جامع العلوم والحكم/الحديث السادس والأربعون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات: الحديث السادس والأربعون


عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسي الأشعري أن النبي بعثه إلى اليمن فسأله عن الأشربة تصنع بها فقال وما هي قال البتع والمزر فقيل لأبي بردة ما البتع قال نبيذ العسل والمزر نبيذ الشعير فقال كل مسكر حرام . خرجه البخاري

وخرجه مسلم ولفظه قال بعثني رسول الله أنا ومعاذ إلى اليمين فقلت يارسول الله إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له المزر من الشعير وشراب يقال له البتع من العسل فقال كل مسكر حرام وفي رواية لمسلم فقال كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام وفي رواية له قال، وكان رسول الله قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه فقال أنهي عن كل مسكر أسكر عن الصلاة فهذا الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكرات المغطية للعقل وقد ذكر الله تعالى في كتابه العلة المقتضية لتحريم المسكرات، وكان أول ما حرمت الخمر عند حضور وقت الصلاة لما صلى بعض المهاجرين وقرأ في صلاته فخلط في قراءته فنزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} النساء وكان منادي رسول الله ينادي لا يقرب الصلاة سكران ثم إن الله حرمها على الإطلاق بقوله إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون المائدة فذكر علة تحريم الخمر والميسر وهو القمار وهو أن الشيطان يوقع بينهم العداوة والبغضاء فإن من سكر اختل عقله فربما تسلط على أذي الناس في أنفسهم وأموالهم وربما بلغ إلى القتل وهي أم الخبائث فمن شربها قتل النفس وزني وربما كفر وقد روى هذا المعنى عن عثمان وغيره وروى مرفوعًا أيضًا ومن قامر فربما قهر وأخذ ماله قهرا فلم يبق له شيء فيشتد حقده على من أخذ ماله وكل ما أدي إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حرامًا وأخبر أن الشيطان يصدكم بالخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة فإن السكران يزول عقله أو يختل فلا يستطيع أن يذكر الله ولا أن يصلي ولهذا قالت طائفة من السلف إن شارب الخمر تمر عليه ساعة لا يعرف فيها ربه والله سبحانه وتعالى إنما خلقهم ليعرفوه ويذكروه ويعبدوه ويطيعوه فما أدي إلى الامتناع من ذلك وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته كان محرما وهو السكر وهذا بخلاف النوم فإن الله تعالى جبل العباد عليه واضطرهم إليه ولا قوام لأبدانهم إلا به إذ هو راحة لهم من السعي والنصب فهو من أعظم أنعم الله على عباده فإذا نام المؤمن بقدر الحاجة ثم استيقظ إلى ذكر الله ومناجاته ودعائه كان نومه عونا له على الصلاة والذكر ولهذا قال بعض الصحابة إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، وكذلك الميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة فإن صاحبه يعكف بقلبه عليه ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه فيه ولهذا قال على لما فشبههم على قوم يلعبون بالشطرنج ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون فشبهم بالعاكفين على التماثيل وجاء في الحديث إن مدمن الخمر كعابد الوثن فإن يتعلق قلبه به فلا يكاد يمكنه أن يدعها كما لا يدع عابد الوثن عبادته وهذا كله مضاد لما خلق الله العباد لأجله من تفريغ قلوبهم لمعرفته ومحبته وخشيته وذكره ومناجاته ودعائه والابتهال إليه فما حال بين بالعبد وبين ذلك ولم يكن العبد إليه ضرورة بل كان ضررا محضا عليه كان محرما وقد روي عن على أنه قال لمن رآهم يلعبون بالشطرنج ما لهذا خلقتم ومن هنا يعلم أن الميسر محرم سواء كان بعوض أو بغير عوض وإن الشطرنج كالنرد أو شر منه لأنها تشغل أصحابها عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النرد والمقصود أن النبي قال كل مسكر حرام وكل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام وقد تواترت الأحاديث بذلك عن النبي فخرجا في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام ولفظ مسلم وكل مسكر حرام.

وخرج أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي سئل عن البتع فقال كل شراب مسكر حرام وقد صحح هذا الحديث أحمد ويحيى بن معين وأصحابه واحتجابه ونقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم بالحديث على صحته وأنه أثبت شيء يروى النبي في تحريم المسكر وأما ما نقله بعض فقهاء الحنفية عن ابن معين من طعنه فيه فلا يثت ذلك عنه.

