الفتاوى الكبرى/كتاب الطلاق/4

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

9 - 546 - مسألة: سئل الشيخ رحمه الله تعالى أيضا عن الفرق بين الطلاق الحلال والطلاق الحرام؟ وعن الطلاق الحرام هل هو لازم أو ليس بلازم؟ وعن الفرق بين الخلع والطلاق؟ وعن حكم الحلف بلفظ الحرام هل هو طلاق أم لا؟ وعن بسط الحكم في ذلك؟

فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: الطلاق منه ما هو محرم بالكتاب والسنة والاجماع ومنه ما ليس بمحرم

فالطلاق المباح باتفاق العلماء هو أن يطلق الرجل امرأته طلقة واحدة إذا طهرت من حيضتها بعد أن تغتسل وقبل أن يطأها ثم يدعها فلا يطقها حتى تنقضي عدتها وهذا الطلاق يسمى طلاق السنة فإن أراد أن يرتجعها في العدة فله ذلك بدون رضاها ولا رضا وليها ولا مهر جديد وإن تركها حتى تقضي العدة فعليه أن يسرحها بإحسان فقد بانت منه

فإن أراد أن يتزوجها بعد إنقضاء العدة جاز له ذلك لكن يكون بعقد كما لو تزوجها ابتداء أو تزوجها غيره ثم ارتجعها في العدة أو تزوجها بعد العدة وأراد أن يطلقها فإن يطلقها كما تقدم ثم إذا ارتجعها أو تزوجها مرة ثانية وأراد أن يطلقها فإنه يطلقها كما تقدم فإذا طلقها الطلقة الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره كما حرم الله ذلك ورسوله وحينئذ فلا تباح له إلا بعد أن يتزوجها غيره النكاح المعروف الذي يفعله الناس إذا كان الرجل راغبا في نكاح المرأة ثم يفارقها

فأما إن تزوجها بقصد أن يحلها لغيره فإنه محرم عند أكثر العلماء كما نقل عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم وكما دلت على ذلك النصوص النبوية والأدلة الشرعية ومن العلماء من رخص في ذلك كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع

وإن كانت المرأة مما لا تحيض لصغرها أو كبرها فإنه يطلقها متى شاء سواء كان وطئها أو لم يكن يطؤها فإن هذه عدتها ثلاثة أشهر ففي أي وقت طلقها لعدتها فإنها لا تعتد بقروء ولا بحمل لكن من العلماء من يسمي هذا طلاق السنة ومنهم من لا يسميه طلاق سنة ولا بدعة

وإن طلقها في الحيض أو طلقها بعد أو وطئها وقبل أن يتبين حملها: فهذا الطلاق محرم ويسمى طلاق البدعة وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع وإن كان قد تبين حملها وأراد أن يطلقها: فله أن يطلقها وهل يسمى هذا الطلاق سنة؟ أو لا يسمى طلاق سنة ولا بدعة؟ فيه نزاع لفظي

وهذا الطلاق المحرم في الحيض وبعد الوطء وقبل تبين الحمل هل يقع؟ أو لا يقع؟ سواء كانت واحدة أو ثلاثا فيه قولان معروفان للسلف والخلف

وإن طلقها ثلاثا في طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا أو أنت طالق وطالق وطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق أو يقول: أنت طالق ثم يقول: أنت طالق ثم يقول: أنت طالق أو يقول: أنت طالق ثلاثا أو عشر طلقات أو مائة طلقة أو ألف طلقة ونحو ذلك من العبارات فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها ومن السلف من فرق بين المدخول بها وغير المدخول بها وفيه قول رابع محدث مبتدع:

أحدها: أنه طلاق مباح لازم وهو قول الشافعي وأحمد في الروية القديمة عنه: اختارها الخرقي

الثاني: أنه طلاق محرم لازم وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في الرواية المتأخرة عنه اختارها أكثر أصحابه وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين والذي قبله منقول عن بعضهم

الثالث: أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله علي وسلم مثل الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم مثل طاووس وخلاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق وهو قول داود وأكثر أصحابه ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل

وأما القول الرابع: الذي قاله بعض المعتزلة والشيعة: فلا يعرف عن أحد من السلف وهو أن لا يلزمه شيء

والقول الثالث: هو الذي عليه الكتاب والسنة: فإن كل طلاق شرعه الله في القرآن في المدخول بها إنما هو الطلاق الرجعي لم يشرع الله لأحد أن يطلق الثلاث جميعا ولم يشرع له أن يطلق المدخول بها طلاقا باينا ولكن إذا طلقها قبل الدخول بها بانت منه فإذا انقضت عدتها بانت منه

فالطلاق ثلاثة أنواع باتفاق المسلمين:

الطلاق الرجعي: وهو الذي يمكنه أن يرتجعها فيه بغير اختيارها وإذا مات أحدهما في العدة ورثه الآخر

والطلاق البائن: وهو ما يبقى به خاطبا من الخطاب لا تباح له إلا بعقد جديد

والطلاق المحرم لها: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وهو فيما إذا طلقها ثلاث تطليقات كما أذن الله ورسوله وهو: أن يطلقها ثم يرتجعها في العدة أو يتزوجها ثم يطلقها ثم يرتجعها أو يتزوجها ثم يطلقها الطلقة الثالثة فهذا الطلاق المحرم لها حتى تنكح زوجا غيره باتفاق العلماء وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله في المدخول بها طلاق بائن يحسب من الثلاث

ولهذا كان مذهب فقهاء الحديث كالإمام أحمد في ظاهر مذهبه والشافعي في أحد وقوليه وإسحاق بن راهوية وأبي ثور وابن المنذر وداود وابن خزيمة وغيرهم: أن ( الخلع ) فسخ للنكاح وفرقة بائنة بين الزوجين لا يحسب من الثلاث وهذا هو الثابت عن الصحابة: كابن عباس وكذلك ثبت عن عثمان بن عفان وابن عباس وغيرهما: أن المختلعة ليس عليها أن تعتد بثلاثة قروء وإنما عليها أن تعتد بحيضة وهو قول إسحاق بن راهوية وابن المنذر وغيرهما وهو إحدى الروايتين عن أحمد

وروي في ذلك أحاديث معروفة في السنن عن النبي يصدق بعضها بعضا وبين أن ذلك ثابت عن النبي وقال: روى عن طائفة من الصحابة أنهم جعلوا الخلع طلاقا لكن ضعفه أئمة الحديث كالإمام أحمد بن حنبل وابن خزيمة وابن المنذر والبيهقي وغيرهم كما روي في ذلك عنهم

والخلع: أن تبذل المرأة عوضا لزوجها ليفارقها قال الله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم * الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون * فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون * وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم }

فبين سبحانه أن المطلقات بعد الدخول يتربصن أي ينتظرن ثلاث قروء

والقرؤ عند أكثر الصحابة: كعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى وغيرهم: الحيض فلا تزال في العدة حتى تنقضي الحيضة الثالثة وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين عنه وذهب ابن عمر وعائشة وغيرهما أن العدة تنقضي بطعنها في الحيضة الثالثة وهي مذهب مالك والشافعي

