الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح/الجزء الثالث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

ملاحظات: توجد نسخة مشكولة



فصل: قياس النصارى كتبهم على القرآن قياس باطل

فحينئذ فقولهم: إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول؟

وذلك أنا أيضا إذا قلنا واحتججنا عليهم بمثل هذا القول إن الكتاب الذي بأيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا؟

قال الحاكي عنهم: فقلت لهم هذا ما لا يجوز ولا يمكن لأحد أن يقوله ولا يمكن تغييره ولا تبديل حرف واحد منه. فقالوا سبحان الله العظيم! إذا كان الكتاب الذي لهم، الذي هو باللسان الواحد لا يمكن تبديله، ولا تغيير حرف واحد منه فكيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف نسخة وجاز عليها إلى مجيء محمد أكثر من ستمائة سنة، وصارت في أيدي الناس يقرءونها باختلاف ألسنتهم على تشاسع بلدانهم. فمن الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا؟ ومن هو الذي حكم على الدنيا جميعها ملوكها وقساوستها وغالبها حتى حكم على جميعها في أقطار الأرض وجمعها في أربع زوايا العالم حتى يغيرها؟ وإن كان غير بعضها، وترك بعضها فهذا لا يمكن أن يكون لأن كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن، فهذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله أبدا

والجواب أن يقال:

أولا: هذا الكلام منهم يدل على غاية جهلهم بما يقوله المسلمون في كتبهم، وتبين أنهم - لفرط جهلهم - يظنون أن المسلمين يقولون مقالة لا يخفى فسادها على من له أدنى عقل ومعرفة والمسلمون لا يشك أحد من الأمم أنهم أعظم الأمم عقولا وأفهاما وأتمهم معرفة وبيانا وأحسن قصدا وديانة وتحريا للصدق والعدل، وأنهم لم يحصل في النوع الإنساني أمة أكمل منهم ولا ناموس أكمل من الناموس الذي جاء به نبيهم محمد وحذاق الفلاسفة معترفون لهم بذلك وأنه لم يقرع العالم ناموس أكمل من هذا الناموس.

وقد جمع الله للمسلمين جميع طرق المعارف الإنسانية، وأنواعها فإن الناس نوعان:

أهل كتاب وغير أهل كتاب، كالفلاسفة والهنود.

والعلم ينال بالحس والعقل، وما يحصل بهما وبوحي الله إلى أنبيائه الذي هو خارج عما يشترك فيه الناس من الحس والعقل.

ولهذا قيل: الطرق العلمية البصر، والنظر، والخبر: الحس، والعقل والوحي: الحس والقياس، والنبوة.

فأهل الكتاب امتازوا عن غيرهم بما جاءهم من النبوة مع مشاركتهم لغيرهم فيما يشترك فيه الناس من العلوم الحسية، والعقلية.

والمسلمون حصل لهم من العلوم النبوية والعقلية ما كان للأمم قبلهم، وامتازوا عنهم بما لا تعرفه الأمم وما اتصل إليهم من عقليات الأمم هذبوه لفظا ومعنى حتى صار أحسن مما كان عندهم ونفوا عنه من الباطل وضموا إليه من الحق ما امتازوا به على من سواهم.

وكذلك العلوم النبوية أعطاهم الله ما لم يعطه أمة قبلهم، وهذا ظاهر لمن تدبر القرآن مع تدبر التوراة والإنجيل، فإنه يجد من فضل علم القرآن ما لا يخفى إلا على العميان.

فكيف يظن مع هذا بالمسلمين أن يخفى عليهم فساد هذا الكلام الذي ظنه بهم هؤلاء الجهال:

ويقال: ثانيا الجواب من وجوه:

أحدها: أن المسلمين لم يدعوا أن هذه الكتب حرفت بعد انتشارها، وكثرة النسخ بها، ولكن جميعهم متفقون على وقوع التبديل والتغيير في كثير من معانيها، وكثير من أحكامها.

وهذا مما تسلمه النصارى جميعهم في التوراة والنبوات المتقدمة، فإنهم يسلمون أن اليهود بدلوا كثيرا من معانيها وأحكامها.

ومما تسلمه النصارى في فرقهم، أن كل فرقة تخالف الأخرى فيما تفسر به الكتب المتقدمة، ومما تسلمه اليهود أنهم متفقون على أن النصارى تفسر التوراة والنبوات المتقدمة على الإنجيل بما يخالف معانيها وأنها بدلت أحكام التوراة فصار تبديل كثير من معاني الكتب المتقدمة متفقا عليه بين المسلمين، واليهود، والنصارى.

وأما تغيير بعض ألفاظها ففيه نزاع بين المسلمين.

والصواب الذي عليه الجمهور أنه بدل بعض ألفاظها، كما ذكر ذلك في مواضعه.

الوجه الثاني: أن قياسهم كتبهم على القرآن وأنه كما لا تسمع دعوى التبديل فيه، فكذلك في كتبهم - قياس باطل في معناه ولفظه.

أما معناه: فكل ما أجمع المسلمون عليه من دينهم إجماعا ظاهرا معروفا عندهم فهو منقول عن الرسول نقلا متواترا، بل معلوما بالاضطرار من دينه، فإن الصلوات الخمس، والزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ووجوب العدل والصدق، وتحريم الشرك والفواحش والظلم، بل وتحريم الخمر والميسر والربا، وغير ذلك منقول عن النبي (نقلا متواترا كنقل ألفاظ القرآن الدالة على ذلك.

ومن هذا الباب عموم رسالته ) وأنه مبعوث إلى جميع الناس أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، بل إلى الثقلين الإنس والجن وأنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا ما أنزل الله عليه كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم.

فالمسلمون - عندهم منقولا عن نبيهم نقلا متواترا - ثلاثة أمور: لفظ القرآن ومعانيه التي أجمع المسلمون عليها والسنة المتواترة وهي الحكمة التي أنزلها الله عليه غير القرآن.

كما قال تعالى: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة.

وقال تعالى: وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة.

وقال تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة.

وقال تعالى: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة.

وبذلك دعا الخليل حيث قال لما بنى هو وإسماعيل الكعبة

بأرض فاران المذكورة في الكتاب الأول قال تعالى:

وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم.

وقال : (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه).

فالمسلمون عندهم نقل متواتر عن نبيهم بألفاظ القرآن ومعانيه المتفق عليها وبالسنة المتواترة عنه مثل: كون الظهر والعصر والعشاء أربعا، وكون المغرب ثلاث ركعات، وكون الصبح ركعتين ومثل الجهر في العشائين والفجر والمخافتة في الظهر والعصر، ومثل كون الركعة فيها سجدتين، وكون الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة سبعا، ورمي الجمرات كل واحدة سبع حصيات وأمثال ذلك.

وأيضا فالمسلمون يحفظون القرآن في صدورهم حفظا يستغنون به عن المصاحف كما ثبت في الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي أنه قال إن ربي قال لي إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا.

يقول: ولو غسل بالماء من المصاحف لم يغسل من القلوب كالكتب المتقدمة، فإنه لو عدمت نسخها لم يوجد من ينقلها نقلا متواترا محفوظة في الصدور.

والقرآن ما زال محفوظا في الصدور نقلا متواترا حتى لو أراد مريد أن يغير شيئا من المصاحف، وعرض ذلك على صبيان المسلمين لعرفوا أنه قد غير المصحف، لحفظهم للقرآن من غير أن يقابلوه بمصحف، وأنكروا ذلك.

وأهل الكتاب يقدر الإنسان منهم أن يكتب نسخا كثيرا من التوراة والإنجيل، ويغير بعضها، ويعرضها على كثير من علمائهم، ولا يعرفون ما غير منها إن لم يعرضوه على النسخ التي عندهم.

ولهذا لما غير من نسخ التوراة راج ذلك على طوائف منهم ولم يعلموا التغيير.

وأيضا فالمسلمون لهم الأسانيد المتصلة بنقل العدول الثقات لدقيق الدين كما نقل العامة جليله، وليس هذا لأهل الكتاب.

وأيضا فما ذكروه من أن كتبهم مكتوبة باثنين وسبعين لسانا هو أقرب إلى التغيير من الكتاب الواحد باللغة الواحدة؛ فإن هذا مما يحفظه الخلق الكثير فلا يقدر أحد أن يغيره.

وأما الكتب المكتوبة باثنين وسبعين لسانا فإذا قدر أن بعض النسخ الموجودة ببعض الألسنة غير بعض ما فيها لم يعلم ذلك سائر أهل الألسن الباقية، بل ولم يعلم بذلك سائر أهل النسخ الأخرى فالتغيير فيها ممكن كما يمكن في نظائر ذلك.

وما ادعوه من تعذر جمع جميع النسخ هو حجة عليهم فإن ذلك إذا كان متعذرا لم يمكن الجزم باتفاق جميع النسخ لواحد، حتى يشهد بأنها كلها متفقة لفظا ومعنى، بل إمكان التغيير فيها أيسر من إمكان الشهادة باتفاقها.

ولهذا لا يمكن أحدا تغيير القرآن، مع كونه محفوظا في القلوب منقولا بالتواتر، مع أنا لا نشهد لجميع المصاحف بالاتفاق، بل قد يقع في بعض نسخ المصاحف ما هو غلط يعلمه حفاظ القرآن، ولا يحتاجون إلى اعتبار ذلك بمصحف آخر.

وتلك الكتب لا يحفظ كلا منها قوم من أهل التواتر حتى تعتبر النسخ بها، ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام فيهم موجودين، كانوا هم المرجع للناس فيما يعتمدون عليه إذا غير بعض الناس شيئا من الكتب، فلما انقطعت النبوة فيهم أسرع فيهم التغيير.

فلهذا بدل كثير من النصارى كثيرا من دين المسيح عليه السلام بعد رفعه بقليل من الزمان، وصاروا يبدلون شيئا بعد شيء، وتبقى فيهم طائفة متمسكة بدين الحق إلى أن بعث الله محمدا .

وقد بقي من أولئك الذين على الدين الحق طائفة قليلة كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عياض بن حمار المجاشعي عن النبي أنه قال: إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا قبيل مبعثه.

وقد أدرك سلمان الفارسي - وكان قد تنصر بعد أن كان مجوسيا - طائفة ممن كانوا متبعين لدين المسيح عليه السلام واحدا بالموصل وآخر بنصيبين وآخر بعمورية.

وكل منهم يخبره بأنه لم يبق على دين المسيح عليه السلام إلا قليل إلى أن قال له آخرهم: لم يبق عليه أحد، وأخبره أنه يبعث نبي بدين إبراهيم من جهة الحجاز فكان ذلك سبب هجرة سلمان إليه وإيمانه به.

فالدين الذي اجتمع عليه المسلمون اجتماعا ظاهرا معلوما هو منقول عن نبيهم نقلا متواترا نقلوا القرآن ونقلوا سنته، وسنته مفسرة للقرآن مبينة له كما قال تعالى له:

وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم.

فبين ما أنزل الله لفظه ومعناه فصار معاني القرآن التي اتفق عليها المسلمون اتفاقا ظاهرا مما توارثته الأمة عن نبيها كما توارثت عنه ألفاظ القرآن فلم يكن - ولله الحمد - فيما اتفقت عليه الأمة شيء محرف مبدل من المعاني فكيف بألفاظ تلك المعاني.

فإن نقلها والاتفاق عليها أظهر منه في الألفاظ فكان الدين الظاهر للمسلمين الذي اتفقوا عليه مما نقلوه عن نبيهم لفظه ومعناه فلم يكن فيه تحريف ولا تبديل لا للفظ ولا للمعنى بخلاف التوراة والإنجيل فإن من ألفاظها ما بدل معانيه وأحكامه اليهود والنصارى أو مجموعهما تبديلا ظاهرا مشهورا في عامتهم كما بدلت اليهود ما في الكتب المتقدمة من البشارة بالمسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وما في التوراة من الشرائع وأمره في بعض الأخبار.

وكما بدلت النصارى كثيرا مما في التوراة والنبوات من الأخبار ومن الشرائع التي لم يغيرها المسيح، فإن ما نسخه الله على لسان المسيح من التوراة يجب اتباع المسيح فيه.

وأما ما بدل بعد المسيح مثل استحلال لحم الخنزير وغيره مما حرمه الله ولم يبحه المسيح ومثل إسقاط الختان ومثل الصلاة إلى المشرق (وزيادة الصوم ونقله من زمان إلى زمان) واتخاذ الصور في الكنائس وتعظيم الصليب واتباع الرهبانية، فإن هذه كلها شرائع لم يشرعها نبي من الأنبياء لا المسيح، ولا غيره خالفوا بها شرع الله الذي بعث به الأنبياء من غير أن يشرعها الله على لسان نبي.

الوجه الثالث أن القرآن قد ثبت بالنقل المتواتر المعلوم بالضرورة - للموافق والمخالف - أن محمدا كان يقول إنه كلام الله لا كلامه وأنه مبلغ له عن الله وكان يفرق بين القرآن وبين ما يتكلم به من السنة وإن كان ذلك مما يجب اتباعه فيه تصديقا وعملا.

فإن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلم أمته الكتاب والحكمة كما قال تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.

وقال تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به.

وقال تعالى: وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم.

وقال تعالى: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة.

وقال تعالى عن الخليل وابنه إسماعيل: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.

وقال النبي : ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه فكان يعلم أمته الكتاب وهو القرآن العزيز الذي أخبرهم أنه كلام الله لا كلامه وهو الذي قال عنه: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

وهو الذي شرع لأمته أن تقرأه في صلاتهم فلا تصح صلاة إلا به وعلمهم مع ذلك الحكمة التي أنزلها الله عليه وفرق بينها وبين القرآن من وجوه.

منها: أن القرآن معجز.

ومنها: أن القرآن هو الذي يقرأ في الصلاة دونها.

ومنها: أن ألفاظ القرآن العربية منزلة على ترتيب الآيات فليس لأحد أن يغيرها باللسان العربي باتفاق المسلمين ولكن يجوز تفسيرها باللسان العربي وترجمتها بغير العرب.

وأما تلاوتها بالعربي بغير لفظها، فلا يجوز باتفاق المسلمين، بخلاف ما علمهم من الحكمة فإنه ليس حكم ألفاظها حكم ألفاظ القرآن

ومنها: أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، ولا يقرأه الجنب كما دلت عليه سنته عند جماهير أمته، بخلاف ما ليس بقرآن.

والقرآن تلقته الأمة منه حفظا في حياته، وحفظ القرآن جميعه في حياته غير واحد من أصحابه وما من الصحابة إلا من حفظ بعضه وكان يحفظ بعضهم ما لا يحفظه الآخر فهو جميعه منقول سماعا منه بالنقل المتواتر وهو يقول إنه مبلغ له عن الله وهو كلام الله لا كلامه.

وفي القرآن - ما يبين أنه كلام الله - نصوص كثيرة وكان الذين رأوا محمدا ونقلوا ما عاينوه من معجزاته وأفعاله وشريعته وما سمعوه من القرآن وحديثه ألوفا مؤلفة أكثر من مائة ألف رأوه وآمنوا به.

وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى: فهي أربعة أناجيل إنجيل متى ويوحنا ولوقا ومرقس، وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متى ويوحنا، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحد منهم إنجيلا، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله، ولا أن المسيح، بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته.

وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنا.

فالأناجيل التي بأيديهم شبه كتاب السيرة وكتب الحديث أو مثل هذه الكتب وإن كان غالبها صحيحا.

وما قاله عليه السلام فهو مبلغ له عن الله يجب فيه تصديق خبره وطاعة أمره كما قاله الرسول من السنة فهو يشبه ما قاله الرسول من السنة فإن منها ما يذكر الرسول أنه قول الله كقوله: يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد آذنت بالحرب ونحو ذلك

ومنها ما يقوله هو ولكن هو أيضا مما أوحاه الله إليه، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فهكذا ما ينقل في الإنجيل وهو من هذا النوع فإنه كان أمرا من المسيح فأمر المسيح أمر الله ومن أطاع المسيح فقد أطاع الله.

وما أخبر به المسيح عن الغيب فالله أخبره به فإنه معصوم أن يكذب فيما يخبر به.

وإذا كان الإنجيل يشبه السنة المنزلة فإنه يقع في بعض ألفاظها غلط كما يقع في كتب السيرة، وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه، ثم هذه الكتب قد اشتهرت واستفاضت بين

المسلمين (فلا يمكن أحدا - بعد اشتهارها وكثرة النسخ بها - أن يبدلها كلها.

لكن في بعض ألفاظها غلط وقع فيها قبل أن تشتهر، فإن المحدث - وإن كان عدلا - فقد يغلط) لكن ما تلقاه المسلمون بالقبول والتصديق والعمل من الأخبار فهو مما يجزم جمهور المسلمين بصدقه عن نبيهم.

هذا مذهب السلف وعامة الطوائف كجمهور الطوائف الأربعة وجمهور أهل الكلام من الكلابية والكرامية والأشعرية وغيرهم، لكن ظن بعض أهل الكلام أنه لا يجزم بصدقها لكون الواحد قد يغلط أو يكذب، وهذا الظن إنما يتوجه في الواحد الذي لم يعرف صدقه وضبطه

أما إذا عرف صدقه وضبطه، إما بالمعجزات كالأنبياء وإما بتصديق النبي له فيما يقول وإما باتفاق الأمة المعصومة على صدقه واتفاقهم على العمل بخبره، أو اتفاقهم على قبول خبره وإقراره، وذكره من غير نكير، أو ظهور دلائل وشواهد وقرائن احتفت بخبره ونحو ذلك من الدلائل على صدق المخبر، فهذه يجب معها الحكم بصدقه وأنه لم يكذب ولم يغلط، وإن كان خبره لو تجرد عن تلك الدلائل أمكن كذبه أو غلطه كما أن الخبر المجرد لا يجزم بكذبه إلا بدليل يدل على ذلك إما قيام دليل عقلي قاطع أو سمعي قاطع على أنه بخلاف مخبره فيجزم ببطلان خبره وحينئذ فالمخبر إما كاذبا أو غالطا، وقد يعلم أحدهما بدليل.

فالمسلمون عندهم من الأخبار عن نبيهم ما هو متواتر وما اتفقت الأمة المعصومة على تصديقه، وما قامت دلائل صدقه من غير هذه الجهة مثل: أن يخبر واحد أو اثنان أو ثلاثة بحضرة جمع كثير لا يجوز أن يتواطئوا على الكذب بخبر يقولون إن أولئك عاينوه وشاهدوه فيقرونهم على هذا ولا يكذب به منهم أحد فيعلم بالعادة المطردة أنه لو كان كاذبا لامتنع اتفاق أهل التواتر على السكوت عن تكذيبه كما يمتنع اتفاقهم على تعمد الكذب.

وإذا نقل الواحد والاثنان ما توجب العادة اشتهاره وظهوره ولم يظهر، ونقلوه مستخفين بنقله لم ينقلوه على رءوس الجمهور، علم أنهم كذبوا فيه.

ودلائل صدق المخبر وكذبه كثيرة متنوعة ليس هذا موضع بسطها، ولكن المقصود هنا أن المسلمين تواتر عندهم عن نبيهم ألفاظ القرآن ومعانيه المجمع عليها والسنة المتواترة وعندهم عن نبيهم أخبار كثيرة معلومة الصدق بطرق متنوعة كتصديق الأمة المعصومة ودلالة العادات وغير ذلك وهم يحفظون القرآن في صدورهم لا يحتاجون في حفظه إلى كتاب مسطور، فلو عدمت المصاحف من الأرض لم يقدح ذلك فيما حفظوه.

بخلاف أهل الكتاب فإنه لو عدمت نسخ الكتب لم يكن عندهم به نقل متواتر بألفاظها إذ لا يحفظها - إن حفظها - إلا قليل لا يوثق بحفظهم فلهذا كان أهل الكتاب بعد انقطاع النبوة عنهم يقع فيهم من تبديل الكتب إما تبديل بعض أحكامها ومعانيها، وإما تبديل بعض ألفاظها ما لم يقوموا بتقويمه.

ولهذا لا يوجد فيهم الإسناد الذي للمسلمين، ولا لهم كلام في نقلة العلم وتعديلهم وجرحهم ومعرفة أحوال نقلة العلم ما للمسلمين ولا قام دليل سمعي ولا عقلي على أنهم لا يجتمعون على خطأ، بل قد علم أنهم اجتمعوا على الخطأ لما كذبوا المسيح.

ثم كذبوا محمدا فإذا كانت الكتب المنقولة عن الأنبياء من جنس الكتب المنقولة عن محمد ولم تكن متواترة عنهم ولم يكن تصديق غير المعصوم حجة لم يكن عندهم من العلم بالتمييز بين الصدق والكذب ما عند المسلمين.

فهذه الأناجيل التي بأيدي النصارى من هذا الجنس فيها شيء كثير من أقوال المسيح وأفعاله ومعجزاته وفيها ما هو غلط عليه، بلا شك، والذي كتبها في الأول إذا لم يكن ممن يتهم بتعمد الكذب فإن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة لا يمتنع وقوع الغلط والنسيان منهم لا سيما ما سمعه الإنسان ورآه ثم حدث به بعد سنين كثيرة، فإن الغلط في مثل هذا كثير ولم يكن هناك أمة معصومة يكون تلقيها لها بالقبول والتصديق موجبا للعلم بها لئلا تجتمع الأمة المعصومة على الخطأ والحواريون كلهم اثنا عشر رجلا.

وقصة الصلب مما وقع فيها الاشتباه وقد قام الدليل على أن المصلوب لم يكن هو المسيح عليه السلام، بل شبهه وهم ظنوا أنه المسيح والحواريون لم ير أحد منهم المسيح مصلوبا، بل أخبرهم بصلبه بعض من شهد ذلك من اليهود.

فبعض الناس يقولون: إن أولئك تعمدوا الكذب وأكثر الناس يقول اشتبه عليهم ولهذا كان جمهور المسلمين يقولون في قوله: ولكن شبه لهم عن أولئك، ومن قال بالأول جعل الضمير في (شبه لهم) عن السامعين لخبر أولئك فإذا جاز أن يغلطوا في هذا، ولم يكونوا معصومين في نقله جاز أن يغلطوا في بعض ما ينقلونه عنه وليس هذا مما يقدح في رسالة المسيح، ولا فيما تواتر نقله عنه بأنه رسول الله الذي يجب اتباعه، سواء صلب أو لم يصلب، وما تواتر عنه فإنه يجب الإيمان به، سواء صلب أو لم يصلب.

والحواريون مصدقون فيما ينقلونه عنه لا يتهمون بتعمد الكذب عليه لكن إذا غلط بعضهم في بعض ما ينقله لم يمنع ذلك أن يكون غيره معلوما لا سيما إذا كان الذي غلط فيه مما تبين غلطه فيه في مواضع أخر.

وقد اختلف النصارى في عامة ما وقع فيه الغلط حتى في الصلب فمنهم من يقول المصلوب لم يكن المسيح، بل الشبه كما يقوله المسلمون ومنهم من يقر بعبوديته لله وينكر الحلول والاتحاد كالأريوسية ومنهم من ينكر الاتحاد وإن أقر بالحلول كالنسطورية.

وأما الشرائع التي هم عليها فعلماؤهم يعلمون أن أكثرها ليس عن المسيح عليه السلام فالمسيح لم يشرع لهم الصلاة إلى المشرق، ولا الصيام الخمسين ولا جعله في زمن الربيع، ولا عيد الميلاد والغطاس، وعيد الصليب، وغير ذلك من أعيادهم، بل أكثر ذلك مما ابتدعوه بعد الحواريين، مثل عيد الصليب فإنه مما ابتدعته هيلانة الحرانية أم قسطنطين وفي زمن قسطنطين غيروا كثيرا من دين المسيح والعقائد والشرائع فابتدعوا الأمانة التي هي عقيدة إيمانهم وهي عقيدة لم ينطق بها شيء من كتب الأنبياء التي هي عندهم، ولا هي منقولة عن أحد الأنبياء ولا عن أحد من الحواريين الذين صحبوا المسيح، بل ابتدعها لهم طائفة من أكابرهم قالوا كانوا ثلاث مائة وثمانية عشر.

واستندوا في ذلك إلى ألفاظ متشابهة في الكتب وفي الكتب ألفاظ محكمة تناقض ما ذكروه كما قد بسط في موضع آخر وكذلك عامة شرائعهم التي وضعوها في كتاب " القانون " بعضها منقول عن الأنبياء وبعضها منقول عن الحواريين وكثير منها مما ابتدعوه ليست منقولة عن أحد من الأنبياء ولا عن الحواريين وهم يجوزون لأكابر أهل العلم والدين أن يغيروا ما رأوه من الشرائع ويضعوا شرعا جديدا فلهذا كان أكثر شرعهم مبتدعا لم ينزل به كتاب ولا شرعه نبي.

فصل

وأما قولهم كيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف مصحف ومضى عليها إلى مجيء محمد أكثر من ستمائة سنة؟

فيقال: أما بعد انتشارها هذا الانتشار فلم يقل المسلمون، بل ولا طائفة معروفة منهم إن ألفاظ جميع كل نسخة في العالم غيرت لكن جمهور المسلمين الذين يقولون إن في ألفاظها ما غير إنما يدعون تغيير بعض ألفاظها قبل المبعث، أو تغيير بعض النسخ بعد المبعث لا تغيير جميع النسخ فبعض الناس يقول إن ذلك التغيير وقع في أول الأمر ويقول بعضهم إن منها ما غير بعد مبعث محمد ولا يقولون إنه غير كل نسخة في العالم، بل يقولون غير بعض النسخ دون البعض وظهر عند كثير من الناس النسخ المبدلة دون التي لم تبدل.

والنسخ التي لم تبدل هي موجودة عند بعض الناس.

ومعلوم أن هذا لا يمكن نفيه فإنه لا يمكن أحدا أن يعلم أن كل نسخة في العالم بكل لسان مطابق لفظها سائر النسخ بسائر الألسنة إلا من أحاط علما بذلك وهم قد سلموا أن أحدا لا يمكنه ذلك.

وأما من ذكر أن التغيير وقع في أول الأمر فهم يقولون إنما أخذت الأناجيل عن أربعة، اثنان منهم لم يريا المسيح، بل إنما رآه اثنان من نقلة الإنجيل متى ويوحنا.

ومعلوم إمكان التغير في ذلك.

وأما قولهم إنها مكتوبة باثنين وسبعين لسانا فمعلوم باتفاق النصارى أن المسيح لم يكن يتكلم إلا بالعبرية كسائر أنبياء بني إسرائيل، وأنه كان مختونا ختن بعد السابع كما يختن بنو إسرائيل وأنه كان يصلي إلى قبلتهم لم يكن يصلي إلى الشرق ولا أمر بالصلاة إلى الشرق.

ومن قال إن لسانه كان سريانيا كما يظنه بعض الناس فهو غالط فالكلام المنقول عنه في الأناجيل إنما تكلم به عبريا ثم ترجم من تلك اللغة إلى غيرها.

والترجمة يقع فيها الغلط كثيرا كما وجدنا في زماننا من يترجم التوراة من العبرية إلى العربية ويظهر في الترجمة من الغلط ما يشهد به الحذاق الصادقون ممن يعرف اللغتين.

والنصارى يقولون إنما كتبت بأربع لغات: (بالعبرية والرومية واليونانية والسريانية).

وأما قولهم إنها كتبت باثنين وسبعين لغة، فهذا إن كان صحيحا فإنما كتبت بعد أن كتبت تلك الأربعة فإذا كان الغلط وقع في مواضع من تلك الأربعة، لم يرفعه بعد ذلك كتابتها باثنين وسبعين لغة، فإن المسلمين لا يقولون: إنها كتبت باثنين وسبعين لغة غير لفظها في جميع الألسن (لاثنين وسبعين لغة في كل نسخة من ذلك).

وإنما يقال التغيير وقع قبل ذلك كما يقال في سائر ما ورد عن المسيح وموسى (ومحمد - عليهم صلوات الله وسلامه - من الحديث مثل سيرة ابن إسحاق، وأحاديث السنن، والمساند المأثورة عن النبي فإن في العالم بكل كتاب منها نسخ كثيرة، لا يمكن أن يغير منها فصل طويل، ولكن في نفس السيرة وقع غلط في مواضع وأحاديث وقعت في السنن هي غلط في الأصل (فاشتهار النسخ بها بعد ذلك لا يمنع وقوع الغلط في الأصل) وهذه كتب التفسير والفقه والدقائق، ما من كتاب إلا وبه نسخ كثيرة في العالم لا يمكن تغيير فصل طويل منها وفيها أحاديث غلط في الأصل.

والأناجيل التي بأيدي النصارى تشبه هذا، ولهذا أمروا أن يحكموا بما فيها فإن فيها أحكام الله وعامة ما فيها من الأحكام لم يبدل لفظه وإنما بدلت بعض ألفاظ الخبريات وبعض معاني الأمريات كما نؤمر نحن أن نعمل بأحاديث الأحكام المعروفة عن النبي فإن العلماء اعتنوا بضبطها أكثر من اعتنائهم بضبط الخبريات كأحاديث الزهد والقصص والفضائل ونحو ذلك، إذ حاجة الأمم إلى معرفة الأمر والنهي أكثر من حاجتهم إلى معرفة التفاصيل بالخبريات التي يكتفى بالإيمان المجمل بها.

وأما الأمر والنهي، فلابد من معرفته على وجه التفصيل، إذ العمل بالمأمور لا يكون إلا مفصلا، والمحظور الذي يجب اجتنابه لابد أن يميز بينه وبين غيره كما قال تعالى: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون.

والنصارى لا يحتاجون عند أنفسهم إلى هذا فإنه لا يجب عندهم أن يتمسكوا بشرع منقول عن المسيح عليه السلام وعندهم لأكابرهم أن يشرعوا دينا لم يشرعه المسيح، ويقولون: ما شرعه هؤلاء فقد شرعه المسيح فلم يكن لهم عناية ولا معرفة بشرع المسيح، كما للمسلمين عناية ومعرفة بشرع محمد .

فصل

وأما التوراة فمن المعلوم عند المسلمين واليهود والنصارى أن بيت المقدس خرب الخراب الأول وجلا أهله منه وسبوا ولم يكن هناك من التوراة نسخ كثيرة ظاهرة، بل إنما أخذت عن نفر قليل.

كما يقولون إن عزيرا أملاها وأنهم وجدوا نسخة أخرى فقابلوها بها والمقابلة تحصل باثنين وقد يغلط أحدهما وهم يذكرون أن من الملوك من أمر اثنين وسبعين حبرا منهم بنقلها واعتبر بعض تلك النسخ ببعض وهذا إذا كان صدقا لا يمنع أن يكون الغلط وقع في بعض ألفاظها قبل ذلك إلا أن يثبت أنها مأخوذة عن نبي معصوم أو أقر جميع ألفاظها نبي معصوم.

فما قاله المعصوم فهو حق، وما ثبت بالنقل المتواتر فهو حق.

وهؤلاء القائلون إنه وقع التغيير في بعض ألفاظها في ذلك الزمان يقولون لم تؤخذ عن نبي معصوم ولا نقلت بالتواتر.

ومن نازع من المسلمين وأهل الكتاب يقولون: أخذت عن العزير، وهو نبي معصوم وهذا مما يحتاج المثبت فيه والنافي إلى تحقيقه.

وإذا قالت النصارى فالمسيح عليه السلام أقرها قيل المسيح عليه السلام لم يمكن أن يلزمهم بما أوجبه الله عليهم من الإيمان به وطاعته فكيف كان يمكنه أن يغير نسخ التوراة التي عندهم مع كثرتها وهم قد طلبوا قتله وصلبه لعجزه وضعفه وصلبوا شبيهه كما يقوله المسلمون أو صلبوه نفسه (كما يقوله النصارى)، فكيف كان يمكنه أن يصلح ما غير منها؟

وأما من بعد المسيح فليس معصوما والمسيح غير بعض أحكامها وأقر أكثرها، والأحكام إنما يدعي المسلمون فيها النسخ وتبديلها بالاعتقاد بخلاف موجبها والعمل بذلك، لا يحتاجون إلى دعوى تبديل ألفاظها، كما بدلوا شريعة الرجم بغيرها وهو مكتوب في التوراة.

بخلاف الخبريات فإن هذه يقول أكثر المسلمين: إن التغيير وقع في بعض ألفاظها.

وأما النبوات المنقولة عن الاثنين وعشرين نبيا فهذه لا تعلم منها نبوة واحدة تواترت جميع ألفاظها، بل أحسن أحوالها أن تكون بمنزلة الإنجيل وهو بمنزلة ما ينقل من أقوال الأنبياء وسيرهم كسيرة ابن إسحاق أو بعض كتب المساند والسنن التي ينقل فيها ما ينقله الناقلون من أقوال النبي وأفعاله، وأكثره صدق، وبعضه غلط.

ولكن هذه الأمة حفظ الله لها ما أنزله كما قال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.

فما في تفسير القرآن أو نقل الحديث أو تفسيره من غلط فإن الله يقيم له من الأمة من يبينه ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة إذ كانوا آخر الأمم فلا نبي - بعد نبيهم - بعدهم ولا كتاب بعد كتابهم.

وكانت الأمم قبلهم إذا بدلوا وغيروا بعث الله نبيا يبين لهم ويأمرهم وينهاهم ولم يكن بعد محمد نبي، وقد ضمن الله أن يحفظ ما أنزله من الذكر وأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، بل أقام الله لهذه الأمة في كل عصر من يحفظ به دينه من أهل العلم والقرآن وينفي به تحريف الغالين وانتحال المضلين وتأويل الجاهلين.

فصل

وأما من قال: إنه غير بعض ألفاظها بعد مبعث محمد فهؤلاء يقولون: إنه كان في التوراة والإنجيل وغيرهما ألفاظ صريحة بأمور.

منها اسم محمد ، وأنه عمد بعض أهل الكتاب فغيروا بعض الألفاظ في النسخ التي كانت عندهم.

لا يقولون: إن هؤلاء غيروا كل نسخة كانت على وجه الأرض لكن غيروا بعض ألفاظ النسخ وكتب الناس من تلك النسخ المغيرة نسخا كثيرة انتشرت فصار أكثر ما يوجد عند كثير من أهل الكتاب هو من تلك النسخ المغيرة.

وفي العالم نسخ أخرى لم تغير فذكر كثير من الناس أنه رآها وقرأها وفي تلك النسخ ما ليس في النسخ الأخرى ومما يدل على ذلك أنك في هذا الزمان إذا أخذت نسخ التوراة الموجودة عند اليهود والنصارى والسامرة وجدت بينهما اختلافا في مواضع متعددة.

وكذلك نسخ الإنجيل، وكذلك نسخ الزبور مختلفة اختلافا متباينا بحيث لا يعقل العاقل أن جميع نسخ التوراة الموجودة متفقة على لفظ واحد، ولا يعلم أن جميع نسخ الإنجيل متفقة على لفظ واحد، ولا يعلم أن جميع نسخ الزبور متفقة على لفظ واحد فضلا عن سائر النبوات.

ومعلوم أنه لا يمكن أهل الكتاب إقامة حجة على أن جميع النسخ بجميع اللغات في زوايا الأرض متفقة على لفظ واحد في جميع ما هو موجود من جميع النبوات والحجة التي احتجوا بها على تعذر تغييرها كلها تدل على تعذر العلم بتساويها كلها.

فإذا قالوا: فمن هو الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا، ومن هو الذي حكم على الدنيا كلها ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على جميع من بأقطار الأرض وجمعها من أربع زوايا الأرض (حتى يغيرها.

قيل لهم: ومن الذي يعلم اثنين وسبعين لغة ومن هو الذي حكم على الدنيا ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على جميع من بأقطار الأرض وجمعها من أربع زوايا الأرض) وأحضر كل نسخة موجودة في جميع الأرض وقابل كل نسخة (موجودة في جميع الأرض) بجميع النسخ فوجد جميع ألفاظ جميع النسخ التي باثنين وسبعين لسانا من جميع أقطار الأرض لفظا متفقا، لم يختلف ألفاظها.

فإن دعوى العلم بهذا ممتنع أعظم من امتناع دعوى تغييرها، فإنه إن أمكن أحدا أن يجمع جميع النسخ كانت قدرته على تغيير بعض ألفاظها كلها أيسر عليه من مقابلة كل ما في نسخة بجميع ما في سائر النسخ.

فإنا إذا أحضرنا بكتاب من الكتب عشر نسخ كان تغيير بعض ألفاظ العشرة أيسر علينا من مقابلة كل واحد من العشرة بالتسعة الباقية إذ المقابلة يحتاج فيها إلى معرفة جميع ألفاظ كل نسخة ومساواتها للأخرى.

وأما التغيير فيكفي فيه أن يغير من كل نسخة ما يغيره من الأخرى فإن كان تغيير جميع النسخ ممتنعا في العادة فالعلم باتفاقها أشد امتناعا، وإن كان العلم باتفاقها ممكنا، فإمكان تغيير بعض ألفاظها أيسر وأيسر.

وأما قولهم إن قيل: إنه غير بعضها وترك بعضها، فهذا لا يمكن أن يكون لأنها كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن.

فيقال: أما إمكان قول هذا فظاهر لا ينازع فيه عاقل، وهو واقع فإنا قد رأينا التوراة التي عند السامرة تخالف توراة اليهود والنصارى (حتى في العشر الكلمات.

فذكر السامرة فيها من أمر استقبال الطور ما لا يوجد في نسخ اليهود والنصارى) وكذلك بين نسخ اليهود والنصارى اختلاف معروف ونسخ الإنجيل مختلفة، ونسخ الزبور مختلفة اختلافا أكثر من ذلك، وبكل حال فلا يقدر عاقل أن يقول: يمتنع تغيير بعض النسخ.

ولكن إذا قالوا لم يغير شيء منها لأن جميعها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن كانت هذه الدعوى باطلة من وجهين.

أحدهما: أن دعوى العلم بتساوي جميع النسخ أبلغ من دعوى إمكان تغييرها، فإن كان التغيير ممتنعا على جميعها كان علم الواحد بما في جميعها - وأنها متماثلة الألفاظ مع اختلاف الألسن - أولى بالامتناع.

الثاني: أن هذا دعوى خلاف الواقع، فإن الاختلاف في نسخ التوراة والإنجيل والزبور موجود قد رأيناه نحن بأعيننا، ورآه غيرنا، فرأيت عدة نسخ بالزبور يخالف بعضها بعضا اختلافا كثيرا ورأينا بعض ألفاظ التوراة التي ينقلها هذه الطائفة وهي مكتوبة عندهم يدعون أنها هي التوراة الصحيحة المنقولة عندهم بالتواتر تخالف بعض ألفاظ توراة الطائفة الأخرى، وكذلك الإنجيل.

وبالجملة قولهم: هذا لا يمكن أن يكون؛ لأنها كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن، تضمن شيئين:

تضمن دعوى كاذبة، وحجة باطلة، فإن قولهم: (هذا لا يمكن) مكابرة ظاهرة، فإن إمكان تغيير بعض النسخ مما لا ينازع عاقل في إمكانه، لكن قد يقول القائل: إذا غير بعض النسخ وأظهر ذلك، شاع ذلك فرأى سائر أهل النسخ تلك النسخة مغايرة لنسخهم فأنكروه، فإن الهمم والدواعي متوفرة على إنكار ذلك، كما يوجد اليوم مثل ذلك لو أراد رجل أن يغير كتابا مشهورا عند الناس، به نسخ متعددة، فإذا غيره فوصلت تلك النسخة إلى من يعرف ما في تلك النسخ أنكروا ذلك.

فيقال: هذا يمكن إذا كانت تلك النسخة المغيرة وصلت إلى طائفة يمتنع عليهم مواطأتهم على الكذب فإنه كما يمتنع في الأخبار المتواترة التواطؤ على الكذب، فيمتنع التواطؤ على كتمان ما يتعذر كتمانه في العادة.

ومعلوم أنه لا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤ على تغيير بعض النسخ، والنسخ إنما هي موجودة عند علماء أهل الكتاب وليس عامتهم يحفظ ألفاظها كما يحفظ عوام المسلمين ألفاظ القرآن فإذا قصد طائفة منهم تغيير نسخة أو نسخ عندهم أمكن ذلك، ثم إذا تواطأت طائفة أخرى على أن لا يذكروا ذلك أمكن ذلك، ولكن إذا كانت الطوائف ممن لا يمكن تواطؤها على الكذب أو الكتمان امتنع ذلك فيهم.

وقد رأينا عند أهل الكتاب كتبا يدعون أنها عندهم من النبي بخط علي بن أبي طالب، فيها أمور تتعلق بأغراضهم، وقد التبس أمرها على كثير من المسلمين، وعظموا ما فيها وأعطوا أهل الكتاب ما كتب لهم فيها معتقدين أنهم ممتثلين ما فيها

فلما وصلت إلى من وصلت إليه من علماء المسلمين بينوا كذبها بطرق معلومة بالتواتر، مثل ذكرهم فيها: شهد بما فيها كعب بن مالك الحبر على النبي يعنون كعب الأحبار.

وكعب الأحبار إنما أسلم على عهد عمر بن الخطاب لم يدرك النبي واسمه كعب بن ماتع، ولكن في الأنصار كعب بن مالك الشاعر الذي أنزل الله توبته في سورة (براءة)، فظن هؤلاء الجهال أن هذا هو ذاك.

ومثل ذكرهم شهادة سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، ذكروا شهادته عام خيبر، وقد اتفق أهل العلم أنه مات عقب غزوة الخندق قبل غزوة خيبر بمدة، وأمثال ذلك.

وأما حجتهم الداحضة فقولهم: إن جميع كتب النبوات التي في العالم من التوراة والإنجيل والزبور والنبوات موجودة باثنين وسبعين لسانا، بلفظ واحد وقول واحد، فهل يقول عاقل من العقلاء إنه علم ذلك؟ وإنه علم أن كل نسخة من النبوات الأربعة وعشرين بأحد الألسنة الاثنين وسبعين موافقة لكل نسخة في سائر الألسنة، ولو ادعى مدع أن كل نسخة من التوراة في العالم باللسان العربي (أو كل نسخة من الإنجيل في العالم باللسان العربي) أو كل نسخة في العالم من الزبور باللسان العربي موافقة لجميع النسخ العربية الموجودة في زوايا العالم لكان قد ادعى ما لا يعلمه ولا يمكنه علمه، فمن أين له ذلك؟ وهل رأى كل نسخة عربية بهذه الكتب، أو أخبره من يعلم صدقه أن جميع النسخ العربية الموجودة في العالم موافقة لهذه النسخة؟

وكذلك إذا ادعى ذلك في اللسان اليوناني، والسرياني، والرومي، والعبراني، والهندي، فإن كان في العالم بكل كتاب من هذه اثنان وسبعون لسانا فدعوى اتفاق نسخ كل لسان من جنس دعوى اتفاق النسخ العربية، فكيف إذا ادعى اتفاق النسخ بجميع الألسنة؟

وهب أنه يمكن أن يقال ذلك في نسخ لسان نقلها أهله، والناطقون به، فكيف يمكن دعواه في لسان كثر الناطقون به وانتشر أهله؟

وليس هذا كدعوى اتفاق مصاحف المسلمين بالقرآن فإن القرآن لا يتوقف نقله على المصاحف، بل القرآن محفوظ في قلوب ألوف مؤلفة من المسلمين، لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، فلو عدم كل مصحف في العالم لم يقدح ذلك في نقل لفظ من ألفاظ القرآن، بخلاف الكتب المتقدمة فإنه قل أن نجد من أهل الكتاب أحدا يحفظ كتابا من هذه الكتب، فقل أن يوجد من اليهود من يحفظ التوراة.

وأما النصارى فلا يوجد فيهم من يحفظ التوراة والإنجيل والزبور والنبوات كلها فضلا عن أن يحفظها باثنين وسبعين لسانا، (وإن وجد ذلك فهو قليل لا يمتنع عليهم لا الكذب ولا الغلط).

فتبين أن ما ذكروه من انتشار كتبهم بالألسنة المختلفة هو من أقوى الأمور في عدم العلم بتماثل ما فيها من الألفاظ، وأن القرآن إذا كان منقولا، بلغة واحدة، وذلك اللسان يحفظه خلق كثير من المسلمين فكان ذلك مما يبين أن القرآن لا يمكن أحدا أن يغير شيئا من ألفاظه، وإن أمكن تغيير بعض ألفاظ التوراة والإنجيل عند كثير من أهل الكتاب.

والمسلمون لا يدعون أنه غير جميع ألفاظ جميع النسخ بعد مبعث النبي كما ظنه بهم هؤلاء الجهال، بل إنما ادعوا ما يسوغه العقل، بل ويظهر دليل صدقه ولكن هؤلاء الجهال ادعوا العلم، بأن جميع النسخ بجميع الألسنة بجميع الكتب، بلفظ واحد، فادعوا ما لا يمكن أحدا علمه، وادعوا ما يعلم بطلانه

فصل: ثبوت الإختلاف والتغيير في نسخ أهل الكتاب

وقد ظهر الجواب عن قولهم فمن هو الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا، أو من هو الذي حكم على الدنيا جميعها ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على الدنيا جميعها من أربع زوايا العالم حتى غيرها، وإن كان مما أمكنه جمعها كلها أو بعضها.

فهذا ما لا يمكن، إذ جميعها قول واحد ونص واحد واعتقاد واحد.

وقد ظهر الجواب عن ذلك من وجوه:

أحدها: أنا لم ندع تغييرها بعد أن صارت بهذه الألسن، وانتشرت بها النسخ، بل لا ندعي التغيير بعد انتشار النسخ فيما ليس من كتب الأنبياء مثل كتب النحو والطب والحساب والأحاديث والسنن المنقولة عن الأنبياء مما نقل في الأصل نقل آحاد، ثم صارت النسخ به كثيرة منتشرة، فإن أحدا لا يدعي أنه بعد انتشار النسخ بكتاب في مشارق الأرض ومغاربها حكم إنسان على جميع المعمورة، وجمع النسخ التي بها وغيرها.

ولا ادعى أحد مثل ذلك في التوراة والإنجيل، وإنما ادعى ذلك فيها، لما كانت النسخ قليلة: إما نسخة، وإما اثنتين، وإما أربعة ونحو ذلك.

أو ادعى تغيير بعض ألفاظ النسخ، فإن بعض النسخ يمكن تغييرها.

ونسخ التوراة والإنجيل والزبور موجودة اليوم وفي بعضها اختلاف، لكنه اختلاف قليل والغالب عليها الاتفاق.

وذلك يظهر بالوجه الثاني: أن قولهم: إن جميعها قول واحد، ونص واحد، واعتقاد واحد، ليس كما قالوه، بل نسخ التوراة مختلفة في مواضع.

وبين توراة اليهود والنصارى والسامرة اختلاف، وبين نسخ الزبور اختلاف أكثر من ذلك وكذلك بين الأناجيل فكيف بنسخ النبوات؟

وقد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد باسمه ورأيت نسخة أخرى بالزبور فلم أر ذلك فيها وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي ما ليس في أخرى.

الوجه الثالث: أن التبديل في التفسير أمر لا ريب فيه، وبه يحصل المقصود في هذا المقام فإنا نعلم قطعا أن ذكر محمد مكتوب فيما كان موجودا في زمنه من التوراة والإنجيل كما قال تعالى: الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.

ولا ريب أن نسخ التوراة والإنجيل على عهده كانت كثيرة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها فلابد من أحد الأمرين.

إما أن يكون غير اللفظ من بعض النسخ وانتشرت النسخ المغيرة.

وإما أن يكون ذكره في جميع النسخ كما استخرجه كثير من العلماء ممن كان من أحبار اليهود والنصارى وممن لم يكن من أحبارهم، استخرجوا ذكره والبشارة به في مواضع كثيرة متعددة من التوراة والإنجيل ونبوات الأنبياء، كما هو مبسوط في موضع آخر.

ومن قال إن ذكره موجود فيها أكثر من هذا وأصرح في بعض النسخ لا يمكن هؤلاء دفعه بأن يقولوا: قد اطلعنا على كل نسخة في العالم بالتوراة والإنجيل في مشارق الأرض ومغاربها، فوجدناها على لفظ واحد، فإن هذا لا يقوله إلا كذاب، فإنه لا يمكن بشرا أن يطلع على كل نسخة في مشارق الأرض ومغاربها، كما لا يمكنه أن يغير كل نسخة في مشارق الأرض ومغاربها، فلو لم يعلم اختلاف النسخ لم يمكنه الجزم باتفاقها في اللفظ، فكيف وقد ذكر الناس المطلعون عليها من اختلاف لفظها؟ ما تبين به كذب من ادعى اتفاق لفظها، وكيف يمكن اتفاق لفظها وهي، بلغات مختلفة.

فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن أقرهم على ما هم عليه

قالوا: ثم وجدنا في هذا الكتاب، ما هو أعظم من هذا برهانا، مثل قوله في سورة الشورى: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير.

وأما لغير أهل الكتاب، فيقول: قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد... السورة كلها.

والجواب:

أما قوله: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم.

فهذه الآية مذكورة بعد قوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب * وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب * فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم.

فقد أخبرنا أنه شرع لنا من الدين ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كما قال تعالى في الآية الأخرى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.

وقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون.

ثم أخبر عن تفرق الذين أوتوا الكتاب كتفرق اليهود والنصارى وتفرق فرق اليهود، وفرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية.

ثم قال: وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم - أولئك المفترقين - لفي شك منه مريب.

وهكذا توجد عامة اليهود والنصارى في شك من ذلك مريب.

وقال تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب.

وقال تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما.

ثم قال تعالى: فلذلك فادع واستقم كما أمرت. إلى الدين الذي شرعه لنا: واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم. وهذا يتناول أهواء أهل الكتاب، كما يتناول أهواء المشركين، وقد صرح بذلك في قوله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير.

وقال تعالى:

ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين.

كما صرح بنهيه عن اتباع أهواء المشركين في قوله تعالى: قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون.

وقوله تعالى: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب. حق، فإن الله أمره وجميع الخلق أن يؤمنوا بجميع ما أنزل الله

وكذلك قوله تعالى: وأمرت لأعدل بينكم. فإن الله أمره أن يعدل بين جميع الخلق

وقوله: الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. هذه براءة منه لمن يخاطب بذلك من المشركين وأهل الكتاب، كقوله تعالى: وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.

ومثله قوله تعالى: قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون.

وكذلك قوله: قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين.

فإن هذه الكلمة كقوله: لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.

وهي كلمة توجب براءته من عملهم وبراءتهم من عمله فإن حرف اللام في لغة العرب يدل على الاختصاص، فقوله: لكم دينكم ولي دين. يدل على أنكم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه، وأنا مختص بديني لا تشركوني فيه، كما قال: لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.

ولهذا قال النبي في قل يا أيها الكافرون هي براءة من الشرك، وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين ولا أهل الكتاب كما يظنه بعض الملحدين، ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين، وجعلوها منسوخة، بل فيها براءته من دينهم وبراءتهم من دينه، وأنه لا تضره أعمالهم ولا يجزون بعمله ولا ينفعهم.

وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ ولم يرض الرسول بدين المشركين، ولا أهل الكتاب طرفة عين قط ومن زعم أنه رضي بدين الكفار واحتج بقوله تعالى:

قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين.

فظن هذا الملحد أن قوله: لكم دينكم ولي دين معناه أنه رضي بدين الكفار، ثم قال: هذه الآية منسوخة، فيكون قد رضي بدين الكفار، وهذا من أبين الكذب والافتراء على محمد ، فإنه لم يرض قط إلا بدين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، ما رضي قط بدين الكفار لا من المشركين، ولا من أهل الكتاب.

وقوله: لكم دينكم ولي دين لا يدل على رضاه بدينهم، بل ولا على إقرارهم عليه، بل يدل على براءته من دينهم، ولهذا قال النبي (إن هذه السورة براءة من الشرك).

ونظير هذه الآية قوله تعالى: وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.

وكذلك قوله تعالى: فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.

وقد يظن بعض الناس أيضا أن قوله لكم دينكم ولي دين الآية، أني لا آمر بالقتال ولا أنهى عنه ولا أتعرض له بنفي ولا إثبات وإنما فيها أن دينكم لكم أنتم مختصون به وأنا بريء منه وديني لي وأنا مختص به وأنتم برآء منه.

وهذا أمر محكم لا يمكن نسخه بحال كما قال تعالى: عن الخليل.

وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين.

وقد قال تعالى: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه.

وهو ما طار عنه من خير وشر، وقد قال تعالى: ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وقال تعالى: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت

وقال تعالى: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، بل قال تعالى لنبيه: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون.

فإذا كان قد برأه الله من معصية من عصاه من أتباعه المؤمنين فكيف لا يبرئه من كفر الكافرين الذين هم أشد له معصية ومخالفة؟

فصل: إلزام اليهود والنصارى بدين الإسلام

وأما قوله تعالى:

قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين فهو أمر بالقول لجميع الكافرين من المشركين وأهل الكتاب، فإن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بما أنزل إليه من ربه كافرون قد شهد عليهم بالكفر وأمر بجهادهم وكفر من لم يجعلهم كافرين ويوجب جهادهم قال تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة.

وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم.

وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة.

وقال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وحرف (من) في هذه المواضع لبيان الجنس، فتبين جنس المتقدم، وإن كان ما قبلها يدخل في جميع الجنس الذي بعدها، بخلاف ما إذا كان للتبعيض كقوله: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب.

فإنه يدخل في الذين كفروا بعد مبعث النبي جميع المشركين، وأهل الكتاب.

وكذلك دخل في الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق جميع أهل الكتاب الذين بلغتهم دعوته، ولم يؤمنوا به، وكذلك قوله: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات.

وإن كان جميعهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهذا إذا كان الجنس يتناول المذكورين وغيرهم، ولكن لم يبق في الجنس إلا المذكورون، كما يقول: هنا رجل من بني عبد المطلب، وإن لم يكن بقي منهم غيره.

ووصفهم بالشرك، وبأنهم يعبدون غير الله، كما قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

فأخبر أنهم اتخذوا من دون الله أربابا واتخذوا المسيح ربا وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا وهؤلاء باتخاذهم غيره أربابا عبدوهم فأشركوا بالله - سبحانه و تعالى عما يشركون -.

وقال تعالى:

ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون.

فقد أخبر أيضا أنه من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فإنه كافر.

وقال تعالى:

لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم * ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون * قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم

فقد وبخ أهل التثليث على أنهم يعبدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) فدخلوا في قوله: قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد. كما دخل في ذلك غيرهم من الكفار، لا سيما وقد دخل في ذلك اليهود، وهم أولى بالدخول من غيرهم، فإن قوله: (ما تعبدون) يتناول صفات المعبود، والإله الذي يعبده المؤمنون هو الإله الذي أنزل التوراة والإنجيل والقرآن، وأرسل موسى وعيسى ومحمدا - صلوات الله عليهم وسلامه -.

والإله المتصف بهذه الصفات لا يعبده اليهود والنصارى، وهذا كقوله: قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون.

فهذا الإله الذي يعبده محمد وأمته، وليس هو إله المشركين الذي يعبدونه، وإن كان هو المستحق لأن يعبدوه فإنهم يشركون بعبادته ويصفونه بما هو بريء منه فلا يخلصون له الدين، فيعبدوا معه آلهة أخرى إن لم يستكبروا عن عبادته، وإله العبد الذي يعبده بالفعل ليس حاله معه كحاله مع الذي يستحق أن يعبده، وهو لا يعبده، بل يشرك به أو يستكبر عن عبادته، فهذا هو الذي قال فيه: لا أعبد ما تعبدون.

والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود.

فصل: وجوب محاججة الظالمين من مشركين وأهل كتاب

وأما قوله: لا حجة بيننا وبينكم. الآية، فهذا ليس خطابا للنصارى خصوصا، بل هو خطاب للجميع، وهؤلاء النصارى ظنوا أن معنى هذا لا تحاجوا أهل الكتاب، كما ظنوا في قوله تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم. أن معناه: لا تجادلوا أهل الكتاب - أي النصارى - إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا، أي اليهود اهـ.

وهذا تحريف كلم الله عن مواضعه، وهو شبيه بتحريفهم لما عندهم من التوراة والإنجيل والزبور، وسائر النبوات، فإنهم أعظم تسلطا على تحريف معانيها منهم على تحريف معاني

القرآن، إذ كان القرآن له أمة تحفظه، وتعرف معانيه، وتذب عنه من يحرف لفظه أو معناه.

وأما تلك الكتب فليس لها من يذب عن لفظها ومعناها، فلهذا عظم تحريفهم لها، وكان أعظم من تحريفهم للقرآن.

ومما يبين أن هذا الخطاب ليس مختصا بالنصارى أن هذه السورة مكية، والسور المكية كانت تتناول من لا يقرأ الكتاب، لا تختص بأهل الكتاب، بل كانت تعم الأمم أو تختص بالمشركين.

والسور المدنية خطابها تارة لأهل الكتاب، وتارة تختص بالمؤمنين وتارة تعم، وقد قال تعالى: كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب.

وقال تعالى: وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب.

فالخطاب إما أن يعم المشركين، وأهل الكتاب، أو يخص المشركين، وأهل الكتاب: اليهود والنصارى، وبكل تقدير فلا وجه لتخصيص النصارى به.

وأما قوله تعالى: لا حجة بيننا وبينكم.

فهو نظير قوله تعالى: قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون.

وقوله: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ.

