بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية/17

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فيقال له عن هذه ايضا وجوه

احدها ان هذه أيضا حجة الزامية لا حقيقية فالذي ينفي هذه الأقسام عن الباري اما أن يذكروا فرقا صحيحا اولا يذكروه فان ذكروه بطل الزامهم بذلك في حجة المباينة والمحايثة وان لم يذكروا فرقا صحيحا كان ذلك حجة عليهم في الموضعين كما تقدم نظيره وحينئذ فلا يكون هذا حجة لا في نظر ولا في مناظرة فان هذا ليس هو متفقا على نفيه بل أكثر اهل الاثبات يلتزم أحد الاقسام

الوجه الثاني أن يقال هذا التقسيم باطل فان كل ما نشهده فهو جزء من العالم سواء كان قائما بنفسه او بغيره فكيف يقال فيما هو بعض العالم اما ان يكون مساويا للعالم أو أزيد منه أو أنقص منه ومن المعلوم أنه لا يكون الا أنقص منه واذا كان لا يصح ان يكون مساويا له ولا أزيد وبهذا يظهر ان هذا ليس نظير الحجة فان تلك مضمونها ان كل موجود يلزمه احد الأمرين اما المحايثة لغيره واما المباينة له والوجود ينقسم الى قسمين محايث ومباين ولا يمكن ان يقال الوجود المشهود يلزمه احد هذه الأقسام انما يلزمه واحد منها معين وهو النقص

الوجه الثالث ان هذا الذي ذكره انما هو فيما تقدم وجوده ويفرض مع العالم ومعلوم أنما يقدر وجوده ويفرض لا يعلم حكمه بالحس ولا بالبديهة كما يعلم حكم الموجود المشهود المحسوس مع الموجود المشهود المحسوس فان تلك الحجة مبناها على ما علم بالحس والضرورة ثم النظر هل ذلك معلل بما يتناول الوجود الواجب او بما يخص غيره وأما الموجودات المقدرة فحكمها لا يعلم بحس ولا ضرورة وانما يعلم بالقياس على ما علم وجوده

الوجه الرابع أن هذا إذا كان في الوجود المقدر مع العالم فذلك الموجود اما أن يكون هو الله او غيره فان كان غيره فقد علم انه معدوم لأن كل ما يقدر وجوده سوى الله فهو من العالم فلا يمكن تقدير موجود غير الله خارج عن مجموع خلقه وان كان المراد بهذا الموجود هو الله كان المعنى ان الله لا يخلو اما أن يكون اكبر من العالم او اصغر او بقدره واذا كان هذا هو المعنى المقدر فاحتجاجه بهذا على ان الباري موصوف بأحد هذه الأقسام هو استدلال بالشيء على نفسه فالدليل هو غير المدلول ويكون التقدير ان الرب الموجود مع العالم اما أن يكون مساويا له او اكبر او اصغر واذا كان كذلك فهو اما ان يكون مساويا او اكبر او اصغر وملعوم ان هذا باطل فضلا ان يكون نظير الحجة

وقد ظهر بما نبهنا عليه في الكلام على هذه الحجة ان قوله ونحن بعد ان بالغنا في تنقيحها وتقريرها اوردنا عليها هذه الاسئلة القاهرة والاعتراضات القادحة ليس الأمر كما قاله فان الحجة لم يستوف تقريرها كما يجب وليس ما ذكره من الأعتراض كما زعم هذا مع أنا لم نستوف الكلام في تقريرها ولا في الأجوبة عن اسولته لأن المقصود حكاية ما ذكره هو من الحجة وذكر ما ينبه على الحكم العادل بينه وبين خصومه

فصل

قال الرازي الشبهة الثالثة للكرامية في اثبات كونه تعالى في الجهة قالوا ثبت أنه تعالى تجوز رؤيته والرؤية تقتضي مواجهة المرئي او مواجهة شيء هو في حكم مقابلته وذلك يقتضي كونه تعالى مخصوصا بجهة قال

والجواب اعلم ان المعتزلة والكرامية توافقوا على ان كل مرئي لا بد وأن يكون في جهة الا ان المعتزلة قالوا لكنه ليس في الجهة فوجب أن لا يكون مرئيا والكرامية قالوا لكنه مرئي فوجب ان يكون في الجهة واصحابنا نازعوا في هذه المقدمة وقالوا لا نسلم ان كل مرئي فانه مختص بالجهة بل لا نزاع ان الأمر في الشاهد كذلك فلم قلتم ان كل ما كان كذلك في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك

وتقريره ان هذه المقدمة اما ان تكون مقدمة بديهية او استدلالية فان كانت بديهية لم يكن في اثبات كونه مختصا بالجهة حاجة الى هذا الدليل وذلك لأنه ثبت في الشاهد أن كل قائم بالنفس مختص بالجهة وثبت ان الباري جل وتعالى قائم بالنفس فوجب القطع بأنه تعالى مختص بالجهة لأن العلم الضروري حاصل بأن كلما ثبت في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك فاذا كان هذا الوجه حاصلا في اثبات كونه تعالى في الجهة كان اثبات كونه في الجهة بكونه مرئيا ثم اثبات ان كل ما كان مرئيا فهو مختص بالجهة تطويل من غير فائدة ومن غير مزيد شرح وبيان

وأما ان قلنا ان قولنا كل مرئي فهو مختص بالجهة ليست مقدمة بديهية بل هي مقدمة استدلالية فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليلا تصير هذه المقدمة يقينية وأيضا فكما أنا لا نعقل مرئيا في الشاهد الا اذا كان مقابلا او في حكم المقابل للرائي فكذلك لا نعقل مرئيا الا اذا كان صغيرا او كبيرا او ممتدا في الجهات مؤتلفا من الأجزاء وهم يقولون انه تعالى يرى لا صغيرا ولا كبيرا ولا ممتدا في الجهات والجوانب والأحياز فاذا جاز لكم ان تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب فلم لا يجوز ايضا ان يقال ان المرئي في الشاهد وان

وجب كونه مقابلا للرائي الا أن المرئي في الغائب لا يجوز ان يكون كذلك

والكلام على ما ذكره من وجوه

احدها انما ذكره عن المعتزلة والكرامية ليس هو قولهم فقط بل قول عامة طوائف بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين وهو قول جماهير مثبتي الصفات ونفاتها ولا يعرف القول باثبات الرؤية مع نفي كون الله تعالى فوق العالم الا عن هذه الشرذمة وهم بعض اتباع الأشعري ومن وافقهم وليس ذلك قول ائمتهم كما يقول هؤلاء وان كانوا هم وغيرهم يقولون ان في كلام أئمتهم تناقضا او اختلافا فقد قدمنا ان تناقض من كان الى الاثبات اقرب هو أقل من تناقض من كان الى النفي اقرب وقدمنا ان العلم بأنه فوق العالم اعظم من العلم بأنه يرى فعلم ذلك بالعقل اعظم في الطرق البديهية والقياسية وعلم ذلك بالسمع أعظم لما في الكتاب والسنة من الدلالات الكثيرة التي لا يحصيها الا الله على أن الله فوق

ولهذا تجد هؤلاء الذين يثبتون الرؤية دون العلو عند تحقيق الأمر منافقين لأهل السنة والاثبات يفسرون الرؤية التي يثبتونها بنحو ما يفسرها به المعتزلة وغيرهم من الجهمية فهم ينصبون الخلاف فيها مع المعتزلة ونحوهم ويتظاهرون بالرد عليهم وموافقة أهل السنة والجماعة في اثبات الرؤية وعند التحقيق فهم موافقون المعتزلة انما يثبتون من ذلك نحو ما اثبته المعتزلة من الزيادة في العلم ونحو ذلك مما يقوله المعتزلة في الرؤية او يقول قريبا منه ولهذا يعترف هذا الرازي بأن النزاع بينهم وبين المعتزلة في الرؤية قريب من اللفظي

فعلم ان هؤلاء حقيقة باطنهم باطن المعتزلة الجهمية المعطلة وإن كان ظاهرهم ظاهر اهل الاثبات كما أن المعتزلة عند التحقيق حقيقة امرهم امر الملاحدة نفاة الأسماء والصفات بالكلية وان تظاهروا بالرد عليهم والملاحدة حقيقة امرهم حقيقة من يجحد الصانع بالكلية هذا لعمري عند التحقيق وأما عوام الطوائف وان كان فيهم فضيلة وتميز فقد يجمعون بين المتناقضات تقليدا وظنا ولهذا لا يكونون جاحدين وكافرين مطلقا لأنهم يثبتون من وجه وينفون من وجه فيجمعون بين النفي والاثبات

قال الأشعري في الابانة باب الرد على الجهمية في نفيهم على الله وقدرته قال الله تعالى انزله بعلمه وقال سبحانه وما تحمل من انثى ولا تضع الا بعلمه وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه فقال سبحانه فأن لم يتجيبوا لكم فعلموا أنما أنزل بعلم الله ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء وذكر تعالى القوة فقال اولم يرو أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وقال سبحانه ذو القوة المتين وقال الله تعالى والسماء بنيناها بأيد قال وزعمت الجهمية والقدرية ان الله عز وجل لا علم له ولا حياة ولا سمع ولا بصر وأرادوا ان ينفوا ان الله عالم قادر حي سميع بصير فمنعهم خوف السيف من اظهارهم ذلك فأتوا بمعناه لأنهم اذا قالوا لا علم ولا قدرة لله فقد قالوا ليس بعالم ولا قادر ووجب ذلك عليهم وهذا انما اخذوه عن اهل الزندقة والتعطيل لأن الزنادقة قال كثير منهم ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير فلم تقدر المعتزلة ان تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت ان الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية من غير ان نثبت له علما وقدرة وسمعا وبصرا

وهؤلاء الذين ذكر قولهم قالوا ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير وهؤلاء شر من الذين تقدم ذكرهم وحكاية الرازي قولهم الذين يقولون لا نقول موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل فان أولئك امتنعوا من التسمية بالضدين لم ينفوا أن يكون هو تعالى في نفسه موصوفا بأحدهما فهؤلاء الذين نفوا ذلك اعظم من اولئك وقد أخبر ان قول المعتزلة مأخوذ من هؤلاء

وكذلك قال في كتاب المقالات لما قال وهذا ذكر اختلاف الناس في الأسماء والصفات فقال الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة المتحيرين الذي نفوا صفات الله رب العالمين وقالوا انه جل ثناؤه وتقدست اسماؤه لا صفات له وأنه لا علم له ولا قدرة له ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له ولا عز له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله التي توصف لنفسه قال وهذا قول اخذوه عن اخوانهم من المتفسلقة الذين يزعمون ان للعالم صانعا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا نقول عين لم تزل ولم يزيدوا على ذلك غير ان هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا ان يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه بنفيهم ان يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهر من ذلك ولأفصحوا به غير ان خوف السيف يمنعهم من اظهار ذلك قال وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي كان ينتحل قولهم فزعم ان الباري تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لافي الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم ان الباري تعالى عالم قادر سميع بصير حكيم جليل

في حقيقة القياس قال وقد اختلفوا فيما بينهم اختلافا تشتت فيه اهواؤهم واضطربت فيه أقاويلهم ثم ذكر بينهم نزاعا كثيرا ليس هذا موضعه

وقال شيخ الإسلام ابو اسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتاب ذم الكلام في آخره لما عقد بابا في ذكر هؤلاء الأشعرية المتأخرين فقال باب في ذكر كلام الأشعري ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من اهل السنة طوايا كلام الجهمية وما اودعته من رموز الفلاسفة ولم يقع منهم الا على التعطيل البحت وان قطب مذهبهم ومنتهى عقدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم ان والفلك دوار والسماء خالية وان قولهم انه تعالى في كل موضع وفي كل شيء ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حشا فرارا من الاثبات وذهابا عن التحقيق وان قولهم سميع بلا سمع بصير بلا بصر عليم بلا علم قادر بلا قدرة اله بلا نفس ولا شخص ولا صورة ثم قالوا لا حياة له ثم قالوا لا شيء فانه لو كان شيئا لأشبه الأشياء حاولوا مقال رؤوس الزنادقه القدماء إذ قالوا الباري لا صفة لهم ولا لا صفة خافوا على قلوب ضعفاء المسلمين وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم اذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن اعتصاما به من السيف واجتنابا به منهم واذ هم يرون التوحيد ويخاوضون المسلمين ويحملون الطيالسة فأفصحوا بمعائبهم وصاحوا بسوء ضمائرهم ونادوا على خبايا نكتهم فيا طول ما لقوا في أيامهم من سيوف لخلفاء وألسن العلماء وهجران الدهماء فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية من مقالات علماء الإسلام ورن الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم واجماع المسلمين على اخراجهم من الملة ثلت عليهم الوحشة وطالت الذلة وأعيتهم الحيلة الا ان يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم ويصبغوا كلامهم صيغة تكون ألوح للأفهام وانجع في العوام من أساس اوليهم تحدوا بذلك المساغ وليتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخاريق ترئا للعين بغير ما في الحشايا ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى فخ الفلسفة يكسى لحاء السنة وعقد الجهمية ينحل القاب الحكمة يردون على اليهود قولهم يد الله مغلولة فينكرون الغل وينكرون اليد فيكونوا اسوأ حالا من اليهود لأن الله سبحانه اثبت الصفة ونفى العيب واليهود اثبتت الصفة واثبتت العيب وهؤلاء نفو الصفة كما نفوا العيب ويردون على النصارى في مقالتهم في عيسى وامه فيقولون لا يكون في المخلوق غير المخلوق فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب ان كلام اولهم وكلام آخرهم كخيط السحارة فاسمعوا الآن يا ذوي الألباب وانظروا ما فضل هؤلاء على اولئك اولئك قالوا قبح الله مقالهم ان الله موجود بكل مكان وهؤلاء يقولون ليس هو في كل مكان ولا يوصف بأين وقد قال المبلغ عن الله عز وجل لجارية معاوية بن الحكم رضي الله عنه اين الله قالت في السماء الحديث وقالوا هو من فوق كما هو من تحت لا ندري اين هو ولا يوصف بمكان فليس هو في السماء وليس هو في الأرض وانكروا الجهة والحد وقال اولئك ليس له كلام انما خلق كلاما وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهو متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به ثم يقولون ليس هو في مكان ثم قالوا ليس له صوت ولا حروف وقالوا هذا زاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا انما قصد النفس واريد به التفسير وهذا صوت القاري اما يرى حسن وغير حسن وهذا لفظه او ما تراه مجازا به حتى قال رأس من رؤوسهم او يكون قرآن من لبد وقال آخر من خشب فراوغوا فقالوا هذا حكاية عبر بها عن القرآن والله تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك ثم قالوا غير مخلوق ومن قال مخلوق كافر وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام اهل السنة وانما اعتقادهم ان القرآن غير موجود لفظية الجهمية الذكور بمرة والجهمية الاناث بعشر مرات اولئك قالوا لاصفة وهؤلاء يقولون وجه كما يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث وعين كعين المتاع وسمع كأذن الجدار وبصر كما يقال جدارهما يترائيان ويد كيد المنة والعطية والأصابع كقولهم خراسان بين اصبعي الأمير والقدمان كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي والقبضة كما قيل فلان في قبضتي اي انا املك امره وقال الكرسي العلم والعرش الملك والضحك الرضى والاستواء الاستيلاء والنزول القبول والهرولة مثله شبهوا من وجه وانكروا من وجه وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر فردوا الأصل ولم يثبتوا شيئا ولم يبقوا موجودا

ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالالسنة فقالوا لا نفسرها نجريها عربية كما وردت وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة وأرادوا بهذه المخرقة ان يكون عوام المسلمين بعد غيابا عنها واعيا ذهابا منها ليكونوا اوحش عند ذكرها واشمس عند سماعها وكذبوا بل التفسير ان يقال وجه ثم لا يقال كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين فأما العبارة فقد قال الله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت ايدهم وانما قالوها هم بالعبرانية فحكاها عنهم بالعربية وكان رسول الله يكتب كتابه بالعبرانية فيها اسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها ويكتب اليه بالسريانية فيعبر له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية والله تعالى يدعى بكل لسان باسمه فيجيب ويحلف بها فيلزم وينشد فيجاز ويوصف فيعرف

ثم قالوا ليس ذات الرسول بحجة وقالوا ما هو بعد ما مات بمبلغ فلا يلزم به الحجة فسقط من اقاويلهم على ثلاثة اشياء انه ليس في السماء رب ولا في الروضة رسول ولا في الأرض كتاب كما سمعت يحيى بن عمار يحكم به عليهم وان كانوا موهوها ووروا عنها واستوحشوا من تصريحها فان حقائقها لازمة لهم وابطلوا التقليد فكفروا آباءهم وامهاتهم وازواجهم وعوام المسلمين وواجبوا النظر في الكلام واضطروا اليه الدين بزعمهم فكفروا السلف وقالت طائفة منهم الفرض لا يتكرر فأبطلت الشرائع وسموا الاثبات تشبيها فعابوا القرآن وضللوا الرسول فلا تكاد ترى منهم رجلا ورعا ولا للشريعة معظما ولا للقرآن محترما ولا للحديث موقرا سلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع واستفضلوا الرسول بالنظر فلا هو طالب آثاره ولا يتبع أخباره ولا يناضل على سننه ولا هو راغب في اسوته يتلقد مرتبة العلم وما عرف حديثا واحدا تراه يهزأ بالدين ويضرب له الامثال ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم اصلا من العلم لا تنفر لهم عن بطانة الا خانتك ولا عن عقيدة الا رابتك البسوا ظلمة الهوى وسلبوا نعمة الهدى فتنبوا عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب

قالوا وقد شاع في المسلمين ان رأسهم علي بن اسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي وقد سمعت محمدا العمري النسابة انبأنا المعافي

سمعت ابا الفضل الحارثي القاضي بسر حبس يقول سمعت زاهر بن احمد يقول اشهد لمات ابو الحسن الأشعري متحيرا بسبب مسألة تكافىء الأدلة فلا جزى الله امرءا أناط مخاريقه بمذهب الامام المطلبي رحمه الله تعالى وكان من ابر خلق الله قلبا واصونهم سمتا وأهدأهم هديا وأعمقهم علما وأقلهم تعمقا وأوقرهم للدين وابعدهم من التنطع وانصحهم لخلق الله جزاء خير قال فرأيت قوما منهم يجتهدون في قراءة القرآن وحفظ حروفه والاكثار من ختمه ثم اعتقاده فيه ما قد بيناه اجتهاد روغان كالخوارج وذكر باسناده من حديث سفيان الثوري عن الصلت بن بهرام عن المنذر بن هوذة عن خرشة ابن الحر ان حذيفة بن اليمان قال انا آمنا ولم نقرأ وسيجيء قوم يقرؤون القرآن ولا يؤمنون وباسناده من حديث زيد بن ابي انيسة عن القاسم بن عون قال سمعت ابن عمر يقول لقد عشنا برهة من دهرنا وان احدنا يؤتي الايمان قبل القرآن وباسناده من حديث اسماعيل بن مهاجر عن أبيه عن ابن عمر قال انا كنا صدور هذه الأمة وكان الرجل من خيار اصحاب رسول الله وصالحيهم وما يقم الا سورة من القرآن او شبه ذلك وكان القرآن قد ثقل عليهم رزقوا علما به او عملا وان آخر هذه الأمة يخفف عليه القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون شيئا منه قلت ومثل ذلك معروف عن جندب بن عبد الله البجلي انه قال اوتينا الايمان قبل ان نقرأ القرآن ثم اوتينا القرآن فازددنا ايمانا وانكم تؤتون القرآن قبل الايمان فتوسل أحدكم

وهذا الرازي لما ذكر مسألة الرؤية في نهايته وذكر فيها حجج النفاة والمثبتة كان ما ذكره من حجج النفاة العقلية والسمعية اظهر مما ذكره من حجج المثبتة وهذه عادته في كثير من مناظرته يحتج للباطل من السفسطة وفروعها بما لا يحتج بمثله للحق وقال في مسألة الرؤية بعد ان ذكر مسالكها العقلية فظهر من مجموع ما ذكرناه ان الادلة العقلية ليست قوية في هذه المسألة قال واعلم ايضا ان التحقيق في هذه المسألة ان الخلاف فيها يقرب ان يكون لفظيا وسنبينه ان شاء الله تعالى

الوجه الثاني ان هذا الرجل قد اعترف هو ومن يوافقه ان الرؤية التي دل عليها الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة بل الادراك المنفي عن الله في قوله لا تدركه الأبصار يدل على ان الله تعالى في الجهة وذلك يقتضي دلالة الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة على شيئين على رؤية الله تعالى وعلى انه في الجهة وذكر اعتراف فضلاء المعتزلة بأن النبيين كانوا يعتقدون ذلك

اما الأول فانه لما ذكر الحجج السمعية التي للمعتزلة على نفي الرؤية قال وهذه الشبه اربع الأولى وهي الأقوى التمسك بقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار قال واعلم ان هذه الآية تارة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يرى بالأبصار في الدنيا ولا في الآخرة وتارة على استحالة كوننا رائين له اما الوجه الاول فانما يتم باثبات امور اربعة أحدها ان ادراك البصر هو الرؤية قال ويدل عليه امران احهما انه لا فرق في اللغة بين ان يقال رأيت فلانا ببصري وبين ان يقال ادركته ببصري كما لا فرق بين ان يقال ادركته بأذني وبين ان يقال سمعته بأذني ثانيهما ان اهل اللسان فهموا من هذه الآية نفي الرؤية وذلك يدل على ان العرب يستعملون ادراك البصر بمعنى الرؤية وروي عن عائشة لما بلغها ان كعبا قال ان محمدا رأى ربه انكرت ذلك وقالت ثلاث من حدثك بهن فقد كذب من حدثك ان محمدا رأى ربه فقد اعظم الفرية على الله قال تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار قال وروي عن ابن عباس مثل ذلك

ثم قال في الجواب عن هذا لا نسلم ان ادراك البصر عبارة عن نفس الرؤية بيانه هو ان الادراك غير موضوع لحقيقة الرؤية اصلا لكنه مستعمل في رؤية الشيء المحدود بطريق المجاز ومتى كان كذلك لم يلزم من الآية هاهنا نفي الرؤية وانما قلنا ان الادراك غير موضوع للرؤية حقيقة لان لفظ الادراك حقيقة في غير الرؤية فوجب أن لا يكون حقيقة فثي الرؤية إنما قلنا أن الأدراك غير حقيقة في الرؤية لأنها حقيقة في اللحوق والبلوغ سواء كان في المكان كما في قوله تعالى قال اصحاب موسى انا لمدركون او في الزمان كما يقال ادرك قتادة الحسن او في صفة وحالة كما يقال ادرك الكلام وادركت الثمرة اذا نضجت وايضا فانه يقال ادركت ببصري حرارة الليل وان كانت الحرارة لا ترى فعلمنا ان الادراك حقيقة في غير الرؤية فوجب ان لا يكون حقيقة في الرؤية لئلا يؤدي الى الاشتراك الذي هو خلاف الأصل

وانما قلنا ان الادراك لا يستعمل مجازا الا في رؤية الشيء المتناهي لوجهين احدهما انا لما أبصرنا الشيء المتناهي فكان البصر على بعده من ذلك المرئي يتناوله ولم يتناوله غيره فجرى في ذلك مجرى من قطع المسافة الى شيء حتى بلغه ووصل اليه فلما توهم في هذا النوع من الابصار معنى اللحوق سمي ادراكا فأما ادراكنا للشيء الذي لا يكون في جهة اصلا فانه لا يتحقق فيه معنى البلوغ فلا جرم لا يسمى ادراكا الثاني ان الاسم انما يوضع لما يكون معلوما للواضع والعرب ما كانوا يتصورون الا رؤية الشيء المحدود اما عند الخصم فلأن الرؤية لا على هذا الوجه مستحيلة وأما عندنا فانه وان أمكن الا يكون كذلك لكنه ما كان معلوما للعرب ولا متصورا لهم واذا ثبت ذلك ثبت انهم لم يستعملوا الادراك الا لرؤية الشيء الذي في جهة فثبت بما ذكرناه ان الادراك لو افاد الرؤية لأفاد رؤية الشيء المتناهي وهذا هو المراد من قول قدماء الأصحاب الادراك هو الاحاطة بالمرئي

واذا ثبت ان الادراك لا يفيد الا رؤية مخصوصة لم يلزم من نفي الادراك نفي مطلق الرؤية لأنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم واما قوله العرب لا تفرق بين الرؤية وبين الادراك قلنا ان ادعيتم ذلك في مطلق الرؤية فهو ممنوع ودليله ما مضى وان ادعيتم ذلك في رؤية مخصوصة فهو مسلم ولا يضرنا قوله اهل اللسان فهموا من هذه الآية نفي الرؤية فدل على ان ادراك البصر هو الرؤية قلنا وقد نقل ايضا ان كثيرا من السلف فهموا الرؤية من قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة مع ان النظر عندكم ليس هو الرؤية وكذلك هاهنا

قلت فقد أخبر ان العرب ما كانوا يتصورون الا رؤية الشيء المحدود وان رؤية ما ليس في الجهة لم يكن معلوما لهم ولا متصورا لهم واذا كان كذلك وقد ثبت في النصوص المتواترة عن النبي انه قال انكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته وقال ايضا انكم سترون ربكم كما ترون الشمس صحوا ليس دونهما سحاب وكما ترون القمر صحوا ليس دونه سحاب وثبت اتفاق سلف الأمة على ان المؤمنين يرون الله يوم القيامة وقد اخبر ان العرب المخاطبين بهذا الكلام لم يكونوا يتصورون من ذلك الا رؤية ما كان في الجهة وان ما سوى ذلك لم يكن معلوما ولا متصورا لهم من لفظ الرؤية ومع هذا فالنبي واهل الاجماع من الصحابة والتابعين اخبروا والخلق بأنهم يروا ربهم ولم يقولوا برؤية في غير جهة ولا ما يؤدي هذا المعنى بل قال كما ترون الشمس والقمر فمثل رؤيته بالرؤية لما هو في جهة علم بالاضطرار ان الرؤية التي دل عليها نصوص الرسول واجماع السابقين هي الرؤية التي كان الناس يعرفونها وهي لما يكون في الجهة وهذا بين

وايضا فقد اخبر ان ما لا يكون في جهة لا تسمى رؤيته ادراكا وان لفظ الادراك اذا اريد به الرؤية فهي رؤية مخصوصة وهي رؤية المتناهي الذي يكون في جهة فأما الشيء الذي لا يكون في جهة فلا تسمى رؤيته ادراكا واذا كان كذلك فيكون قوله تعالى لا تدركه الأبصار اي متناهيا لا تحيط به ولا تدركه متناهيا محدودا وهذا الذي ذكره جيد وان كان لم يستوف حجته فان أئمة السلف بهذا فسروا الآية وما ذكرته المعتزلة عن ابن عباس انه تأول الآية على نفي الرؤية كذب على ابن عباس بل قد ثبت عنه بالتواتر انه كان يثبت رؤية الله وفسر قوله تعالى لا تدركه الأبصار بأنها لا تحيط وضرب المثل بالسماء فقال الست ترى السماء فقال بلى فقال أكلها ترى قال لا قال فالله اعظم