وأما المطلقة قبل الدخول فقد قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا }

ثم قال: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } أي في ذلك التربص

ثم قال: { الطلاق مرتان }

فبين أن الطلاق الذي ذكره هو الطلاق الرجعي الذي يكون فيه أحق بردها: هو ( مرتان ) مرة بعد مرة كما إذا قيل للرجل: سبح مرتين أو سبح ثلاث مرات أو مائة مرة فلا بد أن يقول: سبحان الله سبحان الله حتى يستوفي العدد فلو أراد ان يجمل ذلك فيقول: سبحان الله مرتين أو مائة مرة لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة والله تعالى لم يقل: الطلاق طلقتان بل قال: { مرتان } فإذا قال لأمرأته: أنت طالق اثنتين أو ثلاثا أو عشرا أو ألفا لم يكن قد طلقها إلا مرة واحدة وقول النبي لأم المؤمنين جويرية:

[ لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلته منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله رضى نفسه سبحان الله مداد كلماته ] أخرجه مسلم في صحيحه

فمعناه أنه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك كقوله :

[ ربنا ولك الحمد ملأ السموات وملأ الأرض وملأ ما بينهما وملأ ما شئت من شيء بعد ]

ليس المراد أنه سبح تسبيحا بقدر ذلك فالمقدار تارة يكون وصفا لفعل العبد وفعله محصور وتارة يكون لما يستحقه الرب فذاك الذي يعظم قدره وإلا فلو قال المصلي في صلاته: سبحان الله عدد خلقه لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة ولما شرع النبي أن يسبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ويحمد ثلاثا وثلاثين ويكبر ثلاثا وثلاثين فلو قال: سبحان الله والحمد لله والله أكبر عدد خلقه لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة

ولا نعرف أن أحدا طلق على عهد النبي امرأته ثلاثا بكلمة واحدة فألزمه النبي بالثلاث ولا روي في ذلك حديث صحيح ولا حسن ولا نقل أهل الكتب المعتد عليها في ذلك شيئا بل رويت في ذلك أحاديث كلها ضعيفة باتفاق علماء الحديث بل موضوعة بل الذي في صحيح مسلم وغيره من السنن والمسانيد عن طاووس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم وفي رواية لمسلم وغيره عن طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم وفي رواية: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك فلما كان في زمن عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم

وروى الإمام أحمد في مسنده حدثنا سعيد بن إبراهيم حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس [ عن ابن عباس أنه قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله : كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا قال فقال في مجلس واحد؟ قال: نعم قال: فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت ] قال: فرجعها

فكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر وقد أخرجه أبو عبدا لله المقدسي في كتابه المختارة الذي هو أصح من صحيح الحاكم وهكذا روى أبو داود وغيره من حديث

وقول النبي : في مجلس واحد مفهومه أنه لو يكن لم في مجلس واحد لم يكن الأمر كذلك وذلك لأنها لو كانت في مجالس لأمكن في العادة أن يكون قد ارتجعها فإنها عنده والطلاق بعد الرجعة يقع والمفهوم لا عموم له في جانب المسكوت عنه بل قد يكون تفصيل كقوله: [ إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ] أو: [ لم ينجسه شيء ] وهو إذا بلغ قلتين فقد يحمل الخبث وقد لا يحمله وقوله: [ في الإبل السائمة الزكاة ] وهي إذا لم تكن سائمة قد يكون فيها الزكاة زكاة التجارة وقد لا يكون فيها وكذلك قوله: [ من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] ومن لم يقمها فقد يغفر له بسبب آخر وكقوله: [ من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه ] وقوله تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } ومن لم يكن كذلك فقد يعمل عملا آخر يرجو به رحمة الله مع الإيمان وقد لا يكون كذلك فلو كان في مجالس فقد يكون له فيها رجعة وقد لا يكون بخلاف المجلس الواحد الذي جرت عادة صاحبه بأنه لا يراجعها فيه فإن له فيه الرجعة كما قال النبي حيث قال: ارجعها إن شئت ولم يقل كما قال في حديث ابن عرم: [ مره فليراجعها ] فأمر بالرجعة والرجعة يستقل بها الزوج: بخلاف المراجعة

وقد روى أبو داود وغيره أن ركانة طلق امرأته البتة فقال له النبي : [ الله ما أردت إلا واحدة؟ فقال: ما أردت بها إلا واحدة فردها إليه رسول الله ] وأبو داود لما لم يرو في سننه الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده فقال: حديث ( البتة ) أصح من حديث ابن جريج: [ أن ركانة طلق امرأته ثلاثا ] لأن أهل بيته أعلم لكن الأئمة الأكابر العارفون بعلل الحديث والفقه فيه: كالإمام أحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما وأبي عبيد وأبي محمد بن حزم وغيره: ضعفوا حديث البتة وبينوا أن رواته قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم وأحمد أثبت حديث الثلاث وبينوا أن رواته قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم وأحمد أثبت حديث الثلاث وبين أنه الصواب مثل قوله: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة وقال أيضا: حديث ركانة في البتة ليس بشيء لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: [ أن ركانة طلق امرأته ثلاثا ] وأهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق البتة وأحمد إنما عدل عن حديث ابن عباس لأنه كان يرى أن الثلاث جائزة موافقة للشافعي فأمكن أن يقال: حديث ركانة منسوخ ثم لما رجع عن ذلك وتبين أنه ليس في القرآن والسنة طلاق مباح إلا الرجعي عدل: عن حديث ابن عباس لأنه أفتى بخلافه وهذا علة عنده في إحدى الروايتين عنه لكن الرواية الأخرى التي عليها أصحابه أنه ليس بعلة فيلزم أن يكون مذهبه العمل بحديث ابن عباس

وقد تبين في غير هذا الموضع أعذار الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم الذين ألزموا من أوقع جملة الثلاث بها مثل عمر رضي الله عنه فإنه لما رأى الناس قد أكثروا مما حرمه الله عليهم من جمع الثلاث ولا ينتهون عن ذلك إلا بعقوبة: رأى عقوبتهم بإلزامها: لئلا يفعلوها إما من نوع التعزيز العارض الذي يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين ويحلق الرأس وينفي وكما منع النبي الثلاثة الذين تخلفوا عن الاجتماع بنسائهم وإما ظنا أن جعلها واحدة كان مشروطا بشرط وقد زال كما ذهب إلى مثل ذلك في متعة الحج: إما مطلقا وإما متعة الفسخ

والالزام بالفرقة لمن لم يقم بالواجب: مما يسوغ فيه الاجتهاد لكن تارة يكون حقا للمرأة كما في العنين والمولى عند جمهور العلماء والعاجز عن النفقة عند من يقول به وتارة يقال: إنه حق لله كما في تفريق الحكمين بين الزوجين عند الأكثرين إذا لم يجعلا وكيلين وكما في وقوع الطلاق بالمولى عند من يقول بذلك من السلف والخلف إذا لم يف في مدة التربص كما قال من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره: إنهما إذا تطاوعا في الإتيان في الدبر فرق بينهما والأب الصالح إذا أمر ابنه بالطلاق لما رآه من مصلحة الولد فعليه أن يطيعه كما قال أحمد وغيره كما أمر النبي عبد الله بن عمر أن يطيع أباه لما أمره أبوه بطلاق امرأته فالالزام إما من الشارع: وإما من الإمام بالفرقة إذا لم يقم الزوج بالواجب: هو من موارد الاجتهاد