فالحجة اسم لما يحتج به من حق وباطل كقوله: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم. فإن الظالمين يحتجون عليكم بحجة باطلة كقول المشركين لما حولت القبلة إلى الكعبة قد عاد إلى قبلتكم فسوف يعود إلى ملتكم، فهذه حجة داحضة من الظالمين.

ومما يبين ذلك بعد قوله بعد ذلك: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.

فسماها حجة وجعلها داحضة، وهؤلاء الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له هم الكفار من المشركين وأهل الكتاب.

فهم يحاجون المؤمنين ليردوهم عن دينهم، وقال عن النصارى: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.

فكان الكفار يحاجون المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم، كما يؤذونهم، فهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد.

ومحاجتهم للمؤمنين من باب الظلم لهم والعدوان عليهم وقول الباطل، فأمره تعالى أن يقول: لا حجة بيننا وبينكم.

أي ليس لكم أن تظلمونا، وتعتدوا علينا بحجتكم الداحضة، وليس المراد بذلك أنا نحن لا نحاجكم، وندعوكم إلى الحق بالحجج الصحيحة.

فإنه تعالى قال: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.

فأمره تعالى أن يجادل أهل دعوته مطلقا من المشركين، وأهل الكتاب بالتي هي أحسن.

وقد قال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.

فإن الظالم باغ مستحق للعقوبة، فيجوز أن يقابل بما يستحقه من العقوبة، لا يجب الاقتصار معه على التي هي أحسن، بخلاف من لم يظلم، فإنه لا يجادل إلا بالتي هي أحسن.

وأهل الكتاب اسم يتناول اليهود والنصارى، كما في نظائره في القرآن كقوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب الآية. وقوله:

لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين.

وأمثال ذلك.

والظالم يكون ظالما بترك ما تبين له من الحق واتباع ما تبين له أنه باطل، والكلام بلا علم فإذا ظهر له الحق فعند عنه كان ظالما.

وذلك مثل الألد في الخصام قال تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام.

وقال: يجادلونك في الحق بعد ما تبين.

وقال: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم.

فصل: الإسلام دين الأنبياء جميعا

وقولهم: إنه لم يقل: كونوا له مسلمين، ولكن ونحن، أي عنه وعن العرب التابعين له، ولما أتى به وجاء في كتابه.

فيقال لهم: هذا ونظائره كلام من لم يفهم القرآن، بل ولا يفهم كلام سائر الناس، فإنه إذا عرف من صاحب كتاب يقول إنه منزل من الله، أو يقول إنه صنفه هو أنه يدعو قوما بالأقوال الصريحة الكثيرة، والأعمال البينة الظاهرة، كان سكوته عن دعائهم في بعض الألفاظ لا ينافي دعاءهم له.

لكن إن كان حكيما في كلامه كان للسكوت عن دعائهم في بعض المواضع حكمة تناسب ذلك، وهذا كقوله تعالى: قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون.

أفتراه لما أمر أمته أن يقولوا ونحن له مخلصون لم يكن أهل الكتاب مأمورين بالإخلاص لله، وقد ذكر أمر أهل الكتاب بالإخلاص في غير موضع كقوله تعالى: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة * وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة.

وكذلك دعاهم إلى الإسلام وتوعدهم على التولي عنه في مثل:

شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب * فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد

وقال تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون * أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون.

فقد بين - سبحانه - أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه أي سفه نفسا، أي كانت نفسه سفيهة جاهلة، هذا أصح القولين في ذلك، وهو مذهب الكوفيين من النحاة، يجوزون أن يكون المنصوب على التمييز معرفة، كما يكون نكرة، ثم أخبر عنه أنه: إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين.

وذكر أن إبراهيم وصى بها بنيه، ويعقوب وصى بها بنيه أيضا، كلاهما قال لبنيه: يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

ثم ذكر أن يعقوب عند موته: إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون.

فهؤلاء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب كلهم على الإسلام وهم يأمرون بالإسلام

ثم قال بعد ذلك: وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.

ثم قال: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

ثم قال: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.

فقد أخبر أنهم إن تولوا عن الإيمان بمثل ما آمنتم به المتضمن قولكم: ونحن له مسلمون فإنما هم في شقاق، أي: مشاقون لله ورسوله كما قال تعالى: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار - إلى قوله - ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب.

وقوله تعالى: ونحن له مسلمون في العنكبوت فهو مثل قوله: ونحن له مسلمون في البقرة مع دعائهم إلى الإسلام، وكذلك في سورة آل عمران في قوله: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

فقد دعاهم أولا إلى الإسلام، وهو عبادة الله وحده، لا شريك له، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، كما قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

ثم قال تعالى: فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

وهذه الآية هي التي كتب بها النبي إلى قيصر ملك الروم لما دعاه إلى الإسلام.

وقال في كتابه.

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

فدعاه النبي إلى الإسلام، في كتابه الذي أرسله إليه وقال أيضا في آل عمران:

ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون.

فذكر التوحيد في هذه الآية، وكفر من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا، فكيف بمن اتخذ الأحبار والرهبان أربابا ثم ذكر الإيمان بخاتم الرسل، فقال: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون * أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون * قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

فقد ذكر أنه أخذ الميثاق على النبيين وأممهم: مهما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه.

وهذا يتناول الأمر لكل أهل الكتاب إذا جاءهم رسول ثان أن يؤمنوا به وينصرونه، وإن كان عندهم من الكتاب والحكمة ما كان، ولا يقولون: نحن مستغنون بما عندنا من الكتاب والحكمة، لا نؤمن بالرسول الذي جاءنا.

ونخص الإيمان بمحمد ، فإنه خاتم الرسل، وهو آخر رسول جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب، فوجب على من جاءه أن يؤمن به وينصره، وإن كان عنده من الكتاب والحكمة ما كان.

وهذا الميثاق أخذه الله على الأنبياء، وأخذوه على أممهم، ثم قال: أفغير دين الله يبغون.

وهذا هو دين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، فمن ابتغى غيره فقد ابتغى غير دين الله، وهو دين الإسلام، (الذي قال) فيه: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

فصل: أمر المؤمنين بقول الحق لتقوم به الحجة على المخالف

وأما قوله تعالى:

ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.

فهو أمر للمؤمنين أن يقولوا الحق الذي أوجبه الله عليهم، وعلى جميع الخلق ليرضوا به الله، وتقوم به الحجة على المخالفين، فإن هذا من الجدال بالتي هي أحسن، وهو أن تقول كلاما حقا يلزمك، ويلزم المنازع لك أن يقوله، فإن وافقك وإلا ظهر عناده وظلمه.

كما قال تعالى في الآية الأخرى: قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون.

فإنا مشتركون في أنه ربنا كلنا وأن عمل كل عامل له لا لغيره،

وامتزنا نحن بأنا مخلصون له، وأنتم لستم مخلصين له، فأوجب هذا أن الحق معنا دونكم، وأن أعمالنا صالحة مقبولة، وأعمالكم مردودة.

ويشبه ذلك قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

فأمره لهم أن يقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يتضمن إقامة الحجة عليهم كما كان المسيح عليه السلام يقول.

فصل: نقض دعواهم أن الظلم اتصف به اليهود دون النصارى

ثم قالوا: فأما الذين ظلموا فما يشك أحد في أنهم اليهود الذين سجدوا لرأس العجل، وكفروا بالله مرارا كثيرة ليست واحدة، وقتلوا أنبياءه ورسله وعبدوا الأصنام، وذبحوا للشياطين ليس حيوانات غير ناطقة فقط، بل بنيهم وبناتهم حسب ما شهد الله عليهم قائلا على لسان داود النبي عليه السلام في كتاب الزبور في مزمور مائة وخمسة يقول ذبحوا بنيهم وبناتهم للشياطين وأراقوا دما زكيا دم بنيهم وبناتهم الذين ذبحوا للمنحوتات بكنعان وقد تنجست الأرض بالدماء وتنجست أعمالهم وزنوا بضغائنهم، وسخط الرب عليهم ورذل ميراثهم.

وقال أيضا على لسان أشعيا النبي عليه السلام يقول الله في بني إسرائيل: لم يسمعوا وصاياي، لم يحفظوا كل ما أوصيتهم به،

بل غيروا ونقضوا الميثاق الذي كنت جعلته لهم إلى الأبد، فلذلك أجلستهم عليهم الحزن، وأهلكتهم وانقطع ممن يبقى منهم الفرح والسرور.

هكذا قال الله على سكان بيت المقدس من بني إسرائيل: سأبددهم بين الأمم، وفي تلك الأيام يرفعون الأمم أصواتهم ويسبحون الله ويمجدونه بأصوات عالية، ويجتمعون من أقطار الأرض، ومن جزائر البحر، ومن البلدان البعيدة ويقدسون اسم الله ويرجعون إلى الله إله إسرائيل، ويكونون شعبة، وأما بنو إسرائيل فيكونون مبددين في الأرض.

وقال أشعيا النبي عليه السلام يقول الله: (يا بني إسرائيل نجستم جبلي المقدس، فإني سأفنيكم بالحرب وتموتون، وذلك لأني دعوتكم فلم تجيبوا وكلمتكم فلم تسمعوا، وعملتم الشيء بين يدي).

وقال أشعيا أيضا: (إن الله قد بغض بني إسرائيل، وأخرجهم من بيوتهم ومن بيته ولا يغفر لهم لأنهم لعنة، وجعلوا لعنة الناس فلذلك أهلكهم الله، وبددهم بين الأمم، ولا يعود يرحمهم ولا ينظر إليهم برحمة إلى أبد الآبدين، ولا يقربون لله قربانا ولا ذبيحة في ذلك اليوم وذلك الزمان، ولا يفرح بنو إسرائيل؛ لأنهم قد ضلوا عن الله - عز وجل -).

وقال أرميا النبي عليه السلام: (كما أن الحبشي لا يستطيع أن يكون أبيضا، فكذلك بنو إسرائيل لا يتركون عادتهم الخبيثة، ولذلك إني لا أرحم، ولا أشفق، ولا أرق على الأمة الخبيثة ولا أرثي لها).

وقال حزقيل النبي عليه السلام: (قال الله: إنما رفعت يدي عن بني إسرائيل وبددتهم بين الأمم، لأنهم لم يعملوا بوصاياي، ولم يطيعوا أمري، وخالفوني فيها فيما قلت لهم ولم يسمعوا لي).

ومثل هذا القول في التوراة، وكتب الأنبياء، وزبور داود شيء كثير يقرونها اليهود في كنائسهم، ويقرأونها ولا ينكرون منها حرفا واحدا، ومثل ما هو عندهم، وكذلك عندنا في جميع الألسن ا هـ.

والجواب أن يقال: أما كون اليهود ظالمين كافرين معتدين مستحقين لعذاب الله وعقابه، فهذا معلوم بالاضطرار من دين محمد منقول بالتواتر، كما علم بالاضطرار والنقل المتواتر عنه أن النصارى أيضا ظالمون معتدون كافرون مستحقون لعذاب الله وعقابه، وفي اليهود من الكفر ما ليس في النصارى، وفي النصارى ما ليس في اليهود فإن اليهود بدلوا شريعة التوراة قبل أن يأتيهم المسيح ابن مريم، فلما أتاهم كفروا به وكذبوه فلما بعث محمد كذبوه فباءوا بغضب على غضب.

كما قال تعالى عنهم:

أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون * ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون * وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون * ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين * بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين * وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين * ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين.

فغضب عليهم أولا بتكذيب المسيح، وثانيا بتكذيب محمد .

وقال تعالى: ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.

وقال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.

وقال تعالى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.

فتبين أن اليهود لعنهم الله وأنهم عبدوا الطاغوت، وأنه جعل منهم القردة والخنازير، ومثل هذا في القرآن كثير لكن قول القائل أنهم المرادون بقوله تعالى: إلا الذين ظلموا منهم.

في قوله: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم. غلط بين ولهذا كان باطلا باتفاق المسلمين.

فإن قوله تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن. نهي عن مجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا بالتي هي أحسن.

وقوله: إلا الذين ظلموا. من الطائفتين جميعا.

ولهذا كان الواجب على المسلمين، إذا جادلهم اليهودي والنصراني أن يجادلوه بالتي هي أحسن، إلا من ظلم من الطائفتين، فإنه يعاقب باللسان تارة وباليد أخرى، كما أمر الله ورسوله بجهاد الظالمين من هؤلاء، فجاهد النبي اليهود الذين كانوا بالمدينة النبوية وحولها وقريبا منها، كما جاهد بني قينقاع، والنضير، وقريظة، وأهل خيبر، وأهل وادي القرى، وغيرهم.

وكما جاهد النصارى عام تبوك غزاهم بالشام عربهم ورومهم، وأغزاهم قبل ذلك نوابه: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وأمرهم بغزوهم فغزاهم بعده خلفاؤه الراشدون.

والنبي لما قدم وفد نجران النصارى جادلهم في مسجده بالتي هي أحسن، ثم أمره الله - سبحانه - أن يدعوهم إلى المباهلة، فامتنعوا عن مباهلته، وأقروا بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون، كما تقدم ذلك مفصلا فجادل بعضهم بالتي هي أحسن، والظالم منهم عاقبه وجاهده، كما عاقب الظالم من اليهود.

ومن أعجب الأشياء قولهم: وأما الذين ظلموا، فلا يشك أحد أنهم اليهود، فإن هذا من جنس قولهم: ثم وجدنا في الكتاب ما هو أعظم من هذا برهانا وهو قوله في سورة الشورى:

وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم كما تقدم.

وهي من جنس قولهم في قوله: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أنه عنى بالكتاب الإنجيل، والذين يؤمنون بالغيب: النصارى، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المسلمون، وزعمهم أن قولهم هذا بين ظاهر.

وتفاسير النصارى للكتب الإلهية فيها من التحريف لكلمات الله، والإلحاد في أسماء الله وآياته ما يطول وصفه، ولا ينقضي التعجب منه، لكن إقدامهم على تفسير القرآن بالإلحاد والتحريف أعجب وأعجب كقولهم: [ إن محمدا ذكر أنه لم يرسل إليهم، وأنه أثنى على الدين الذي هم عليه بعد النسخ والتبديل، بعد مبعثه ، وأن

قوله صراط الذين أنعمت عليهم أراد به النصارى.

وقوله: لقد أرسلنا رسلنا أراد به الحواريين.

وقوله: وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس.

أراد به الإنجيل ] فإن في هذا من الكذب الظاهر، والافتراء على محمد بأنه أراد هذه الأمور، ما هو من جنس افترائهم على الأنبياء، فإنهم أخبروا أن المسيح هو خالق السماوات والأرض، وأن التوراة والزبور وغيرهما من الكتب أخبرت بذلك، ثم يأتون إلى ما يعلم كل عاقل أن محمدا لم يرده، فيقولون: إنه لا يشك فيه أحد، وإنه قول ظاهر بين، وكل من عرف حال محمد ، وما جاء به من القرآن والدين يعلم علما يقينيا ضروريا أن محمدا لم يكن يجعل النصارى مؤمنين دون اليهود، بل كان يكفر الطائفتين، ويأمر بجهادهم، ويكفر من لم ير جهادهم واجبا عليه.

وهذا مما اتفق عليه المسلمون، وهو منقول عندهم عن نبيهم نقلا متواترا، بل هذا يعلمه من حاله الموافق والمخالف، إلا من هو مفرط في الجهل بحاله، أو من هو معاند عنادا ظاهرا

فصل: المسلمون يوافقون النصارى فيما كفروا به اليهود

وأما ما نقلوه عن الأنبياء مما يدل على كفر اليهود، فهذا لا ننازعهم فيه، ولا حاجة بنا إلى الاستدلال بما نقلوه، وإن كان فيما يثبت عن الأنبياء ما يبين كفرهم لما بدلوا دين موسى عليه السلام كما كفر النصارى لما بدلوا دين المسيح، فهذا حق موافق لما أخبر به خاتم الرسل فإنا قد علمنا كفرهم من جهة لا نشك في صدقها.

وما أخبرونا به عن الأنبياء إن علمنا صدقهم فيه، صدقناهم فيه وإن علمنا كذبهم فيه كذبناهم فيه، وإن لم نعلم صدقه ولا كذبه لم نصدقه ولم نكذبه، بل نقول: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.

فإن الإيمان بجميع ما أوتي النبيون حق واجب، لكن وجوب التصديق في النبي المعين الذي لم نعلمه من غيرهم يقف على مقدمتين:

1 - أن يكون اللفظ قد قاله النبي

2 - وأن يكون المعنى الذي فسروه به مرادا للنبي الذي تكلم بذلك القول، فلابد من ثبوت الإسناد ودلالة المتن.

وهاتان المقدمتان، لابد منهما في جميع المنقول عن الأنبياء.

وقد يحتاج إلى مقدمة ثالثة في حق من لم يعرف اللغة العبرية، فإن موسى وداود والمسيح وغيرهم إنما تكلموا باللغة العبرية، فمن لم يعرف بها، وإنما يعرف بالعربية أو الرومية، لابد أن يعرف أن المترجم من تلك اللغة إلى هذه قد ترجم ترجمة مطابقة.

فصل: غلو النصارى في عيسى عبد الله ورسوله

وأما قولهم: وأما نحن النصارى فلم نعمل شيئا مما عملته اليهود، فيقال لهم: الكفر والفسوق والعصيان لم ينحصر في ذنوب اليهود، فإن لم تعملوا مثل أعمالهم فلكم من الأقوال والأعمال ما بعضه أعظم من كفر اليهود، وإن كنتم أنتم ألين من اليهود وأقرب مودة، فأنتم أيضا أجهل وأضل من اليهود.

وقال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا

وقال تعالى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.

وقال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وقال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

وقال تعالى: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.

وقال تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.

وقال تعالى:، لما قص قصة المسيح عليه السلام: ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم * أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين.

وقال تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

فصل: تطرف اليهود والنصارى وتوسط المسلمين

ومن تدبر حال اليهود والنصارى مع المسلمين، وجد اليهود والنصارى متقابلين هؤلاء في طرف ضلال، وهؤلاء في طرف يقابله، والمسلمون هم الوسط.

وذلك في التوحيد، والأنبياء، والشرائع، والحلال والحرام والأخلاق وغير ذلك.

فاليهود يشبهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص المختصة بالمخلوق التي يجب تنزيه الرب سبحانه عنها كقول من قال منهم: إنه فقير، وإنه بخيل، وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض، والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال المختصة بالخالق التي ليس له فيها مثل، كقولهم إن المسيح هو الله، وابن الله.

وكل من القولين يستلزم الآخر.

والنصارى أيضا يصفون اللاهوت بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب عنها، ويسبون الله سبا ما سبه إياه أحد من البشر، كما كان معاذ بن جبل يقول: لا ترحموهم فإنهم قد سبوا الله سبة ما سبه إياها أحد من البشر.

واليهود تزعم أن الله يمتنع منه أن ينسخ ما شرعه، كما يمتنع ما لا يدخل في القدرة أو ينافي العلم والحكمة.

والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله الذي بعث به رسله، فيحللوا ما حرم، كما حللوا الخنزير، وغيره من الخبائث، بل لم يحرموا شيئا، ويحرمون ما حلل، كما يحرمون في رهبانيتهم التي ابتدعوها، وحرموا فيها من الطيبات ما أحله الله، ويسقطون ما أوجب كما أسقطوا الختان وغيره، وأسقطوا أنواع الطهارة من الغسل، وإزالة النجاسة وغير ذلك.

ويوجبون ما أسقط، كما أوجبوا من القوانين ما لم يوجبه الله وأنبياؤه.

والمسلمون وصفوا الرب بما يستحقه من صفات الكمال، ونزهوه عن النقص، وأن يكون له مثل، فوصفوه بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، مع علمهم أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

وقالوا: ألا له الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، بل الدين كله له، هو المعبود المطاع الذي لا يستحق العبادة إلا هو، ولا طاعة لأحد إلا طاعته، وهو ينسخ ما ينسخه من شرعه، وليس لغيره أن ينسخ شرعه.

واليهود بالغوا في اجتناب النجاسات، وتحريم الطيبات، والنصارى استحلوا الخبائث، وملابسة النجاسات، والمسلمون أحل الله لهم الطيبات خلافا لليهود، وحرم عليهم الخبائث، خلافا للنصارى.

واليهود يبالغون في طهارة أبدانهم مع خبث قلوبهم والنصارى يدعون أنهم يطهرون قلوبهم مع نجاسة أبدانهم، والمسلمون يطهرون أبدانهم وقلوبهم جميعا.

والنصارى لهم عبادات وأخلاق، بلا علم ومعرفة ولا ذكاء، واليهود لهم ذكاء وعلم ومعرفة بلا عبادات ولا أخلاق حسنة.

والمسلمون جمعوا بين العلم النافع، والعمل الصالح، بين الزكا والذكاء، فإن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فالهدى يتضمن العلم النافع، ودين الحق يتضمن العمل الصالح ليظهره على الدين كله، والظهور يكون بالعلم واللسان ليبين أنه حق وهدى، ويكون باليد والسلاح ليكون منصورا مؤيدا، والله أظهره هذا الظهور فهم أهل الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، غير المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق، ولا يعملون به، كاليهود، ولا الضالين الذين يعملون ويعبدون ويزهدون بلا علم كالنصارى.

واليهود قتلوا النبيين، والذين يأمرون بالقسط من الناس، والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم.

والمسلمون اعتدلوا فآمنوا بالله وملائكته وكتبه، ورسله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله وآمنوا بجميع النبيين، وبكل كتاب أنزله الله فلم يكذبوا الأنبياء ولا سبوهم ولا غلوا فيهم ولا عبدوهم، وكذلك أهل العلم والدين لا يبخسونهم حقهم ولا غلوا فيهم.

واليهود يغضبون لأنفسهم وينتقمون، والنصارى لا يغضبون لربهم ولا ينتقمون.

والمسلمون المعتدلون المتبعون لنبيهم يغضبون لربهم ويعفون عن حظوظهم كما في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها – أنها قالت: ما ضرب رسول الله بيده خادما له، ولا امرأة ولا شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله.

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أف قط، وما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ وكان بعض أهله إذا عاتبني على شيء يقول: " دعوه فلو قضي شيء لكان ".

هذا في حق نفسه، وأما في حدود الله، ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها -: ( أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ، (فقالوا من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ) فكلمه فيها أسامة، فقال: يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدود، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

وقد وصف الله أمة محمد بأنهم أنفع الأمم للخلق، فقال: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.

ففي أمة محمد من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد ما لم يوجد مثله في الأمتين.

فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن نفى عنهم الشرك

ثم قالوا: وكذلك جاء في هذا الكتاب يقول: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. فذكر القسيسين والرهبان، لئلا يقال: إن هذا قيل عن غيرنا، ودل بهذا على أفعالنا وحسن نياتنا، ونفى عنا اسم الشرك بقوله اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا، والذين قالوا إنا نصارى أقربهم مودة.

والجواب أن يقال: تمام الكلام: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين،

فهو سبحانه لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء الذين آمنوا بمحمد الذين قال فيهم: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين.

والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة فشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وهم الشهداء الذين قال فيهم: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.

ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله: فاكتبنا مع الشاهدين، قال: مع محمد وأمته.

وكل من شهد للرسل بالتصديق فهو من الشاهدين كما قال الحواريون: ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس.

وأما قوله في أول الآية: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى.

فهو كما أخبر - سبحانه وتعالى - فإن عداوة المشركين واليهود للمؤمنين أشد من عداوة النصارى، والنصارى أقرب مودة لهم، وهذا معروف من أخلاق اليهود، فإن اليهود فيهم من البغض والحسد والعداوة ما ليس في النصارى. وفي النصارى من الرحمة والمودة ما ليس في اليهود، والعداوة أصلها البغض فاليهود كانوا يبغضون أنبياءهم، فكيف ببغضهم للمؤمنين.

وأما النصارى فليس في الدين الذي يدينون به عداوة ولا بغض لأعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا، فكيف بعداوتهم وبغضهم للمؤمنين المعتدلين أهل ملة إبراهيم، المؤمنين بجميع الكتب والرسل؟

وليس في هذا مدح للنصارى بالإيمان بالله، ولا وعد لهم بالنجاة من العذاب، واستحقاق الثواب وإنما فيه أنهم أقرب مودة،

وقوله تعالى: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. أي بسبب هؤلاء، وسبب ترك الاستكبار يصير فيهم من المودة ما يصيرهم بذلك خيرا من المشركين وأقرب مودة من اليهود والمشركين.

ثم قال تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق.

فهؤلاء الذين مدحهم بالإيمان ووعدهم بثواب الآخرة، والضمير وإن عاد إلى المتقدمين، فالمراد جنس المتقدمين لا كل واحد منهم، كقوله تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.

وكأن جنس الناس، قالوا لهم: إن جنس الناس، قد جمعوا ويمتنع العموم، فإن القائل من الناس، والمقول له من الناس، والمقول عنه من الناس، ويمتنع أن يكون جميع الناس قال لجميع الناس: إنه قد جمع لكم جميع الناس.

ومثل ذلك قوله تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله.

أي جنس اليهود قال هذا، لم يقل هذا كل يهودي، ومن هذا أن في النصارى من رقة القلوب التي توجب لهم الإيمان ما ليس في اليهود، وهذا حق، وأما قولهم: ونفى عنا اسم الشرك، فلا ريب أن الله فرق بين المشركين، وأهل الكتاب في عدة مواضع، ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع، بل قد ميز بين الصابئين والمجوس وبين المشركين في بعض المواضع وكلا الأمرين حق، فالأول كقوله تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين.

وقوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا.

وقال تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا.

وأما وصفهم بالشرك ففي قوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

فنزه نفسه عن شركهم، وذلك أن أصل دينهم ليس فيه شرك، فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد، والنهي عن الشرك، كما قال تعالى: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون.

وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.

وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.

فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه، لم يأمر أحد الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كوكب ولا وثن، ولا أن تسأل ولا تطلب الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب، لا نبي ولا ملك، فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله ولا يدعو الأنبياء والصالحين الموتى والغائبين، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله ولا تصور تماثيلهم لا مجسدة ذات ظل، ولا مصورة في الحيطان، ولا بجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها قربة وطاعة، سواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل، وتعظيمهم والاستشفاع بهم، وطلبوا منهم أن يسألوا الله تعالى، وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها، أو قصدوا دعاء التماثيل ولم يستشعروا أن المقصود دعاء أصحابها، كما فعله جهال المشركين، وإن كان في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يقصدون عبادته، فإنه قد يتصور لهم في صورة ما يظنون أنها صورة الذي يعظمونه، ويقول: أنا الخضر، أنا المسيح، أنا جرجس، أنا الشيخ فلان.

كما قد وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى، وقد يدخل الشيطان في بعض التماثيل فيخاطبهم، وقد يقضي بعض حاجاتهم، فبهذا السبب وأمثاله ظهر الشرك قديما وحديثا، وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوه من الشرك.

وأما الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - فنهوا عن هذا كله ولم يشرع أحد منهم شيئا من ذلك، والنصارى لا يأمرون بتعظيم الأوثان المجسدة، ولكن بتعظيم التماثيل المصورة، فليسوا على التوحيد المحض، وليسوا كالمشركين الذين يعبدون الأوثان ويكذبون الرسل، فلهذا جعلهم الله نوعا من غير المشركين تارة، وذمهم على ما أحدثوه من الشرك تارة.

وإذا أطلق لفظ الشرك فطائفة من المسلمين تدخل فيه جميع الكفار من أهل الكتاب، وغيرهم كقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا.

فمن الناس من يجعل اللفظ عاما لجميع الكفار، ولا سيما النصارى ثم من هؤلاء من ينهى عن نكاح هؤلاء، كما كان عبد الله بن عمر، ينهى عن نكاح النصرانية، ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: إن عيسى ربها. وهذا قول طائفة من الشيعة وغيرهم.

وأما جمهور السلف والخلف، فيجوزون نكاح الكتابيات ويبيحون ذبائحهم لكن إذا قالوا لفظ المشركين عام قالوا: هذه الآية مخصوصة أو منسوخة بآية المائدة وهو قوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان.

وطائفة أخرى تجعل لفظ المشركين إذا أطلق لا يدخل فيه أهل الكتاب.

وأما كون النصارى فيهم شرك كما ذكره الله فهذا متفق عليه بين المسلمين، كما نطق به القرآن كما أن المسلمين متفقون على أن قوله: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى. أن النصارى لم يدخلوا في لفظ الذين أشركوا كما لم يدخلوا في لفظ اليهود.

وكذلك قوله: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين. ونحو ذلك، وهذا لأن اللفظ الواحد تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران فيدخل فيه مع الإفراد والتجريد ما لا يدخل فيه عند الاقتران بغيره، كلفظ المعروف والمنكر في قوله تعالى: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.

فإنه هنا يتناول جميع ما أمر الله به فإنه معروف، وجميع ما نهى عنه فإنه منكر.

وفي قوله: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. فهنا قرن الصدقة بالمعروف والإصلاح بين الناس.

وكذلك المنكر في قوله: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. قرن الفحشاء بالمنكر، وقوله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. قرن الفحشاء بالمنكر والبغي.

وكذلك لفظ البر والإيمان، إذا أفرده أدخل فيه الأعمال الصالحة والتقوى، كقوله: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين. وقال: إن الأبرار لفي نعيم. وقوله: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون. وقد يقرنه بغيره كقوله: وتعاونوا على البر والتقوى. وقوله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

وكذلك لفظ الفقير، والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه معنى الآخر. وقد يجمع بينهما في قوله: إنما الصدقات للفقراء والمساكين. فيكونان هنا صنفين، وفي تلك المواضع صنف واحد،

فكذلك لفظ الشرك في مثل قوله: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. يدخل فيه جميع الكفار، أهل الكتاب وغيرهم عند عامة العلماء لأنه أفرده وجرده، وإن كانوا إذا قرن بأهل الكتاب كانا صنفين.

وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي : كان إذا أرسل أميرا على سرية، أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا، وقال لهم: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث - فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم - ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك إلى ذلك، فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الغنيمة والفيء نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم.

وهذا الحديث كان بعد نزول آية الجزية، وهي إنما نزلت عام تبوك لما قاتل النبي النصارى بالشام، واليهود باليمن.

وهذا الحكم ثابت في أهل الكتاب باتفاق المسلمين، كما دل عليه الكتاب والسنة، ولكن تنازعوا في الجزية: هل تؤخذ من غير أهل الكتاب؟ وهذا مبسوط في موضعه.

فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن سوى بين جميع الأنبياء

قالوا وقال في سورة البقرة: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

فساوى بهذا القول بين سائر الناس: اليهود والمسلمين وغيرهم.

والجواب أن يقال:

أولا: لا حجة لكم في هذه الآية على مطلوبكم، فإنه يسوي بينكم وبين اليهود والصابئين، وأنتم مع المسلمين متفقون على أن اليهود كفار من حين بعث المسيح إليهم فكذبوه.

وكذلك الصابئون من حين بعث إليهم رسول فكذبوه، فهم كفار. فإن كان في الآية مدح لدينكم الذي أنتم عليه بعد مبعث محمد ففيها مدح دين اليهود أيضا، وهذا باطل عندكم وعند المسلمين.

وإن لم يكن فيها مدح اليهود بعد النسخ والتبديل فليس فيها مدح لدين النصارى بعد النسخ والتبديل.

وكذلك يقال لليهودي، إن احتج بها على صحة دينه.

وأيضا، فإن النصارى يكفرون اليهود، فإن كان دينهم حقا لزم كفر اليهود، وإن كان باطلا لزم بطلان دينهم فلابد من بطلان أحد الدينين فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما، وقد سوت بينهما.

فعلم أنها لم تمدح واحدا منهما بعد النسخ والتبديل، وإنما معنى الآية أن المؤمنين بمحمد ، والذين هادوا الذين اتبعوا موسى عليه السلام، وهم الذين كانوا على شرعه قبل النسخ والتبديل، والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام، وهم الذين كانوا على شريعته قبل النسخ والتبديل.

والصابئين وهم الصابئون الحنفاء، كالذين كانوا من العرب وغيرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق قبل التبديل والنسخ.

فإن العرب من ولد إسماعيل، وغيره الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل كانوا حنفاء على ملة إبراهيم إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة، وهو عمرو بن لحي، وهو أول من غير دين إبراهيم بالشرك، وتحريم ما لم يحرمه الله، ولهذا قال النبي : رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه - أي أمعاءه - في النار وهو أول من بحر البحيرة، وسيب السوائب، وغير دين إبراهيم.

وكذلك بنو إسحاق الذين كانوا قبل مبعث موسى متمسكين بدين إبراهيم كانوا من السعداء المحمودين، فهؤلاء الذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم، ونحوهم هم الذين مدحهم الله تعالى:

إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله، ولا باليوم الآخر وعمل صالحا، كما قال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وقد تقدم أنه كفر أهل الكتاب الذين بدلوا دين موسى والمسيح، وكذبوا بالمسيح أو بمحمد في غير موضع، وتلك آيات صريحة، ونصوص كثيرة، وهذا متواتر معلوم بالاضطرار من دين محمد .

ولكن هؤلاء النصارى سلكوا في القرآن ما سلكوه في التوراة والإنجيل، يدعون النصوص المحكمة الصريحة البينة الواضحة التي لا تحتمل إلا معنى واحدا، ويتمسكون بالمتشابه المحتمل، وإن كان فيه ما يدل على خلاف مرادهم، كما قال تعالى فيهم وفي أمثالهم: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب.

فصل: رد دعواهم أنه لا يليق بهم أن يتركوا كلمة الله عندهم التي عظمها القرآن

قالوا: ثم مدح قرابيننا وتوعدنا إن أهملنا ما معنا وكفرنا بما أنزل إلينا أن يعذبنا عذابا أليما لم يعذبه أحدا من العالمين بقوله ذلك في سورة المائدة:

إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين.

فالمائدة هي القربان المقدس الذي يتقرب به في كل قداس.

والجواب أن يقال:

هذا كذب ظاهر على القرآن في هذا الموضع، كما كذبتم عليه في غير هذا الموضع، فإنه ليس في الآيات ذكر قرابينكم البتة، وإنما فيه ذكر المائدة التي أنزلها الله تعالى في عهد المسيح عليه السلام، وقولهم: المائدة هي القربان الذي يتقرب به في كل قداس، هو أولا: قول لا دليل عليه، وثانيا: هو قول معلوم الفساد بالاضطرار من دين المسلمين الذين نقلوا هذا القرآن عن محمد لفظه ومعناه، فإنهم متفقون على أن المائدة مائدة أنزلها الله من السماء على عهد المسيح عليه السلام، وقصتها مشهورة في عامة الكتب تعرفها العامة والخاصة، ولم يقل أحد إنها قرابين النصارى، وليس في لفظ الآية ما يدل على ذلك، بل يدل على خلاف ذلك، فإن الآية تبين أن المائدة منزلة من السماء وقرابينهم هي عندهم في الأرض لم تنزل من السماء.

وفي الآية أن عيسى قال:

اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين.

وفي أول الكلام: إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين.

فأين هذا من قرابينهم الموجودة اليوم؟

فصل: تكريم الإسلام للمسيح عبد الله ورسوله

قالوا: ولما تقدم به القول لأنه غير لائق عند ذوي الألباب أن نهمل روح القدس وكلمة الله الذي شهد لهما في هذا الكتاب بالعظائم، فقال عن كلمة الله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا.

والجواب:

إن الله تعالى لم يبعث محمدا بإهمال ما يجب من حق المسيح عليه السلام، بل أمره بالإيمان بالمسيح وبما جاء به، كما أمره بالإيمان بموسى وبما جاء به وكما أمر المسيح بالإيمان بموسى وبما جاء به ولكنه أمر بإهمال ما ابتدع من الدين الذي لم يشرعه الله على لسان المسيح عليه السلام، وما نسخه الله من شرعه على لسان محمد ، فيهمل المبدل والمنسوخ كما أمر الله المسيح أن يهمل ما ابتدعته اليهود من الدين الذي لم يشرعه، وما نسخه من شرع موسى.

فكما أمر المسيح أن يهمل المبدل والمنسوخ من التوراة التي جاء بها موسى عليه السلام، ولم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق التوراة وموسى عليه السلام، فكذلك إذا أهمل المبدل والمنسوخ من دين أهل الإنجيل، لم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق الإنجيل والمسيح، بل ما جاء به محمد يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل، وأن لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون كما قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

والنصارى كاليهود، آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فأيما هو اللائق عند أولي الألباب، أن نؤمن بجميع كتب الله ورسله، أو نؤمن ببعض ونكفر ببعض وأيما هو اللائق عند أولي الألباب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، ونعبده بما شرعه على لسان رسوله، أو نبتدع من الشرك والعبادات المبتدعة ما لم ينزل به الله كتابا ولا بعث به رسولا ونضاهي المشركين عباد الأوثان؟

قال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون.

وقال تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

فالمسلمون لم يهملوا روح القدس، وكلمة الله، وقد قال تعالى عن كلمة الله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته.

بل هم الذين اتبعوا دينه ودين الرسل قبله فإن دين الأنبياء عليهم السلام جميعهم واحد كما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال: إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد.

وقد قال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.

فدين المرسلين كلهم دين واحد، ويتنوع شرعهم ومناهجهم كتنوع شريعة الرسول الواحد، فإن دين المسيح هو دين موسى، وهو دين الخليل قبلهما، ودين محمد بعدهما، مع أن المسيح كان على شريعة التوراة ثم نسخ الله على لسانه ما نسخ منها وهو قبل النسخ وبعده دينه دين موسى ولم يهمل دين موسى.

كذلك المسلمون هم على دين المسيح وموسى وإبراهيم وسائر الرسل وهم الذين اتبعوا المسيح ولهذا جعلهم الله فوق النصارى إلى يوم القيامة.

والنصارى الذين بدلوا دين المسيح وكذبوا محمدا بريئون من دين المسيح والمسيح بريء منهم، كبراءة موسى ممن بدل وغير دينه وكذب المسيح.

والمسلمون أشد تعظيما للمسيح عليه السلام واتباعا له بالحق ممن بدل دينه وخالفه من النصارى، فإن المسلمين يصدقونه في كل ما أخبر به عن نفسه ولا يحرفون ما قاله عن مواضعه، ولا يفسرون كلامه بغير مراده، وكلام غيره من الأنبياء كما فعلت النصارى، فإنهم نقلوا عن المسيح أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، وهذا إذا قاله المسيح فإنه يفسر بلغته وعادته في خطابه وعادة سائر الأنبياء، (وليس في كلام المسيح ولا في كلام سائر الأنبياء ولا كلام غيرهم أن كلمة الله) القائمة بذاته سبحانه و تعالى تسمى ابنا، ولا روح قدس، ولا تسمى صفته القديمة ابنا، ولا روح قدس، ولا يوجد قط في كلام الأنبياء اسم الابن واقعا إلا على مخلوق.

والمراد في تلك اللغة أنه مصطفى محبوب لله، كما ينقلونه أنه قال لإسرائيل: (أنت ابني بكري)، 1 ولداود (أنت ابني وحبيبي)، 2 وأن المسيح قال للحواريين (أبي وأبيكم)، 3 فجعله أبا للجميع، وهم كلهم مخلوقون فيكون اسم الابن واقعا على المسيح الذي هو ناسوت مخلوق، فعمد هؤلاء الضلال فجعلوا اسم الابن واقعا على اللاهوت، قديم أزلي مولود غير مخلوق.

وزعموا أن الابن يراد به الابن بالوضع، وهو المخلوق، وهو الابن بالطبع، وهو القديم الأزلي المولود غير المخلوق، وهذا التفريق هم أحدثوه وابتدعوه ولا يوجد قط في كلام المسيح ولا غيره أنه سمى القديم الأزلي ابنا، ولا جعل له ابنا قديما مولودا غير مخلوق، ولا سمى شيئا من صفات الله قط ابنا.

وكذلك لفظ روح القدس موجود في غير موضع من كلام الأنبياء عليهم السلام لا يراد بهذا قط حياة الله ولا صفة قائمة به.

وإنما يراد به ما أيد الله به الأنبياء والأولياء، ويجعله في قلوبهم من هداه ونوره ووحيه وتأييده، ومما ينزل بذلك من الملائكة، وهذا الذي تسميه الأنبياء روح القدس لم يختص به المسيح، باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل قد أنزله على غيره من الأنبياء والصالحين كما هو موجود في كتبهم: إن روح القدس كانت في داود وغيره، وكانت أيضا عندهم في الحواريين.

وهكذا خاتم الرسل، كان يقول لحسان بن ثابت: إن روح القدس معك ما دمت تدافع عن نبيه، ويقول اللهم أيده بروح القدس.

وقد قال الله تعالى عن عباده المؤمنين: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

فروح القدس لا اختصاص للمسيح عليه السلام بها، بل ما يفسر به اسم الابن واسم روح القدس، وغير ذلك مما وصف به المسيح فهو مشترك بينه وبين غيره من الرسل، وإذا فسروا الحلول بظهور نور الله وعلمه وهداه في الأنبياء فهذا حق وهو مشترك بين المسيح وغيره.

فأما نفس ذات الله فلم تحل في أحد من البشر.

والمسلمون مع شهادتهم للمسيح بأنه عبد الله ورسوله يقولون: إنه مؤيد منصور عصمه الله من أعدائه وطهره منهم، ولم يسلطهم عليه.

والنصارى يدعون أن اسم المسيح اسم اللاهوت والناسوت وأنه إله تام وإنسان تام، وهذا يمتنع شرعا وعقلا ثم يصفونه بالصفات المتناقضة، يصفونه بأن طائفة من أشرار اليهود وضعوا الشوك على رأسه وبصقوا في وجهه، وأهانوه وصلبوه وفعلوا به ما لا يفعل بأخس الناس، ويقولون مع هذا: إنه رب السماوات والأرض وما بينهما.

فصل: نسخ شرع التوراة وأن ما جاء به المسيح حق

قالوا ثم شهد لقرابيننا وذبائحنا أنها مقدسة مقبولة لدى الله من كتب اليهود التي في أيديهم يومنا هذا المنزلة من الله على أفواه الأنبياء المرسلين.

قال أشعيا: (قال الله: إني أعرف بني إسرائيل وقلوبهم القاسية الخبيثة فإذا أنا ظهرت إلى الأمم فنظروا إلى كرامتي أقيم منها أنبياء وأبعث منهم مخلصين يخلصون الأمم من البلدان القاصية الذين لم يسمعوا بسماعي، ولم يعرفوا من قبل كرامتي، ويكون اسمي فيهم، ويجلبون إخوتهم من الأمم كلها، ويجيبون قرابين الله على الدواب والمراكب إلى جبل قدسي بيت المقدس، فيقربون لي القرابين بالسميد، كما كان بنو إسرائيل من قبل وكذلك باقي الأمم وتقرب القرابين بين يدي، فهم وزرعهم إلى الأبد، ويحجون في كل سنة، وفي كل شهر، ومن سنة إلى سنة إلى بيت المقدس، بيت الله ويقربون لله ربهم فيه قرابين زكية نقية، ينظرون إلى الأمة الخبيثة الماردة: بني إسرائيل، لا يبلى حزنها ولا ينقطع، بلاؤها إلى الأبد).

وقال دانيال النبي عليه السلام: (وسيأتي على شعبك وقرية قدسك سبعون سابوعا، وتنقضي الذنوب، وتفنى الخطايا وغفران الإثم، ويؤتى بالحق الذي لم ينزل من قبل، وتتم نبوات الأنبياء وكتب الرسل، وتبيد قرية القدس وتخرب مع مجيء المسيح، ويفنى الميثاق العتيق من الناس، ومن بعد أسبوع ونصف تبطل ذبائح اليهود وقرابينهم، وتصير على كف النجاسة والفساد إلى انقضاء الدهر).

وقال ميخا النبي عليه السلام: (قال الله في آخر الزمان إذا أتى المسيح يدعو الأمم المبددة، ويضعهم شعبا واحدا، ويبطل قتال بني إسرائيل وسلاحهم وقرابينهم إلى الأبد).

وقال عاموص النبي: (لا تذبحوا العجول بعد فإن الرب سيأتي صهيون ويحدث وصية جديدة طاهرة من الخبز النقي والخمر الزكي ويصير بنو إسرائيل مطرودين).

والجواب من وجوه:

أحدها: أن ما يحتجون به من النقل عن الأنبياء - صلوات الله عليهم - يحتاجون فيه إلى أربع مقدمات: إلى أن تعلم نبوة المنقول عنه، والى أن يعلم لفظه الذي تكلم به، وإلى أن يعلم ما ذكروه ترجمة صحيحة عنده، فإن أولئك الأنبياء لم يتكلموا بالعربية، بل ولا بالرومية والسريانية واليونانية، وإنما تكلموا بالعبرية، كالمسيح عليه السلام.

والرابع: أن يعلم أن ما ذكروه من كلام الأنبياء دليل على ما ادعوه من قبول قرابينهم في هذا الزمان، ونحن في هذا المقام نقتصر على منازعتهم في هذه المقدمة، فليس فيما ذكروه دليل على مدح قرابينهم وذبائحهم بعد التبديل والنسخ، ولكن غايتها أن يدل على مدحها قبل النسخ والتبديل، وهذا مما لا ينازع فيه المسلمون.

الوجه الثاني: أن هذه النعوت المذكورة عن " أشعيا " وغيره من الأنبياء لا توافق ما عليه النصارى، فإن النصارى لا يقربون القرابين بالسميد، كما كان بنو إسرائيل من قبل، ولا يحجون في كل شهر ومن سنة إلى سنة إلى بيت المقدس بيت الله، ويقربون لله ربهم فيه قرابين نقية زكية، وإنما يحجون إلى قمامة الخارجة عن بيت الله الذي كانت الأنبياء تقصده وتصلي فيه، فإن الأنبياء إنما كانوا يصلون في بيت المقدس، ويزورون بيت المقدس نفسه، وأما قمامة فليس لها ذكر في كتب الأنبياء عليهم السلام، بل إنما ظهرت قمامة في زمن قسطنطين الملك، لما أظهرتها أمه هيلانة الحرانية لما جاءت بيت المقدس، واختارت من اليهود ثلاثة، وسألتهم أن يدلوها على موضع الصليب فامتنعوا، فعاقبتهم بالحبس والجوع، فدلوها على موضعه في مزبلة فاستخرجوه، وجعلته في غلاف من ذهب وحملته، وبنت كنيسة القمامة في موضعه، كما ذكر ذلك ابن البطريق في تاريخه، وغيره، كما سيأتي، وذلك بعد المسيح بأكثر من ثلاث مائة سنة.

ومن ذلك الوقت أظهروا الصليب، وجعلوا " عيد الصليب "، ولم يشرع ذلك لا المسيح ولا الحواريون، وهذا مذكور في كتبهم متفق عليه بين علمائهم، كما قد ذكر في موضع آخر، ولا هم يأتون بقرابين لله على الدواب والمراكب إلى جبل قدس بيت الله المقدس.

الوجه الثالث: أن ما ذكروه عن " دانيال " لا يتضمن مدح دينهم بعد النسخ والتبديل، وإنما يتضمن أن الله يبعث المسيح عليه السلام بالحق الذي لم يزل من قبل، وهو الدين الذي بعث به الرسل قبله، وهو عبادة الله وحده وأن بيت المقدس يخرب مع مجيء المسيح، ويفنى الميثاق العتيق، يعني ما نسخ من شرع التوراة، وأنه يبطل ذبائح اليهود وقرابينهم.

وهذا كله إنما يدل على نسخ شرع التوراة، وبطلان دولة اليهود ويدل على أن المسيح جاء بالحق، ومن اتبع المسيح كان على الحق، وهذا مما لا ينازع فيه المسلمون فإنهم متفقون على أن من كان متمسكا بما أمر به المسيح فإنه من عباد الله الصالحين ولكن من جاء بشرع لم يأت به المسيح أو أراد اتباع شرعه بعد النسخ فهو بمنزلة اليهود الذين نسخ الله ما نسخه من شرعهم وأزال دولتهم وكذلك فعل بالنصارى لما بعث الله محمدا أزال دولتهم عن وسط الأرض وخيارها وحيث بعثت الأنبياء كأرض الشام ومصر والجزيرة، والعراق، وأرمينية، وأذربيجان، وأجلاهم إلى طرفي الأرض من جهة الشمال والجنوب، وصار الذين في وسط الأرض منهم أحسن أحوالهم إذا لم يسلموا أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وكذلك ما ذكروه عن " ميخا " و " عاموس " إنما يدل على مجيء المسيح عليه السلام، وبطلان ما نسخه الله وأبطله من شرع اليهود وملكهم ولا يدل على صحة دين النصارى الذي لم يشرعه المسيح عليه السلام ولا على صحته بعد أن نسخ بشرع محمد نسخا هو أبلغ من نسخ بعض شرع موسى بشرع المسيح عليه السلام.

هذا إذا سمى الشرع المؤقت بغاية مجهولة نسخا، فإن الأول لم يبشر بالثاني.

وأما إذا كان الأول بشر بالثاني، وكانت شريعة الأول مؤقتة إلى مجيء الثاني لم يسم ذلك نسخا، فالمسيح ومحمد - صلى الله عليهما وسلم - لم ينسخا شيئا، بل كان شرع موسى إلى مجيء المسيح، وشرع المسيح إلى مجيء محمد - صلى الله عليهما وسلم -.

وأما ما حكي عن أشعيا عن الله أنه قال: فإذا ظهرت إلى الأمم فهذا قد يحتج به النصارى وبأمثاله من كلام الأنبياء عليهم السلام على الحلول الذي ابتدعوه، وهو باطل فإن مثل هذا اللفظ مذكور في كتب أهل الكتاب في غير موضع ولا يراد بشيء منها حلول ذات الله في أحد من البشر، كما ذكر في التوراة أن الله عز وجل استعلن لإبراهيم وغيره، وأن الله يأتي من طور سيناء، ويشرف من ساعير، ويستعلن من جبال فاران.4

ومعلوم عند جميع أهل الملل أن الله سبحانه و تعالى لم يحل في موسى وغيره لما كلمه، ولا يحل في شيء من جبال فاران مع إخباره أنه استعلن منها.

وقد قال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. فأظهره بالعلم والحجة والبيان، وأظهره باليد والسنان،

كما قال تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

قال أبي بن كعب وغيره: مثل نوره في قلب المؤمن.

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به.

وقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

وفي الترمذي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي أنه قال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ: إن في ذلك لآيات للمتوسمين. قال الترمذي: حديث حسن، وقد جاء عن بعض السلف أن قلوب المؤمنين تضيء لأهل السماوات كما تضيء الكواكب لأهل الأرض.

والمخلوق الذي تظهر محبته وذكره وطاعته في بعض البلاد، يقال فلان قد ظهر في هذه الأرض، فإذا ظهر ذكر الله وذكر أسمائه وصفاته وتوحيده وآياته وعبادته حتى امتلأت القلوب بذلك بعد أن كانت ممتلئة بظلمة الكفر والشرك، كان ذلك مما أخبر به من ظهوره، وهذا أعظم ما يكون في بيوته التي يعبد فيها ويذكر فيها اسمه.

ولهذا لما ذكر تعالى آية النور وقال: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم.

قال عقب ذلك: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب.

وكذلك ما في الكتب من ظهوره ببيت المقدس فهو كظهوره بطور سيناء وبجبل فاران، ومع هذا فلم يره موسى ولا غيره، لا مجردا ولا حالا في غيره وقد أخبر المسيح أنه لم يره أحد، كما أخبر غيره وذلك نفي عام يوجب أنه لا يرى لا مجردا، ولا حالا في دار الدنيا كما قد بسط هذا في موضع آخر ومعلوم أن ملابسة الشيء أبلغ من رؤيته فإذا كان الرب تعالى لا يراه ناسوت فأن لا يلابسه ناسوت بطريق الأولى والأحرى والنصارى يزعمون أنه اتحد هو والناسوت وهذا أعظم من الرؤية.

فصل: تنازع اليهود والنصارى في تفسير كتبهم

قالوا: فماذا يكون أعظم من هذا برهانا، وأقوى شهادة، إذ هذه كتب أعدائنا المخالفين لديننا، وهم يقرون بذلك ويقرءونه في كنائسهم، ولم ينكروا منه كلمة واحدة ولا حرفا واحدا.

والجواب: أن الأمر إذا كان على ما قالوه من ثبوت هذه الكلمات عن بعض الأنبياء فليس فيها مدح لدينهم بعد التبديل، فكيف بعد النسخ والتبديل؟ وإنما فيها إخبار بزوال ملك بني إسرائيل، وبنسخ ما نسخ من شرعهم بمجيء المسيح عليه السلام، وهذا دليل على نبوة المسيح وصدقه وهذا مما اتفق عليه المسلمون.

والمسيح عليه السلام عندهم كما أخبر الله عنه، بقوله تعالى لمريم: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين.

وأما قولهم: إن هذا وغيره موجود في كتب أعدائنا اليهود.

فيقال لهم لا ريب أن اليهود يخالفونكم في تفسير الكتب، فأنتم تفسرونها بشيء، وهم يفسرونها بشيء آخر وقد يكون كلا التفسيرين باطلا وحينئذ فيقال لكم كما أن كتب الأنبياء شاهدة للمسيح ولدينه وإن خالفتكم اليهود في تفسيرها، فكذلك هي شاهدة لمحمد وأمته، وإن خالف أهل الكتاب في تفسيرها كما قد بين الله في كتب الأنبياء صفة محمد وأمته في غير موضع.

والواجب في الكتب إذا تنازعت الأمم في تفسيرها أن يبين الحق الذي يقوم عليه الدليل الشرعي والعقلي، وحينئذ تبين أنكم فسرتم كتب الله بأشياء تخالف مراد الله في أمر التثليث والاتحاد وغيره، كما فعلت اليهود بتفسير الكتب، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

فصل: رد دعوى النصارى أن محمدا لم يرسل إليهم وشكه فيما جاء به

قالوا: وأيضا في قول هذا الإنسان مما أتى في كتابه حيث اتبع القول أنه لم يرسل إلينا مع تشككه فيما أتى به في هذا الكتاب في سورة سبأ حيث يقول: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين. وأيضا في سورة الأحقاف يقول: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم.

والجواب: أن نقلهم عنه أنه قال: إنه لم يرسل إليهم كذب ظاهر عليه، فإن كتابه مملوء بدعوتهم وأمره لهم بالإيمان به واتباعه، بل وبعموم رسالته إلى جميع الناس، بل وإلى الجن والإنس، وليس فيه قط أنه لم يرسل إلى أهل الكتاب، بل فيه التصريح بدعوة أهل الكتاب في غير موضع كقوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

وقد كتب النبي بهذه الآية إلى قيصر ملك النصارى الذي اسمه هرقل بالشام، وقد تقدم ذكر ذلك، وتقدم أيضا أن قوله تعالى: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون. يقتضي أنه لم ينذر الأميين، وليس فيه أنه لا ينذر غيرهم، كما أن قوله: وأنذر عشيرتك الأقربين. يقتضي إنذار قومه ولا ينافي أن ينذر غيرهم من العرب كما أن قوله في قريش: فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. لا يمنع أن يكون غير قريش مأمورين بعبادة رب هذا البيت، بل أمر الله جميع الثقلين: الجن والإنس أن يعبدوا رب هذا البيت.

فإن قيل: فقد سكت عن ما سوى الأميين في هذا، فيشعر بالنفي بدليل الخطاب الذي يسمى مفهوم المخالفة، قيل ذاك إنما يدل إذا لم يكن في التخصيص فائدة سوى الاختصاص بالحكم، ولم يكن هنا تصريح بأن حكم المسكوت كحكم المنطوق، وهنا لما بعث الله محمدا ، أمره أن ينذر عشيرته الأقربين أولا، ثم ينذر العرب الأميين ثم أهل الكتاب والمجوس وغيرهم، وقد تقدم بسط هذا.

فصل

وأما قولهم مع تشككه فيما أتى به فمن الكذب البين فإنه تعالى قال: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير * قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين * قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون * قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم.

فإنه لما دعاهم إلى التوحيد وبين أن ما يدعونه من دون الله لا يملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا هو شريك، ولا هو ظهير ولا ينفع شفيع إلا بإذنه، نفى بذلك جميع وجوه الشرك، فإن ما يشرك به إما أن يكون له ملك أو شريك في الملك، أو يكون معينا، فإذا انتفت الثلاثة لم يبق إلا الشفاعة التي هي دعاء لك ومسألة وتلك لا تنفع عنده إلا لمن أذن له.

ثم ذكر بعد هذا أنه لا رازق يرزق من السماء والأرض إلا الله دل بهذا وهذا على التوحيد، كما في قوله: وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون * ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون.

فلما ذكر ما دل على وجوب توحيده، وبيان أن أهل التوحيد هم على الهدى، وأن أهل الشرك على الضلال قال: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين.

يقول: إن أحد الفريقين أهل التوحيد الذين لا يعبدون إلا الله، وأهل الشرك لعلى هدى أو في ضلال مبين.

وهذا من الإنصاف في الخطاب الذي كل من سمعه من ولي وعدو قال لمن خوطب به قد أنصفك صاحبك، كما يقول العادل الذي ظهر عدله للظالم الذي ظهر ظلمه: الظالم إما أنا وإما أنت، لا للشك في الأمر الظاهر، ولكن لبيان أن أحدنا ظالم ظاهر الظلم، وهو أنت لا أنا.

