الفتاوى الكبرى/كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة/9

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

فصل

وهذا الذي ذكرناه من أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه هو المنصوص عن الأئمة والسلف وهو الموافق للكتاب والسنة فأما نصوصهم التي فيها بيان أن كلامه ليس مجرد الحروف والأصوات بل المعنى أيضا من كلامهم فكثير من كلام أحمد وغيره مثل ما ذكر الخلال في كتاب السنة عن الأثر وإبراهيم بن الحارث العبادي أنه دخل على أبي عبد الله الأثرم وعباس بن عبدالعظيم العنبري فابتدأ عباس فقال: يا أبا عبد الله قوم قد حدثوا يقولون لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق. هؤلاء أضر من الجهمية على الناس ويلكم فإن لم تقولوا ليس بمخلوق فقولوا مخلوق فقال أبو عبد الله: قوم سوء فقال العباس: ما تقول يا أبا عبد الله فقال الذي أعتقده وأذهب إليه ولا أشك فيه أن القرآن غير مخلوق ثم قال سبحان الله من يشك في هذا ثم تكلم أبو عبد الله مستعظما للشك في ذلك فقال: سبحان الله في هذا شك قال الله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } ففرق بين الخلق والأمر قال أبو عبد الله فالقرآن من علم الله ألا تراه يقول علم القرآن والقرآن فيه أسماء الله عز وجل أي شيء يقولون لا يقولن أسماء غير مخلوقة ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر لم يزل الله تعالى قديرا عليما عزيزا حكيما سميعا بصيرا لسنا نشك أن أسماء الله ليست بمخلوقة ولسنا نشك أن علم الله ليس مخلوق وهو كلام الله ولم يزل الله متكلما

ثم قال أبو عبد الله وأي أمر أبين من هذا واي كفر أكفر من هذا إذا زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة وأن علم الله مخلوق ولكن الناس يتهاونون بهذا ويقولون إنما يقولون القرآن مخلوق فيتهاونون به ويظنون أنه هين ولا يدرون ما فيه من الكفر قال وأنا أكره أن أبوح بها لكل أحد وهم يسألونني فأقول أني أكره الكلام في هذا فيبلغني أنهم يدعون على أني أمسك قال الأثرم فقلت لأبي عبد الله فمن قال إن القرآن مخلوق وقال لا قول إن أسماء الله مخلوقة ولا علمه لم يرد على هذا أقول هو كافر؟ فقال: هكذا هو عندنا قال أبو عبد الله: أنحن نحتاج أن نشك في هذا القرآن عندنا فيه أسماء الله وهو من علم الله فمن قال مخلوق فهو عندنا كافر

ثم قال أبو عبد الله: بلغني أن أبا خالد وموسى بن منصور وغيرهما يجلسون في ذلك الجانب فيعيبون قلولنا ويدعون أن هذا القول أن لا يقال مخلوق ولا غير مخلوق ويعيبون من يكفر ويقولون إنا نقول بقول الخوارج ثم تبسم أبو عبيدالله كالمغتاظ ثم قال أبو عبد الله لعباس وذاك السجستاني الذي عندكم بالبصرة ذاك الخبيث بلغني أنه قد وضع في هذا أيضا يقول لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق ذاك خبيث ذاك الأحول فقال العباس: كان يقول مرة بقول جهم ثم صار إلى أن يقول بهذا القول فقال أبو عبد الله: ما بلغني أنه كان يقول جهم إلا الساعة

فقول الإمام أحمد إذا زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة وأن علم الله مخلوق يبين أن العلم الذي تضمنه القرآن داخل في مسمى القرآن

وقد نبهنا فيما تقدم على أن كل كلام حق فإن العلم أصل معناه فإن كان قد ينضم إلى العلم معنى الحب والبغض وذلك أن الكلام خبر أو طلب أما الخبر الحق فإن معناه علم بلا ريب وأما الإنشاء كالأمر والنهي فإنه مسبوق بتصور المأمور والمأمور به وغيره ذاك فالعلم أيضا أصله واسم القرآن والكلام يتضمن هذا كله فقول القائل القرآن مخلوق يتضمن أن علم الله مخلوق وكذلك أسماء الله هي في القرآن فمن قال هو مخلوق والمخلوق هو الصوت القائم ببعض الأجسام يكون ذلك الجسم هو الذي سمي الله بتلك الأسماء ولم يكن قبل ذلك الجسم وصوته لله اسم بل يكون ذلك الاسم قد نحله إياه ذلك الجسم ولهذا روي البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن بعاس أنه سأله سائل عن قوله: وكان الله غفورا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا فكأنه كان ثم مضى فقال ابن عباس: وكان الله غفورا رحيما سمي نفسه ذلك وذلك قوله أني لم أزل كذلك هذا لفظ البخاري وهو رواه مختصرا ولفظ البوشجي محمد بن إبراهيم الإمام عن شيخ البخاري الذي رواه من جهته البرقاني في صحيحه: فإن الله سمي نفسه ذلك ولم ينحله غيره فذلك قوله وكان الله أي لم يزل كذلك هكذا رواه البيهقي عن البرقاني

وذكر الحميدي لفظه فإن الله جعل نفسه ذلك وسمي نفسه وجعل نفسه ذلك ولم ينحله أحدا غيره وكان الله أي لم يزل كذلك ولفظ يعقوب بن سفيان عن يوسف بن عدي شيخ البخاري: فإن الله سمي نفسه ذلك ولم يجعله غيره وكان الله أي لم يزل كذلك فقد أخبر ابن عباس: أن معنى القرآن إن الله سمى نفسه بهذه الأسماء لم ينحله ذلك غيره وقوله وكان الله يقول إني لم أزل كذلك ومن المعلوم أن الذي قاله ابن عباس هو مدلول الآيات ففي هذا دلالة على فساد قول الجهمية من وجوه:

أحدهما: إنه إذا كان عزيزا حكيما ولم يزل عزيزا حكيما والحكمة تتضمن كلامه ومشيئته كما أن الرحمة تتضمن مشيئته دل على أنه لم يزل متكلما مريدا وقوله غفورا أبلغ فإنه إذا كان لم يزل غفورا فأولى أنه لم يزل متكلما وعند الجهمية: بل لم يكن متكلما ولا رحيما ولا غفورا إذ هذا لا يكون إلا بخلق أمور منفصلة عنه فحينئذ كان كذلك

الثاني: قول ابن عباس فإن الله سمي نفسه ذلك يقتضي أنه هو الذي سمي نفسه بهذه الأسماء لا أن المخلوق هو الذي سماه بها ومن قال إنها مخلوقة في جسم لزمه أن يكون ذلك الجسم هو الذي سماه بها

الثالث: قوله ولم ينحله ذلك غيره وفي اللفظ الآخر ولم يجعله ذلك غيره وهذا يبين بجعله ذلك في رواية أي هو الذي حكم بنفسه بذلك لا غيره ومن جعله مخلوقا لزمه أن يكون الغير هو الذي جعله كذلك ونحله ذلك

الرابع: إن ابن عباس ذكر ذلك في بيان معنى قوله وكان الله غفورا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا ليبين حكمة الإتيان بلفظ كان في مثل هذا فأخبر في ذلك أنه هو الذي سمي نفسه ذلك ولم ينحله ذلك غيره ووجه مناسبة هذا الجواب أنه إذا تحل ذلك غيره كان ذلك مخلوقا بخلق فلا يخبر عنه بأنه كان كذلك وأما إذا كان هو الذي سمي به نفسه ناسب أن يقال إنه كان كذلك وما زال كذلك لأنه هو لم يزل سبحانه وتعالى