فلما كان الناس إذا لم يلزموا بالثلاث يفعلوا المحرم رأى عمر إلزامهم بذلك لأنهم لم يلزموا طاعة الله ورسوله مع بقاء النكاح ولكن كثير من الصحابة والتابعين نازعوا من قال ذلك: إما لأنهم لم يرو التعزير بمثل ذلك وإما لأن الشارع لم يعاقب بمثل ذلك وهذا فيمن يستحق العقوبة وأما من لا يستحقها بجهل أو تأويل فلا وجه لالزامه بالثلاث وهذا شرع شرعه النبي كما شرع نظائره لم يخصه ولهذا قال من قال من السلف والخلف: إن ما شرعه النبي في فسخ الحج إلى العمرة التمتع كما أمر به أصحابه في حجة الوداع هو شرع مطلق كما أخبر به لما سئل أعمرتنا هذه لعامنا هذا؟ أم للأبد؟ فقال: [ لا بل للأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ] وإن قول من قال: إنما شرع للشيوخ لمعنى يختص بهم مثل بيان جواز العمرة في أشهر الحجة: قول فاسد لوجوده مبسوطة في غير هذا الموضع

وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فأمر المؤمنين عند تنازعهم يرد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول فما تنازع فيه السلف والخلف وجب رده إلى الكتاب والسنة وليس في الكتاب والسنة ما يوجب الإلزام بالثلاث بمن أوقعها جملة بكلمة أو كلمات بدون رجعة أو عقدة بل إنما في الكتاب والسنة الإلزام بذلك من طلق الطلاق الذي أباح الله ورسوله وعلى هذا يدل القياس والاعتبار بسائر أصول الشرع فإن كل عقد يباح تارة ويحرم تارة كالبيع والنكاح إذا فعل على الوجه المحرم لم يكن لازما نافذا كما يلزم الحلال الذي أباحه الله ورسوله

ولهذا اتفق المسلمون على أن ما حرمه الله من نكاح المحارم ومن النكاح في العدة ونحو ذلك يقع باطلا غير لازم وكذلك ما حرمه الله من بيع المحرمات: كالخمر والخنزير والميتة وهذا بخلاف ما كان محرم الجنس كالظهار والقذف والكذب وشهادة الزور ونحو ذلك فإن هذا يستحق من فعله العقوبة بما شرعه الله من الأحكام فإنه لا يكون تارة حلالا وتارة حراما حتى يكون تارة صحيحا وتارة فاسدا وما كان محرما من أحد الجانبين مباحا من الجانب الآخر كافتداء الأسير واشتراء المجحود عتقه ورشوة الظالم لدفع ظلمة أو لبذل الحق الواجب وكاشتراء الإنسان المصراة وما دلس عيبه وإعطاء المؤلفة قلوبهم ليفعل الواجب أو ليترك المحرم وكبيع الجالب لمن تلقى منه ونحو ذلك فإن المظلوم يباح له فعله وله أن يفسخ العقد وله أن يمضيه بخلاف الظالم فإن ما فعله ليس بلازم

والطلاق هو مما أباحه الله تارة وحرمه أخرى فإذا فعل على الوجه الذي حرمه الله ورسوله لم يكن لازما نافذا كما يلزم ما أحله الله ورسوله كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] وقد قال تعالى: { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } فبين أن الطلاق الذي شرعه الله للمدخول بها وهو الطلاق الرجعي ( مرتان ) وبعد المرتين: إما ( إمساك بمعروف ) بأن يراجعها فتبقى زوجته وتبقى معه على طلقة واحدة وإما ( تسريح بإحسان ) بأن يرسلها إذا انقضت العدة كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } ثم قال بعد ذلك: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } وهذا هو الخلع سماه ( افتداء ) لأن المرأة تفتدي نفسها من أسرار زوجها كما يفتدي الأسير والعبد نفسه من سيده بما يبذله قال تعالى: { فإن طلقها } يعني الطلقة الثالثة { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } { فإن طلقها } يعني هذا الزوج الثاني { فلا جناح عليهما } يعني عليها وعلى الزوج الأول { أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } وكذلك قال الله تعالى: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا * فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا }

وفي الصحيح والسنن والمسانيد عن عبد الله بن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر عمر للنبي فتغيض عليه النبي وقال: [ مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم إن شاء بعد أمسكها وإن شاء طلقها قبل أن يجامعها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ] وفي رواية في الصحيح: [ أنه أمره أن يطلقها طاهرا أو حاملا ] وفي رواية في الصحيح [ قرأ النبي : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } وعن ابن عباس وغيره من الصحابة: الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال ووجهان حرام فأما اللذان هما حلال: فأن يطلق امرأته طاهرا في غير جماع أو يطلقها حاملا قد استبان حملها وأما اللذان هما حرام: فأن يطلقها حائضا أو يطلقها بعد الجماع لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا ] ورواه الدارقطني وغيره

وقد بين النبي أنه لا يحل له أن يطلقها إلا إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها وهذا هو الطلاق للعدة أي: لاستقبال العدة فإن ذلك الظهر أو العدة فإن طلقها قبل العدة يكون قد طلقها قبل الوقت الذي أذن الله فيه ويكون قد طول عليها التربص وطلقها من غير حاجة به إلى طلاقها والطلاق في الأصل مما يبغضه وهو أبغض الحلال إلى الله وإنما أباح منه ما يحتاج إليه الناس كما تباح المحرمات للحاجة: فلهذا حرمها بعد الطلقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له لينتهي الإنسان عن إكثار الطلاق فإذا طلقها لم تزل في العدة متربصة ثلاثة قروء وهو مالك لها يرثها وترثه وليس له فائدة في تعجيل الطلاق قبل وقته كما لا فائدة في مسابقة الإمام ولهذا لا يعتدله بما فعله قبل الإمام بل تبطل صلاته إذا تعمد ذلك في أحد قولي العلماء وهو لا يزال معه في الصلاة حتى يسلم

ولهذا جوز أكثر العلماء الخلع في الحيض لأنه على قول فقهاء الحديث ليس بطلاق بل فرقة بائنة وهو في أحد قوليهم تستبرأ بحيضة لا عدة عليها وهذه إحدى الروايتين عند أحمد ولأنها تملك نفسها بالاختلاع فلهما فائدة في تعجيل الإبانة لرفع الشر الذي بينهما بخلاف الطلاق الرجعي فإنه لا فائدة في تعجليه قبل وقته بل ذلك شر بلا خير وقد قيل: إنه طلاق في وقت لا يرغب فيها وقد لا يكون محتاجا إليه بخلاف الطلاق وقت الرغبة فإنه لا يكون إلا عن حاجة