واذا كان كذلك فمعلوم ان الله نفى ادراك الأبصار له لم ينف ادراكه هو لنفسه ولم ينف مطلق الرؤية فلو كان هو في نفسه بحيث تمتنع رؤيته مطلقا ليس الممتنع الاحاطة دون الرؤية باحاطة لم ينف هذا الخاص وهو الادراك من الأبصار دون ادراكه هو ودون رؤية الأبصار لأن نفي العام يستلزم نفي الخاص ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام بل يقتضي جواز الخاص او ايهامه

لأن المدح بنفي الخاص مع كون العام منتفيا لا يحسن كما لا يحسن ان يقال لا يقدر بنو آدم على افناء جميعه اولا يقدرون على افناء ذاته وصفاته فان هذا غير مقدور لا لنبي آدم ولا لغيرهم بل هو ممتنع في نفسه وكذلك لا يقال الآدميون لا يقدرون على اعدامه او اماتته او على سلب قدرته وعلمه ونحو هذا لأن هذه الامور ممتنعة في نفسها لا يختص بنو آدم بنفي الاقتدار عليها بل تخصيصهم بذلك يوهم انه هو يقدر على ذلك وهذا كلام باطل فان هذا ليس بشيء اصلا حتى تكون رؤية الله عند النفاة هي من باب الممتنعات مثل عدمه وموته واحداثه ونحو ذلك ولو كان كذلك لم يحسن نفي هذا عن ابصار العباد فقط كما لا يحسن مدحه بأن العباد لا يعدمونه ولا يميتونه بل تخصيصهم بنفي ادراك ابصارهم له يقتضي انه هو يدرك نفسه

واذا كان كذلك ولفظ الادراك يقتضي الرؤية الخاصة لمن يكون في جهة علم ان الاية دلت على انه كذلك

واما ما ذكره عن فضلاء المعتزلة فانه اورد سؤال ابي الحسين البصري واتباعه وهو ان موسى عليه السلام يجوز ان لا يكون عالما باستحالة الرؤية وقال في الجواب قوله لم لا يجوز يقال ان موسى عليه السلام كان جاهلا باستحالة الرؤية قلنا لوجوه ثلاثة الأول الاجماع على ان علم الأنبياء بالله وصفاته اتم من علم غيرهم بذلك فلا يشك احد ان دعوى الاجماع في ذلك اظهر من دعوى اجماع الصحابة على العمل بالقياس واخبار الآحاد فاذا خصصنا هذه الأصول بالاجماع فلأن يتمسك بالاجماع هاهنا اولى

الثاني ان قبل ظهور ابي الحسين لم ينسب احد من الأئمة موسى عليه السلام الى الجهل بل الناس كانوا بين المعترف بصحة الرؤية وبين المنكر متأولين لهذه الرؤية اما على سؤال رؤية الآية او على انه عليه السلام سأل الرؤية لقومه واذا كان كذلك كان ابو الحسين مسبوقا بهذا الاجماع فيكون سؤاله مردودا الثالث هو ان ابا الحسين يدعي العلم الضروري بأن المرئي يجب ان يكون مقابلا للرائي او لآلة الرؤية والعلم الضروري حاصل بأن ما كان مقابلا للجسم فهو مختص بجهة وتحيز فهذان العلمان الضروريان ان كانا حاصلين لموسى عليه السلام فيلزم من اعتقاد صحة رؤية الله اعتقاده لكونه جسما متحيزا قال وذلك ما لا يجوز بالاتفاق على الأنبياء عليهم السلام لأن تجويزه يمنع من العلم بحكمته عند ابي الحسين واذا لم يحصل عنده العلمان الضروريان كان ذلك قادحا في كونه عليه السلام عاقلا وذلك لا يقوله عاقل فضلا عن المسلم

قلت فهذا الذي ذكره عن ابي الحسين واتباعه وهم فضلاء المعتزلة قد تضمن ان موسى عليه السلام سأل الله ان يراه بالبصر وهم يقولون يعلم العاقل بالضرورة ان المرئي لا يكون الا في جهة ويعلم العاقل بالضرورة انه لا يكون في الجهة الا الجسم المتحيز وذلك يقتضي ان موسى عندهم كان يعتقد ان الله في جهة وانه جسم

وأما قول هذا بالاتفاق لا يجوز اي بالاتفاق بينه وبين الشيخ ابي الحسين لكن هذا الاتفاق ليس بحجة بالاجماع

الوجه الثالث ان كون الرؤية مستلزمة لأن يكون الله بجهة من الرائي امر ثبت بالنصوص المتواترة ففي الصحيحين وغيرهما الحديث المشهور عن الزهري قال انا سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي ان ابا هريرة اخبرهما ان الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله : هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تمارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب قالوا لا يا رسول الله قال فانكم ترونه كذلك وذكر الحديث بطوله قال ابو سعيد اشهد لحفظته من رسول الله وهكذا هو في الصحيحين من حديث زيد بن اسلم عن عطاء بن يسار عن ابي سعيد قال قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا قال هل تضارون في رؤية الشمس اذا كان صحوا قلنا لا يا رسول الله قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر اذا كان صحوا قلنا لا قال فانكم لا تضارون في رؤية ربكم الا كما تضارون في رؤيتهما وساق الحديث بطوله وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن ابي صالح عن ابيه عن ابي هريرة قال قال ناس يا رسول الله انرى ربنا يوم القيامة قال فهل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب قالوا لا قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحاب قالوا لا قال والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤيته الا كما تضارون في رؤية احدهما وذكر الحديث بطوله

فهذا فيه مع اخباره انهم يرونه اخبارهم انهم يرونه في جهة منهم من وجوه احدها ان الرؤية في لغتهم لا تعرف الا لرؤية ما يكون بجهة منهم فأما رؤية ما ليس في الجهة فهذا لم يكونوا يتصورونه فضلا عن ان يكون اللفظ يدل عليه كما قد اعترف هو بذلك فيما تقدم وهو ايضا فانك لست تجد احدا من الناس يتصور وجود موجود في غير جهة فضلا عن ان يتصور انه يرى فضلا عن ان يكون اسم الرؤية المشهور في اللغات كلها يدل على هذه الرؤية الخاصة

الوجه الثاني انه قال فانكم ترون ربكم كما ترون الشمس صحوا وكما ترون القمر صحوا فشبه لهم رؤيته برؤية الشمس والقمر وليس ذلك تشبيها للمرئي بالمرئى ومن المعلوم انه اذا كانت رؤيته مثل رؤية الشمس والقمر وجب ان يرى في جهة من الرائي كما ان رؤية الشمس والقمر كذلك فانه لو لم يكن كذلك لأخبرهم برؤية مطلقة نتأولها على ما يتأول من يقول بالرؤية في غير جهة اما بعد ان يستفسرهم عن رؤية الشمس صحوا ورؤية البدر صحوا ويقول انكم ترون ربكم كذلك فهذا لا يمكن ان يتأول على الرؤية التي يزعمونها فان هذا اللفظ لا يحتملها لا حقيقة ولا مجازا

الوجه الثالث انه قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب وهل تضارون في القمر ليس دونه سحاب فشبه رؤيته برؤية اظهر المرئيات اذا لم يكن ثم حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه وبين المرئي ومن يقول انه يرى في غير جهة يمتنع عنده ان يكون بينه وبين العباد حجاب منفصل عنهم اذا الحجاب لا يكون الا لجسم ولما يكون في جهة وهم يقولون الحجاب عدم خلق الادراك في العين والنبي مثل رؤيته برؤية هذين النورين العظيمين اذا لم يكن دونهما حجاب

الوجه الرابع انه اخبر انهم لا يضارون في رؤيته وفي حديث آخر لا يضامون ونفي الضير والضيم انما يكون لا مكان لحوقه للرائي ومعلوم انما يسمونه رؤية وهو رؤية ما ليس بجهة من الرائي لا فوقه ولا شيء من جهاته لا يتصور فيها ضير ولا ضيم حتى ينفي ذلك بخلاف رؤية ما يواجه الرائي ويكون فوقه فانه قد يلحقه فيه ضيم وضير اما بالازدحام عليه او كلال البصر لخفائه كالهلال واما لجلائه كالشمس والقمر

ومثل هذا الحديث المشهور حديث قيس بن ابي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال كنا جلوسا عند النبي فنظر الى القمر ليلة البدر فقال انكم ترون ربكم عيانا كاترون هذا لا تضارون في رؤيته فان استطعتم ان لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وقرأ فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وهذا لفظ البخاري في بعض طرقه وفيه زيادة لفظ عيانا والا فبقية الفاظ الحديث مستفيضة في الصحيحين وغيرهما وفي الصحيحين من حديث يحيى بن سعيد ثنا سعيد بن ابي عروبة ثنا قتادة عن أنس عن النبي يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك فيقولون لو استشفعنا على ربنا فاراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فذكر الحديث الى ان قالوا ائتوا محمدا عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني حتى استأذن على ربي فيؤذن لي فاذا رأيت ربي وقعت او خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله ان يدعني ثم يقال لي ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فارفع رأسي فاحمده بتحميد يعلمنيه الله ثم اشفع فيحد لي حدا فادخلهم الجنة ثم اعود اليه الثانية فاذا رأيت ربي عز وجل وقعت او خررت ساجدا فيدعني ما شاء الله ان يدعني ثم يقال لي ارفع رأسك قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فارفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ثم اشفع فيحد لي حدا فادخلهم الجنة ثم اعود اليه الثالثة فاذا رأيت ربي وقعت او خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله ان يدعني فذكر الحديث

فكون الرائي وهو النبي يراه والرائي في مكان ولا يراه والرائي في مكان آخر ويعود الى ذلك المكان دليل على ان المرئي يرى والرائي في مكان ولا يرى اذا كان الرائي في مكان آخر وهذا الاختصاص لا يكون الا بما يكون بجهة من الرائي بخلاف ما يسمونه رؤية فانها من جنس العلم لا اختصاص لها بكون الرائي في مكان دون مكان

وايضا ففي الصحيحين عن ابي عمران الجوني عن ابي بكر بن عبد الله ابن قيس وهو ابن ابي موسى الأشعري عن ابيه ان رسول الله قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين ان ينظروا الى ربهم الا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن فأخبر انه لا يمنعهم من النظر الا ما على وجهه من رداء الكبرياء ومن يقول انه يرى لا في جهة عنده ليس المانع الا كون الرؤية لم تخلق في عينه لا يتصور عنده ان يحجب الرائي شيء منفصل عنه أصلا سواء فسر رداء الكبرياء بصفة من صفات الرب او بحجاب منفصل عن الرب فعلى التقديرين لا يتصور عند هؤلاء من ذلك مانعا من الرؤية ولا يمنع من رؤية الله عندهم الا ما يكون في نفس الرائي وكذلك قوله في جنة عدن سواء كانت ظرفا له او للرداء فعلى التقديرين يخالف مذهب هؤلاء

وأيضا ففي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن ابي ليلى عن صهيب قال قال رسول الله اذا دخل اهل الجنة الجنة نودوا يا أهل الجنة ان لكم عند الله موعدا يريد ان ينجزكموه قال فيقولون ما هو الم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة قال فيكشف الحجاب فينظرون اليه فوالله ما اعطاهم الله شيئا هو احب اليهم مما هم فيه ثم قرأ للذين احسنوا الحسنى وزيادة فأخبر انه يكشف الحجاب فينظرون اليه ومن يقول يرى لافي جهة لا يقول ان بينه وبين الخلق حجابا ولا يتصور ان يحتجب عن الخلق ولا ان يكشف الحجاب وقد صرحوا بذلك كله قالوا لان ذلك كله من صفة الجسم المتحيز فاذا كان النبي قد أخبر بذلك علم انه يرى في الجهة وليست الرؤية التي أخبر بها ما يزعمونه من الأمر الذي لا يعقل الذي ينافقون فيه أهل الايمان

وعن شعبة عن يعلي بن عطاء عن وكيع بن عدس عن ابي رزين قالت قلت يا رسول الله اترى ربنا يوم القيامة قال نعم قال وما آية ذلك في خلقه قال اليس كلكم ينظر الى القمر ليلة البدر وانما هو خلق من خلق الله الله اعظم واجل وفي رواية حماد بن سلمة عن يعلي بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه ابي رزين قال قلت يا رسول الله كلنا نرى الله يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا ابا رزين اليس كلكم يرى القمر مخليا قلت بلى قال والله اعظم وذلك آيته في خلقه رواه احمد وابو داود وابن ماجه ولفظ ابي داود قلت يا رسول الله اكلنا يرى ربه وفي رواية له مخليا به يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا ابا رزين اليس كلكم يرى القمر وفي رواية له ليلة البدر مخليا به قلت بلى قال والله اعظم

قال الخلال سمعت ابا سعيد المصيصي الفقيه قال قال ابو صفوان رأيت المتوكل في النوم وبين يديه ناز مؤججة عظيمة فقلت يا امير المؤمنين لمن هذه النار فقال هذه لا بني المنتصر لأنه قتلني وتدري لم قتلني لأني حدثته ان الله يرى في الآخرة قال ابو سعيد وقال ابراهيم الحربي هذه رؤيا حق وذلك ان المتوكل كتب حديث حماد بن سلمة عن يعلي بن عطاء عن وكيع بن عدس بيده عن عبد الأعلى وقال لا اكتبه الا بيدي فقد اخبر النبي ان الله يرى يوم القيامة لما سأله وسأله عن آية ذلك في خلقه والآية العلامة والدلالة وهو ما يعلم به ويدل على جواز ذلك فذكر له النبي ما يدل بطريق قياس التنبيه والأولى وقد قدمنا غير مرة ان مثل هذا القياس في قياس الغائب على الشاهد هو مما ورد في الكتاب والسنة فقال اليس كلكم يرى القمر مخليا به ليلة البدر قال فالله اعظم وأجل وقال انما هو خلق من خلق الله وذلك آيته في خلقه واثباته جواز الرؤية لجميع الخلق في وقت واحد وكل منهم يكون مخليا به بالقياس على رؤية القمر مع قوله والله اعظم واجل دليل واضح على ان الناس يرونه مواجهة عيانا يكون بجهة منهم واذا امكن في بعض مخلوقاته انه يراه الناس في وقت واحد كلهم يكون مخليا به فالله اولى ان يمكن ذلك فيه فانه اعظم واجل