وهذا التفريق إنما يصح إذا كان غير مخلوق ليصح أن يقال لما كان هو المسمي لنفسه بذلك كان لم يزل كذلك فذكر الإمام أحمد أن قول القائل القرآن مخلوق يتضمن القول بأن علم الله مخلوق وأن أسماءه مخلوقة لأن ظهور عدم خلق هذين للناس أبين من ظهور عدم القول بفساد إطلاق القول بخلق هذين ولو كان القرآن إسما لمجرد الحروف والأصوات لم يصح ما ذكره الإمام أحمد من الحجة فإن خلق الحروف وحدها لا تستلزم خلق العلم وهكذا القائلون بخلق القرآن إنما يقولون بخلق الحروف والأصوات في بعض الأجسام لأن هذا هو عندهم القرآن ليس للعلم عندهم دخل في مسمى القرآن

ولهذا لما قال له الأثرم فمن قال القرآن مخلوق وقال لا أقول إن أسماء الله مخلوقة ولا علمه لم يزد على هذا أقول هو كافر فقال هكذا هو عندنا ثم استفهم استفهام المنكر فقال أنحن نحتاج أن نشك في هذا القرآن عندنا فيه أسماء الله وهو من علم الله فمن قال مخلوق فهو عندنا كافر فأجاب أحمد بأنهم وإن لم يقولوا بخلق أسمائه وعلمه فقولهم يتضمن ذلك ونحن لا نشك في ذلك حتى نقف فيه فإن ذلك يتضمن خلق أسمائه وعلمه ولم يقبل أحمد قولهم القرآن مخلوق وإن لم يدخلوا فيه أسماء الله وعلمه لأن دخول ذلك فيه لا ريب فيه كما أنهم لما قالوا القرآن مخلوق خلقه الله في جسم لكن هو المتكلم به لا ذلك الجسم لم يقبل ذلك منهم لأنه من المعلوم أنه إنما يكون كلام ذلك الجسم لا كلام الله كإنطاق جوارح العبد وغيرها فإنه يفرق بين فعلته وبين إنطاقه بين إنطاقه لغيره من الأجسام

وقال أحمد فيه اسماء الله وهو من علم الله ولم يقل فيه علم الله لأن كون أسماء الله في القرآن يعلمه كل أحد ولا يمكن أحد أن ينازع فيه وأما اشتمال القرآن على العلم فهذا ينازع فيه من يقول إن القرآن هو مجرد الحروف والأصوات فإن هؤلاء لا يجعلون القرآن فيه علم الله بل والذين يقولون الكلام معنى قائم بالذات والخبر والطلب وأن معنى الخبر ليس هو العلم ومعنى الطلب لا يتضمن الإرادة ينازعون في أن مسمى القرآن يدخل فيه العلم فذكر الإمام أحمد ما يستدل به على أن علم الله في القرآن وهو قوله فإن القرآن من علم الله لأن الله أخبر بذلك فذكر أحمد لفظ القرآن الذي يدل على موارد النزاع فإن قوله القرآن من علم الله مطابق لقوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير }

ولقوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } وقوله: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } الآية ولقوله: { وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق } ومعلوم أن المراد بالذي جاءك من العلم في هذه الآيات إنما هو ما جاءه من القرآن كما يدل على سياق الآيات فدل ذلك على أن مجيء القرآن إليه مجيء ما جاء من علم الله إليه وذلك دليل على أن من علم الله ما في القرآن ثم قد قال هذا الكلام فيه علم عظيم

وقد يقال هذا الكلام علم عظيم فأطلق أحمد على القرآن أنه من علم الله لأن الكلام الذي فيه علم هو نفسه يمسى علما وذلك هو من علم الله كما قال: من بعد ما جاءك من العلم ففيه من علم الله ما شاءه سبحانه لا جميع علمه ومثل هذا كثير في كلام الإمام أحمد كما رواه الخلال عن أبي الحارث قال: سمعت أبا عبد الله يقول القرآن كلام الله غير مخلوق ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر لأنه يزعم أن علم الله مخلوق وأنه لم يكن له علم حتى خلقه وكما روي عن محمد بن إبراهيم الهاشمي قال: دخلت على أحمد بن حنبل أنا وابي فقال له أبي يا أبا عبد الله: ما تقول في القرآن قال القرآن من علم الله ومن قال إن من علم الله شيئا مخلوقا فقد كفر ذكر ذلك لأن من الجهمية من يقول علم الله بعضه مخلوق وبعضه غير مخلوق وقد يقول إن الله وإن جعل القرآن من علمه فبعض ذلك مخلوق

كما روى الخلال عن الميموني أنه سأل أبا عبد الله قال: قلت من قال كان الله ولا علم فتغير وجهه تغيرا شديدا وأكبر غيظه ثم قال لي كافر وقال لي في كل يوم أزداد في القوم بصيرة

قال: وقال أبو عبد الله علمت أن بشر المريسي كان يقول العلم علمان فعلم مخلوق وعلم ليس بمخلوق فهذا أي شيء يكون هذا؟ قلت يا أبا عبد الله كيف يكون إذا قال لا أدري أيكون علمه كله بعضه مخلوق وبعضه ليس بمخلوق لا أدري كيف ذا بشر كذا كان يقول وتعجب أبو عبد الله تعجبا شديدا وروي عن المروزي قال قال أبو عبد الله قلت لابن الحجام - يعني يوم المحنة - ما تقول في علم الله؟ فقال: مخلوق فنظر ابن رباح إلى ابن الحجام نظرا منكرا عليه لما أسرع فقلت لابن رباح أي شيء تقول أنت فلم يرض ما قال ابن الحجام فقلت له كفرت قال أبو عبد الله يقول: إن الله كان لا علم له فهذا الكفر بالله وقد كان المريسي يقول إن علم الله وكلامه مخلوق وهذا الكفر بالله

وعن عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كفر لأن القرآن من علم الله وفيه أسماء الله قال الله تعالى: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم }

وعن المروذي سمعت أبا عبد الله يقول القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر بالله واليوم الآخر والحجة { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } الآية وقال: { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } وقال: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } وقال { ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق } والذي جاء به النبي والقرآن وهو العلم الذي جاءه والعلم غير مخلوق والقرآن من العلم وهو كلام الله وقال: { الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان } وقال: { ألا له الخلق والأمر }

فأخبر أن الخلق خلق والخلق غير الأمر وأن الأمر غير الخلق وهو كلامه وأن الله عز وجل لم يخل من العلم وقال: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون والذكر هو القرآن وأن الله لم يخل منهما ولم يزل الله متكلما عالما وقال في موضع آخر: إن الله لم يخل من العلم واللكام وليسا من الخلق لأنه لم يخل منهما فالقرآن من علم الله وعن الحسن بن ثواب أنه قال لأبي عبد الله من أين أكفرتهم؟ قال: قرأت في كتاب الله غير موضع: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } فذكر الكلام قال ابن ثواب ذاكرت ابن الدروقي فذهب إلى أحمد ثم جاء فقال لي سألته فقال لي كما قال لك إلا أنه قد زادني أنزله بعمله ثم قال لي أحمد إنما أرادوا الأبطال وقد فسر طائفة منهم ابن حزم كلام أحمد بأنه أراد بلفظ القرآن المعنى فقط وأن معنى القرآن يعود إلى العلم فهو من علم الله ولم يرد بالقرآن الحروف والمعاني فمن جعل القرآن كله ليس له معنى إلا العلم فقد كذب وأما من قال عن هذه الآيات التي احتج بها أحمد وأن معناها العلم لأنها كلها من باب الخبر ومعنى الخبر العلم فهذا أقرب من الأول وهذا إذا صح يقتضي أنه قد يراد بالكلام المعنى تارة كما يراد به الحروف أخرى فأما أن يكون أ مد يقول إن الله لا يتكلم بالحروف فهذا خلاف نصوصه الصريحة عنده لكن قد يقال القرآن الذي هو قديم لا يتعلق بمشيئته هو المعنى الذي سماه الله علما وذلك هو الذي يكفر من قاله بحدوثه