وقول النبي لابن عمر: [ مره فليراجعها ] مما تنازع العلماء فيه في مراد النبي : ففهم منه طائفة من العلماء أن الطلاق قد لزمه فأمره أن يرتجعها ثم يطلقها في الطهر إن شاء وتنازع هؤلاء: هل الإرتجاع واجب أو مستحب؟ وهل له أن يرتجعها في الطهر الأول أو الثاني؟ وفي حكمه هذا النهي أقوال: ذكرناها وذكرنا مأخذها في غير هذا الموضع

وفهم طائفة أخرى: أن الطلاق لم يقع ولكنه لما فارقها ببدنه كما جرت العادة من الرجل إذا طلق امرأته اعتزلها ببدنه واعتزلته ببدنها فقال لعمر: مره فليراجعها ولم يقل: فليرتجعها ( والمراجعة ) مفاعلة من الجانبين: أي ترجع إليه ببدنها فيجتمان كما كانا لأن الطلاق لم يلزمه فإذا جاء الوقت الذي أباح الله فيه الطلاق طلقها حينئذ إن شاء

قال هؤلاء: ولو كان الطلاق قد لزم لم يكن في الأمر بالرجعة ليطلقها طلقة ثانية فائدة بل فيه مضرة عليهما فإن له أن يطلقها بعد الرجعة بالنص والاجماع وحينئذ يكون في الطلاق مع الأول تكثر الطلاق وتطويل العدة وتعذيب الزوجين جميعا فإن النبي لم يوجب عليه أن يطأها قبل الطلاق بل إذا وطئها لم يحل له أن يطلقها حتى يتبين حملها أو تطهر الطهر الثاني وقد يكون زاهدا فيها يكره أن يطأها فتعلق منه فكيف يجب عليه وطئها؟ ! ولهذا لم يوجب الوطء أحد من الأئمة الأربعة وأمثالها من أئمة المسلمين ولكن آخر الطلاق إلى الطهر الثاني ولولا أنه طلقها أولا لكان له أن يطلقها في الطهر الأول لأنه لو أبيح له الطلاق في الطهر الأول لم يكن في إمساكها فائدة مقصودة بالنكاح إذا كان لا يمسكها إلا لأجل الطلاق فإنه لو أراد أن يطلقها في الطهر الأول لم يحصل إلا زيادة ضرر عليهما والشارع لا يأمر بذلك فإذا كان ممتنعا من طلاقها في الطهر الأول ليكون متمكنا من الوطء الذي لا يعقبه طلاق: فإن لم يطأها أو طئها أو حاضت بعد ذلك: فله أن يطلقها ولأنه إذا امتنع من وطئها في ذلك الطهر ثم طلقها في الطهر الثاني: دل على أنه محتاج إلى طلاقها لأنه لا رغبة له فيها إذ لو كانت له فيها رغبة لجامعها في الطهر الأول

قالوا: لأنه لم يأمر ابن عمر بالإشهاد على الرجعة كما أمر الله ورسوله ولو كان الطلاق قد وقع وهو يرتجعها لأمر بالإشهاد ولأن الله تعالى لما ذكر الطلاق في غير آية لم يأمر أحدا بالرجعة عقيب الطلاق بل قال: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } فخير الزوج إذا قارب انقضاء العدة بين أن يمسكها بمعروف وهو الرجعة وبين أن يسيبها فيخلي سبيلها إذا انقضت العدة ولا يحسبها بعد انقضاء العدة كما كانت محبوسة عليه في العدة قال الله تعالى: { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }

وأيضا فلو كان الطلاق المحرم قد لزم لكان حصل الفساد الذي كرهه الله ورسوله وذلك الفساد لا يرتفع برجعة يباح له الطلاق بعدها والأمر برجعة لا فائدة فيها مما تنزه عنه الله ورسوله فإنه إن كان راغبا في المرأة فله أن يرتجعها وإن كان راغبا عنها فليس له أن يرتجعها فليس في أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحة شرعية بل زيادة مفسدة: ويجب تنزيه الرسول عن الأمر بما يستلزم زيادة الفساد والله ورسوله إنما نهى عن الطلاق البدعي لمنع الفساد فكيف يأمر بما يستلزم زيادة الفساد؟ !

وقول الطائفة الثانية أشبه بالأصول والنصوص فإن هذا القول متناقض إذا الأصل الذي عليه السلف والفقهاء: أن العبادات والعقود المحرمة إذا فعلت على الوجه المحرم لم تكن لازمة صحيحة وهذا وإن كان نازع فيه طائفة من أهل الكلام فالصواب مع السلف وأئمة الفقهاء لأن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانو يستدلون على فساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها وهذا متواتر عنهم

وأيضا فإن لم يكن ذلك دليلا على فسادها لم يكن عن الشارع ما يبين الصحيح من الفاسد فإن الذين قالوا: النهي لا يقتضي الفساد قالوا: نعلم صحة العبادات والعقود وفسادها بجعل الشارع هذا شرطا أو مانعا ونحو ذلك وقوله هذا صحيح وليس بصحيح من خطاب الوضع والاخبار ومعلوم أنه ليس في كلام الله ورسوله وهذه العبارات مثل قوله: الطهارة شرط في الصلاة والكفر مانع من صحة الصلاة وهذا العقد وهذا العبادة لا تصح ونحو ذلك بل إنما في كلامه الأمر والنهي والتحليل والتحريم وفي نفي القبول والصلاح كقوله: [ لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول ] وقوله: هذا لا يصلح وفي كلامه: إن الله يكره كذا وفي كلامه: الوعد ونحو ذلك من العبارات فلم نستفد الصحة والفساد إلا بما ذكره وهو لا يلزم أن يكون الشارع بين ذلك وهذا مما يعلم فساده قطعا

وأيضا فالشاعر يحرم الشيء لما فيه من المفسدة الخالصة أو الراجحة ومقصوده بالتحريم المنع من ذلك الفساد وجعله معدوما فلو كان مع التحريم يترتب عليه من الأحكام ما يترتب على الحلال فيجعله لازما نافذا كالحلال لكان ذلك إلزاما منه بالفساد الذي قصد عدمه فيلزم أن يكون ذلك الفساد قد أراد عدمه مع أنه ألزم الناس به وهذا تناقض ينزه عنه الشارع

وقد قال بعض هؤلاء: إنه إنما حرم الطلاق الثلاث لئلا يندم المطلق دل على لزوم الندم له إذا فعله وهذا يقتضي صحته

فيقال له: هذا يتضمن أن كلما نهى الله عنه يكون صحيحا كالجمع بين المرأة وعمتها لئلا يفضي إلى قطعية الرحم فيقال: إن كان ما قاله هذا صحيحا هنا دليل على صحة العقد إذ لو كان فاسدا لم تحصل القطيعة وهذا جهل وذلك أن الشارع بين حكمته في منعه مما نهى عنه وأنه لو أباحه للزم الفساد فقوله تعالى: { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } وقوله عليه السلام: [ لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ] ونحو ذلك: يبين أن الفعل لو أبيح لحصل به الفساد فحرم منعا من هذا الفساد ثم الفساد ينشأ من إباحته ومن فعله وإذا اعتقد الفاعل أنه مباح أو أنه صحيح فأما مع اعتقاد أن محرم باطل والتزام أمر الله ورسوله فلا تحصل المفسدة وإنما تحصل المفسدة من مخالفة أمر الله ورسوله والمفاسد فيها فتنة وعذاب قال الله تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }

وقول القائل: لو كان الطلاق غير لازم لم يحصل الفساد فيقال: هذا هو مقصود الشارع صلى الله عليه الله عليه وسلم فنهى عنه وحكم ببطلانه ليزول الفساد ولولا ذلك لفعله الناس واعتقدوا صحته فيلزم الفساد

وهذا نظير قول من يقول: النهي عن الشيء يدل على أنه مقصود وأنه شرعي وأنه يسمى بيعا ونكاحا وصوما كما يقولون في نهيه عن نكاح الشغار ولعنه المحلل والمحلل له ونهيه عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ونهيه عن صوم يوم العيدين ونحو ذلك فيقال: أما تصوره حسا فلا ريب فيه وهذا كنهيه عن نكاح الأمهات والبنات وعن بيع الخمر والميتة ولحم الخنزير والأصنام كما في الصحيحين عن جابر أن النبي قال: [ إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ] فقيل: يا رسول الله ! أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: لا هو حرام ثم قال: [ قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها ] فتسميته لهذا نكاحا وبيعا لم يمنع أن يكون فاسدا باطلا بل دل على إمكانه حسا

وقول القائل: إنه شرعي: إن أراد أنه يسمي بما أسماه به الشارع فهذا صحيح وإن أراد أن الله أذن فيه: فهذا خلاف النص والإجماع وإن أراد أنه رتب عليه حكمه وجعله يحصل المقصود ويلزم الناس حكمه كما في المباح فهذا باطل بالإجماع في أكثر الصور التي هي من موارد النزاع ولا يمكنه أن يدعى ذلك في صورة مجمع عليها فإن أكثر ما يحتج به هؤلاء بنهيه عن الطلاق في الحيض ونحو ذلك مما هو من موارد النزاع فليس معهم صورة قد ثبت فيها مقصودهم لا بنص ولا إجماع وكذلك المحلل الملعون لعنه لأنه قصد التحليل للأول بعقده لا لأنه أحلها في نفس الأمر فإنه لو تزوجها بنكاح رغبة لكان قد أحلها بالإجماع وهذا غير ملعون بالإجماع فعلم أن اللعنة لمن قصد التحليل وعلم أن الملعون لم يحللها في نفس الأمر ودلت اللعنة على تحريم فعله والمنازع يقول فعله مباح

فتبين أنه لا حجة معهم: بل الصواب مع السلف وأئمة الفقهاء ومن خرج عن هذا الأصل من العلماء المشهورين في بعض المواضع فإن لم يكن له جواب صحيح وإلا فقد تناقض كما تناقض في مواضع غير هذه والأصول التي لا تناقض فيها ما أثبت بنص أو إجماع وما سوى ذلك فالتناقض موجود فيه وليس هو حجة على أحد والقياس الصحيح الذي لا يتناقض هو موافق للنص والإجماع بل والا بد أن يكون النص قد دل على الحكم كما قد بسط في موضع آخر

وهذا معنى العصمة فإن كلام المعصوم لا يتناقض ولا تزاع بين المسلمين أن الرسول معصوم فيما بلغه عن الله تعالى فهو معصوم فيما شرعه للأمة بإجماع المسلمين وكذلك الأمة أيضا معصومة أن تجتمع على ضلالة بخلاف ما سوى ذلك ولهذا كان مذهب أئمة الدين أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله فإنه الذي فرض الله على جميع الخلائق الإيمان به وطاعته وتحليل ما حلله وتحريم ما حرمه وهو الذي فرق الله به بين المؤمن والكافر وأهل الجنة وأهل النار والهدى والضلال والغي والرشاد فالمؤمنون أهل الجنة وأهل الهدى والرشاد هم متبعون والكفار أهل النار وأهل الغي والضلال هم الذين لم يتبعوه

ومن آمن به باطنا وظاهرا واجتهد في متابعته: فهو من المؤمنين السعداء وإن كان قد أخطأ وغلط في بعض ما جاء به فلم يبلغه أو لم يفهمه قال الله تعالى عن المؤمنين: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقد ثبت في الصحيح عن النبي : قد فعلت وفي السنن عنه أنه قال: [ العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بخط وافر ] وقد قال تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فقد خص أحد النبيين الكريمين بالتفهم مع ثنائه على كل منهما بأنه أوتي علما وحكما فهكذا إذا خص الله أحد العالمين بعلم أمر وفهمه لم يوجب ذلك ذم من لم يحصل له ذلك من العلماء بل كل من اتقى الله ما استطاع فهو من أولياء المتقين وإن كان قد خفي عليه من الدين ما فهمه غيره وقد قال واثلة بن الاسقع وبعضهم يرفعه إلى النبي : [ من طلب علما فأدركه فله أجران ومن طلب علما فلم يدركه فله أجر ] وهذا يوافق ما في الصحيح عن عمرو بن العاص وعن أبي هريرة: عن النبي : [ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ] وهذه الأصول لبسطها موضع آخر

وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا لأن الطلاق المحرم مما يقوم فيه كثير من الناس إنه لازم والسلف أئمة الفقهاء والجمهور يسلمون: أن النهي يقتضي الفساد ولا يذكرون في الاعتذار عن هذه الصورة فرقا صحيحا وهذا مما تسلط به عليهم من نازعوهم في أن النهي يقتضي الفساد واحتج بما سلموه له من الصور وهذه حجة جدلية لا تفيد العلم بحصة قوله وإنما تفيد أن منازعيه أخطأوا: إما في صورة النقض وإما في محل النزاع وخطؤهم في إحداهما لا يوجب أن يكون الخطأ في محل النزاع بل هذا الأصل أصل عظيم عليه مدار كثير من الأحكام الشرعية فلا يمكن نقضه بقول بعض العلماء الذين ليس معهم نص ولا إجماع بل الأصول والنصوص لا توافق بل تناقض قولهم

ومن تدبر الكتاب والسنة تبين له أن الله لم يشرع الطلاق المحرم جملة قط وإما الطلاق البائن فإنه شرعه قبل الدخول وبعد انقضاء العدة

وطائفة من العلماء يقول لمن لم يجعل الثلاث المجموعة إلا واحدة: أنتم خالفتم عمر وقد استقر الأمر على التزم ذلك في زمن عمر وبعضهم يجعل ذلك إجماعا فيقول لهم: أنتم خالفتم عمر في الأمر المشهور عنه الذي اتفق عليه الصحابة بل وفي الأمر الذي معه فيه الكتاب والسنة فإن منكم من يجوز التحليل وقد ثبت عن عمر أنه قال: لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وقد اتفق الصحابة على النهي عنه مثل: عثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وغيره ولا يعرف عن أحد من الصحابة أنه أعاد المرأة إلى زوجها بنكاح تحليل وعمر وسائر الصحابة معهم الكتاب والسنة: [ كلعن النبي المحلل والمحلل له ] وقد خالفهم من خالفهم في ذلك اجتهادا والله يرضى عن جميع علماء المسلمين