وخرج مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي قال كل مسكر حرام وإلي هذا القول ذهب جمهور من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار وهو مذهب مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم وهو مما أجمع على القول به أهل المدينة كلهم وخالف فيه طوائف من علماء أهل الكوفة وقالوا إن الخمر إنما هو خمر العنب خاصة وما عداها فإنما محرم منه القدر الذي يسكر ولا يحرم مادونه ومازال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم وإن كانوا في ذلك مجتهدين مغفورا لهم وفيهم خلق من أئمة العلم والدين قال ابن المبارك ما وجدت في النبيذ رخصة عن أحد صحيح إلا عن إبراهيم يعني النخعي ولذلك أنكر الإمام أحمد أن يكون فيه شيء يصح وقد صنف كتاب الأشربة ولم يذكر فيه شيئًا من الرخصة وصنف كتابًا في المسح على الخفين وذكر فيه عن بعض السلف إنكاره فقيل له كيف لم تجعل في كتاب الأشربة الرخصة كما جعلت في المسح فقال ليس في الرخصة في السكر حديث صحيح ومما يدل على أن كل مسكر خمر أن تحريم الخمر إنما نزل في المدينة بسبب سؤال أهل المدينة عما عندهم من الأشربة ولم يكن بها خمر العنب فلو لم تكن آية تحريم الخمرشاملة لما عندهم لما كان فيها بيان لما سألوا عنه ولكان محمل السبب خارجا من عموم الكلام وهو ممتنع ولما نزل تحريم الخمر أن أقواما أهرقوا ما عندهم من الأشربة فدل على أنهم فهموا أنه من الخمر المأمور باجتنابه وفي صحيح البخاري عن أنس قال حرمت علينا الخمر حين حرمت ومانجد خمر الأعناب إلا قليلًا وعامة خمرنا البسر والتمر، وعنه أنه قال إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء خليط بسر وتمر إذ حرمت الخمر فقذفتها وأنا ساقيهم وأصغرهم وإنا لنعدها حينئذ الخمر.

وفي الصحيحين عنه قال ماكان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ وفي صحيح مسلم عنه قال لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر وما بالمدينة شراب يشرب إلا من تمر وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ الخمسة أشربة ما منها شراب العنب.

وفي الصحيحين عن الشعبي عن ابن عمر قال قام عمر رضي الله عنه على المنبر فقال أما بعد نزل تحريم الخمر وهي من خمس العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذى من حديث الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه آله وسلم وذكر الترمذي أن قول من قال عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر صح وكذا قال ابن المديني وروى أبو إسحاق عن أبي هريرة قال قال عمر ما خمرته فعتقته فهو خمر وأني كانت لنا الخمر خمر العنب.

وفي مسند الإمام أحمد عن المختار بن فلفل قال سألت أنس بن مالك عن الشرب في الأوعية قال نهي رسول الله عن المزفت فقال كل مسكر حرام قلت له صدقت فالشربة والشربتان على طعامنا قال المسكر قليله وكثيره حرام وقال الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة فما خمرت من ذلك فهو الخمر خرجه أحمد عن عبدالله بن إدريس سمعت المختار يقول فذكر ه وهذا إسناد على شرط مسلم وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة وهذا صريح في أن نبيذ التمر خمر وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره كما خرجه أبو داود وابن ماجه والترمذى وحسنه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه آله وسلم قال ماأسكر كثيره فقليله حرام.

وخرج أبو داود والترمذى وحسنه من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي قال كل مسكر حرام وماأسكر الفرق فملء الكف منه حرام وفي رواية الحسوة منه حرام وقد احتج به أحمد وذهب إليه وسئل عمن قال إنه لايصح فقال هذا رجل مغل يعني أنه قد غلا في مقالته وقد أخرج النسائي هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو عن النبي وقد روي عن النبي من وجوه كثيرة يطول ذكرها وروى ابن عجلان عن عمرو بن شعيب حدثني أبو وهيب الجيشاني عن وفد أهل اليمن أنهم قدموا على النبي فسألوه عن أشربة تكون باليمن فسموا له البتع من العسل والمزر من الشعير قال النبي هل تسكرون منها قالوا إن أكثرنا من اسكرنا قال فحرام قليله ما أسكر كثيره خرجه القاضي إسماعيل وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم تحتج بقول النبي كل مسكر حرام على تحريم جميع أنواع المسكرات ماكان موجودًا منها على عهد النبي وآله وسلم وما حدث بعده كما سئل ابن عباس عن الباذق فقال سبق محمد الباذق فما أسكر فهو حرام خرجه البخاري يشير إلى أنه إن كان مسكرا فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة واعلم أن المسكر المزيل للعقل نوعان أحدهما ما كان فيه لذة وطرب فهذا هو الخمر المحرم شربه.