قال الخلال في كتاب السنة الرد على الجهمية الضلال: إن الله لا يتكلم بصوت وروى عن يعقوب بن بختان أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لا يتكلم بصوت قال بلى تكلم بصوت وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها لكل حديث وجه يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر حدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجودا حتى إذا فزع عن قلوبهم قال سكن عن قلوبهم - نادى أهل السماء ماذا قال ربكم قالوا الحق قال كذا وكذا وكذلك ذكر عبد الله في كتاب السنة وذكره عنه الخلال قال سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت فقال أبي بل تكلم الله تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت وقال أبي حديث ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر سلسلة على الصفوان قال أبي والجهمية تنكره وقال أبي هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر وإنما نروي هذه الأحاديث كما جاءت

وروى المروذي عن أحمد حديث ابن مسعود قال المروذي سمعت أبا عبد الله وقيل له إن عبدالوهاب قد تكلم وقال من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام أي حقا جهمي عدو الله من موسى بن عقبة يا ضالا مضلا من ذب عن موسى بن عقبة من كان من الناس يخانب أشد المجانبة وأبو عبد الله سألة حتى انتهى إلى آخر كلام عبدالوهاب فتبسم أبو عبد الله وقال: ما أحسن ما تكلم عافاه الله ولم ينكر منه شيئا

وقال الإمام أبو عبد الله البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق الأفعال ويذكر عن النبي : [ أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب فليس هذا لغير الله عز وجل ]

قال البخاري: وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب وأن الملائكة يصعقون من صوته فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا وقال: لا تجعلوا لله ندا فليس لصفة الله ند ولا مثل ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين حدثنا بن داود بن شبيب حدثنا همام أخبرنا القاسم بن عبدالواحد حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل أن جابر بن عبد الله حدثهم أنه سمع عبد الله بن أنيس يقول سمعت النبي يقول: [ يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة واحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ] وهذا قد استشهد به في صحيحه وقال حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله : [ يقول الله يوم القيامة يا أدم فيقول لبيك ربنا وسعديك: فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار قال يا رب ما بعث النار قال من كل ألف ] أراه قال تسعمائة وتسعة وتسعين فحينئذ تضع الحامل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد

وهذا الحديث رواه في صحيحه وقال حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش الضحى عن مسروق قال: من كان يحدثنا بهذه الآية لولا ابن مسعود سألناه حتى إذا فزع عن قلوبهم قال سمع أهل السموات صلصلة مثل صلصلة السلسلة على الصفوان فيخرون حتى إذا فزع عن قلوبهم سكن الصوت عرفوا أنه الوحي ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وقال حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا مسلم عن مسروق عن عبد الله بهذا وقال حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو سمعت أبا هريرة يقول إن نبي الله قال: [ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على الصفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ]: قال وقال الحكم بن أبان حدثني عكرمة عن ابن عباس: إذا قضى الله أمرا تكلم رجفت السموات والأرض والجبال وخرت الملائكة كلهم سجدا

حدثنا عمرو بن زرارة حدثنا زياد عن محمد بن إسحق حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب عن عبد الله بن عباس عن نفر من الأنصار أن رسول الله قال لهم [ ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمي به قال كنا يا رسول الله نقول حين رأيناها يرمي به قال كنا يا رسول الله نقول حين رأيناهاه يرمي بها مات ملك ولد مولود مات مولود فقال رسول الله : ليس ذلك كذلك ولكن الله إذا قضى في حقه أمرا يسمعه فيسبحون فيسبح من تحتهم بتسبيحهم فيسبح من تحت ذلك فلم يزل التسبيح يهبط حتى ينتهى إلى السماء الدنيا حتى يقول بعضهم لبعض لم سبحتم؟ فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا بتسبيحهم فيقولون أفلا تسألون من فوقكم مم سبحوا فيسألونهم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا الأمر الذي كان يهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثون به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم منهم واختلاف ثم يأتون به إلى الكهان من أهل الأرض فيحدثونهم فيخطئون ويصيبون فتحدث بهم الكهان ثم إن الله حجب الشياطين عن السماء بهذه النجوم وانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة ] قال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتاب نهاية العقول في دراية الأصول الذي زعم أنه أورد فيه من الدقائق ما لا يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين والموافقين

الأصل التاسع في كونه تعالى متكلما

وفيه أربعة فصول:

الفصل الأول في البحث عن محل النزاع

أجمع المسلمون على أن الله تعالى متكلم لكن المعتزلة زعموا أن المعنى بكونه متكلما أنه خلق هذه الحروف والأصوات في جسم ونحن نزعم أن كلام الله تعالى صفة حقيقة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأن ذاته تعالى موصوفة بتلك الصفة واعلم أن التحقيق أنه لا نزاع بيننا وبينهم في كونه متكلما بالمعنى الذي ذكروه لأن النزاع بيننا وبينهم إما في المعنى وإما في اللفظ أما في المعنى أن يقع في الصحة أو في الوقوع أما النزاع في الصحة فذلك غير ممكن لأنا توافقنا جميعا على أنه تعالى يصح منه إيجاد الحروف والأصوات أما في الوقوع فذلك عندنا غير ممكن لأنه تعالى موجود لجميع أفعال العباد ومنها هذه الحروف والأصوات فكيف يمكننا إنكار كونه موجدا لها على مذهبهم وهم يثبتون ذلك بالسمع ومعلوم أن الجزم بوقوع الجائزات التي لا تكون محسوسة لا يستفاد إلا من السمع فإذا كان المعنى بكونه متكلما عندهم أنه خلق هذه الحروف والأصوات ولم يثبتوا له من كونه تعالى خالقا صفة او حالة وحكما أزيد من كونه خالقا لها فقد تعين أنه يمكن منازعتهم في ذلك ثبت أنه لا نزاع بيننا وبينهم من جهة المعنى في كونه متكلما بالتفسير الذي قالوه

وأما النزاع من جهة اللفظ فهو أن يقال لا نسلم أن لفظة المتكلم في اللغة موضوعة لموجد الكلام والناس قد أطنبوا من الجانبين في هذا المقام وليس ذلك مما يستحق الإطناب لأنه بحث لغوي وينبغي أن يرجع فيه إلى الأدباء وليس هذا من المباحث العقلية في شيء وأقوى ما تمسك به أصحابنا في هذه المسألة اللفظية أمور أربعة:

أولها: إن أهل اللغة متى سمعوا من إنسان كلاما سموه متكلما مع أنهم لا يعلمون كونه فاعلا لذلك الكلام ولو كان المتكلم هو الفاعل للكلام لما أطلقوا اسم المتكلم عليه إلا بعد العلم بكون فاعلا

وثانيها: إن الاستقرار لما دل على أن الأسود هو الموصوف بالسواد وكذلك الأبيض والعالم والقادر وجب أن يكون المتكلم في اللغة هو من قام به الكلام

وثالثها: إن الله تعالى خلق الكلام في السماء والأرض حين قال: إثتيا طوعا أو كرها قلتا آتينا طائعين ثم إنه أضاف ذلك القول إليهما وأيضا فلو كان ذلك كلام الله تعالى لزم أن يكون الله تعالى متكلما بقوله: أتينا طائعين وذلك باطل وخطأ

ورابعها: إنه تعالى خلق الكلام في الذراع التي أكلها النبي قالت لا تأكل مني فإني مسمومة وذلك باطل واقوى ما تمسك به المعتزلة أن العرب يقولون: تكلم الجني على لسان المصروع فأضافوا الكلام القائم بالمصروع إلى الجني لاعتقادهم كون الجني فاعلا له فلولا اعتقادهم أن المتكلم والفاعل للكلام وإلا لما صح ذلك والجواب عنه يحتمل أن يكون ذلك مجازا وإن كان حقيقة فربما كان مرادهم أن ذلك الكلام هو كلام الجني حال كونه قريبا من لسان المصروع فهذا القدر كاف في البحث اللغوي الخالي عن الفوائد العقلية فهذا هو البحث عن كونه تعالى متكلما على مذهب المعتزلة فأما على مذهبنا فنحن نثبت لله تعالى كلاما مغايرا لهذه الحروف والأصوات وندعي قدم ذلك الكلام وللمعتزلة فيه ثلاث مقامات:

الأول: مطالبتهم إيانا بإفادة تصور ماهية هذا الكلام

الثاني: المطالبة بإقامة الدلالة على إتصافه تعالى بها

الثالث: المطالبة بإقامة الدلالة على كونه قديما فثبت أن الخلاف بيننا وبينهم ليس في كيفية الصفة فقط بل في وجه تصور ماهيتها أولا ثم في إثبات قدمها وهذا القدر لا بد من معرفته من أراد أن يكون كلامه في هذه المسألة ملخصا ونحو بعون الله تعالى نذكر دلالة وافية بالأمور الثلاثة:

الفصل الثاني في كونه متكلما وإثبات قدم كلامه

فالدليل حصول الاتفاق على أنه آمرنا مخبر لا يخلو إما أن يكون أمره ونهيه عبارة عن مجرد الألفاظ أو لا يكون كذلك والأول باطل لأن اللفظة الموضوعة للأمر قد كان من الجائز أن يضع اللفظة التي وضعها لأن إفادة معنى الأمر لإفادة معنى الخبر وبالعكس فإذن كون اللفظة المعنية أمرا أو نهيا أو خبرا إنما كان لدلالته على ماهية الطلب والزجر والحكم وهذه الماهيات ليست أمورا وصفية لأنا نعلم بالضرورة أن السواد لا ينقلب بياضا أو غيره وبالعكس وكذلك ماهية الطلب لا تنقلب ماهية الزجر ولا الزجر منها ماهية الحكم وإذا ثبت ذلك فنقول لما كان الله تعالى آمرا ناهيا مخبرا وثبت أن ذلك لا يتحقق إلا إذا كان الله موصوفا بطلب وزجر وحكم فهذه الأمور الثلاثة ظاهرا ليست عبارة عن العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والبقاء بل الذي يشتبه الحال فيه أما في الطلب والزجر فهي الإرادة والكراهية وأما في الحكم وهو العلم والأول باطل لما ثبت في خلق الأعمال وإرادة الكائنات أن الله تعالى قد يأمر بما لا يزيد وينهي عما يريد فموجب أن يكون معنى إفعل ولا تفعل في حق الله شيئا سوى الإرادة وذلك هو المعنى بالكلام والثاني باطل لأنه في الشاهد قد يحكم الإنسان بما لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه فإذن الحكم الذهني في الشاهد مغاير لهذه الأمور وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد الغائب قال فثبت أن أمر الله ونهيه وخبره صفات حقيقة قائمة بذاته مغايرة لذاته وعلمه وأن الألفاظ الواردة في الكتب المنزلة دليل عليها وإذا ثبت ذلك وجب القطع بقدمها لأن الأمة على قولين في هذه المسألة منهم من نفى كون الله موصوفا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى والمعنى من أثبت ذلك وكل من أثبته موصوفا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة فلو أثبت كونه تعالى موصوفا بهذه الصفات ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وهو باطل ثم أورد على نفسه أسئلة منها مما نعاه تارة في إثبات هذه المعاني لله وتارة في قدمها وقال ومنها لا يجوز أن يكون المرجع بالحكم الذي هو معنى الخبر إلى كونه عالما بذلك ولئن سلمنا كونه تعالى موصوفا بالأمر والنهي والخبر على الوجه الذي ذكرتموه لكن لم قلتم أن تلك المعاني قديمة بقولكم كل من أثبت هذه المعاني أثبتها قديمة قلت القول في إثباتها مسألة والقول في قدمها مسألة أخرى فلو لزم من ثبوت إحدى المسألتين ثبوت المسألة الأخرى لزم من إثبات كونه تعالى عالما بعلم قديم إثبات كونه تعالى متكلما بكلام قديم وغذا كان ذلك باطلا فكذا ما ذكرتموه ثم لئن سلمنا أن هذا النوع من الإجماع يقتضي قدم كلام الله لكنه معارض بنوع آخر من الإجماع وهو أن أحدا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقا للإجماع ثم ذكر معارضات المخالف بوجوه عقلية ونقلية تسعة وقال في الجواب قوله سلمنا أن خبر الله دليل على أن الله حكم بنسبة أمر إلى أمر لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الحكم هو العلم قلنا هذا باطل لوجهين:

أما أولا: فلأن القائل في هذه المسألة قائلان قائل يقول نثبت لله تعالى خبرا قديما ونثبت كونه مغايرا للعلم وقائل لا نثبت له خبرا قديما أصلا فلو قلنا إن الله له خبر قديم ثم قلنا إنه هو العلم كان ذلك خرقا للإجماع

وأما ثانيا: فلأنا بينا في أول الاستدلال أن فائدة الخبر في الشاهد ليست هي الظن والعلم والاعتقاد وإذا بطل ذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك لانعقاد الإجماع على أن فائدة الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب قوله سلمنا ثبوت هذه الألفاظ لله فلم قلتم أنها قديمة قلنا للإجماع المذكور قوله لو لزم من القول بإثبات هذه الصفة لله إثبات قدمها لأن كل من قال بالأول قال بالثاني لزم من القول بإثبات العلم القديم إثبات الكلام القديم لأن كل من قال بالأول قال بالثاني قلنا الفرق بين الموضعين مذكور في المحصول في علم الأصول فإن المعتزلة يساعدونا على الفرق بين الموضعين فلا يكون قوله إثبات قدم كلام الله بهذه الطريق على خلاف الإجماع قلنا قد بينا في كتاب المحصول أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقا للإجماع وقال في الجواب عن المعارضة وأما المعارضة الخامسة وما بعدها من الوجوه السمعية فالجواب عنها حرف واحد وهو أنا لا ننازع في إطلاق لفظ القرآن وكلام الله على هذه الحروف والأصوات وما ذكروه من الأدلة فهو إنما يفيد حدوث القرآن بهذا التفسير وذلك متفق عليه وإنما نحن بعد ذلك ندعي صفة قائمة بذات الله تعالى وندعي قدمها