الوجه الرابع ان كون الله يرى بجهة من الرائي ثبت باجماع السلف والأئمة مثل ما روي اللآلكائي عن علي بن ابي طالب انه قال ان من تمام النعمة دخول الجنة والنظر الى الله في جنته وعن عبد الله بن مسعود انه قال في مسجد الكوفة وبدأ باليمين قبل الحديث فقال والله ما منكم من انسان الا ان ربه سيخلو به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر قال فيقول ما غرك بي يا ابن آدم ثلاث مرات ما ماذا أجبت المرسلين ثلاثا كيف عملت فيما عملت وعن ابي موسى الأشعري انه كان يعلم الناس سنتهم ودينهم قال فشخصت ابصارهم او قال حرفوها عنه قال فما حرف ابصاركم عني قالوا الهلال ايها الامير قال فذاك اشخص ابصاركم عني قالوا نعم قال فكيف اذا رأيتم الله جهرة وعن معاذ بن جبل قال يحبس الناس يوم القيامة في صعيد واحد فينادي اين المتقون فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر قلت من المتقون قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان واخلصوا لله العبادة فيمرون الى الجنة

وروي اللآلكائي عن ابن وهب قال سمعت مالك بن انس يقول الناظرون ينظرون الى الله عز وجل يوم القيامة باعينهم وعن اشهب قال وسئل مالك عن قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة اينظر الله عز وجل قال نعم فقلت ان أقواما يقولون ينظر ما عنده قال بل ينظر اليه نظرا وقد قال موسى رب ارني انظر اليك قال لن تراني وقال الله كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وعن مالك انه قيل له انهم يزعمون ان الله لا يرى فقال السيف السيف

وقد تقدم كلام ابن الماجشون واحتجابه ايضا على الرؤية بحجابه عن الكفار وعن الأوزاعي انه قال اني لأرجو ان يحجب الله جهما واصحابه افضل ثوابه الذي وعده اولياءه حيث يقول وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة فجحد جهم واصحابه افضل ثوابه الذي وعد اولياءه وعن ابي الوليد مسلم قال سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن انس والليث بن سعد عن هذه الاحاديث التي فيها الرؤية فقال امروها بلا كيف وعن الربيع قال حضرت الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها ما تقول في قول الله كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون قال الشافعي فلما ان حجب هؤلاء السخط كان هذا دليلا عن أنهم يرونه في الرضى قال الربيع قلت يا ابا عبد الله وبه تقول قال نعم وبه ادين الله لو لم يؤمن محمد بن ادريس انه يرى الله لما عبد الله وعن عبد الله بن المبارك قال ما حجب الله عنه احدا الا عذبه ثم قرأ كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم انهم لصال الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون قال بالرؤية

وقال الشيخ ابو نصر السجزي في كتاب الابانة له وأئمتنا رحمهم الله كسفيان الثوري ومالك بن انس وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض واحمد بن حنبل

وفضيل بن عياض واحمد بن حنبل واسحاق بن ابراهيم الحنظلي متفقون على ان الله سبحانه وتعالى بذاته فوق عرشه وان علمه في كل مكان وانه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وانه ينزل الى سماء الدنيا وانه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه برآء

وروى الخلال في كتاب السنة قال حدثنا ابو بكر المروذي قال سألت ابا عبد الله عن احاديث الرؤية فصححها وقال قد تلقتها العلماء بالقبول لنسلم الخبر كما جاء وعن حنبل بن اسحاق قال سمعت ابا عبد الله يقول ادركنا الناس وما ينكرون من هذه الاحاديث شيئا احاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين وقال حنبل قال ابو عبد الله قال الله تعالى وما كان لبشر ان يكلمه الله إلا وحيا او من وراء حجاب او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء فكلم الله موسى من وراء حجاب وقال رب ارني انظر اليك قال الله تعالى لن تراني ولكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فأخبر الله تعالى ان موسى عليه السلام يراه في الآخرة وقال عز وجل كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ولا يكون حجاب الا لرؤية فأخبر الله ان من شاء الله ومن اراد يراه والكفار لا يرونه وقال حنبل في موضع اخر القوم يرجعون الى التعطيل في قولهم ينكرون الرؤية

قال وسمعت أبا عبد الله يقول قال الله عز وجل وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة قال احاديث تروى في النظر حديث جرير بن عبد الله وغيره تنظرون الى ربكم احاديث صحاح وقال للذين احسنوا الحسنى وزيادة وهي النظر الى الله عز وجل ثم قال ابو عبد الله نؤمن بها ونعلم انها حق يعني احاديث الرؤية ونؤمن ان الله يرى يرى ربنا يوم القيامة لا نشك فيه ولا نرتاب وسمعت ابا عبد الله يقول قالت الجهمية ان الله لا يرى في الآخرة ونحن نقول ان الله يرى لقوله عز وجل وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة وقال الله تبارك وتعالى لموسى فان استقر مكانه فسوف تراني فاخبر الله انه يرى وقال النبي انكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر وهذه الشمس رواه جرير وغيره عن النبي وقال كلكم يخلو به ربه وان الله يضع كنفه على عبده فيسأله ما عملت هذه الأحاديث تروى عن رسول الله تروى صحيحة وعن الله تبارك وتعالى انه يرى في الآخرة وهذه احاديث عن رسول الله غير مدفوعة والقرآن شاهد ان الله يرى في القيامة وقول ابراهيم لأبيه يا ابت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فثبت ان الله يسمع ويبصر وقال الله تعالى يعلم السر واخفى وقال انني معكما اسمع وأرى وقال ابو عبد الله فمن دفع كتاب الله ورده والأخبار عن رسول الله واخترع مقالة من نفسه وتأول برأيه فقد خسر خسرانا مبينا وسمعت ابا عبد الله يقول من زعم ان الله لا يرى في الآخرة فقد كفر بالله وكذب بالقرآن ورد على الله امره فيستتاب فان تاب والا قتل

الوجه الخامس ان أئمة هذا الرازي كالأشعري وغيره هو ايضا ممن يثبت الرؤية والاحتجاب ان الله فوق العرش قال الأشعري في مسألة العرش فقال سبحانه وجاء ربك والملك صفا صفا وقال عز وجل هل ينظرون الا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام وقال سبحانه ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين او أدنى فأوحى الى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى افتمارونه على ما يرى الى قوله لقد رأى من آيات ربه الكبرى وقال تعالى يا عيسى اني متوفيك ورافعك الي وقال سبحانه وما قتلوه وما صلبوه وما قتلوه يقينا بل رفعه الله اليه وأجمعت الأمة على ان الله عز وجل رفع عيسى اليه الى السماء ومن دعاء المسلمين جميعا اذا هم رغبوا الى الله عز وجل في الأمر النازل بهم انهم يقولون يا ساكن العرش ومن حلفهم لا والذي احتجب بسبع سموات قال الحافظ ابو العباس وهذا مأخوذ من قوله ان الله خلق سبع سماوات ثم اختار العليا فسكنها

وقال عز وجل وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم كان أبعد من الشبهة وادخال الشك على من يسمع الآية ان يقول ما كان لأخذ ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب او يرسل رسولا فيرتفع الشك والحيرة من ان يقول ما كان لجنس من الأجناس ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب او يرسل رسولا ونزل اجناسا لم يعمهم بالآية فدل ما ذكرناه على انه خص البشر دون غيرهم

وقال الله عز وجل ثم ردوا الى الله مولاهم الحق ولو ترى اذ وقفوا على ربهم ولو ترى اذ المجرمون ناكسو رؤسهم عند ربهم وقال سبحانه وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم اول مرة قال كل ذلك يدل على ان الله ليس في خلقه ولا خلقه فيه وان سبحانه مستو على عرشه جل وعز عمال يقول الظالمون علوا كبيرا جل وعز عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا اوجبوا له بذكرهم اياه وحدانية اذ كان كلامهم يؤول الى التعطيل وجميع اوصافهم تدل على النفي في التأويل يريدون زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل

قال الله تعالى الله نور السماوات والأرض مثل نوره فسمي نورا والنور عند الأمة لا يخلو من احد معنيين اما أن يكون نورا يسمع او نورا يرى فمن زعم ان الله يسمع ولا يرى كان مخطئا في نفيه رؤية ربه وتكذيبه لكتابه وقول نبيه قال وروي عن عبد الله بن عباس انه قال تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فان مابين كرسيه الى السماء ألف عام والله عز وجل فوق ذلك

قال وروت العلماء ايضا عن النبي انه قال ان العبد لا تزول قدماه من بين يدي الله حتى يسأله عن ثلاث وروت العلماء ان رجلا اتى النبي بأمة سوداء فقال يا رسول الله اني اريد ان اعتقها في كفارة فهل يجوز عتقها فقال النبي اين الله فقالت في السماء واومئت بيدها الى فوق فقال النبي عند 1 ذلك اعتقها فانها مؤمنه قال وهذا يدل على ان الله على عرشه فوق السماء

فهذا كله من كلام الأشعري مثل احتجاجه بما ذكره عن المسلمين جميعا من قولهم ان الله احتجب بسبع سموات على انه فوق العرش وهو انما احتجب عن ان يراه خلقه لم يحتجب عن ان يراهم هو فعلم ان هذا يحجب العباد عن رؤيته وهذا يقتضي انهم يرونه برفع هذه الحجب وذلك يقتضي انهم يرونه في الجهة فان من يثبت رؤيته في غير جهة من الرائي لا يقول بجواز الحجب المنفصلة ايضا كما تقدم وكذلك احتجاجه بقوله ما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب وان الآية دلت على ان الله يحجب بعض المخلوقات دون بعض فعلم انه لا يحتجب عن بعضهم واحتجابه بذلك على ان الله فوق العرش يقتضي ان يحتجب عمن يراه ببعض مخلوقاته وهذا يستلزم انه لا يرى الا في جهة من الرائي وكذلك احتجاجه في مسألة العلو بأن الله نور وان ذلك يقتضي انه يرى ويقتضي ان رؤيته توجب علوه وكلام الأشعري في مسألة الرؤية والعلو يقتضي تلازمهما وهذا هو الذي ذكره هذا المؤسس عن الكرامية

الوجه السادس ان هذا المؤسس ذكر في نهايته في مسألة الرؤية ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية وذكر ان اعظم حججهم العقلية حجتان احداهما حجة الموانع قالوا لو صح منا رؤية الله في حال من الحالات لصح ان نراه الآن ولو صح ان نراه الآن لوجب ان نراه الآن لكنه لم يجب ان نراه الآن فلا يصح ان نراه في حال من الأحوال وانما قلنا انه لوصح ان نراه في حال من الأحوال لصح ان نراه الآن لأن كونه بحال يصح ان يرى حكم يثبت له اما لذاته واما لبعض ما يلزم ذاته وعلى التقديرين فانه يلزم من استمرار ذاته استمرار هذه الصحة وإنما قلنا انه لو صح ان نراه الآن لوجب ان نراه الآن لأن الحاسة ان كانت صحيحة والمرئي يكون حاضرا ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون في غاية الصغر واللطافة ويكون مقابلا للرائي او لآلة الرؤية او لا تكون الحجب حائلة فانه يجب حصول الرؤية اذ لو لم يجب حصولها عند حصول هذه الأمور لجاز ان يكون بين ايدينا جبال شاهقة ونحن لا ندركها وذلك محال على ما سبق بيانه في مسألة الادراك فاذا ثبت ذلك فهذه شرائط لا يمكن اعتبارها في حق الله تعالى لأنها لا تعقل الا في حق الأجسام او ما يقوم بها واذا لم يمكن اعتبار هذه الشرائط في حق الله لرؤيته وجب ان يكون مجرد سلامة الحس وكونه تعالى بحيث يصح رؤيته كافيا في حصول رؤيته فلزم ان تدوم رؤية اصحاب الحواس لله تعالى وذلك باطل بالضرورة فثبت ان القول بأن الله تعالى يصح ان يرى يفضي الى الباطل وما يفضي الى الباطل يكون باطلا

ثم قال في الجواب عما تمسكوا به اولا ان نقول ان مدار هذه الشبهة على ان هذه الحاسة متى كانت سليمة وكان المرئي حاضرا والشرائط تكون حاصلة فانه يجب حصول هذه الرؤية قال ونحن قد بينا فيما مضى ان ذلك غير واجب بأدلة عقلية قاطعة لا يرتاب العاقل فيها وأجبنا عن شكوكهم بأجوبة يقينية لا حاجة بنا الى اعادتها فاذا كان كذلك سقطت هذه الشبهة

وهذا الذي أحال عليه قد ذكره في مسألة السمع والبصر وهي مسألة الادراك فذكر الفصل الاول في حقيقته ثم قال الفصل الثاني في كيفية حصول هذه المدركية زعمت المعتزلة انه مهما كانت الحاسة سليمة والمرئي حاضرا ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيرا جدا ولا لطيفا ولا يكون بين الرائي والمرئي حجب كثيفة وكان المرئي مقابلا للرائي او في حكم المقابلة فعند اجتماع هذه الشرائط يجب حصول الادراك وعندنا ان ذلك غير واجب وهو مذهب ابي الهذيل من المعتزلة ثم ذكر لهم حجتين

