الرسول لا نحتاج أن ندخله في هذا الباب سواء احتيج إلى تأويل أو لم يحتج

وحديث الحجر الأسود يمين الله في الأرض هو معروف من كلام ابن عباس وروي مرفوعا وفي رفعه نظر ولفظ الحديث: الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه ففي لفظ هذا الحديث أنه يمين الله في الأرض وأن المصافح له كأنما صافح الله وقبل يمينه ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به فهذا صريح في أنه ليس هو نفس صفة الله فلا يمكن أحد أن يأتي بنص صحيح صريح يدل على معنى فاسد من غير بيان للنص أصلا فالحمد لله الذي سلم كلامه وكلام رسوله من كل نقص وعيب وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب والحمد لله رب العالمين

وأما الخطأ الثاني فيأتون إلى نصوص صحيحة دالة على معان دلالة بينة بل صريحة قطعية كأحاديث الرؤية ونحوها مما فيه إثبات الصفات فيقولون هذه تحتاج إلى التأويل كتلك وقد تبين استغناء كل من الصنفين عن التحريف وأن التفسير الذي به يعرف الصواب قد ذكر ما يدل عليه في نفس الخطاب: إما مقرونا به وإما في نص آخر

ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم وصراط مستقيم في النصوص لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه إلا بما يرجع إلى نفس المتأول المستمع للخطاب لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب فنجد من ظهر له تتناقض أقوال أهل الكلام والفلاسفة كأبي حامد وأمثاله ممن يظنون أن في طريقة التصفية نيل مطلوبهم يعولون في هذا الباب على ذوقهم وكشفهم فيقولون: إن ما عرفته بنور بصيرتك فقرره وما لم تعرفه فأوله

ومن ظن أن في كلام المتكلمين ما يهدي إلى الحق يقول: ما ناقض دلالة العقل وجب تأويله وإلا فلا

ثم المعتزلي - والمتفلسف الذي يوافقه - يقول: إن العقل يمنع إثبات الصفات وإمكان الرؤية

ويقول المتفلسف الدهري: إنه يمنع إثبات معاد الأبدان وإثبات أكل وشرب في الآخرة ونحو ذلك

فهؤلاء مع تناقضهم لا يجعلون الرسول نفسه نصب في خطابه دليلا يفرق به بين الحق والباطل والهدى والضلال بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم

ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئا من معرفة صفات الله تعالى بل الرسول معزول عندهم عن الإخبار بصفات الله تعالى نفيا وإثباتا وإنما ولايته عندهم في العمليات - أو بعضها - مع أنهم متفقون على أن مقصوده العدل بين الناس وإصلاح دنياهم

ثم يقولون مع ذلك: إنه أخبرهم بكلام عن الله وعن اليوم الآخر: صار ذلك الكلام سببا للشر بينهم والفتن والعداوة والبغضاء مع ما فيه عندهم من فساد العقل والدين فحقيقة أمرهم أنه أفسد دينهم ودنياهم وهذا مناقض لقولهم: إنه أعقل الخلق وأكملهم أو من أعقلهم وأكملهم وأنه قصد العدل ومصلحة دنياهم

فهم مع قولهم المتضمن للكفر والإلحاد يقولون قولا مختلفا يؤفك عنه من أفك متناقض غاية التناقض فاسد غاية الفساد

وهذا ينكشف :

الوجه الثامن والعشرون[عدل]

وهو أن يقال: حقيقة قول هؤلاء الذين يجوزون أن تعارض النصوص الإلهية النبوية بما يناقضها من آراء الرجال وأن لا يحتج بالقرآن والحديث على شيء من المسائل العلمية بل ولا يستفاد التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله فإنه إذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل ويجب تقديمه عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل فالإنسان لا يخلو من حالين وذلك لأن الإنسان إذا سمع خطاب الله ورسوله الذي يخبر فيه عن الغيب: فإما أن يقدر أن له رأيا مخالفا للنص أو ليس له رأي يخالفه فإن كان عنده مما يسميه معقولا ما يناقض خبر الله ورسوله وكان معقوله هو المقدم قدم معقوله وألغى خبر الله ورسوله وكان حينئذ كل من اقتضى عقله مناقضة خير من أخبار الله ورسوله قدم عقله على خبر الله ورسوله ولم يكن مستدلا بما أخبر الله به ورسوله على ثبوت مخبره بل ولم يستفد من خبر الله ورسوله فائدة علمية بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب إلا دلالة بعيدة ليصرف إليها اللفظ