وقد بينا أن تلك الصفة يستحيل وصفها بكونها عربية وعجمية ومحكمة ومتشابهة لأن لك ذلك من صفات الكلام الذي حالوا إثبات حدوثه فنحن لا ننازعهم في حدوثه والكلام الذي ندعي قدمه لا يجري فيه ما ذكروه من الأدلة ثم قال في الأصل العاشر الذي هو في الكلام على بقية الصفات في القسم الثالث منه

الفصل الثالث: في بيان أن كلام الله واحد

المشهور اتفاق الأصحاب على ذلك وقد نقل أبو القاسم الأسفرائيني منا عن بعض قدماء أصحابنا أنهم أثبتوا لله خمس كلمات الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء قال واعلم أن هذه المسألة إما أن يتكلم فيها مع القول بنفي الحال أو مع القول بإثباته فإنه كان الأول ضعفت المسألة جدا لأن وجودي كل شيء عين حقيقته فإذا كانت حقيقة الطلب مخالفة لحقيقة الخبر كان وجود الطلب مخالفا لوجود الخبر أيضا إذ لو اتحدا في الموجود مع اختلافهما في الحقيقة كان الوجود غير الحقيقة وذلك يقتضي إثبات الأحوال لا يقال لا نسلم أن يكون الكلام خبرا وطلبا حقائق مختلفة بل حقيقة الكلام هو الخبر ألا ترى أن من طلب من غيره فعلا أو تركا فقد أخبر ذلك الغير بأنه لو لم يفعله لعاقبه أو بأنه يجب على العاقل الإحلال ومن استفهم فقد أخبر أنه يطلب منه الإفهام وإذا صار الكلام كله خبرا زال الإشكال لأنا نقول ليس هذا شيء لأنه حقيقة الطلب مغايرة لحقيقة حكم الذهن بنسبة أمر إلى وتلك المغايرة معلومة بالضرورة ولهذا يتطرق التصديق والتكذيب إلى أحدهما دون الآخر قال وإن تكلمنا على القول بالحال فيجب أن ينظر في أن الحقائق الكثيرة هل يجوز أن تتصف بوجود واحد أم لا فإن قلنا بجواز ذلك فحينئذ يجوز أن تكون الصفة الواحدة حقائق مختلفة وإلا بطل القول بذلك: وأنا إلى الآن لم يتضح لي فيه دليل لا نفيا ولا إثباتا والذي يقال في امتناعه أنا لو قدرنا شيئا واحدا له يكون له حقيقتان فإذا طرأ عليهما ما يضاد إحدى الحقيقتين لزم أن نقدم تلك الصفة من أحد الوجهين ولا نقدم من الوجه الآخر قال وهذا ليش بشيء لأنا حكينا عن المعتزلة استدلالهم بمثل هذا الكلام على أن صفات الأجناس لا تقع بالفاعل ثم زيفنا ذلك من وجوه عديدة وتلك الوجوه بأسرها عائدة ههنا فهذا هو الكلام على من استدل على امتناع أن يكون الكلام الواحد أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا معا وأما الذي يدل على أن الأمر كذلك فلا يمكن أن نعول فيه على الإجماع من الحكاية التي ذكرها أبو إسحق الاسفرائيني ولم نجد لهم نصا ولا يمكن أن يقال فيه دلالة عقلية فبقيت المسألة بلا دليل وإنما قال لا يمكن التعويل فيها على الإجماع لأن الذي اعتمد عليه في أن علم الله واحد ما نقله عن القاضي أبي بكر أنه عول فيها على الإجماع فقال القائل قائلان قائل يقول الله عالم بالعمل قادر بالقدرة وقائل يقول الله ليس بعالم بالعلم ولا قادرا بالقدرة وكل من قال بالقول الأول قال إنه عالم بعلم واحد قادر بقدرة واحدة فلو قلنا أنه عالم بعلمين أو أكثر كان كذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وهو باطل وقد ذكر عن أبي سهل الصعلوكي أنه قال إنه عالم بعلوم غير متناهية لكن قال هو مسبوق بهذا الإجماع

قلت وهذا الكلام فيه أمور يتبين بها من الهدي لمن يهديه الله ما ينتفع به

أحدها: إنه لم يعتمد في كون كلام الله قديما على حجة عقلية ولا على كتاب ولا سنة ولا كلام أحد من السلف والأئمة بل ادعى فيها الإجماع قال لأن الأمة في هذه المسألة على قولين منهم من نفى كون الله موصوفا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى ومنهم من أثبت ذلك وكل من أثبته موصوفا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة فلو أثبتنا كونه موصوفا بهذه الصفات ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع يقال له ليس كل من أثبت اتصافه وأنه يقوم به معنى الأمر والنهي والخبر يقول بقدمه بل كثير من هؤلاء لا يقول بقدمه فمن أهل الكلام كالشيعة والكرامية وغيرهم وأما من أهل الحديث والفقهاء فطوائف كثيرة وهذا مشهور في الكتب الحديثية والكلامية وليس له أن يقول هؤلاء يقولون أنه يقوم به حروف ليست قديمة لكن لا يقولون أنه يقوم به معان ليست قديمة لأن أقوالهم المنقولة تنظق بالأمرين جميعا

الوجه الثاني: إن أحدا من السلف والأئمة لم يقل إن القرآن قديم انه لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولكن اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق والمخلوق عندهم ما خلقه الله من الأعيان والصفات القائمة بها والذين قالوا هو مخلوق قالوا إنه خلقه في جسم كما نقله عنهم فقال السلف: إن ذلك يستلزم أن لا يكون الله متكلما وأن الكلام كلام ذلك الجسم المخلوق فتكون الشجرة هي القائلة لموسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ولهذا صرحوا بخطأ من يقول إن ذلك مخلوق لأن عندهم من المعلوم بالفطرة شرعا وعقلا ولغة أن المتكلم بهذا هو الذي يقوم به وربما قد يقولون إنه لم يكن متكلما حتى خلق الكلام فصار متكلما بعد أن كان عاجزا عن الكلام فتوهم هؤلاء أن السلف عنوا بقولهم القرآن كلام الله غير مخلوق أنه معنى واحد قديم كتوهم من توهم من المعتزلة والرافضة أنهم عنوا به أنه غير مفتر مكذوب كما ذكره هو في هذه المسألة فقال الحجة الرابعة لهم من السمعيات ما روى أبو الحسين البصري في الغرر عن النبي أنه قال: [ ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي ] وروى عنه عليه السلام أنه كان يقول في دعائه: [ يا رب طه ويسن ويا رب القرآن العظيم ] قال ولا يقال هذا معراض بمبالغة السلف من الامتناع عن القول بخلق القرآن لأنا نقول بحمل ذلك على الامتناع من إطلاق هذا اللفظ لأن لفظ الخلق قد يستعمل في الافتراء ضرورة التوفيق بين الروايات