فإنه إذا قيل: أهل التوحيد الذين يعبدون الله على هدى، أو في ضلال مبين، وأهل الشرك الذين يعبدون ما لا يضر ولا ينفع على هدى أو في ضلال مبين.

تبين أن أهل التوحيد على الهدى، وأهل الشرك على الضلال، وهذا مما يعلمه جميع الملل من المسلمين واليهود والنصارى، يعلمون أن أهل التوحيد على الهدى، وأهل الشرك على الضلال.

وفي القرآن في بيان مثل هذا ما لا يحصى إلا بكلفة، بل قطب القرآن وسائر الكتب ومدارها على عبادة الله وحده، فكيف يقال إن الرسول كان يشك هل المهتدى هم أهل التوحيد أم أهل الشرك؟ وهل يقول هذا إلا من هو في غاية الجهل والعناد.

ثم الآية خطاب للمشركين ليست خطابا للنصارى خصوصا.

فصل: الرسول بشر لا يعلم الغيب ولا يقول إني ملك

وأما قوله تعالى: قل ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، فلفظ الآية: قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين.

وهذا بعد قوله: أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم.

ونظير هذا قوله: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون.

وهذا قاله نوح عليه السلام أول الرسل، وأمر محمد آخر الرسل أن يقوله، ومثل قوله: قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا.

وهذا ونحوه يتضمن اعترافه بأنه عبد الله ورسول من الله لا يتعدى حد الرسالة ولا يدعي المشاركة في الألوهية، كما ادعته النصارى في المسيح ولهذا قال تعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام.

فتبين أنه لا يتعدى حد الرسالة، وهو كقوله تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم.

ولهذا قال وفي الحديث المتفق على صحته: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله.

فقال تعالى: قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم.

يقول لست أول من أرسل، أو ادعى الرسالة، بل قد تقدم قبلي رسل: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين.

يقول لا أدعي علم الغيب، إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين أنذركم بما أمرني الله أن أنذركم به لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك، وهذا من كمال صدقه وعدله وعبوديته لله وطاعته، وتمييز ما يستحقه الخالق وحده مما يستحقه العبد، فإن العلم بعواقب الأمور على وجه التفصيل مما استأثر الله بعلمه، فلا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل.

وليس من شرط الرسول أن يعلم كل ما يكون وقوله تعالى: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم.

نفي لعلمه بجميع ما يفعل به وبهم وهذا لا يعلمه إلا الله - تبارك وتعالى -، وهذا لا ينفي أن يكون عالما بأنه سعيد من أهل الجنة، وإن لم يدر تفاصيل ما يجري له في الدنيا من المحن والأعمال، وما يتجدد له من الشرائع، وما يكرم به في الآخرة من أصناف النعيم، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: (يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، وأيضا هذا مأثور عن غيره من الأنبياء عليهم السلام.

ولا من شرط النبي أن يعلم حال المخاطبين: من يؤمن به، ومن يكفر، وتفصيل ما يصيرون إليه، هذا إن قيل إنه لم يعلم بعد هذه الآية ما نفي فيها، وإن قيل إنه أعلم بذلك فمعلوم أن الله لم يعلمه بكل شيء جملة، بل أعلمه بالأمور شيئا بعد شيء.

وقد قال له بعد ذلك: إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا.

وقال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.

وفي القرآن والأحاديث عنه من الإخبار بما سيكون في الدنيا وفي الآخرة أضعاف أضعاف ما يوجد عن الأنبياء قبله، حتى إنه ينبئ عن الشيء الذي يكون بعد ما يبين من السنين خبرا أكمل من خبر من عاين ذلك، كقوله في الحديث الصحيح لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين، ذلف الأنوف، حمر الخدود، ينتعلون الشعر، كأن وجوههم المجان المطرقة، فمن رأى هؤلاء الترك الذين قاتلهم المسلمون من حين خرج جنكز خان ملكهم الأكبر وأولاده وأولاد أولاده، مثل هولاكو وغيره من ملوك الترك الكفار الذين قاتلهم المسلمون، لم يحسن أن يصفهم بأحسن من هذه الصفة.

وقد أخبر بهذا قبل ظهوره بأكثر من ستمائة سنة، وقوله: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى، وهذه النار ظهرت سنة خمس وخمسين وستمائة بأرض الحجاز، فكانت تحرق الحجر ولا تنضج اللحم، ورأى أهل بصرى أعناق الجمال من ضوء تلك النار، وكانت منذرة بما يكون بعدها، ففي سنة ست وخمسين وستمائة دخل هولاكو ملك الكفار بغداد، وقتل فيها مقتلة عظيمة مشهورة (وسيأتي - إن شاء الله - بعض أخبار أنه شاهد الناس وقوعها كما أخبرنا عند ذكرنا معجزاته).

ثم قالوا: مع الأمر له في فاتحة الكتاب أن يسأل الهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فإنه عنى بقوله: المنعم عليهم والمغضوب عليهم والضالين الثلاث أمم الذين كانوا في عصره، وهم: النصارى، واليهود وعباد الأصنام، ولم يكن في زمانه غير هؤلاء الثلاث أمم. فالمنعم عليهم نحن النصارى والمغضوب عليهم فلا - يشك أنهم - اليهود، الذين غضب الله عليهم في كتب التوراة والأنبياء وهذا الكتاب، والضالين فهم عباد الأصنام الذين ضلوا عن الله، فهذا أمر واضح بين ظاهر عند كل أحد، ولا سيما عند ذوي العقول والمعرفة والصراط: هو المذهب، أي الطريق، وهذه اللفظة رومية، لأن الطريق بالرومية اسطراطا.

والجواب:

أما قولهم: المنعم عليهم نحن النصارى، فمن العجائب التي تدل على فرط جهل صاحبها، وأعجب من ذلك قولهم إن هذا شيء بين واضح عند كل أحد، لا سيما عند ذوي العقل والمعرفة، فيا سبحان الله!

ألم يعرف العام والخاص علما ضروريا لا تمكن المنازعة فيه من دين محمد ، ودين أمته الذي تلقوه عنه من تكفير النصارى وتجهيلهم وتضليلهم واستحلال جهادهم وسبي حريمهم وأخذ أموالهم، ما يناقض كل المناقضة أن يكون محمد وأمته في كل صلاة يقولون: اللهم اهدنا صراط النصارى.

وهل ينسب محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأمته إلى أنهم في كل صلاة يطلبون من الله أن يهديهم صراط النصارى إلا من هو من أكذب الكذابين وأعظم الخلق افتراء ووقاحة وجهلا وضلالا؟

ولو كانوا يسألون الله هداية طريق النصارى، لدخلوا في دين النصارى، ولم يكفروهم ويقاتلوهم، ويضعوا عليهم الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون، ولم يشهدوا عليهم بأنهم من أهل النار، وأمته أخذوا ذلك جميعه عنه منقولا عنه بالنقل المتواتر بإجماعهم، لم يبتدعوا ذلك، كما ابتدعت النصارى من العقائد والشرائع ما لم يأذن به الله، فلا يلام المسلمون في اتباعهم لرسول الله الذي جاء بالبينات والهدى.

ومحمد إن كان رسولا صادقا، فقد كفر النصارى، وأمر بجهادهم، وتبرأ منهم ومن دينهم، وإن كان كاذبا لم يقبل شيء مما نقله عن الله عز وجل.

وقد تقدم غير مرة قوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة؛

لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم؛

وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

فمن يقول عن النصارى مثل هذه الأقوال هل يأمر أمته في كل صلاة أن يقولوا: اهدنا طريقهم؟

ثم يقال: أي شيء في الآية مما يدل على أن قوله: صراط الذين أنعمت عليهم، هم النصارى؟

وإنما المنعم عليهم هم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

فهؤلاء هم الذين أمر الله عباده أن يسألوا هداية صراطهم.

وأما النصارى الذين كانوا على دين المسيح قبل النسخ والتبديل فهم من المنعم عليهم، كما أن اليهود الذين كانوا على دين موسى قبل النسخ والتبديل كانوا من المنعم عليهم.

وأما النصارى بعد النسخ والتبديل فهم من الضالين، لا من المنعم عليهم عند الله ورسوله، كما قال تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

وقال تعالى: أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين.

وعباد الأصنام من الضالين المغضوب عليهم، وقد قال النبي اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون رواه الإمام أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم عن النبي وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.

وسبب ذلك أن اليهود يعرفون الحق ولا يعملون به، والنصارى يعبدون بلا علم، وقد وصف الله اليهود بأعمال، والنصارى بأعمال، فوصف اليهود بالكبر والبخل والجبن والقسوة وكتمان العلم وسلوك سبيل الغي وهو سبيل الشهوات والعدوان.

وذكر عن النصارى الغلو والبدع في العبادات والشرك والضلال واستحلال محارم الله، فقال تعالى:

يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.

وقال تعالى: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها.

أي لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، لم نكتب عليهم الرهبانية، بل هم ابتدعوها ومع ابتداعهم إياها فما رعوها حق رعايتها، وكل بدعة ضلالة فهم مذمومون على ابتداع الرهبانية وعلى أنهم لم يرعوها حق رعايتها.

وأما ما كتب عليهم من ابتغاء رضوان الله فيحصل بفعل ما شرعه الله لهم من واجب ومستحب، فإن ذلك هو الذي يرضاه، ومن فعل ما يرضاه الله فقد فعل ما كتب عليه، ويحصل رضوان الله أيضا بمجرد فعل الواجبات، وهذا هو الذي كتب على العباد، فإذا لم يكتب عليهم إلا ابتغاء رضوان الله كان ابتغاء رضوانه واجبا، فما ليس بواجب لا يشترط في حصول ما كتب عليهم.

ولهذا ضعف أحمد بن حنبل وغيره الحديث المروي: أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله، فإن من صلى في آخر الوقت كما أمر فقد فعل الواجب، وبذلك يرضى الله عنه وإن كان فعل المستحبات والمسابقة إلى الطاعات أبلغ في إرضاء الله، ويحصل له بذلك من رضوان الله ومحبته ما لا يحصل بمجرد الواجبات.

كما قال موسى عليه السلام: وعجلت إليك رب لترضى.

وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي فلئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه فقوله حتى أحبه يريد المحبة المطلقة الكاملة.

وأما أصل المحبة: فهي حاصلة بفعل الواجبات، فإن الله يحب المتقين والمقسطين، ومن أدى الواجبات فهو من المتقين المقسطين.

وقال تعالى فيهم: وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

وقال تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

وهو - سبحانه - خاطب النصارى بهذا لأن النصارى يعتمدون في دينهم على ما يقوله كبراؤهم الذين وضعوا لهم القوانين والنواميس ويسوغون لأكابرهم الذين صاروا عندهم عظماء في الدين أن يضعوا لهم شريعة وينسخوا بعض ما كانوا عليه قبل ذلك، لا يردون ما يتنازعون فيه من دينهم إلى الله ورسله، بحيث لا يمكنون أحدا من الخروج عن كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل وعن اتباع ما جاء به المسيح، ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام.

ولهذا قال تعالى: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم.

بل ما وضعه لهم أكابرهم من القوانين الدينية والنواميس الشرعية بعضها ينقلونه عن الأنبياء، وبعضها عن الحواريين، وكثير من ذلك ليس منقولا، لا عن الأنبياء، ولا عن الحواريين، بل من وضع أكابرهم وابتداعهم.

كما ابتدعوا لهم الأمانة التي هي أصل عقيدتهم، وابتدعوا لهم الصلاة إلى الشرق، وابتدعوا لهم تحليل لحم الخنزير، وسائر المحرمات، وابتدعوا لهم الصوم وقت الربيع، وجعلوه خمسين يوما، وابتدعوا لهم أعيادهم، كعيد الصليب، وغيره من الأعياد.

وكذلك قال النبي لعدي بن حاتم لما سمعه يقرأ هذه الآية: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. فقال: لم يعبدوهم، فقال له النبي : إنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم.

ولهذا قال تعالى: ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. فإنهم يتبعون أهواء أكابرهم الذين مضوا من قبلهم، وأولئك ضلوا من قبل هؤلاء وأضلوا أتباعهم، وهم كثيرون، وضلوا عن سواء السبيل، وهو وسط السبيل، وهو الصراط المستقيم، فإن كانوا هم وأتباعهم ضالين عن الصراط المستقيم، فكيف يجوز أن يأمر الله عباده أن يسألوه أن يهديهم الصراط المستقيم، ويعني به صراط هؤلاء الضالين المضلين عن سواء السبيل، وهو الصراط المستقيم.

وقد قال - سبحانه -: ولا تتبعوا أهواء هؤلاء لأن أصل ابتداعهم هذه البدعة من أنفسهم مع ظن كاذب، فكانوا ممن قيل فيهم: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى. وممن قيل فيه: ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.

وسبب ذلك أن المسيح لما رفع إلى السماء وعاداه اليهود، وعادوا أتباعه عداوة شديدة، وبالغوا في أذاهم وإذلالهم وطلب قتلهم ونفيهم، صار في قلوبهم من بغض اليهود، وطلب الانتقام منهم ما لا يوصف، فلما صار لهم دولة وملك مثل ما صار لهم في دولة قسطنطين، صاروا يريدون مقابلة اليهود.

كما جرت العادة في مثل ذلك بين الطوائف المتقابلة المتنازعين في الملك، والمتنازعين في البدع كالخوارج، والروافض، والجبرية مع القدرية والمعطلة مع الممثلة، وكالدولتين المتنازعتين على الملك والأهواء بمنزلة قيس ويمن، وأمثال ذلك. إذا ظهرت طائفة على الأخرى بعدما آذتها الأخرى وانتقمت منها تريد أن تأخذ بثأرها، ولا تقف عند حد العدل، بل تعتدي على تلك كما اعتدت تلك عليها.

فصار النصارى يريدون مناقضة اليهود فأحلوا ما يحرمه اليهود كالخنزير وغيره، وصاروا يمتحنون من دخل في دينهم بأكل الخنزير، فإن أكله وإلا لم يجعلوه نصرانيا. وتركوا الختان، وقالوا: إن المعمودية عوض عنه، وصلوا إلى قبلة غير قبلة اليهود.

وكان اليهود قد أسرفوا في ذم المسيح عليه السلام وزعموا أنه ولد زنا، وأنه كذاب ساحر. فغلوا هؤلاء في تعظيم المسيح، وقالوا: إنه الله وابن الله، وأمثال ذلك، وصار من يطلب أن يقول فيه القول العدل مثل كثير من علمائهم وعبادهم، يجمعون له مجمعا ويلعنونه فيه على وجه التعصب، واتباع الهوى، والغلو فيمن يعظمونه، كما يجري مثل ذلك لأهل الأهواء، كالفلاة في بعض المشايخ، وبعض أهل البيت، وبعض العلماء وبعض الملوك، وبعض القبائل وبعض المذاهب، وبعض الطرائق، فإنما كان مصدر ضلالهم أهواء نفوسهم، قال تعالى للنصارى الذين كانوا في وقت النبي ، ومن بعدهم: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

وأما قولهم إن الصراط هو المذهب أي الطريق، وهذه لفظة رومية لأن الطريق بالرومية اسطراطا.

فيقال لهم: الصراط في لغة العرب: هو الطريق يقال هو الطريق الواضح ويقال هو الطريق المحدود بجانبين الذي لا يخرج عنه، ومنه الصراط المنصوب على جهنم، وهو الجسر الذي يعبر عليه المؤمنون إلى الجنة، وإذا عبر عليه الكفار سقطوا في جهنم، ويقال فيه: معنى الاستواء والاعتدال الذي يوجب سرعة العبور عليه، وفيه ثلاث لغات، هي ثلاث قراءات: الصراط، والسراط، والزراط، وهي لغة عربية عرباء ليست من المعرب، ولا مأخوذة من لغة الروم كما زعموا.

ويقال أصله من قولهم: سرطت الشيء أسرطه سرطا، إذا ابتلعته واسترطته ابتلعته، فإن المبتلع يجري بسرعة في مجرى محدود.

ومن أمثال العرب: لا تكن حلوا فتسترط، ولا مرا فتعفى، من قولهم: أعفيت الشيء، إذا أزلته من فيك لمرارته، ويقال فلان يسترط ما يأخذ من الدين.

وحكى يعقوب بن السكيت: الأخذ سريط، والقضاء ضريط، والسرطاط: الفالوذج، لأنه يسترط استراطا، وسيف سراطي، أي قاطع فإنه ماض سريع المذهب في مضربه.

فالصراط: هو الطريق المحدود المعتدل الذي يصل سالكه إلى مطلبه بسرعة، وقد ذكر الله لفظ الصراط في كتابه في غير موضع، ولم يسم الله سبيل الشيطان سراطا، بل سماها سبلا، وخص طريقه باسم الصراط، كقوله تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.

وفي السنن عن عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله خطا، وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه من أجابه قذفه في النار ثم قرأ: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.

فسمى - سبحانه - طريقه صراطا، وسمى تلك سبلا، ولم يسمها صراطا كما سماها سبيلا، وطريقه يسميه سبيلا كما يسميه صراطا.

وقال تعالى: عن موسى وهارون: وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم.

وقال تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا.

وهذه الهداية الخاصة التي أعطاه إياها بعد فتح الحديبية أخص مما تقدم فإن السالك إلى الله لا يزال يتقرب إليه بشيء بعد شيء، ويزيده الله هدى بعد هدى، وأقوم الطريق وأكملها الطريق التي بعث الله بها نبيه محمدا كما قال تعالى: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.

فصل: بيان أن تفسيرهم للتثليث تفسير باطل

قال الحاكي عنهم: فقلت: إنهم ينكرون علينا في قولنا، أب وابن، وروح قدس، وأيضا في قولنا إنهم ثلاثة أقانيم، وأيضا في قولنا إن المسيح رب وإله وخالق، وأيضا يطلبون منا إيضاح تجسيد تجسم كلمة الله الخالق بإنسان مخلوق.

أجابوا قائلين: لو علموا قولنا هذا إنما نريد به القول الذي يعني أن الله شيء حي ناطق لما أنكروا علينا ذلك، لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها، إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب.

فقلنا: إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء، وذلك لننفي عنه العدم، ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين: شيء حي، وشيء غير حي، فوصفناه بأجملهما، فقلنا: هو شيء حي، لننفي الموت عنه، ورأينا الحي ينقسم قسمين: حي ناطق، وحي غير ناطق، فوصفناه بأفضلهما، فقلنا: هو شيء حي ناطق لننفي الجهل عنه.

والثلاثة أسماء وهي إله واحد، مسمى واحد، ورب واحد، خالق واحد شيء حي ناطق، أي الذات والنطق والحياة، فالذات عندنا الأب الذي هو ابتداء الاثنين، والنطق الابن الذي هو مولود منه لولادة النطق من العقل، والحياة روح القدس، وهذه أسماء لم نسمه نحن بها.

والجواب من وجوه:

أحدها: قولهم: أما قولنا أب، وابن، وروح قدس، فلو علموا قولنا هذا إنما نريد به تصحيح القول بأن الله حي ناطق لما أنكروا ذلك علينا، فيقال: ليس الأمر كما ادعوه فإن النصارى يقولون: إن هذا القول تلقوه عن الإنجيل، وإن في الإنجيل عن المسيح - صلوات الله عليه وسلامه - أنه قال: عمدوا الناس باسم الأب، والابن وروح القدس فكان أصل قولهم هو ما يذكرونه من أنه متلقى من الشرع المنزل لا أنهم أثبتوا الحياة والنطق بمعقولهم، ثم عبروا عنها بهذه العبارات، كما ادعوه في مناظرتهم.

ولو كان الأمر كذلك لما احتاجوا إلى هذه العبارة، ولا إلى جعل الأقانيم ثلاثة، بل معلوم عندهم، وعند سائر أهل الملل أن الله موجود حي عليم، قدير متكلم لا تختص صفاته بثلاثة، ولا يعبر عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك، وهو لفظ: الأب، والابن، وروح القدس، فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسروها به في لغة أحد من الأمم، ولا يوجد في كلام الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكروه من المعاني، بل إثبات ما ادعوه من التثليث والتعبير عنه بهذه الألفاظ هو مما ابتدعوه لم يدل عليه لا شرع ولا عقل.

وهم يدعون أن التثليث والحلول والاتحاد إنما صاروا إليه من جهة الشرع، وهو نصوص الأنبياء والكتب المنزلة، لا من جهة العقل، وزعموا أن الكتب الإلهية نطقت بذلك، ثم تكلفوا لما ظنوه مدلول الكتاب طريقا عقلية، فسروه بها تفسيرا ظنوه جائزا في العقل ولهذا نجد النصارى لا يلجئون في التثليث والاتحاد إلا إلى الشرع والكتب وهم يجدون نفرة عقولهم وقلوبهم عن التثليث والاتحاد والحلول فإن فطرة الله التي فطر الناس عليها وما جعله الله في قلوب الناس من المعارف العقلية التي قد يسمونها ناموسا عقليا طبيعيا يدفع ذلك وينفيه وينفر عنه ولكن يزعمون أن الكتب الإلهية جاءت بذلك وأن ذلك أمر يفوق العقل وأن هذا الكلام من طور وراء طور العقل فينقلونه لظنهم أن الكتب الإلهية أخبرت به، لا لأن العقول دلت عليه، مع أنه ليس في الكتب الإلهية ما يدل على ذلك، بل فيها ما يدل على نقيضه كما سنذكره - إن شاء الله تعالى -، ولا يميزون بين ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع، وبين ما يعجز عنه العقل فلا يعرفه ولا يحكم فيه بنفي ولا إثبات، وأن الرسل أخبرت بالنوع الثاني: ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول، فلم يفرقوا بين محالات العقول ومحارات العقول، وقد ضاهوا في ذلك من قبلهم من المشركين الذين جعلوا لله ولدا شريكا.

قال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون.

وقد ضاهاهم في ذلك أهل البدع والضلال المشبهون لهم من المنتسبين إلى الإسلام الذين يقولون: نحو قولهم من الغلو في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ وغيرهم، ومن يدعي الوحدة أو الحلول أو الاتحاد الخاص المعين كدعوى النصارى ودعوى الغالية من الشيعة في علي وطائفة من أهل البيت كالنصيرية ونحوهم ممن يدعي إلهية علي، وكدعوى بعض الإسماعيلية الإلهية في الحاكم وغيره من بني عبد الله بن ميمون القداح المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر.

ودعوى كثير من الناس نحو ذلك في بعض الشيوخ، إما المعروفين بالصلاح، وإما من يظن به الصلاح وليس من أهله، فإن لهم أقوالا من جنس أقوال النصارى، وبعضها شر من أقوال النصارى.

وعامة هؤلاء إذا خوطبوا ببيان فساد قولهم قالوا من جنس قول النصارى، هذا أمر فوق العقل، ويقول بعضهم ما كان يقوله التلمساني لشيخ أهل الوحدة، يقول: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح النقل ويقولون: لمن أراد أن يسلك سبيلهم: دع العقل والنقل، أو اخرج من العقل والنقل.

وينشدون فيهم:

مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أقدامه يسجد العقل

هم معشر حلوا النظام وحرقوا السياج فلا فرض لديهم ولا نقل

وهؤلاء مقلدون لمشايخهم متبعون لهم فيما يخرجون به عن شريعة الرسول، وما ابتدعوه مما لم يأذن به الله باتخاذ البدع عبادات، واستحلال المحرمات كتقليد بعض النصارى لشيوخهم، وإذا اعترض على أحد منهم يقولون: الشيخ يسلم له حاله، ولا يعترض عليه كما يقول النصارى لشيوخهم ومن هؤلاء من يقول نحن أولاد الله، ويقول: المسيح هو ولد الله، وينطق أيضا، بلفظ الشهوة، فيقول إنهم أولاد شهوة، ويقول: إنه زوج مريم، كما يقول ذلك من يقوله من النصارى.

وغاية ما عندهم أنهم يحكون عن شيوخهم نوعا من خرق العادات، قد يكون كذبا، وقد يكون صدقا، وإذا كانت صدقا فقد يكون من أحوال أولياء الشيطان كالسحرة والكهان، وقد يكون من أحوال أولياء الرحمن، وإذا كانت من أحوال أولياء الرحمن لم يكن في ذلك ما يوجب تقليد الولي في كل ما يقوله، إذ الولي لا يجب أن يكون معصوما، ولا يجب اتباعه في كل ما يقوله، ولا الإيمان بكل ما يقوله.

وإنما هذا من خصائص الأنبياء الذين يجب الإيمان بكل ما يقولونه فيجب تصديقهم في كل ما يخبرون به من الغيب، وطاعتهم فيما أوجبوه على الأمم، ومن كفر بشيء مما جاءوا به فهو كافر، ومن سب نبيا واحدا وجب قتله، وليس هذا لغير الأنبياء من الصالحين.

فهؤلاء المبتدعة الغلاة المشركون القائلون بنوع من الحلول هم مضاهئون للنصارى بقدر ما شابهوهم فيه، وخالفوا فيه دين المسلمين ومنهم من تكون موافقته لدين المسلمين أكثر، وأما الغلاة منهم فموافقتهم للنصارى أكثر، ومنهم من هو أكفر من النصارى، ولما كان مستند النصارى هو ما ينقلونه إما عن الأنبياء، وإما عن غيرهم ممن يوجبون اتباعه كانوا إذا أوردوا على علمائهم ما يقتضي امتناع ذلك قالوا هكذا في الكتاب، وبهذا نطق الكتاب وهذه الكتب جاءت بها الرسل، يعنون المؤيدين بالمعجزات، ويعنون بالرسل الحواريين فاعتصامهم بها إنما هو لما ظنوه مذكورا في الكتب الإلهية، وإن رأوه مخالفا لصريح المعقول.

ولهذا ينهون جمهورهم عن البحث والمناظرة في ذلك، لعلمهم بأن العقل الصريح متى تصور دينهم علم أنه باطل، فدعوى المدعين أنا إنما قلنا أب وابن وروح قدس لتصحيح القول بأن الله حي ناطق كذب ظاهر، وهم يعلمون أنه كذب، وتصحيح القول بأن الله حي متكلم، لا يقف على هذه العبارة، بل يمكنه تصحيح ذلك بالأدلة الشرعية والسمعية والعقلية، والتعبير عنه بالعبارات البينة كما يقوله المسلمون وغيرهم بدون قولنا أب وابن وروح قدس.

ومما يبين ذلك الوجه الثاني: وهو أن النصارى - المقرون بأن هذه العبارة في الإنجيل المأخوذ عن المسيح - مختلفون في تفسير هذا الكلام، فكثير منهم يقول الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو الحياة.

ومنهم من يقول: بل الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو القدرة.

وبعضهم يقول: إن الأقانيم الثلاثة: جواد حكيم قادر، فيجعل الأب هو الجواد، والابن هو الحكيم، وروح القدس هو القادر، ويزعمون أن جميع الصفات تدخل تحت هذه الثلاثة، ويقولون: إنا استدللنا على وجوده بإخراجه الأشياء من العدم إلى الوجود، وذلك من جوده.

وقد رأيت في كتب النصارى هذا وهذا وهذا، ومنهم من يعبر عن الكلمة بالعلم، فيقولون: موجود حي عالم، أو موجود عالم قادر، كما يقول بعضهم: ناطق، ومنهم من يقول موجود حي حكيم، ومنهم من يقول قائم بنفسه حي حكيم، وهم متفقون على أن المتحد بالمسيح والحال فيه هو أقنوم الكلمة، وهو الذي يسمونه الابن دون الأب، ومن أنكر الحلول والاتحاد منهم كالأريوسية يقول: إن المسيح عليه السلام عبد مرسل، كسائر الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه -، فوافقهم على لفظ: الأب، والابن، وروح القدس، ولا يفسر ذلك بما يقوله منازعوه من الحلول والاتحاد.

كما أن النسطورية يوافقونهم أيضا على هذا اللفظ، وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية: فإذا كانوا متفقين على اللفظ متنازعين في معناه، علم أنهم صدقوا أولا باللفظ لأجل اعتقادهم مجيء الشرع به، ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسير الكتاب، كما يختلفون هم وسائر أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء عليهم السلام، وعلم بذلك أن أصل قولهم: الأب، والابن، وروح القدس، لم يكن لأجل تصحيح القول بأن الله موجود حي ناطق الذي علموه أولا بالعقل.

يوضح هذا الوجه الثالث: وهو قولهم إنما لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها، إن كان المتكلم بهذا طائفة معينة من النصارى، فيقال لهؤلاء: القول بالأب، والابن، وروح القدس، موجود عند النصارى قبل وجودكم، وقبل نظركم هذا واستدلالكم، فلا يجوز أن يكون نظركم هو الموجب لقول النصارى هذا، وإن كان المراد به أن جميع النصارى من حين قالوا هذا الكلام نظروا واستدلوا حتى قالوا ذلك فهذا كذب بين، فإن هذا الكلام يقول النصارى إنهم تلقوه من الإنجيل، وأن المسيح عليه السلام قال: عمدوا الناس باسم الأب، والابن، وروح القدس.

والمسيح والحواريون لم يأمروهم بهذا النظر الموجب لهذا القول، ولا جعل المسيح هذا القول موقوفا عندهم على هذا البحث، فعلم أن جعلهم هذا القول ناشئا عن هذا البحث قول باطل يعلمون هم بطلانه.

الوجه الرابع: إن هذا القول: إن كان المسيح لم يقله فلا يجوز أن يقال، ولو عنى به الإنسان معنى صحيحا فإن هذه العبارة إنما يفهم منها عند الإطلاق المعاني الباطلة، ولهذا يوجد كثير من عوام النصارى يعتقدون أن المسيح ابن الله، البنوة المعروفة في المخلوقات، ويقولون: إن مريم زوجة الله وهذا لازم لعامة النصارى، وإن لم يقولوه فإن الذي يلد لابد له من زوجة.

ولهذا قال تعالى: أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم.

وجعل الرب والد المولود أنكر في العقول من إثبات صاحبة له سواء فسرت الولادة بالولادة المعروفة، أو بالولادة العقلية التي يقولها علماء النصارى، فإن من أثبت صاحبة له يمكنه تأويل ذلك، كما تأولوا هم الولد، ويقولون: إن الأب ولدت منه الكلمة،ومريم ولد منها الناسوت واتحد الناسوت باللاهوت، فكما أن الأب أب باللاهوت لا بالناسوت، ومريم أم للناسوت لا للاهوت، فكذلك هي صاحبة للأب بالناسوت، واللاهوت زوج مريم، بلاهوته، كما أنه أب للمسيح بلاهوته، وإذا اتحد اللاهوت بناسوت المسيح مدة طويلة، فلماذا يمتنع أن يجتمع اللاهوت بناسوت مريم مدة قصيرة، وإذا جعل الناسوت الذي ولدته ابنا للاهوت، فلأي شيء لا تجعل هي صاحبة وزوجة للاهوت فإن المسيح عندهم اسم لمجموع اللاهوت والناسوت، وهو عندهم إله تام وإنسان تام، فلاهوته من الله، وناسوته من مريم، فهو من أصلين: لاهوت وناسوت، فإذا كان أحد الأصلين أباه والآخر أمه، فلماذا لا تكون أمه زوجة أبيه بهذا الاعتبار، مع أن المصاحبة قبل البنوة؟ فكيف يثبت الفرع الملزوم بدون ثبوت الأصل اللازم؟

وليس في ذلك من المحال على أصلهم إلا ما هو من جنس إثبات بنوة المسيح، وأقل امتناعا، وإن كان المسيح عليه السلام قال هذا الكلام، فقد علمنا أن المسيح عليه السلام وغيره من الأنبياء معصومون لا يقولون: إلا الحق، وإذا قالوا قولا فلابد له من معنى صحيح.

ويمتنع أن يريدوا بقولهم ما يمتنع بطلانه بسمع أو عقل فإذا كانت العقول، ونصوص الكتب المتقدمة مع نصوص القرآن تناقض ما ابتدعته النصارى في المسيح، علم أن المسيح لم يرد معنى باطلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول.

بل نقول في الوجه الخامس: إن صحت هذه العبارة عن المسيح المعصوم عليه الصلاة والسلام، فإنه أراد بذلك ما يناسب سائر كلامه، وفي الموجود في كتبهم تسمية الرب أبا وتسمية عباده أبناء، كما يذكرون أنه قال في التوراة ليعقوب: " إسرائيل " " أنت ابني بكري "، وقال لداود في الزبور: " أنت ابني وحبيبي "، وفي الإنجيل في غير موضع يقول المسيح: " أبي وأبيكم " كقوله إني أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فيسميه أبا لهم كما يسميهم أبناء له، فإن كان هذا صحيحا، فالمراد بذلك أنه الرب المربي الرحيم، فإن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والابن هو المربى المرحوم، فإن تربية الله لعبده أكمل من تربية الوالدة لولدها فيكون المراد بالأب الرب، والمراد بالابن عنده المسيح الذي رباه.

وأما روح القدس: فهي لفظة موجودة في غير موضع من الكتب التي عندهم، وليس المراد بها حياة الله باتفاقهم، بل روح القدس عندهم تحل في إبراهيم وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء الصالحين.

والقرآن قد شهد أن الله أيد المسيح بروح القدس، كما قال تعالى: وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس. في موضعين من البقرة.

وقال تعالى: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس.

وقد قال النبي لحسان بن ثابت: إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه وقال: اللهم أيده بروح القدس كما تقدم ذكره هذا كله مبسوطا.

وروح القدس: قد يراد بها الملك المقدس كجبريل، ويراد بها الوحي، والهدى والتأييد الذي ينزله الله بواسطة الملك أو بغير واسطته، وقد يكونان متلازمين، فإن الملك ينزل بالوحي، والوحي ينزل به الملك، والله تعالى يؤيد رسله بالملائكة وبالهدى، كما قال تعالى عن نبيه محمد : فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها. في موضعين من سورة " براءة ".

وقال الله تعالى: فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها.

وقال تعالى: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا.

وقال تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

وقال الله تعالى: ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده.

وقال تعالى: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق.

وقال: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا

وإذا كان روح القدس معروفا في كلام الأنبياء المتقدمين والمتأخرين أنها أمر ينزله الله على أنبيائه وصالحي عباده سواء كان ملائكة تنزل بالوحي والنصر أو وحيا وتأييدا مع الملك، وبدون الملك ليس المراد بروح القدس أنها حياة الله القائمة به كان المعصوم إن كان قال: عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس مراده مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي أرسله وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به، فيكون ذلك أمرا لهم بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول.

فتفسير كلام المعصوم بهذا التفسير الذي يوافق سائر ألفاظ الكتب التي عندهم، ويوافق القرآن، ويوافق العقل، أولى من تفسيره بما يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول.

وهذا تفسير ظاهر ليس فيه تكلف، ولا هو من التأويل الذي هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره، بل هو تفسير له بما يدل ظاهره عليه باللغة المعروفة والعبارة المألوفة في خطاب المسيح، وخطاب سائر الأنبياء.

أما تفسير النصارى بأن الابن مولود قديم أزلي هو العلم أو كلمة الله، فتفسير للفظ بما لم يستعمل هذا اللفظ فيه، لا في كلام أحد من الأنبياء ولا لغة أحد من الأنبياء، وكذلك تفسير روح القدس بحياة الله، فالذي فسر النصارى به ظاهر كلام المسيح هو تفسير لا تدل عليه لغة المسيح وعادته في كلامه، ولا لغة غيره من الأنبياء والأمم، بل المعروف في لغته وكلامه وكلام سائر الأنبياء تفسيره بما فسرناه، وبذلك فسره أكابر علماء النصارى.

وأما ضلال النصارى المحرفون لمعاني كتب الله عز وجل، فسروه بما يخالف معناه الظاهر وينكره العقل والشرع.

وتمام هذا بالوجه السادس: وهو أن النصارى لما كان عندهم في الكتب تسمية المسيح عليه السلام ابنا، وتسمية غيره من الأنبياء ابنا، كقوله ليعقوب: أنت ابني بكري، وتسمية الحواريين أبناء قالوا هو ابنه بالطبع، وغيره هو ابنه بالوضع، فجعلوا لفظ الابن مشتركا بين معنيين وأثبتوا لله طبعا، جعلوا المسيح ابنه باعتبار ذلك الطبع، وهذا يقرر قول من يفهم منهم أنه ابنه البنوة المعروفة في المخلوقين، وأن مريم زوجة الله.

وكذلك جعلوا روح القدس مشتركة بين حياة الله وبين روح القدس التي تنزل على الأنبياء والصالحين، ومعلوم أن الاشتراك على خلاف الأصل وأن اللفظ إذا استعمل في عدة مواضع كان جعله حقيقة متواطئا في القدر المشترك أولى من جعله مشتركا اشتراكا لفظيا بحيث يكون حقيقة في خصوص هذا، أو يكون مجازا في أحدهما، فإن المجاز والاشتراك على خلاف الأصل، هذا إن قدر أن لفظ الابن وروح القدس استعمل في نطق الله وحياته كما يزعم النصارى فكيف إذا لم يوجد في كلام الأنبياء أنهم قالوا لفظ الابن، ولفظ روح القدس، وأرادوا به شيئا من صفات الله لا كلامه ولا حياته ولا علمه ولا غير ذلك، بل لم يوجد استعمال لفظ الابن في كلام الأنبياء إلا في شيء مخلوق، ولم يوجد استعمال روح القدس كما هو من صفات الله القائمة به، ونحن إذا فسرنا الأب وروح القدس ببنوة التربية، وروح القدس بما ينزل على الأنبياء كنا قد جعلنا اللفظ مفردا متواطئا وهم يحتاجون أن يجعلوا اللفظ مشتركا أو مجازا في أحد المعنيين، فكان تفسيرهم مخالفا لظاهر اللغة التي خوطبوا بها، ولظاهر الكتب التي بأيديهم وتفسيرنا موافقا لظاهر لغتهم، وظاهر الكتب التي بأيديهم، وحينئذ فقد تبين أنه ليس معهم بالتثليث لا حجة سمعية ولا عقلية، بل هو باطل شرعا وعقلا.

ويؤيد هذا الوجه السابع: وهو أنهم في أمانتهم أثبتوا من المعاني ولفظ الأقانيم وغير ذلك ما لا تدل عليه الكتب التي بأيديهم البتة، بل فهموا منها معنى باطلا، وضموا إليه معاني باطلة من عند أنفسهم، فكانوا محرفين لكتب الله في ذلك، مفترين على الله الكذب، وهذا مبسوط في موضع آخر.

الوجه الثامن: أن قولهم بالأقانيم مع بطلانه في العقل والشرع لم ينطق به عندهم كتاب، ولم يوجد هذا اللفظ في شيء من كتب الأنبياء التي بأيديهم ولا في كلام الحواريين، بل هي لفظة ابتدعوها، ويقال: إنها رومية، وقد قيل: الأقنوم في لغتهم معناه الأصل، ولهذا يضطربون في تفسير الأقانيم تارة يقولون: أشخاص، وتارة خواص وتارة صفات وتارة جواهر وتارة يجعلون الأقنوم اسما للذات والصفة معا، وهذا تفسير حذاقهم.

الوجه التاسع: قولهم في المسيح عليه السلام إنه خالق، قول مع بطلانه في الشرع والعقل، قول لم ينطق به شيء من النبوات التي عندهم، ولكن يستدلون على ذلك بما لا يدل عليه كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

الوجه العاشر: قولهم في تجسد اللاهوت - أيضا - هو قول مع بطلانه في العقل والشرع قول لا يدل عليه شيء من كلام المعصوم من النبيين والمرسلين

الوجه الحادي عشر: إنا نقول: لا ريب أن الله حي عالم قادر متكلم، وللمسلمين على ذلك من الدلائل العقلية التي دل الرسول عليها وأرشد إليها فصارت معروفة بالعقل مدلولا عليها بالشرع ما هو مبسوط في موضعه، وأنتم مع دعواكم أنكم تثبتون ذلك بالعقل، لم تذكروا على ذلك دليلا عقليا.

فقولكم لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب، كلام قاصر من وجوه:

أحدها: أنكم لم تروا حدوث جميع المخلوقات، وإنما رأيتم حدوث ما يشهد حدوثه كالسحاب والمطر والحيوان والنبات ونحو ذلك، فأين دليلكم على حدوث سائر الأشياء؟

الثاني: أنه كان ينبغي أن تقولوا لما علم حدوث المحدثات، أو حدوث المخلوقات أو حدوث ما سوى الله ونحو ذلك مما يبين أن المحدث ما سوى الله، فأما إطلاق حدوث جميع الأشياء فباطل، فإن الله يسمى عندكم وعند جمهور المسلمين شيئا من الأشياء، وهذا بخلاف قوله تعالى: قل الله خالق كل شيء.

فإن هذا التركيب يبين أن الخالق غير المخلوق خلاف قول القائل حدوث الأشياء.

الثالث: أن العلم بأن المحدث لابد له من محدث، علم فطري ضروري، ولهذا قال الله تعالى في القرآن: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون.

قال جبير بن مطعم: لما سمعت النبي يقرأ بها في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع، يقول تعالى: أخلقوا من غير خالق خلقهم أم هم الخالقون لأنفسهم.

ومعلوم بالفطرة التي فطر الله عليها عباده بصريح العقل أن الحادث لا يحدث إلا بمحدث أحدثه.

وإن حدوث الحادث بلا محدث أحدثه معلوم البطلان بضرورة العقل وهذا أمر مركوز في بني آدم حتى الصبيان، لو ضرب الصبي ضربة فقال: من ضربني؟ فقيل: ما ضربك أحد، لم يصدق عقله أن الضربة حدثت من غير فاعل.

ولهذا لو جوز مجوز أن يحدث كتابة أو بناء أو غراس ونحو ذلك من غير محدث لذلك، لكان عند العقلاء إما مجنونا وإما مسفسطا كالمنكر للعلوم البديهية والمعارف الضرورية، وكذلك معلوم أنه لم يحدث نفسه، فإن كان معدوما قبل حدوثه لم يكن شيئا فيمتنع أن يحدث غيره فضلا عن أن يحدث نفسه.

فقولكم لم يكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب، تعليل باطل فإن علمنا بأن حدوثها لم يكن من ذواتها ليس لأجل ما فيها من التضاد والتقلب، بل سواء كانت متماثلة أو مختلفة أو متضادة، نحن نعلم بصريح العقل أن المحدث لا يحدث نفسه، وهذا من أظهر المعارف وأبينها للعقل، كما يعلم أن العدم لا يخلق موجودا، وأن المحدث للحوادث الموجودة لا يكون معدوما.

الوجه الرابع: أنكم ذكرتم حجة على أنها لم تحدث نفسها، وهي حجة ضعيفة ولم تذكروا حجة على أنها حدثت، بلا محدث، لا أنفسها ولا غيرها، فإن كان امتناع كونها أحدثت نفسها محتاجا إلى دليل، فكذلك امتناع حدوثها، بلا محدث، وإن كان معلوما ببديهة العقل، وهو من العلوم الضرورية، فكذلك الآخر، فذكر الدليل على أحدهما دون الآخر خطأ لو كنتم ذكرتم دليلا صحيحا، فكيف إذا كان الدليل باطلا؟ ومن يكون مبلغهم من العلم بالأدلة العقلية التي يثبتون بها العلم بالصانع وصفاته هذا المبلغ؟ ثم يريدون مع ذلك أن يثبتوا معاني عقلية ويزعمون أنها موافقة لفهمهم الباطل من الكتب الإلهية، فهم ممن قال الله فيهم:

والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

الوجه الثاني عشر: قولكم: فقلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة، إذ هو الخالق لكل شيء، لننفي عنه العدم.

فيقال لهم: لا ريب أن الله كما وصف نفسه بقوله تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وقوله: فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا. أي مثلا يستحق أن يسمى بأسمائه،

وقوله تعالى: قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد.

وقد دل على ذلك العقل، فإن المثلين اللذين يسد أحدهما مسد الآخر يجب لأحدهما ما يجب للآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجوز عليه ما يجوز عليه، فلو كان للخالق مثل للزم أن يشتركا فيما يجب، ويجوز ويمتنع.

والخالق يجب له الوجود والقدم، ويمتنع عليه العدم، فيلزم أن يكون المخلوق واجب الوجود قديما أزليا لم يعدم قط، وكونه محدثا مخلوقا يستلزم أن يكون كان معدوما، فيلزم أن يكون موجودا معدوما قديما محدثا، وهو جمع بين النقيضين يمتنع في بداية العقول، وأيضا فالمخلوق يمتنع عليه القدم، ويجب له سابقة العدم، فلو وجب للخالق القديم ما يجب له، لوجب كون الواجب للقدم واجب الحدوث بعد العدم وهذا جمع بين النقيضين، فالعقل الصريح يجزم بأن الله ليس كمثله شيء، والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر لكن أنتم لم تذكروا على ذلك حجة، (بل قلتم إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة، إذ هو الخالق لكل شيء فلم تذكروا حجة) على أنه خالق كل شيء، إذ كان عمدتكم على ما شهدتم حدوثه وليس ذلك كل شيء، ولم تذكروا حجة مع كونه خالق كل شيء على أنه ليس كمثله شيء، بل قلتم لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها لما فيها من التضاد والتقلب فقلنا: إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء، وذلك لننفي العدم عنه، ودليلكم لو دل على العلم بالصانع لم يدل إلا على أنه خالق فكيف إذا لم يدل؟

ولا ريب أن الخالق سبحانه يجب أن يكون موجودا لا معدوما، وهذا معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى دليل عند جمهور العقلاء والنظار وإن كان بعضهم أثبت وجوده بالدليل النظري، لكن ليس في دليلكم ما يدل على أنه ليس كالأشياء المخلوقة، وقولكم: إذ هو الخالق لكل شيء يتضمن أنه خالق لكل ما سواه، ليس فيه بيان نفي للمماثلة عنه، ولكن بينتم بهذا الكلام جهلكم بالدلائل العقلية كجهلكم بالكتب المنزلة، وكذلك أخبر تعالى عن أهل النار بأنهم يقولون: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.

فصل: دلائل حياة الله

وأما قولكم: ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين: شيء حي، وشيء غير حي، فوصفناه بأجل القسمين فقلنا إنه حي لننفي الموت عنه.

فيقال: لا ريب أن الله حي كما نطقت بذلك كتبه المنزلة التي هي آياته القولية، ودلت على ذلك آياته كمخلوقاته، التي هي آياته الفعلية، قال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. أي القرآن حق،

وقد تقدم ذكر القرآن في قوله: قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد.

فالله تعالى يري عباده من آياته المشاهدة المعاينة الفعلية، ما يبين صدق آياته المنزلة المسموعة القولية.

قال تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم

وقال تعالى: وتوكل على الحي الذي لا يموت.

والدلائل على حياته كثيرة:

منها: أنه قد ثبت أنه عالم، والعلم لا يقوم إلا بحي، وثبت أنه قادر مختار يفعل بمشيئته، والقادر المختار لا يكون إلا حيا.

ومنها: أنه خالق الأحياء وغيرهم، والخالق أكمل من المخلوق، فكل كمال ثبت للمخلوق فهو من الخالق، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من خالقه، وكماله أكمل منه.

والمتفلسفة القائلون بالموجب بالذات يسلمون هذا، ويقولون: كمال المعلول مستفاد من علته فإذا كان خالقا للأحياء كان حيا بطريق الأولى والأحرى.

ومنها: أن الحي أكمل من غير الحي، كما قال تعالى: وما يستوي الأحياء ولا الأموات.

فلو كان الخالق غير حي لزم أن يكون الممكن المحدث المخلوق أكمل من الواجب القديم الخالق، فيكون أنقص الموجودين أكمل من أكملها، وهذا الوجه يتناول ما ذكروه من الدليل، وإن كانوا لم يبينوه بيانا تاما، لكن قولهم قلنا إنه حي لننفي الموت عنه.

كلام مستدرك فإن الله موصوف بصفات الكمال الثبوتية كالحياة والعلم والقدرة، فيلزم من ثبوتها سلب صفات النقص، وهو سبحانه لا يمدح بالصفات السلبية إلا لتضمنها المعاني الثبوتية، فإن العدم المحض والسلب الصرف لا مدح فيه ولا كمال، إذ كان المعدوم يوصف بالعدم المحض، والعدم نفي محض لا كمال فيه، إنما الكمال في الوجود.

ولهذا جاء كتاب الله تعالى على هذا الوجه فيصف سبحانه نفسه بالصفات الثبوتية صفات الكمال وبصفات السلب المتضمنة للثبوت كقوله: الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم.

فنفي أخذ السنة والنوم يتضمن كمال حياته وقيوميته، إذ النوم أخو الموت ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون مع كمال الراحة، كما لا يموتون.

والقيوم: القائم المقيم لما سواه، فلو جعلت له سنة أو نوم لنقصت حياته وقيوميته، فلم يكن قائما ولا قيوما، كما ضرب الله المثل لبني إسرائيل، لما سألوا موسى: هل ينام ربك؟ فأرقه ثلاثا، ثم أعطاه قوارير فأخذه النوم فتكسرت.

بين بهذا المثل أن خالق العالم لو نام لنفد العالم، ثم قال تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه.

فإنكاره ونفيه أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه يتضمن كمال ملكه لما في السماوات وما في الأرض، وأنه ليس له شريك، فإن من شفع عنده غيره بغير إذنه وقبل شفاعته كان مشاركا له إذ صارت شفاعته سببا لتحريك المشفوع إليه، بخلاف من لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فإنه منفرد بالملك ليس له شريك بوجه من الوجوه.

ثم قال تعالى: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. فنفى أن يعلم أحد شيئا من علمه إلا بمشيئته ليس إلا أنه منفرد بالتعليم، فهو العالم بالمعلومات، ولا يعلم أحد شيئا إلا بتعليمه، كما قالت الملائكة: لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم

ثم قال تعالى: وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما. أي لا يكرثه ولا يثقل عليه، فبين بذلك كمال قدرته، وأنه لا يلحقه أدنى مشقة، ولا أيسر كلفة في حفظ المخلوقات، كما قال تعالى في الآية الأخرى: ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب. بين بذلك كمال قدرته وأنه لا يلحقه اللغوب في الأعمال العظيمة مثل خلقه السماوات والأرض، كما يلحق المخلوق اللغوب إذا عمل عملا عظيما، واللغوب: الانقطاع والإعياء، وهذا باب واسع مبسوط في موضع آخر.

والمقصود هنا أنه موصوف بصفات الكمال التي يستحقها بذاته ويمتنع اتصافه بنقائضها، وإذا وصف بالسلوب، فالمقصود هو إثبات الكمال، وهؤلاء قالوا: قد وصفناه بالحياة لننفي عنه الموت، كما قالوا: هو شيء لننفي العدم عنه، والحياة صفة كمال يستحقها بذاته، والموت مناقض لها، فلم يوصف بالحياة لأجل نفي الموت، بل وصفه بالحياة يستلزم نفي الموت، فينفي عنه الموت لأنه حي، لا يثبت له الحياة لنفي الموت، وكذلك لتثبت له أنه شيء موجود، وذلك يستلزم نفي العدم عنه، لا أن إثبات وجوده لأجل نفي العدم، بل نفي العدم عنه لأجل وجوده، كما أن نفي الموت عنه لأجل حياته، وكذلك قولهم: قلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة وذلك لننفي العدم عنه، لكن كان مرادهم والله أعلم - وإن كانت عبارتهم قاصرة - إثبات الوجود، ونفي العدم، وإثبات الحياة ونفي الموت.

فصل: طرق معرفة صفات الله

ثم قالوا: ورأينا الحي ينقسم قسمين: حيا ناطقا، وحيا غير ناطق فوصفناه بأفضل الوصفين، فقلنا: إنه ناطق لننفي الجهل عنه.

فيقال لهم: لا ريب أن الرب سبحانه موصوف بأنه حي عليم قدير متكلم مختار، لكن قولهم: فقلنا إنه ناطق لننفي الجهل عنه يقتضي أنكم أردتم النطق المناقض للجهل، وهذا هو العلم، فإن العلم يناقض الجهل لم تريدوا بذلك النطق الذي هو العبارة والبيان، ولم تريدوا بذلك ما جعله بعض النظار كلاما، وهي معاني قائمة بالنفس ليست من جنس العلوم، ولا من جنس الإرادات، وحينئذ فيقال لكم: ليس في الأحياء إلا ما هو شاعر، فكل حي فله شعور بحسبه.

وكلما قويت الحياة قوي شعورها، وشعور الحيوان قد يعبر عنه بلفظ العلم، كما يقول الناس: علم الفهد والبازي والكلب، ويقال: كلب معلم وغير معلم وبازي معلم.

وقال تعالى: وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله.

وقال النبي : إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله فقتل فكل ولا ريب أن العلم صفة كمال، فالعالم أكمل من الجاهل، والدلائل الدالة على علم الله كثيرة، مثل أنه سبحانه خالق كل شيء بإرادته.

والإرادة تستلزم تصور المراد فلابد أن يعلم المخلوقات قبل أن يخلقها.

وكل ما وجد في الخارج فهو موجود وجودا معينا يمتاز به عن غيره، فإذا خلقها كذلك فلابد أن يعلمها علما مفصلا يمتاز به كل معلوم عما سواه، ولو قدر أنه علمها على وجه كلي فقط لم يكن علم منها شيئا،

لأن الكلي إنما يكون كليا في الأذهان، وأما ما هو موجود في الخارج فهو معين مختص بعينه ليس بكلي.

وكل واحد من الأفلاك معين، فلو لم يعلم إلا الكليات لم يكن عالما بشيء من الموجودات، وقد بسط في غير هذا الموضع تمام الكلام على هذا وبين فساد شبه نفاة ذلك بما ادعوه من لزوم التغيير أو التكثر، وبين أنه لا يلزم من ثبوت علم الله بالأشياء كلها على وجه التفصيل محذور ينفيه دليل صحيح.

فإن التكثر فيما يقوم به من المعاني هو مدلول الأدلة العقلية والسمعية فإنه عالم قادر حي، وليس العلم هو القدرة، ولا القدرة هي الحياة ولا الصفة هي الموصوف، ومن جعل كل صفة هي الأخرى، وجعل الصفات هي الموصوف، فهو قول في غاية السفسطة.

وأيضا فإنه خالق العالمين من الملائكة والجن والإنس، وجاعلهم علماء، فيمتنع أن يجعل غيره عالما من ليس هو في نفسه بعالم، فإن العلم صفة كمال، ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم، وكل كمال للمخلوق فهو من الخالق، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، وأيضا فإن في الممكنات المحدثة المخلوقة ما هو عالم، والواجب القديم الخالق أكمل من الممكن المحدث، فيمتنع أن يتصف بالكمال الموجود الناقص الخسيس دون الموجود الكامل الشريف، وهذا يتناول معنى حجتهم.

وأيضا فإنه حي، والحياة مستلزمة لجنس العلم، وإذا كانت حياته أكمل من كل حياة فعلمه أكمل من كل علم، لكن يقال لكم: كما أنه حي عالم فهو أيضا قادر، فما ذكرتم بأن الموجودات أو الأحياء تنقسم إلى قادر وغير قادر، فيجب أن يوصف بأجل القسمين، وهو القدرة.

لا سيما ودلائل كونه قادرا أظهر من دلائل كونه عالما، فإن نفس كونه خالقا فاعلا يستلزم كونه قادرا، فإن الفعل بدون القدرة ممتنع حتى إذا قيل: إن الجماد يفعل فإنما يفعل بقوة فيه كالقوى الطبيعية التي في الأجسام الطبيعية، فيمتنع في خالق العالم أن لا يكون له قوة، ولا قدرة، قال تعالى: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.

وقال تعالى: أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة.

وفي صحيح البخاري حديث الاستخارة: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب

وكثير من نظار المسلمين المصنفين في أصول الدين الذين يقيمون الدليل على كونه قادرا قبل كونه عالما وحيا، ويقولون: العلم بذلك أسبق في السلوك الاستدلالي النظري لدلالة الأحداث والفعل على قدرة المحدث الفاعل فيجب أن يثبتوا له صفة القدرة مع العلم. وكذلك يقولون: إن الحي لما كان ينقسم إلى سميع، وغير سميع، وبصير، وغير بصير، وصفناه بأشرف القسمين، وهو السميع والبصير.

وكذلك في النطق إذا أريد به البيان والعبارة، ولم يرد به مجرد العلم، أو معنى من جنس العلم فإن الحي ينقسم إلى متكلم، ومبين معبر عما في نفسه، وإلى ما ليس كذلك، فيجب أن تصفوه بأشرف القسمين، وهو الكلام المبين المعبر عنه عما في النفس من المعاني.

ومما يستدل به على ثبوت جميع صفات الكمال أنه لو لم يوصف بكونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما لوصف بضد ذلك، كالموت والجهل والعجز والصمم والبكم والخرس، ومعلوم وجوب تقدسه عن هذه النقائص، بل هذا معلوم بالضرورة العقلية، فإنه أكمل الموجودات، وأجلها وأعظمها، ورب كل ما سواه وخالقه ومالكه، وجاعل كل ما سواه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما، فيمتنع أن يكون هو شيئا عاجزا جاهلا أصم أبكم أخرس، بل من المعلوم بضرورة العقل أن المتصف بهذه النقائص يمتنع أن يكون فاعلا، فضلا عن أن يكون خالقا لكل شيء.