ومعلوم أن المقصود بالخطاب والإفهام وهذا لم يستفد من الخطاب والإفهام فإن الحق لم يستفده من الخطاب بل من عقله والمعنى الذي دل عليه الخطاب الدلالة المعروفة لم يكن المقصود بالخطاب إفهامه وذلك المعنى البعيد الذي صرف الخطاب إليه قد كان عالما بثبوته بدون الخطاب ولم يدل عليه الخطاب الدلالة المعروفة بل تعب تعبا عظيما حتى أمكنه احتمال الخطاب له مع أنه لا يعلم أن المخاطب أفاده بالخطاب فلم يكن له خطاب الله ورسوله على قول هؤلاء لا إفهام ولا بيان بل قولهم يقتضي أن خطاب الله ورسوله إنما أفاد تضليل الإنسان وإتعاب الأذهان والتفريق بين أهل الإيمان وحصول العداوة بينهم والشنآن وتمكين أهل الإلحاد والطغيان من الطعن في القرآن والإيمان

وأما إن لم يكن عنده ما يعارض النص مما يسمى رأيا ومعقولا وبرهانا ونحو ذلك فإنه لا يجزم بأنه ليس في عقول جميع الناس ما يناقض ذلك الخبر الذي أخبر الله به رسوله ومن المعلوم أن الدلالات التي تسمى عقليات ليس لها ضابط ولا هي منحصرة في نوع معين بل ما من أمة إلا ولهم ما يسمونه معقولات

واعتبر ذلك بأمتنا فإنه ما من مده إلا وقد يبتدع بعض الناس بدعا يزعم أنها معقولات

ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة علي المرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم لا يدعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص

ولكن لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم ومع هذا فكانوا قليلين مقموعين في الأمة

وأولهم الجعد بن درهم ضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم انه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه

وإنما صار لهم ظهور شوكة في أوائل المائة الثالثة لما قواهم من قواهم من الخلفاء فامتحن الناس ودعاهم إلى قولهم ونصر الله الإيمان والسنة بمن أقامه من أئمة الهدى الذي جعلهم الله أئمة في الدين بما آتاهم الله من الصبر واليقين كما قال الله تعالى: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } [ السجدة: 24 ]

والمقصود هنا أن ما تذكره الجهمية نفاة الصفات العقلية المناقضة للنصوص لم يكن معروفا فيها عند الأمة إذ ذاك ولما ابتدعوه لم يسمعه أكثر الأمة

ثم قد وضعت الجهمية من المعتزلة وغيرهم من ذلك في الكتب ما شاء الله وأكثر المؤمنين لا يعلمون ذلك وما من أحد من النفاة إلا وقد يذكر على النفي من حججه العقلية ما لا يذكره الآخر ولا تجد طائفتين يتفقان على طريقة واحدة عقلية بل المعتزلة عمدتهم في النفي أما الصفات أعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم وعمدتهم في نفي الجسم كونه لا ينفك من الحوادث أو كونه مركبا من الأجزاء المفردة فهم يستدلون بالأكوان الأربعة التي للجسم - وهي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون - على حدوثه

وأما ابن كلاب وأتباعه فينازعونهم في أن الصفات لا تقوم إلا بمحدث ويسلمون لهم أن الأفعال ونحوها من الأمور الاختيارية لا تقوم إلا بمحدث وكذلك الأشعري وأتباعه ينازعونهم في أن الصفات لا تقوم إلا بجسم وتوافقهم على أن الأفعال لا تقوم إلا بجسم

ومن أتباعهم المتفلسفة من نازعهم في أن الأفعال لا تقوم إلا بجسم

وطوائف غير هؤلاء من الهاشمية والكرامية وغيرهم يسلمون لهم أن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم وينازعونهم في كون الجسم لا يخلو من الحوادث ويجوزون وجود جسم ينفك من قيام الحوادث به ثم يحدث فتقوم به بعد ذلك وقد ينازعونهم في كون كل جسم مركبا من الأجزاء المنفردة

وهذه الطوائف وأمثالها من طوائف أهل الكلام من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم كلهم متفقون على أن الممكن لا يكون إلا جسما أو قائما بجسم ومتنازعون في الواجب

والمتفلسفة المشاءون الذين يثبتون ممكنا ليس بجسم ولا قائم بجسم يقولون: إن الجسم الممكن قد يكون قديما أزليا أبديا تحله الحوادث والأعراض وأن الجسم الممكن لا ينفك من الحوادث وليس هو عندهم بمحدث وهو مركب كتركيب الأجسام وهو عندهم قديم أزلي فهذا عندهم لا ينافي القدم والأزلية وإنما ينفون ذلك عن واجب الوجود بناء على أن إثبات الصفات تركيب وواجب الوجود ليس بمركب