قلت: وجواب هذه الحجة سهل فإنه لا خلاف بين أهل العلم بالحديث أن هذين الحديثين كذب على رسول الله وأهل الحديث يعلمون أن ذلك مفتر عليه بالضرورة كما يعلمون ذلك في أشياء كثيرة من الموضوعات عليه ويكتفي أن نقل ذلك عن رسول الله لا يوجد في شيء من كتب الحديث ولا في شيء من كتب المسلمين أصلا بإسناد معروف بل الذي رووه في كتب أهل الحديث بالإسناد المعروف عن ابن عباس أنه أنكر على من قال ذلك فروى من غير وجه عن عمران بن جدير عن عكرمة قال صليت مع ابن عباس على رجل فلما دفن قام رجل فقال يا رب القرآن اغفر له فوثب إليه ابن عباس فقال مه إن القرآن منه وفي رواية القرآن كلام الله ليس بمربوب منه خرج وإليه يعود فهذا الأثر المأثور عن ابن عباس هو ضد ما رواه

وأما ما رووه فلا يؤثر عن النبي ولا عن أحد من الصحابة ولا التابعين أصلا وكذلك الحديث الآخر وهو قوله ما خلق الله من سماء ولا أرض فإن هذا لا يؤثر عن النبي أصلا ولكن يؤثر عن ابن مسعود نفسه وقد ثبت عن ابن مسعود بنقل العدول أنه قال من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع وقد اتفق المسلمون على أن الكفارة لا تجب بما يخلقه في الأجسام فعلم أن القرآن كان عند ابن مسعود صفة لله لا مخلوقا له وإن معنى ذلك الأثر أنه ليس في الموجودات المخلوقة ما هو أفضل من آية الكرسي لأنها هي مخلوقة كما يقال الله أكبر من كل شيء وإن كان ذلك الكبير مخلوقا والله تعالى ليس بمخلوق وبذلك فسر الأئمة قول ابن مسعود ذكر الخلال في كتاب السنة عن سفيان ابن عيينة أنه ذكر هذا الحديث الذي يروي ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جبل أعظم من آية الكرسي قال ابن عيينة هو هكذا ما خلق الله من شيء إلا وآية الكرسي أعظم مما خلق

وروى الخلال عن أبي عبيد قال: وقد قال رجل ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي أفليس يدلك على أن هذا مخلوق قال أبو عبيد: إنما قال ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي فأخبر الله أن السماء والأرض أعظم من خلقه وأخبر أن آية الكرسي التي هي من صفاته أعظم من هذا العظيم المخلوق

وروي عن أحمد بن القاسم قال قال أبو عبد الله هذا الحديث ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا كذا أعظم فقلت لهم إن الخلق ههنا وقع على السماء والأرض وهذه الأشياء لا على القرآن لأن قال: ما خلق الله من سماء ولا أرض فلم يذكر خلق القرآن ههنا وقال البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال الحميدي حدثنا سفيان حدثنا حصين عن مسلم بن صبيح عن تستر بن شكل عن عبد الله قال ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا جنة ولا نار أعظم من: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }

قال سفيان تفسيره إن كل شيء مخلوق والقرآن ليس بمخلوق وكلامه أعظم من خلقه لأنه إنما يقول للشيء كن فيكون فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق والقرآن كلام الله

وأما تأويلهم أن السلف امتنعوا من لفظ الخلق لدلالته على الافتراء فألفاظ السلف منقولة عنهم بالتواتر عن نحو خمسمائة من السلف كلها تصرح بأنهم أنكروا الخلق الذي تعنيه الجهمية من كونه مصنوعا في بعض الأجسام كما أنهم سألوا جعفر بن محمد عن القرآن هل هو خالق أو هو مخلوق فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله ومثل قول علي رضي الله عنه لما قيل له حكمت مخلوقا فقال ماحكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن وأمثال ذلك مما يطول ذكره والمقصود هنا أن السلف اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق وهذا الذي أجمع عليه السلف ليس معناه ما قالته المعتزلة ولا ما قالته الكلابية وهذا الرزاي أدعى الإجماع وإجماع السلف ينافي ما ادعاه من الإجماع فإن أحدا من السلف لم يقل هذا ولا فضلا عن أن يكون إجماعا ويكفي أن يكون اعتصامه في هذا الأصل العظيم بدعوى إجماع والإجماع المحقق على خلافه فلو كان فيه خلاف لم تصح الحجة فكيف إذا كان الإجماع المحقق السلفي على خلافه

الوجه الثالث: إن الرجل قد أقر أنه لا نزاع بينهم وبين المعتزلة من جهة المعنى في خلق الكلام بالمعنى الذي يقوله المعتزلة وإنما النزاع لفظي حيث أن المعتزلة سمت ذلك المخلوق كلام الله وهم لم يسموه كلام الله ومن المعلوم بالإضطرار أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم لما ابتدعت القول بأن القرآن مخلوق أو بأن كلام الله مخلوق أنكر ذلك عليهم سلف الأمة وأئمتها وقالوا القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود فلو كان ما وصفته المعتزلة بأنه مخلوق هو مخلوق عندهم أيضا وإنما خالفوهم في تسمية كلام الله أو في إطلاق اللفط لم تحصل هذه المخالفة العظيمة والتكفير العظيم بمجرد نزاع لفظي كما قال هو إن الأمر في ذلك يسير وليس هو مما يستحق الأطناب لأنه بحث لغوي وليس هو من الأمور المعقولة المعنوية فإذا كانت المعتزلة فيما أطلقته لم تنازع إلا في بحث لغوي لم يجب تكفيرهم وتضليلهم وهجرانهم بذلك كما أنه هو وأصحابه لا يضللونهم في تأويل ذلك وإن نازعوهم في لفظه ومجرد النزاع اللفظي لا يكون كفرا ولا ضلالا في الدين

الوجه الرابع: إنه قد استخف بالبحث في مسمى المتكلم وقال إنه ليس مما يستحق الأطناب لأنه بحث لغوي وهذا غاية الجهل بأصل هذه المسألة وذلك أن هذه المسألة هي سمعية كما قد ذكر هو ذلك فإنه إنما أثبت ذلك بالنقل المتواتر عن الأنبياء عليهم السلام أن الله يتكلم ولهذا لما قال له المنازع إثبات كونه متكلما آمرا ناهيا مخبرا بالإجماع لا يصح لتنازعهم لا يصح لتنازعهم في معنى الكلام ( أجاب ) بأنها نثبتها بالنقل المتواتر عن الأنبياء عليهم السلام أنهم كانوا يقولو إن الله أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا وقال وتكلم بكذا وبأنا نثبتها أيضا بالإجماع كما قرروه وإذا كان أصل هذه المسألة هو الإستدلال بالنقل المتواتر وبالإجماع على أن الله متكلم آمرناه كان العلم بمعنى المتكلم الآمر الناهي هل هو الذي قام به الكلام كالأمر والنهي والخبر أو هو من فعله ولو في غيره هو أحد مقدمتي دليل المسألة التي لا تتم إلا به فإنه إذا جاز أن يكون القائل الآمر الناهي المخبر لم يقم به كلام ولا أمر ولا نهي ولا خبر بطلت حجة أهل الاثبات في المسألة من كل وجه فالأطناب في هذا الأصل هو أهم ما في هذه المسألة بل ليس في المسألة أصل أهم من هذا وبهذا الأصل كفر الأئمة لأنهم علموا أن المتكلم هو الذي يقوم به الكلام وأن ذلك معلوم بالضرورة من الشرع والعقل واللغة عند الخاصة والعامة وليس هذا بحثا لفظيا لغويا كما زعمه بل هو بحث عقلي معنوي شرعي مع كونه أيضا لغويا كما نذكره في