ولبعض الملاحدة من المتفلسفة ومن اتبعهم هنا سؤال مشهور وهو: أنه إنما يلزم إذا لم يتصف بصفات الكمال أن يوصف بأضدادها إذا كان قابلا لها، فأما إذا لم يكن قابلا لها لم يلزم. قالوا: هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة، وهو عدم الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له كعدم الحياة والسمع والبصر. والكلام عن الحيوان الذي هو القابل له، فإذا لم يكن قابلا له كالجماد، فلا يسمى مع عدم الحياة والسمع والبصر والكلام ميتا ولا أصم ولا أعمى ولا أخرس.

وجواب ذلك من أوجه:

أحدها: أنه إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال، وإما أن لا يكون. فإن لم يكن قابلا لزم أن يكون أنقص ممن قبلها، ولم يتصف بها، فالجماد أنقص من الحيوان الذي لم يتصف بعد بصفات كماله، وإن كان قابلا لها لزم إذا عدمها أن يتصف بأضدادها.

وهؤلاء قد يقولون: في إثباتها تشبيه له بالحيوان، فيقال لهم: وفي نفيها تشبيه له بالجماد الذي هو أنقص من الحيوان، فإذا لم يكن في نفيها تشبيه له بالجماد، فكذلك لا يكون في إثباتها تشبيه له بالحيوان، وإن كان في ذلك تشبيه بالحيوان فهو محذور، فالمحذور في تشبيهه بالجماد أعظم وإن لم يكن مثل هذا التشبيه محذورا في ذلك، فأن لا يكون محذورا في هذا بطريق الأولى.

الوجه الثاني: أن جعلهم سلب الموت والصمم والبكم عن الجماد لزعمهم أنه غير قابل لها اصطلاح محض، فإنه موجود في كلام الله تسمية الجماد ميتا، كما قال تعالى في الأصنام: أموات غير أحياء.

الوجه الثالث: أنه يكفي عدم هذه الصفات، فإن مجرد عدم الحياة والعلم والقدرة صفة نقص سواء قدر الموصوف قابلا لها أو غير قابل، بل إذا قدر أنه غير قابل لها كان ذلك أبلغ في النقص. فعلم أن نفي هذه الصفات عنه، ونفي قبولها يوجب أن يكون أنقص من الحيوان الأعمى الأصم الذي يقبلها، وإن لم يتصف بها.

الوجه الرابع: أن الكمال في الوجود، والنقص في العدم، فنفس ثبوت هذه الصفات كمال، ونفس نفيها نقص، وإن لم يتصف بها لزم نقصه، وأن يكون المفعول أكمل من الفاعل، وأن يكون المحدث الممكن المخلوق أكمل من القديم الأزلي الواجب الوجود الخالق، وهذا ممتنع في بداية العقول، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لبيان بعض الطرق التي بها تعرف صفات الرب، وبيان أن هؤلاء القوم من أجهل أهل الملل بالرب.

والطرق التي يعرف بها كماله فيها العقلية والسمعية، وأن القوم عندهم من ألفاظ الأنبياء ما لم يفهموا كثيرا منه وما حرفوا كثيرا منه، وعندهم من المعقول في ذلك ما يفضلهم اليهود فيه، لكن اليهود، وإن كانوا أعلم منهم، فهم أعظم عنادا وكبرا وجحدا للحق، والنصارى أجهل وأضل من اليهود لكن هم أعبد وأزهد وأحسن أخلاقا، ولهذا كانوا أقرب مودة للذين آمنوا من اليهود والمشركين.

فصل: بيان أسماء الله تعالى

قالوا: والثلاثة أسماء فهي إله واحد ورب واحد، وخالق واحد، مسمى واحد لم يزل ولا يزال شيئا حيا ناطقا، أي الذات، والنطق، والحياة.

فالذات عندنا: الأب الذي هو ابتداء الاثنين.

والنطق: الابن الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل.

والحياة: هي الروح القدس.

والجواب عن هذا من وجوه:

الأول أن أسماء الله تبارك وتعالى متعددة كثيرة، فإنه:

هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم

وقال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون.

وقال تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى.

وقال تعالى: طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا * الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة وهذا معناه في أشهر قولي العلماء وأصحهما أن من أسمائه تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة، وإلا فأسماؤه تبارك و تعالى: أكثر من ذلك، كما في الحديث الآخر الذي رواه أحمد في مسنده، وأبو حاتم في صحيحه، عن ابن مسعود، عن النبي أنه قال: ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن وقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدل مكانه فرحا، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن، قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن.

وإذا كانت أسماء الله كثيرة، كالعزيز والقدير وغيرها، فالاقتصار على ثلاثة أسماء دون غيرها باطل، وأي شيء زعم الزاعم في اختصاص هذه الأسماء به دون غيرها فهو باطل، كما قد بسط في موضع آخر.

الوجه الثاني: قولهم الأب الذي هو ابتداء الاثنين، والابن: النطق الذي هو مولود منه، كولادة النطق من العقل، كلام باطل، فإن صفات الكمال لازمة لذات الرب عز وجل أولا وآخرا، ولم يزل ولا يزال حيا عالما قادرا، لم يصر حيا بعد أن لم يكن حيا، ولا عالما بعد أن لم يكن عالما.

فإذا قالوا: إن الأب الذي هو الذات، هو ابتداء الحياة والنطق اقتضى ذلك أن يكون الأب قبل الحياة والنطق، وأن يكون فاعلا للحياة والنطق، فإن ما كان ابتداء لغيره يكون متقدما عليه أو فاعلا له.

وهذا في حق الله باطل.

وكذلك قولهم: إن النطق مولود منه كولادة النطق من العقل، فإن المولود من غيره متولد منه، فيحدث بعد أن لم يكن، كما يحدث النطق شيئا فشيئا، سواء أريد بالنطق العلم أو البيان فكلاهما لم يكن لازما للنفس الناطقة، بل حدث فيها واتصفت به بعد أن لم يكن، وإن كانت قابلة له ناطقة بالقوة، فإذا مثلوا تولد النطق من الرب كتولده عن العقل لزم أن يكون الرب كان ناطقا بالقوة، ثم صار ناطقا بالفعل فيلزم أنه صار عالما بعد أن لم يكن عالما، وهذا من أعظم الكفر وأشده استحالة، فإنه لا شيء غيره يجعله متصفا بصفات الكمال بعد أن لم يكن متصفا بها، إذ كل ما سواه فهو مخلوق له وكماله منه، فيمتنع أن يكون هو جاعل الرب سبحانه وتعالى كاملا.

وذلك دور ممتنع في صريح العقل، إذ كان الشيء لا يجعل غيره متصفا بصفات الكمال، حتى يكون هو متصفا بها، فإذا لم يتصف بها حتى جعله غيره متصفا بها لزم الدور الممتنع، مثل كون كل من الشيئين فاعلا للآخر وعلة له أو لبعض صفاته المشروطة في الفعل فتبين بطلان كون نطقه متولدا منه، كتولد النطق من العقل، كما بطل أن يكون لصفاته اللازمة له ما هو مبدأ لها متقدم عليها أو فاعل لها.

الوجه الثالث: أن قولهم في الابن أنه مولود من الله إن أرادوا به أنه صفة لازمة له، فكذلك الحياة صفة لازمة لله، فيكون روح القدس أيضا ابنا ثانيا، وإن أرادوا به أنه حصل منه بعد أن لم يكن، صار عالما بعد أن لم يكن عالما، وهذا مع كونه باطلا وكفرا فيلزم مثله في الحياة، وهو أنه صار حيا بعد أن لم يكن حيا.

الوجه الرابع: أن تسمية حياة الله روح القدس أمر لم ينطق به شيء من كتب الله المنزلة، فإطلاق روح القدس على حياة الله من تبديلهم وتحريفهم.

الوجه الخامس: أنهم يدعون أن المتحد بالمسيح هو الكلمة الذي هو العلم، وهذا إن أرادوا به نفس الذات العالمة الناطقة، كان المسيح هو الأب، وكان المسيح نفسه هو الأب، وهو الابن، وهو روح القدس، وهذا عندهم وعند جميع الناس باطل وكفر.

وإن قالوا المتحد به هو العلم، فالعلم صفة لا تفارق العالم، ولا تفارق الصفة الأخرى التي هي حياة، فيمتنع أن يتحد به العلم دون الذات، ودون الحياة.

الوجه السادس: أن العلم أيضا صفة، والصفة لا تخلق ولا ترزق، والمسيح نفسه ليس هو صفة قائمة بغيرها باتفاق العقلاء، وأيضا فهو عندهم خالق السماوات والأرض، فامتنع أن يكون المتحد به صفة، فإن الإله المعبود هو الإله الحي العالم القادر، وليس هو نفس الحياة، ولا نفس العلم والكلام.

فلو قال قائل: يا حياة الله، أو يا علم الله، أو يا كلام الله، اغفر لي، وارحمني واهدني، كان هذا باطلا في صريح العقل، ولهذا لم يجوز أحد من أهل الملل أن يقال للتوراة أو الإنجيل وغير ذلك من كلام الله اغفر لي وارحمني، وإنما يقال للإله المتكلم بهذا الكلام: اغفر لي وارحمني.

والمسيح عليه السلام عندكم هو الإله الخالق الذي يقال له اغفر لنا وارحمنا، فلو كان هو نفس علم الله وكلامه لم يجز أن يكون إلها معبودا فكيف إذا لم يكن هو نفس علم الله وكلامه، بل هو مخلوق بكلامه حيث قال له: كن فيكون؟

فتبين من ذلك أن كلمات الله كثيرة لا نهاية لها، وفي الكتب الإلهية كالتوراة أنه خلق الأشياء بكلامه، وكان في أول التوراة أنه قال: ليكن كذا ليكن كذا.

ومعلوم أن المسيح ليس هو كلمات كثيرة، بل غايته أن يكون كلمة واحدة، إذ هو مخلوق بكلمة من كلمات الله عز وجل.

الوجه السابع: أن أمانتكم التي وضعها أكابركم بحضرة قسطنطين، وهي عقيدة إيمانكم التي جعلتموها أصل دينكم تناقض ما تدعونه من أن الإله واحد، وتبين أنكم تقولون لمن يناظركم خلاف ما تعتقدونه.

وهذان أمران معروفان في دينكم تناقضكم وإظهاركم في المناظرة بخلاف ما تقولونه من أصل دينكم، فإن الأمانة التي اتفق عليها جماهير النصارى يقولون فيها: أومن بإله واحد، أب ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء وتأنس وصلب وتألم وقبر، وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب المقدسة، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وأيضا سيأتي بمجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب والابن المسجود له، وممجد ناطق في الأنبياء، كنيسة واحدة جامعة رسولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وابن جاء لقيامة الموتى، وحياة الدهر العتيد كونه أمينا.

ففي هذه الأمانة التي جعلتموها أصل دينكم ذكر الإيمان بثلاثة أشياء بإله واحد خالق السماوات والأرض، خالق ما يرى وما لا يرى، فهذا هو رب العالمين الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وهو إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسائر الأنبياء والمرسلين، وهو الذي دعت جميع الرسل إلى عبادته وحده لا شريك له ونهوا أن يعبد غيره،

كما قال الله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.

وقال تعالى: وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون.

ثم قلتم: وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر، فصرحتم بالإيمان مع خالق السماوات والأرض برب واحد مخلوق، مساو الأب ابن الله الوحيد، وقلتم: هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه.

وهذا تصريح بالإيمان بإلهين، أحدهما من الآخر، وعلم الله القائم به، أو كلامه أو حكمته القائمة به الذي سميتموه ابنا، ولم يسم أحد من الرسل صفة الله ابنا ليس هو إله حق من إله حق، بل إله واحد وهذا صفة الإله، وصفة الإله ليست بإله، كما أن قدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته ليس بآلهة، ولأن الإله واحد، وصفاته متعددة، والإله ذات متصفة بالصفات قائمة بنفسها، والصفة قائمة بالموصوف، ولأنكم سميتم الإله جوهرا، وقلتم: هو القائم بنفسه، والصفة ليست جوهرا قائما بنفسه.

وهم في هذه الأمانة قد جعلوا الله والدا وهو الأب، ومولودا وهو الابن، وجعلوه مساويا له في الجوهر، وقد نزه الله نفسه عن الأنواع الثلاثة، فقالوا: مولود غير مخلوق مساو الأب في الجوهر، فصرحوا بأنه مساو له في الجوهر، والمساوي ليس هو المساوى.

ولا يساوي الأب في الجوهر إلا جوهر، فوجب أن يكون الابن جوهرا ثانيا، وروح القدس جوهرا ثالثا كما سيأتي.

وهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر، وثلاثة آلهة، ويقولون مع ذلك: إنما نثبت جوهرا واحدا وإلها واحدا، وهذا جمع بين النقيضين، فهو حقيقة قولهم يجمعون بين جعل الآلهة واحدا، وإثبات ثلاثة آلهة، وبين إثبات جوهر واحد، وبين إثباته ثلاثة جواهر،

وقد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد.

فنزه نفسه أن يلد كما يقولون: هو الأب، وأن يولد كما يقولون: هو الابن، وأن يكون له كفوا أحد، كما يقولون: إن له من يساويه في الجوهر.

وإذا قلتم نحن نقول أحدي الذات ثلاثي الصفات، قيل لكم: قد صرحتم بإثبات إله حق من إله حق وبأنه مساو للأب في الجوهر، وهذا تصريح بإثبات جوهر ثاني لا بصفة، فجمعتم بين القولين بين إثبات ثلاثة جواهر، وبين دعوى إثبات جوهر واحد، ولا ينجيكم من هذا اعتذار من اعتذر منكم كيحيى بن عدي ونحوه حيث قالوا: هذا بمنزلة قولك: زيد الطبيب الحاسب الكاتب، ثم تقول: زيد الطبيب وزيد الحاسب وزيد الكاتب.

فهو مع كل صفة له حكم خلاف حكمه مع الصفة الأخرى، وقد يفسرون الأقنوم بهذا، فيقولون: الأقنوم هو الذات مع الصفة، فالذات مع كل صفة أقنوم، فصارت الأقانيم ثلاثة، لأن هذا المثال لا يطابق قولكم، فإن زيدا هنا هو جوهر واحد له ثلاث صفات: الطب والحساب والكتابة، وليس هنا ثلاثة جواهر، ولكن لكل صفة حكم ليس للأخرى.

ولا يقول عاقل: إن الصفة مساوية للموصوف في الجوهر، ولا أن الذات مع هذه الصفة تساوي الذات مع الصفة الأخرى في الجوهر، لأن الذات واحدة والمساوي ليس هو المساوى، ولأن الذات مع الصفة هي الأب فإن كان هذا هو الذي اتحد بالمسيح فالمتحد به هو الأب، ولأنكم قلتم عن هذا الذي قلتم: (إنه إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي هو مساو الأب في الجوهر وأنه نزل، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب وتألم) فاقتضى ذلك أن يكون الإله الحق المساوي للأب في الجوهر صلب وتألم، فيكون اللاهوت مصلوبا متألما، وهذا تقر به طوائف منكم، وطوائف تنكره، لكن مقتضى أمانتكم هو الأول.

وأيضا فإذا كان تجسد من روح القدس ومريم، فإن كان روح القدس هو حياة الله، كما زعمتم فيكون المسيح كلمة الله وحياته، فيكون لاهوته أقنومين من الأقانيم الثلاثة، وعندهم إنما هو أقنوم الكلمة فقط وإن كان روح القدس ليس هو حياة الله بطل تفسيركم لروح القدس بأنه حياة الله. وقيل لكم: لا يجب أن يكون روح القدس صفة لله ولا أقنوما.

ثم ذكرتم في عقيدة أمانتكم أنكم تؤمنون بروح القدس الرب المحيي، فأثبتم ربا ثالثا، قلتم المنبثق من الأب والانبثاق: الانفجار، كالاندفاق والانصباب، ونحو ذلك، يقال: بثق السيل موضع كذا يبثقه بثقا أي خرقه وشقه فانبثق أي انفجر، فاقتضى ذلك أن يكون هذا الرب المحيي انفجر من الأب واندفق منه.

ثم قلتم: هو مع الأب مسجود له وممجد ناطق في الأنبياء فجعلتموه مع الأب مسجودا له فأثبتم إلها ثالثا يسجد له.

ومعلوم أن حياة الله التي هي صفته ليست منبثقة منه، بل هي قائمة به لا تخرج عنه البتة، وهي صفة لازمة له لا تتعلق بغيره، فإن العلم يتعلق بالمعلومات، والقدرة بالمقدورات والتكليم بالمخاطبين بخلاف التكلم فإنه صفة لازمة، يقال: علم الله كذا، وقدر الله على كل شيء، وكلم الله موسى.

وأما الحياة: فاللفظ الدال عليها لازم لا يتعلق بغير الحي، يقال حيا يحيا حياة، ولا يقال حيا كذا ولا بكذا، وإنما يقال: أحيا كذا، والإحياء فعل غير كونه حيا، كما أن التعليم غير العلم، والإقدار غير القدرة، والتكليم غير التكلم، ثم جعلتم روح القدس هذا ناطقا في الأنبياء عليهم السلام، وحياة الله صفة قائمة به لا تحل في غيره، وروح القدس الذي تكون في الأنبياء والصالحين ليس هو حياة الله القائمة به، ولو كان روح القدس الذي في الأنبياء هو أحد الأقانيم الثلاثة لكان كل من الأنبياء إلها معبودا قد اتحد ناسوته باللاهوت كالمسيح عندكم، فإن المسيح لما اتحد به أحد الأقانيم صار ناسوتا ولاهوتا، فإذا كان روح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة ناطقا في الأنبياء كان كل منهم فيه لاهوت وناسوت كالمسيح وأنتم لا تقرون بالحلول والاتحاد إلا للمسيح وحده مع إثباتكم لغيره ما ثبت له.

وهم تارة يشبهون الأقنومين - العلم والحياة التي يسمونها الكلمة وروح القدس - بالضياء والحرارة التي للشمس، مع الشمس ويشبهون ذلك بالحياة والنطق الذي للنفس مع النفس، وهذا تشبيه فاسد، فإنهم إن أرادوا بالضياء والحرارة ما يقوم بذات الشمس، فذلك صفة للشمس قائمة بها لم تحل بغيرها ولم تتحد بغيرها، كما أن صفة النفس كذلك هذا إن قيل إن الشمس تقوم به حرارة، وإلا فهذا ممنوع.

والمقصود هنا: بيان فساد كلامهم وقياسهم.

وإن أرادوا ما هو بائن عن الشمس قائم بغيرها. كالشعاع القائم بالهواء والأرض، والحرارة القائمة بذلك كان هذا دليلا على فساد قولهم من وجوه:

منها: أن هذه أعراض منفصلة بائنة عن الشمس قائمة بغيرها لا بها، ونظير هذا ما يقوم بقلوب الأنبياء من العلم والحكمة والوحي الذي أنذروا به، وعلى هذا التقدير فليس في الناسوت شيئا من اللاهوت وإنما فيه آثار حكمته وقدرته.

ومنها: أن الحرارة والضوء القائم بالهواء والجدران أعراض قائمة بغير الشمس، والكلمة وروح القدس عندهم هما جوهران.

ومنها: أن هذا ليس هو الشمس، ولا صفة من صفات الشمس، وإنما هو أثر حاصل في غير الشمس بسبب الشمس، ومثل هذا لا ينكر قيامه بالأنبياء والصالحين، ولكن ليس للمسيح عليه السلام بذلك اختصاص، فما حل بالمسيح حل بغيره من المرسلين، وما لم يحل بغيره لم يحل به فلا اختصاص له بأمر يوجب أن يكون إلها دون غيره من الرسل، ولا هنا اتحاد بين اللاهوت والناسوت، كما لم تتحد الشمس ولا صفاتها القائمة بها بالهواء، والأرض التي حصل بها الشعاع والحرارة.

فصل: رد دعواهم أن الله سمى نفسه أبا وابنا وروح قدس

قالوا: وهذه الأسماء لم نسمه نحن معشر النصارى بها من ذات أنفسنا، بل الله سمى لاهوته بها، وذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطبا بني إسرائيل قائلا: أليس هذا الأب الذي صنعك وبراك واقتناك؟ وعلى لسانه أيضا قائلا: وكان روح الله ترف على الماء وقوله على لسان داود النبي: روحك القدس لا تنزع مني، وأيضا على لسانه بكلمة الله تشددت السماوات والأرض وبروح فاه جميع قواتهن.

وقوله على لسان أشعيا: (ييبس القتاد ويجف العشب، وكلمة الله باقية إلى الأبد، وعلى لسان أيوب الصديق، روح الله خلقني وهو يعلمني).

وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس للتلاميذ الأطهار: (اذهبوا إلى جميع العالم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به)،

وقد قال في هذا الكتاب: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين.

وقال أيضا: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس.

وقال أيضا: وكلم الله موسى تكليما

وقال في سورة التحريم: ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين.

وسائر المسلمين يقولون: إن الكتاب كلام الله ولا يكون كلام إلا لحي ناطق، وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء، وكل صفة منها غير الأخرى والإله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن تقول: إن كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يكون إلا حقا وصدقا، ولا يكون فيه شيء يعلم بطلانه بصريح العقل، وإن كان فيه ما يعجز العقل عن معرفته بدون إخبار الأنبياء، ولا يكون كلام النبي الذي يخبر به مناقضا لكلامه في موضع آخر، ولا لكلام سائر الأنبياء، بل كل ما أخبرت به الأنبياء فهو حق وصدق، يصدق بعضه بعضا.

وقد أوجب الله علينا أن نؤمن بكل ما أخبروا به، وحكم بكفر من آمن ببعض ذلك، وكفر ببعضه، فما علم بصريح العقل لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن الأنبياء وما علم بالنقل الصحيح عن بعضهم لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن غيره، ولكن قد يختلف بعض الشرع والمناهج في الأمر والنهي.

فأما ما يخبرون به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وغير ذلك، فلا يجوز أن يناقض بعضه بعضا.

وإذا كان كذلك فما ينقلونه عن الأنبياء إنما تتم الحجة به إذ علم إسناده ومتنه، فيعلم أنه منقول عنهم نقلا صحيحا، ونعلم أن ترجمته من العبرية إلى اللسان الآخر، كالرومية والعربية والسريانية ترجمة صحيحة ويعلم بعد ذلك أنهم أرادوا به ذلك المعنى.

وليس مع النصارى حجة عن الأنبياء تثبت فيها هذه المقدمات الثلاث ونحن في هذا المقام يكفينا المنع، والمطالبة لهم بتصحيح هذه المقدمات فإنهم ادعوا أن التثليث أخذوه عن الأنبياء، فنحن نطالبهم بتصحيح هذه المقدمات.

والجواب الثاني: أنا نبين تفسير ما ذكروه من الكلمات، أما قوله على لسان موسى عليه السلام مخاطبا بني إسرائيل قائلا: (أليس الأب الذي صنعك وبراك واقتناك)؟ فهذا فيه أنه سماه أبا لغير المسيح عليه السلام، وهذا نظير قوله لإسرائيل: (أنت ابني بكري)، وداود (ابني حبيبي)، وقول المسيح (أبي وأبيكم) وهم يسلمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب لا معنى التولد الذي يخصون به المسيح.

الثالث: أن هذا حجة عليهم، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أبا لغير المسيح وليس المراد بذلك إلا معنى الرب، علم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب، فيجب حمله في حق المسيح على هذا المعنى، لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام.

الرابع: أن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح، إنما يثبت إذا علم أنه أريد المعنى الذي ادعوه في المسيح فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور، فإنه لا يعلم أنه أريد به ذلك المعنى من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى ولا يثبت ذلك، حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر لم يعلم واحد منهما، فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح، بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع.

الوجه الخامس: أنه يوجد في كتب الأنبياء وكلامهم إطلاق اسم الأب، والمراد به أب اللاهوت، ولا إطلاق اسم الابن والمراد به شيء من اللاهوت لا كلمته ولا حياته، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق.

وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت، وهذا يبطل قولهم: إن الابن وروح القدس أنهما صفتان لله وأن المسيح اسم للاهوت والناسوت، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى، وتناقض أمانتهم، فهم بين أمرين:

بين الإيمان بكلام الأنبياء وبطلان دينهم.

وبين تصحيح دينهم وتكذيب الأنبياء، وهذا هو المطلوب.

فصل

قالوا: وعلى لسانه أيضا قائلا: (وكان روح الله ترف على الماء).

فيقال هذا في السفر الأول - سفر الخليقة - في أوله، لما ذكر أنه في البدء خلق السماوات والأرض، وأنه كانت الأرض مغمورة بالماء، وكانت روح الله ترف على الماء، أخبر أنه كان الماء فوق التراب والهواء فوق الماء، وروح الله هي الريح التي كانت فوق الماء.

هذا تفسير جميع الأمم من المسلمين واليهود وعقلاء النصارى، ولفظ الكلمة بالعبرية " روح " بضم الراء وتشديد الواو، وهي الروح، والريح تسمى روحا، وجمعها أرواح، ولم يرد بذلك أن حياة الله كانت ترف على الماء.

فإن هذا لا يقوله عاقل، فإن حياة الله صفة قائمة به لا تفارقه ولا تقوم بغيره فيمتنع أن تقوم بماء أو غيره فضلا عن أن ترف على الماء والذي يرف على الماء، جسم قائم بنفسه، وهذا إخبار عن الريح التي كانت تتحرك فوق الماء.

ومثل هذا قول النبي : لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فلا تسبوها ولكن تعوذوا بالله من شرها وسلوا الله خيرها وقوله: إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن

فصل

قالوا: وقوله على لسان داود النبي : " روحك القدس لا تنزع مني ".5

فيقال: هذا دليل على أن روح القدس كانت في داود، فعلم بذلك أن روح القدس التي كانت في المسيح من هذا الجنس، فعلم بذلك أن روح القدس لا تختص بالمسيح، وهم يسلمون ذلك، فإن ما في الكتب التي بأيديهم في غير موضع أن روح القدس حلت في غير المسيح في داود، وفي الحواريين، وفي غيرهم.

وحينئذ فإن كان روح القدس هو حياة الله ومن حلت فيه يكون لاهوتا، لزم أن يكون إلها ولزم أن يكون كل هؤلاء فيهم لاهوت وناسوت كالمسيح، وهذا خلاف إجماع المسلمين والنصارى واليهود.

ويلزم من ذلك أيضا أن يكون المسيح فيه لاهوتان الكلمة وروح القدس، فيكون المسيح مع الناسوت أقنومين: أقنوم الكلمة، وأقنوم روح القدس، وأيضا فإن هذه ليست صفة لله قائمة به، فإن صفة الله القائمة به، بل وصفة كل موصوف لا تفارقه وتقوم بغيره، وليس في هذا أن الله اسمه روح القدس، ولا أن حياته اسمها روح القدس ولا أن روح القدس الذي تجسد المسيح منه، ومن مريم هو حياة الله سبحانه و تعالى، وأنتم قلتم إنا معاشر النصارى لم نسمه بهذه الأسماء من ذات أنفسنا، ولكن الله سمى لاهوته بها، وليس فيما ذكرتموه عن الأنبياء أن الله سمى نفسه، ولا شيئا من صفاته بروح القدس، ولا سمى نفسه ولا شيئا من صفاته ابنا فبطل تسميتكم لصفته التي هي الحياة بروح القدس ولصفته التي هي العلم بالابن.

وأيضا فأنتم تزعمون أن المسيح مختص بالكلمة والروح، فإذا كانت روح القدس في داود عليه السلام والحواريين وغيرهم، بطل ما خصصتم به المسيح، وقد علم بالاتفاق أن داود عبد لله عز وجل، وإن كانت روح القدس فيه.

وكذلك المسيح عبد لله وإن كانت روح القدس فيه، فما ذكرتموه عن الأنبياء حجة عليكم لأهل الإسلام لا حجة لكم.

فصل

قالوا: وأيضا على لسان داود النبي عليه السلام: بكلمة الله تشددت السماوات والأرض، وبروح فاه جميع قواتهن.

فيقال: أما قوله: بكلمة الله تشددت السماوات والأرض، فهو أيضا حجة عليكم لوجوه:

أحدها: أن الله خلق الأشياء بكلمته التي هي (كن)، كما قال في التوراة (ليكن كذا ليكن كذا ليكن كذا) وكذلك في الزبور: (لأنه قال فكانوا، وهو أمر فخلقوا) فجعل كونهم عن قوله.

ومثل قوله في الزبور: (الكل بحكمة صنعت)، وفي القرآن: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

وليس المسيح هو هذه الكلمات.

الثاني: أن كلمة الله اسم جنس، فإن كلمات الله لا نهاية لها، قال تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا.

والتوراة تدل على تعدد الكلمات، وإذا كان كذلك، فالمسيح ليس هو مجموع الكلمات، بل خلق بكلمة منها.

الثالث: أن المسيح عندكم هو الخالق، وأنتم مع قولكم: إنه الابن والكلمة، تقولون إنه الإله الخالق، وتقولون إنه إله حق من إله حق، وتقولون: إله واحد فتجمعون بين النقيضين، وإذا كان هو الخالق فهو الذي يشدد السماوات والأرض، لا يقال به تشددت السماوات والأرض، وإنما يقال به فيما كان صفة للموصوف، فيقال: خلق الله الأشياء بكن، وخلق الأشياء بقدرته.

وقوله: (بكلمته تشددت السماوات والأرض) يقتضي أن الكلمة صفة فعل بها لأنها هي الخالقة والمسيح عندكم هو الخالق ليس هو صفة خلق.

والرابع: أن كلمة الله يراد بها جنس كلماته، كما قال تعالى: وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا

وكقول النبي : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وحينئذ فالمراد أن الله أقام السماوات والأرض بكلمته، كقوله كن وليس في هذا تعرض للمسيح عليه السلام.

وأما نقلكم أنه قال: (وبروح فاه جميع قواتهن) فهذه الكلمة سواء كانت حقا أو باطلا، لا حجة لكم فيها لأنه إن أريد بهذه الكلمة حياة الله فإثبات حياة الله حق وهو لم يسم حياة الله روح القدس، كما زعمتم، وإن أراد شيئا غير حياة الله لم تنفعكم فأنتم ادعيتم أن حياة الله روح القدس حتى قلتم مراده في الإنجيل بقوله: (عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس) هو حياة الله، وادعيتم أن الأنبياء سموه بذلك ولم تذكروا نقلا عن الأنبياء أنهم سموا حياته روح القدس، بل ذكرتم عنهم ما يوافق ما في القرآن أن روح القدس ليس المراد بها حياة الله، ولو قدر أن هذا اللفظ استعمل في هذا وهذا لم يتعين أنالمسيح أراد بقوله: (روح القدس) حياة الله، فكيف إذا لم يستعمل في كلام الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - في حياة الله قط.

فصل: بيان المعنى الصحيح لروح الله

قالوا: وقوله: على لسان أيوب الصديق روح الله خلقني وهو يعلمني.

فيقال هذا لا حجة فيه لأنكم ادعيتم أن الأنبياء سمت حياة الله روح القدس، وهذا لم يقل روح القدس، بل قال روح الله.

وروح الله يراد بها الملك الذي هو روح اصطفاه الله فأحبها، كما قال في القرآن:

فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا.

فقد أخبر أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا، وتبين أنه رسوله.

فعلم أن المراد بالروح ملك، هو روح اصطفاها فأضافها إليه، كما يضاف إليه الأعيان التي خصها بخصائص يحبها.

كقوله: ناقة الله وسقياها.

وقوله: وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود.

وقوله: عينا يشرب بها عباد الله.

والمضاف إلى الله إن كان صفة لم تقم بمخلوق كالعلم والقدرة والكلام والحياة، كان صفة له، وإن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة لغيره، كالبيت والناقة والعبد والروح، كان مخلوقا مملوكا مضافا إلى خالقه ومالكه، ولكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره، حتى استحق الإضافة، كما اختصت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم (بيت الله) و (ناقة الله) و (عباد الله)، كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها روح الله.

بخلاف الأرواح الخبيثة كأرواح الشياطين والكفار، فإنها مخلوقة لله، ولا تضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة، كما لا تضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة، ولا نوق الناس، كما تضاف ناقة صالح التي كانت آية من آياته.

كما قال تعالى: هذه ناقة الله لكم آية.

وإذا كان كذلك فهذا اللفظ إن كان ثابتا عن النبي وترجم ترجمة صحيحة، فقد يكون معناه أن الملك صورني في بطن أمي، وهو يعلمني، فإن النبي قال: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أو أنثى، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقول ربك ما يشاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزاد على أمر ولا ينقص رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري.

وقد يقال: من هذا قوله في الزبور في مزمور الخليقة: ترسل روحك فيخلقون، وفي المزمور أيضا هو قال: فكانوا وأمر فخلقوا فقد يضاف الخلق إلى الملك.

ومن هذا الباب قوله تعالى: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله.

فأخبره أنه يخلق من الطين كهيئة الطير طيرا بإذن الله، وكذلك الملك يخلق النطفة في الرحم بإذن الله.

ولا يجوز أن يريد به أن حياة الله خلقتني وتعلمني، فإن الصفة لا تخلق ولا تعلم، إنما يخلق ويعلم الرب الموصوف الذي خلق الإنسان من علق، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، ولكن هو سبحانه يخلق بواسطة الملائكة، فإن الملائكة رسل الله في الخلق، فجاز أن يضاف الفعل إلى الوسائط تارة، وإلى الرب أخرى، وهذا موجود في الكتب الإلهية في غير موضع كما في القرآن: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها.

وفي موضع آخر: حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون.

وفي موضع ثالث: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون.

والجميع حق، فإذا وجد لفظ له معنى في كلام بعض الأنبياء، ولم يوجد له معنى يخالف ذلك من كلامهم، كان حمله على ذلك المعنى أولى من حمله على معنى يخالف كلامهم، ولا يوجد في كلامهم أن حياة الله تسمى روحا، ولا أن صفات الله تخلق المخلوقات.

قالوا: وقوله على لسان أشعيا النبي: (ييبس القتاد، ويجف العشب، وكلمته باقية إلى الأبد).

فيقال: إما أن يريد بكلمة الله علمه، أو كلمة معينة، أو تكون كلمة الله اسم جنس، وعلى التقديرات الثلاثة لا حجة لكم في ذلك، فإنه إن كان كلمة الله اسم جنس لكل ما تكلم الله به كما قال:

وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.

وقال النبي : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله

ولهذا جمعها في قوله تعالى: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا.

وفي قوله: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا.

فالمراد بذلك أن ما قاله الله فهو حق ثابت لا يبطل.

كما قال تعالى: وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا.

يعني بتمامها نفاذ ما وعدهم به من النصر على فرعون، وإهلاكه، وإخراجهم إلى الشام.

وقال تعالى: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا.

ومنه قوله: واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته.

وقوله: سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل.

ومن هذا الباب قول المسيح السماء والأرض يزولان، وكلامي لا يزول، فإن أراد علم الله، فعلم الله باق سواء أراد به علمه القائم بذاته أو معلومه الذي أخبر ببقائه فلا حجة لكم فيه، وكذلك إن أراد كلمة معينة فإن المسيح عندكم ليس كلمة معينة من كلامه، بل هو عندكم هو الكلمة وهو الله الخالق وليس في هذا اللفظ ما يدل على أنه أراد بالكلمة المسيح والمسيح عندكم أزلي أبدي لا يوصف بالبقاء دون القدم ولو قدر أنه أراد بالكلمة المسيح فنحن لا ننكر أنه يسمى بالكلمة، لأنه قال له: كن فكان، كما سيأتي بيان ذلك، ويريد بذلك إما بقاؤه إلى أن ينزل إلى الأرض، وإما أن يريد بقاء ذكره والثناء عليه، ولسان صدق له إلى آخر الزمان.

ومما يوضح هذا وأنه ليس المراد به ما يدعونه، أنه قال: وكلمة الله باقية إلى الأبد فوصفها بالبقاء دون القدم.

وعندهم أن الكلمة المولودة من الأب قديمة أزلية لم تزل ولا تزال ومثل هذا لا يحتاج أن يوصف بالدوام والبقاء، بخلاف ما وعد به من النعيم والرحمة والثواب، فإنه يوصف بالبقاء والدوام كما في القرآن: أكلها دائم وقوله: إن هذا لرزقنا ما له من نفاد.

وفي الزبور: اعترفوا للرب، فإنه صالح، وإنه إلى الأبد رحمته.6

فصل: إبطال استدلالهم بالتغطيس على الأقانيم

قالوا: وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس لتلاميذه الأطهار: (اذهبوا إلى جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس الإله الواحد، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيكم به).

فيقال لهم: هذا عمدتكم على ما تدعونه من الأقانيم الثلاثة وليس فيه شيء يدل على ذلك لا نصا ولا ظاهرا، فإن لفظ الابن لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى صفة من صفات الله، ولم يسم أحد من الأنبياء علم الله ابنه ولا سموا كلامه ابنه، ولكن عندكم أنهم سموا عبده أو عباده ابنه أو بنيه وإذا كان كذلك فدعواكم أن المسيح أراد بالعلم ابن الله وكلامه - دعوى في غاية الكذب على المسيح، وهو حمل للفظه على ما لم يستعمله هو ولا غيره فيه لا حقيقة ولا مجازا، فأي كذب وتحريف لكلام الأنبياء أعظم من هذا.

ولو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله لسميت حياته ابنا، وقدرته ابنا، فتخصيص العلم، بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثان لو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله، فكيف إذا لم يكن كذلك.

وكذلك روح القدس لم يستعملوها في حياة الله، ولا أرادوا بهذا اللفظ حياة الله التي هي صفته، وإنما أرادوا بذلك ما ينزله على الصديقين والأنبياء، ويؤيدهم به كما في قول داود: (روحك القدس لا تنزع مني)، وعندهم أن روح القدس حلت في الحواريين، وقد قدمنا أن روح القدس يراد به الملك، ويراد به ما يجعله في القلوب من الهدى والقوة، ومنه قوله في بعض النبوات: (وفي تلك الأيام أسكب من روحي على كل قديس) وفي زبور داود (روحك الصالح يهديني في أرض مستقيمة.

يوضح هذا أنهم قالوا في أمانتهم: (الذي من أجلنا - نحن البشر - ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء) وذكروا أن ذلك في الكتب المقدسة، والذي في الكتب المقدسة لا يكون إلا حقا، ولا ريب أن فيها مثل ما في القرآن، وفي القرآن أن الله أرسل روحه إلى مريم فنفخ فيها فحملت بالمسيح عليه السلام،

قال تعالى: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا * فحملته فانتبذت به مكانا قصيا.

إلى آخر القصة.

وقال تعالى: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين.

وقال تعالى: ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين

وهذا الروح هو الرسول كما قال: قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا.

ونفخ فيها من هذا الروح فكان المسيح مخلوقا من هذا الروح، ومن أمه مريم كما قالوا في الأمانة: إنه تجسد من مريم، ومن روح القدس، لكن اعتقدوا أن روح القدس التي خلق المسيح منها ومن مريم هي حياة الله، وهذا ليس في الكتب ما يدل عليه، بل الكتب كلها صريحة في نقيض هذا، وهو أيضا مناقض لقولهم إن المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة، وهو العلم، فإن كان قد تجسد من مريم، وأقنوم الكلمة لم يكن متجسدا من روح القدس، وإن كان من روح القدس لم يكن من الكلمة، وإن كان منهما جميعا كان المسيح أقنومين: أقنوم الكلمة وأقنوم الروح.

والنصارى بفرقهم الثلاثة كلهم يقولون: إنما المتحد به أقنوم الكلمة لا أقنوم الحياة، فتبين تناقضهم في أمانتهم، وتبين خطؤهم فيما فسروا به كلام الأنبياء.

وتبين أن ما ثبت عن الأنبياء فهو حق موافق لما أخبر به محمد خاتم النبيين لا يناقض شيئا من كلام الأنبياء، كما أنه لا يناقض شيئا من كلامهم صريح المعقول، وتبين أنهم حملوا كلام الأنبياء في لفظ الابن وروح القدس وغيره على ما لم يوجد استعمال هذا اللفظ فيه، وتركوا حمله على المعنى الموجود في كلامهم، وهذا من أبلغ ما يكون من تحريف كلامهم عن مواضعه وتبديل معاني كلام الله، فكيف يجوز أن يحمل لفظ روح القدس على معنى لم يستعمله فيه الأنبياء، ولا أرادوه به، ويترك حمله على المعنى المعروف الذي يستعملونه فيه دائما.

وهل هذا إلا من فعل من يحرف كلام الأنبياء، ويفتري الكذب عليهم؟ بل ظاهر هذا الكلام أن يعمدوهم باسم الأب الذي يريدون به - في لغتهم - الرب، والابن الذي يريدون به - في لغتهم - المربي، وهو هنا المسيح وروح القدس وهو روح القدس الذي أيد الله به المسيح من الملك والوحي وغير ذلك، وبهذا فسر هذا الكلام من فسره من أكابر علمائهم.

فصل

فهذا ما ذكروه في كتابهم يحتجون بها على ما يعتقدونه من الأقانيم الثلاثة قائلين: إن تسمية الله أنه أب وابن وروح القدس أسماء لم نسمه نحن النصارى بها من ذات أنفسنا، بل الله سمى لاهوته بها.

وقد تبين أنه ليس فيما ذكروه عن الأنبياء ما يدل لا نصا ولا ظاهرا على أن أحدا من الأنبياء سمى الله، ولا شيئا من صفاته ابنا ولا روح قدس.

وتبين أن تسميتهم لعلم الله وكلامه ابنا، وتسميتهم لحياته روح القدس - أسماء ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، وأنه ليس معهم على ما ادعوه من الأقانيم حجة أصلا، لا سمعية، ولا عقلية، وأنه ليس لقولهم بالتثليث وحصرهم لصفات الله في ثلاثة مستند شرعي.

كما تبين أنه ليس له مستند عقلي، وأن القوم ممن قيل فيهم: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.

وممن قيل فيهم: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.

فصل: رد وجود حجة على الأقانيم في القرآن

ثم أخذوا يزعمون أن فيما أنزل على محمد - حجة لهم على الأقانيم التي ادعوها، وهم ابتدعوا القول بالأقانيم والتثليث قبل أن يبعث محمد .

وذلك معروف عندهم من حين ابتدعوا الأمانة التي لهم، التي وضعها الثلاثمائة وثمانية عشر منهم بحضرة قسطنطين الملك، فإذا لم يكن لهم مستند عقلي، ولا سمعي عن الأنبياء قبل محمد فكيف يكون لهم مستند فيما جاء به محمد بعد ابتداعهم الأمانة؟ لا سيما مع العلم الظاهر المتواتر أن محمدا كفرهم في الكتاب الذي أنزل عليه وضللهم، وجاهدهم بنفسه وأمر بجهادهم؛ كقوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم. وقوله تعالى: وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون وقال: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة. وقال: ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم. ونحو ذلك من الآيات.

وقالوا: وقد قال في هذا الكتاب أيضا: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا الصالحين.

فيقال لهم: حرفتم لفظ الآية ومعناها؛ فإن لفظها: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون.

فالكلمة التي سبقت لعباده المرسلين قوله: إنهم لهم المنصورون. أخبر أنه سبق منه كلمة لعباده المرسلين لينصرنهم،

كما قال تعالى: ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى

وقوله: ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب.

وقوله: وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار.

وقوله: وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم.

وقوله: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين.

والكلمة في لغة العرب: هي الجملة المفيدة سواء كانت جملة اسمية أو فعلية، وهي القول التام، وكذلك الكلام عندهم هو الجملة التامة.

قال سيبويه: واعلم أنهم يحكون بالقول ما كان كلاما ولا يحكون به ما كان قولا، ولكن النحاة اصطلحوا على أن يسموا ما تسميه العرب حرفا يسمونه كلمة مثل زيد وعمرو، ومثل: قعد وذهب، وكل حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، مثل: إن وثم، وهل ولعل.

قال تعالى: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم. فسمى هذه الجملة كلمة.

وقال تعالى: مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة. وهو قول: لا إله إلا الله.

وقال تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.

وقال تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله

وقوله تعالى: وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها.

وقال النبي : كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وقال : أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وقال النبي : اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة، ولما شاع عند المشتغلين بالنحو استعمال لفظ الكلمة في الاسم أو الفعل، وحرف المعنى - صاروا يظنون أن هذا هو كلام العرب، ثم لما وجد بعضهم ما سمعه من كلام العرب أنه يراد بالكلمة الجملة التامة صار يقول: وكلمة بها كلام قد يؤم، فيجعل ذلك من القليل.

ومنهم من يجعل ذلك مجازا، وليس الأمر كذلك، بل هذا اصطلاح هؤلاء النحاة، فإن العرب لم يعرف عنهم أنهم استعملوا لفظ الكلمة والكلام إلا في الجملة التامة، وهكذا نقل عنهم أئمة النحو كسيبويه وغيره.

فكيف يقال: إن هذا هو المجاز، وإن هذا قليل وكثير.

كما أن لفظ القديم في لغة العرب هو المتقدم على غيره كما قال تعالى: حتى عاد كالعرجون القديم.

وقوله تعالى: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم.

وقوله تعالى: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون.

ثم إن من أهل الكلام من خص لفظ القديم بما لم يسبقه عدم، أو ما لم يسبقه غيره، وصار هذا عندهم هو حقيقة اللفظ، حتى صار كثير منهم يظن أن استعمال القديم في المتقدم على غيره مطلقا - مجاز.

فتبين أن مراده تعالى بقوله: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. من جنس قوله: ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما.

فسبق منه كلمته بما سيكون من نصر المرسلين، وملء جهنم من الجنة والناس أجمعين ونحو ذلك، فحرف هؤلاء الضلال لفظ الآية فقالوا: لعبادنا الصالحين، وجعلوا الكلمة هي المسيح وليس في اللفظ ما يدل على ذلك بوجه من الوجوه، ولا في كون المسيح سبق لعبادنا المرسلين - معنى صحيح، وقد قال تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون

فصل: بيان معنى تأييد المسيح بروح القدس

قالوا: وقال أيضا: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس.

فيقال: هذا مما لا ريب فيه، ولا حجة لكم فيه، بل هو حجة عليكم، فإن الله أيد المسيح عليه السلام بروح القدس كما ذكر ذلك في هذه الآية وقال تعالى: في البقرة: وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس.

وقال تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس.

وهذا ليس مختصا بالمسيح، بل قد أيد غيره بذلك، وقد ذكروا هم أنه قال لداود: روحك القدس لا تنزع مني، وقد قال نبينا لحسان بن ثابت: اللهم أيده بروح

القدس، وفي لفظ: روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه وكلا اللفظين في الصحيح.

وعند النصارى أن الحواريين حلت فيهم روح القدس، وكذلك عندهم روح القدس حلت في جميع الأنبياء.

وقد قال تعالى:

فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون * وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين.

وقد قال تعالى في موضع آخر: نزل به الروح الأمين على قلبك.

وقال: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله. فقد تبين أن روح القدس هنا جبريل،

وقال تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

وقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

وقال تعالى: ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون.

وقال: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق.

فهذه الروح التي أوحاها والتي تنزل بها الملائكة على من يشاء من عباده - غير الروح الأمين التي تنزل بالكتاب، وكلاهما يسمى روحا، وهما متلازمان؛ فالروح التي ينزل بها الملك مع الروح الأمين التي ينزل بها روح القدس يراد بها هذا وهذا.

وبكلا القولين فسر المفسرون قوله في المسيح وأيدناه بروح القدس، ولم يقل أحد إن المراد بذلك حياة الله، ولا اللفظ يدل على ذلك ولا استعمل فيه.

وهم إما أن يسلموا أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله، فإذا ثبت أن لها معنى غير الحياة، فلو استعمل في حياة الله أيضا لم يتعين أن يراد بها ذلك في حق المسيح، فكيف ولم يستعمل في حياة الله في حق المسيح.

وإما أن يدعوا أن المراد بها حياة الله في حق الأنبياء والحواريين، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يكون اللاهوت حالا في جميع الأنبياء والحواريين، وحينئذ فلا فرق بين هؤلاء وبين المسيح.

ويلزمهم أيضا أن يكون في المسيح لاهوتان: لاهوت الكلمة، ولاهوت الروح، فيكون قد اتحد به أقنومان.

ثم في قوله تعالى: وأيدناه بروح القدس، يمتنع أن يراد بها حياة الله، فإن حياة الله صفة قائمة بذاته لا تقوم بغيره، ولا تختص ببعض الموجودات غيره، وأما عندهم فالمسيح، هو الله الخالق، فكيف يؤيد بغيره، وأيضا فالمتحد بالمسيح هو الكلمة دون الحياة، فلا يصح تأييده بها.

فتبين أنهم يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة، وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية - من جنس واحد.

فصل

قالوا: وقال أيضا: وكلم الله موسى تكليما.

فيقال لهم: وأي حجة لكم في هذا، وإنما هو حجة عليكم، فإنه قد ثبت أن الله كلم موسى تكليما، وكلام الله الذي سمعه منه موسى عليه السلام، ليس هو المسيح فعلم أن المسيح ليس هو كلام الله، وعندهم هو كلمة الله، وهو علم الله، وهو الله.

ومعلوم أن كلام الله كثير كالتوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك من كلامه، وليس المسيح شيئا من ذلك، والمسيح عندهم خالق، ولو كان المسيح نفس كلام الله لم يكن خالقا ولا معبودا، فإن كلام الله لم يخلق السماوات والأرض، ولا كلام الله هو الإله المعبود، بل كلامه كسائر صفاته مثل حياته وقدرته، ولا يقول أحد: يا علم الله اغفر لي، ولا يا كلام الله اغفر لي، وإنما يعبد ويدعى الإله الموصوف بالعلم، والقدرة، والكلام الذي كلم به موسى تكليما.

فصل

قالوا: وقال أيضا في سورة التحريم: ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين.

فيقال: أما قوله تعالى: فنفخنا فيه من روحنا. وقوله: في سورة الأنبياء: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين. فهذا قد فسره قوله تعالى: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا. وفي القراءة الأخرى: ليهب لك غلاما زكيا.

فأخبر أنه رسوله وروحه، وأنه تمثل لها بشرا، وأنه ذكر أنه رسول الله إليها، فعلم أن روحه مخلوق مملوك له، ليس المراد حياته التي هي صفته سبحانه وتعالى.

وكذلك قوله: فنفخنا فيها من روحنا.

وهو مثل قوله في آدم عليه السلام: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي.

وقد شبه المسيح بآدم في قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون.

والشبهة في هذا نشأت عند بعض الجهال من أن الإنسان إذا قال: روحي، فروحه في هذا الباب هي الروح التي في البدن، وهي عين قائمة بنفسها، وإن كان من الناس من يعني بها الحياة، والإنسان مؤلف من بدن وروح، وهي عين قائمة بنفسها عند سلف المسلمين وأئمتهم وجماهير الأمم.

والرب تعالى منزه عن هذا، وأنه ليس مركبا من بدن وروح، ولا يجوز أن يراد بروحه ما يريد الإنسان بقوله: روحي، بل تضاف إليه ملائكته وما ينزله على أنبيائه من الوحي والهدى والتأييد، ونحو ذلك.

فصل

قالوا: وسائر المسلمين يقولون: إن الكتاب كلام الله، ولا يكون كلام إلا لحي ناطق، وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء، وكل صفة منها غير الأخرى، فالإله واحد، خالق واحد، ورب واحد لا يتجزأ.

فيقال لهم: أما قول المسلمين إن الكتاب - أي القرآن - كلام الله، فهذا حق، والكلام لا يكون إلا لمتكلم.

والمسلمون يقولون: إن الله حي متكلم، وإنه تكلم بالتوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك من كلامه، والقرآن قد أخبر بكلام الله في مواضع كثيرة، وهل يسمى ناطقا وكلامه نطقا؟

فيه نزاع، فبعض المسلمين يجيزه، وبعضهم يمنع منه لكونه لم يرد به الشرع، وليس في التوراة والإنجيل والزبور تسمية الله ناطقا، بخلاف لفظ القول والكلام، وقد تنازع المسلمون بعد ظهور البدع فيهم كما تنازع أهل الكتاب في كلام الله، هل هو قائم به، أو مخلوق منفصل عنه.

والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهورها، أن كلام الله قائم به،

وكذلك سائر ما يوصف به من الحياة والقدرة وغير ذلك.

وأحدث قوم منهم بعد انقراض الصحابة وأكابر التابعين، بعد أكثر من مائة سنة من موت النبي أنه مخلوق خلقه في غيره، وشاركهم في هذه البدعة كثير من اليهود والنصارى.

وظهرت هذه المقالة بعد المائة الثانية، وانتصر لها قوم من الولاة، وغيرهم، ثم أطفأها الله بمن أقامه الله من أئمة الإسلام والسنة الذين بينوا فسادها وبينوا ما اتفق عليه السلف من أن كلام الله منزل منه غير مخلوق، بل منه بدأ، لم يبتدئ من شيء من المخلوقات، ومع هذا فلم يقل أحد من المسلمين: إن كلام الله يكون إلها ولا ربا.

وكذلك حياته لم يقل أحد منهم: إن حياته تكون إلها ولا ربا، ولا أنه مساو للرب تعالى في الجوهر.

فصل: نقاش دعواهم أن الأقانيم صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء

وأما قولهم: هذه صفات جوهرية تجري مجرى أسماء.

فإن أرادوا بقولهم: جوهرية أن كل صفة جوهر، فهذا كلام ظاهر الفساد فإن الصفة القائمة بغيرها لا تكون جوهرا قائما بنفسه، ومن ظن أن حرارة النار القائمة بها جوهر قائم بنفسه كالنار، فهو إما مصاب في عقله وإما مسفسط معاند.

والأول: يستحق علاج المجانين.

والثاني: يستحق العقوبة التي تردعه عن العناد.

ثم إن جاز أن تكون الصفة جوهرا كانت القدرة أيضا جوهرا.

وإن أرادوا بقولهم: جوهرية أنها صفات ذاتية، وغيرها صفات فعلية كالخالق والرازق، فمعلوم أن صفاته الذاتية منها القدرة وغيرها فلم تنحصر في هذه.

وأيضا فالكلام، وإن كان قائما بذاته، فقيل: هو متعلق بمشيئته وقدرته، وهو قول السلف والأكثرين، وقيل: ليس كذلك.

والمتكلم قيل: هو من فعل الكلام ولو كان منفصلا عنه، وقيل: هو من قام به الكلام، وإن لم يكن بمشيئته وقدرته، وقيل: المتكلم من قام به الكلام بمشيئته وقدرته، وهذا قول السلف والأكثرين، فبطل قولهم على كل تقدير.

وإن أرادوا بالجوهرية أنها ذاتية مقومة، وباقي الصفات عرضية على رأي أهل المنطق اليونان الذين يفرقون في الصفات اللازمة للموصوف بين هذا وهذا، كان هذا فاسدا من وجوه:

منها: أن تفريق هؤلاء في الصفات اللازمة للموصوف بين صفة وصفة، وجعل بعضها ذاتيا مقوما داخلا في الماهية، وبعضها عرضيا لاحقا خارجا عن الماهية - كلام باطل عند جماهير نظار الأمم من أهل الملل، وغيرهم كما قد بسط الكلام عليه في الرد على هؤلاء المتفلسفة، وبين أن ما يدعونه من تركيب الأنواع من الأجناس والفصول إنما هو تركيب في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان، وأن ما يقوم بالأذهان يختلف باختلاف تصور الأذهان.

فتارة يتصور الشيء مجملا، وتارة يتصوره مفصلا، وما سموه تمام الماهية، والداخل في الماهية، والخارج عنها، اللازم لها - يعود عند التحقيق إلى ما يدل عليه اللفظ بالمطابقة والتضمن والالتزام.

ومدلول اللفظ هو بحسب ما يعنيه المتكلم ويقصده ويتصوره، وهذا يختلف باختلاف إرادات الناس لا يرجع ذلك إلى حقيقة عقلية ولا صفة ذاتية للموجودات.

ولهذا لما كان كلامهم باطلا لم يمكنهم ذكر فرق صحيح بين الذاتي والعرضي اللازم إذا كان كلاهما لازما للموصوف، بل ذكروا ثلاثة فروق، والثلاثة باطلة، واعترف حذاقهم ببطلانها، كقولهم: إن الذاتي يثبت للموصوف، بلا وسط، والعرضي اللازم إنما يثبت بوسط.

ثم حذاقهم يفسرون الوسط بالدليل، كما فسره ابن سينا.

ومنهم من يفسر الوسط بصفة قائمة للموصوف، كما يفسره الرازي وغيره، وهؤلاء لم يفهموا مراد أولئك فزاد غلطهم، وأولئك أرادوا بالوسط الدليل، كما يريدون بالحد الأوسط ما يقرن باللام في قولك: لأنه، فصار العرضي اللازم عندهم ما يعلم ثبوته للموصوف بدليل، وهذا لا يرجع إلى حقيقة ثابتة في نفس الأمر، بل هذا أمر يتعلق بالعالم بالصفات.

فمنهم من يكون تام التصور فيعلم لزوم الصفة للموصوف، بلا دليل.

ومنهم من لا يكون تام التصور فلا يعلم ذلك إلا بدليل، ثم كل ما كان مستلزما لشيء، فإنه يمكن الاستدلال به عليه، إذا كان الدليل هو الذي يلزم من تحققه تحقق المدلول، فيكون الوسط كل ما كان مستلزما للعرض، فيكون العرض لازم اللازم.