وأيضا فقد ثبت عن عمر أنه كان يقول في الخلية والبرية ونحو ذلك: إنها طلقة رجعية وأكثرهم يخالفون عمر في ذلك وقد ثبت عن عمر: إنه خير المفقود إذا رجع فوجد امرأته قد تزوجت خيره بين امرأته وبين المهر وهذا أيضا معروف عن غيره من الصحابة: كعثمان وعلي وذكره أحمد عن ثمانية من الصحابة وقال: إلى أي شيء يذهب الذي يخالف هؤلاء؟ ! ومع هذا فأكثرهم يخالفون عمر وسائر الصحابة في ذلك ومنهم من ينقض حكم من حكم به وعمر والصحابة جعلوا الأرض المفتوحة عنوة كأرض الشام ومصر والعراق وخراسان والمغرب فيئا للمسلمين ولم يقسم عمر ولا عثمان أرضا فتحها عنوة ولم يستطب عمر أنفس جميع الغانمين في هذه الأرضين وإن ظن بعض العلماء أنهم استطابوا أنفسهم في السواد بل طلب منهم بلال والزبير وغيرهما قسمة أرض العنوة فلم يجبهم ومع هذا فطائفة منهم يخالف عمر والصحابة في مثل هذا الأمر العظيم الذي استقر الأمر عليه من زمنهم بل ينقض حكم من حكم بحكمهم أيضا فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يخمسوا قط مال فيء ولا خمسة رسول الله ولا جعلوا خمس الغنيمة خمسة أقسام متساوية ومع هذا: فكثير منهم يخالف ذلك ونظائر هذا متعددة

والأصل الذي اتفق عليه علماء المسلمين: إنما تنازعوا فيه وجب رده إلى الله والرسول كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } ولا يجوز لأحد أن يظن بالصحابة أنهم بعد رسول الله أجمعوا على خلاف شريعته بل هذا من أقوال الألحاد ولا يجوز دعوى نسخ ما شرعه الرسول بإجماع أحد بعده كما يظن طائفة من الغالطين بل كلما أجمع المسلمون عليه فلا يكون إلا موافقا لما جاء به الرسول لا مخالفا له بل كل نص منسوخ بإجماع الأمة فمع الأمة النص الناسخ له تحفظ الأمة النص الناسخ كما تحفظ النص المنسوخ وحفظ الناسخ أهم عندها وأوجب عليها من حفظ المنسوخ ويمنع أن يكون عمر والصحابة معه أجمعوا على خلاف نص الرسول ولكن قد يجتهد الواحد وينازعه غيره وهذا موجود في مسائل كثيرة هذا منها كما بسط في موضع غير هذا

ولهذا لما رأى عمر رضي الله عنه: أن المبتوتة لها السكنى والنفقة فظن أن القرآن يدل عليه نازعه أكثر الصحابة فمنهم من قال: لها السكنى فقط ومنهم من قال: لا نفقة لها ولا سكنى وكان من هؤلاء ابن عباس وجابر وفاطمة بنت قيس وهي التي روت عن النبي أنه قال: [ ليس لك نفقة ولا سكنى ] فلما احتجوا عليها بحجة عمر وهي قوله تعالى: { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قالت هي وغيرها من الصحابة كابن عباس وجابر وغيرهما: هذا في الرجعية لقوله تعالى: { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ ! وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه وغيره من فقهاء الحديث مع فاطمة بنت قيس

وكذلك أيضا في: ( الطلاق ) لما قال تعالى: { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قال غير واحد من الصحابة والتابعين والعلماء: هذا يدل على أن الطلاق الذي ذكره الله هو الطلاق الرجعي فإنه لو شعر إيقاع الثلاث عليه لكان المطلق يندم إذا فعل ذلك ولا سبيل الى رجعتها: فيحصل له ضرر بذلك والله أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم ولهذا قال الله تعالى أيضا بعد ذلك: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } وهذا إنما يكون في الطلاق الرجعي لا يكون في الثلاث ولا في البائن وقال تعالى: { وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله } فأمر بالإشهاد على الرجعة والإشهاد عليها مأمور به باتفاق الأمة قيل: أمر إيجاب قيل: أمر إستحباب

وقد ظن بعض الناس: أن الإشهاد هو الطلاق وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع وهذا خلاف الاجماع وخلاف الكتاب والسنة ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به فإن الطلاق أذن فيه أولا ولم يأمر فيه بالإشهاد وإنما أمر بالاشهاد حين قال: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } والمراد هنا بالمفارقة: تخلية سبيلها إذا قضت العدة وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح والإشهاد في هذا باتفاق المسلمين فعلم أن الإشهاد إنما هو على الرجعة

ومن حكمة ذلك: أنه قد يطلقها ويرتجعها فيزين له الشيطان كتمان ذلك حتى يطلقها بعد ذلك طلاقا محرما ولا يدري أحد فتكون معه حراما فأمر الله أن يشهد على الرجعة ليظهر أنه قد وقعت به طلقة كما أمر النبي من وجد اللقطة أن يشهد عليها لئلا يزين الشيطان كتمان اللقطة وهذا بخلاف الطلاق فإنه إذا طلقها ولم يراجعها بل خلى سبيلها فإنه يظهر للناس أنها ليست امرأته بل هي مطلقة بخلاف ما إذا بقيت زوجة عنده فإنه لا يدري الناس أطلقها أم لم يطلقها

وأما النكاح فلا بد من التمييز بينه وبين السفاح وإتخاذ الأخدان كما أمر الله تعالى ولهذا مضت السنة بإعلانه فلا يجوز أن يكون كالسفاح مكتوما لكن هل الواجب مجرد الإشهاد؟ أو مجرد الاعلان وإن لم يكن إشهاد؟ أو يكفي أيهما كان؟ هذا فيه نزاع بين العلماء كما قد ذكر في موضعه

وقال الله تعالى: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا } وهذه الآية عامة في كل من يتق الله وسياق الآية يدل على أن التقوى مرادة من هذا النص العام فمن اتقى الطلاق فطلق كما أمر الله تعالى جعل الله له مخرجا مما ضاق على غيره ومن يتعد حدود الله فيفعل ما حرم الله عليه فقد ظلم نفسه ومن كان جاهلا بتحريم طلاق البدعة فلم يعلم أن الطلاق في الحيض محرم أو أن جمع الثلاث محرم: فهذا إذا عرف التحريم وتاب وصار ممن اتقى الله فاستحق أن يجعل الله له مخرجا ومن كان يعلم أن ذلك حرام وفعل المحرم وهو يعتقد أنها تحرم عليه ولم يكن عنده إلا من يفتيه بأنها تحرم عليه: فإنه يعاقب عقوبة بقدر ظلمه كمعاقبة أهل السبت بمنع الحيتان أن تأتيهم فإنه ممن لم يتق الله فعوقب بالضيق وإن هداه فعرفه الحق وألهمه التوبة وتاب: [ فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له ] وحينئذ فقد دل فيمن يتقي الله فيستحق أن يجعل الله له فرجا ومخرجا فإن نبينا محمد نبي الرحمة ونبي الملحمة