الوجه الخامس: وذلك أن كون المتكلم هو الذي يقوم به الكلام أو لا يقوم به الكلام وكون الحي يكون متكلما بكلام يقوم بغيره هو مثله كونه حيا عالما قادرا وسميعا وبصيرا ومريدا بصفات تقوم بغيره وكون الحي العليم القدير لا تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة وهذه كلها بحوث معقولة معنوية لا تخص بلغة بل تشترك فيها الأمم كلهم وهي أيضا داخلة فيما أخبرت به الرسل عن الله فإن ثبوت حكم الصفة للمحل الذي تقوم به السفة أو لغيره أمر معقول يعلم بالعقل فعلم أنه مقام عقلي وهو مقام له سمعي ولهذا يبحث معهم في سائر الصفات كالعلم والقدرة بأن الحي لا يكون عليما قديرا إلا بما يقوم به من الحياة والعلم

الوجه السادس: إنه لولا ثبوت هذه المقام لما أمكنه أن يثبت قيام معنى الأمر والنهي والخبر لأنه قرر بالإجماع أن الله آمر وناه ومخبر وأن ذلك ليس هو اللفظ بل هو معنى هو الطلب والزجر والحكم وهذه المعاني سواء كانت هي الإرادة والعلم أو غير ذلك يقال له لا نسلم أنها قائمة بذات الله إن لم يثبت أن الآمر الناهي المخبر هو من قام به معنى الأمر والنهي والخبر بل يمكن أن يقال فيها ما يقوله المعتزلة في الإرادة والعلم أما أن يقولوا يقوم بغير محل أو يقولوا كونه آمرا ومخبرا مثل كونه عالما وذلك حال أو صفة فإنه إذا جاز أن يكون الآمر والمخبر لم يقم به خبر ولا أمر لم يمكنه ثبوت هذه المعاني قائمة بذات الله بل يقال له هب أن لها معاني وراء الألفاظ وراء هذه لكن لم قلت أن الآمر الناهي هو من قام به تلك المعاني دون أن يكون من فعل تلك المعاني

الوجه السابع: إنه عدل عن الطريقة المشهورة لأصحابه في هذا الأصل فإنهم يثبتون أن المتكلم من قام به الكلام وأن معنى الكلام هو الطلب والزجر والحكم ثم يقولون: ولا يجوز أن يكون ذلك حادثا في غيره لا في ذاته لأن ذاته لا تكون محلا للحوادث وبذلك أثبتوا قدم الكلام فقالوا لو كان محدثا لكان أما أن يحدثه في نفسه فيكون محلا للحوادث وهو محال أو غيره فيكون كلاما لذلك المحل أو لا في محل فيلزم قيام الصفة بنفسها وهو محال وإنما عدل عنها لأنه قد بين أنه لم يقم دليل على أن قيام الحوادث به محال بل ذلك لازم لجميع الطوائف ومن المعلوم أنه إذا جوز قيام الحوادث به بطل قول أصحابه في هذه المسألة وامتنع أن يقال هو قديم لأنه إذا ثبت أن المتكلم هو من قام به الكلام أو أثبت أن الله آمرنا مخبر بمعنى يقوم به لا بغيره فإذا جاز أن يكون حادثا ويكون صفة لله كما يقوله من يقول إن الله يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء كما يقوله جماهير أهل الحديث والفقهاء وطوائف من أهل الكلام المراجئة والشيعة والكرامية وغيرهم لم يجز أن يحكم بقدمه بلا دليل إلا كما يقوله من يقول من أئمة السنة إن الله لم يزل متكلما إذا شاء فيريدون أنه لم يزل متصفا بأنه متكلم إذا شاء وهو لا يقول بذلك فتبين أن الأصل الذي قرره يبطل قول المعتزلة وقول أصحابه ولا ينفع حينئذ احتجاجه باجتماع هاتين الطائفتين إذ ليس ذلك إجماع الأمة

الوجه الثامن: إنه لما عارض الاجماع الذي ادعاه بنوع آخر من الاجماع وهو أن أحدا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقا للاجماع أجاب بأنا قد بينا في كتاب المحصول أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقا للاجماع فيقال له هذا إذا كان قد استدل بدليل آخر متضمنا إلى دليل أهل الإجماع فإن ذلك لا يستلزم تخطئة أهل الإجماع وأما إذا بطل معتمد أهل الإجماع ودليلهم وذكر دليلا آخر كان هذا تخطئة منه لأهل الاجماع والأمر هنا كذلك لأن الذين قالوا بقدمها إنما قولوا ذلك لامتناع قيام الحوادث به عندهم والذين قالوا بخلقها قالوا ذلك لامتناع قيام الصفات به وعنده كلا الحجتين باطلة وهو احتج باجماع الطائفتين وقد أقر بأن حجة كل منهما باطلة فلزم إجماعهم على باطل

الوجه التاسع: إنه إذا لم يكن في المسألة دليل قطعي سوى ما ذكره ولم يستدل به أحد قبله لم يكن أحد قد علم الحق في هذه المسألة قبله وذلك حكم على الأمة قبله بعدم علم الحق في هذه المسألة وذلك يستلزم أمرين أحدهما إجماع الأمة على ضلالة في هذا الأصل والثاني عدم صحة احتجاج بإجماعهم الذي احتج به فإنهم إذا قالوا بلا علم ولا دليل لزم هذا المحذوران

الوجه العاشر: إن هذا إجماع مركب كالاستدلال على قدم الكلام بقدم العلم وتفريقه بينهما فرق صوري وقوله للمعتزلة نسلم ذلك ليس كذلك وذلك أن الأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث والمعتزلة توافق على ذلك وقد اعتقد هو أن هذه المسألة من ذلك وإذا اختلفت في مسألتين على قولين فهل يجوز لمن بعدهم أن يقول بقول طائفة في مسألة وبقول طائفة أخرى في مسألة أخرى بناء على المنع في الأول على قولين وقيل بالتفصيل وهو أنه اتحد مأخذهما لم يجز الفرق وإلا جاز وقيل أن صرح أهل الإجماع بالتسوية لم يجز الفرق وإلا جاز وإذا كان كذلك فهذه المسألة من هذا القسم فإن النزاع في مسألة الكلام في مسائل كل واحد غير مستلزمة للأخرى

إحداهن: إن الكلام هل هو قائم به أم لا

والثانية: الكلام هل هو الحروف والأصوات أو المعاني أو مجموعهما

والثالثة: إن القائم هل يجب أن يكون لازما له قديما أو يتكلم إذا شاء

والرابعة: إن المعاني هل هي من جنس العلم والإرادة أو جنس آخر

الخامسة: إن المعاني هل هي معنى واحد أو خمس معان أو معان كثيرة وهذا كله فيه نزاع فكيف يعتقد أن هذا هو اختلاف الأمة في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث ومما يوضح ذلك أنه أثبت بالدليل أن معنى الكلام الطلب والزجر والحكم ثم احتج بقول الذين قالوا على هذا على أن هذه المعاني قديمة لكونهم قالوا بهذا وبهذا وهذا بعينه احتجاج بالإجماع المركب وهو لزوم موافقتهم في مسألة قد قام عليها الدليل لموافقتهم في مسألة لم يقم عليها دليل وأولئك قالوا هو محدث وليس هو هذه المعاني فلم لا يجوز أن يوافق هؤلاء في الحروف وهؤلاء في هذا المعاني وهو في بنائه خاصة مذهب الأشعري على هذا الأصل بمنزلة الرافضة في بنائهم لإمامة علي التي هي خاصة مذهبهم على نظر هذا الأصل ومعلوم أن خاصة مذهب الأشعري وابن كلاب التي تميز بها هو ما ادعاه من أن كلام الله معنى واحد قديم قائم بنفسه إذا ما سوى ذلك من المقالات في الأصول هما مسبوقان إليه إما من أهل الحديث وإمام من أهل الكلام كما أن خاصة مذهب الرافضة الإمامية من الإنثى عشرية ونحوهم هو إثبات الإمام المعصوم وادعاء ثبوت إمامة علي بالنص عليه ثم على غيره واحدا بعد واحد وهم وإن كانوا يدعون في ذلك نقلا متوترا بينهم فقد علموا أن جميع الأمة تنكر ذلك وتقول أنها تعلم بالضرورة وبأدلة كثيرة بطلان ما ادعوه من النقل وبطلانه كونه صحيحا من جهة الآحاد فضلا عن التواتر