ثم قال واما المحالفون فلهم في هذه المسألة مقامان تارة بدعوى الضرورة وتارة بدعوى الاستدلال اما الأول فتارة يدعون ان ذلك العلم الضروري حاصل للعقلاء بعد الاختبار ولا حاجة فيه الى ضرب الأمثال وتارة يثبتون بالاستدلال ان ذلك معلوم بالضرورة وبسط كلامهم في ذلك

ثم قال والجواب ان نقول اما ان تدعي الضروري بخصوص الادراك عند حضور هذه الامور او بعدمه عند عدمها والأول لا نزاع فيه والثاني فيه كل النزاع فان زعمت انا مكابرون في هذا الانكار حلفنا بالأيمان المغلظة انا لما رجعنا الى أنفسنا لم نجد العلم بذلك اكثر من العلم باستمرار الأمور العادية التي توافقنا على جواز تغييرها عن مجاريها

فهذا الجواب الذي ذكره يقتضي انه وافق على ان العلم الضروري حاصل بوجود الرؤية عند وجود هذه الشرائط وهذا هو اول المسألة فانه حكى عن المعتزلة انه متى تجتمع هذه الشرائط يجب حصول الادراك قال وعندنا أن ذلك غير واجب فأذا سلم أن العلم الضروري بحصول الأدراك عند حصول هذه الأمور لا نزاع فيه كان قد وافق على ما ذكر فيه النزاع واذا كان كذلك ظهر ان ما ذكره من الجواب في مسألة الرؤية وهو قوله ان مدار هذه الشبهة على ان هذه الحاسة متى كانت سليمة وكان المرئي حاضرا فانه يجب حصول هذه الرؤية قال ونحن قد بينا فيما مضى ان ذلك غير واجب وكلامه فيما مضى قد وافق فيه على وجوب الرؤية عند وجود الشروط لكن لم يوافق على وجوب عدمها عند عدم الشروط واذا لم يذكر جوابا عن حجتهم الا هذا وهذا ليس بجواب صحيح بقيت حجتهم على حالها واذا كان كذلك لم يصح نفيه لما اتفقت عليه المعتزلة والكرامية

الوجه السابع انه ذكر الحجة الثانية لنفاة الرؤية وهي حجة المقابلة فقال وهي ان الواحد منا لا يرى الا ما يكون مقابلا للرائي او لآلة المرئي

والله تعالى يستحيل ان يكون كذلك فيستحيل ان يكون مرئيا لنا واحترزنا بقولنا او لآلة الرائي عن رؤية الانسان وجهه في المرآه اما المقدمة الاولى فهي من العلوم الضرورية الحاصلة بالتجربة واما المقدمة الثاني فمتفق عليها ثم قال في الجواب عما تمسكوا به ثانيا من وجوه ثلاثة الأول ما بينا فيما مضى ان المقابلة ليست شرطا لرؤيتنا هذه الأشياء وأبطلنا ما ذكروه من دعوى الضرورة والاستدلال في هذا المقام والثاني سلمنا ان المقابلة شرط في صحة رؤيتنا لهذه الأشياء فلم قلتم انها تكون شرطا في صحة رؤية الله تعالى فان رؤية الله تعالى بتقدير ثبوتها مخالفة لرؤية هذه الأشياء فلا يلزم من اشتراط نوع من جنس اشتراط نوع آخر من ذلك الجنس بذلك الشرط الثالث سلمنا انه يستحيل كوننا رائين لله تعالى ولكنه لا يدل على انه لا يرى نفسه وانه في ذاته ليس بمرئي فأحال على ما تقدم وهو لم يذكر هناك الا مسلكين الأول انا نرى الجسم الكبير من البعد صغيرا وذلك يقتضي انا نرى بعضه دون بعض ومن المعلوم بالضرورة ان الشرائط المذكورة كما انها حاصلة بالنسبة الى الأجزاء التي هي مرئية فكذلك هي حاصلة بالنسبة الى الأجزاء التي هي غير مرئية ولما كان المرئي من الأشياء المجتمعة لهذه الشروط بعض الأجزاء دون بعض علمنا ان حصول الرؤية عند اجتماع الشرائط غير واجب والمسلك الثاني لو وجب حصول الادراك عند حصول هذه الشروط لوجب رؤية الجوهر الفرد وذوات الهباء لكن الثاني ظاهر الفساد فالمقدم مثله بيان الأول انا اذا رأينا جسما كبيرا فلا بد وأن نرى جزءا صغيرا اذ لو لم نرى جزءا صغيرا لم نرى مجموع تلك الأجزاء ثم رؤية الجزء لا تتوقف على رؤية غيره لئلا يلزم الدور فيجب ان تصح رؤيتنا للجوهر الفرد

فهاتان الحجتان ان كانتا باطلتين فلا كلام وان كانتا صحيحتين فهما يدلان على ان الرؤية لا تجب عند وجود الشروط الثمانية وهو قد سلم في الجواب وجوب الرؤية عند وجود الشروط فلا تدل هاتان الحجتان على ان الرؤية لا تمتنع عند عدم بعض الشروط الثمانية واذا لم يذكر دليلا على عدم هذا الاشتراط اصلا بقي ما ذكره منازعوه من العلم الضروري والاستدلال بأن المرئي لا بد ان يكون مقابلا للرائي او لآلة الرائي سليما عن المعارض فيجب القول بموجبه وهذا بين واضح

ولهذا لما كانت مناظرته لنفاة الرؤية هذه المناظرة الضعيفة كان كلامهم فيها ارجح من كلامه وهذه عادته يعجز عن مناظرة أهل الباطل ويأخذ ما يحتجون به فيحتج به على اهل الحق فلا ينصف اهل الحق ولا ينفعهم ولا يرد اهل الباطل ويدفعهم وانما فيه جدال وحجاج لبس فيه الحق بالباطل مع هؤلاء وهؤلاء واذا كان الامر كذلك لم يمكن له الجواب عما اتفقت عليه المعتزلة والكرامية كما تقدم

الوجه الثامن ان يقال ما ذكره المعتزلة في شروط الرؤية وموانعها بعضه حق وبعضه باطل وهؤلاء الذين وافقوهم على نفي العلو واثبات الرؤية يكابرونهم في الحق كما يدفعون باطلهم ولهذا كان كلا الطائفتين تقول الحق والباطل واذا كان مثبتة الرؤية مع نفي العلو اقرب الى الحق من نفاة الرؤية ونفاة العلو وذلك ان كونهم لم يشترطوا في الحاسة الا مجرد سلامتها ليس بسديد فان الحواس تختلف بالقوة والضعف فقد يكون بصر احد من بصر وسمع اقوى من سمع وشم اقوى من شم وذوق اقوى من ذوق وهذا موجود في البهائم وفي الآدميين ولهذا يرى احدهم من الأشياء الدقيقة اللطيفة مالا يراه الآخر ويرى من الأمور البعيدة مالا يراه الآخر ويرى من النور والشعاع والبياض مالا يراه الآخر وكذلك قد يسمع الأصوات البعيدة والأصوات القريبة مالا يمكن الأخر ان يسمعه واذا كان الأمر كذلك فقوة ادراك العباد وحركاتهم في الآخرة يجعلها الله اعظم من قوى ادراكهم وحركاتهم في الدنيا وهذا ظاهر بين

وقولهم لا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيرا لطيفا هذا انما اشترط لعجز البصر عن ادراك ما يكون كذلك لا لأن ذلك ممتنع في نفسه والا فيمكن ان يقوى بصر العبد حتى يرى القريب والبعيد واللطيف وليس هذا ممتنعا في ذاته يبين ذلك ان القرب والبعد والصغر والكبر من الأمور الاضافية قد يكون صغيرا بالنسبة الى بصر هذا الرائي ما ليس بصغير بالنسبة الى بصر غيره وكذلك في القرب والبعد وكذلك قولهم ان لا يكون بين الرائي والمرئي حجب كثيفة فان رؤية ما وراء الحجاب ليس بممتنع في نفسه بل لعجز البصر عنه فان الله يرى كل شيء ولا تحجبه السموات والأرض وسائر الحجب

وكذلك قولهم ان يكون مقابلا للرائي فقد ثبت في الصحيح عن النبي انه قال لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود فاني اراكم من خلفي كما اراكم من بين يدي لكن هذا يدل على انه لا يشترط في الرؤية ان يكون المرئي امامه لكن لا يدل على انه لا يشترط ان يكون بجهة منه فانما خلفه بجهة منه

الوجه الثامن انه قال هنا ان اصحابه نازعوا في هذه المقدمة وقالوا لا نسلم ان كل مرئي فانه يختص بالجهة بل لا نزاع ان الأمر في الشاهد كذلك فلم قلتم ان كل ما كان كذلك في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك

وهذا تسليم لكون الواحد منا لا يرىئ الا ما يكون في الجهة فمنازعته لذلك في هذا الكتاب ودعواه ان ذلك ليس بشرط في رؤية الأشياء المرئية مخالف لما ذكره من تسليم اصحابه وذلك خلاف ما ذكره من انه لا يشترط شيء من هذه الشروط في رؤية الأشياء المرئية

الوجه التاسع ان قوله لم قلتم ان كل ما كان كذلك في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك وتقريره ان هذه المقدمة اما ان تكون مقدمة بديهية او استدلالية يقال له المنازع يقول انها بديهية

قوله فان كانت بديهية لم يكن في اثبات كونه تعالى مختصا بالجهة حاجة الى هذا الدليل وذلك لأنه قد ثبت في الشاهد ان كل قائم بالنفس فهو مختص بالجهة وثبت ان الباري قائم بالنفس فوجب القطع بأنه مختص بالجهة لأن العلم الضروري بأن كل ما يثبت في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك يقال له ان المنازع لا يقرر الحجة على هذا الوجه ولا يدعي ان كل ما يثبت في الشاهد فانه يجب ان يكون في الغائب كذلك وهذا لا يقوله عاقل والفرق ظاهر بين دعوى الضرورة والبديهة في الشيء المعين الخاص والشيء العام الكلي فاذا قال القائل العلم الضروري بأن كل مرئي في الشاهد والغائب لا بد أن يكون بجهة من الرائي والعلم الضروري حاصل بأن الغائب كالشاهد في هذا الأمر الخاص لم يستلزم هذا ان يقول ان العلم الضوري حاصل بأن كلما يثبت في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك والمقدمة المذكورة هي قوله كل مرئي فلا بد وان يكون في الجهة وهذا قالوه قولا عاما مطلقا لم يثبتوه بقياس الغائب على الشاهد حتى يصوغوه الصوغ الذي ذكره ويدخل فيه تلك القضية العامة الكاذبة

الوجه العاشر ان ما ذكره ان كان حجة كان حجة ثانية على المطلوب فانه من الممكن ان يستدل بكونه قائما بالنفس على كونه مختصا بالجهة ويحتج بكونه مرئيا على كونه مختصا بالجهة ويحتج بكونه موجودا على انه اما ان يكون مباينا لغيره او محايثا له وتعدد الأدلة على المطلوب الواحد ليس بممتنع

الوجه الحادي عشر ان ما ذكره من الحجة قد يقال فيه نحن نعلم بالاضطرار ان كلما يقوم بنفسه فانه لا بد ان يكون مختصا بجهة بحيث يمتنع ان يكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا يختص الكلام بالشاهد ثم يقاس عليه الغائب بل العلم الضروري حاصل بذلك مطلقا كما تقدم ذكره

الوجه الثاني عشر ان ذلك اذا قررناه بالدليل قرر تقريرا يفيد بأن يقال ثبت في الشاهد ان كل قائم بالنفس فهو مختص بالجهة وهذا مما فارق به الموجود المعدوم فالموجب لذلك اما كونه موجودا قائما بنفسه او ما يندرج فيه الموجود الواجب لنفسه او ما يختص بالممكن او المحدث ويساق الكلام الى اخره كما ذكر في حجة المباينة والمحايثة لا يقول عاقل ان العلم الضروري حاصل بأن كلما ثبت في الشاهد وجب ان يكون في الغائب كذلك ولكن ذكر الحجة على هذا الوجه القبيح الذي يظهر بطلانه لما في ذلك من التنفير والتقبيح لقول منازعيه وهذه ليست حال أهل العلم والعدل بل حال الجاهل او الظالم

الوجه الثالث عشر قوله فاذا كان هذا الوجه حاصلا في اثبات كونه تعالى في الجهة كان اثبات كونه في الجهة بكونه مرئيا ثم اثبات ان كل ما كان مرئيا فهو مختص بالجهة تطويلا من غير فائدة ومن غير مزيد شرح وبيان يقال لو قدر انما ذكرته من حجة القيام بالنفس صحيح لم يكن اثبات الجهة بطريق الرؤية تطويلا من غير فائدة بل هو اثبات لها بطريق آخر غير

الأولى فان الاستدلال على كون الشيء في الجهة بكونه قائما بنفسه غير الاستدلال على ذلك بكونه مرئيا مشهودا واذا كان هذان دليلان متغايران لم يجز ان يكون ذكر احدهما متضمنا للآخر ولا ان يكون ذكر الآخر تطويلا اقصى ما يقال ان العلم بالمقدمتين التي في الدليلين يستفاد من وجه واحد وهو الضرورة او قياس الغائب على الشاهد اما مطلقا كما ذكره او قياسا صحيحا ملخصا بالتقسيم الحاصر الجامع بين النفي والاثبات او بغيره كما يسلكه اهل الاثبات واذا كان الدليل على مقدمة في دليل كالدليل على مقدمة في دليل آخر لم يوجب ان يكون احد الدليلين متضمنا للآخر ويكون ذكر الآخر تطويلا بلا فائدة

الوجه الرابع عشر قوله وأما ان قلنا كل مرئي فهو مختص بالجهة ليست مقدمة بديهية بل هي مقدمة استدلالية فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليلا لا تصير هذه المقدمة يقينية فهذا كلام صحيح لكن كان ينبغي له اذا كان ذاكرا لحجج منازعيه ان يذكر ما يستدل به الناس على ذلك فتركه لذلك تقصير وخيانة في المناظرة ونحن لم نلتزم الكلام في تقرير هذه المسائل ابتداءا وانما تكلمنا على ما ذكره من حججه وحجج منازعيه