فكل من تاب فله فرج في شرعه بخلاف شرع من قبلنا فإن التائب منهم كان يعاقب بعقوبات: كقتل أنفسهم وغير ذلك ولهذا كان ابن عباس إذا سئل عمن طلق امرأته ثلاثا يقول له: لو إتقيت الله لجعل لك مخرجا وكان تارة يوافق عمر في الإلزام بذلك للمكثرين من فعل البدعة المحرمة عليهم مع علمهم بأنها محرمة وروي عنه أنه كان تارة لا يلزم إلا واحدة وكان ابن مسعود يغضب على أهل هذه البدعة ويقول: أيها الناس من آتى الأمر على وجهه فقد تبين له وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون

ولم يكن على عهد النبي ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي [ نكاح تحليل ] ظاهر تعرفه الشهود والمرأة والأولياء ولم ينقل أحد عن النبي ولا خلفائه الراشدين أنهم أعادوا المرأة على زوجها بنكاح تحليل فإنهم إنما كانوا يطلقون في الغالب طلاق السنة

ولم يكونوا يحلفون بالطلاق ولهذا لم ينقل عن الصحابة نقل خاص في الحلف وإنما نقل عنهم الكلام في إيقاع الطلاق لا في الحلف به والفرق ظاهر بين الطلاق وبين الحلف به كم يعرف الفرق بين النذر وبين الحلف بالنذر فإذا كان الرجل يطلب من الله حاجة فقال: إن شفى الله مرضي أو قضى ديني أو خلصني من هذه الشدة فلله علي أن أتصدق بألف درهم أو أصوم شهرا أو أعتق رقبة فهذا تعليق نذر يجب عليه الوفاء به بالكتاب والسنة والإجماع إذا علق النذر على وجه اليمين فقال: إن سافرت معكم إن زوجت فلانا أن أضرب فلانا إن لم أسافر من عندكم فعلي الحج أو: فمالي صدقة أو: فعلي عتق فهذا عند الصحابة وجمهور العلماء هو حالف بالنذر ليس بناذر فإذا لم يف بما التزمه أجزأه كفارة يمين وكذلك أفتى الصحابة فيمن قال: إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر أنه يمين يجزيه فيها كفارة اليمين وكذلك قال كثير من التابعين في هذا كله لما أحدث الحجاج بن يوسف تحليف الناس بأيمان البيعة وهو التحليف بالطلاق والعتاق والتحليف باسم الله وصدقة المال وقيل: كان فيها التحليف بالحج تكلم حينئذ التابعون ومن بعدهم في هذه الأيمان وتكلموا في بعضها على ذلك فمنهم من قال: إذا حنث بها لزمه ما التزمه ومنهم من قال: لا يلزمه إلا الطلاق والعتاق ومنهم من قال: بلى هذا جنس أيمان أهل الشرك لا يلزم بها شيء ومنهم من قال: بل هي من أيمان المسلمين يلزم فيها ما يلزم في سائر أيمان المسلمين واتبع هؤلاء ما نقل في هذا الجنس عن الصحابة وما دل عليه الكتاب والسنة كما بسط في موضع آخر

والمقصود هنا أنه على عهد رسول الله وخلفائه الراشدين لم تكن امرأة ترد إلى زوجها بنكاح تحليل وكان إنما يفعل سرا ولهذا قال النبي : [ لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ولعن المحلل والمحلل له ] قال الترمذي: حديث صحيح ولعن في الربا: الآخذ والمعطي والشاهدين والكاتب لأنه دين يكتب ويشهد عليه ولعن في التحليل: المحلل والمحلل له ولم يلعن الشاهدين والكاتب لأنه لم يكن على عهده تكتب الصدقات في كتاب فإنهم كانوا يجعلون الصداق في العادة العامة قبل الدخول ولا يبقى دينار في ذمة الزوج ولا يحتاج إلى كتاب وشهود وكان المحلل يكتم ذلك هو والزوج المحلل له والمرأة والأولياء والشهود لا يدرون بذلك [ ولعن رسول الله المحلل والمحلل له ] إذ كانوا هم الذين فعلوا المحرم دون هؤلاء والتحليل لم يكونوا يحتاجون إليه في الأمر الغالب إذا كان الرجل إنما يقع منه الطلاق الثلاث إذا طلق بعد رجعة أو عقد فلا يندم بعد الثلاث إلا نادر من الناس وكان يكون ذلك بعد عصيانه وتعديه لحدود الله فيستحق العقوبة فيلعن من يقصد تحليل المرأة له ويلعن هؤلاء أيضا: لأنهما تعاونا على الإثم والعدوان

فلما حدث الحلف بالطلاق واعتقد كثير من الفقهاء أن الحانث يلزمه ما ألزمه نفسه ولا تجزيه كفارة يمين واعتقد كثير منهم أن الطلاق المحرم يلزم واعتقد كثير منهم أن جمع الثلاث ليس بمحرم واعتقد كثير منهم أن طلاق السكران يقع واعتقد كثير منهم أن طلاق المكره يقع وكان بعض هذه الأقوال مما تنازع فيه الصحابة وبعضها مما قيل بعدهم: كثر اعتقاد الناس لوقوع الطلاق مع ما يقع من الضرر العظيم والفساد في الدين والدنيا بمفارقة الرجل امرأته فصار الملزمون بالطلاق في هذه المواضع المتنازع فيها حزبين:

حزبا: اتبعوا ما جاء عن النبي والصحابة في تحريم التحليل فحرموا هذا مع تحريمهم لما لم يحرمه الرسول من تلك الصور فصار في قولهم من الأغلال والآصار والحرج العظيم المفضي إلى مفاسد عظيمة في الدين والدنيا أمور منها ردة بعض الناس عن الإسلام لما أفتى بلزوم ما التزمه ومنها سفك الدم المعصوم

ومنها: زوال العقل ومنها: العداوة بين الناس ومنها: تنقيص شرعية الإسلام إلى كثير من الآثام إلى غير ذلك من الأمور العظام

وحزبا: رأوا أن يزيلوا ذلك الحرج العظيم بأنواع من الحيل التي بها تعود المرأة إلى زوجها