وهم معترفون بأن من العرضيات ما يلزم، بلا وسط، وقد مثلوا ذلك بالزوجية والفردية في العدد، كالعلم بأن الأربعة زوج، والثلاثة فرد، وإن كان ظاهرا، لكن العلم بأن خمسمائة وثلاثة وأربعين نصف ألف وستة وثمانين، قد يفتقر إلى دليل، وقد يفتقر إلى تأمل وفكر.

وهم يقولون ما يقول ابن سينا أفضل متأخريهم، وغيره من أن العرض المنقسم إلى الكيف والكم وغير ذلك هو ذاتي لموصوفاته.

واللون المنقسم إلى السوداء والبياض هو ذاتي للمتلون، والسوادية والبياضية صفتان ذاتيتان، بخلاف الزوجية والفردية.

قالوا: لأن كون هذا أسود وأبيض وعرضا قائما بغيره، لا يفتقر إلى استدلال ونظر بخلاف كون هذا العدد زوجا أو فردا، فإن هذا قد يفتقر إلى نظر واستدلال، فإنه ينقسم إلى قسمين متساويين أو لا ينقسم.

ومعلوم أن هذا فرق يعود إلى علم العالم بهذه الصفات، هل هو جلي أو خفي، وهل يفتقر إلى نظر واستدلال أو لا يفتقر، ليس هو فرقا يعود إلى الصفة في نفسها ولا إلى موصوفها، فعلم أنه ليس بين ما جعلوه ذاتيا مقوما داخلا في الماهية، وما جعلوه عرضيا لازما خارجا عن الماهية - فرق يعود إلى نفس الماهية التي هي الذات الموصوفة الموجودة في الخارج، ولا إلى صفاتها، بل جميع صفاتها اللازمة لها - سواء في ذلك، وليست الماهية مركبة من هذا دون هذا، ولا فيها شيء يتقدم على الماهية في الوجود الخارجي، كما يقولون: إن الذاتي يتقدم على الماهية في الوجود والذهن.

ولا الصفات جواهر موجودة في الخارج لها أجزاء كأجزاء الأجسام المركبة، وإنما هي صفات قائمة بالموصوف يمتنع تقدم شيء منها على الموصوف.

ولكن إذا قيل في الإنسان: هو جسم حساس تام متحرك بالإرادة ناطق - فهنا قد يتصور الذهن هذه الأمور، ويعبر عنها، فكل واحد منهما جزء من الجملة التي في ذهنه ولسانه.

والجملة التي في ذهنه ولسانه مركبة من هذه الأجزاء لا أن الإنسان الموجود في الخارج مركب من هذه الأجزاء، وأنها متقدمة عليه أو أنها جواهر، فإن هذا كله مما يعلم بصريح العقل أنه باطل، لكن هؤلاء المتفلسفة اليونان ومن اتبعهم - كثيرا ما يشتبه عليهم ما يتصورونه في الأذهان بما يوجد في الأعيان، كما أثبت من أثبت من قدمائهم مثل فيثاغورس وأتباعه - أعدادا مجردة موجودة في الخارج.

وقد رد ذلك عليهم سائر العقلاء، كما رده من بعده منهم.

وقالوا: إن العدد المجرد، والمقدار المجرد إنما يوجد في الذهن لا في الخارج، وإنما يوجد في الخارج المعدودات والمقدرات، مثل الأجسام المتفرقة التي تعد كالكواكب، أو المتصلة التي تقدر كالأفلاك، وذلك هو المتصف بالكم المتصل والكم المنفصل الموجود في الخارج.

وأثبت أصحاب أفلاطون الكليات العقلية في الخارج التي يسمونها المثل الأفلاطونية وزعموا أنها قديمة أزلية، وأثبتوا بعدا موجودا مجردا جوهرا: هو الخلاء، وجوهرا قائما بنفسه، هو الدهر، وجوهرا مجردا قائما بنفسه: هو المادة والهيولى الأزلية.

وهذه كلها إنما تتصور في الأذهان لا في الأعيان، بل وما أثبتوه من العقول المجردة العشرة هي أيضا عند التحقيق ترجع إلى ما يجرده الذهن، ويقدره فيه، لا إلى موجود في الخارج.

وأصل قولهم: المجردات والمفارقات هو مأخوذ من مفارقة النفس الناطقة للبدن بالموت، وهذا حق، فإن الذي عليه الأنبياء وأتباعهم، وجمهور العقلاء أن الروح تفارق البدن، وتبقى بعد فراق البدن، ومن قال من متكلمة أهل الملل إنه لا يبقى بعد البدن روح تفارقه، وإن الروح جزء من البدن أو عرض من أعراض البدن، فقوله - مع أنه خطأ في العقل الصريح - هو أيضا مخالف لكتب الله المنزلة ولرسله، ولمن اتبعهم من جميع أهل الملل، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا التنبيه على أن تفريق هؤلاء اليونانيين في الصفات اللازمة للموصوف بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة، وجعلهم اللازمة: منها ما هو لازم للماهية، ومنها ما هو لازم لوجودها - هو مبني على أصلين فاسدين لهم، خالفهم فيها جمهور عقلاء الأمم من نظار أهل الملل وغيرهم.

أحد الأصلين: هو ما تقدم من جعلهم الصفات اللازمة للموصوف هي في الخارج منقسمة إلى ذاتي، جزء من الماهية داخل فيها، وإلى عرضي خارج عنها لازم لها.

والثاني: زعمهم أن كل موجود ممكن وله في الخارج ماهية هي ذاته وحقيقته - غير الموجود المعلوم المعين الثابت في الخارج، وهذا أيضا مما اشتبه عليهم فيه ما في الذهن بما في الخارج.

فإنه إذا أريد بالماهية ما يتصور في الذهن، وهو المقول في جواب ما هو، وبالوجود ما هو ثابت متحقق في الخارج، فمعلوم أن هذا غير هذا، كما يقولون: إنا نتصور المثلث قبل أن نعلم وجوده في الخارج، فعلم أن ماهية المثلث غير المثلث الموجود في الخارج.

فإنه يقال لهم إن أردتم أن ما يتصور في الذهن من المثلث غير الموجود في الخارج فهذا حق، لكن ليس في هذا ما يدل على أنه في الخارج عن الذهن شيئين:

أحدهما: ماهية المثلث التي هي حقيقته وذاته.

الثاني: المثلث الموجود الذي هو زاوية الحائط.

وإن أردتم أن في الخارج شيئين، فهذا غلط، وهذا الموضع مما اشتبه على كثير من النظار حتى صار بعض أكابرهم حائرا متوقفا.

وبعضهم يختلف قوله ويتناقض، وسبب ذلك عدم تمييزهم بين ما يتصور في الأذهان وبين ما يوجد في الأعيان، ثم هذا الموضوع نقلوه إلى الكلام في صفات الله اللازمة له، كحياته وعلمه وقدرته، هل هي ذاتية أو عرضية؟

فإن قيل: ذاتية لزم أن تكون له أجزاء متقدمة عليه تركب منها، وإن كانت عرضية لازمة لزم أن يكون قابلا وفاعلا، فإن كونه فاعلا غير كونه قابلا، فلزم أن يكون فيه جهتان، وهذا من التركيب الذي زعموه منتفيا، وذلك يستلزم التركيب، وهو التركيب من الذاتيات، وقد بين فساد هذا من وجوه متعددة:

منها: أن التركيب المعقول هو تركيب الحيوان والنبات والمعادن من أبعاضه وأخلاطه، وتركيب المبنيات والملبوسات والأطعمة والأشربة من أبعاضها وأخلاطها.

وأما تركيب الأجسام من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة فهذا مما تنازع فيه جمهور العقلاء، وكذلك تركيب الشيء من الموجود، والماهية سواء كان واجبا أو ممكنا هو مما تنازع فيه جمهور العقلاء، وكذلك تركبه من الصفات الذاتية المشتركة والمميزة التي يسمونها: الجنس، والفصل.

وأما اتصاف الذات بصفات تقوم بها، فهذا هو الذي يعرفه عامة العقلاء، ولكن لا يسمون هذا تركيبا، فمن سماه تركيبا لم يكن نزاعه اللفظي قادحا فيما علم بالأدلة السمعية والعقلية.

ثم هم يقولون: المركب يفتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه غيره، وواجب الوجود لا يفتقر إلى غيره، وهذه كلها ألفاظ مجملة، فإن لفظ الافتقار هنا لم يعنوا به افتقار المفعول إلى فاعله، ولا المعلول إلى علته الفاعلية، فإن جزء الشيء لا يكون فاعله ولا علته الموجبة له، بل يريدون به التلازم والاشتراط، فإن وجود المجموع مستلزم لوجود أجزائه، وهو مشروط بذلك.

ومنها: أن لفظ الجزء ليس مرادهم جزءا مباينا للجملة، فإن جزء الجملة ليس مباينا لها.

ومنها لفظ الغير، فإنه يراد بالغيرين ما يجوز مباينة أحدهما لصاحبه، أو مفارقته له بزمان أو مكان أو وجود، ويراد بهما ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر، وبعض المجموع وصفة الموصوف لا يجب أن تفارقه وتباينه، بل قد يجوز أن تباينه ويجوز أن لا تباينه.

فصفات الرب عز وجل اللازمة له لا يجوز أن تفارقه وتباينه، وحينئذ فمن الناس من لا يسميها غيرا له، ومن سماها غيرا له فذاته مستلزمة لها، ليست الصفات فاعلة للذات، ولا علة موجبة لها.

ولفظ واجب الوجود يراد به الموجود بنفسه الذي لا فاعل له، ولا علة فاعلة له، وذات الرب عز وجل وصفاته واجبة الوجود بهذا الاعتبار، ويراد به مع ذلك المستغني عن محل يقوم به، والذات بهذا المعنى واجبة دون الصفات، ويراد به ما لا تعلق له بغيره، وهذا لا حقيقة له؛ فإن الرب تعالى له تعلق بمخلوقاته لا سيما عند هؤلاء الفلاسفة الدهرية الذين يقولون: إنه موجب بذاته للأفلاك مستلزم لها، فيجعلونه ملزوما لمفعولاته، فكيف ينكرون أن تكون ذاته ملزومة لصفاته؟

وهؤلاء المتفلسفة اليونانيون الذين يسمون المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم: المنطق الطبيعي، والرياضي، والإلهي، يقولون: إن موضوع العلم الطبيعي متعلق بالمادة في الذهن والخارج من الجسم وأحكامه.

والثاني الرياضي: وهو متعلق بالمادة في الخارج لا في الذهن، فإنه لا يوجد عددا ولا مقدارا في الخارج إلا في جسم في الخارج أو عرض معدود، أو مقدر منفصل، بخلاف الذهن، فإنه يجرد أعدادا ومقادير مجردة عن المعدودات والمقدرات.

والثالث: الذي يسمونه علم ما بعد الطبيعة باعتبار السلوك العلمي، وهو علم ما قبلها باعتبار الوجود العيني، ويسمونه أيضا العلم الإلهي، وموضوعه عندهم: المجرد عن المادة في الذهن والخارج، وهو الموجود من حيث هو موجود، وانقسامه إلى جوهر وعرض، وانقسام الجوهر إلى جسم وغير جسم، وانقسام الجسم إلى المادة والصورة والعقول والنفوس.

والعلة الأولى يسميها أرسطو وأتباعه جوهرا، ولا يسميها واجب الوجود، وأما متأخروهم كابن سينا وأتباعه يسمونها واجب الوجود، ولا يسمونها جوهرا، والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر، إذ المقصود هنا أن هذه الأمور التي يقولون هي موضوع العلم الإلهي، وهي المجردة عندهم عن المادة في الذهن والخارج، هي عند التحقيق وجودها في الأذهان، لا في الأعيان.

فإن الوجود العام الكلي لا يوجد عاما كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان كما أن الإنسان العام الكلي، والحيوان العام الكلي لا يوجد عاما كليا إلا في الأذهان، لا في الأعيان.

وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، وبين أن اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل، أقرب إلى الحق في الأمور الإلهية منهم.

وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر، ولكن نبهنا عليها لتعلقها هنا بقول هؤلاء النصارى: إن صفات الرب الثلاث هي جوهرية دون غيرها، وأنهم إن عنوا بذلك ما يعنيه هؤلاء بالذاتية، فقولهم باطل مبني على أصل باطل.

فإن تفريق هؤلاء اليونان في الصفات اللازمة بين الذاتي والعرضي اللازم للموجود، والعرضي اللازم للماهية، والعرضي اللازم للموصوف - فرق باطل، وقد ذكروا ثلاث فروق كلها باطلة، كما تقدم:

الأول: الوسط.

والفرق الثاني: تقدم الذاتي ذهنا ووجودا، بخلاف اللازم العرضي.

والثالث: توقف الحقيقة على الذات.

وقد تبين بطلان هذا في غير هذا الموضع.

والنصارى ليس مرادهم بالجوهرية ما يريده هؤلاء بالذاتية، فلهذا لم نبسط الكلام عليه، بل يقولون: إن الثلاثة جواهر، وهؤلاء المنطقيون يفرقون بين اللازم للماهية، واللازم لوجودها بناء على أن في الخارج شيئين: الوجود، وماهية أخرى غير الوجود.

والكلام على هذا كله مبسوط في موضع آخر.

ومنها: أنه لو قدر أن صفات الموصوفات اللازمة لها تنقسم إلى ذاتي مقوم، وعرضي لازم، وأن صفات الرب سبحانه كذلك، لم يكن تخصيص العلم بأنه ذاتي أولى من القدرة، فليس ذكر القائم بنفسه الحي العالم بأولى من ذكر القائم بنفسه الحي القادر.

والنصارى لما كانت الأقانيم عندهم ثلاثة، وزعموا أن الشرع المنزل دل على ذلك، وكانوا في ذلك مخالفين للشرع المنزل إليهم،

كما قد بسط في موضعه - صار طائفة منهم يقولون: موجود حي عالم، وطائفة يقولون: موجود عالم قادر، فيجعلون القادر مكان الحي، ويجعلون روح القدس هو القدرة.

وهذا القول وإن كان أحسن في المعنى، لكن تفسير روح القدس بالقدرة في غاية البعد الذي يظهر فساده لكل أحد.

ولا بد لهم من إثبات أقنوم الكلمة الذي يقولون تارة: هي العلم، وتارة: هي الحكمة، ويسمونها تارة: النطق كما سموها في كتابهم هذا، لأن الذي اتحد بالمسيح عندهم هو أقنوم الكلمة، فصاروا تارة يضمون إليها الحياة، وتارة يضمون إليها القدرة.

والأب تارة يقولون: هو الوجود، وتارة يقولون: القائم بنفسه، وتارة يقولون: الذات، وتسمى القائم بنفسه بالسريانية: الكيان، وتارة يقولون: الجود.

وكل هذا من الحيرة والضلال، لأنهم لا يجدون ثلاث معان هي المستحقة لأن تكون جوهرية دون غيرها من الصفات، سواء فسرت الجوهرية بأنها جواهر، أو بأنها ذاتية مقومة أو بغير ذلك.

ومنها قولهم: تجري مجرى أسماء، فإن أرادوا بذلك أسماء أعلام أو جامدة، وسائرها صفات، فاسم الحي والعالم اسم مشتق يدل على معنى العلم والحياة، كما يدل القدير على القدرة، وإن أرادوا أنه يسمى بها، فلله تعالى أسماء كثيرة، فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى.

ومن أسمائه القدير، والقدرة تستلزم من قدرته على المخلوقات ما لا يدل عليه العلم، وخلقه للمخلوقات يدل على قدرته أبلغ من دلالته على علمه، واختصاصه بالقدرة أظهر من اختصاصه بالعلم، حتى إن طائفة من النظار كأبي الحسن الأشعري وغيره يقول: أخص وصفه القدرة على الاختراع، فلا يوصف بذلك غيره.

والجهم بن صفوان قبله يقول: ليس في الوجود قادر غيره، ولا لغيره قدرة، والأشعري وإن أثبت للمخلوق قدرة، لكن يثبت قدرة لا تؤثر في المقدور، ولم يقل أحد من العقلاء: إن أخص وصفه الحياة والعلم، ولا إن غيره ليس بحي ولا عالم، فكان جعل القدير اسما وغيره صفة - إن كان الفرق حقا - أولى من العكس، فكيف إذا كان الفرق باطلا فإن أسماءه تعالى التي يعرفها الناس هي أسماء، وهي صفات في اصطلاح أهل العربية تدل على معان، هي صفاته القائمة به.

فالحي يدل على الحياة، والعليم يدل على العلم، والقدير يدل على القدرة، هذا مذهب سلف الأمة وجماهير الأمم، ومن الناس فرقة شاذة تزعم أن هذه الأسماء لا تدل على معان كأسماء الأعلام، وقد تنازع الناس فيما يسمى به سبحانه، ويسمى به غيره كالحي والعليم والقدير.

فالجمهور على أنه حقيقة فيهما، وقالت طائفة كأبي العباس الناشي: إنها حقيقة في الرب عز وجل مجاز في المخلوق،

وقالت طائفة عكس هؤلاء من الجهمية والملاحدة والمتفلسفة: إنها مجاز في الرب عز وجل حقيقة في المخلوق، والأولون هي عندهم متواطئة، وقد يسمونها مشككة لما فيها من التفاضل، وبعضهم يقول: هي مشتركة اشتراكا لفظيا.

فصل: إبطال تمثيلهم الصفات بشعاع الشمس

وأما قولهم: كل صفة منها غير الأخرى:

فهذا إن أرادوا به أن صفات الرب سبحانه وتعالى قد تباينه وتنفصل عنه، وهو حقيقة قولهم. ويقولون مع ذلك: إنها متصلة به، فهو جمع بين النقيضين، وتمثيلهم بشعاع الشمس تمثيل باطل، وهو حجة عليهم لا لهم.

فإن الشعاع القائم بالهواء والأرض والجبال والشجر والحيطان، ليس هو قائما بذات الشمس.

والقائم بذات الشمس، ليس هو قائما بالهواء والأرض.

فإن قالوا: بل ما يقوم به من العلم يفيض منه على قلوب الأنبياء علوم، كما يفيض الشعاع من الشمس.

قيل لهم: لا اختصاص للمسيح بهذا، بل هذا قدر مشترك بينه وبين غيره من الأنبياء، وليس في هذا حلول ذات الرب ولا صفته القائمة به بشيء من مخلوقاته، ولا أن العبد بما حل فيه من العلم والإيمان يصير إلها معبودا.

وإن أرادوا أنها قائمة به، وتسمى كل واحدة غير الأخرى، فهنا نزاع لفظي، هل تسمى غيرا أو لا تسمى غيرا؟

فإن من الناس من يقول: كل صفة للرب عز وجل فهي غير الأخرى، ويقول: الغيران ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر.

ومنهم من يقول ليست هي الأخرى، ولا هي هي؛ لأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود.

والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إذا قيل لهم: علم الله وكلام الله، هل هو غير الله أم لا؟ لم يطلقوا النفي ولا الإثبات، فإنه إذا قال: غيره؛ أوهم أنه مباين له.

وإذا قال: ليس غيره؛ أوهم أنه هو، بل يستفصل السائل، فإن أراد بقوله: غيره؛ أنه مباين له منفصل عنه - فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه، وإن كان مخلوقا، فكيف بصفات الخالق؟

وإن أراد بالغير أنها ليست هي هو، فليست الصفة هي الموصوف، فهي غيره بهذا الاعتبار، واسم الرب تعالى إذا أطلق يتناول الذات المقدسة بما يستحقه من صفات الكمال، فيمتنع وجود الذات عرية عن صفات الكمال.

فاسم الله يتناول الذات الموصوفة بصفات الكمال، وهذه الصفات ليست زائدة على هذا المسمى، بل هي داخلة في المسمى، ولكنها زائدة على الذات المجردة التي تثبتها نفاة الصفات، فأولئك لما زعموا أنه ذات مجردة قال هؤلاء: بل الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات.

وأما في نفس الأمر، فليس هناك ذات مجردة تكون الصفات زائدة عليها، بل الرب تعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال، وصفاته داخلة في مسمى أسمائه سبحانه وتعالى.

فصل: بيان تناقض قول النصارى في عقيدة إيمانهم

وقولهم: فالإله واحد، خالق واحد، رب واحد.

هو حق في نفسه، لكن قد نقضوه بقولهم في عقيدة إيمانهم: (نؤمن برب واحد، يسوع المسيح ابن الله الوحيد، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مساو الأب في الجوهر) فأثبتوا هنا إلهين، ثم أثبتوا روح القدس إلها ثالثا، وقالوا إنه مسجود له، فصاروا يثبتون ثلاثة آلهة، ويقولون: إنما نثبت إلها واحدا، وهو تناقض ظاهر، وجمع بين النقيضين، بين الإثبات والنفي.

ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين، ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولا، وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولا، وامرأته قولا آخر، وابنه قولا ثالثا.

فصل

وقولهم: (لا يتبعض ولا يتجزأ) مناقض لما ذكروه في أمانتهم، ولما يمثلونه به. فإنهم يمثلونه بشعاع الشمس، والشعاع يتبعض ويتجزأ، فإن ما يقوم منه بهذا الموضع بعض وجزء منه، ويمكن زوال بعضه مع بقاء بعض، فإنه إذا وضع على مطرح الشعاع شيء فصل ما بين جانبيه، وصار الشعاع الذي كان بينهما على ذلك الفوقاني فاصلا بين الشعاعين السافلين.

يبين ذلك أن الشعاع قائم بالأرض والهواء، وكل منهما متجزئ متبعض، وما قام بالمتبعض فهو متبعض، فإن الحال يتبع المحل، وذلك يستلزم التبعض والتجزيء فيما قام به.

ويقولون أيضا: إنه اتحد بالمسيح وأنه صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه، بل لما صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت إله تام، وإنسان تام، فهم لا يقولون: إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط، بل اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا؟

وليس هذا من كلام الأنبياء حتى يقال: إن له معنى لا نفهمه، بل هو من كلام أكابرهم الذي وضعوه وجعلوه عقيدة إيمانهم، فإن كانوا تكلموا بما لا يعقلونه، فهم جهال لا يجوز أن يتبعوا، وإن كانوا يعقلون ما قالوه، فلا يعقل أحد من كون اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت المجرد عن الاتحاد، إلا أن هذا اللاهوت المجرد منفصل مباين للاهوت المتحد، وليس هو متصلا به، بل غايته أن يكون مماسا له، بل يجب أن يكون الذي يماس اللاهوت المجرد هو الناسوت مع اللاهوت المتحد به، فهذا حقيقة التبعيض والتجزئة مع انفصال أحد البعضين عن الآخر.

وأيضا فيقال لهم: المتحد بالمسيح أهو ذات رب العالمين، أم صفة من صفاته؟ فإن كان هو الذات، فهو الأب نفسه، ويكون المسيح هو الأب نفسه، وهذا مما اتفق النصارى على بطلانه؛ فإنهم يقولون: هو الله، وهو ابن الله، كما حكى الله عنهم، ولا يقولون هو الأب والابن، والأب عندهم هو الله، وهذا من تناقضهم.

وإن قالوا: المتحد بالمسيح صفة الرب فصفة الرب لا تفارقه، ولا يمكن اتحادها ولا حلولها في شيء دون الذات.

وأيضا فالصفة نفسها ليست هي الإله الخالق رب العالمين، بل هي صفته، ولا يقول عاقل: إن كلام الله أو علم الله أو حياة الله، هي رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض، فلو قدر أن المسيح هو صفة الله نفسها لم يكن هو الله، ولم يكن هو رب العالمين، ولا خالق السماوات والأرض.

والنصارى يقولون: إن المسيح رب العالمين خالق كل شيء، وهو خالق آدم ومريم، وإن كان ابن آدم ومريم، فإنه خالق ذلك بلاهوته، وهو ابن آدم ومريم بناسوته.

فلو قدر أن المسيح هو صفة الرب لم تكن الصفة هي الخالق، فكيف والمسيح ليس هو صفة الله نفسها، بل هو مخلوق بكلمة الله، وسمي كلمة الله، لأن الله كونه (بكن)؟

وقال تعالى: ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

وسماه روحه، لأنه خلقه من نفخ روح القدس في أمه، لم يخلقه كما خلق غيره من أب آدمي.

قال الله تعالى: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

وإن قالوا: المتحد به بعض ذلك دون بعض، فقد قالوا بالتبعيض والتجزئة، فهم بين أمرين: إما بطلان مذهبهم، وإما اعترافهم بالتبعيض والتجزئة مع بطلانه.

وأيضا فقولهم: (إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، ابن الله الوحيد، المولود قبل كل الدهور).

يقال لهم: هذا الابن المولود المساوي للأب في الجوهر، الذي هو إله حق من إله حق، هل هو صفة قائمة بغيرها؟ أو عين قائمة بنفسها؟

فإن كان الأول، فالصفة ليست إلها ولا هي خالقة، ولا يقال لها: مولودة من الله، ولا إنها مساوية لله في الجوهر، ولم يسم قط أحد من الأنبياء، ولا أتباع الأنبياء صفات الله لا ابنا له ولا ولدا، ولا قال: إن صفة الله تولدت منه، ولا قال عاقل: إن الصفة القديمة تولدت من الذات القديمة. وهم يقولون: إن المسيح إله خلق السماوات والأرض لاتحاد ناسوته بهذا الابن المولود قبل كل الدهور، المساوي الأب في الجوهر.

وهذا كله نعت عين قائمة بنفسها، كالجواهر القائمة بنفسها، لا نعت صفات قائمة بغيرها، وإذا كان كذلك كان التبعيض والتجزئة لازمة لقولهم، فإن القول بالولادة الطبيعية مستلزم لأن يكون خرج منه جزء، قال تعالى: وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون.

وأما هذا المعنى الذي يثبته من يثبته من علماء النصارى ويسمونه ولادة وبنوة فيسمونه الصفة القديمة الأزلية القائمة بالموصوف ابنا، ويسمونها تارة النطق، وتارة الكلمة، وتارة العلم، وتارة الحكمة، ويقولون: هذا مولود من الله، وابن الله. فهذا لم يقله أحد من الأنبياء وأتباعهم، ولا من سائر العقلاء غير هؤلاء المبتدعة من النصارى، ولا يفهم أحد من العقلاء من اسم الولادة والبنوة هذا المعنى.

والأنبياء لم يطلقوا لفظ الابن إلا على مخلوق، وهم يقولون: هو أب للمسيح بالطبع، ولغيره بالوضع، فلا يعقل جمهور العقلاء وغيرهم من هذا المعنى إلا البنوة المعقولة بانفصال جزء من الوالد، وهذا ينكره من ينكره من علمائهم.

لكنهم لم يتبعوا الأنبياء، ولم يقولوا ما تعقله العقلاء، فضلوا فيما نقلوه عن الأنبياء، وأضلوا أتباعهم فيما قالوه، وعوامهم، وإن كانوا لا يقولون: إن ولادة الله مثل ولادة الحيوان بانفصال شيء يوجد، فيقولون: ولادة لاهوتية بانفصال جزء من اللاهوت حل في الناسوت، لا يعقل من الولادة غير هذا.

وأيضا فقولهم: (ونؤمن بروح القدس الرب المحي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له، وممجد ناطق في الأنبياء، فقولهم: المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد، يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به، فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات، إذ لو كان القائم بنفسه منبثقا لكان علمه وقدرته، وسائر صفاته منبثقة منه، بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة، فإن الكلام يخرج من المتكلم، وأما الحياة فلا تخرج من الحي، فلو كان في الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن، ويقولون: هي العلم والكلام أو النطق والحكمة - أولى بأن تكون منبثقة من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام.

وقد قالوا أيضا: إنه مع الأب مسجود له وممجد، والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجود لها، وقالوا: هو ناطق في الأنبياء، وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء، بل هذا كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء، أو صفة ملك من الملائكة كجبريل، فإذا كان هذا منبثقا من الأب، والانبثاق الخروج، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا.

وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلا من وجوه:

منها: أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض، وليس جوهرا قائما بنفسه، وهذا عندهم حي مسجود له، وهو جوهر.

ومنها: أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس، ولا قائما بها، وحياة الرب صفة قائمة به.

ومنها: أن الانبثاق خصوا به روح القدس، ولم يقولوا في الكلمة: إنها منبثقة. والانبثاق لو كان حقا لكان بالكلمة أشبه منه بالحياة، وكلما تدبر العاقل كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد ما لا يخفى إلا على أجهل العباد، ووجد فيه من مناقضته التوراة والإنجيل، وسائر كتب الله - ما لا يخفى من تدبر هذا وهذا. ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول، فقولهم متناقض في نفسه، مخالف لصريح المعقول، وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين.

فصل: نقض قولهم إن اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف ولهذا تجسمت كلمة الله الخالقة بعيسى

قالوا: وأما تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، فإنه لم يخاطب الباري أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب، حسب ما جاء في هذا الكتاب بقوله: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء. وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف - روح القدس - وغيرها، فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف والكثائف، تظهر في غير كثيف كلا. ولذلك ظهر في عيسى ابن مريم، إذ الإنسان أجل ما خلقه الله، ولهذا خاطب الخلق، وشاهدوا منه ما شاهدوا.

والجواب من طرق:

أحدها: أنه يقال: هذا الذي ذكروه، وادعوا أنه تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق، وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، وهو الذي يعبر عنه باتحاد اللاهوت بالناسوت - هو أمر ممتنع في صريح العقل، وما علم أنه ممتنع في صريح العقل لم يجز أن يخبر به رسول، فإن الرسل إنما تخبر بما لا يعلم بالعقل أنه ممتنع، فأما ما يعلم بصريح العقل أنه ممتنع، فالرسل منزهون عن الإخبار عنه.

الطريق الثاني: أن الأخبار الإلهية صريحة بأن المسيح عبد الله ليس بخالق العالم، والنصارى يقولون: هو إله تام وإنسان تام.

الطريق الثالث: الكلام فيما ذكروه.

فأما الطريق الأول فمن وجوه:

أحدها: أن يقال: المتحد بالمسيح إما أن يكون هو الذات المتصفة بالكلام أو الكلام فقط، وإن شئت قلت: المتحد به، إما الكلام مع الذات، وإما الكلام بدون الذات، فإن كان المتحد به الكلام مع الذات كان المسيح هو الأب وهو الابن وهو روح القدس، وكان المسيح هو الأقانيم الثلاثة.

وهذا باطل باتفاق النصارى، وسائر أهل الملل، وباتفاق الكتب الإلهية، وباطل بصريح العقل كما سنذكره إن شاء الله.

وإن كان المتحد به هو الكلمة فقط فالكلمة صفة، والصفة لا تقوم بغير موصوفها، والصفة ليست إلها خالقا، والمسيح عندهم إله خالق، فبطل قولهم على التقديرين، وإن قالوا: المتحد به الموصوف بالصفة فالموصوف هو الأب، والمسيح عندهم ليس هو الأب، وإن قالوا: الصفة فقط، فالصفة لا تفارق الموصوف ولا تقوم بغير الموصوف، والصفة لا تخلق ولا ترزق، وليست الإله، والصفة لا تقعد عن يمين الموصوف، والمسيح عندهم صعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه.

وأما كونه هو الأب فقط، وهو الذات المجردة عن الصفات، فهذا أشد استحالة، وليس فيهم من يقول بهذا.

الوجه الثاني: أن الذات المتحدة بناسوت المسيح مع ناسوت المسيح إن كانتا بعد الاتحاد ذاتين، وهما جوهران كما كانا قبل الاتحاد، فليس ذلك باتحاد.

وإن قيل: صارا جوهرا واحدا، كما يقول من يقول منهم: إنهما صارا كالنار مع الحديدة، أو اللبن مع الماء، فهذا يستلزم استحالة كل منهما، وانقلاب صفة كل منهما، بل حقيقته كما استحال الماء واللبن إذا اختلطا، والنار مع الحديدة، وحينئذ فيلزم أن يكون اللاهوت استحال وتبدلت صفته وحقيقته، والاستحالة لا تكون إلا بعدم شيء ووجود آخر، فيلزم عدم شيء من القديم الواجب الوجود بنفسه.

وما وجب قدمه استحال عدمه، وما وجب وجوده امتنع عدمه، فإن القديم لا يكون قديما إلا لوجوبه بنفسه، أو لكونه لازما للواجب بنفسه، إذ لو لم يكن لازما له، بل كان غير لازم له لم يكن قديما بقدمه، والواجب بنفسه يمتنع عدمه، ولازمه لا يعدم إلا بعدمه، فإنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.

الوجه الثالث: أن يقال: الناس لهم في كلام الله عز وجل عدة أقوال، وقول النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس في كلام الله فثبت بطلانه على كل تقدير، وذلك أن كلام الله سبحانه إما أن يكون صفة له قائما به، وإما أن يكون مخلوقا له بائنا عنه، وإما أن يكون لا هذا ولا هذا، بل هو ما يوجد في النفوس، وهذا الثالث هو أبعد الأقوال عن أقوال الأنبياء، وهو قول من يقول من الفلاسفة والصابئة: إن الرب لا تقوم به الصفات وليس هو خالقا باختياره.

ويقولون مع ذلك: إنه ليس عالما بالجزئيات، ولا قادرا على تغيير الأفلاك، بل كلامه عندهم ما يفيض على النفوس، وربما سموه كلاما، بلسان الحال.

وهؤلاء ينفون الكلام عن الله، ويقولون: ليس بمتكلم، وقد يقولون: متكلم مجازا، لكن لما نطقت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أطلقه من دخل في الملل منهم، ثم فسره بمثل هذا، وهذا أحد قولي الجهمية.

والقول الثاني: أنه متكلم حقيقة، لكن كلامه مخلوق، خلقه في غيره، وهو قول المعتزلة وغيرهم، والقول الآخر للجهمية.

وعلى هذين القولين، فليس لله كلام قائم به حتى يتحد بالمسيح، أو يحل به، والمخلوق عرض من الأعراض ليس بإله خالق، وكثير من أهل الكتاب: اليهود، والنصارى، من يقول بهذا وهذا.

وأما القول الأول، وهو قول سلف الأمة وأئمتها، وجمهورها، وقول كثير من سلف أهل الكتاب، وجمهورهم - فإما أن يقال: الكلام قديم النوع، بمعنى أنه لم يزل يتكلم بمشيئته، أو قديم العين، وإما أن يقال: ليس بقديم، بل هو حادث، والأول هو القول المعروف عن أئمة السنة والحديث.

وأما القائلون بقدم العين، فهم يقولون: الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته، لاعتقادهم أنه لا تحله الحوادث، وما كان بمشيئته وقدرته لا يكون إلا حادثا.

ولهم قولان: منهم من قال: القديم معنى واحد، أو خمسة معان، وذلك المعنى يكون أمرا ونهيا وخبرا، وهذه صفات له لا أقسام له، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة.

ومنهم من قال: هو حروف، أو حروف وأصوات قديمة الأعيان.

والقول الثالث: إنه متكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته، قالوا: وهو حادث، ويمتنع أن يكون قديما، لامتناع كون المقدور المراد قديما، وهذه الطوائف بنوا أقوالهم على أن ما لم يخل عن الحوادث، فهو حادث لامتناع وجود ما لا نهاية له عندهم، وإذا امتنع ذلك تعين أن يكون لنوع الحوادث ابتداء، كما للحادث المعنى ابتداء، وما لم يسبق الحوادث كان معه أو بعده، فيكون حادثا، فلهذا منع هؤلاء أن تكون كلمات الله لا نهاية لها في الأزل، وإن كان من هؤلاء من يقول بدوام وجودها في الأبد.

وأما القول بأن كلمات الله لا نهاية لها مع أنها قائمة بذاته، فهو القول المأثور عن أئمة السلف، وهو قول أكثر أهل الحديث، وكثير من أهل الكلام، ومن الفلاسفة، وهذه الأقوال قد بسط الكلام عليها في غير موضع.

والمقصود هنا أن قول النصارى باطل على كل قول من هذه الأقوال الأربعة، كما تقدم بيان بطلانه على ذينك القولين، فإنه - على قول الجمهور الذين يجعلون لله كلمات كثيرة - إما كلمات لا نهاية لها ولم تزل، وإما كلمات لها ابتداء، وإذا كان له كلمات كثيرة فالمسيح ليس هو الكلمات التي لا نهاية لها، وليس هو كلمات كثيرة، بل إنما خلق بكلمة من كلمات الله كما في الكتب الإلهية: القرآن والتوراة، إنه يخلق الأشياء بكلماته.

قال تعالى في قصة بشارة مريم بالمسيح: قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

وقال أيضا: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون.

وقال: ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

وقد أخبر الله في القرآن بخلقه للأشياء بكلماته في غير موضع، بقوله: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

وفي التوراة: ليكن يوم الأحد، ليكن كذا، ليكن كذا.

وأيضا فعلى قول هؤلاء وعلى قول من يجعل كلامه إما معنى واحدا، وإما خمسة معان، وإما حروف وأصوات هي شيء واحد؛ فكلهم يقولون: إن الكلام صفة قائمة بالموصوف لا يتصور أن يكون جوهرا قائما بنفسه، ولا يتصور أن يكون خالقا، ولا للكلام مشيئة، ولا هو جوهر آخر غير جوهر المتكلم، ولا يتحد بغير المتكلم، بل جمهورهم يقولون: إنه لا يحل أيضا بغير المتكلم.

ومن قال بالحلول منهم فلا يقول: إن الحال جوهر، ولا إله خالق، فتبين أن ما قاله النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس في كلام الله مع أن أكثر هذه الأقوال خطأ، ولما كان قول النصارى فساده أظهر للعقلاء كان الخطأ الذي في أكثر هذه الأقوال قد خفي على العقلاء الذين قالوها، ولم يخف عليهم فساد قول النصارى.

وأيضا فالذين قالوا بالحلول من الغلاة الذين يكفرهم المسلمون، كالذين يقولون بحلوله في بعض أهل البيت أو بعض المشايخ، هم وإن كانوا كفارا شاركوا النصارى في الحلول، ولكن لم يقولوا: إن الكلمة التي حلت هي الإله الخالق، فيتناقضون تناقضا ظاهرا، مثل ما في قول النصارى من التناقض البين ما ليس في قول هؤلاء، وإن كانوا في بعض الوجوه قولهم شر من قول النصارى.

الوجه الرابع: أن يقال: لو كان المسيح نفس كلمة الله فكلمة الله ليست هي الإله الخالق للسماوات والأرض، ولا هي تغفر الذنوب، وتجزي الناس بأعمالهم، سواء كانت كلمته صفة له أو مخلوقة له كسائر صفاته ومخلوقاته، فإن علم الله وقدرته وحياته لم تخلق العالم، ولا يقول أحد: يا علم الله اغفر لي، ويا قدرة الله توبي علي، ويا كلام الله ارحمني، ولا يقول: يا توراة الله أو يا إنجيله أو يا قرآنه اغفر لي وارحمني، وإنما يدعو الله سبحانه، وهو سبحانه متصف بصفات الكمال، فكيف والمسيح ليس هو نفس الكلام؟

فإن المسيح جوهر قائم بنفسه، والكلام صفة قائمة بالمتكلم، وليس هو نفس الرب المتكلم، فإن الرب المتكلم هو الذي يسمونه الأب، والمسيح ليس هو الأب عندهم، بل الابن، فضلوا في قولهم من جهات:

منها: جعل الأقانيم ثلاثة، وصفات الله لا تختص بثلاثة.

ومنها: جعل الصفة خالقة، والصفة لا تخلق.

ومنها: جعلهم المسيح نفس الكلمة، والمسيح خلق بالكلمة، فقيل له كن فكان كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفسير ذلك، وإنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر، لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات، يخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، وخلقوا من ماء الأبوين: الأب والأم.

والمسيح عليه السلام لم يخلق من ماء رجل، بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به، وقال الله: كن فكان، ولهذا شبهه الله بآدم في قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون.

فإن آدم عليه السلام خلق من تراب وماء، فصار طينا، ثم أيبس الطين، ثم قال له: كن فكان، وهو حين نفخ الروح فيه صار بشرا تاما، لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح، فإن الجنين بعد نفخ الروح يكمل خلق جسده في بطن أمه، فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر، ثم يخرج طفلا يرتضع، ثم يكبر شيئا بعد شيء، وآدم عليه السلام حين خلق جسده قيل له كن فكان بشرا تاما بنفخ الروح فيه، ولكن لم يسم كلمة الله لأن جسده خلق من التراب والماء وبقي مدة طويلة يقال: أربعين سنة، فلم يكن خلق جسده إبداعيا في وقت واحد، بل خلق شيئا فشيئا، وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة.

وأما المسيح عليه السلام فخلق جسده خلقا إبداعيا بنفس نفخ روح القدس في أمه، قيل له: كن فكان، فكان له من الاختصاص بكونه خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر، ومن الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أن الاسم العام إذا كان له نوعان خصت أحد النوعين باسم، وأبقت الاسم العام مختصا بالنوع، كلفظ الدابة والحيوان، فإنه عام في كل ما يدب، وكل حيوان، ثم لما كان للآدمي اسم يخصه بقي لفظ الحيوان يختص به البهيم، ولفظ الدابة يختص به الخيل أو هي والبغال والحمير ونحو ذلك، وكذلك لفظ الجائز والممكن، وذوي الأرحام، وأمثال ذلك، فلما كان لغير المسيح ما يختص به أبقي اسم الكلمة العامة مختصا بالمسيح.

الطريق الثاني: أن ما ذكروه حجة عليهم، فإن الله إذا لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب، فالمسيح عيسى ابن مريم يجب أن لا يكلمه إلا وحيا، أو من وراء حجاب، أو يرسل إليه رسولا.

وقوله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب. يعم كل بشر: المسيح وغيره.

وإذا امتنع أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فامتناع أن يتحد به أو يحل فيه أولى وأحرى.

فإن ما اتحد به وحل فيه كلمة الله من غير حجاب بين اللاهوت والناسوت، وهم قد سلموا أن الله لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب.

الوجه الثالث: أن قوله: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب. يقتضي أن يكون الحجاب حجابا يحجب البشر كما حجب موسى، فيقتضي ذلك أنهم لا يرونه في الدنيا وإن كلمهم، كما أنه كلم موسى ولم يره موسى، بل سأل الرؤية فقال: قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين. قيل: أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد في الدنيا.

وعندهم في التوراة: إن الإنسان لا يمكنه أن يرى الله في الدنيا فيعيش، 7

وكذلك قال عيسى لما سألوه عن رؤية الله فقال: إن الله لم يره أحد قط.8 وهذا معروف عندهم، وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون الحجاب الحاجب للبشر ليس هو من البشر، وهذا يبطل قول النصارى فإنهم يقولون: إن الرب احتجب بحجاب بشري، وهو الجسد الذي ولدته مريم، فاتخذه حجابا وكلم الناس من ورائه، والقرآن يدل على أن الحجاب ليس من البشر.

يبين هذا الوجه الرابع: وهو أن ذلك الجسد الذي ولدته مريم هو من جنس أجسام بني آدم، فإن جاز أن يتحد به، ويحل فيه، ويطيق الجسد البشري ذلك في الدنيا بما يجعله الله فيه من القوة، جاز أن يتحد بغيره من الأجسام بما يجعله فيها من القوة، وإذا جاز أن يتحد بها جاز أن يكلمها بغير حجاب بينه وبينها بطريق الأولى والأحرى، وهذا خلاف ما ذكروه وخلاف القرآن.

فتبين أن نفي الأنبياء لأن يراه المرء في الدنيا هو نفي لمماسته ببشر بطريق الأولى والأحرى، والناسوت المسيحي هو بشر فإذا لم يمكنه أن يرى الله فكيف يمكنه أن يتحد به، ويماسه ويصير هو وإياه كاللبن والماء، والنار والحديد، أو كالروح والبدن؟

الوجه الخامس: أنه من المعلوم أن رؤية الآدمي له أيسر من اتحاده به، وحلوله فيه، وأولى بالإمكان، فإذا كانت الرؤية في الدنيا قد نفاها الله، ومنعها على ألسن رسله: موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، فكيف يجوز اتصاله بالبشر واتحاده به؟

الوجه السادس: أنه لو كان حلوله في البشر مما هو ممكن وواقع، لم يكن لاختصاص واحد من البشر بذلك دون من قبله وبعده معنى، فإن القدرة شاملة، والمقتضى - وهو وجود الله وحاجة الخلق - موجودة، ولهذا لما كانت الرسالة ممكنة أرسل من البشر غير واحد، ولما كان سماع كلامه للبشر ممكنا سمع كلامه غير واحد، ورؤيته في الدنيا بالأبصار لم تقع لأحد باتفاق علماء المسلمين، لكن لهم في النبي قولان، والذي عليه أكابر العلماء وجمهورهم أنه لم يره بعينه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.

والخلة لما كانت ممكنة اتخذ إبراهيم خليلا، واتخذ محمدا أيضا خليلا كما في الصحيح من غير وجه عن النبي أنه قال: إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وقال : لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله، يعني نفسه.

الوجه السابع: قولهم: وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف مثل الروح وغيرها - فكلمة الله التي بها خلقت الكثائف تظهر في غير كثيف كلا.

فيقال لهم: ظهور اللطائف في الكثائف كلام مجمل، فإن أردتم أن روح الإنسان تظهر في جسده، أو الجني يتكلم على لسان المصروع ونحو ذلك - فليس هذا مما نحن فيه، وإن أردتم أن الله تعالى نفسه يحل في البشر، فهذا محل النزاع، فأين الدليل عليه وأنتم لم تذكروا إلا ما يدل على نقيض ذلك؟

الوجه الثامن: أن هذا أمر لم يدل عليه عقل ولا نقل، ولا نطق نبي من الأنبياء بأن الله يحل في بشر، ولا ادعى صادق قط حلول الرب فيه، وإنما يدعي ذلك الكذابون، كالمسيح الدجال الذي يظهر في آخر الزمان، ويدعي الإلهية، فينزل الله تبارك وتعالى عيسى ابن مريم مسيح الهدى، فيقتل مسيح الهدى الذي ادعيت فيه الإلهية بالباطل المسيح الدجال الذي ادعى الإلهية بالباطل، ويبين أن البشر لا يحل فيه رب العالمين.

ولهذا لما أنذر النبي بالمسيح الدجال، وقال: ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال حتى نوح أنذر قومه به وذكر النبي له ثلاث دلائل ظاهرة تظهر لكل مسلم، تبين كذبه:

أحدها: قوله: مكتوب بين عينيه كافر، " ك ف ر " يقرؤه كل مؤمن: قارئ وغير قارئ

الثاني: قوله: واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت فبين أن الله لا يراه أحد في الدنيا بعينيه، وكل بشر فإنه يرى في الدنيا بالعين، فعلم أن الله لا يتحد ببشر.

الثالث: قوله: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ودلائل نفي الربوبية عنه كثيرة.

لكن لما كان حلول اللاهوت في البشر واتخاذه به مذهبا ضل به طوائف كثيرون من بني آدم النصارى وغيرهم، وكان المسيح الدجال يأتي بخوارق عظيمة، والنصارى احتجوا على إلهية المسيح بمثل ذلك - ذكر النبي من علامات كذبه أمورا ظاهرة لا يحتاج فيها إلى بيان موارد النزاع التي ضل فيها خلق كثير من الآدميين، فإن كثيرا من الناس، بل أكثرهم، تدهشهم الخوارق حتى يصدقوا صاحبها قبل النظر في إمكان دعواه، وإذا صدقوه صدقوا النصارى في دعوى إلهية المسيح، وصدقوا أيضا من ادعى الحلول والاتحاد في بعض المشايخ، أو بعض أهل البيت أو غيرهم من أهل الإفك والفجور.

وبهذا يظهر الجواب عما يورده بعض أهل الكلام كالرازي على هذا الحديث حيث قالوا: دلائل كون الدجال ليس هو الله - ظاهرة، فكيف يحتج النبي على ذلك بقوله: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور؟ وهذا السؤال يدل على جهل قائله بما يقع فيه بنو آدم من الضلال، وبالأدلة البينة التي تبين فساد الأقوال الباطلة، وإلا فإذا كان بنو إسرائيل في عهد موسى ظنوا أن العجل هو إله موسى، فقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، وظنوا أن موسى نسيه.

والنصارى مع كثرتهم يقولون: إن المسيح هو الله. وفي المنتسبين إلى القبلة خلق كثير يقولون ذلك في كثير من المشايخ وأهل البيت، حتى إن كثيرا من أكابر شيوخ المعرفة والتصوف يجعلون هذا نهاية التحقيق والتوحيد، وهو أن يكون الموحد هو الموحد، وينشدون:

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد

توحيد من يخبر عن نعته عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد

فكيف يستبعد مع إظهار الدجال هذه الخوارق العظيمة أن يعتقد فيه أنه الله، وهو يقول: أنا الله، وقد اعتقد ذلك فيمن لم يظهر فيه مثل خوارقه من الكذابين وفيمن لم يقل: أنا الله، كالمسيح، وسائر الأنبياء والصالحين.

الوجه التاسع: قولهم: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا، فيقال لهم: كلمة الله التي يدعون ظهورها في المسيح، أهي كلام الله الذي هو صفته، أو ذات الله المتكلمة أو مجموعها؟ فإن قلتم: الظاهر فيه نفس الكلام فهذا يراد به شيئان:

إن أريد به أن الله أنزل كلامه على المسيح، كما أنزله على غيره من الرسل، فهذا حق اتفق عليه أهل الإيمان، ونطق به القرآن.

وإن أريد به أن كلام الله فارق ذاته وحل في المسيح أو غيره، فهو باطل مع أن هذا لا ينفع النصارى، فإن المسيح عندهم إله خلق السماوات والأرض، وهو عندهم ابن آدم وخالق آدم، وابن مريم وخالق مريم، ابنها بناسوته وخالقها بلاهوته.

وإن أرادوا بظهور الكلمة ظهور ذات الله أو ظهور ذاته وكلامه في الكثيف الذي هو الإنسان، فهذا أيضا يراد به ظهور نوره في قلوب المؤمنين، كما قال تعالى: الله نور السماوات والأرض إلى قوله: كوكب دري الآية.

وكما ظهر الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران، 4 وكما تجلى لإبراهيم، كما ذكره في التوراة، فهذا لا يختص بالمسيح، بل هو لغيره كما هو له.

وإن أرادوا أن ذات الرب حلت في المسيح، أو في غيره فهذا محل النزاع، فأين دليلهم على إمكان ذلك ثم وقوعه؟ مع أن جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم يقولون: هذا غير واقع، بل هو ممتنع.

الوجه العاشر: قولهم: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا - كلام باطل.

فإن ظهور ما يظهر من الأمور الإلهية إذا أمكن ظهوره فظهوره في اللطيف أولى من ظهوره في الكثيف، فإن الملائكة تنزل بالوحي على الأنبياء عليهم السلام، وتتلقى كلام الله من الله، وتنزل به على الأنبياء عليهم السلام، فيكون وصول كلام الله إلى ملائكة قبل وصوله إلى البشر وهم الوسائط كما قال تعالى: أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء

والله تعالى أيد رسله من البشر حتى أطاقوا التلقي عن الملائكة، وكانت الملائكة تأتيهم أحيانا في غير الصورة البشرية، وأحيانا في الصورة البشرية، فكان ظهور الأمور الإلهية باللطائف ووصولها إليهم أولى منه بالكثائف، ولو جاز أن يتحد الرب سبحانه بحي من الأحياء، ويحل فيه، لكان حلوله في ملك من الملائكة واتحاده به أولى من حلوله واتحاده بواحد من البشر.

الوجه الحادي عشر: أن الناسوت المسيحي عندهم الذي اتحد به هو البدن والروح معا، فإن المسيح كان له بدن وروح، كما لسائر البشر، واتحد به عندهم اللاهوت، فهو عندهم اسم يقع على بدن وروح آدميين وعلى اللاهوت، وحينئذ فاللاهوت على رأيهم إنما اتحد في لطيف وهو الروح، وكثيف وهو البدن، لم يظهر في كثيف فقط، ولولا اللطيف الذي كان مع الكثيف، وهو الروح - لم يكن للكثيف فضيلة ولا شرف.

الوجه الثاني عشر: أنهم يشبهون اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن، كما شبهوا هنا ظهوره فيه بظهور الروح في البدن، وحينئذ فمن المعلوم أن ما يصيب البدن من الآلام تتألم به الروح، وما تتألم به الروح يتألم به البدن، فيلزمهم أن يكون الناسوت لما صلب وتألم وتوجع الوجع الشديد كان اللاهوت أيضا متألما متوجعا، وقد خاطبت بهذا بعض النصارى فقال لي: الروح بسيطة، أي لا يلحقها ألم، فقلت له: فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت، أمنعمة أو معذبة؟ فقال: هي في العذاب، فقلت: فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذب، فإذا شبهتم اللاهوت في الناسوت بالروح في البدن لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت كما تتألم الروح إذا تألم البدن، فاعترف هو وغيره بلزوم ذلك.

الوجه الثالث عشر: أن قولهم: وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف - فكلمة الله لا تظهر إلا في كثيف كلا، تركيب فاسد لا دلالة فيه، وإنما يدل إذا بينوا أن كل لطيف يظهر في كثيف، ولا يظهر في غيره حتى يقال: فلهذا ظهر الله في كثيف ولم يظهر في لطيف، وإلا فإذا قيل: إنه لا يحل لا في لطيف، ولا كثيف، أو قيل إنه يحل فيهما - بطل قولهم بوجوب حلوله في المسيح الكثيف دون اللطيف، وهم لم يؤلفوا الحجة تأليفا منتجا، ولا دلوا على مقدماتها بدليل، فلا أتوا بصورة الدليل، ولا مادته، بل مغاليط لا تروج إلا على جاهل يقلدهم.

ولا يلزم من حلول الروح في البدن أن يحل كل شيء في البدن، بل هذه دعوى مجردة، فأرواح بني آدم تظهر في أبدانهم، ولا تظهر في أبدان البهائم، بل ولا في الجن، والملائكة تتصور في صورة الآدميين، وكذلك الجن، والإنسان لا يظهر في غير صورة الإنسان، فأي دليل من كلامهم على أن الرب يحل في الإنسان الكثيف، ولا يحل في اللطيف؟

والقوم شرعوا يحتجون على تجسيم كلمة الله الخالقة فقالوا: وأما تجسيم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، فإن الله لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب وليس فيما ذكروه قط دلالة لا قطعية ولا ظنية على تجسيم كلمة الله الخالقة وولادتها مع الناسوت.

الوجه الرابع عشر: أنهم قالوا: وأما تجسيم كلمة الله الخالقة، ثم قالوا: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف، فتارة يجعلونها خالقة، وتارة يجعلونها مخلوقا بها، ومعلوم أن الخالق ليس هو المخلوق به، والمخلوق به ليس هو الخالق، فإن كانت الكلمة خالقة، فهي خلقت الأشياء، ولم تخلق الأشياء بها، وإن كانت الأشياء خلقت بها، فلم تخلق الأشياء، بل خلقت الأشياء بها، ولو قالوا: إن الأشياء خلقت بها بمعنى أن الله إذا أراد أمرا فإنما يقول له: كن فيكون، لكان هذا حقا، لكنهم يجعلونها خالقة، مع قولهم بما يناقض ذلك.

الوجه الخامس عشر: أن يقال لهم: إذا كان الله لم يخاطب بشرا إلا وحيا أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء - فتكليمه للبشر بالوحي ومن وراء حجاب، كما كلم موسى، وبإرسال ملك، كما أرسل الملائكة - إما أن يكون كافيا في حصول مراد الرب من الرسالة إلى عباده، أو ليس كافيا، بل لا بد من حلوله نفسه في بشر، فإن كان ذلك كافيا أمكن أن يكون المسيح مثل غيره فيوحي الله إليه أو يرسل إليه ملكا فيوحي بإذن الله ما يشاء، أو يكلمه من وراء حجاب كما كلم موسى، وحينئذ فلا حاجة به إلى اتحاده ببشر مخلوق، وإن كان التكلم ليس كافيا وجب أن يتحد بسائر الأنبياء، كما اتحد بالمسيح فيتحد بنوح وإبراهيم وموسى وداود وغيرهم، يبين هذا:

الوجه السادس عشر: وهو أنه من المعلوم أن الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح أفضل من عوام النصارى الذين كانوا بعد المسيح، وأفضل من اليهود الذين كذبوا المسيح فإذا كان الرب قد يفضل باتحاده في المسيح حتى كلم عباده بنفسه، فيتحد بالمسيح محتجبا ببدنه الكثيف، وكلم بنفسه اليهود المكذبين للمسيح وعوام النصارى، وسائر من كلمه المسيح، فكان أن يكلم من هم أفضل من هؤلاء من الأنبياء والصالحين بنفسه أولى وأحرى، مثل أن يتحد بإبراهيم الخليل، فيكلم إسحاق ويعقوب ولوطا محتجبا ببدن الخليل، أو يتحد بيعقوب فيكلم أولاده أو غيرهم محتجبا ببدن يعقوب أو يتحد بموسى بن عمران فيكلم هارون ويوشع بن نون وغيرهما محتجبا ببدن موسى، فإذا كان هو سبحانه لم يفعل ذلك، إما لامتناع ذلك، وإما لأن عزته وحكمته أعلى من ذلك مع عدم الحاجة إلى ذلك، علم أنه لا يفعل ذلك في المسيح بطريق الأولى والأحرى.