وفي المسند عن طلق الحنفي أنه كان جالسًا عند النبي فقال رجل يا رسول الله ما تري في شراب نصنعه بأرضنا من ثمارنا فقال من سائل عن المسكر فلا تشربه ولا تسقه أخاك المسلم فو الذي نفسي بيده أوبالذي يحلف به لايشربه رجل ابتغاء لذة مسكرة فيسقيه الله الخمر يوم القيامة قالت طائفة من العلماء وسواء كان هذا المسكر جامدا أو مائعا وسواء كان مطعوما أو مشروبا وسواء كان من حب أوتمر أو لبن أو غير ذلك وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق العنب وغيرها مما يؤكل لأجل لذته وسكره وفي سنن أبي داود من حديث شهر بن حوشب عن أم سلمة قالت نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر والمفتر هو المخدر للجسد وإن لم ينته إلى حد الإسكار والثاني ما يزيل العقل ويسكره لا للذة فيه ولا طرب كالبنج ونحوه فقال أصحابنا إن تناوله لحاجة التداوي، وكان الغالب منه السلامة جاز وقد روي عن عروة بن الزبير لما وقعت الأكلة في رجله وأرادوا قطعها قال له الأطباء نسقيك دواءا حتى يغيب عقلك ولا تحس بألم القطع فأبي وقال ما ظننت أن خلقا يشرب شرابا يزول منه عقله حتى لا يعرف ربه وروي عنه أنه قال لا أشرب شيئًا يحول بيني وبين ذكر ربي عز وجل وإن تناول ذلك لغير حاجة التداوي فقال أكثر أصحانبا كالقاضي وابن عقيل وصاحب المغني إنه محرم لأنه سبب إلى إزالة العقل لغير حاجة فحرم شرب المسكر وروى حبيش الرحبي وفيه ضعف عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا فقد أتي بابًا من أبواب الكبائر وقالت طائفة منهم ابن عقيل في فنونه لا يحرم ذلك لأنه لا لذة فيه والخمر إنما حرمت لما فيها من الشدة المطربة ولا اطراب في الينج ونحوه ولا شدة فعلي قول الأكثرين لو تناول ذلك لغير حاجة وسكر به فطلق فحكم طلاقه حكم طلاق السكران قاله أكثر أصحابنا كابن حامد والقاضي وأصحاب الشافعي وقالت الحنفية لا يقع طلاقه وعللوا بأنه ليس فيه لذة وهذا يدل على أنهم لم يحرموه وقالت الشافعية هو محرم وفي وقوع الطلاق معه وجهان وظاهر كلام أحمد أنه لايقع طلاقه بخلاف السكران وتأوله القاضي وقال إنما قال ذلك إلزاما للحنفية لا اعتقادا له وسياق كلامه محتمل لذلك وأما الحد فإنما يجب بتناول ما فيه شدة وطرب من المسكرات لأنه هو الذي تدعو النفوس إليه فجعل الحد زاجرا عنه فأما ما فيه سكر بغير طرب ولا لذة فليس فيه سوي التعزير لأنه ليس في النفوس داع إليه حتى يحتاج إلى حد مقدر زاجر عنه فهو كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الدم وأكثر العلماء الذين يرون تحريم قليل ما أسكر كثيره يرون حد من شرب ما يسكر كثيره وإن اعتقد حله متأولا وهو قول الشافعي وأحمد خلافًا لأبي ثور فإنه قال لا يحد لتأوله فهو كالناكح بلا ولي وفي حد الناكح بلا ولي خلاف أيضًا ولكن الصحيح أنه لا يحد وقد فرق بينه وبين شرب النبيذ متأولا بأن شرب النبيذ المختلف فيه داع إلى شرب الخمر المجمع على تحريمه بخلاف النكاح بغير ولي فإنه مغن عن الزنا المجمع على تحريمه وموجب للاستعفاف عنه والمنصوص عن أحمد أنه إنما حد شارب النبيذ متأولا أن تأويله ضعيف لا يدرأ عنه الحد به فإنه قال في رواية للأثرم يحد من شرب النبيذ متأولا ولو رفع إلى الإمام من طلق البتة ثم راجعها متأولا أن طلاق البتة واحدة والإمام يري أنها ثلاث لا يفرق بينهما وقال هذا غير ذاك وأمره بين في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ونزل تحريم الخمر وشرابهم الفضيخ وقال النبي كل مسكر خمر فهذا بين وطلاق البتة إنما هو شيء اختلف الناس فيه.