وكان مما أحدث أولا نكاح التحليل ورأى طائفة من العلماء أن فاعله يثاب لما رآى في ذلك من إزالة تلك المفاسد بإعادة المرأة إلى زوجها وكان هذا حيلة في جميع الصور لرفع وقوع الطلاق ثم أحدث في الأيمان حيل أخرى فأحدث أولا الاحتيال في لفظ اليمين ثم أحدث الاحتيال بخلع اليمين ثم أحدث الاحتيال بدور الطلاق ثم أحدث الاحتيال بطلب إفساد النكاح وقد أنكر جمهور السلف والعلماء وأئمتهم هذه الحيل وأمثالها وروأوا أن في ذلك إبطال حكمة الشريعة وإبطال حقائق الأيمان المودعة في آيات الله وجعل ذلك من جنس المخادعة والاستهزاء بآيات الله حتى قال أيوب السختياني في مثل هؤلاء: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون علي ! ثم تسلط الكفار والمنافقون بهذه الأمور على القدح في الرسول وجعلوا ذلك من أعظم ما يحتجون به على من آمن به ونصره وعزره ومن أعظم ما يصدون به عن سبيل الله ويمنعون من أراد الإيمان به ومن أعظم ما يمتنع الواحد منهم به عن الايمان كما أخبر من آمن منهم بذلك عن نفسه وذكر أنه كان يتبين له محاسن الإسلام إلا ما كان من جنس التحليل فإن الذي لا يجد فيه ما يشفي الغليل

وقل قال تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } فوصف رسوله بأنه يأمر بكل معروف وينهي عن كل منكر ويحل كل طيب ويحرم كل خبيث ويضع الآصار والأغلال التي كانت على من قبله

وكل من خالف ما جاء به من الكتاب والحكمة من الأقوال المرجوحة فهي من الأقوال المبتدعة التي أحسن أحوالها أن تكون من الشرع المنسوخ الذي رفعه الله بشرع محمد إن كان قائله من أفضل الأمة وأجلها وهو في ذلك القول مجتهد قد اتقى الله ما استطاع وهو مثاب على اجتهاده وتقواه مغفور له خطأه فلا يلزم الرسول قول قاله غيره باجتهاده

وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: [ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ] وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول لمن بعثه أميرا على سرية وجيش: [ وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك ] وهذا يوافق ما ثبت في الصحيح: أن سعد بن معاذ لما حكمه النبي في بني قريظة وكان النبي قد حاصرهم فنزلوا على حكمه فأنزلهم على حكم سعد بن معاذ لما طلب منهم حلفا وهم من الأنصار أن يحسن إليهم وكان سعد بن معاذ خلاف ما يظن به بعض قومه: كان مقدما لرضى الله ورسوله على رضى قومه ولهذا لما مات اهتز له عرش الرحمن فرحا بقدوم روحه فحكم فيهم: أن تقتل مقاتلتهم وتسبي حريمهم وتقسم أموالهم فقال النبي : [ لقد حكمت فيهم بحكم الملك ] وفي رواية: [ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات ] والعلماء ورثة الأنبياء وقد قال تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } فهذان نبيان كريمان حكما في حكومة واحدة فخص الله أحدهما بفهمها مع ثنائه على كل منهما بأنه آتاه حكما وعلما فكذلك العلماء المجتهدون رضي الله عنهم للمصيب منهم أجران وللآخر أجر وكل منهم مطيع لله بحسب استطاعته ولا يكلفه الله ما عجز عن علمه ومع هذا فلا يلزم الرسول قول غيره ولا يلزم ما جاء به من الشريعة شيء من الأقوال المحدثة لا سيما إن كانت شنيعة

ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا باجتهادهم ينزهون شرع الرسول من خطئهم وخطأ غيرهم كما قال عبد الله بن مسعود في المفوضة: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه وكذلك روي عن الصديق في الكلالة وكذلك عن عمر في بعض الأمور مع أنهم كانوا يصيبون فيما يقولونه على هذا الوجه حتى يوجد النص موافقا لاجتهادهم كما وافق النص اجتهاد ابن مسعود وغيره وإنما كانوا أعلم بالله ورسوله وبما يجب من تعظيم شرع الرسول أن يضيفوا إليه إلا ما علموه منه وما أخطأوا فيه وإن كانوا مجتهدين قالوا: إن الله ورسوله بريئان منه وقد قال الله تعالى: { ما على الرسول إلا البلاغ المبين } وقال: { فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } وقال: { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين }

ولهذا تجد المسائل التي تنازعت فيها الأمة على أقوال وإنما القول الذي بعث به الرسول واحد منها وسائرها إذا كان أهلها من أهل الاجتهاد أهل العلم والدين: فهم مطيعون لله ورسوله مأجورون غير مأزورين كما إذا خفيت جهة القبلة في السفر اجتهد كل قوم فصلوا إلى جهة من الجهات الأربع فإن الكعبة ليست إلا في جهة واحدة منها وسائر المصلين مأجورين على صلاتهم حيث اتقوا ما استطاعوا

ومن آيات ما بعث به الرسول أنه إذا ذكر مع غيره على الوجه المبين ظهر النور والهدى على ما بعث به وعلم أن القول الآخر دونه فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وقد قال سبحانه وتعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } وهذا التحدي والتعجيز ثابت في لفظه ونظمه ومعناه كما هو مذكور في غير هذا الموضع

ومن أمثال ذلك: ما تنازع المسلمون فيه من مسائل الطلاق فإنك تجد الأقوال في ثلاثة: قول فيه آصار وأغلال وقول فيه خداع واحتيال وقول فيه علم واعتدال وقول يتضمن نوعا من الظلم والاضطراب وقول يتضمن نوعا من الظلم والفاحشة والعار وقول يتضمن سبيل المهاجرين والأنصار وتجدهم في مسائل الأيمان بالنذر والطلاق والعتاق على ثلاثة أقوال: قول يسقط أيمان المسلمين ويجعلها بمنزلة أيمان المشركين وقول يجعل الأيمان اللازمة ليس فيها كفارة ولا تحلة كما كان شرع غير أهل القبلة وقول يقيم حرمة أيمان أهل التوحيد والإيمان ويفرق بينهما وبين أيمان أهل الشرك والأوثان ويجعل فيها من الكفارة والتحليل ما جاء به النص والتنزيل واختص به أهل القرآن دون أهل التوراة والإنجيل وهذا هو الشرع الذي جاء به خاتم المرسلين وإمام المتقين وأفضل الخلق أجمعين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين

الفتاوى الكبرى لابن تيمية
كتاب السنة والبدعة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطهارة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | كتاب الصلاة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | كتاب الذكر والدعاء | 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب الصيام: 1 | 2 | 3 | كتاب الجنائز: 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب النكاح: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطلاق: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | كتاب النفقات | كتاب الحدود: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الجهاد: 1 | 2 | كتاب البيوع: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الشهادة والأقضية والأموال: 1 | 2 | كتاب الوقف: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | كتاب الوصايا | كتاب الفرائض | كتاب الفضائل: 1 | 2 | كتاب الملاهي | مسائل منثورة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | كتاب الطهارة2 | كتاب الصلاة2: 1 | 2 | كتاب الجنائز2 | كتاب الزكاة2 | كتاب الصوم2 | كتاب الحج | كتاب البيع: 1 | 2 | كتاب الوصية | كتاب الفرائض | كتاب العتق | كتاب النكاح2: 1 | 2 | كتاب الخلع | كتاب الطلاق2 | كتاب الرجعة | كتاب الظهار | كتاب الجنايات | كتاب الأطعمة | كتاب الأيمان | باب القضاء | كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل | كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة: 1 |2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16