الوجه السابع عشر: أنه إذا أمكنه أن يتحد ببشر فاتحاده بملك من الملائكة أولى وأحرى، وحينئذ فقد كان اتحاده بجبريل الذي أرسله إلى الأنبياء أولى من اتحاده ببشر يخاطب اليهود، وعوام النصارى.

فصل: تفنيد مراد النصارى بظهور الله في عيسى

قالوا: ولذلك ظهر في عيسى ابن مريم، إذ الإنسان أجل ما خلقه الله، ولهذا خاطب الخلق، وشاهدوا منه ما شاهدوا.

فيقال: إن ادعيتم ظهوره في عيسى كما ظهر في إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، وكما يظهر في بيوته التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وذلك بظهور نوره ومعرفته، وذكر أسمائه وعبادته ونحو ذلك، من غير حلول ذاته في البشر ولا اتحاده به، فهذا أمر مشترك بين المسيح وغيره فلا اختصاص للمسيح بهذا، وهذا أيضا قد يسمى حلولا، وعندهم أن الله يحل في الصالحين، وهذا مذكور عندهم في بعض الكتب الإلهية، كما في كتبهم في المزمور الرابع من الزبور، يقول داود عليه السلام في مناجاته لربه: وليفرح المتوكلون عليك إلى الأبد، ويبتهجون، وتحل فيهم ويفتخرون. فأخبر أنه يحل في الصالحين المذكورين، فعلم أن هذا لا اختصاص للمسيح به، وليس المراد بهذا - باتفاقهم واتفاق المسلمين - أن ذات الله نفسه تتحد بالبشر، ويصير اللاهوت والناسوت كالنار والحديد، والماء واللبن، ونحو ذلك مما يمثلون به الاتحاد، بل هذا يراد به حلول الإيمان به ومعرفته، ومحبته وذكره وعبادته، ونوره وهداه.

وقد يعبر عن ذلك بحلول المثال العلمي، كما قال تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله.

وقال تعالى: وهو الله في السماوات وفي الأرض؛

وله المثل الأعلى في السماوات والأرض.

فهو سبحانه له المثل الأعلى في قلوب أهل السماوات وأهل الأرض.

ومن هذا الباب ما يرويه النبي عن ربه قال: يقول الله: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه، فأخبر أن شفتيه تتحرك به أي باسمه، وكذلك قوله في الحديث الصحيح: عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول العبد: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده. فقال: لوجدتني عنده ولم يقل: لوجدتني إياه، وهو عنده أي في قلبه، والذي في قلبه المثال العلمي. وقال تعالى: عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولم يقل لوجدتني قد أكلته.

وكذلك قوله في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، عن أبي هريرة عن النبي قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. وفي رواية: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته.

وهذا الحديث قد يحتج به القائلون بالحلول العام أو الاتحاد العام أو وحدة الوجود، وقد يحتج به من يقول بالخاص من ذلك، كأشباه النصارى.

والحديث حجة على الفريقين، فإنه قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، فأثبت ثلاثة: وليا له، وعدوا يعادي وليه، وميز بين نفسه وبين وليه، وعدو وليه، فقال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، ولكن دل ذلك على أن وليه الذي والاه فصار يحب ما يحب ويبغض ما يبغض، ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي، فيكون الرب مؤذنا بالحرب لمن عاداه، بأنه معاد لله.

ثم قال تعالى: وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ففرق بين العبد المتقرب، والرب المتقرب إليه، ثم قال: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فبين أنه يحبه بعد تقربه بالنوافل والفرائض.

ثم قال: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وعند أهل الحلول والاتحاد العام أو الوحدة: هو صدره وبطنه وظهره ورأسه وشعره، وهو كل شيء، أو في كل شيء قبل التقرب وبعده، وعند الخاص وأهل الحلول صار هو، وهو كالنار والحديد والماء واللبن، لا يختص بذلك آلة الإدراك والفعل.

ثم قال تعالى: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، وعلى قول هؤلاء - الرب هو الذي يسمع ويبصر ويبطش ويمشي، والرسول إنما قال: فبي، ثم قال: ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، فجعل العبد سائلا مستعيذا، والرب مسئولا مستعاذا به، وهذا يناقض الاتحاد، وقوله: فبي يسمع مثل قوله: ما تحركت بي شفتاه، يريد به المثال العلمي.

وقول الله: فيكون الله في قلبه أي معرفته ومحبته وهداه وموالاته، وهو المثل العلمي، فبذاك الذي في قلبه يسمع ويبصر ويبطش ويمشي.

والمخلوق إذا أحب المخلوق أو عظمه أو أطاعه يعبر عنه بمثل هذا، فيقول: أنت في قلبي وفي فؤادي، وما زلت بين عيني، ومنه قول القائل:

مثالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب

وقول الآخر:

ومن عجبي أني أحن إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

ومثل هذا كثير مع علم العقلاء أن نفس المحبوب المعظم هو في نفسه ليست ذاته في عين محبه ولا في قلبه، ولكن قد يشتبه هذا بهذا حتى يظن الغالطون أن نفس المحبوب المعبود في ذات المحب العابد.

ولذلك غلط بعض الفلاسفة حتى ظنوا أن ذات المعلوم المعقول يتحد بالعالم العاقل، فجعلوا المعقول والعقل والعاقل شيئا واحدا، ولم يميزوا بين حلول مثال المعلوم، وبين حلول ذاته، وهذا يكون لضعف العقل وقوة سلطان المحبة والمعرفة، فيغيب الإنسان بمعبوده عن عبادته، وبمحبوبه عن محبته، وبمشهوده عن شهادته، وبمعروفه عن معرفته، فيفنى من لم يكن عن شهود العبد، لا أنه نفسه يعدم ويفنى في من لم يزل في شهوده، ومن هذا المقام إذا غلط قد يقول مثل ما يحكى عن أبي يزيد البسطامي: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، وفي هذا تذكر حكاية، وهو أن شخصا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في ماء، فألقى المحب نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فلم وقعت أنت؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني، فهذا العبد المحب لما استولى على قلبه سلطان المحبة صار قلبه مستغرقا في محبوبه، لا يشهد قلبه غير ما في قلبه وغاب عن شهود نفسه وأفعاله، فظن أنه هو نفس المحبوب، وهذا أهون من أن يظن أن ذات المحبوب نفسه.

فهذا الظن لاتحاد الذات أو لحلولها ظن غالط وقع فيه كثير من الناس، فالذين قالوا: إن المسيح أو غيره من البشر هو الله، أو إن الله حال فيه قد يكون غلطهم من هذا الجنس، لما سمعوا كلاما يقتضي أن الله في ذات الشخص، وجعلوا فعل هذا فعل هذا، ظنوا ذاك اتحاد الذات وحلولها.

وإنما المراد أن معرفة الله فيه، واتحاد المأمور به والمنهي عنه والموالي والمعادي، كقوله تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله.

وقوله: من يطع الرسول فقد أطاع الله.

وليس ذلك لأن الرسول هو الله، ولا لأن نفسه حال في الرسول، بل لأن الرسول يأمر بما أمر الله به، وينهى عما ينهى الله عنه، ويحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله.

فمن بايعه على السمع والطاعة، فإنما بايع الله على السمع والطاعة، ومن أطاعه فإنما أطاع الله.

وكذلك المسيح وسائر الرسل؛ إنما يأمرون بما يأمر الله به، وينهون عما ينهى الله عنه ويوالون أولياء الله، ويعادون أعداء الله، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن صدقهم فقبل منهم ما أخبروا به، فقد قبل عن الله، ومن والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم وحاربهم فقد عادى الله وحارب الله، ومن تصور هذه الأمور تبين له أن لفظ الحلول قد يعبر به عن معنى صحيح، وقد يعبر به عن معنى فاسد.

وكذلك حلول كلامه في القلوب، ولذلك كره أحمد بن حنبل الكلام في لفظ حلول القرآن في القلوب، كما قد ذكر في غير هذا الموضع.

ومما يوضح هذا أن الشيء له وجود في نفسه هو، وله وجود في المعلوم والأذهان، ووجود في اللفظ واللسان، ووجود في الخط والبيان، ووجود عيني شخصي، وعلمي ولفظي، ورسمي، وذلك كالشمس مثلا فلها تحقق في نفسها، وهي الشمس التي في السماء، ثم يتصور بالقلب الشمس، ثم ينطق اللسان بلفظ الشمس، ويكتب بالقلم الشمس.

والمقصود بالكتابة مطابقة اللفظ، وباللفظ مطابقة العلم، وبالعلم مطابقة المعلوم، فإذا رأى الإنسان في كتاب خط الشمس، أو سمع قائلا يذكر قال: هذه الشمس قد جعلها الله سراجا وهاجا، وهذه الشمس تطلع من المشرق وتغرب في المغرب، فهو يشير إلى ما سمعه من اللفظ ورآه من الخط، وليس مراده نفس اللفظ والخط، فإن ذلك ليس هو الشمس التي تطلع وتغرب، وإنما مراده ما يقصد بالخط واللفظ ويراد بهما، وهو المدلول المطابق لهما، وكذلك قد يرى اسم الله مكتوبا في كتاب، ومعه اسم صنم، فيقول: آمنت بهذا، وكفرت بهذا، ومراده أنه مؤمن بالله كافر بالصنم، فيشير إلى اسمه المكتوب ومراده المسمى بهذا الاسم، وكذلك إذا سمع من يذكر أسماء الله الحسنى قال: هذا رب العالمين، ومراده: المسمى بتلك الأسماء، ومن هذا قول أنس بن

مالك: كان نقش خاتم النبي ثلاثة أسطر: محمد رسول الله، محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر.

ومراده بهذه الأسماء الخط لهذا وهذا وهذا، لا اللفظ ولا المسمى.

ومما يشبه هذا ما يرى في المرآة أو الماء، مثل أن يرى الشمس أو غيرها في ماء أو مرآة، فيشار إلى المرئي فيقال: هذا الشمس، وهذا وجهي أو وجه فلان، وليس مراده أن نفس الشمس أو وجهه أو وجه فلان حل في الماء أو المرآة، ولكن لما كان المقصود بتلك الرؤية هو الشمس وهو الوجه - ذكره، ثم قد يقال: رآه رؤية مقيدة في الماء، أو المرآة، وقد يقال: رآه بواسطة الماء والمرآة، وقد يقال: رأى مثاله وخياله المحاكي له، ولكن المقصود بالرؤية هو نفسه، ومثل هذا كثير.

ومعلوم أن ما في القلوب من المثال العلمي المطابق للمعلوم أقرب إليه من اللفظ، واللفظ أقرب من الخط، فإذا كان قد يشار إلى اللفظ والخط، والمراد هو نفسه، وإن لم يكن الخط واللفظ هو ذاته، بل به ظهر وعرف، فلأن يشار إلى ما في القلب، ويراد به المعروف الذي ظهر للقلب وتجلى للقلب، وصار نوره في القلب بطريق الأولى.

والعقلاء إنما تتوجه قلوبهم إلى المقصود المراد دون الوسائل، ويعبرون بعبارات تدل على ذلك لظهور مرادهم بها، كما يقولون لمن يعرف علم غيره، أو لمن يأمر بأمره، ويخبر بخبره، هذا فلان، فإذا كان مطلوبهم علم عالم أو طاعة أمير، فجاء نائبه القائم مقامه في ذلك، قالوا: هذا فلان، أي المطلوب منه هو مع هذا، فالاتحاد المقصود بهما يعبرون عن أحدهما بلفظ الآخر.

كما يقال: عكرمة هو ابن عباس، وأبو يوسف هو أبو حنيفة، ومن هذا الباب ما يذكر عن المسيح عليه السلام أنه قال: أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي.

وقوله تعالى فيما حكاه عن رسوله: عبدي مرضت فلم تعدني، عبدي جعت فلم تطعمني، ويشبهه قوله: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله.

فينبغي أن يعرف هذا النوع من الكلام، فإنه تنحل به إشكالات كثيرة، فإن هذا موجود في كلام الله ورسله وكلام المخلوقين، في عامة الطوائف مع ظهور المعنى ومعرفة المتكلم والمخاطب أنه ليس المراد أن ذات أحدهما اتحدت بذات الآخر.

بل أبلغ من ذلك يطلق لفظ الحلول والاتحاد، ويراد به معنى صحيح، كما يقال فلان وفلان بينهما اتحاد، إذا كانا متفقين فيما يحبان ويبغضان، ويواليان ويعاديان، فلما اتحد مرادهما ومقصودهما صار يقال هما متحدان، وبينهما اتحاد، ولا يعني بذلك أن ذات هذا اتحدت بذات الآخر، كاتحاد النار والحديد، والماء واللبن، أو النفس والبدن، وكذلك لفظ الحلول، والسكنى، والتخلل وغير ذلك، كما قيل:

قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا

والمتخلل مسلك الروح منه هو محبته له وشعوره به، ونحو ذلك، لا نفس ذاته، وكذلك قول الآخر:

ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره

والساكن في القلب هو مثاله العلمي ومحبته ومعرفته، فتسكن في القلب معرفته ومحبته لا عين ذاته، وكذلك قول الآخر:

إذا سكن الغدير على صفاء وجنب أن يحركه النسيم

بدت فيه السماء بلا امتراء كذاك الشمس تبدو والنجوم

كذاك قلوب أرباب التجلي يرى في صفوها الله العظيم

وقد يقال: فلان ما في قلبه إلا الله، وما عنده إلا الله، يراد بذلك: إلا ذكره ومعرفته ومحبته وخشيته وطاعته، وما يشبه ذلك، أي ليس في قلبه ما في قلب غيره من المخلوقين، بل ما في قلبه إلا الله وحده، ويقال: فلان ما عنده إلا فلان، إذا كان يلهج بذكره، ويفضله على غيره.

وهذا باب واسع، مع علم المتكلم والمستمع أن ذات فلان لم تحل في هذا، فضلا عن أن تتحد به، وهو كما يقال عن المرآة إذا لم تقابل إلا الشمس: ما فيها إلا الشمس، أي لم يظهر فيها غير الشمس.

وأيضا فلفظ الحلول يراد به حلول ذات الشيء تارة، وحلول معرفته ومحبته ومثاله العلمي تارة كما تقدم ذكره، وعندهم في النبوات أن الله حل في غير المسيح من الصالحين، وليس المراد به أن ذات الرب حلت فيه، بل يقال فلان ساكن في قلبي وحال في قلبي وهو في سري، وسويداء قلبي، ونحو ذلك، وإنما حل فيه مثاله العلمي، وإذا كان كذلك فمعلوم أن المكان إذا خلا ممن يعرف الله ويعبده لم يكن هناك ذكر الله ولا حلت فيه عبادته ومعرفته، فإذا صار في المكان من يعرف الله ويعبده ويذكره ظهر فيه ذكره والإيمان به وحل فيه الإيمان بالله وعبادته وذكره، وهو بيت الله عز وجل فيقال: إن الله فيه، وهو حال فيه.

كما يقال: إن الله في قلوب العارفين، وحال فيهم، والمراد به حلول معرفته والإيمان به ومحبته، ونحو ذلك، وقد تقدم شواهد ذلك، فإذا كان الرب في قلوب عباده المؤمنين، أي نوره ومعرفته، وعبر عن هذا بأنه حال فيهم وهم حالون في المسجد - قيل: إن الله في المسجد، وحال فيه، بهذا المعنى، كما يقال: الله في قلب فلان وفلان، ما عنده إلا الله، كما قال النبي في الحديث الصحيح: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده.

ومما يزيد ذلك إيضاحا ما يراه النائم من بعض الأشخاص في منامه، فيخاطبه ويأمره وينهاه ويخبره بأمور كثيرة، وهو يقول: رأيت فلانا في منامي فقال لي: كذا، وقلت له: كذا، وفعل كذا، وفعلت كذا، ويذكر أنواعا من الأقوال والأفعال.

وقد يكون فيها علوم وحكم وآداب ينتفع بها غاية المنفعة، وقد يكون ذلك الشخص الذي رأى في المنام حيا، وهو لا يشعر بأن ذاك رآه في منامه فضلا عن أن يكون شاعرا بأنه قال أو فعل، وقد يقص الرائي عليه رؤياه، ويقول له الرائي: يا سيدي رأيتك في المنام فقلت لي: كذا، وأمرتني بكذا، ونهيتني عن كذا، والمرئي لا يعرف ذلك، ولا يشعر به، لأن المرئي الذي حل في قلب الرائي هو المثال العلمي المطابق للعيني، كما يرى الرائي في المرآة أو الماء الشخص الموجود في الخارج، فهو المقصود، وبعض المرئيين في المنام قد يدري بأنه رئي في المنام ويكاشف بذلك الرائي كما قد يكاشفه بأمور أخرى، لا لأنه نفسه حل فيه.

والرؤيا إذا كانت صادقة كان ذلك القول والعمل مناسبا لحال المرئي، مما هو عادته يقوله ويفعله بنفسه، فمثل للرائي مثاله قائلا له وفاعلا؛ ليعلم أنه نفسه يقوله ويفعله فينتفع بذلك الرائي، كما يحكى للإنسان قول غيره وعمله ليعرف بذلك نفس القول والعمل المحكي، فإن كثيرا من الأشياء لا يعرفه الناس أو أكثرهم إلا بالمثل المضروب له، إما في اليقظة وإما في المنام، مع العلم بأن عين هذا ليس عين هذا.

ومن توهم أنه إذا رأى شخصا في منامه بأن ذاته نفسها حلت فيه دل على جهله؛ فإن المرئي كثيرا ما يكون حيا وهو لا يشعر بمن رآه ذلك، لا روحه تشعر ولا جسمه، فلا يتوهم أن ذات روحه تمثلت في صورته الجسمية للنائم، بل الممثل في نفس الرائي مثال مطابق له وجسمه وروحه حيث هما.

ثم الرؤيا قد تكون من الله، فتكون حقا، وقد تكون من الشيطان، كما ثبت تقسيمها إلى هذين في الأحاديث الصحيحة، والشيطان كما قد يتمثل في المنام بصورة شخص فقد يتمثل أيضا في اليقظة بصورة شخص يراه كثير من الناس، يضل بذلك من لم يكن من أهل العلم والإيمان، كما يجري لكثير من مشركي الهند وغيرهم إذا مات ميتهم يرونه قد جاء بعد ذلك وقضى ديونا، ورد ودائع وأخبرهم بأمور عن موتاهم، وإنما هو شيطان تصور في صورته، وقد يأتيهم في صورة من يعظمونه من الصالحين، ويقول: أنا فلان، وإنما هو شيطان.

وقد يقوم شيخ من الشيوخ، ويخلف موضعه شخصا في صورته يسمونه روحانية الشيخ ورفيقه، وهو جني تصور في صورته، وهذا يقع لكثير من الرهبان وغير الرهبان من المنتسبين إلى الإسلام، وقد يرى أحدهم في اليقظة من يقول له: أنا الخليل، أو أنا موسى، أو أنا المسيح، أو محمد، أو أنا فلان لبعض الصحابة، أو الحواريين، ويراه طائرا في الهواء، وإنما يكون ذلك من الشياطين، ولا تكون تلك الصورة مثل صورة ذلك الشخص.

وقد قال النبي : من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي، فرؤيته في المنام حق، وأما في اليقظة فلا يرى بالعين هو، ولا أحد من الموتى، مع أن كثيرا من الناس قد يرى في اليقظة من يظنه نبيا من الأنبياء، إما عند قبره وإما عند غير قبره.

وقد يرى القبر انشق، وخرج منه صورة إنسان، فيظن أن الميت نفسه خرج من قبره، أو أن روحه تجسدت وخرجت من القبر، وإنما ذلك جني تصور في صورته ليضل ذلك الرائي، فإن الروح ليست مما تكون تحت التراب وينشق عنها التراب، فإنها وإن كانت قد تتصل بالبدن، فلا يحتاج في ذلك إلى شق التراب، والبدن لم ينشق عنه التراب، وإنما ذلك تخييل من الشيطان، وقد جرى مثل هذا لكثير من المنتسبين إلى المسلمين، وأهل الكتاب والمشركين. ويظن كثير من الناس أن هذا من كرامات عباد الله الصالحين، ويكون من إضلال الشياطين، كما قد بسط الكلام في هذا الباب في غير هذا الكتاب، مثل الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وغير ذلك.

فصل

وإذا أردتم بقولكم: ظهر في عيسى حلول ذاته واتحاده بالمسيح أو غيره - فهذه دعوى مجردة من غير دليل متقدم ولا متأخر، وكون الإنسان أجل ما خلقه الله - لو كان مناسبا لحلوله فيه - أمر لا يختص به المسيح، بل قد قام الدليل على أن غير عيسى عليه السلام أفضل منه مثل إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وهذان اتخذهما الله خليلين، وليس فوق الخلة مرتبة، فلو كان يحل في أجل ما خلقه الله من الإنسان لكونه أجل مخلوقاته لحل في أجل هذا النوع، وهو الخليل، ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وليس معهم قط حجة على أن الجسد المأخوذ من مريم إذا لم يتحد باللاهوت على أصلهم - أنه أفضل من الخليل وموسى.

وإذا قالوا: إنه لم يعمل خطيئة، فيحيى بن زكريا لم يعمل خطيئة، ومن عمل خطيئة وتاب منها فقد يصير بالتوبة أفضل مما كان قبل الخطيئة، وأفضل ممن لم يعمل تلك الخطيئة، والخليل وموسى أفضل من يحيى الذي يسمونه يوحنا المعمداني.

وأما قولهم: ولهذا خاطب الخلق، فالذي خاطب الخلق هو عيسى ابن مريم، وإنما سمع الناس صوته لم يسمعوا غير صوته، والجني إذا حل في الإنسان وتكلم على لسانه يظهر للسامعين أن هذا الصوت ليس هو صوت الآدمي، ويتكلم بكلام يعلم الحاضرون أنه ليس كلام الآدمي.

والمسيح عليه السلام لم يكن يسمع منه إلا ما يسمع من مثله من الرسل، ولو كان المتكلم على لسان الناسوت هو جنيا أو ملكا لظهر ذلك، وعرف أنه ليس هو البشر، فكيف إذا كان المتكلم هو رب العالمين؟ فإن هذا لو كان حقا لظهر ظهورا أعظم من ظهور كلام الملك والجني على لسان البشر بكثير كثير.

وأما ما شاهدوه من معجزات المسيح عليه الصلاة والسلام، فقد شاهدوا من غيره ما هو مثلها وأعظم منها، وقد أحيا غيره الميت وأخبره بالغيوب أكثر منه، ومعجزات موسى أعظم من معجزاته أو أكثر، وظهور المعجزات على يديه يدل على نبوته ورسالته، كما دلت المعجزات على نبوة غيره، ورسالتهم، لا تدل على الإلهية.

والدجال لما ادعى الإلهية لم يكن ما يظهر على يديه من الخوارق دليلا عليها، لأن دعوى الإلهية ممتنعة، فلا يكون في ظهور العجائب ما يدل على الأمر الممتنع.

فصل

قالوا: وقد قال الله على أفواه الأنبياء والمرسلين، الذين تنبوا على ولادته من العذراء الطاهرة مريم، وعلى جميع أفعاله التي فعلها في الأرض، وصعوده إلى السماء، وهذه النبوات جميعها عند اليهود مقرين ومعترفين بها ويقرؤنها في كنائسهم، ولم ينكروا منها كلمة واحدة.

فيقال: هذا كله مما لا ينازع المسلمون فيه، فإنه لا ريب أنه ولد من مريم العذراء البتول التي لم يمسها بشر قط، وأن الله أظهر على يديه الآيات، وأنه صعد إلى السماء، كما أخبر الله بذلك في كتابه، كما تقدم ذكره، فإذا كان هذا مما أخبرت به الأنبياء في النبوات التي عند اليهود لم ينكروا ذلك، وإن كان اليهود يتأولون ذلك على غير المسيح، كما في النبوات من البشارة بمحمد ، فهو حق، وإن كان الكافرون به من أهل الكتاب يتأولون ذلك على غيره.

فصل: نقاش ما نقلوه عن الأنبياء عن مجيء المسيح عليه السلام وبيان وجه الدلالة

قالوا: وسبيلنا أن نذكر من بعض قول الأنبياء الذين تنبوا على السيد المسيح، ونزوله إلى الأرض، قال عزرا الكاهن حيث سباهم بختنصر الفريدي إلى أرض بابل إلى أربعمائة واثنتين وثمانين سنة: يأتي المسيح ويخلص الشعوب والأمم، وفي كمال هذه المدة أتى السيد المسيح. وقال أرميا النبي عن ولادته في ذلك الزمان: يقوم لداود ابن هو ضوء النور يملك الملك ويعلم ويفهم ويقيم الحق والعدل في الأرض ويخلص من آمن به من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم، ويبقى بيت المقدس بغير مقاتل ويسمى الإله. وأما قوله: ابن لداود لأن مريم كانت من نسل داود ولأجل ذلك قال النبي: يقوم لداود ابن.

فيقال: أما قول عزرا الكاهن فليس فيه إلا إخباره بأنه يأتي المسيح ويخلص الشعوب والأمم، وهذا مما لا ينازع فيه المسلمون، فإنهم يقرون بما أخبر الله به في كتابه من إتيان المسيح عليه السلام، وتخليص الله به كل من آمن به من الشعوب والأمم إلى أن بعث محمد .

فكل من كان مؤمنا بالمسيح، متبعا لما أنزل عليه من غير تحريف ولا تبديل، فإن الله خلصه بالمسيح من شر الدنيا والآخرة، كما خلص الله تعالى بموسى من اتبعه من بني إسرائيل.

ومن حرف وبدل فلم يتبع المسيح، ومن كذب محمدا فهو كمن كذب المسيح بعد أن كان مقرا بموسى عليه السلام.

ولكن هذا النص وأمثاله حجة على اليهود الذين يتأولون ذلك على أن هذا ليس هو المسيح ابن مريم، وإنما هو مسيح ينتظر، وإنما ينتظرون المسيح الدجال مسيح الضلالة، فإن اليهود يتبعونه ويقتلهم المسلمون معه (حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله) وهكذا يقال في النبوة الثانية التي ذكروها عن أرميا النبي عليه السلام.

فصل

قالوا: وقال أرميا النبي عن ولادته في ذلك الزمان: يقوم لداود ابن، وهو ضوء النور يملك الملك، ويعلم ويفهم ويقيم الحق والعدل في الأرض، ويخلص من آمن به من اليهود، من بني إسرائيل وغيرهم ويبقى بيت المقدس بغير مقاتل، ويسمى الإله، وأما قوله: ابن لداود لأن مريم كانت من نسل داود، ولأجل ذلك قال: (ويقوم لداود ابن).

والجواب أن يقال: قد قال فيه: ويخلص من آمن به من اليهود، ومن بني إسرائيل. وهو كما فسرنا به التخليص الذي نقله عن عزرا الكاهن.

وأما قوله: واسمه الإله فهذا يدل على أنه ليس هو الله رب العالمين، وإنما لفظ الإله اسم سمي به كما سمي موسى إلها لفرعون عندهم في التوراة، 9 إذ لو كان هو الله رب العالمين لكان أجل من أن يقال ويسمى الإله، فإن الله تبارك وتعالى لا يعرف بمثل هذا ويقال فيه: إن الله يسمى الإله، ولقال: يأتي الله بنفسه فيظهر. وقال: يملك الملك، ورب العالمين ما زال ولا يزال مالكا للملك سبحانه.

وأيضا فإنه قال: يقوم لداود ابن هو ضوء النور، ومعلوم أن الابن الذي من نسل داود الذي اسم أمه مريم هو الناسوت فقط، فإن اللاهوت ليس هو من نسل البشر، وقد تبين أن هذا الناسوت الذي هو ابن داود، يسمى الإله، فعلم أن هذا اسم للناسوت المخلوق لا للإله الخالق.

وأيضا فإنه قال: وهو ضوء النور لم يجعله النور نفسه، بل جعله ضوء النور، والله تعالى منور كل نور، فكيف يكون هو ضوء النور، والله تعالى قد سمى محمدا سراجا منيرا، ولم يكن بذلك خالقا، فكيف إذا سمي ضوء النور؟

وأيضا فإنه لم يجعل القائم إلا ابن داود، وابن داود مخلوق؛

وأضاف الفعل إلى هذا المخلوق، ولو كان هذا هو الله رب العالمين قد اتحد بالناسوت البشري لبين أرميا، وغيره من الأنبياء ذلك بيانا قاطعا للعذر، ولم يكتفوا بمثل هذه الألفاظ التي هي إما صريحة أو ظاهرة في نقيض ذلك، أو مجملة لا تدل على ذلك، فإنه من المعلوم أن إخبارهم بإتيان نبي من الأنبياء أمر معتاد ممكن، ومع هذا يذكرون فيه من البشارات والدلائل الواضحة ما يزيل الشبهة.

وأما الإخبار بمجيء الرب نفسه وحلوله أو اتحاده بناسوت بشري فهو: إما ممتنع غير ممكن كما يقوله أكثر العقلاء من بني آدم، ويقولون: يعلم بصريح العقل أن هذا ممتنع. وإما ممكن كما يقوله بعض الناس، وحينئذ فإمكانه خفي على أكثر العقلاء وهو أمر غير معتاد، وإتيان الرب بنفسه أعظم من إتيان كل رسول ونبي، لا سيما إذا كان إتيانه باتحاده ببشر لم يظهر على يديه من الآيات ما يختص بالإلهية، بل لم يظهر على يديه إلا ما ظهر على يد غيره من الأنبياء ما هو مثله أو أعظم منه، والله تعالى لما كان يكلم موسى ولم يكن موسى يراه، ولا يتحد لا بموسى ولا بغيره، ومع هذا فقد أظهر من الآيات على ذلك، وعلى نبوة موسى ما لم يظهر مثله ولا قريب منه على يد المسيح.

فلو كان هو بذاته متحدا بناسوت بشري لكان الأنبياء يخبرون بذلك إخبارا صريحا بينا لا يحتمل التأويلات، ولكان الرب يظهر على ذلك من الآيات ما لم يظهر على يد رسول ولا نبي، فكيف والأنبياء لم ينطقوا في ذلك بلفظ صريح، بل النصوص الصريحة تدل على أن المسيح مخلوق ولم تأت آية على خلاف ذلك، بل إنما تدل الآيات على نبوة المسيح.

فصل

قالوا: وقال أشعيا النبي: قل لصهيون هنا تفرح وتتهلل، فإن الله يأتي ويخلص الشعوب، ويخلص من آمن به وبشعبه ويخلص مدينة بيت المقدس، ويظهر الله ذراعه الطاهر فيها لجميع الأمم المبددين ويجعلهم أمة واحدة، ويبصرون جميع أهل الأرض من خلاص الله، لأنه يمشي معهم وبين يديهم، ويجمعهم إله إسرائيل.

فيقال: هذا محتاج أولا أن يعلم من هذه النبوة أن هذا الكلام نقل بلا تحريف للفظه، ولا غلط في الترجمة، ولم يثبت ذلك،

وإذا ثبت ذلك فحينئذ هو نظير ما في التوراة من قوله: (جاء الله من طور سينا، وأشرف من ساعير، واستعلن من جبال فاران).

ومعلوم أنه ليس في هذا ما يدل على أن الله حال في موسى بن عمران، ومتحد به، ولا أنه حال في جبل فاران، ولا أنه متحد بشيء من طور سينا، ولا ساعير.

وكذلك هذا اللفظ لا يدل على أنه حال في المسيح ومتحد به، إذ كلاهما سواء، وإذا قيل: المراد بذلك قربه ودنوه كتكليم موسى، وظهور نوره وهداه وكتابه ودينه، ونحو ذلك من الأمور التي وقعت، قيل: وهكذا في المسيح عليه السلام.

وقوله: ويظهر الله ذراعه الطاهر لجميع الأمم المبددين، قد قال في التوراة مثل هذا في غير موضع، ولم يدل ذلك على اتحاده بموسى عليه السلام.

وأما قوله عن الأمم المبددين: فيجعلهم أمة واحدة، فهم الذين اتبعوا المسيح، فإنهم كانوا متفرقين مبددين فجعلهم أمة واحدة.

وأما قوله: ويبصرون جميع أهل الأرض خلاص الله، لأنه يمشي معهم وبين يديهم، ويجمعهم إله إسرائيل، فمثل هذا في التوراة في غير موضع، ولم يدل ذلك على اتحاده بموسى ولا حلوله فيه، كقوله في السفر الخامس من التوراة: يقول موسى لبني إسرائيل: لا تهابوهم ولا تخافوهم، لأن الله ربكم السائر بين أيديكم هو يحارب عنكم.10

وفي موضع قال موسى: إن الشعب هو شعبك، فقال: أنا أمضي أمامك فارتحل، فقال: إن لم تمض أنت أمامنا وإلا فلا تصعدنا من هاهنا، وكيف أعلم أنا وهذا الشعب أني وجدت أمامك نعمة كذا إلا بسيرك معنا.11

وفي السفر الرابع من الفصل الثالث عشر: إن أصعدت هؤلاء من بينهم بقدرتك، فيقولون لأهل هذه الأرض الذين سمعوا أنك الله فيما بين هؤلاء القوم، يرونه عينا بعين، وغمامك يقيم عليهم، وبعمود غمام يسير بين أيديهم نهارا، وبعمود نار ليلا.12

وفي التوراة أيضا: يقول الله لموسى: (إني آت إليك في غلظ الغمام لكي يسمع القوم مخاطبتي لك).13

ثم قوله: اجمع سبعين رجلا من شيوخ بني إسرائيل وخذهم إلى خباء العرب يقفون معك حتى أخاطبهم.14

فصل

قالوا: وقال زكريا النبي: (افرحي يا بيت صهيون، لأني آتيك وأحل فيك وأترايا، قال الله: ويؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة، ويكونون له شعبا واحدا، ويحل هو وهم فيك، وتعرفين أني أنا الله القوي الساكن فيك، ويأخذ الله في ذلك اليوم الملك من يهوذا، ويملك عليهم إلى الأبد.

فيقال: مثل هذا قد ذكر عندهم عن إبراهيم وغيره من الأنبياء أن الله تجلى له، واستعلن له، وترايا له، ونحو هذه العبارات، ولم يدل ذلك على حلوله فيه واتحاده به.

وكذلك إتيانه، وهو لم يقل: إني أحل في المسيح وأتحد به، وإنما قال عن بيت صهيون: (آتيك وأحل فيك) كما قال مثل ذلك عندهم في غير هذا ولم يدل على حلوله في بشر، وكذلك قوله: (وتعرفين أني أنا الله القوي الساكن فيك) لم يرد بهذا اللفظ حلوله في المسيح، فإن المسيح لم يسكن بيت المقدس وهو قوي، بل كان يدخلها وهو مغلوب مقهور حتى أخذ وصلب أو شبهه، والله سبحانه إذا حصلت معرفته والإيمان به في القلوب اطمأنت وسكنت.

وكان بيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح عليه السلام بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك.

وجماع هذا أن النبوات المتقدمة والكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل والزبور، وسائر نبوات الأنبياء لم تخص المسيح بشيء يقتضي اختصاصه باتحاد اللاهوت به وحلوله فيه كما يقوله النصارى، بل لم تخصه إلا بما خصه الله به على لسان محمد في قول الله تعالى: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.

فكتب الأنبياء المتقدمة، وسائر النبوات موافقة لما أخبر به محمد يصدق بعضها بعضا، وسائر ما تستدل به النصارى على إلهيته من كلام الأنبياء قد يوجد مثل تلك الكلمات في حق غير المسيح، فتخصيص المسيح بالإلهية ودون غيره باطل، وذلك مثل اسم الابن والمسيح ومثل حلول روح القدس فيه، ومثل تسميته إلها، ومثل ظهور الرب أو حلوله فيه أو سكونه فيه أو في مكانه.

فهذه الكلمات وما أشبهها موجودة في حق غير المسيح عندهم، ولم يكونوا بذلك آلهة.

ولكن القائلون بالحلول والاتحاد في حق جميع الأنبياء والصالحين قد يحتجون بهذه الكلمات.

وهذا المذهب باطل باتفاق المسلمين واليهود والنصارى، وهو باطل في نفسه عقلا ونقلا، وإن كان طوائف من أهل الإلحاد والبدع المنتسبين إلى المسلمين واليهود والنصارى تقول به، فهؤلاء اشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين به، من أهل الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه والروح منه، وما يعبر عنه بالمثل الأعلى، والمثال العلمي.

وظنوا أن ذلك ذات الرب، كمن يظن أن نفس اللفظ بالاسم هو المعنى الذي في القلب، أو نفس الخط هو نفس اللفظ، ومن يظن أن ذات المحبوب حلت في ذات المحب واتحدت به، أو نفس المعروف المعلوم حل في ذات العالم العارف به واتحد به، مع العلم اليقيني أن نفس المحبوب المعلوم باين عن ذات المحب روحه وبدنه، لم يحل واحد منها في ذات المحب.

وقد قال الله تعالى: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض.

وقال تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله.

وقال تعالى: وهو الله في السماوات وفي الأرض.

فالمؤمنون يعرفون الله ويحبونه ويعبدونه ويذكرونه ويقال هو في قلوبهم، والمراد معرفته ومحبته وعبادته، وهو المثل العلمي ليس المراد نفس ذاته، كما يقول الإنسان لغيره: أنت في قلبي، وما زلت في قلبي وبين عيني، ويقال:

ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره

ويقال:

إن بيتا أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج

ومن قول القائل:

ومن عجبي أني أحن إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

وقال:

مثالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب؟

والمساجد: هي بيوت الله التي فيها يظهر ذلك، ولهذا قال تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح. قال أبي بن كعب: مثل نوره في قلوب المؤمنين.

ثم قال: نور على نور. ثم قال: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

فذكر سبحانه نوره في قلوب المؤمنين، ثم ذكر ذلك في بيوته، كذلك ما ذكر في الكتب الأولى.

وأما الإتيان والمجيء والتجلي فعندهم في التوراة يقول الله لموسى: إني آتي إليك في غلظ الغمام لكي يسمع القوم مخاطبتي لك، ثم قوله: اجمع سبعين رجلا من شيوخ بني إسرائيل، وخذهم إلى خباء العرب يقفون معك حتى أخاطبهم.14

وفي السفر الرابع لما كلم مريم وهارون في موسى: (حينئذ تجلى الله بعمود الغمام قائما على باب الخباء ونادى يا هارون ويا مريم، فخرجا كلاهما فقال: اسمعا كلامي إني أنا الله فيما بينكم).15

وفي الفصل الثالث عشر: (إن أصعدت هؤلاء من بينهم بقدرتك، فيقولون لأهل هذه الأرض الذين سمعوا أنك الله فيما بين هؤلاء القوم يرونه عينا بعين وغمامك يقيم عليهم، وبعمود غمام يسير بين أيديهم نهارا وبعمود نار ليلا).16

وفي السفر الخامس قول موسى لبني إسرائيل: (لا تهابوهم ولا تخافوهم، لأن الله ربكم السائر بين أيديكم هو يحارب عنكم).16

وفي موضع آخر قال موسى: (إن الشعب هو شعبك، فقال: يا موسى أنا أمضي أمامك فارتحل، فقال: إن لم تمض أنت معنا وإلا فلا تصعدنا من هاهنا، وكيف أعلم أنا وهذا الشعب أني وجدت أمامك نعمة كذا بعلمك إلا بسيرك معنا؟).16

وفي المزمور الرابع من الزبور عندهم يقول: (وليفرح المتكلون عليك إلى الأبد ويبتهجون ويحل فيهم ويفتخرون) 17 فأخبر أنه يحل في جميع الصديقين، أي معرفته ومحبته، فإنهم متفقون على أن ذات الله لم تحل في الصديقين، وكذلك في رسائل يوحنا الإنجيلي: (إذا أخفى بعضنا بعضا نعلم أن الله يلبث فينا) 18 أي محبته، ونظائره كثيرة.

فصل

قالوا: وقال عاموص النبي: ستشرق الشمس على الأرض، ويهتدي بها الضالون ويضل عنها بنو إسرائيل، قالوا: فالشمس هو السيد المسيح، والضالون الذين اهتدوا به هم النصارى المختلفة ألسنتهم، الذين كانوا من قبله عابدين الأصنام وضالين عن معرفة الله، فلما أتوهم التلاميذ وأنذروهم بما أوصاهم السيد المسيح فتركوا عبادة الأصنام واهتدوا باتباعهم السيد المسيح.

فيقال: هذا مما لا ينازع فيه المسلمون، وإنما ينازع في مثل هذا وأمثاله اليهود المكذبون للمسيح عليه السلام، كما ينازع كفار أهل الكتاب في محمد .

وأما المسلمون فيؤمنون بجميع كتب الله ورسله، وأن المسيح عليه الصلاة والسلام أشرق نوره على الأرض! كما أشرق قبله نور موسى عليه الصلاة والسلام، وأشرق بعده نور محمد .

وقد قال الله تعالى لمحمد : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

فسماه الله سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهاجا، والسراج المنير أكمل من السراج الوهاج، فإن الوهاج له حرارة تؤذي، والمنير يهتدى بنوره من غير أذى بوهجه.

وقال تعالى لمحمد : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.

وقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور

والمسلمون مقرون بأن كل من كان متبعا لدين المسيح عليه السلام الذي لم يغير ولم يبدل، فإنه اهتدى بالمسيح من الضلالة، ومن كفر به من بني إسرائيل، فإنه ضال، بل كافر،

كما قال تعالى: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين * وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.

وقوله: ستشرق الشمس على الأرض ويهتدي بها الضالون ويضل عنها بنو إسرائيل - يناسب قوله في التوراة: جاء الله من طور سينا وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران، 4 فإن إشراقه من ساعير هو ظهور نوره بالمسيح، كما أن مجيئه من طور سينا: هو ظهور نوره بموسى، واستعلانه من جبال فاران هو ظهور نوره بمحمد.

وبهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله في القرآن بقوله: والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين.

فبلد التين والزيتون هي الأرض المقدسة التي بعث منها المسيح، وكان بها أنبياء بني إسرائيل، وأسري بمحمد إليها وظهرت بها نبوته. وطور سينين المكان الذي كلم الله فيه موسى بن عمران، وهذا البلد الأمين هو بلد مكة التي بعث الله منه محمدا وأنزل عليه القرآن.

فصل

قالوا: وقال في السفر الثالث من أسفار الملوك: (والآن يا رب إله إسرائيل لتحقق كلامك لداود، لأنه حق أن يكون إنه سيسكن الله مع الناس على الأرض، اسمعوا أيتها الشعوب كلكم، ولتنصت الأرض، وكل من فيها، فيكون الرب عليها شاهدا من بيته القدوس، ويخرج من موضعه وينزل ويطأ على مشاريق الأرض في شأن خطيئة بني يعقوب هذا كله.

فيقال هذا السفر يحتاج إلى أن يثبت أن الذي تكلم به نبي، وأن ألفاظه ضبطت وترجمت إلى العربية ترجمة مطابقة، ثم بعد ذلك يقال فيه ما يقال في أمثاله من الألفاظ الموجودة عندهم، وليس فيها ما يدل على اتحاده بالمسيح، فإن قوله: (إن الله سيسكن مع الناس في الأرض) لا يدل على المسيح، إذ كان المسيح لم يسكن مع الناس في الأرض، بل لما أظهر الدعوة لم يبق في الأرض إلا مدة قليلة، ولم يكن ساكنا في موضع معين، وقبل ذلك لم يظهر عنه شيء من دعوى النبوة فضلا عن الإلهية، ثم إنه بعد ذلك رفع إلى السماء فلم يسكن مع الناس في الأرض، وأيضا فإذا قالوا: سكونه هو ظهوره في المسيح عليه السلام، قيل لهم: أما الظهور الممكن المعقول، كظهور معرفته ومحبته ونوره وذكره وعبادته، فهذا لا فرق فيه بين المسيح وغيره.

وحينئذ فليس في هذا اللفظ ما يدل على أن هذا السكون كان بالمسيح دون غيره، وإن كان بالمسيح فليس هذا من خصائصه عليه السلام، وليس في ظهوره فيه أو حلول معرفته ومحبته ومثاله العلمي ما يوجب اتحاد ذاته به.

وأما قوله: (فيكون الرب عليها شاهدا)، فيقال أولا شهود الله على عباده لا يستلزم حلوله، أو اتحاده ببعض مخلوقاته، بل هو شهيد على العباد بأعمالهم كما قال: ثم الله شهيد على ما يفعلون.

ولفظ النص: (ولتنصت الأرض، وكل من فيها فيكون الرب عليها شاهدا)، وهذا كما في التوراة: أن موسى لما خاطب بني إسرائيل أشهد عليهم. وكذلك محمد كان يقول لأمته لما بلغ الناس بقول: " ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم، فيقول: اللهم اشهد.

وحينئذ فليس في هذا تعرض لكون المسيح هو الله، وقد يقال أيضا: ليس فيه أن المراد بلفظ الرب هنا هو الله، ولفظ الرب يراد به السيد المطاع، وقد غاير بين اللفظين، فقال هناك: إنه سيسكن الله مع الناس، فقال: فيكون الرب عليها شاهدا، والأنبياء يشهدون على أممهم، كما قال المسيح عليه السلام: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم.

وقال تعالى: إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا.

وقال تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.

وقال تعالى: ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء.

وحينئذ فيكون الرب الشهيد هو المسيح، الذي هو الناسوت، وهو الذي جاء من بيت المقدس، وخرج من موضعه، ونزل ووطئ على الأرض من أجل خطيئة بني يعقوب فإنهم لما أخطأوا وبدلوا أرسل الله إليهم المسيح عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده وطاعته، فمن آمن به كان سعيدا مستحقا للثواب، ومن كفر به كان شقيا مستحقا للعذاب.

فصل

قالوا: وقال ميخا النبي: (وأنت يا بيت لحم قرية يهودا بيت أفراتا، يخرج لي رئيس الذي يرعى شعبي إسرائيل، وهو من قبل أن تكون الدنيا، لكنه لا يظهر إلا في الأيام التي تلده فيها الوالدة، وسلطانه من أقاصي الأرض إلى أقاصيها).

والجواب: أن عامة ما يذكرونه عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حجة عليهم لا لهم، كما ذكروه عن المسيح عليه السلام في أمر التثليث، فإنه حجة عليهم لا لهم، وهكذا تأملنا عامة ما يحتج به أهل البدع والضلالة من كلام الأنبياء، فإنه إذا تدبر حق التدبر وجد حجة عليهم لا لهم، فإن كلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هدى وبيان، وهم معصومون لا يتكلمون بباطل.

فمن احتج بكلامهم على باطل فلا بد أن يكون في كلامهم ما يبين به أنهم أرادوا الحق لا الباطل، وهذا مثل قوله في هذه النبوة: (منك يخرج لي رئيس)، فهذا صريح في أن هذا الذي يخرج هو رئيس الله ليس هو الله، بل هو رئيس له كسائر الرؤساء الذين لله، وهم الرسل والأنبياء المطاعون مثل: داود، و موسى، وغيرهما.

ولهذا قال: (الذي يرعى شعبي إسرائيل)، ولو كان هو، لكان هو راعي شعب نفسه، وأما قوله: (وهو من قبل أن تكون الدنيا) فهذا مثل قول النبي في حديث ميسرة الفجر، وقد قيل له: يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد " وفي لفظ: متى كتبت نبيا؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد "، وفي مسند الإمام أحمد عن العرباض بن سارية، عن النبي أنه قال: " إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول أمري، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام " فقد أخبر أنه كان نبيا، وكتب نبيا وآدم بين الروح والجسد، وأنه مكتوب عند الله خاتم النبيين وآدم منجدل في طينته.

ومراده أن الله كتب نبوته، وأظهرها وذكر اسمه، ولهذا جعل ذلك في ذلك الوقت بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه، كما يكتب رزق المولود وأجله وعمله، وشقي هو أو سعيد بعد خلق جسده، وقبل نفخ الروح فيه.

وكذلك قول القائل في المسيح عليه السلام وهو من قبل أن تكون الدنيا، فإنه مكتوب مذكور من قبل أن تكون الدنيا.

فإنه قد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو، عن النبي أنه قال: " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء ".

وفي صحيح البخاري، عن عمران بن حصين، عن النبي أنه قال: " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات

والأرض ".

وهو قد قال: قبل أن تكون الدنيا، ولم يقل: إنه كان قديما أزليا مع الله لم يزل، كما يقول النصارى: إنه صفة الله الأزلية، بل وقت ذلك بقوله: " قبل أن تكون الدنيا "، ولا يحسن أن يقال في رب العالمين كان قبل أن تكون الدنيا؛ فإنه سبحانه قديم أزلي، ولا ابتداء لوجوده فلا يوقت بهذا المبدأ، لا سيما إن أريد بكون الدنيا عمارتها بآدم وذريته، فإن الدنيا قد لا تدخل فيها السماوات والأرض، بل يجعل من الآخرة، وأرواح المؤمنين في الجنة في السماوات، ويراد بالدنيا الحياة الدنيا أو الدار الدنيا.

ولهذا قال: لكنه لا يظهر إلا في الأيام التي تلده فيها الوالدة كما يظهر غيره من الأنبياء بعد أن تلده أمه.

والوالدة إنما ولدت الناسوت، وأما اللاهوت فهو عندهم مولود من الله القديم الأزلي، وإذا قالوا فهي ولدت اللاهوت مع الناسوت كان هذا معلوم الفساد من وجوه كثيرة، وإذا قيل: لم خص عيسى المسيح عليه السلام بالذكر؟ قيل: كما خص محمد بالذكر، لأن أمر المسيح كان أظهر وأعظم ممن قبله من الأنبياء بعد موسى.

وكذلك أمر محمد كان أظهر وأعظم من أمر جميع الأنبياء قبله، وإذا عظم الشيء كان ظهوره في الكتاب أعظم.

وظن بعض النصارى أن المراد بذلك وجود ذات المسيح، يضاهي ظن طائفة من غلاة المنتسبين إلى الإسلام وغيرهم الذين يقولون: إن ذات النبي كانت موجودة قبل خلق آدم، ويقولون: إنه خلق من نور رب العالمين، ووجد قبل خلق آدم، وأن الأشياء خلقت منه حتى قد يقولون في محمد من جنس قول النصارى في المسيح، حتى قد يجعلون مدد العالم منه، ويروون في ذلك أحاديث وكلها كذب، مع أن هؤلاء لا يقولون إن المتقدم هو اللاهوت، بل يدعون تقدم حقيقته وذاته، ويشيرون إلى شيء لا حقيقة له، كما تشير النصارى إلى تقدم لاهوت اتحد به لا حقيقة له.

ومن هؤلاء الغلاة من يروي عن النبي أنه قال: " من قال: إني كلي بشر فقد كفر، ومن قال لست ببشر فقد كفر " ويحتجون بقوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم. فيجعلون فيه شيئا من اللاهوت مضاهاة للنصارى.

وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وقد ثبت عنه في الحديث الذي في الصحيحين أنه قال: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله.

وقد قال تعالى عنه: قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا.

وهذا من جنس الغلاة الذين يقولون: إن الرب يحل في الصالحين، ويتكلم على ألسنتهم، وإن الناطق في أحدهم هو الله لا نفسه، وقول هؤلاء من جنس قول النصارى في المسيح، ويقول أحدهم: إن الموحد هو الموحد، وينشدون:

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد

وهو من جنس قول الذين يجعلون روح الإنسان قديمة أزلية، ويقولون: هي صفة الله فيجعلون نصف الإنسان لاهوتا، ونصفه ناسوتا، لكن اللاهوت عندهم هو روحه، لا لاهوت واحد كما يقوله النصارى وعلى قول هؤلاء مع قول النصارى يكون في المسيح وأمثاله ممن ادعي فيه اتحاد اللاهوت به لاهوتان: روحه لاهوت والكلمة لاهوت ثان، ومن جنس هؤلاء من ينشد ما يحكى عن الحلاج أنه أنشد:

سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهرا في صورة الآكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب للحاجب

ولو قدر أن نفسه هي التي كانت قبل أن تكون الدنيا، فهذا لا يدل على أنه الله أو صفة الله، بل إذا قال من يدعي أن روحه كانت موجودة حينئذ: المراد روحه، كان هذا أقرب من قول النصارى، وفي الجملة ما يخبر عن المسيح أنه كان قبل أن تكون الدنيا بمنزلة ما عند أهل الكتاب، عن سليمان أنه قال: (كنت قبل أن تكون الدنيا) ثم قد ثبت باتفاق الخلائق أن سليمان لم يكن اللاهوت متحدا به، فعلم أن مثل هذا الكلام لا يوجب اتحاد اللاهوت به، بل المسلمون يعدلون في القول، ويفسرون كلام الله في كتبه بعضه ببعض، ويجعلون كلامه يصدق بعضه بعضا لا يناقض بعضه بعضا.

وأما أهل الضلال من النصارى وغيرهم فيفضلون المفضول على من هو أفضل منه، ويبخسون الفاضل حقه، ويغلون في المفضول ويبخسون الأنبياء حقوقهم، مثل تنقصهم لسليمان، فإن كثيرا من اليهود والنصارى يطعنون فيه.

منهم من يقول: كان ساحرا، وأنه سحر الجن بسحره.

ومنهم من يقول: سقط عن درجة النبوة، فيجعلونه حكيما لا نبيا، ولهذا ذكر الله في القرآن تبرئة سليمان عن ذلك، وذلك أن سليمان سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فسخر لسليمان الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، فسخر له الريح غدوها شهر، ورواحها شهر، ولما طلب من الملأ أن يأتوه بعرش (بلقيس) ملكة اليمن، وكان هو بالشام قال: (يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم.

فلما مات سليمان عمدت الشياطين إلى أنواع من الشرك فكتبوها ووضعوها تحت كرسيه، وقالوا: كان سليمان يسخر الجن بهذا، فصار هذا فتنة لمن صدق بذلك وصاروا طائفتين، طائفة علمت أن هذا من الشرك والسحر، وأنه لا يجوز، فطعنت في سليمان كما فعل ذلك كثير من أهل الكتاب اليهود والنصارى.

وطائفة قالت: سليمان نبي، وإذا كان قد سخر الجن بهذا دل على أن هذا جائز، فصاروا يقولون ويكتبون من الأقوال التي فيها الشرك والتعزيم والإقسام بالشرك والشياطين - ما تحبه الشياطين وتختاره ويساعدونهم لأجل ذلك على بعض مطالب الإنس، إما إخبارا بأمور غائبة يخلطون فيها كذبا كثيرا، وإما تصرفا في بعض الناس، كما يقتل الرجل أو يمرض بالسحر، أو تسرق الشياطين له بعض الأموال، ونحو ذلك مما فيه إعانة الشياطين للإنس على أمور تريدها الإنس، لأجل مطاوعة الإنس وموافقتهم للشياطين على ما تريده الشياطين من الكفر والفسوق والعصيان.

وكثير منهم يضيف ذلك إلى سليمان وإلى آصف بن برخيا ويصورون خاتم سليمان، وقد يأخذون الرجل الذي صار من إخوانهم إلى مواضع فيرونه شخصا، ويقولون: هذا سليمان بن داود، كما قد جرى مثل ذلك لمن نعرفه من المشايخ الذين كانت تقترن بهم الشياطين، وكان لهم خوارق شيطانية من جنس خوارق السحرة والكهان.

فنزه الله تعالى سليمان من كذب هؤلاء، وهؤلاء الذين جعلوه يسخر الشياطين بنوع من الشرك والسحر، هؤلاء جرحوه، وهؤلاء زعموا أنهم يتبعونه فقال تعالى:

واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون * ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون

ومثل هذا كثير يحكى عن بعض الأنبياء، أو بعض أهل العلم والدين، من أمور ليست من شرع الله، فيصدق بها بعض الناس، وتصير فتنة لطائفتين مصدقتين بها.

طائفة تقدح في ذلك النبي أو الرجل الصالح بما هو منه بريء.

وطائفة تقول: إنها تتبعه فيم يقول، وهذا موجود في كثير مما يحكيه أهل الكتاب عن الأنبياء، فإن اليهود تذكر عنهم ما يقدح في نبوتهم.

والنصارى تجعل ذلك قدوة لهم فيما يبتدعونه، وهذا مبسوط في موضع آخر، فالمقصود هنا أن الكلام الذي وصف به المسيح إما وصفه به الأنبياء قبله، أو أخبر به عن نفسه - موجود مثله في حق غيره، ولم يكن أحدهم بذلك لاهوتا وناسوتا، ولا اتحد اللاهوت بالناسوت، ولا استحق أحدهم بذلك أن يعبد ويصلى له ويسجد ويدعى كما يدعى الله، ويضاف إليه ما يضاف إلى الله من الخلق والبعث والثواب والعقاب، وليس للمسيح صلوات الله عليه آية خارقة إلا ولغيره مثلها وأعظم منها، ولا قيل فيه كلمة، إلا قيل في غيره مثلها وأعظم منها، إلا ما خصه فيه القرآن.

فصل

قالوا: وقال: حبقوق النبي: (إن الله في الأرض يتراءى، ويختلط مع الناس، ويمشي معهم). وقال أرميا النبي: (الله بعد هذا في الأرض يظهر، وينقلب مع البشر، فيقول أنا الله رب الأرباب).