الوجه الخامس عشر قوله وأيضا فكما انا لا نعقل مرئيا في الشاهد الا اذا كان مقابلا أوفى الحكم المقابل للرأي فكذلك لا نعقل مرئيا إلا إذا كان صغيرا أو كبيرا او ممتدا في الجهات مؤتلفا من الأجزاء وهم يقولون انه تعالى يرى لا صغيرا ولا كبيرا ولا ممتدا في الجهات والجوانب والأحياز فاذا جاز لكم ان تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب فلم لا يجوز ان يقال ان المرئي في الشاهد وان وجب كونه مقابلا الا ان المرئي في الغائب لا يجوز ان يكون كذلك

فيقال له هذا الزام جدلي وليس بحجة في المناظرة ولا النظر كما تقدم فانه يقال لا بد وأن يكون في الجهة ما ذكرته في صورة الالزام ان كانت مساوية لصورة النزاع فما ذكروه في صورة النزاع حجة في موضعين وغايته ان يكونوا اخطؤا في صورة الالزام وهي صورة النقض والمعارضة وان لم تكن مساوية لها لم يكن النقض والمعارضة والالزام صحيحا ويقول لك المناظر الفرق بين صورة النقض وصورة النزاع كيت وكيت فان صح الفرق بطل النقض وان بطل الفرق منعت الحكم في صورة النقض اذ ليس مجمعا عليه بين الأمة

الوجه السادس عشر انهم يقولون نقول انه لا يرى الا كبيرا عظيما لا نقول انه يرى لا صغيرا ولا كبيرا بل نقول انه يرى عظيما كبيرا جليلا كما سمي ووصف نفسه بذلك في الكتاب والسنة ومن لم يقل ذلك من المنازعين كان ما ذكره حجة عليه واما قوله ممتدا في الجهات مؤتلفا من الأجزاء فلا نسلم انا لا نعقل مرئيا في الشاهد الا مؤتلفا من الاجزاء فان المرئيات مثل الشمس والقمر ونحو ذلك هو شيء واحد لا نعلم لا بحس ولا ضرورة انها مركبة من الأجزاء المفردة وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس ان هذا التركيب ليس معلوما بالحس ولا بالضرورة بل هي من ادق مسائل النزاع بين الخلق

الوجه السابع عشر ان يقال ما تريد بقولك ممتد مؤتلف اتريد انه مركب من الأجزاء وانه يجوز تفريقه فليس كلما نشاهده كذلك ام تريد به ان منه شيئا ليس هو الشيء الآخر فنحن نقول كل ما يرى في الشاهد والغائب لا بد وان يكون كذلك

الوجه الثامن عشر ان يقال لا يعقل مرئي الا موصوف بما هو المرئي المشهود موصوف به من صفات الموجود التي استحق بها جواز رؤيته او ما هو بأبلغ في الوجود واستحقاق الرؤية منه فاذا كنا نرى الموجود الذي يجوز عدمه فما لا يجوز عدمه اولى فاذا كنا نرى ما هو في جهة وهو مجتمع يجوز تفريقه وتقسيمه فالمجتمع الذي لا يجوز تفريقه وتقسيمه اولى بالرؤية لكن لا يمكن ان نقول اذا رأينا ما هو بجهة مرئيا ان يكون ما ليس في الجهة اولى بالرؤية واذا رأينا ما هو مجتمع فما ليس بمجتمع ولا متفرق اولى بالرؤية وقد ذكرنا غير مرة ان الأقيسة والأمثال المضروبة في باب الالهيات اذا كانت من باب التنبيه والأولى في النفي والاثبات فهي من جنس ما ورد به الكتاب والسنة

فصل

ثم قال الرازي الشبهة الرابعة تمسكوا برفع الأيدي الى السماء قالوا وهذا شيء يفعله جميع ارباب النحل فدل على انه تقرر في عقول جميع الخلق ان الههم فوق

ثم قال في الجواب ان هذا معارض بما تقرر في عقول جميع الخلق انهم عند تعظيم خالق العالم يضعون جباههم على الأرض ولما لم يدل هذا على كون خالق العالم في الأرض لم يدل على ما ذكروه على انه في السماء وأيضا فالخلق انما يقدمون على رفع الأيدي الى السماء لوجوه اخرى وراء اعتقادهم ان خالق العالم في السماء

فالأول ان اعظم الأشياء نفعا للخلق ظهور الأنوار وأنها انما تظهر من جانب السموات

والثاني ان مبنى حياة الخلق على استنشاق النفس وليس ذلك الاستنشاق الا من الهواء والهواء ليس موجودا الا فوق الأرض فلهذا السبب كان ما فوق الأرض اشرف مما تحت الأرض

الثالث ان نزول الغيث من جهة الفوق ولما كانت هذه الأشياء التي هي منافع الخلق انما تنزل من جانب السموات لا جرم كان ذلك الجانب عندهم اشرف وتعلق الخاطر بالأشرف اقوى من تعلقه بالأخس فهذا هو السبب في رفع الأيدي الى السماء وأيضا فانه تعالى جعل العرش قبلة لدعائنا كما جعل القبلة قبلة لصلاتنا وأيضا انه تعالى جعل الملائكة وسائط في مصالح هذا العالم قال الله تعالى فالمدبرات أمرا وقال فالمقسمات أمرا واجمعوا على ان جبريل عليه السلام ملك الوحي والتنزيل والنبوة وميكائيل ملك الأرزاق وملك الموت ملك الوفاة وكذلك القول في سائر الأمور واذا كان الأمر كذلك لم يبعد ان يكون الغرض من رفع الأيدي الى السماء رفع الأيدي الى الملائكة

وهذه الحجة ذكرها في نهايته فقال وثالثها التمسك بالاتفاق من الأمم المختلفة الآراء على الاشارة الى فوق عند الدعاء وطلب الأجابة من الله وإن ذلك يدل على علمهم الضروري إن الذي يطلب منه تحصيل المطالب وتيسير العسير في تلك الجهة ولهذا لما قال النبي للأمة أين ربك قال فاشارت الى السماء فقال انها مؤمنه

وقال والجواب عما تمسكوا به من الاشارة الى فوق سببه الألف والعادة وجريان الناس على ذلك فانهم ما شاهدوا عالما قادرا حيا الا جسما فكما أن من لم يشاهد الا انسانا اسود فحين يمثل في نفسه انسانا يخاطبه انما يسبق الى نفسه انه اسود لا غير ومن لم يسمع من اللغات الا العربية فحين يمثل في نفسه معنى انما يسبق الى نفسه التعبير عن ذلك المعنى بلفظ العرب وكذلك سبق الى الوهم ان من يدعو حيا عالما قادرا على ما يشاء معنى الأحياء القادرين ويتبع ذلك انه في مكان ولأن العلو اشرف لأن الأنوار فيه ولأن الرأس لما كان اشرف الأعضاء كان ما يليه اشرف الجهات فيسبق الى فهم الدعي ان يعتقد عظمته اذا كان في جهة وجب ان يكون في جهة العلو فلسبب هذه الأمور وامثالها وقعت الاشارة الى السماء ثم ان الاخلاف اخذوا ذلك عن الاسلاف مع مشاركتهم لهم في هذا التخيل فظهر ان سبب ذلك هو الالف فلا يكون صوابا واما حديث الأمة فهو من الآحاد ثم لو صح لكان سببه ما ذكرنا من الالف

والكلام على ما ذكره من وجوه الأول ان الاستدلال برفع الأيدي والأبصار الى السماء عند الدعاء على ان الله فوق هو حجة اهل الاثبات المثبتين الصفات من السلف والخلف ليس ذلك مختصا بالكرامية بل من اشهر المحتجين به ائمة اصحاب الأشعري وذووه

وقال ابو الحسن الأشعري فان قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له ان الله مستو على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وقال سبحانه اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال سبحانه بل رفعه الله اليه وقال سبحانه يدبر الأمر من السماء الى الأرض ثم يعرج اليه وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي ابلغ الأسباب اسباب السموات فاطلع الى اله موسى واني لأظنه كاذبا فاكذب موسى في قوله ان الله فوق السموات

وقال سبحانه وتعالى أأمنتم من في السماء ان يخسف بكم الأرض فاذا هي تمور والسموات فوقها العرش وانما أراد العرش الذي هو على السموات الا ترى ان الله ذكر السموات فقال وجعل القمر فيهن نورا ولم يرد ان القمر يملؤهن جميعا وانه فيهن جميعا قال ورأينا المسلمين جميعا يرفعون ايديهم اذا دعوا نحو العرش كما لا يحطونها اذا دعوا نحو الأرض وهذا الاحتجاج منه باجماع المسلمين على رفع ايديهم في الدعاء على ان الله فوق السموات لأنهم انما يرفعوها اليه نفسه لا الى غيره من المخلوقات

وقال صاحبه ابو الحسن علي بن مهدي الطبري قال البلخي فان قيل لنا ما معنى رفع أيدينا الى السماء وقوله والعمل الصالح يرفعه قلنا تأويل ذلك ان ارزاق العباد لما كانت تأتي من السماء جاز ان نرفع ايدينا الى السماء عند الدعاء وجاز ان يقال اعمالنا ترفع الى الله لما كانت حفظة الأعمال انما مساكنهم في السماء قال الطبري قيل له ان كانت العلة في رفع ايدينا الى السماء ان الأرزاق منها وان الحفظة مساكنهم فيها جاز ان نخفض ايدينا في الدعاء نحو الأرض من اجل ان الله يحدث فيها النبات والأقوات والمعايش وانها قرارهم ومنها خلقوا ولأن الملائكة معهم في الأرض فلم تكن العلة في رفعها الى السماء ما وصفه وانما امرنا الله تعالى برفع ايدينا قاصدين اليه برفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه

وقال القاضي ابو بكر الباقلاني في كتابه التمهيد وفي الابانة فان قال قائل اتقولون انه في كل مكان قيل له معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما اخبر في كتابه فقال الرحمن على العرش استوى وقال تعالى اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال أأمنتم من في السماء ان يخسف بكم الأرض فاذا هي تمور قال ولو كان في كل مكان لكان في بطن الانسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ولوجب ان يزيد بزيادة الامكنة اذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها اذا بطل منها ما كان واحتيج ان يرغب اليه الى نحو الأرض والى خلفنا والى يميننا والى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله

وهذا تصريح بأن الأيدي انما ترفع الى الله نفسه وانه يجب ان يصح رفعها اليه حيث كان وانه انما اختص رفعها بجهة العلو لأن الله هناك اذ لو لم تجب صحة رفعها الى جهته لم يجب اذا كان في كل مكان ان يصح ان يرغب اليه الى نحو الأرض والى خلفنا وأيماننا وشمائلنا فان ذلك انما يلزم اذا لزم ان يشار اليه حيث كان وهذا الذي قاله ابلغ من جواز الاشارة اليه فانه أوجب ان يصح الاشارة والرغبة الى غير جهة الفوق لو كان فيها وهذه الحجة انما تصح اذا كانت الاشارة بالأيدي الى فوق اشارة اليه نفسه اذ لو لم يكن كذلك لقال له منازعه فعندك الاشارة بالدعاء ليست اليه واذا كان كذلك لم تكن الاشارة اليه واجبة بحال وانما هو معنى يختص بجهة فوق غير كون الله تعالى هناك واذا كنت موافقي على هذا يلزم اذا كان في كل مكان ان يشار في الدعاء الى سائر الجهات كالسفل واليمين واليسار لأن عندك الاشارة بالأيدي ليست اليه وانما هي لأمر يختص بالجهة العالية غير الله وهذا من احتجاج الأولين والآخرين

قال ابو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتاب مختلف الحديث له نحن نقول في قوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم انه معهم يعلم ما هم عليه كما تقول لرجل وجهته الى بلد شاسع احذر التقصير فاني معك تريد انه لا يخفى علي تقصيرك وكيف يسوغ لأحد ان يقول انه سبحانه وتعالى بكل مكان على الحلول مع قوله الرحمن على العرش استوى ومع قوله اليه يصعد الكلم الطيب وكيف يصعد اليه شيء هو معه وكيف تعرج الملائكة والروح اليه وهي معه ولو ان هؤلاء رجعوا الى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق لعلموا ان الله هو العلي وهو الأعلى وان الأيدي ترفع بالدعاء اليه والأمم كلها عربها وعجمها يقولون ان الله في السماء ما تركت على فطرها وفي الانجيل ان المسيح قال للحواريين ان انتم غفرتم للناس فان اباكم الذي في السماء يغفر لكم ظلمكم انظروا الى طير السماء فانهن لا يزرعن ولا يحصدن وابوكم الذي في السماء هو يرزقهن ومثل هذا في الشواهد كثير

وقال الامام ابو بكر بن اسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد باب ذكر البيان ان الله عز وجل في السماء كما أخبرنا في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه وكما هو مفهوم في فطر المسلمين علماؤهم وجهالهم وأحرارهم ومماليكهم وذكرانهم وانائهم بالغوهم وأطفالهم كل من دعا الله عز وجل فانما يرفع رأسه الى السماء ويمد يديه الى الله تعالى الى الأعلى لا الى الأسفل