وقد علم متكلمو الإمامية أنه لا يقوم على أحد حجة بما يدعونه من التواتر والإجماع فإن الشيء إذا يتواتر عند غيرهم لم يلزمهم اتباعه وإجماعهم الذي يسمونه إجماع الطائفة المحقة لا يصح حتى يثبت أنهم الطائفة المحقة وذلك فرع ثبوت المعصوم وهم يجعلون من أصول دينهم الذي لا يكون الرجل مؤمنا إلا به هو الإقرار بالإمام المعصوم المنتظر ويضم إلى ذلك جمهور متأخرين الموافقين للمعتزلة التوحيد والعدل الذي ابتدعه المعتزلة فهذه ثلاثة أصول مبتدعة والأصل الرابع هو الإقرار بنبوة محمد وهذا هو الذي وافقه فيه المسلمين والغرض هنا بيان أن هذه الحجة نظير حجة الرافضة فإنهم يقولون يجب على الله أن ينصب في كل وقت إماما معصوما لأنه لطف في التكليف واللطف على الله واجب ويحتجون على ذلك بأقيسة يذكرونها

كما ثبت هذا ونحوه أن الكلام معنى مباين للعمل والإرادة بأقيسة يذكرونها فإذا زعموا أنهم أثبتوا ذلك بالقياس العقلي ويقولون إن المعصوم يجب أن يكون معلوما بالنص إذ لا طريق إلى العلم بالعصمة إلا النص ثم يقولون ولا منصوص عليه بعد النبي لزم إجماع الأمة على الباطل إذا القائل قائلان قائل بأنه منصوص عليه وقائل بأنه لا نص عليه ولا على غيره وهذا القول باطل فيما زعموا بما يذكرونه من وجوب النص عقلا فيتعين صحة القول الأول وهو أنه هو المنصوص عليه لأن الأمة إذا اجتمعت في مسألة على قولين كان أحدهما هو الحق ولم يكن الحق في ثالث فهذا نظير حجته

ولهذا لما تكلمنا على بطلان هذه الحجة لما خاطبت الرافضة وكتبت في ذلك ما يظهر به المقصود وأبطلنا ما ذكروه من الدلالة على وجوب معصوم وبينت تناقض هذا الاصل وامتناع توقف التكليف عليه وأنه يفضي إلى تكليف ما لا يطلق وخاطبت بذلك أفضل من رأيته منهم واعترف بصحة ذلك وبالأنصاف في مخاطبته وليس هذا موضع ذلك لكن المقصود والاحتجاج بالإجماع فإنا قلنا لهم لا نسلم أن أحدا من الأمة لم يدع النص على غير علي بل طوائف من أهل السنة يقولون أن خلافة أبي بكر ثبتت بالنص ثم منهم يقول بنص جلي ومنهم من يقول بنص خفي وأيضا فالرواندية تدعي النص على العباس وأيضا فالمدعون للنص علي مختلفون في أن يقال النص عنه في ولده اختلافا كثيرا فلا يمكن أن يقال إنه لم يدع أحد النص على واحد بعد واحد إلا ما ادعوه في المنتظر بل إخوانهم الشيعة يدعون دعاوي مثل دعاويهم لغير المنتظر فبطل الأصل الذي بنوا عليه إمامة المعصوم الذي يجب على أهل العصر طاعته ولو فرض أن عليا كان هو الإمام فإنه لا يجب علينا طاعة من قد مات بعينه إلا الرسول وإنما المتعلق بنا ما يدعونه من وجوب طاعتنا لهذا الحي المعصوم ولو فرض أنه لم يدع النص غيرهم فهذه الحيلة التي سلكوها في تقرير النص على علي مبنية على كذب افتروه وقياس وضعوه لنفاق ذلك الكذب فإنهم افتروا النص ثم زعموا أن ما ابتدعوه وافتروه عن العباس مع ما ادعوه من الاجماع يقتضي ثبوت هذا الذي افتروه كما أن هؤلاء ابتدعوا مقالة افتروها في كلام الله لم يسبقوا إليها ثم ادعوا أن ما ابتدعوه وافتروه عن القياس مع ما ادعوه من الاجماع يحقق هذه الفرية وعامة أصول أهل البدع والأهواء الخارجين عن الكتاب والسنة تجدها مبنية على ذلك على أنواع من القياس الذي وضعوه وهو مثل ضربوه يعارضون به ما جاءت به الرسل ونوع من الاجماع الذي يدعونه فيركبون من ذلك القياس العقلي ومن هذا الإجماع السمعي أصل دينهم

ولهذا تجد أبا المعالي وهو أحد المتأخرين إنما يعتمد فيما يدعيه من القواطع على نحو ذلك وهكذا أئمة أهل الكلام في الأهواء كأبي الحسن البصري ومشايخهم ونحوهم لا يعتمدون لا على كتاب ولا على سنة ولا على إجماع مقبول في كثير من المواضع بل يفارقون أهل الجماعة ذات الإجماع المعلوم بما يدعونه هم من الإجماع المركب كما يخالفون صرائح المعقول بما يدعونه من المعقول وكما يخالفون الكتاب والسنة اللذين هما أصل الدين بما يضعونه من أصول الدين


الفتاوى الكبرى لابن تيمية
كتاب السنة والبدعة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطهارة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | كتاب الصلاة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | كتاب الذكر والدعاء | 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب الصيام: 1 | 2 | 3 | كتاب الجنائز: 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب النكاح: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطلاق: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | كتاب النفقات | كتاب الحدود: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الجهاد: 1 | 2 | كتاب البيوع: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الشهادة والأقضية والأموال: 1 | 2 | كتاب الوقف: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | كتاب الوصايا | كتاب الفرائض | كتاب الفضائل: 1 | 2 | كتاب الملاهي | مسائل منثورة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | كتاب الطهارة2 | كتاب الصلاة2: 1 | 2 | كتاب الجنائز2 | كتاب الزكاة2 | كتاب الصوم2 | كتاب الحج | كتاب البيع: 1 | 2 | كتاب الوصية | كتاب الفرائض | كتاب العتق | كتاب النكاح2: 1 | 2 | كتاب الخلع | كتاب الطلاق2 | كتاب الرجعة | كتاب الظهار | كتاب الجنايات | كتاب الأطعمة | كتاب الأيمان | باب القضاء | كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل | كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة: 1 |2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16