والجواب: أن هذا يحتاج إلى تثبيت نبوة هذين، وإلى ثبوت النقل عنهما، وثبوت الترجمة الصحيحة المطابقة، وبعد هذا يكون حكم هذا الكلام حكم نظائره، ففي التوراة ما هو من هذا الجنس، ولم يدل ذلك باتفاق المسلمين، واليهود، والنصارى على أن الله حل في موسى، ولا في غيره من أنبياء بني إسرائيل، بل قوله يتراءى هو بمنزلة يتجلى ويظهر، وقد ذكر في التوراة أنه تجلى وتراءى لإبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم السلام من غير أن تكون ذاته حلت بأحد منهم، وما في القلوب من المثال العلمي وبمعرفته ومحبته وذكره - يطلق عليه ما يطلق على المعروف بنفسه؛ لعلم الناس أن المراد به المثال العلمي.

وما في القلوب من معرفة المعروف ومحبته ليس المراد به نفس المعروف المحبوب، فإذا قال القائل: أنت والله في قلبي، أو في سويداء قلبي، أو قال له: والله ما زلت في قلبي، وما زلت في عيني، ونحو ذلك - علم جميع الناس أنه لم يرد ذاته، فإذا رأوا من يذكر عالما مشهورا أو شيخا مشهورا، فيذكر علمه، وعمله، ويحيي ذلك بين الناس - قالوا: قد صار فلان، يعني المعروف المذكور، عندنا وبين أظهرنا لعلم المخاطبين بالمراد. ويقول أحدهم لمن مات والده: أنا والدك؛ أي قائم مقامه، ويقولون للولد القائم مقام أبيه: من خلف مثلك ما مات، وإذا رأوا عكرمة مولى ابن عباس الذي معه علمه يقولون: جاء ابن عباس، وابن عباس بين الناس؛ لأن مولاه نائب عنه، وقائم مقامه، وإذا بعث الملك نائبا قائما مقامه يقولون جاء الملك الفلاني، لأن هذا النائب قائم مقامه مظهر لأمره، ونهيه، وأحواله.

وفي الحديث الصحيح، عن النبي يقول الله: عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول العبد: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما لو عدته لوجدتني عنده، عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي، عطشت فلم تسقني، فيقول: رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي استسقاك فلم تسقه، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي.

فجعل جوع عبده جوعه، ومرضه مرضه، لأن العبد موافق لله فيما يحبه ويرضاه، ويأمر به، وينهى عنه، وقد عرف أن الرب نفسه لا يجوع، ولا يمرض. ومعلوم أن وصفه بالجوع والمرض أبعد من وصفه بالمشي بين الناس، والاختلاط بهم، ولهذا نظائر كثيرة موجودة في كلام الأنبياء، وغير الأنبياء من الخاصة، والعامة، ولا يفهم عاقل من ذلك أن ذات المذكور اتحدت بالآخر أو حلت فيه إلا من هو جاهل كالنصارى.

والناس يرون الشمس، والقمر، والكواكب، وغير ذلك في الماء الصافي، وفي المرآة المجلوة، ونحو ذلك. ويقول أحدهم: رأيت وجه فلان في هذه المرآة، ورأيت الشمس والقمر في المرآة أو في الماء، مع علم كل عاقل أن نفس الشمس والقمر وغيرهما لم تحلا لا في المرآة ولا في الماء، ولكن هذه رؤية مقيدة رآها بواسطة المثال الذي تمثل في المرآة أو الماء، سواء كان ذلك شعاعا منعكسا أو غير ذلك، ومن هذا الباب قول القائل:

إذا ظهر الغدير على صفاء، وجنب أن يحركه النسيم

ترى فيه السماء، بلا امتراء كذاك الشمس تبدو والنجوم

كذاك قلوب أرباب التجلي يرى في صفوها الله العظيم

فقد أخبر أن الله يرى في قلوب العارفين، كما ترى الشمس والنجوم في الماء الصافي، بل يتصور أحدهم صورة من يعرفه بحمرة أو خضرة أو سواد، فيقول: والله هذا هو فلان بعينه، مع علمه وعلم كل من سمعه أنه مثاله المطابق لصورته لا عينه، وذلك لمماثلة تلك الصورة لصورته، يريد أن هذا تمثيل مطابق له لا مخالف.

ومن هذا قول النبي : " من رآني في المنام فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي " لم يرد أنه رأى جسدي الذي في القبر، وروحي التي في الجنة - حالة في ذاته، فإن هذا ممتنع لوجوه كثيرة، فلهذا قال: " فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي ".

ولما دخل جماعة من الصحابة على المقوقس ملك النصارى بمصر، واستخبرهم عن دينهم فأخبروه بذلك، فإذا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة، وإذا فيها أبواب صغار ففتح منها بابا فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل طوال أكثر الناس شعرا، فقال: أتعرفون هذا؟ قالوا: قلنا لا، فقال: هذا آدم. ثم أعاد، وفتح بابا آخر، فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل ضخم الرأس عظيم له شعر كشعر النبط أحمر العين، فقال: أتعرفون هذا؟ فقلنا: لا، فقال: هذا نوح. ثم أعاد، وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أبيض الرأس واللحية، كأنه يبتسم فقال أتعرفون هذا؟ فقلنا: لا. فقال: هذا إبراهيم. ثم أعاد، وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: النبي ، قال: هذا والله محمد رسول الله. قال: والله يعلم أنه قام ثم قعد ثم قال: الله بدينكم إنه نبيكم؟ قلنا: الله بديننا إنه نبينا كأنما ننظر إليه. ثم قال: أما إنه كان آخر الأبواب، ولكني عجلته لكم لأنظر ما عندكم. ثم أعاد، وفتح بابا بابا، وهو يقول: هذا موسى، هذا هارون، هذا داود، هذا سليمان، هذا عيسى.

وهذا كله لظهور المراد به، ومعرفة الناس بمقصود المتكلم، كما يقال لمن كتب اسمه في كتاب: هذا فلان، ومعلوم أن الموجود في الكتاب اسمه المكتوب لا ذاته الموجودة في الخارج، ومن هذا الباب قوله تعالى: وكل شيء فعلوه في الزبر. وإنما في الزبر ذكر أعمالهم، وكتابة ذلك، ويقال في كتابة الوثائق: هذا ما أصدق فلان، وهذا ما يقاضي عليه فلان وفلان، ويقال: هذا ذكر ما أصدق فلان أو يقاضي عليه فلان وفلان، فيشار إلى الموجود تارة، وإلى ذكره تارة. ومعلوم أن الموجود في الكتاب ذكره لا عينه، بل ذلك وجود الخط في الأذهان المطابق لذكره باللفظ.

والشيء له وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، ووجود عيني، وعلمي، ورسمي، ولفظي، وفي كل من الأربعة يذكر، ويشار إليه مع القرائن والضمائر التي تبين تارة أن المشار إليه هو الخط المطابق للفظ، وتارة تكون الإشارة إلى اللفظ المطابق للمعنى.

ومعلوم أن المعنى الذي في القلب أقرب إلى الموجود في الخارج من اللفظ والخط، فإذا أشير إلى ما في قلب العارف بعين المحب له الذاكر له، بأنه المعروف المحبوب، كان أقرب لا سيما، وقد يغلب الذكر والمعرفة والمحبة على القلب حتى يغيب بموجوده عن وجوده، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره حتى يقول أحدهم في هذه الحال: سبحاني، أو ما في هذه الجبة إلا الله.

ومعلوم أن ذات الله تبارك وتعالى ليست الذي في قلبه، بل في قلبه مثاله العلمي، ومعرفته، ومحبته، فغاب بذلك عن نفسه، هذا وإن كان يقوله الغالط، فيقول من ليس بغالط: الله في قلب فلان، وفلان ما عنده إلا الله، ومن أراد الله فليذهب إلى فلان، وليس مرادهم أن ذات الله في قلبه، بل مثاله العلمي ومعرفته وذكره ومحبته، وأنه لا يعبد إلا الله، ولا يرجو إلا إياه، ولا يخاف إلا إياه، ولا يعمل إلا لله، ولا يأمر إلا بطاعته فيفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه.

فما قيل في المسيح عليه السلام، وأمثاله من هذا فهو حق، لكن لا اختصاص للمسيح بهذا.

وإذا كان مثل هذا الكلام كثيرا موجودا في كلام الأنبياء وغيرهم، بل هو المعروف في كلامهم، ولا يوجد قط على أحد من الأنبياء أنه جعل ذات الله في قلب أحد من البشر - علم أن النصارى تركوا المحكم من كلام الأنبياء عليهم السلام، وتمسكوا بالمتشابه كأمثالهم من الضلال، فاشتبه عليهم المعلوم بالقلوب المذكور بالألسن بالموجود في نفسه، فظنوا أن نفس المثال العلمي هو الموجود العيني، كما يظن ذلك كثير من الغالطين، وهؤلاء يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، ولا يفرقون بين حلول الإيمان والمعرفة والمحبة والمثال العلمي في القلب، وبين حلول الذات المعلومة المحبوبة.

ولهذا يعتقد كثير من هؤلاء أنهم يكلمون الله، ويكلمهم، ويقول أحدهم: أوقفني، وقال لي، وقلت له. وتكون مخاطبته ومناجاته مع هذا المثال العلمي بحسب ما عندهم من الاعتقاد في الله تعالى، وكثير منهم يتمثل له الشيطان ويقول: أنا ربك، فيخاطبه ويظنه ربه، وإنما هو الشيطان.

ومنهم: من يرى عرشا عليه نور، أو يرى ما يظنه الملائكة وهم شياطين، وذلك شيطان.

وكثير من هؤلاء يظن أنه أفضل من الأنبياء، وأنه يدخل إلى الله بلا إذن، خلاف الأنبياء، ويكون ذلك الإله الذي يعتقده هو الشيطان، والذين لا يتمثل لهم الشيطان يخاطب أحدهم من في قلبه، فتخاطبه تلك الصورة العلمية، ويقدر أنها تخاطبه، ويظن ذلك مخاطبة الحق له.

وهذا كالرجل يذكر بعض أصحابه فيمثله في قلبه ويخاطبه مخاطبة من يعاتبه أو يعتذر إليه، ويقدر خطاب تلك الصورة، ويقول: قلت لك كذا، وقلت لي كذا.

ونفس الشخص لا يكلمه ولا يسمع كلامه، وإنما هو المثال، كما قد يصور صورة الإنسان ويخاطبها الإنسان، ويقدر ذلك مخاطبة لصاحب الصورة.

والنصارى أدخل في هذا من غيرهم، فإنهم يخاطبون الصور الممثلة في الكنائس كصورة مريم، والمسيح والقديسين، ويقولون: إنما نقصد خطاب أصحاب تلك الصور نستشفع بهم.

وهذا مما حرمه الله على ألسن جميع النبيين، ولم يشرع لأحد أن يدعو الملائكة، ولا الأنبياء ولا الصالحين الأموات، فكيف بالصور الممثلة لهم، كما قد بسط في موضع آخر.

والمقصود هنا أنه كثيرا ما يوجد في كلام الناس الأنبياء وغيرهم من ذكر ظهور الله عز وجل، والمراد به ظهوره في قلوب عباده بالمعرفة والمحبة والذكر.

ولهذا لما كان يقصد بذكر اسمه ذكر المسمى صار يقول - من يقول: إن الاسم هو المسمى -: إن المراد المقصود من الاسم هو المسمى، لا أن نفس اللفظ هو المسمى، فإن هذا لا يقوله عاقل، وتنزيه الاسم وتسبيحه تنزيه للمسمى وتسبيح له.

كما قال تعالى: سبح اسم ربك الأعلى، وقال: فسبح باسم ربك العظيم.

وقال: تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام.

وجاء في الحديث: " لا تقوم القيامة حتى لا يعبد لله اسم "، أي لا يعبد الله باسم من أسمائه، فإنه إذا قيل: دعوت الله وعبدته، فإنما في اللفظ الاسم، والمقصود هو المسمى.

وهذا الذي ذكرناه من تفسير ظهور اللاهوت في المسيح وغيره بأن المراد ظهور ما في القلوب من توحيد الله ومعرفته ومحبته وذكره ونوره وهداه وروحه - هو مما يفسر به ذلك كثير من علماء النصارى، فإنهم يفسرون اتحاد اللاهوت بالناسوت بظهور اللاهوت فيه كظهور نقش الخاتم في الشمع والطين.

ومعلوم أن الحال في الشمع والطين هو مثال نقش الخاتم لا أن في الشمع والطين شيئا من الخاتم، بل ظهر فيه نقش الخاتم.

وكذلك يظهر نور الله وروحه في الأنبياء والصالحين، وهذا المعنى لا يختص به المسيح عليه السلام، بل يشترك هو فيه وسائر الرسل، بل وكل مؤمن له من هذا نصيب بحسب إيمانه.

فصل

قالوا: وقال أشعيا النبي: (ها هي العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه عمانويل).

وعمانويل: كلمة عبرانية تفسيرها بالعربي (إلهنا معنا) فقد شهد النبي أن مريم، ولدت اللاهوت المتحد بالناسوت كلاهما.

فيقال: ليس في هذا الكلام أن مريم ولدت اللاهوت المتحد بالناسوت)، وأنها ولدت خالق السماوات والأرض، بل هذا الكلام يدل على أن المولود ليس هو خالق السماوات والأرض، فإنه قال: تلد ابنا. وهذا نكرة في الإثبات كما يقال في سائر النساء: إن فلانة ولدت ابنا، وهذا دليل على أنه ابن من البنين، ليس هو خالق السماوات والأرضين، ثم قال: ويدعى اسمه (عمانويل) فدل بذلك على أن هذا اسم يوضع له، ويسمى به كما يسمي الناس أبناءهم بأسماء الأعلام، أو الصفات التي يسمونهم بها.

ومن تلك الأسماء ما يكون مرتجلا ارتجلوه. ومنها ما يكون جملة يحكونها، ولهذا كثير من أهل الكتاب يسمي ابنه عمانويل، ثم منهم من يقول: العذراء المراد بها غير مريم، ويذكرون في ذلك قصة جرت.

ومنهم من يقول: بل المراد بها مريم، وعلى هذا التقدير فيكون المراد أحد معنيين:

إما أنه يريد أن إلهنا معنا بالنصر والإعانة، فإن بني إسرائيل كانوا قد خذلوا بسبب تبديلهم، فلما بعث المسيح عليه السلام بالحق كان الله مع من اتبع المسيح، والمسيح نفسه لم يبق معهم، بل رفع إلى السماء ولكن الله كان مع من اتبعه بالنصر والإعانة. كما قال تعالى: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين. وقال تعالى: وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. وهذا أظهر،

وإما أن (يكون) يسمى المسيح إلها، كما يقولون: إنه يسمى موسى إله فرعون، أي هو الآمر الناهي له المسلط عليه.

وقد حرف بعضهم معنى هذه الكلمة، فقال: معناها: الله معنا، فقال: من رد عليهم من علمائهم يقال لهم: أهذا هو القائل: أنا الرب لا إله غيري، أنا أميت وأنا أحيي، أم هو القائل لله: إنك أنت الإله الحق وحدك والذي أرسلت يسوع المسيح؟ 19 وإذا كان الأول باطلا، والثاني هو الذي شهد به الإنجيل، وجب تصديق الإنجيل، وتكذيب من كتب في الإنجيل أن (عمانويل) وتأويله - (الله معنا)، بل تأويل عمانويل (معنا إله)، وليس المسيح مخصوصا بهذا الاسم، بل عمانويل اسم يسمى به النصارى، واليهود من قبل النصارى. وهذا موجود في عصرنا هذا، في أهل الكتاب من سماه أبوه عمانويل يعني (شريف القدر) وكذلك السريان أكثرهم يسمون أولادهم عمانويل.

قلت: ومعلوم أن الله مع المتقين والمحسنين والمقسطين بالهداية، والنصر، والإعانة، ويقال للرجل في الدعاء: الله معك، فإذا سمي الرجل بقول: (الله معك) كان هذا تبركا بمعنى هذا الاسم، وإذا قيل إن المسيح سمي الله معنا أو إلهنا معنا ونحو ذلك - كان ذلك دليلا على أن الله مع من اتبع المسيح وآمن به، فيكون الله هاديه وناصره ومعينه.

فصل: في كلام أشعيا بشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم

قالوا: وقال أشعيا أيضا: إن غلاما ولد لنا، وابنا أعطيناه، الذي رياسته على عاتقيه وبين منكبيه، ويدعى: اسمه ملكا، عظيم المشية مسيرا عجيبا، إلها قويا مسلطا رئيس السلامة في كل الدهور، وسلطانه كامل ليس له فناء.

فيقال: ليس في هذه البشارة دلالة بينة أن المراد به المسيح عليه السلام، ولو كان المراد به المسيح لم يدل على مطلوبهم، بل قد يقال المراد بها محمد فإنه الذي رياسته على عاتقيه، وبين منكبيه من جهتين:

من جهة خاتم النبوة على بعض كتفيه، وهو علامة من أعلام النبوة الذي أخبرت به الأنبياء، وعلامة ختمهم.

ومن جهة أنه بعث بالسيف الذي يتقلد به على عاتقه ويرفعه، إذا ضرب به على عاتقه، ويدل على ذلك قوله: (مسلط رئيس قوي السلامة).

وهذه صفة محمد المؤيد المنصور المسلط رئيس السلامة، فإن دينه الإسلام، ومن اتبعه سلم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ومن استيلاء عدوه عليه.

والمسيح عليه السلام لم يسلط على أعدائه، كما سلط محمد ، بل كان أعداؤه بحيث يقدرون على صلبه، وعند النصارى قد صلبوه، وعند المسلمين ألقى الله شبهه على غيره، فصلب ذاك المشبه، فبهذه الطريق دفع الله الصلب عنه لا بقهر أعدائه، وإهلاكهم وذلهم له، كما نصر الله محمدا على أعدائه.

وقال: (في كل الدهور سلطانه كامل ليس له فناء)، وهذا صفة خاتم الرسل الذي لا يأتي بعده نبي ينسخ شرعه، وسلطانه بالحجة واليد، كامل لا يحتاج فيه إلى الاستعانة بشرع آخر، وشرعه ثابت باق إلى آخر الدهر.

فصل

قالوا: وقال أشعيا أيضا: يخرج عصاه من بيت يسي ينبت نور منها، ويحل فيه روح القدس روح الله، روح الحكمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله. وفي تلك الأيام يكون أصل يسي آية للأمم، وبه يؤمنون وعليه يتوكلون، ويكون لهم التاج والكرامة إلى دهر الداهرين).

والجواب: أن هذا الكلام بعد المطالبة بصحة نقله عن النبي، وصحة الترجمة له باللسان العربي - هو حجة على النصارى لا لهم، فإنه لا يدل على أن المسيح هو خالق السماوات والأرض، بل يدل على مثل ما دل عليه القرآن من أن المسيح عليه السلام أيد بروح القدس، فإنه قال: ويحل فيه روح القدس، وروح الله، وروح الحكمة والفهم، وروح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله)، ولم يقل تحل فيه حياة الله - فضلا عن أن يقول حل فيه الله أو اتحد به، ولكن جعل روح القدس هي روح الله، وهي روح الحكمة والفهم والعلم، وهي روح الحيل والقوة.

كما أن عندهم في التوراة (أن الذين كانوا يعملون في قبة الزمان حلت فيهم روح الحكمة روح الفهم، روح العلم).

فهي ما يحصل به الهدى والنصر، كما قال تعالى: واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار.

فقال: هي روح الله، وهذا كقوله تعالى: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

وقوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

وقال تعالى: ينزل الملائكة بالروح من أمره.

فما أنزله يسمى هدى الله، وروح الله، ووحي الله، ونور الله، ونحو ذلك.

وقال تعالى لما ذكر أنبياءه من ذرية إبراهيم فقال: ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده.

وقال تعالى: فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى.

وسماه نور الله كقوله تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم.

فهذا هدى الله، ونور الله هو روح الله كما قال تعالى:

وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

وقال تعالى:

أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

فصل

قالوا: وقال أشعيا أيضا: " من أعجب الأعاجيب أن رب الملائكة سيولد من البشر ".

فيقال: مثل هذا الكلام لا بد أن يكون قبله كلام وبعده كلام، وهو منقول من لغة إلى لغة، ونحن نعلم قطعا أنه لم يرد أن رب العالمين يولد من البشر، ولو أراد ذلك لم يقل رب الملائكة فقط، فإن الله رب كل شيء، لكن قد يريد أنه يولد من البشر من سيكون سيد الملائكة تخدمه وتكرمه، كما سجدت الملائكة لأبي البشر آدم.

والنصارى يسلمون أن اللاهوت ما هو متولد من البشر، وإنما المتولد من البشر هو الناسوت، وليس هو رب العالمين بالاتفاق، فعلم أنه لا حجة لهم في ظاهر اللفظ إن قدر سلامته من التغيير.

ونظير هذا ما عندهم في إنجيل متى: (أن ابن الإنسان يرسل ملائكته، ويجمعون كل الملوك ربا على الأمم فيلقونهم في أتون النار) 20 قال بعض علماء أهل الكتاب: لم يرد بذلك أن المسيح هو رب الأرباب، ولا أنه خالق الملائكة، بل رب الملائكة أوصى الملائكة بحفظ المسيح بشهادة النبي القائل: (إن الله يوصي ملائكته بك ليحفظوك).21

ثم شهادة (لوقا) أن الله أرسل له ملكا من السماء ليقويه.22 قال: " وإذا شهد الإنجيل باتفاق الأنبياء والرسل بأن الله يوصي ملائكته بالمسيح فيحفظونه، علم أن الملائكة تطيع للمسيح بالأمر، وهو والملائكة في خدمة رب العالمين ".

وقال المسيح لتلاميذه: " من قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل من أرسلني ".23

وقال المسيح: " من أنكرني قدام الناس أنكرته قدام ملائكة الله ".24

وقال للذي ضرب عبد رئيس الكهنة: " أغمد سيفك، ولا تظن أن لا أستطيع أن أدعو الله الأب فيقدم لي أكثر من اثني عشر جوقا من الملائكة ".25

فصل

قالوا: ومثل هذا القول في كتب الله المنزلة على أفواه الأنبياء والرسل شيء كثير عند النصارى جميعهم المختلفة ألسنتهم المفرقين في سبعة أقاليم العالم المتمسكين بدين النصرانية قول واحد ونص واحد، على ما تسلموه من الحواريين حين أنذروهم وردوهم عن عبادة الأصنام إلى معرفة الله تعالى، سلموها إليهم، كل أمة بلسانها، وهي على هيئتها إلى يومنا هذا.

والجواب على هذا من وجوه:

أحدها: أن القول في سائر ما يذكرونه من النصوص كما تقدم وقد تكلم على هذا من تكلم عليه من علماء النصارى الذين هداهم الله، وبينوا ما وقع في ذلك من تحريفهم لمعاني الكتب التي عندهم، وذكروا مما عندهم من النصوص الصريحة بأن المسيح عبد الله 26 ليس هو الله 27 ما يتبين به بطلان قولهم، وأنهم ممن تركوا المحكم من الآيات واتبعوا المتشابه، ولهذا أنزل الله فيهم:

فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب.

وهذا كقول المسيح عليه السلام لما سئل عن علم الساعة فقال: (لا يعلمها إنسان ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب فقط) فنفى عن نفسه علم الساعة، وهذا يدل على شيئين: على أن اسم الابن إنما يقع على الناسوت دون اللاهوت، فإن اللاهوت لا يجوز أن ينفى عنه علم الساعة، ويدل على أن الابن لم يكن يعلم ما يعلمه الله، وهذا يبطل قولهم بالاتحاد، فإنه لو كان الاتحاد حقا كما يزعمون لكان الابن يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر عليه، فإنه هو الله عندهم، والناسوت لا يتميز عندهم عن اللاهوت فيما يوصف به المسيح من كونه عالما قادرا يحيي ويميت.

وقال المسيح لتلاميذه: (آمنوا بالله وآمنوا بي) وقال أيضا: (من يؤمن بي فليس يؤمن بي فقط بل وبالذي أرسلني)، 28 وهم يذكرون أن المسيح عليه السلام استصرخ الله قائلا: (إلهي إلهي انظر لماذا تركتني وتباعدت عن خلاصي).29

الوجه الثاني: أن قولهم: إن هذه الكتب التي بأيديهم من التوراة والإنجيل، وسائر النبوات؛ تسلموها من الحواريين كل أمة بلسانها، وهي على هيئتها - قول لم يقيموا على صحته دليلا، بل ادعوا ذلك دعوى مجردة.

ومثل هذا النقل إن لم يثبت بالتواتر لم يحتج به في المسائل العلمية، لا سيما إذ قيل في

الوجه الثالث: إن هذا كذب ظاهر، فإن كثيرا من الألسنة ليس عند أهله إنجيلا قديما، ومن ذلك لسان العرب، فإن العرب النصارى كثيرون قبل الإسلام، ولا تعرف توراة ولا إنجيلا ولا نبوات عربية، إلا ما عرب من النسخ العبرية والرومية والسريانية، ونحن نطالبهم بهذه الكتب التي هي بالعربية التي في زمن الحواريين أين هي؟ ومن رآها؟ ولو قدر أنها كانت بالعربية، فهذه النسخ اليوم العربية الموجودة بأيدي الناس هي مما عرب مما بأيديهم، وحينئذ فلا تعرف صحتها إن لم تعرف صحة الترجمة، ويثبت نقل تلك عن المسيح عليه السلام، وهكذا القول في سائر الألسن.

الوجه الرابع: أن التوراة والنبوات التي نقلت من نسخ اليهود والأناجيل هي أربعة كتب بعد المسيح عليه السلام، اثنان ممن كتبها لم يريا المسيح، وهما لوقا، ومرقس، واثنان رأياه، وهما يوحنا، ومتى. والنسخ إنما كثرت عن الأربعة، وما ينقله الأربعة لا يجب أن يكون متواترا معلوما، وإذا كثرت الألسن بها فمن بعد الأربعة، لا أن الذين سمعوها من المسيح عليه السلام تكلموا باثنين وسبعين لسانا، فإن هذا لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل، إذ الحواريون كانوا اثني عشر لم يكونوا اثنين وسبعين، فإذا قيل: إنه نقلها اثنان وسبعون، فهم نقلوها عمن نقلها إليهم من الحواريين، وهم إنما يسندون نقلها إلى أربعة.

الوجه الخامس: أن الحواريين ليسوا معصومين، بل يجوز على أحدهم الغلط في بعض ما ينقله، وما ينقل من خوارقهم للعادات، فمن الناس من يكذبه، ومنهم من يصدقه، ولا دلالة فيه على عصمتهم، إلا أن يثبت أنهم ادعوا النبوة، وأقاموا المعجزات الدالة على نبوتهم، ولم يكن الأمر كذلك، وإلا فالصالحون إذا كانت لهم كرامات لم تدل كراماتهم على أنهم معصومون كالأنبياء، بل يجوز عليهم الغلط مع ثبوت كراماتهم. والحواريون عندهم ليسوا بأنبياء، وإن سموهم رسلا، فهم رسل المسيح لا رسل الله تبارك وتعالى.

الوجه السادس: أن في هذه الكتب التي بأيديهم ما يناقض قولهم من الأقوال الصريحة الكثيرة ما هو أكثر وأصرح مما احتجوا به على قولهم. والواجب حينئذ التمسك بالصريح المحكم، ورد المتشابه إليه، ولا يجوز التمسك بالمتشابه، ورد المحكم إليه.

الوجه السابع: أنه بتقدير أن يكون في الأرض هذه الكتب باثنين وسبعين لسانا سواء كانت كلها منقولة عن الحواريين نقلا صحيحا، أو كان نقل أكثرها أو أكثر منها مترجمة من لغة إلى لغة.

فمعلوم أنه بكل لسان عدة نسخ، ولو لم يكن بها إلا لسان واحد مع كثرة النسخ بها في مشارق الأرض ومغاربها، لم يمكن أحدا أن يقطع بأن جميع النسخ على لفظ واحد ونص واحد، كما ادعاه هؤلاء في الاثنين وسبعين لسانا، حيث قالوا: ( ومثل هذا القول في كتب الله المنزلة على أفواه الأنبياء والرسل كثير، عند النصارى جميعهم المختلفة ألسنتهم المتفرقين في سبعة أقاليم العالم، المتمسكين بدين النصرانية - قول واحد ونص واحد على ما تسلموه من الحواريين، وردوهم عن عبادة الأصنام فسلموها إليهم كل أمة بلسانها، وهي على هيئتها إلى يومنا هذا).

فإن هذا الكلام يتضمن عدة دعاوى ليس فيها ما يمكن قائله أن يكون عالما به، فعلم أن هؤلاء تكلموا بهذا الكلام بلا علم، بل بالجهل والضلال، كما هو عادتهم، فإنه يقال لهم: من الذي جمع كل نسخة في العالم من جميع التوراة والإنجيل والزبور وسائر النبوات الأربعة والعشرين بلسان واحد كالعربي مثلا، وهل ميز جميع النسخ فلم يجد نسخة تزيد على نسخة ولا تنقص عنها؟

ومعلوم إن كان هذا ممكنا أمكن أن يقال: جمعها جامع وغير بعض ألفاظها، فلا يمكنهم دعوى بقائها بلا تغيير، وإن لم يمكن ذلك لم يمكن أحدا أن يقول: أنا أعلم موافقة كل نسخة من نسخ هذه الكتب لكل نسخة توجد في سبعة أقاليم العالم بذلك اللسان، فضلا عن اثنين وسبعين لسانا، فضلا عن أن يقال: أنا أعلم أن هذه الألسن كلها تكلمت بها الحواريون، وهي باقية على لفظهم إلى اليوم.

ومعلوم أن الإنسان إذا أمكنه جمع نسخ كتاب واحد من جميع الفنون من كتب الطب والحساب والهندسة والنحو والفقه والحديث، كان إمكان تغيير بعض ألفاظ تلك النسخ أيسر عليهم من مقابلة ألفاظ كل نسخة بألفاظ تلك النسخ مثلها.

فإن هذا لا يقدر عليه في العادة، بل هو متعذر أو متعسر، ولا سيما والمقابلة إن كانت بين اثنين فكل منهما ينقل للآخر لفظ نسخته فيكون مدار المقابلة على خبر واحد، لم يقترن بخبره ما يعلم به صدقه، فقد يغلطان أو يكذبان جميعا.

وإن كانت بين عدد يحصل بهم العلم احتاجت كل نسخة بكل لسان إلى أن يشهد بلفظها جمع يحصل بهم العلم، وأولئك بأعيانهم يشهدون بلفظ كل نسخة بكل لسان، ويشهدون بلفظ كل نسخة، ويشهد لهم من هو مثلهم بلفظ النسخة الأخرى (وموافقتها لها، وهؤلاء أو مثلهم بموافقة النسخة الثانية).

ومعلوم أن هذا لم يفعله أحد، ولا يقدر عليه أحد، بل لو اجتمع جميع ملوك النصارى على ذلك (وعلماء بلادهم على ذلك) لم يقدروا عليه، فإن من النسخ ما هو عند المسلمين، ومنها ما هو في بلاد لا حكم لهم عليها، وأيضا فقد يكون في بلادهم من النسخ ما لم يظهرها أصحابها.

فكل من شهد من النصارى، وغيرهم بأن كل نسخة في العالم بهذه الكتب توافق جميع النسخ فهو شاهد زور شهد بما لا يعلم، بل شهد بما يعلم أنه كاذب فيه.

وكذلك لو شهد بمثل هذا لنسخ أي كتاب كان، فإن العادة المعروفة أن نسخ الكتب تختلف ويزيد بعضها وينقص بعضها، والقرآن المنقول بالتواتر لم يكن الاعتماد في نقله على نسخ المصاحف، بل الاعتماد على حفظ أهل التواتر له في صدورهم.

ولهذا إذا وجد مصحف يخالف حفظ الناس أصلحوه، وقد يكون في بعض نسخ المصاحف غلط، فلا يلتفت إليه مع أن المصاحف التي كتبها الصحابة قد قيد الناس صورة الخط ورسمه، وصار ذلك أيضا منقولا بالتواتر فنقلوا بالتواتر لفظ القرآن حفظا، ونقلوا رسم المصاحف أيضا بالتواتر.

ونحن لا ندعي اتفاق جميع نسخ المصاحف كما لا ندعي أن كل من يحفظ القرآن لا يغلط، بل ألفاظه منقولة بالتواتر حفظا ورسما فمن خرج عن ذلك علم الناس أنه غلط لمخالفته النقل المتواتر، بخلاف هذه الكتب، فإن النصارى لم يحفظوها كلها في قلوبهم تلقيا لها عن الحواريين حفظا منقولا بالتواتر، بل لم يكن أحد منهم يحفظها كلها، فضلا عن أن يحفظها كلها أهل التواتر، فضلا عن أن يحفظ كل لسان منها من تواتر بهم ذلك اللسان.

وهذا أمر معلوم لجميع النصارى وغيرهم أنه لم يحفظها كلها بكل لسان من زمن الحواريين عدد التواتر، بل ولا في زمن من الأزمان، بل بعد انتشار النصارى، وكثرتهم، وتفرقهم في الأقاليم السبعة لا يكاد يوجد فيهم من يحفظها كلها عن قلبه، كما يحفظ صبيان مكاتب المسلمين القرآن، فكيف يحفظها في كل زمان أهل التواتر؟ فكيف يحفظ كل لسان من الاثنين وسبعين أهل التواتر؟

وإذا كان اعتمادهم إنما هو على الكتب، وهم لا يمكنهم معرفة اتفاق جميع النسخ بلسان واحد فضلا عن جميع الألسنة، علم أن دعواهم أنها لم تزل متفقة على نص واحد ولفظ واحد، وأن جميع نسخها متفقة في هذا الزمان، وفيما قبله - كلام مجازف يتكلم بلا علم، بل يتكلم بما يعلم أنه باطل.

الوجه الثامن: أن هذا لو قدر إمكانه، فإنما يكون منقولا لو لم يعلم أنه كذب فكيف مع العلم بأنه كذب؟ فإنه يوجد في هذا الزمان نسخ التوراة والإنجيل والزبور والنبوات مختلفة متناقضة.

والنسخ التي عند النصارى مختلفة، وهي أيضا تخالف نسخ اليهود والسامرة في مواضع، وحينئذ فإذا قالت النصارى: نسخنا هي الصحيحة - لم يكن هذا أولى من قول اليهود: نسخنا هي الصحيحة. بل معلوم أن اعتناء اليهود بالتوراة أعظم من اعتناء النصارى، (ثم بعد هذا، ما ذكروه لا يكفي إن لم يعلم أن نسخهم توافق النسخ التي عند اليهود حتى السامرة، وهذا غير معلوم).

وإن قالوا: إذا خالف نقل اليهود لنقل الحواريين - لم يلتفت إليه لأنهم معصومون. كل هذا مبني على دعوى عصمتهم، وقد عرف فساده، وإذا قالت النصارى: نحن ننقلها عن الحواريين المعصومين، قالت اليهود: نحن ننقلها عن موسى المعصوم باتفاق أهل الملل، أو عن العارف المعصوم باتفاق اليهود والنصارى، وكثير من المسلمين، فالتوراة باتفاق الخلق مأخوذة عن موسى بن عمران وهو معصوم، وإنما يطعن من يطعن في نقل بعضها لانقطاع التواتر في أثناء المدة لما خرب بيت المقدس، ولم يبق فيه ساكن، أكثر من سبعين سنة، فيقول بعض الناس: إن بعض ألفاظها غير حينئذ، ويقول بعضهم: لم تغير ألفاظ جميع النسخ، وإنما غير ألفاظ بعض النسخ، وانتشرت النسخ المغيرة عند كثير من الناس حتى لا يعرفوا غيرها.

ثم بنو إسرائيل لم يزل فيهم نبي بعد نبي حتى جاء المسيح، وبعد المسيح فلم يزالوا خلقا كثيرا لا يمكن تواطؤهم في مشارق الأرض ومغاربها على تغيير نسخ التوراة، بخلاف الإنجيل فإنه إنما نقله أربعة، ومن كتب التوراة والزبور والنبوات من أتباع المسيح، فإنما كتبوها من النسخ التي كانت بأيدي اليهود.

وإذا قالوا: كانوا معصومين، فهذا ممنوع عند المسلمين واليهود، وعلى تقدير تسليمه فاليهود ينقلونها أيضا عن المعصوم قبل هؤلاء، فلا يمكن مع هذا أن يدعي مدع أن النبوات التي عند النصارى تواترت عن المعصوم أعظم من تواتر ما عند اليهود، بل لا يشك العقلاء العادلون أن نقل حروف التوراة أصح من نقل حروف الإنجيل.

وهذا أمر يعرف من وجوه متعددة فإن التوراة أخذت عن المعصوم باتفاق أهل الملل، وكانت منقولة قبلالمسيح بين الأنبياء وبين بني إسرائيل أعظم من نقل الإنجيل، وبعد المسيح نقلها اليهود، والنصارى.

وإذا كان كذلك، فإذا وجد ما عند اليهود والسامرة من نسخ النبوات يخالف ما عند النصارى في بعض الألفاظ - كان هذا دليلا على أن هذه الكتب ليست ألفاظها منقولة عن نص واحد، وأنه ليس كل لفظ من ألفاظها متواترا، والله أعلم.

الوجه التاسع: أن جميع ما عندهم من النصوص الصحيحة لا يدل على مذهبهم ألبتة نصا، بل غاية ما يدعون فيها الظهور، وهم منازعون في ذلك حتى يقال: بل الظاهر فيما يحتجون به خلاف قولهم.

ومعلوم أن أصول الإيمان التي يؤمن أهل الإيمان بها، ويكفرون من خالفها - لا بد أن تكون معلومة عندهم عن الأنبياء، والعلم لا يحصل بلفظ محتمل، فعلم أنه لا علم عندهم عن الأنبياء عليهم السلام، وهو محل النزاع.

الوجه العاشر: أن أصرح ما عندهم من التثليث، هو قوله: (عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس)، وعلى هذا القول بنوا قولهم بالتثليث، وأثبتوا لله ثلاثة أقانيم.

ولفظ الأقانيم لم ينطق به أحد من الأنبياء، ولا أحد من الحواريين باتفاقهم، بل هو مما ابتدعوه، قيل: إنه لفظ رومي معناه: الأصل، ثم أقنوم الابن تارة يقولون: " هو علم الله "، وتارة يقولون: " هو حكمة الله "، وتارة يقولون: " هو كلمة الله "، وتارة يقولون: " هو نطق الله "، وروح القدس تارة يقولون: " هو حياة الله " وتارة يقولون: " هو قدرة الله ".

والكتب المنقولة عن الأنبياء عندهم ليس فيها تسمية شيء من صفات الله لا باسم ابن ولا باسم روح القدس، فلا يوجد أن أحدا من الأنبياء سمى علم الله وحكمته وكلامه - ابنا، ولا سمى حياة الله أو قدرته روح القدس، بل روح القدس في كلام الأنبياء يراد بها معنى ليس هو حياة الله، كما يراد بها ملك الله أو ما ينزله في قلوب الأنبياء والصالحين من هداه ونوره وتأييده، ونحو ذلك.

وإذا كان كذلك، علم أن ما فسروا به قول المسيح عليه السلام: (عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس) - كذب صريح عليه، وكذلك ما فسروا به كلام الأنبياء من إثبات الأقانيم الثلاثة كذب صريح عليهم، كقولهم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، أرادوا به إثبات ثلاثة آلهة، فإن هذا مما يعلم بالضرورة ضلالهم فيه وافتراؤهم على الأنبياء، ويعلم أن إله الثلاثة هو إله واحد ليس إله إبراهيم إلها آخر غير إله إسحاق حتى لو قيل بالأقانيم، فلا يقول عاقل: إن أحد الأقانيم إله هذا، والأقنوم الآخر إله الآخر، فإن هذا لم يقله أحد من العقلاء لا النصارى، ولا غيرهم، لا يقولون: إن الأب إله إبراهيم مثلا، والابن إله إسحاق، وروح القدس إله يعقوب، بل هم متفقون مع قولهم بالتثليث أن الجميع إله واحد لجميع المرسلين، ليس إله هذا أقنوما وإله الآخر أقنوما آخر، فعلم أن ما يفسرون به كلام الأنبياء كذب، لا يصح لا على تثليثهم الذي ابتدعوه، ولا قول أهل التوحيد المتبعين لرسل الله تعالى.

فصل: رأي النصارى في كفر اليهود بالمسيح رغم ما عندهم من النبوات عنه وبيان مشابهة النصارى لهم بكفرهم بمحمد

قال الحاكي عنهم: فقلت لهم: إذا كانت هذه النبوات عند اليهود، وهم مقرون معترفون بها أنها حق، وأنها عتيدة أن تكمل عند مجيء المسيح فأي حجة لهم يحتجون بها عن الإيمان به؟

أجابوا قائلين: إن الله اختار بني إسرائيل، واصطفاهم على الناس له شعبا في ذلك الزمان، وحيث كانوا في أرض مصر في عبودية فرعون أرسل إليهم موسى النبي دلهم على معرفة الله، ووعدهم أن الله يخلصهم من عبودية فرعون، ويخرجهم من مصر، ويريهم أرض الميعاد التي هي أرض بيت المقدس فطلب موسى من الله، وعمل العجائب قدام عيونهم وضرب أهل مصر عشر الضربات، وهم يرون ذلك جميعه، ويعلمون أن الله يصنعه لأجلهم، وأخرجهم من مصر بيد قوية، وشق لهم البحر، وأدخلهم فيه، وصار لهم الماء حائطا عن يمينهم، وحائطا عن شمالهم، ودخل فرعون، وجميع جنوده في البحر، وبنو إسرائيل ينظرون ذلك فلما برز موسى وبنو إسرائيل من البحر، وخلفهم فرعون بجنوده فيه - أمر الله لموسى أن يرد عصاه إلى الماء فعاد الماء كما كان، وغرق فرعون وجميع جنوده في البحر، وبنو إسرائيل يشهدون ذلك. فلما غاب عنهم موسى إلى الجبل ليناجي ربه، وأخذ لهم التوراة من يد الله تركوا عبادة الله، ونسوا جميع أفعاله، وكفروا به وعبدوا رأس العجل من بعد ذلك، ثم عبدوا الأصنام مرارا كثيرة ليس مرة واحدة، وذبحوا لها الذبائح ليست حيوانات بل بنيهم مع البنات حسبما ذكر فيما قبل ذلك، وجميع أفعالهم مكتوبة في أخبار بني إسرائيل فلما رأى الله قساوة قلوبهم، وغلظ رقابهم وكفرهم به، ورأى أفعالهم النجسة الخبيثة، غضب عليهم وجعلهم مرذولين، وطبع على قلوبهم فلا يؤمنون، وجعلهم مهانين في جميع الأمم، وليس لهم ملك ولا بلاد ولا نبي ولا كاهن إلى الأبد حسبما تنبئت عليهم الأنبياء على ما ذكرناه قبل، وتشهد به كتبهم التي في أيديهم إلى يومنا هذا.

وكذا قال الله لأشعيا: (اذهب إلى هذا الشعب، فقل لهم تسمعون سماعا ولا تفهمون، وينظرون نظرا ولا تبصرون، لأن قلب هذا الشعب قد غلظ وقد سمعوا بأفهامهم سمعا ثقيلا، وقد غمضوا أعينهم لئلا يبصروا بها، وسمعوا بآذانهم ولا يفهمون بقلوبهم، ويرجعون إلي فأرحمهم).

وقال أشعيا: (قال الله: هكذا مقتت نفسي سبوتكم ورءوس شهوركم صارت عندي مرذولة، وقال: (وفي ذلك اليوم يقول الله: سأبطل السبوت والأعياد كلها وأعطيكم سنة جديدة مختارة لا كالسنة التي أعطيتها لموسى عبدي (يوم حوريب) يوم الجمع الكثير، بل سنة جديدة مختارة أمر بها وأخرجها من صهيون) فصهيون هي أورشليم، والسنة الجديدة المختارة: هي السنة التي تسلمناها نحن معشر النصارى من يدي الرسل الحواريين الأطهار الذين خرجوا من أورشليم، وداروا في سبعة أقاليم العالم وأنذروا بهذه السنة الجديدة. فأي بيان يكون أوضح وأصح من هذا البيان، إذ قد أوردناه من قول الله، ولا سيما وأعداؤنا اليهود المخالفون لديننا شهدوا لنا بصحة ذلك جميعه.

وأما حجة اليهود في هذه النبوات يقولون ويعتقدون أنها حق، وأنها قول الله لكن يقولون: إنها عتيدة (فهذه النبوات مثلما هي عند اليهود كذلك هي عندنا معشر النصارى في اثنين وسبعين لسانا، فيراهم جميع الأمم قولا واحدا وأنها قول الله، وقالت اليهود نحن مصدقون بها) أن تكمل وتتم عند مجيء المسيح، لكن المسيح لم يجئ بعد، وأن الذي جاء ليس هو المسيح. هذا قولهم، وكفاهم أنهم يكفرون ويفجرون مع الكفر، ويقولون: إن المسيح كان ضالا مضلا، وأما المسيح الحق فعتيد أنه يأتي ويكمل نبوات الأنبياء إذا جاء، وإذا جاء اتبعناه وكنا أنصاره، وهذا رأيهم واعتقادهم في السيد المسيح، فماذا يكون أعظم من هذا الكفر الذي هم عليه؟ ولأجل (ذلك في هذا الكتاب سماهم المغضوب عليهم لأجل) خلافهم لقول الله الذي أرسل نطقه على أفواه الأنبياء، ولما كنا نحن النصارى متمسكين بما أمرتنا به الرسل الأطهار سمانا في هذا الكتاب المنعم عليهم، وأما قولنا في الله: ثلاثة أقانيم إله واحد، فهو أن الله نطق به وأوضحه في التوراة، وفي كتب الأنبياء، ومن ذلك ما جاء في السفر الأول من التوراة يقول: (حيث شاء الله أن يخلق آدم قال: لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا، فمن هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروح قدسه، وحين خالف آدم وعصى ربه (ها آدم قد صار كواحد منا). ( وهذا واضح أن الله قال هذا القول لابنه، أي كلمته وروح قدسه، وقال هذا القول يستهزئ بآدم، أي طلب أن يصير كواحد منا) صار عريانا مفتضحا. وقال الله عندما أخسف بسدوم وعامورة قال في التوراة: (وأمطر الرب عند الرب من السماء على سدوم وعامورة نارا وكبريتا)، أوضح بهذا ربوبية الأب والابن بذكر ثالث.

والجواب: أن يقال أما كفر اليهود كلهم لما أرسل المسيح عليه السلام إليهم فلم يؤمنوا به وكفر من كفر منهم قبل ذلك، إما بقتل النبيين، وإما بتكذيبهم، إما بالشرك، وإما بغير ذلك مما كفروا فيه بما أنزل الله - فهذا حق.

وهذا هو نظير كفر النصارى كلهم الذين بلغتهم دعوة محمد ، وأقام الله عليهم الحجة به فلم يؤمنوا به، وكفر من كفر منهم قبل ذلك بما أنزل الله، إما بتكذيب بعض ما أنزله، وإما بتبديله بغيره، وإما بجعل ما لم ينزله الله منزلا منه، وإما بغير ذلك مما فيه كفر بما أنزل الله عز وجل.

وكذلك ما ذكر من أن الله أقام سنة جديدة، وعهدا جديدا، وهو ما بعث به المسيح عليه السلام من الشريعة التي بعث بها، وفيها تحليل بعض ما حرم الله في التوراة، كما قال في القرآن عن المسيح: ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم. فهذا أيضا حق.

فصل

وأما قولكم: السنة الجديدة المختارة هي السنة التي تسلمناها من يدي الرسل الأطهار، على ما تسلموها هم من المسيح عليه السلام.

فيقال: لو كنتم على تلك السنة لم تغيروها، لم ينفعكم المقام عليها إذا كذبتم الرسول النبي الأمي الذي بعث إليكم وإلى سائر الخلق بسنة أخرى أكمل من السنن التي كانت قبله، كما لم ينفع اليهود، ولو تمسكوا بسنة التوراة، ولم يتبعوا سنة المسيح الذي أرسل إليهم، بل من كذب برسول واحد فهو كافر.

كما قال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا.

فإنه، وإن كانت السنة التي جاء بها المسيح عليه السلام حقا، وكل من كان متبعا له فهو مؤمن مسلم من أولياء الله، من أهل الجنة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما قال تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

وقال تعالى: كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.

فمن اتبع المسيح كان مؤمنا، ومن كفر به كان كافرا.

وقال تعالى: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين * وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين.

لكن غيرتموها وبدلتموها قبل مبعث محمد ، (فصرتم كفارا بتبديل شريعة المسيح، وتكذيب شريعة محمد )، كما كفرت اليهود بتبديل شريعة التوراة، وتكذيب شريعة الإنجيل، ثم كفروا بتكذيب شريعة محمد ، وعلى سائر رسل الله أجمعين.

فإن المسيح لم يسن لكم التثليث والقول بالأقانيم، ولا القول بأنه رب العالمين، ولا سن لكم استحلال الخنزير وغيره من المحرمات، ولا ترك الختان، ولا الصلاة إلى المشرق، ولا اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ولا الشرك واتخاذ التماثيل والصليب، ودعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وسؤالهم الحوائج، ولا الرهبانية، وغير ذلك من المنكرات التي أحدثتموها، ولم يسنها لكم المسيح، ولا ما أنتم عليه هي السنة التي تسلمتموها من رسل المسيح.

بل عامة ما أنتم عليه من السنن أمور محدثة مبتدعة بعد الحواريين، كصومكم خمسين يوما زمن الربيع، واتخاذكم عيدا يوم الخميس والجمعة والسبت، فإن هذا لم يسنه المسيح ولا أحد من الحواريين، وكذلك عيد الميلاد والغطاس، وغير ذلك من أعيادكم.

بل عيد الصليب إنما ابتدعته (هيلانة) الحرانية القندقانية أم قسطنطين، فأنتم تقولون: إنها هي التي أظهرت الصليب وصنعت لوقت ظهوره عيدا، وذلك بعد المسيح والحواريين بمدة طويلة زمن الملك قسطنطين بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة.

وفي ذلك الزمان أحدثتم الأمانة لنصوص الأنبياء في غير موضع، وأظهرتم استحلال الخنزير وعقوبة من لم يأكله، وابتدعتم في ذلك الزمان تعظيم الصليب، وغير ذلك من بدعكم، وكذلك كتب القوانين التي عندكم جعلتموها سنة وشريعة فيها شيء عن الأنبياء والحواريين، وكثير مما فيها ابتدعه من بعدهم لا ينقلونه لا عن المسيح ولا عن الحواريين، فكيف تدعون أنكم على السنة والشريعة التي كان عليها المسيح عليه السلام وهذا مما يعلم بالاضطرار والتواتر أنه كذب بين.

فصل: رد استدلالهم على الأقانيم بما ورد في التوراة عن خلق آدم

قالوا: وأما قولنا في الله: ثلاثة أقانيم إله واحد، فهو أن الله نطق به وأوضحه في التوراة، وفي كتب الأنبياء، ومن ذلك ما جاء في السفر الأول من التوراة يقول - حيث شاء الله أن يخلق آدم - قال الله: (لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا)، 30 فمن هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه؟ وحين خالف آدم وعصى ربه قال الله تعالى: (ها آدم قد صار كواحد منا)، 31 وهو قول واضح أن الله قال هذا القول لابنه وروح قدسه.

والجواب: أن استدلالهم بهذا على قولهم في المسيح هو في غاية الفساد والضلال، فإن لفظ التوراة: (نصنع آدم كصورتنا وشبهنا)، وبعضهم يترجمه (نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا). والمعنى واحد. وهذا كما قال النبي : (إن الله خلق آدم على صورته)، وفي رواية: (على صورة الرحمن) فقولهم: من هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه - من أبطل الباطل من وجوه:

أحدها: أن الله ليس كمثله شيء، وليس لفظ النص: على مثالنا.

الثاني: أنه لا اختصاص للمسيح بما ذكر على تقدير حق وباطل، فإنه بأي تفسير فسر قوله: (سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا) لم يخص ذلك المسيح.

الثالث: أنهم إن أرادوا بالكلمة التي هي شبهه ومثاله صفته التي هي العلم القائم به، والحياة القائمة به مثلا، فالصفة لا تكون مثلا للموصوف، إذ الموصوف هو الذات القائمة بنفسها، والصفة قائمة بها، والقائم بغيره لا يكون مثل القائم بنفسه.

وإن أرادوا به شيئا غير صفاته، مثل بدن المسيح وروحه،

فذلك مخلوق له، والمخلوق لا يكون مثل الخالق، وكذلك روح القدس - سواء أريد به ملك أو هدى وتأييد - ليس مثلا لله عز وجل.

الرابع: أنه قال (لنخلق خلقا) أو قال: (نخلق آدم أو نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا) وعلى ما قالوه: (نخلق خلقا على شبهنا ومثالنا)، وبكل حال، فهذا وكلمة الله وروحه عندهم غير مخلوق فامتنع أن يكون المراد بذلك كلمته وروحه.

وإن قالوا: أراد بذلك الناسوت المسيحي، فلا فرق بين ذلك الناسوت وسائر النواسيت، مع أن المراد بذلك النص آدم أبو البشر باتفاق الأمم، والناسوت نفسه ليس هو كلمة الله وروحه.

الخامس: أنه لو قدر أنه أريد بذلك أن كلام الله يشبه ذاته من بعض الوجوه، مثل كونه قديما بقدمه - لم يكن في ذلك ما يدل على الأقانيم الثلاثة.

وكذلك اللفظ المعروف وهو قوله: (سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا) فهذا لا يدل على التثليث بوجه من الوجوه، وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه، وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وإذا قيل هذا حي عليم قدير، وهذا حي عليم قدير، فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير - لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلا لهذا المسمى فيما يجب ويجوز ويمتنع.

بل هنا ثلاثة أشياء:

أحدها: القدر المشترك، الذي تشابها فيه، وهو معنى كلي لا يختص به أحدهما، ولا يوجد كليا عاما مشتركا إلا في علم العالم.

والثاني: ما يختص به هذا، كما يختص الرب بما يقوم به من الحياة والعلم والقدرة.

والثالث: ما يختص به (ذاك، كما يختص به) العبد من الحياة والعلم والمقدرة، فما اختص به الرب عز وجل لا يشركه فيه العبد، ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد، وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب، ولا يستحق شيئا من صفات الكمال التي يختص بها الرب عز وجل.

وأما القدر المشترك كالمعنى الكلي الثابت في ذهن الإنسان فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق، فالاشتراك فيه لا محذور فيه.

ولفظ التوراة فيه: (سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا)، لم يقل: على مثالنا وهو كقول النبي في الحديث الصحيح (لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته) فلم يذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كموسى ومحمد إلا لفظة شبه دون لفظ مثل.

وقد تنازع الناس: هل لفظ الشبه والمثل بمعنى واحد أو معنيين، على قولين:

أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقا ومقيدا يدل عليه لفظ الشبه، وهذا قول طائفة من النظار.

والثاني: أن معناها مختلف عند الإطلاق لغة وشرعا وعقلا، وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر، وهذا قول أكثر الناس، وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية، وهو أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه، وللناس في ذلك قولان: فمن منع أن يشبهه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد، ومن قال: إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه - فرق بينهما عند الإطلاق،

وهذا قول جمهور الناس، فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان تشتبه في كونها ألوانا، مع أن السواد ليس مثل البياض، وكذلك الأجسام والجواهر عند جمهور العقلاء تشتبه في مسمى الجسم والجوهر، وإن كانت حقائقها ليست متماثلة، فليست حقيقة الماء مماثلة لحقيقة التراب، ولا حقيقة النبات مماثلة لحقيقة الحيوان، ولا حقيقة النار مماثلة لحقيقة الماء وإن اشتركا في أن كلا منهما جوهر وجسم وقائم بنفسه.

وأيضا فمعلوم في اللغة أنه يقال: هذا يشبه هذا، وفيه شبه من هذا، إذا أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفا له في الحقيقة.

قال الله تعالى: وأتوا به متشابها.

وقال: منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم.

فوصف القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل؛ فإن القلوب وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة، وقال النبي : الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس).

فدل على أنه يعلمها بعض الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة، بل بعضها حرام وبعضها حلال.

والوجه السادس: أن قوله: (سنخلق خلقا على شبهنا) لا يتناول صفته، مثل كلامه وحياته القائمة به، فإن ذلك ليس بمخلوق، وحينئذ فهذا لا يتناول اللاهوت الذي يزعمون أنه تدرع بالناسوت، فإن اللاهوت ليس بمخلوق.

وأما الناسوت فهو كسائر نواسيت الناس لا اختصاص له، بأن يكون شبيها لله دون سائر النواسيت، فقوله: فمن هو الشبه المخلوق سوى كلمته وروحه؟ - باطل على كل تقدير.

وأما قوله: (ها آدم قد صار كواحد منا)، وقولهم: إن هذا قول واضح أن الله قال هذا القول لابنه روح قدسه، فإن أرادوا أن يجعل الذي صار كواحد منا لابنه، كان هذا من أبطل الكلام؛ فإن هذا الابن إن كان المراد به الكلمة التي هي صفة لله، فتلك لم يخلق لها أمر يصير كواحد منهم، وتلك لا تسمى آدم ولا سماها الله ابنا.