وقال ابو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين وهو في اصول الدين القول في انه مستو على العرش هذه المسألة سبيلها التوقيف المحض ولا يصل اليه الدليل من غير هذا الوجه وقد نطق الكتاب في غير آية ووردت به الأخبار الصحيحة فقبوله من جهة التوقيف واجب والبحث عنه وطلب الكيفية له غير جائز وقد قال ابو عبدالله مالك بن أنس رحمه الله وسئل عن قول الله الرحمن على العرش استوى فقال الاستواء معلوم والكيف غير معقول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة وذكر المواضع التي في القرآن من ذكر العرش وقوله أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض وقال أم امنتم من في السماء ان يرسل عليكم حاصبا وقال تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة وقال بل رفعه الله اليه وقال اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال حكاية عن فرعون انه قال يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فاطلع الى اله موسى فوقع قصد الكافر الى الجهة التي أخبره موسى عنها لذلك لم يطلبه في طول الأرض وعرضها ولم ينزل الى طبقات الأرض سفلا فدل ما تلوناه من هذه الآيات على ان الله في السماء ومستو على العرش ولو كان بكل مكان لم يكن لهذا الأختصاص معنى ولا فيه فائدة قال وقد جرت عادة المسلمين خاصتهم وعامتهم ان يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة اليه ويرفعوا أيديهم الى السماء وذلك لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه وتعالى

قال واعترض من خالف هذا بقوله وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم وبقوله وهو الذي في السماء اله وفي الأرض اله وبقوله ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ولا خمسة الا هو سادسهم ونحو هذا من آي القرآن وهذا لا يقدح في الآي التي تلوناها قبل ولا يخالفها والخبر عن حال الشيء وصفته من جهة غير الخبر عن نفس الشيء وذاته وانما هذا كقول القائل فلان في السوق معروف وفي البلاد وجائز ان يكون فلان في بيته وقت هذا الكلام غائبا عن السوق وعن البلاد وانما المعنى في هذه الآي اثبات علمه وقدرته في السماء والأرض وهو في الآي المتقدم اخبار عن الذات والاستواء على العرش حسب من غير قران لذلك بصلة او تعليق له بشيء آخر فأحد الكلامين قائم بنفسه والكلام الآخر انما سيق لغيره وتعدى الى ما سواه وهو يجمع قضيتين اثنتين والكلام الأول قضية واحدة

قال وزعم بعضهم ان معنى الاستواء ها هنا الاستيلاء نزع فيه ببيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ولو كان معنى الاستواء ها هنا الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة لأن الله قد أحاط ملكه وقدرته بكل الأشياء وبكل قطر وبقعة من السموات والأرض وتحت الثرى فما معنى تخصيصه العرش بالذكر ثم ان الاستيلاء انما يتحقق معناه عند المنع عن الشيء فاذا وقع الظفر قيل استولى عليه فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده وكذلك لو كان بكل مكان كما زعموا لم يكن لتخصيصه العرش بالذكر فائدة فثبت انه ليس المعنى الا ما أشار اليه التوقيف

فان قيل ان اضافة العرش اليه كاضافة البيت اليه وهو لم يجعله ليسكنه فكذلك لم يجعل العرش للكينونة والاستواء عليه قيل ان العرش لا يشبه البيت فيما ذكرتموه وذلك لأن البيوت تتخذ غرفا وعادة لتكون وقاية من الحر والبرد وما اشبههما من وجوه الأذى والله متعال عن هذه الصفات والعرش والسرير انما يتخذ لتمجد وليستكبر بهما فقياسكم للجمع بين الاثنين قياس فساد

وقال القاضي ابو يعلى في كتاب ابطال التأويلات لأخبار الصفات لما تكلم على حديث العباس قال فاذا ثبت انه على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه قال وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع اطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن احمد قد اثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش واثبت انه في السماء وكل من اثبت هذا اثبت الجهة وهم اصحاب ابن كرام وابن مندة الأصبهاني المحدث والدلالة عليه ان العرش في جهة بلا خلاف فقد ثبت بنص القرآن انه مستو عليه فاقتضى انه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر اذا دعا فانما يرفع يديه ووجهه الى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس هو في جهة ولا خارجا منها وقائل هذا بمثابة من قال باثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود احدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فاذا هو معدوم قال وقد احتج ابن منده على اثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله على العرش وانه في السماء وجاءت السنة بمثل ذلك وبأن الجنة مسكنه وانه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في نفسها فدل على انه في مكان

الوجه الثاني ان الاشارة الى فوق الى الله في الدعاء وغير الدعاء باليد والأصبع او العين او الرأس او غير ذلك من الاشارات الحسية قد تواترت به السنن عن النبي واتفق عليه المسلمون وغير المسلمين قال تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وعن ابن مسعود عن النبي ما من حاكم يحكم بين الناس الا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يوقفه على جهنم ثم يرفع رأسه الى الله عز وجل فان قال ألقه ألقاه في مهوى فيهوي اربعين خريفا رواه الامام احمد في مسنده وابن ماجه في سننه بمعناه وعن ابي هريرة ان رجلا اتى النبي بجارية سوداء عجمية فقال يا رسول الله علي عتق رقبة مؤمنة فقال لها رسول الله اين الله فأشارت الى السماء بأصبعها السبابة فقال لها من انا فاشارت بأصبعها الى رسول الله والى السماء اي انت رسول الله فقال اعتقها رواه احمد في مسنده والبرقي في مسنده ايضا ورواه ابن خزيمه في التوحيد وقد اشترط فيه ان لا يحتج فيه الا بحديث صحيح واسناده عن يزيد بن هارون اخبرنا المسعودي عن عوف بن عبد الله عن اخيه عبيد الله بن عبد الله عن ابي هريرة مثله وقال لجارية سوداء لا تفصح فقال ان علي رقبة مؤمنة وقال لها رسول الله من

ربك فأشارت بيدها الى السماء ثم قال من أنا فقالت بيدها ما بين السماء الى الأرض تعنى رسول الله والباقي مثله ورواه ايضا من حديث ابي داود الطيالسي عن المسعودي بهذا الاسناد مثله وقال ايضا بجارية عجماء لا تفصح وقال اعتقها وقال فقال المسعودي مرة اعتقها فانها مؤمنة وقد روي نحو هذا المعنى عن عبيد الله بن عبد الله الزهري مسندا عن ابي هريرة ومرسلا ورواه الامام احمد وابن خزيمة ايضا من حديث معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار انه جاء بأمة سوداء فقال يا رسول الله ان علي رقبة مؤمنة فان كنت ترى هذه مؤمنة فاعتقها فقال لها رسول الله اتشهدين ان لا اله الا الله قالت نعم قال اتشهدين اني رسول الله قالت نعم قال اتؤمنين بالبعث بعد الموت قالت نعم قال اعتقها ورواه مالك عن ابي شهاب عن عبيد الله عن النبي

قال ابن خزيمة لست انكر ان يكون خبر معمر ثابتا صحيحا ليس بمستنكر لمثل عبيد الله بن عبد الله ان يروي خبرا عن ابي هريرة عن رجل من الأنصار لو كان متن الخبر متنا واحدا فكيف وهما متنان وهما على حديثان لا حديث واحد حديث عون بن عبد الله في الامتحان انما اجابت السوداء بالاشارة لا بالنطق وفي خبر الزهري أجابت السوداء بنطق نعم بعد الاستفهام لما قال لها اتشهدين ان لا اله الا الله في الخبر انها قالت نعم وكذلك عند الاستفهام لما قال لها اتشهدين اني رسول الله قالت نعم نطقا بالكلام والاشارة باليد ليس النطق بالكلام وفي خبر الزهري زيادة الامتحان بالبعث بعد الموت لما استفهمها اتؤمنين بالبعث بعد الموت

وهذا الذي قاله ابن خزيمة يحققه ان هذا الحديث رواه القاضي ابو أحمد العسال في كتاب المعرفة له من حديث محمد بن عمرو عن ابي سلمة عن ابي هريرة ولهذا يقال انه حديث حسن صحيح ومثلما روي ابو عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله ان ربكم حيى كريم يستحيي من عبده اذا رفع يديه اليه ان يردهما صفرا رواه ابو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب قال ورواه بعضهم ولم يرفعه وهذا لا يضر لأنه اذا كان موقوفا على سلمان فمثل هذا الكلام لا يقال الا توقيفا وقد أخبر في هذا الحديث ان العبد يشير بيديه ويرفعهما الى الله سبحانه وكذلك الحديث الذي في عن الفضل بن عباس قال قال رسول الله الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن ثم تقنع يديك يقول ترفعهما الى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك وتقول يا رب يا رب ومن لم يفعل ذلك فهو خداج فاخبر فيه انه يقنع يديه اي يرفعهما وأنه يرفعهما الى ربه

وفي الحديث المشهور الذي في صحيح مسلم عن جعفر بن محمد عن ابيه عن جابر في صفة حجة الوداع وهو الحديث الطويل المشهور اكثر حديث روي في حجة الوداع قال فلما كان يوم التروية توجهوا الى منى فاهلوا بالحج وركب النبي فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا الا كل من امر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وان أول دم اضع من دماءنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربا عباس بن عبد المطلب فانه موضوع كله واتقوا الله في النساء فانكم اخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ان لا يوطئن فرشكم احدا تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده ان اعتصمتم به كتاب الله وانتم تسألون عني فما انتم قائلون قالوا نشهد انك قد بلغت واديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها الى السماء وفكتها الى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات ثم اذن بلال ثم اقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب حتى أتى الموقف وذكر تمام الحديث فأشار بأصبعه السبابة وحدها الى فوق بابلاغ الاشارة اللهم اشهد ثلاث مرات يجمع بين الاشارة الحسية المرئية والعبارة الحسية المسموعة

وفي صحيح البخاري عن عكرمة عن ابن عباس ان رسول الله خطب الناس يوم النحر وقال يا أيها الناس أي يوم هذا قالوا هذا يوم حرام قال فأي بلد هذا قالوا بلد حرام قال فأي شهر هذا قالوا شهر حرام قال فان دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت قال ابن عباس والذي نفسي بيده انها لوصيته الى أمته فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارا بضرب بعضكم رقاب بعض وقد أخبرنا هنا أنه رفع رأسه وقال اللهم أشهد وعن سعد ابن ابي وقاص قال مر علي النبي وأنا أدعو باصبعي فقال أحد أحد وأشار بالسبابة رواه الامام أحمد وأبو داود والنسائي واخرج الترمذي والنسائي من حديث أبي عن ابي هريرة نحوه وقال حسن غريب قالوا ومعناه أشر بواحدة فان الذي تدعوه واحد وهذا نص بين في أن الاشارة الى الله حيث قال له أحد أحد أي احد الاشارة فاجعلها باصبع واحدة فلو كانت الاشارة الى غير الله لم يختلف الأمر بين ان يكون بواحدة او اكثر فعلم ان الاشارة لما كانت الى الله وهو اله واحد أمره ان لا يشير الا باصبع واحدة لا باثنين

وكذلك استفاضت السنن بأنه يشار بالأصبع الواحدة في الدعاء في الصلاة وعلى المنابر يوم الجمعة وفي غير ذلك فعن ابن عمر قال كان رسول الله اذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع أصبعه اليمنى التي تلي الابهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها وفي رواية كان اذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الابهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى رواهما احمد ومسلم والنسائي وروي الثاني ابو داود ايضا وعن عبد الله بن الزبير قال كان رسول الله اذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى وساقه وفرش قدمه اليمنى ووضع يده اليسرى على ركبة فخذه اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه وأشار بعض الرواة بالسبابة رواه أحمد ومسلم وابو داود وعن ابن الزبير أيضا قال كان رسول الله اذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بالسبابة ولم يجاوز بصره اشارته رواه احمد وابو داود والنسائي وعن وائل ابن حجر انه قال في صفة صلاة النبي قعد فافترش رجله اليسرى ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وحد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها وفي رواية يقول هكذا وحلق الأبهام والوسطى وأشار بالسبابة ورواه احمد وابو داود والنسائي وابن ماجه وعن مالك بن نمير الخزاعي عن ابيه قال رأيت النبي واضعا ذراعه اليمنى على فخذه اليمنى رافعا اصبعه السبابى قد حناها شيئا رواه ابو داود والنسائي وابن ماجه

وعن حصين بن عبد الرحمن قال رأى عمارة بن رؤيبة بشر بن مروان وهو يدعو في يوم جمعة فقال عمارة قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله وهو على المنبر ما يزيد على هذه يعني السبابة وفي رواية رأيت رسول الله وهو في المبنر ما يزيد على هذه يعني السبابة وفي رواية رأيت رسول الله وهو على المنبر يخطب اذا دعا يقول هكذا فرفع السبابة وحدها وهذا الحديث رواه احمد ومسلم وابو داود وفي سنن ابي داود عن ابن عباس قال المسألة ان ترفع يديك حذو منكبيك او نحوهما والاستغفار ان تشير باصبع واحد والابتهال ان تمد يديك جميعا وفي رواية والابتهال هكذا ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه رواه أيضا مرفوعا عن بن ابن عباس ان رسول الله قال وأما رفع النبي يديه في الدعاء فهو في الحديث اكثر من ان يبلغه الاحصاء

وأما حديث أنس قال كان رسول الله لا يرفع يديه في شيء من دعائه الا في الاستسقاء فانه كان يرفع يديه حتى يرى بياض أبطيه رواه الجماعة اهل الصحاح والسنن والمسانيد مثل البخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والامام احمد في مسنده وغيرهم وفي رواية لمسلم ان النبي استسقى فأشار بظهر كفه الى السماء رواه ابو داود ولفظه ان ابي يستسقي هكذا يعني ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت ابطيه فهذا هو رفعهما الى فوق رأسه وهو الابتهال المذكور في حديث ابن عباس ومن صوره هذا الرفع الى فوق الرأس ان تصير كفيه من جهة السماء اذ لا يمكن مع استيفاء الرفع أن تكون بطونهما من نحو السماء