والتركيب الذي يعنيه هؤلاء أعم من التركيب الذي يعنيه أولئك فإن هؤلاء يزعمون أن هنا خمسة أنواع من التركيب يجب نفيها عن الواجب فيقولون ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق إذ لو كان له حقيقة سوى ذلك لكان مركبا من تلك الحقيقة

والوجود يثبتونه وجودا مطلق بشرط الإطلاق أو بشرط النفي أو لا بشرط مع علم كل عاقل أن هذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان ويقولون: ليس له صفة ثبوتية: لا علم ولا قدرة إذ لو كان كذلك لكان مركبا من ذات الصفات

ثم يقولون: هو عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق وهو ملتذ ومبتهج وملتذ به مبتهج به وذلك كله شيء واحد فيجعلون الصفة هي الموصوف وهذه الصفة هي الأخرى

ومعلوم أن هذا أكثر تناقضا من قول النصارى ويقولون لا يدخل هو وغيره تحت عموم لئلا يكون مركبا من صفة عامة وخاصة كتركيب النوع من الجنس والفصل أو من الخاصة والعرض العام مع أنهم يقولون: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن والواجب يتميز عن الممكن بما يختص به ويقولون ليس فوق العالم لنه لو كان كذلك لكان له جانبان فيكون جسما مركبا من الأجزاء المفردة أو المادة والصورة

ثم أتباع هذه الطوائف يحدثون من الحجج العقلية على قول متبوعهم ما لم تكن عند متبوعهم فيكونون - بزعمهم - قد تبين لهم من العقليات النافية ما لم يتبين لمتبوعهم

واعتبر ذلك بما تجده من الحجج لأبي الحسين البصري وأمثاله مما لم يسبقه إليها شيوخه وما تجده لأبي هاشم ولأبي على الجبائي وعبد الجبار بن أحمد مما لم يسبقهم إليها شيوخهم

بل أبو المعالي الجويني ونحوه ممن انتسب إلى الأشعري ذكروا في كتبهم من الحجج العقليات النافية للصفات الخبرية ما لم يذكره ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليد والاستواء

وليس للأشعري في ذلك قولان بل لم يتنازع الناقلون لنذهبه نفسه في أنه يثبت الصفات الخبرية التي في القرآن وليس في كتبه المعروفة إلا إثبات هذه الصفات وإبطال قول من نفاها وتأول النصوص وقد رد في كتبه على المعتزلة - الذين ينفون صفة اليد والوجه والاستواء ويتأولون ذلك بالاستيلاء - ما هو معروف في كتبه لمن يتبعه ولم ينقل عنه أحد نقيض ذلك ولا نقل أحد عنه في تأويل هذه الصفات قولين

ولكن لأتباعه فيها قولان: فأما هو وأئمة أصحابه فمذهبهم إثبات هذه الصفات الخبرية وإبطال ما ينفيها من الحجج العقلية وإبطال تأويل نصوصها

وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات موافقة للمعتزلة والجهمية ثم لهم قولان: أحدهما تأويل نصوصها وهو أول قولي أبي المعالي كما ذكره في الإرشاد والثاني تفويض معانيها إلى الرب وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في الرسالة النظامية وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب

ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي لا على إثباتها ولا على نفيها وهي طريقة الرازي والآمدي

وأبو حامد تارة يثبت الصفات العقلية متابعة للأشعري وأصحابه وتارة ينفيها أو يردها إلى العلم موافقة للمتفلسفة وتارة يقف وهو آخر أحواله ثم يعتصم بالسنة ويشتغل بالحديث وعلى ذلك مات

وكذلك أبو محمد بن حزم مع معرفته بالحديث وانتصاره لطريقة داود وأمثاله من نفاة القياس أصحاب الظاهر قد بالغ في نفي الصفات وردها إلى العلم مع أنه لا يثبت علما هو صفة ويزعم أن أسماء الله كالعليم والقدير ونحوهما لا تدل على العلم والقدرة وينتسب إلى الأمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة ويدعي أن قوله هو قول أهل السنة والحديث ويذم الأشعري وأصحابه ذما عظيما ويدعي أنهم خرجوا عن مذهب السنة والحديث في الصفات

ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم وأمثاله في ذلك ثم المتفلسفة الدهرية كالفارابي وابن سينا يزعمون أن العقل يحيل معاد الأبدان فيجب تقديم العقليات على دلالة السمع ويخاطبون من أقر بالمعاد من المعتزلة وموافقيهم في نفي ذلك بما تخاطب به المعتزلة المثبتة الصفات ويقولون لهم: قولنا في نصوص المعاد كقولكم في نصوص الصفات