الوجه الثالث انه قد نهى عن رفع البصر في الصلاة الى فوق امرا بالخشوع الذي اثنى الله على اهله حيث قال قد افلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون وقال واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشعين والخشوع يكون مع تحفض البصر كما قال تعالى يوم يدعون الى السجود فلا يستطيعون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون الى السجود وهم سالمون وقال تعالى يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم الى نصب يوفضون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذله ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون وقال فتول عنهم يوم يدع الداع الى شيء نكر خشعا ابصارهم مهطعين الى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر كما وصف الأصوات بالخشوع في قوله وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع الا همسا وعن أنس عن النبي قال ما بال اقوام يرفعون ابصارهم الى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهن او لتخطفن ابصارهم رواه البخاري واكثر اهل السنن وعن ابي هريرة ان النبي قال لينتهين اقوام يرفعون ابصارهم الى السماء في الصلاة او لتخطفن ابصارهم رواه مسلم وغيره ولو كان الله ليس فوق بل هو في السفل كما هو في الفوق لا لاختصاص لأحد الجهتين به لم يكن رفع البصر الى السماء ينافي الخشوع بل كان يكون بمنزلة حفظها

الوجه الرابع ان الذين يرفعون ايديهم وابصارهم وغير ذلك الى السماء وقت الدعاء تقصد قلوبهم الرب الذي هو فوق وتكون حركة جوارحهم بالاشارة الى فوق تبعا لحركة قلوبهم الى فوق وهذا امر يجدونه كلهم في قلوبهم وجدا ضروريا الا من غيرت فطرته باعتقاد يصرفه عن ذلك وقد حكى محمد بن طاهر المقدسي عن الشيخ ابي جعفر الهمذاني انه حضر مجلس ابي المعالي فذكر العرش وقال كان الله ولا عرش ونحو ذلك وقام اليه الشيخ ابو جعفر فقال يا شيخ دعنا من ذكر العرش واخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فانه ما قال عارف قط يا الله الا وجد في قلبه ضرورة لطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة قال فضرب ابو المعالي على رأسه وقال حيرني الهمداني فاخبر هذا الشيخ عن كل من عرف الله انه يجد في قلبه حركة ضرورية الى العلو اذا قال يا الله وهذا يقتضي انه في فطرتهم وخلقتهم العلم بأن الله فوق وقصده والتوجه اليه الى فوق

الوجه الخامس ان الناس مع اختلاف عقائدهم واديانهم يشيرون الى السماء عند الدعاء لله تعالى والرغبة اليه وكلما عظمت رغبتهم واشتد الحاحهم قوي رفعهم واشارتهم ولهذا لما كان دعاء الاستسقاء فيه من الرغبة والالحاح ما ليس في غيره كان رفع النبي واشارته فيه اعظم منه في غيره وهذا يفعلونه اذا دعوا الله مخلصين له الدين عندما يكونون مضطرين الى الله عند الرغبة والرهبة مثل ركوب البحر وغيره وفي تلك الحال يكونون قاصدين الله قصدا قويا بل لا يقصدون غيره ويقرنون بقصد قلوبهم وتوجهها اشارتهم بعيونهم ووجوهم وايديهم الى فوق ومعلوم ان الاشارة تتبع قصد المشير وارادته فاذا لم يكونوا قاصدين الا الله ولا مريدين الا اياه لم تكن الاشارة الا الى ما قصدوه وسألوه فانه في تلك الحال لا يكون في قلوبهم الا شيئان المسؤول والمسؤول منه ومعلوم ان هذه الاشارة باليد وغيرها ليست الى الشيء المسؤول المطلوب من الله ولا يخطر بقلوبهم ان هذه الاشارة الى ذلك ولا ادعاه المنازع في ذلك في اكثر الاوقات لا يكون فوق فلم يبق ما تكون الاشارة اليه الا المدعو المقصود والا كانت الاشارة الى ما لم يقصده الداعي ولم يشعر به وهذا ممتنع وهذا واضح لمن تدبره

الوجه السادس انهم يقولون بألسنتهم ارفعو أيديكم الى الله ونحو ذلك من العبارات وهذا اخبار عن انفسهم انهم يقصدون الاشارة الى الله ورفع الايدي اليه واذا كان هذا الخبر لم يتواطؤا عليه ولم يجمعهم عليهم احد كان اتفاقهم في الخبر عما في نفوسهم كاتفاقهم في سائر الاخبار التي تجري مجرى هذا من الأمور الحسية والضرورية وغير ذلك

الوجه السابع ان هذا الرفع يستدل به من وجوه احدها ان العبد الباقي على فطرته يجد في قلبه امرا ضروريا اذا دعا الله دعاء المضطر انه يقصد بقلبه الله الذي هو عال وهو فوق الثاني انه يجد حركة عينه ويديه بالاشارة الى فوق تتبع اشارة قلبه الى فوق وهو يجد ذلك ايضا ضرورة الثالث ان الأمم المختلفة متفقة على ذلك من غير مواطأة الرابع انهم يقولون بألسنتهم انا نرفع ايدينا الى الله ويخبرون عن انفسهم انهم يجدون في قلوبهم اضطرارا الى قصد العلو فالحجة تارة بما يجده الانسان من العلم الضروري وتارة بما يدل على العلم الضروري في حق الناس وتارة بأن الناس لا يتفقون على ضلالة فانه اذا كان اجماع المسلمين وحدهم لا يكون الا حقا فاجماع جميع الخلق الذين منهم المسلمون اولى ان لا يكون الا حقا

وبهذه المجامع يظهر الجواب عما تذكر الجهمية وجماعة شيئان احدهما ان يكون الناس مخطئين في هذا الرفع لاعتقادهم ان الله فوق وليس هو فوق

وهذا جوابه في نهايته والثاني ان يكون الرفع الى بعض المخلوقات اما الملائكة او الجهة الشريفة او العرش الذي هو القبلة ومن تدبر ما بيناه علم امتناع هذين الوجهين ونحن نفصل ذلك

الوجه الثامن قوله ان الرفع الى فوق لأن الجهة العالية اشرف من السافلة بظهور الانوار منها وان الهوى الذي هو مادة النفس منها وان النظر منها مضمونة ان ما يحتاج اليه الآدميون من الرزق الذي هو الماء والهواء ومن النور يأتي من الجهة العالية فكانت اشرف

فيقال له أولا لا ريب ان حاجتهم الى الأرض وما فيها اكثر فان عليها قرارهم ومنها تخرج ارزاقهم التي هي النبات وفيها الحيوان وهي كما قال الله تعالى فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ولهذا كان نظر ابصارهم الى الأرض وما فيها أكثر من نظرهم الى السماء وما فيها فعلم ان النظر الذي يكون لأجل الحاجة الى المنظور اليه لتعلق القلب به هو الى الأرض اكثر منه الى السماء

ويقال له ثانيا الاحتجاج انما هو يرفع ايديهم وابصارهم حين الدعاء لله وحده لا شريك له فاما دعوى غير الله فانما يرفعون أيديهم ان رفعوها الى جهة ذلك المدعو واما في غير صد الله ودعائه وذكره فانهم لا يلتزمون الاشارة الى السماء بل انما يشير احدهم ان اشار الى شيء معين مثل الشمس والقمر وغير ذلك واذا كان الأمر كذلك كان ماذا ذكره من الاشارة الى الجهة لشرفها من أبطل الباطل فان ذلك انما يتوجه لو كان المذكور هو اشارتهم الى فوق مطلقا وهذا خلاف الواقع بل انما يشيرون الاشارة المذكورة اذا دعوا الله مخلصين له الدين وأين هذا من هذا

ويقال له ثالثا قد تقدم انهم يعلمون ويخبرون أنهم انما يشيرون الى الله لا الى محض الجهة

الوجه التاسع قوله ان الاشارة قد تكون الى الملائكة التي هي مدبرة امر العباد يقال له اولا اشارة الانسان الى الشيء مشروطة بشعوره به وقصد الاشارة اليه فان لم يشعر به ولم يقصد الاشارة اليه محال ان يشير اليه والداعون لله مخلصين له الدين لا تخطر لهم الملائكة في تلك الحال فضلا عن ان يقصدوا الاشارة اليها وكل منهم يعلم من نفسه ويسمع من غيره بل ويعلم منه بغير سمع أنه لم يقصد الاشارة الى الملائكة واذا كانوا يعلمون من انفسهم انهم لم يشيروا الى الملائكة ولا الى محض الجهة كان حمل اشارتهم على هذا مع علمهم بأنهم لم يقصدوا ذلك مثل من يحمل سجود المسلمين في اوقات صلواتهم على انهم يسجدون للكواكب والملائكة بل الاشارة في الدعاء الى الله ابلغ وذلك ان السجود في الظاهر مشترك بين من يسجد لله ويسجد لغيره وأما الذي يقول بلسانه انه يدعو الله وهو مع ذلك يشير مع دعائه فالظن به أنه اشار الى غير الله اقبح من الظن بالمسمين أنهم يسجدون لغير الله

ويقال له ثانيا الاشارة الى الملائكة حين دعاء الله وحده لا شريك له اشراك بالله بل دعاء الملائكة ومسألتهم اشراك بالله فكيف بالاشارة اليهم حين دعاء الله وحده لا شريك له

وقيل له ثالثا الاحتجاج ليس بمطلق الاشارة الى فوق بل الاشارة عند دعاء الله وحده لا شريك له ومن المعلوم انه لا يجوز في تلك الحال رفع الأيدي الى الملائكة فكيف يحمل حال الأنبياء والمرسلين وسائر عباد الله المخلصين على أنهم رفعو أيديهم الى غير الله حين مسألتهم لله وحده

وقيل له رابعا لا يجوز لأحد ان يرفع يديه داعيا لا الى الملائكة ولا الى غير الملائكة بل هذا من خصائص الربوبية ومن جوز رفع الأيدي عند الدعاء الى غير الله فهو من المشركين الذين يدعون غير الله قال تعالى وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله احدا وانه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قال انما أدعو ربي ولا أشرك به احدا وقال تعالى قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد اذ هدانا الله الآية وقال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم وقال والذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق الاية وقال ومن الناس من يعبد الله على حرف فان أصابه خير اطمئن به وان أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله مالا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد وقال تعالى ولا تدع مع الله الها آخر فتكون من المعذبين وقال تعالى ومن يدع مع الله الها آخر لا برهان له به فانما حسابه عند ربه وقال تعالى ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة والنبيين اربابا

ولهذا كانت الاشارة اليه من تمام دعائه وذلك من تحقيق كونه الصمد الذي يصمد العباد اليه فان قصده بالباطن والظاهر والقلب وسائر الجسد اكمل من قصده بالقلب فقط فيكون الاشارة اليه من تمام كونه صمدا ويكون اسم الصمد مستلزما لذلك فكونه موجودا يوجب المباينة التي تقتضي الاشارة اليه وكونه صمدا مقصودا يقتضي الدعاء المتضمن الاشارة اليه والاشارة الى غيره بالدعاء اشراك به واخراج له عن أن يكون احدا

فظهر أن هؤلاء الجهمية منكرين لحقيقة كونه احدا صمدا وأنهم جاحدون لحقيقة دعائه مسوغين للاشراك به فان أهل السنة هم الموحدون له والمكملون لحقيقة الاقرار بأنه الأحد الصمد وهذا ظاهر ولله الحمد

ويبين هذا أن هؤلاء الجهمية ومن دخل فيهم من الملاحدة والفلاسفة والصابئين وغيرهم لا يعتقدون حقيقة الدعاء لله ولا يؤمنون ان الله على كل شيء قدير لا سيما من يقول منهم انه موجب بالذات لا يمكنه ان يغير سببا ولا يحدثه فالدعاء عندهم انما يؤثر تأثير النفوس البشرية وتصرفها في هيولي العالم واذا كان كذلك فهم في الحقيقة لا يقصدون الله ان يفعل شيئا ولا يحدث شيئا ولا يطلبون منه شيئا ولكن يقوون نفوسهم قوة يفعلون بها والعلم الضروري حاصل بالفرق بين ما يفعله الحيوان بنفسه وبين ما يطلبه من غيره فاذا كان دعاء العباد عندهم لا معنى له الا أنهم يفعلون بأنفسهم لم يكونوا داعين لله قط ومن لم يكن داعيا لله فانه لا يشير اليه عند الدعاء بل ذلك عبث بل قوله يا الله افعل كذا عبث وهذا حقيقة مذهب القوم ابطال ما بعثت به الرسل من أنواع الأدعية وابطال ما فطر الله عليه عباده من ذلك وهؤلاء هم أصل التهجم والتعطيل فمن وافقهم في شيء من ذلك كان من الجاحدين لأن يكون الله هو الموجود المقصود المدعو المعبود

ولهذا تجد غالب هؤلاء النفاة لأن يكون الله فوق العرش فيهم من الانحلال عن دعاء الله ومسألته وعبادته بقدر ذلك الا من يكون منهم جاهلا بحقيقة مذهبهم يوافقهم بلسانه على قول لا يفهم حقيقته وفطرته على الصحة والسلامة فانه يكون فيه ايمان ونفاق فأما اذا استحوذ على قلبه تغيرت فطرته وهؤلاء يعرضون عن دعاء الله وعبادته مخلصين له الدين عند الاختيار ويجادلون في ذلك لكن عند الاضطرار هم كما قال الله تعالى ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ان يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور او يوبقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا مالهم من محيص لا سيما على اشهر القرائتين وهي قراءة النصب في قوله ويعلم فان ذلك من باب قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن ومثل هذا في الاعراب قوله ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ومعنى آية الشورى أنه سبحانه ان شاء اسكن فيظللن رواكد على ظهره وان شاء او بقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا وهذا كله في جواب ان يشأ اي وان يشأ يهلكهن بذنوبهم ويعف ايضا عن كثير منها ويجتمع مع ذلك علم المجادلين في أياتنا بأنه مالهم من محيص فهو ان شاء جمع بين أن يهلك بعضا ويعف عن بعض وبين علم المجادلين في آياته حينئذ أنه ما لهم من محيص

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19