وهكذا خاطبت القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهما لمتكلمة الإثبات في مسألة القدر وقالت: القول في النصوص المثبتة للقدر وأن الله خالق أفعال العباد كالقول في نصوص الصفات

وبهذا أجاب من أجاب من المعتزلة والشيعة لهؤلاء فقالوا في الجواب عما يحتج به هؤلاء من الحجج السمعية على أن الله خالق أفعال العباد من جهة الجملة ومن جهة التفصيل

أما من جهة الجملة فمن وجوه :

أحدها: أنه إذا ثبت كونه تعالى عادلا لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب في حكمته وجب أن يكون للآيات التي يتعلقون بها وجوه لا تنافي ما ثبت من الدلالة وإن لم تعلم الوجوه على سبيل التفصيل

وقالوا: هذا كما نقول نحن وهم في الآيات التي تتعلق بها المشبهة في كون الله تعالى جسما نحو قوله تعالى: { بل يداه مبسوطتان } [ المائدة: 64 ] وما يجري مجرى ذلك من الآيات التي تفيد ظاهرها التشبيه من أنه إذا ثبت أنه تعالى لا يشبه الأشياء وجب أن يكون لهذه الآيات وجوه تطابق أدلة العقول وإن لم نعلمها على سبيل التفصيل

فهذه الطريق التي سلكها هؤلاء القدرية هي الطريق التي سلكها من وافقهم على نفي الصفات أو بعضها من الجهمية كجهم بن صفوان وحسين النجار وضرار بن عمرو وغيرهم فإن هؤلاء يثبتون القدر ويوافقون المعتزلة على نفي الصفات

ومن المعلوم أن الحجج العقلية التي يحتج بها المعتزلة والشيعة ليس لها ضابط بل قد سلك أبو الحسين البصري مسلكا خالف فيه شيوخه وادعى أن العلم بإحداثها ضروري

فهذه وأضعافه مما يبين أنه ليس لما يدعى من العقليات التي يقال إنها تناقض النصوص ضابط بل ذلك من باب الوساوس والخطرات التي لا تزال تحدث في النفوس

فإذا جوز المجوز أن يكون لبعض ما أخبر الله به ورسوله معقول صريح يناقضه ويقدم عليه لم يأمن أن يكون كل ما يسمعه من أخبار الله ورسوله من هذا الباب غايته أن يقول: ليس عندي من العقليات ما يناقض ذلك أو لم أسمع أو لم أجد ونحو ذلك

وهذا القدر لا ينفي أن يكون في نفس الأمر قضايا عقلية لم تصل إليه بعد وإذا قال: العقل لا ينفي ما أقر به

قيل له: أتريد بذلك أنك لم تعلم معقولا ينافي ذلك أو تعلم أنه ليس يمكن أن يكون في المعقول ما ينافي ذلك إذا جوزت أن يقول في المعقول ما يناقض أخبار الرسول؟

فإن قلت بالأول لم ينفعك ذلك

وإن قلت بالثاني لم يكن كلامك صحيحا لأنك جوزت أن يكون في المعقول ما يناقض أخبار الرسول

ومع هذا فالجزم ينفي كل معقول جزم بلا علم بخلاف المؤمن بجميع ما أخبر الله به الذي يجزم بأنه ليس في المعقول ما يناقض منصوص الرسول فإن هذا قد علم ذلك علما يقينا عاما مطلقا

وإذا قال الذي يقر ببعض النصوص دون البعض المضاهي لمن آمن ببعض الكتاب دون بعض: الذي نفيته يحيله العقل والذي أقررته لا يحيله العقل بل هو ممكن في العقل

قيل له: أتعني بقولك: لا يحيله العقل وهو ممكن في العقل: الإمكان الذهني أو الخارجي؟

فإن عنيت الإمكان الذهني: بمعنى أنه لم يقم دليل عقلي يحيله فهذا لا ينفي أن يكون في نفس الأمر ما يحيله ولم تعلمه

وإن عنيت به الإمكان الخارجي وهو أنك علمت بعقلك أنه يمكن ذلك في الخارج فهذا لا يتأتى لك في كثير من الأخبار

وهؤلاء الذين يدعون أنهم يقررون إمكان ذلك بالعقل يقول أحدهم: هذا لو فرضناه لم يلزم منه محال كما يقول ذلك الآمدي ونحوه أو يقول: هذا لا يفضي إلى قلب الأجناس ولا تجوير الرب ولا كذا ولا كذا فيعددون أنواعا محصورة من الممتنعات

ومعلوم أن نفي محالات معدودة لا يستلزم نفي كل محال

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55