وإن أريد به ناسوت المسيح فذاك مخلوق مبتدع يمتنع أن يكون كالقديم الأزلي، وأيضا فإن الله قال عن آدم، وآدم ليس هو المسيح، ولا يجوز أن يقال: آدم ويراد به المسيح، كما لا يجوز أن يقال: عصى آدم ويراد به المسيح، وأيضا فإنه قال: (ها آدم قد صار كواحد منا) هذه إشارة إلى أمر قد كان في الزمن الماضي، ليس هو إشارة إلى ما سيكون بعد ذلك بألوف من السنين، وإن أرادوا أن الله قال لابنه الذي هو كلمته وروحه، وهذا هو مرادهم، كقولهم: إنه قال هذا القول يستهزئ بآدم، أي أنه طلب أن يصير كواحد منا، صار هكذا عريانا مفتضحا، ويكون شبهتهم قوله: (منا) لأنه عبر بصيغة الجمع، (وكذلك إن أرادوا هذا بقوله (نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا) فاحتجوا على التثليث بصيغة الجمع.

وهذا مما احتج به نصارى نجران على النبي فاحتجوا بقوله تعالى (إنا)، (نحن) قالوا: وهذا يدل على أنهم ثلاثة، وكان هذا من المتشابه الذي اتبعوه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وتركوا المحكم المبين الذي لا يحتمل إلا واحدا، فإن الله في جميع كتبه الإلهية قد بين أنه إله واحد، وأنه لا شريك له، ولا مثل له.

وقوله: (إنا)، (نحن) لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء وأمثال، وعلى الواحد المطاع العظيم الذي له أعوان يطيعونه، وإن لم يكونوا شركاء ولا نظراء، والله تعالى خلق كل ما سواه، فيمتنع أن يكون له شريك أو مثل، والملائكة وسائر العالمين جنوده تعالى.

قال تعالى: وما يعلم جنود ربك إلا هو.

وقال تعالى: ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما.

فإذا كان الواحد من الملوك يقول: إنا، ونحن، ولا يريدون أنهم ثلاثة ملوك فمالك الملك رب العالمين، رب كل شيء ومليكه هو أحق بأن يقول: إنا، ونحن، مع أنه ليس له شريك، ولا مثيل، بل له جنود السماوات والأرض.

وأيضا فمن المعلوم أن آدم لم يطلب أن يصير مثل الله ولا مثل صفاته كعلمه وحياته، وأيضا فليس في ظاهر اللفظ أن الله خاطب صفاته بتلك.

وأيضا فالصفة القائمة بالموصوف لا تخاطب ولا تخاطب، وإنما يخاطب الموصوف، ولم يكن قد خلق آدم ناسوت المسيح، ولا غيره من البشر حتى يخاطبه، فعلم أن دعواهم أن الله خاطب صفته التي سموها ابنا وروح قدس - كلام باطل، بل قد يخاطب ملائكته.

وآدم عليه السلام أراد ما أطمعه الشيطان من الخلد والملك، كما قال تعالى: فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى.

فصل: رد استدلالهم على ربوبية عيسى بما ورد عن إهلاك قوم لوط

قالوا: وقال الله عندما أخسف بسدوم وعامورة، قال في التوراة: (وأمطر الرب من عند الرب من السماء على سدوم وعامورة نارا وكبريتا) 32 أوضح بهذا ربوبية الأب والابن.

والجواب: أن احتجاجهم بهذا من أبطل الباطل لوجوه:

أحدها: أن تسمية الله علمه وحياته ابنا وربا تسمية باطلة، لم يسم موسى في التوراة شيئا من صفات الله باسم الابن ولا باسم الأب، فدعوى المدعي أن موسى عليه السلام أراد بالرب شيئا من صفات الله، أو أن له صفة تسمى ابنه - كلام باطل.

الثاني: أنه لو قدر أن صفة الله تسمى بذلك فمعلوم أن الذي أمطر هو الذي كان المطر عنده، لم يكن المطر عند أحدهما (والآخر هو الممطر، كما لا يجوز أن يقال خلق أحدهما) من شيء عند الآخر، ولا أنزل أحدهما المطر من سحاب الآخر.

الثالث: أن الصفة لا تفعل شيئا، ولا عندها شيء، بل هي قائمة بالموصوف، والذات المتصفة بالصفة هي التي تفعل، وعندها يكون ما يكون.

الرابع: أن هذا بمنزلة قوله: (أمطر الرب من عنده) لكن جعل الاسم الظاهر موضع المضمر إظهارا، لأن الأمر له وحده في هذا وهذا.

ومثل هذا في القرآن كقوله: الحاقة ما الحاقة؛ القارعة ما القارعة.

وقال تعالى: تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم؛ تنزيل من الرحمن الرحيم.

والله هو المنزل، ولم يقل مني.

فصل: رد استدلالهم بما ورد عن داود على ربوبية المسيح

قالوا: نذكر ثالثا، وقال داود في الزبور في المزمور المائة والتسعة قائلا: (قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك تحت موطأ قدميك).

والجواب من وجوه:

أحدها: أنه لا يجوز أن يراد بـ (ربي) شيء من صفات الله، فإنه لم يسم داود ولا أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله ربا ولا ابنا، ولا قال أحد لشيء من صفات الله: يا رب ارحمني، ولا قال لعلم الله أو كلامه أو قدرته: يا رب، وإذا لم يكونوا يسمون صفات الله ربا، ولو كان المسيح صفة من صفاته لم يجز أن يكون هو المراد بلفظ الرب، فكيف وناسوته أبعد عن اللاهوت أن يراد بذلك؟ فعلم أنهم لم يريدوا بذلك لا اللاهوت ولا الناسوت.

الثاني: أنه قال: قال الرب لربي، فأضاف إليه الثاني دون الأول وأنه هو ربه الذي خلقه، وعامة ما عند النصارى من الغلو أن يقولوا: إله حق من إله حق، ويجعلونه خالقا، أما أن يجعلوه أحق من الأب بكونه رب داود، فهذا لم يقولوه، وهو ظاهر البطلان.

الثالث: أنه ليس في هذا ذكر الأقانيم الثلاثة، غايته لو كان كما تأولوه أن يكون فيه ذكر الابن، وأما الأقانيم الثلاثة فلم ينطق بها شيء من كتب الله التي بأيديهم، فضلا عن القرآن لا بلفظها ولا معناها، بل ابتدعوا لفظ الأقنوم، وعبروا به عما جعلوه مدلول كتب الله، وهي لا تدل على ذلك فكانوا في ذلك مترجمين لكلام الله، وهم لم يفهموا معناه، ولا عبروا عنه بعبارة تدل على المراد.

الرابع: أنه قال: لربي، وهذا يراد به السيد، كما قال يوسف: إنه ربي أحسن مثواي.

وقال لغلام الملك: اذكرني عند ربك.

وقال تعالى: فأنساه الشيطان ذكر ربه.

ولهذا ذكر الأول مطلقا والثاني مقيدا، فيكون المعنى: وقال الله لسيدي: قال رب العالمين لسيدي، وسماه سيدا تواضعا من داود وتعظيما له، لاعتقاده أنه أفضل منه.

فصل

قالوا: نذكر رابعا، وقال في المزمور الثاني: (الذي قال لي: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك).

والجواب من وجوه:

أحدها: أن هذا ليس فيه تسمية صفات الله - علمه وحياته - ابنا، ولا فيه ذكر الأقانيم الثلاثة، فليس فيه حجة لشيء مما تدعونه.

والثاني: أن هذا حجة عليهم، فإنه هو سمى داود ابنه، فعلم أن اسم الابن ليس مختصا بالمسيح عليه السلام، بل سمى غيره من عباده ابنا، فعلم أن اسم الابن ليس اسما لصفاته، بل هو اسم لمن رباه من عبيده. وحينئذ فلا تكون تسمية المسيح ابنا لكون الرب أو صفته اتحدت به، بل كما سمى داود ابنا، وكما سمى إسرائيل ابنا فقال: (أنت ابني بكري).33

وهذا في كتبهم، كما ذكر، (فإن كان ما في كتبهم قول الله فلا حجة فيه، لأنه أراد المربى، وإن لم يكن قول الله ورسله) فلا حجة فيه، لأن قول غير المعصوم ليس بحجة.

الثالث: أن قوله: (وأنا اليوم ولدتك) يدل على حدوث هذا الفعل، وعندهم تولد الكلمة التي يسمونها الابن من الأب قديم أزلي، كما قالوا في أمانتهم (وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر الذي به كان كل شيء).

فهذا الابن عندهم مولود من الأب قبل كل الدهور، وذاك ولد في يوم خاطبه بعد خلق داود فلم يكن في هذا المحدث دليل على وجود ذلك القديم.

الوجه الرابع: أنه إذا كان الأب في لغتهم هو الرب الذي يربي عبده، أعظم مما يربي الأب ابنه، كان معنى لفظ الولادة مما يناسب معنى هذه الأبوة، فيكون المعنى: اليوم جعلتك مرحوما مصطفى مختارا.

والنصارى قد يجعلون الخطاب الذي هو ضمير لغير المسيح، يراد به المسيح، فقد يقولون: المراد بهذا المسيح، وهذا باطل لا يدل اللفظ عليه، وبتقدير صحته، فهو يدل على أن المسيح هو الناسوت المخلوق، وهو المسمى بالابن، لقوله (وأنا اليوم ولدتك). واللاهوت عندهم مولود من قبل الدهور، وحينئذ فإن كان المراد به يوم ولادته، فالمعنى خلقتك، وإن كان يوم اصطفاه، فالمراد اليوم اصطفيتك وأحببتك، كأنه قال: اليوم جعلتك ولدا وابنا، على لغتهم.

فصل: رد استدلالهم بذكر التوراة إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب على تعدد ألوهيته سبحانه

قالوا: نذكر خامسا، وفي السفر الثاني من التوراة: وكلم الله موسى من العليقة قائلا: (أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب)، ولم يقل أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، بل كرر اسم الإله ثلاث دفوع قائلا: أنا إله وإله؛ لتحقق مسألة الثلاث أقانيم في لاهوته.

والجواب: أن الاحتجاج بهذا على الأقانيم الثلاثة من أفسد الأشياء، وذلك يظهر من وجوه:

أحدها: أنه لو أريد بلفظ الإله أقنوم الوجود، وبلفظ الإله مرة ثانية أقنوم الكلمة، وبالثالث أقنوم الحياة، لكان الأقنوم الواحد إله إبراهيم، والأقنوم الثاني إله إسحاق، والأقنوم الثالث إله يعقوب، فيكون كل من الأقانيم الثلاثة إله أحد الأنبياء الثلاثة، والأقنومين ليسا بإلهين له.

وهذا كفر عندهم، وعند جميع أهل الملل، وأيضا فيلزم من ذلك أن يكون الآلهة ثلاثة، وهم يقولون: إله واحد، ثم هم إذا قالوا: كل من الأقانيم إله واحد، فيجعلون الجميع إله كل نبي، فإذا احتجوا بهذا النص على قولهم لزم أن يكون إله كل نبي، ليس هو إله النبي الآخر، مع كون الآلهة ثلاثة.

الوجه الثاني: أنه يقال: إن الله رب العالمين، ورب السماوات ورب الأرض ورب العرش ورب كل شيء، أفيلزم أن يكون رب السماوات ليس هو رب الأرض، رب كل شيء.

وكذلك يقال: إله موسى وإله محمد، مع قولنا: إله إبراهيم وإسحاق، ويعقوب، (أفتكون الآلهة خمسة، وقد قال يعقوب لبنيه: (ما تعبدون من بعدي)، قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق.

أفتراه أثبت إلهين: أحدهما إلهه، والآخر إله الثلاثة؟

الوجه الثالث: أن العطف يكون تارة لتغاير الذوات، وتارة لتغاير الصفات كقوله تعالى: سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى.

والذي خلق هو الذي قدر وأخرج، وكذلك قوله: إلهك وإله آبائك.

وهو هو سبحانه، وقال إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه لقومه:

قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين

والذي خلقه هو الذي يطعمه ويسقيه، وهو الذي يميته ثم يحييه.

فقوله في التوراة: إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، هو من هذا الباب، ولا يختص هذا بثلاثة، بل يقال في الاثنين والأربعة والخمسة بحسب ما يقصد المتكلم ذكره من الصفات، وفي هذا من الفائدة ما ليس في قوله: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فإنه لو قيل ذلك لم يفد إلا أنه معبود الثلاثة، لا يدل على أنهم عبدوه مستقلين، كل منهم عبده عبادة اختص بها، لم تكن هي نفس عبادة الأول.

وأيضا فإنه إذا قيل: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب دل على عبادة كل منهم باللزوم، وإذا قال: وإله، دل على أنه معبود كل من الثلاثة، فأعاده باسم الإله الذي يدل على العبادة دلالة باللفظ المتضمن لها، وفي ذلك من ظهور المعنى للسامع وتفرعه بصورة له من غير فكر - ما ليس في دلالة الملزوم.

فصل: رد استدلالهم بشهادة أشعيا على التثليث

قالوا: وكذلك شهد (أشعيا) بتحقق الثالوث بوحدانية جوهره، وذلك بقوله: (رب القوات)، وبقوله: (رب السماوات والأرض) ومثل هذا القول في التوراة والمزامير شيء كثير حتى اليهود يقرون هذه النبوات، ولا يعرفون لها تأويلا، وهم معترفون بذلك، ولا ينكرون منه كلمة واحدة، وإنما قلوبهم مغلوقة عن فهمه لقساوتها على ما ذكرنا قبل ذلك، وأنهم إذا اجتمعوا في كنيستهم كل سبت يقف الحران أمامهم، ويقول كلاما عبرانيا هذا تفسيره، ولا يجحدونه، (نقدسك، ونعظمك، ونثلث لك تقديسا مثلثا كالمكتوب على لسان نبيك). فيصرخ الجميع مجاوبين: (قدوس قدوس قدوس، رب القوات، ورب السماوات والأرض). فما أوضح إقرارهم بالثالوث، وأشد كفرهم بمعناه، فنحن لأجل هذا البيان الواضح الذي قاله الله في التوراة، وفي كتب الأنبياء فجعلوه ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا، طبيعة واحدة، إلها واحدا، ربا واحدا، خالقا واحدا، وهو الذي نقوله: أب وابن وروح قدس.

والجواب: أما ما في كتب الأنبياء عليهم السلام من تثنية اسم الرب عند إضافته إلى مخلوق آخر فهو من نمط تثنية اسم الإله، وهذا لا يقتضي تعدد الأرباب والآلهة، ولهذا لا يقتضي جعلهم اثنين وأربعة إذا ذكر اللفظ مرتين وأربعة.

فكذلك إذا ذكر ثلاث مرات لا يقتضي أن الأرباب ثلاثة، وهم أيضا لا يقولون بثلاثة أرباب وثلاثة آلهة فلو كان هذا يدل على ثلاثة أرباب وثلاثة آلهة، لدل على نقيض قولهم، بل هم يزعمون أنهم إنما يثبتون إلها واحدا، ولكنهم يناقضون فيصرحون بثلاثة آلهة، ويقولون هم إله واحد.

والكتب لا تدل على قولهم المتناقض بوجه من الوجوه، وأما ما ذكروه من اعتراف اليهود بألفاظ هذه النبوات، ودعواه أنهم لا يعرفون لها تأويلا، فإن أرادوا بالتأويل تفسيرها وما يدل عليه لفظها، فهذا ظاهر لا يخفى على الصبيان من اليهود وغيرهم.

ولكن النصارى ادعوا ما لا يدل عليه اللفظ، وإن أرادوا بالتأويل معنى يخالف ظاهر اللفظ فهذا إنما يحتاج إليه إذا كان ظاهره معنى باطلا، لا يجوز إرادته، وليس ما ذكروا هنا من هذا الباب، بل الكتب الإلهية يكثر فيها مثل هذا الكلام عند أهل الكتاب وعند المسلمين، ولا يفهم منها ثلاثة أرباب أو ثلاثة آلهة إلا من اتبع هواه بغير هدى من الله، وقال قولا مختلفا يؤفك عنه من أفك، ومثل هذا موجود في سائر الكلام يقال: هذا أمير البلد الفلاني، وأمير البلد الفلاني، وأمير البلد الفلاني، وهو أمير واحد.

ويقال: هذا رسول الله إلى الأميين، ورسول إلى أهل الكتاب، ورسول إلى الجن والإنس، وهو رسول واحد.

فصل

وأما قولهم: (نقدسك، ونعظمك، ونثلث لك تقديسا مثلثا، كالمكتوب على لسان نبيك أشعيا).

وقولهم: قدوس، قدوس، قدوس، رب القوات، ورب السماوات والأرض)، فيقال: هذا الكلام صريح في أن المثلث هو نفس التقديس لا نفس الإله المقدس.

وكذلك قولهم: (قدوس، قدوس، قدوس). قدسوه ثلاث مرات، فإنه قال: (نقدسك، ونثلث لك تقديسا مثلثا). فنصب التثليث على المصدر الذي ينصب بفعل التقديس، فقال: نقدسك تقديسا مثلثا. ( فنصب التقديس على المصدر)، كما تقول: سبحتك تسبيحا مثلثا، أي سبحتك ثلاث مرات، وقال: نثلث لك أي نثلث تقديسا لك، لم يقل: أنت ثلاثة، بل جعلوا أنفسهم هم الذين يقدسون التقديس المثلث، وهم يثلثون له، وهذا صريح في أنهم يسبحونه ثلاث مرات، ولا يسبحون ثلاثة آلهة، ولا ثلاثة أقانيم.

وهذا كما في السنن عن ابن مسعود، عن النبي أنه قال: (إذا قال العبد في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاثا، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثا، فقد تم سجوده وذلك أدناه)، والتسبيح هو تقديس الرب، وأدناه أن يقدسه ثلاث مرات، فمعناه: قدسوه ثلاث مرات، لا تقتصروا على مرة واحدة.

ولهذا يقولون مجاوبين: قدوس، قدوس، قدوس، فيقدسونه ثلاث مرات، فعلم أن المراد تثليث التقديس حيث ما دل عليه لفظه، وما يفعلونه ممتثلين لهذا الأمر، وما يفعل في نظير ذلك من تثليث تقديسه، وأن يقدس ثلاث مرات لا أن يكون المقدس ثلاث أقانيم، فإن هذا أمر لم ينطق نبي من الأنبياء به لا لفظا ولا معنى، بل جميع الأنبياء عليهم السلام أثبتوا إلها واحدا له الأسماء الحسنى.

وأسماؤه متعددة تدل على صفاته المتعددة، ولا يختص ذلك بثلاثة أسماء، ولا بثلاث صفات، (وليست الصفات أقنوما هو ذات وصفة، بل ليس إلا ذات واحدة لها صفات) متعددة، فالتعدد في الصفات لا في الذات التي يسمونها الجوهر، ولا في الذات والصفة التي يسمونها الأقنوم.

فصل: رد دعوى إقرار اليهود بالثالوث وكفرهم بمعناه

قالوا: فما أعظم إقرارهم في الثالوث، وأشد كفرهم بمعناه.

فيقال: هذا من الافتراء الظاهر على اليهود، وإن كان اليهود كفارا فلم يكن كفرهم لأجل إنكار الثالوث، بل لو أقروا به لكان زيادة في كفرهم يزيد به عذابهم.

كما أن النصارى لما كفروا لم يكن كفرهم بإقرارهم بأن المسيح المبشر به الذي قد ظهر ليس هو المسيح الدجال الذي تنتظره اليهود، وإذا خرج كانوا شيعته ويقتلهم المسلمون معه شر قتلة، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله.

بل لو كفروا بالمسيح كما كفرت اليهود لكان ذلك زيادة في كفرهم.

وعند اليهود، وعندهم في التوراة 34 من التوحيد المحض الذي يبطل تثليثكم ما لا يخفى إلا عمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله، وهداه الذي هدى به عباده.

فصل: رد نسبتهم التثليث إلى كلام الأنبياء

قالوا: فمن أجل هذا البيان الواضح الذي قاله الله في التوراة، وفي كتب الأنبياء نجعل ثلاثة أقانيم: جوهرا واحدا، إلها واحدا، خالقا واحدا.

وهو الذي نقوله: أب، وابن، وروح قدس.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن في التوراة والكتب الإلهية من إثبات وحدانية الله، ونفي تعدد الآلهة، ونفي إلهية ما سواه - ما هو صريح في إبطال قول النصارى ونحوهم، وليس فيها ذكر الأقانيم لا لفظا ولا معنى، حيث يجعلون الأقنوم اسما للذات مع الصفة، والذات واحدة، والتعدد في الصفات لا في الذات.

ولا يمكن أن تتحد صفة دون الأخرى، ولا دون الذات، فيمتنع اتحاد أقنوم أو حلوله بشيء من المخلوقات دون الأقنوم الآخر، ولا إثبات ثلاثة أقانيم ولا إثبات ثلاث صفات دون ما سواها في شيء من الكتب الإلهية، ولا كلام الحواريين، ولا إثبات إله حق من إله حق، ولا تسمية صفات الله - مثل كلامه وحياته - لا ابنا، ولا إلها، ولا ربا، ولا إثبات اتحاد الرب خالق السماوات والأرض بشيء من الآدميين، ولا حلول ذات وصفة دون ذات مع الصفات الأخرى، بل ولا حلول نفس الصفة القائمة به في غيره، لا علمه ولا كلامه ولا حياته، ولا غير ذلك.

بل جميع ما أثبتوه من التثليث والحلول والاتحاد ليس في كتب الأنبياء التي بأيديهم ما يدل عليه، بل فيها أقوال كثيرة صريحة بنقيض ذلك مع القرآن والعقل، فهم مخالفون للمعقول وكتب الله المنزلة.

الثاني: أنهم يقولون: إنما نثبت إلها واحدا، ثم يقولون في أمانتهم وأدلتهم وغير ذلك من كلامهم ما هو صريح بإثبات ثلاثة آلهة، فينقضون كلامهم بعضهم ببعض، ويقولون من الأقوال المتناقضة ما يعلم بطلانه كل عاقل تصوره.

وهذا لا ينضبط لهم قول مطرد، كما يقول من يقول من عقلاء الناس: إن النصارى ليس لهم قول يعقله عاقل، وليس أقوالهم منصوصة عن الأنبياء، فليس معهم لا سمع ولا عقل، كما قال الله تعالى عن أصحاب النار: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.

وهم أيضا يبطنون خلاف ما يظهرون، ويفهم جمهور الناس من مقالاتهم خلاف ما يزعم بعضهم أنه مرادهم، فإنه قد تقدم آنفا من استدلالهم بالتوراة، وقوله: (وكلم الله موسى من العليقة قائلا: أنا إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب) قالوا: ولم يقل: أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، بل كرر اسم إله ثلاث دفوع قائلا: أنا إله وإله وإله، لتحقق مسألة الثلاث أقانيم في لاهوته، فيقال لهم: وإن كان هذا التكرير لا يقتضي إلا إثبات إله واحد فلا حجة لكم فيه، كما لو قال أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وإن كان يقتضي إثبات ثلاثة آلهة: فقد أثبتم ثلاثة آلهة، وأنتم تقولون: لا نثبت إلا إلها واحدا، وإن كان المعنى: إنه إله واحد موصوف بأنه معبود إبراهيم، ومعبود إسحاق، ومعبود يعقوب، فلا حجة لكم فيه على التثليث والأقانيم، (بحيث تجعلون الأقنوم اسما للذات مع صفة والذات واحدة، فالتعدد في الصفات لا في الذات، ولا يمكن أن تتحد صفة دون أخرى، ولا دون الذات فيمتنع اتحاد أقنوم وحلوله بشيء من المخلوقات دون الأقنوم الآخر.

الوجه الثالث: قولهم: وهو الذي نقوله: أب، وابن، وروح القدس، قد تقدم أن هذا القول هم معترفون بأنهم لم يقولوه ابتداء، ولا علموا بالعقل التثليث الذي قالوه في أمانتهم، ثم عبروا عنه بهذه العبارة، بل هذه العبارة منقولة عندهم في بعض الأناجيل: أن المسيح عليه الصلاة والسلام أمر أن يعمدوا الناس بها، وحينئذ، فالواجب إذا كان المسيح قالها أن ينظر ما أراد بها، وينظر سائر ألفاظه ومعانيها فيفسر كلامه، بلغته التي تكلم بها تفسيرا يناسب سائر كلامه.

وهؤلاء حملوا كلام المسيح والأنبياء عليهم السلام على شيء لا يدل عليه كلامهم، بل يدل على نقيضه فسموا كلام الله أو علمه أو حكمته أو نطقه - ابنا، وهذه تسمية ابتدعوها لم يسم أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله باسم الابن، ولا باسم الرب، ولا باسم الإله، ثم لما أحدثوا هذه التسمية قالوا: مراد المسيح بالابن هو الكلمة، وهذا افتراء على المسيح عليه السلام، وحمل لكلامه على معنى لا يدل عليه لفظه.

ولفظ الابن عندهم في كتبهم يراد به من رباه الله تبارك وتعالى، فلا يطلق عندهم في كلام الأنبياء لفظ الابن قط، إلا على مخلوق محدث، ولا يطلق إلا على الناسوت دون اللاهوت، فيسمى عندهم إسرائيل ابنا وداود ابنا لله، والحواريون كذلك، بل عندهم في إنجيل يوحنا في ذكر المسيح إلى خاصته، أي وخاصته لم يقبلوه، والذين قبلوه أعطاهم ليكونوا أبناء الله الذي ليس من دم ولا من مشبه لحم، ولا من مشبه رجل، بل من الله ولد.

فهذا إخبار بأنهم يكونون جميعا أبناء الله، وهم معترفون بأنه ليس فيهم لاهوت يتحد بناسوت، بل كل منهم ناسوت محض، فعلم أن الكتب ناطقة بأن لفظ ابن الله يتناول الناسوت فقط، وليس معهم لفظ ابن الله، والمراد به صفة من صفات الله.

فقولهم: إن المسيح أراد بلفظ الابن اللاهوت كذب بين عليه، والمسيح لا يسمى ابنا بهذا الاعتبار، وروح القدس لم يعبر بها أحد من الأنبياء عن حياة الله التي هي صفته، بل روح القدس في كتب الله يراد بها الملك، ويراد بها الهدى والوحي والتأييد، فيقال: روح الله، كما يقال: نور الله، وهدى الله، ووحي الله، وملك الله، ورسول الله، لم يرد به أحد من الأنبياء، بقوله: روح الله، وروح القدس - ما يريده الإنسان بقوله: (روحي).

فالإنسان مركب من روح وبدن، وفي بدنه بخار يخرج من القلب، ويسري في بدنه، وله جوف يخرج منه هواء ويدخل فيه، فإذا قيل: روح الإنسان فقد يراد بها الروح التي بها البخار اللطيف الذي في البدن، وقد يراد بها الريح الذي يخرج من جوف البدن، ويدخل فيه.

والله تبارك وتعالى بإجماع المسلمين واليهود والنصارى ليس هو روحا وبدنا كالإنسان، وهو سبحانه أحد صمد، لا جوف له، ولا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء، لا بخار ولا هواء متردد.

وقد يعبر بعض الناس بلفظ الروح عن الحياة، والله تعالى حي له حياة، لكن لم ترد الأنبياء عليهم السلام بقولهم: روح القدس - حياة الله، بل أرادوا به ما يجعله الله في قلوب الأنبياء ويؤيدهم به، كما يراد بنور الله ذلك، قال الله تعالى:

الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم.

فضرب الله مثلا للمؤمن الذي جعل صدره كالمشكاة، وقلبه كالزجاجة في المشكاة، ونور الإيمان الذي في قلبه - وهو نور الله - كالمصباح الذي في الزجاجة، وذلك النور الذي في قلبه ليس هو نفس صفة الله القائمة به.

فتبين أن العارف كلما تدبر ما قالته الأنبياء، وما قاله أهل البدع من النصارى وغيرهم، لم يجد لهم في كلام الأنبياء إلا ما يدل على نقيض ضلالهم لا ما يدل على ضلالهم.

فصل: رد إنكارهم أنهم يعبدون ثلاثة آلهة

قالوا: وقد علمنا أنه لا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة، بل إله واحد، كما لا يلزمنا إذا قلنا: الإنسان ونطقه وروحه ثلاثة أناسي، بل إنسان واحد، ولا إذا قلنا: لهيب النار وضوء النار وحرارة النار ثلاثة نيران، ولا إذا قلنا: قرص الشمس، وضوء الشمس وشعاع الشمس ثلاثة شموس، وإذا كان هذا رأينا في الله تقدست أسماؤه، وجلت آلاؤه فلا لوم علينا، ولا ذنب لنا إذ لم نهمل ما تسلمناه ولا نرفض ما تقلدناه ونتبع ما سواه، (ولا سيما أن لنا هذه الشهادات البينات والدلائل الواضحات من الكتاب الذي أتى به هذا الرجل).

والجواب من وجوه:

أحدها أنكم صرحتم بتعدد الآلهة والأرباب في عقيدة إيمانكم وفي استدلالكم وغير ذلك من كلامكم، فليس ذلك شيئا ألزمكم الناس به، بل أنتم تصرحون بذلك، كما تقدم من قولكم: نؤمن بإله واحد، أب، ضابط الكل، خالق ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور إله حق من إله حق، من جوهر أبيه يولد، غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي مع الأب، مسجود له وممجد.

فهذا تصريح بالثلاثة أرباب، وأن الابن إله حق من إله حق، ومع تصريحكم بثلاثة أرباب وتصريحكم بأن هذا إله حق من إله حق، تقولون: إن ذلك إله واحد، وهذا تصريح بتعدد الآلهة مع القول بإله واحد.

ولو لم تذكروا ما يقتضي أنه جوهر آخر، لأمكن أن يحمل كلامكم على عطف الصفة، لكن يكون كلامكم أعظم كفرا، فتكونون قد جعلتم المسيح هو نفس الإله الواحد الأب، خالق ما يرى وما لا يرى، وهذا أعظم من كفركم مع أن هذا حقيقة قولكم، فإنكم تقولون: المسيح هو الله، وتقولون: هو ابن الله (كما ذكر الله القولين عنكم في كلامه، وكفركم بذلك، وليس هذا قول طائفة وهذا قول طائفة) كما يقوله بعض الناس، بل القولان جميعا يقولهما فرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية ونحوهم، وهذا أيضا من تناقضكم فإنه إن كان هو الله لم يكن هو ابن الله، سواء عبر بالابن عن الصفة أو غيرها فإن الأب هو الذات، والذات ليست هي الصفة، وإن عنى بالابن الذات مع صفة الكلام، كما تفسرون الأقنوم بذلك - فهذه الذات متصفة مع ذلك بالحياة، والكلام - سواء عنوا به العلم أو البيان مع العلم - هو مع الحياة قائم بالأب، والصفة ليست عين الموصوف، بل ولا يعبر عنها بأنها ابن الموصوف، ولا عبر بذلك أحد من الأنبياء عليهم السلام.

والمقصود أنهم لم يريدوا بقولهم: وبرب واحد يسوع المسيح - عطف الصفة، وأن هذا هو الأب كما قال: إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب فهذا إله واحد، والعطف لتغاير الصفة، فلو كان المراد بالابن نفس الأب لكان هذا خلاف مذهبهم، ويكونون قد جعلوه إلها من نفسه فقالوا: إلهان، بل ثلاثة، وهو واحد.

فهذا لو أرادوه لكان أعظم في الكفر، بل قالوا: وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق. فصرحوا بأنه رب، وأنه إله حق من إله حق، وصرحوا بإله ثان مع الإله الأول.

وقالوا مع ذلك: إنه مولود من الأب قبل كل الدهور، وإنه مولود غير مخلوق، فامتنع أن يريدوا بذلك الناسوت، فإن الناسوت مخلوق.

وهم يقولون: إن الكلمة هي المتولدة من الأب. والكلمة صفة المتكلم وقائمة به، والكلام ليس برب ولا بإله، بل هو كلام الرب الإله، كما أن سائر كلام الله كالتوراة والإنجيل والقرآن ليس هو الرب والإله، ثم قلتم: مساو الأب في الجوهر فاقتضى هذا أن يكون المولود الذي هو الكلمة جوهرا، وأنه مساو الأب في الجوهر، والمساوى ليس هو المساوي.

وهذا يقتضي إثبات جوهر ثان مساو الجوهر الأول، وهو صريح بإثبات إلهين، ويقولون مع ذلك: إنه إله واحد جوهر واحد، ولا يقال الجوهر مع العلم الذي يعبرون عنه بالأقنوم مساو الجوهر الذي هو الذات؛ فإن الجوهر هو الذات، وليس هنا جوهران، أحدهما مجرد عن العلم، والآخر متصف به، حتى يقال: إن أحدهما مساو للآخر، بل الرب تعالى هو الذات المتصفة بالعلم، فإن كان الأب هو الذات المجردة، فالابن أكمل من الأب، وهو الذات مع العلم، والأب بعض الابن.

وكذلك يلزمهم أن يكون الابن هو بعض روح القدس؛ فإنهم في أمانتهم جعلوا روح القدس هو الرب المحيي، والرب المحيي هو الذات المتصفة بالحياة، والذات المجردة بعض ذلك، فإن كان الأب هو الذات المجردة فالابن بعض روح القدس.

ثم قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي -: إنه منبثق من الأب مسجود له ممجد، ناطق في الأنبياء، فإن كان المنبثق ربا حيا، فهذا إثبات إله ثالث، وقد جعلتم الذات الحية منبثقة من الذات المجردة، وفي كل منهما من الكفر والتناقض ما لا يخفى.

ثم جعلتم هذا الثالث مسجودا له، والمسجود له هو الإله المعبود، وهذا تصريح بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض، ثم جعلتموه ناطقا بالأنبياء، وهذا تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالث بجميع الأنبياء، فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبا من لاهوت وناسوت، وأنه إله تام وإنسان تام، كما قلتم في المسيح إذ لا فرق بين حلول الكلمة وحلول روح القدس، كلاهما أقنوم.

وأيضا فيمتنع حلول إحدى الصفتين دون الأخرى، وحلول الصفة دون الذات، فيلزم أن يكون الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة حالا في كل نبي، ويكون كل نبي هو رب العالمين، ويقال مع ذلك: هو ابنه، وفي هذا من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى، وهذا لازم للنصارى لزوما لا محيد عنه، فإن ما ثبت للشيء ثبت لنظيره، ولا يجوز التفريق بين المتماثلين، وليس لهم أن يقولوا: الحلول أو الاتحاد في المسيح ثبت بالنص، ولا نص في غيره، لوجوه:

أحدها: أن النصوص لم تدل على شيء من ذلك، كما قد تبين.

الثاني: أن في غير المسيح من النصوص ما شابه النصوص الواردة فيه، كلفظ الابن، ولفظ حلول روح القدس فيه، ونحو ذلك.

الثالث: أن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول، وليس كل ما علمه الله وأكرم به أنبياءه أعلم به الخلق بنص صريح، بل من جملة الدلالات دلالة الالتزام.

وإذا ثبت الحلول والاتحاد في أحد النبيين بمعنى مشترك بينه وبين النبي الآخر - وجب التسوية بين المتماثلين، كما إذا ثبت أن النبي يجب تصديقه لأنه نبي.

ويكفر من كذبه لأنه نبي، فيلزم من ذلك أنه يجب تصديق كل نبي وتكفير من كذبه.

الرابع: هب أنه لا دليل على ثبوت ذلك في الغير، فيلزم تجويز ذلك في الغير؛ إذ لا دليل على انتفائه، كما يقولون: إن ذلك كان ثابتا في المسيح قبل إظهاره الآيات على قولهم، وحينئذ فيلزمهم أن يجوزوا في كل نبي أن يكون الله قد جعله إلها تاما وإنسانا تاما كالمسيح وإن لم يعلم ذلك.

الخامس: أنه لو لم يقع ذلك، لكنه جائز عندهم، إذ لا فرق في قدرة الله بين اتحاده بالمسيح واتحاده بسائر الآدميين، فيلزمهم تجويز أن يجعل الله كل إنسان إلها تاما وإنسانا تاما، ويكون كل إنسان مركبا من لاهوت وناسوت، وقد تقرب إلى هذا اللازم الباطل من قال بأن أرواح بني آدم من ذات الله، وأنها لاهوت قديم أزلي، فيجعلون نصف كل آدمي لاهوتا، ونصفه ناسوتا، وهؤلاء يلزمهم من المحالات أكثر مما يلزم النصارى من بعض الوجوه، والمحالات التي تلزم النصارى أكثر، من بعض الوجوه.

الوجه الثاني: قولهم: ولا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة بل إله واحد، كما لا يلزمنا إذا قلنا: الإنسان وروحه ونطقه ثلاثة أناسي، ولا إذا قلنا: النار وحرها وضوءها ثلاث نيران، ولا إذا قلنا: الشمس وضوءها وشعاعها ثلاث شموس.

فيقال: هذا تمثيل باطل لوجوه:

أحدها: أن حر النار وضوءها القائم بها ليس نارا من نار، ولا جوهرا من جوهر، ولا هو مساوي النار والشمس في الجوهر، وكذلك نطق الإنسان، ليس هو إنسانا من إنسان، ولا هو مساو الإنسان في الجوهر، وكذلك الشمس وضوءها القائم بها وشعاعها القائم بها - ليس شمسا ولا جوهرا قائما بنفسه، وأنتم قلتم: إله حق من إله حق، فقلتم في الأمانة: (نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مساوي الأب في الجوهر)، وقلتم في روح القدس: (إنه رب ممجد مسجود له) فأثبتم ثلاثة أرباب.

والثاني: أن الضوء في الشمس والنار يراد به نفس الضوء القائم بها، ويراد به الشعاع القائم بالأرض والجدران، وهذا مباين لها ليس قائما بها، ولفظ النور يعبر به عن هذا وهذا، وكلاهما صفة قائمة بغيرها وعرض، وقد يراد بلفظ النور نفس النار ونفس الشمس والقمر، فيكون النور جوهرا قائما بنفسه، وإذا كان كذلك فهم جعلوا الأب ربا جوهرا قائما بنفسه، والابن أيضا ربا جوهرا قائما بنفسه، وروح القدس ربا جوهرا قائما بنفسه.

ومعلوم أن ضوء النار والشمس وحرارتها ليس كل منهما شمسا ونارا قائما بنفسها، ولا جوهرا قائما بنفسه، فلو أثبتوا حياة الله وعلمه أو كلامه صفتين قائمتين به، ولم يجعلوا هذا ربا جوهرا قائما بنفسه، وهذا ربا جوهرا قائما بنفسه - لكان قولهم حقا وتمثيلهم مطابقا، ولكنهم لم يقتصروا على مجرد جعلهما صفتين لله حتى جعلوا كلا منهما ربا وجوهرا وخالقا، بل صرحوا بأن المسيح الذي يزعمون اتحاد أحدهما به إلها واحدا وخالقا، فلو كان نفس كلمة الله وعلمه لم يكن إلها خالقا، فإن كلام الله وعلمه ليس إلها خالقا، فكيف والمسيح مخلوق بكلمة الله، ليس هو نفس كلمة الله؟

الوجه الثالث: أن قولهم: الشمس وشعاعها وضوءها، إن أرادوا بالضوء ما يقوم بها، وبالشعاع ما ينفصل عنها - فليس هذا مثال النار وحرها ولهبها؛ إذ كلاهما يقوم بها، وعلى هذا فالشمس لم تقم بها إلا صفة واحدة لا صفتين، فلا يكون التمثيل بها مطابقا، وإن أرادوا بالضوء والشعاع كلاهما؛ ما يقوم بها، أو كلاهما؛ ما ينفصل عنها - فكلاهما صفة واحدة ليس هما صفتان كالحياة والعلم، فعلم أن تمثيلهم بالشمس خطأ، وبعضهم يقول: الشمس وحرها وضوءها، كما يقولون مثل ذلك في النار.

وهذا التمثيل أصح لو ثبت أن في جرم الشمس حرارة تقوم بها، فإن هذا لم يقم عليه دليل، وكثير من العقلاء ينكره، ويزعم أن جرم الشمس والقمر والكواكب لا توصف بحرارة ولا برودة، وهو قول أرسطو وأتباعه.

وأما تمثيلهم بروح الإنسان ونطقه، فإن أرادوا بالروح حياته، فليس هذا هو مفهوم الروح، وإن أرادوا بالروح التي تفارق بدنه بالموت وتسمى النفس الناطقة - فهذه جوهر قائم بنفسه ليس عرضا من أعراضه، وحينئذ فيلزم أن تكون روح الله جوهرا قائما بنفسه مع جوهر آخر نظير بدن الإنسان، ويكون الرب سبحانه وتعالى مركبا من بدن وروح كالإنسان، وليس هذا قول أهل الملل، لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى، بل هو كفر عندهم، فتبين أن تمثيلهم بالثلاثة باطل.

والوجه الرابع: أن التمثيل إما أن يقع بصفات الشمس والنار والإنسان، أو النفس القائمة بهذه الجواهر، أو بما هو مباين لذلك، كالضوء الذي يقع على الأرض والحيطان والهواء، وغير ذلك من الأجسام إذا قابلت الشمس أو النار أو الإنسان أو النفس القائمة بهذه الجواهر، فإن أريد هذا فهذا شعاع منعكس، وضوء منقلب، وليس صفة قائمة بالشمس والنار.

وإذا أريد بما حل في المسيح هذا، وهذا يسمى نورا وروحا ويسمى نور الله كما قال تعالى:

الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

وقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

فأخبرنا أنه جعل الروح الذي أوحاه نورا يهدي به من يشاء.

وقال تعالى: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

وقال تعالى:

فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.

وقال تعالى: ويجعل لكم نورا تمشون به.

وقال تعالى: ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

فإذا أريد ما حل في المسيح من الروح والكلمة بهذا المعنى فلا اختصاص للمسيح بذلك، فإن هذا يحل في جميع الأنبياء والمؤمنين، وإن كانوا متفاضلين فيه بحسب درجاتهم، وليس هذا الحال فيهم نفس صفة الله القائمة به، وإن كان ذلك حاصلا عنها ومسببا عنها، لكن ليس هو نفس صفة الله، وإن كان من الناس من يقول: بل صفة الله التي اتصف بها حلت في العبد، فهذا القول خطأ، فإن صفة الموصوف القائمة به يمتنع قيامها بعينها بغيره، ولكن الإنسان إذا تعلم علم غيره، وبلغ كلام غيره يقال: هذا علم فلان وكلامه؛ لأن هذا الثاني بلغه عنه، والمقصود هو علم الأول وكلامه، مع العلم بأن نفس ما قام بذات الأول ليس هو عين ما قام بذات الثاني، وإن كان قد يكون مثله، وقد يكون الأول هو المقصود بالثاني، مثل من بلغ كلام غيره، فكلام المبلغ هو المقصود بالتبليغ.

وصفات المبلغ - كحركته وصوته - التي بها يحصل التبليغ؛ ليس هو نفس المقصود، وإذا قيل هذا كلام المبلغ عنه، فالإشارة إلى حقيقة الكلام المقصود بالتبليغ، لا إلى ما يختص به المبلغ من أفعاله وصفاته، ولهذا شبه الناس من قال بحلول صفة الرب في عبده بالنصارى القائلين بالحلول وهو شبيه بهم من بعض الوجوه.

لكن النصارى لا يقولون بحلول صفة مجردة، بل بحلول الأقنوم الذي هو ذات متصفة بالصفة، ويقولون: إن المسيح خالق ورازق، وهو خالق آدم ومريم، وهو ولد آدم ومريم، وهو خالق لهما بلاهوته ابن لهما بناسوته.

ويقولون: هو ابن الله، وهو الله بلاهوته، ويقولون أيضا باللاهوت والناسوت لأجل الاتحاد، والله كفرهم بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم ونحو ذلك.

وإن أرادوا بتمثيلهم بصفات الشمس والنار والنفس التمثيل بنفس ما يقوم بالشمس والنار والنفس من الضوء والحياة والنطق، وجعلوا ما يثبتونه من الأب والابن وروح القدس - صفات الله، كما أن هذه صفات لهذه المخلوقات.

قيل لهم أولا: لم يعبر أحد من الأنبياء عليهم السلام عن صفات الله باسم الأب والابن وروح القدس، فليس لكم إذا وجدتم في كلام المسيح عليه السلام، أو غيره من الأنبياء ذكر الإيمان بالأب والابن وروح القدس - أن تقولوا: مرادهم بذلك صفة الله التي هي الكلمة والعلم، ولا حياة الله، إذ كانوا لم يريدوا هذا المعنى بهذا اللفظ، وإنما أرادوا باسم الابن وروح القدس ما هو بائن عن الله عز وجل.

والبائن عن الله ليس صفة لله، فضلا عن أن يكون هو الخالق، فضلا عن أن يكون البشر المتحد به خالقا، فقد ضللتم ضلالا بعد ضلال، ضلالا حيث جعلتم مراد المسيح وغيره بالابن وروح القدس - صفة الرب، ثم ضلالا ثانيا حيث جعلتم الصفة خالقا وربا، ثم ضلالا ثالثا حيث جعلتم الصفة تتحد ببشر هو عيسى، ويسمى المسيح ويكون هو الخالق رب العالمين فضللتم في الحلول ضلالا مثلثا بعد ضلالكم في التثليث أيضا ضلالات أخر، حيث أثبتم ثلاث صفات دون غيرها، وجعلتموها جواهر أربابا، ثم قلتم: إله واحد، فضللتم ضلالا مثلثا في التثليث، وضلالا مثلثا في الاتحاد.

وقيل لكم ثانيا: إذا جعلتم ذلك صفات لله، كما أن الضوء والنطق والحرارة صفات لما تقوم بها - امتنع أن تحل بغيرها، وامتنع مع الحلول أن تكون فاعلة فعل النار والشمس والنفس، وأنتم جعلتم الكلمة والحياة حالة بغير الله، وجعلتم ما يحل به إلها خالقا، بل هو الإله الخالق، ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا يجعل ما يحصل فيه ضوء النار - نارا، ولا ما يحصل فيه شعاع الشمس - شمسا، ولا ما يحصل فيه نطق زيد وعلمه - هو نفس زيد، فكان جعلكم المسيح هو الخالق للعالم - مخالفا لتمثيلكم.

وتبين بذلك أن ما ذكرتموه لا يطابقه شيء من الأمثلة، إذ كان كاملا باطلا متناقضا يمتنع تحققه، فلا تمثيل بشيء من الموجودات الثابتة المعلومة، إلا إذا كان تمثيلا غير مطابق.

ولهذا يشبهون الحلول والاتحاد تارة بحلول الماء في الظرف، وتارة بحلول النار في الحديد، وتارة بالنفس والبدن، وتارة يقولون بأنهما جوهر واحد اختلطا كاختلاط الماء واللبن، وكل هذه الأمثال التي ضربوها لله أمثال باطلة، فإن الماء في الظرف وغيره من الأوعية محتاج إلى وعائه، لو انخرق وعاؤه لتبدد، وهو محيط به، ولا يتصف الظرف بشيء من صفات الماء، والرب تعالى يمتنع أن يحتاج إلى شيء من مخلوقاته لا إلى العرش، ولا إلى غيره، أو يحيط به شيء من الموجودات؛ إذ هو الظاهر، فليس فوقه شيء.

كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، فهو غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، ولهذا لم يكن ما وصف الله به نفسه مماثلا لصفات المخلوقين، كما لم تكن ذاته كذوات المخلوقين، فهو مستو على عرشه، كما أخبرنا عن نفسه مع غناه عن العرش.

والمخلوق المستوي على السرير أو الفلك أو الدابة لو ذهب ما تحته لسقط؛ لحاجته إليه، والله غني عن كل ما سواه، وهو الحامل بقدرته للعرش ولحملة العرش.

وفرق النصارى الثلاثة يقولون بالاتحاد، فلا ينفعهم التمثيل بحلول الماء في الظرف، ولو قدر أنهم قالوا بالحلول المجرد مع أن الرب لا يحتاج إلى الناسوت لا يحويه ولا يمسه، بل كما خاطب موسى من الشجرة، فهذا يوجب أن الناسوت لا يتصف بشيء من الإلهية كالشجرة.

ثم إنه معلوم بالضرورة أن الصوت الذي كان يسمع هو صوت الناسوت، فالتمثيل بالشجرة أيضا باطل، كما بسط في موضعه.

وأما الحديد والخشب وغيرهما إذا ألقي في النار فإنه يستحيل نارا لاتصاله بالنار، لا أن النار الذي استحال إليها كانت موجودة فحلت به، فهذا استحالة بلا حلول، والنار الذي صارت في الحديد حادثة عن تلك النار ليست إياها، ثم تلك الحديدة إذا طرقت وقع التطريق على النار، وكذلك إذا ألقيت في الماء، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لكان الضرب والصلب والإهانة وقع على اللاهوت، وكان اللاهوت هو الذي يغتسل بالماء، وهو الذي يأكل ويشرب، وهذا من أعظم الكفر.

ويحكى عن بعض طائفة منهم كاليعقوبية أنه يقول بهذا الكفر، وإن كان كثير منهم كالملكية والنسطورية ينكره، فهو لازم لهم، وكذلك إذا شبهوه بالنفس والبدن، فإن النفس تتألم تألم البدن، وتستحيل صفاتها بكونها في البدن، وتكتسب عن البدن أخلاقا وصفات، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لزم تألم اللاهوت بآلام البدن، وأن يكون متألما بجوع البدن وعطشه وضربه وصلبه، وأن يكون مستحيلا لما اكتسبه من صفات الناسوت الذي هو عندهم بمنزلة البدن للنفس، وأما قولهم: إذ لم نهمل ما تسلمناه، ولم نرفض ما تقلدناه، فقولهم في ذلك بمنزلة قول اليهود للمسيح: إنا لا نهمل ما تسلمناه، ولا نرفض ما تقلدناه من موسى عليه السلام.

وجواب الطائفتين من وجهين:

أحدهما: أنكم بدلتم وحرفتم الكتاب الذي أنزل إليكم، والشرع الذي شرع لكم، وتبديل المعاني والأحكام لا ريب فيه عند جميع عقلاء الأنام، وما كان عليه اليهود بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه موسى عليه السلام، وما كان عليه النصارى بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه المسيح عليه السلام.

والثاني: أنكم كذبتم بالكتاب الآخر، والرسول الآخر الذي أرسل إليكم، ومن كذب ما أنزل إليه من ربه، والرسول الذي أرسل إليه - كان كافرا مستحقا لعذاب الدنيا والآخرة، وإن كان قبل ذلك متبعا لشرع رسول، وكتاب غير مبدل، فكيف إذا كان قد بدل ما بدل من أحكامه ومعانيه؟

فصل: إسقاط احتجاجهم بشيء من القرآن على باطلهم وأن القرآن يؤخذ كله

وأما قولهم: ولنا هذه الشهادات والدلائل من الكتاب الذي في أيدي هؤلاء القوم.

فيقال: لا يصح استشهادهم بهذا الكتاب واستدلالهم بوجه من الوجوه، فإن الذي قد جاء به، قد تواتر عنه أنه أخبر أنه مرسل إليهم، وأنهم كفار إذا لم يؤمنوا به، مستحقون للجهاد، ومن لم يستحل جهادهم فهو كافر، والقرآن مملوء بكفرهم، فإن كان هذا رسولا من الله، وقد أخبر بكفرهم؛ ثبت أنهم كفار.

فإن الرسول لا يقول على الله إلا حقا، لا يكذب على الله في شيء، ومن كذب على الله ولو في كلمة واحدة فهو من الكذابين المفترين على الله الكذب، مستحق لعقوبة الكذابين،

كما قال تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين.

أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته.

وقال تعالى: وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين.

وقال تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون

فمتى كانت كلمة من كلمات هذا الكتاب كذبا على الله لم يكن كتاب الله، ولم يكن جاء به رسول الله، فإن الكاذب قد يصدق في أكثر ما يقوله، لكن إذا كذب في بعض ما يقوله كان كاذبا، والله تعالى لا يرسل من يكذب عليه، فإن المخلوق لا يرضى أن يرسل من يعلم أنه يكذب عليه، ولو فعل ذلك دل على جهله أو عجزه، فكيف يرسل رب العالمين من يعلم أنه يكذب عليه.

وحينئذ فمتى كذبوا بكلمة واحدة مما في الكتاب لم يصح استشهادهم واستدلالهم بشيء مما في الكتاب، وإن صدقوا بالكتاب كله لزمهم الإيمان بما جاء به، واتباع شريعته، والاعتراف بكفر الذين كذبوه، وكفر الذين يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة.

وهذا بخلاف من آمن بالرسول، ولم يثبت عنده بعض ما نقل عنه أو لم يعرف معناه، فإن هذا لا يقدح في أصل إيمانه بالرسول.

فالمسلمون إذا كذبوا ببعض ما نقل عن موسى والمسيح فهو لطعنهم في الناقل، لا في النبي المنقول عنه.

وأما النصارى فيعلمون أن محمدا جاء بالقرآن، فطعنهم في بعضه طعن في الرسول نفسه وكفر به، وليس هذا بمنزلة ما مثلوا به من الوثيقة التي كتب وفاؤها في ظهرها، فإن الذي له الدين أقر بالاستيفاء المسقط له، فلم يبق هناك حق له يدعيه، بخلاف ما يخبر به الذي يقول: إنه رسول الله، فإنه يقول: إن الله أنزل علي هذا الكتاب كله، وأرسلني بكذا وكذا إلى كذا وكذا، فإن كذب في شيء مما أخبر به عن الله لم يكن الله أرسله، فإن الذي أرسله هو الذي جعله يبلغ عنه ما يقوله، بلا زيادة ولا نقص، وإرسال الله للرسول يتضمن شيئين:

إنشاء الله للرسالة، والله حكيم، وهو أعلم حيث يجعل رسالاته، لا يجعلها إلا فيمن هو من أكمل الخلق وأصدقهم.

ويتضمن إخبار الله عنه بأنه صادق عليه، فيما يبلغه عنه مما يقول: إن الله أرسله به، فكما صدقه بالآيات المعجزات في قوله: إنه أرسلني، فقد صدقه بما يقول: إنه أرسلني به، إذ التصديق بكونه أرسله من غير معرفة بصدقه فيما يخبر به - لا فائدة فيه، ولا يحصل به مقصود الإرسال.

والله تعالى عليم بما يشهد به لمن أرسله بخلاف المخلوق الذي يبعث من يظنه يصدق فيما يبلغه عنه، فيظهر أنه كذب عليه، والله يعلم عواقب الأمور، والرسالة صادرة من علمه وحكمته، وهو عليم حكيم، ومن يكذب على الله ولو في كلمة لم يبلغ عنه ما يقوله، على هذا الوجه فلا يكون رسوله.

ولهذا اتفق أهل الملل على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله، لا يكذبون عليه عمدا ولا خطأ، فإن هذا مقصود الرسالة، فكان تمثيل هذا بالوثيقة تمثيلا باطلا، فإن المدعي للإسقاط لم يدع كلاما متناقضا، بل قال: أقررت بهذا الدين، ثم وفيتك إياه، وأنت تقر بوفائه، وإقرارك مكتوب في ظهرها، فليس لك أن تحتج بإقراري بالدين دون إقرارك بالوفاء، بل إما أن تعتبر ما في الوثيقة من إقراري وإقرارك وإما أن تبطل الأمرين المتعارضين.

وهذا كلام عدل كالشريكين المتفاوضين، مثل شريكي العنان، إذا قال لصاحبه: إن حصل ربح فهو لي ولك، وإن لم يحصل ربح فلا لي ولا لك.

وكذلك البائع والمؤاجر الذي يقول: إن كان بيننا معاوضة فعليك تسليم ما بذلته، وعلي تسليم ما بذلته، لا يستحق هذا إلا بهذا، فهذا كله كلام عادل وإنصاف، بخلاف الشخص الذي يقال فيه: إنه رسول الله، والكتاب الذي يقال: إنه كلام الله، وإن الله أنزله، فإن هذا إن كان رسولا صادقا فجميع ما بلغه من الله حق، وإن كان كاذبا لم يكن الله أرسله، فجميع ما بلغه عن الله كذب على الله، فلا يجوز بمجرد خبره أن ينسب إلى الله شيء ولا يحتج بما يخبر به عن الله على شيء.

ألا ترى أن من ادعى الرسالة وعلم أنه كاذب كالأسود العنسي ومسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي، والحارث الدمشقي، وبابا الرومي، وغير هؤلاء - لا يجوز لأحد أن يحتج بشيء مما ذكروا أن الله أرسلهم به، وإن كان ذلك القول قد علم أنه حق من جهة أخرى، فإنه قد علم بكذبهم أن الله لم يرسلهم، فأي شيء قالوا إن الله أنزله عليهم - كانوا كاذبين فيه، ومتى علم أنه كاذب في نفس الخبر المعين لم يجز أن يحتج بجنس الذي علم أنه كذب فيه.

وكذلك لو قال رجل عندي: إن موسى أو داود أو المسيح (كذبوا على الله في بعض ما يخبرون به عن الله، كانوا بمنزلة) من لم يرسلهم الله بشيء، لكن كذبوا في قولهم إن الله أرسلهم، فإذا أراد مع هذا أن يحتج بما ينقل من التوراة والزبور والإنجيل عن الله كان متناقضا، وكان احتجاجه باطلا غير مقبول، بل لو قال: أنا أشك في بعض ما أخبروا به عن الله، هل كذبوا فيه أم لا؟ كان كذلك شكا في أن الله أرسلهم، فإن من أرسله الله لا يكذب في شيء لا خطأ ولا عمدا، ومع شكه في ذلك لا يجوز أن يحتج بشيء مما ينقلونه عن الله لتجويز أن يكونوا كاذبين في نفس ذلك الذي نقلوه عن الله، وليس هذا مثل رسول الواحد من الآدميين، فإنه قد يكون أرسله، ثم إن الرسول صدق في بعض ما بلغه عن مرسله، وكذب في البعض.

ويجوز على الآدمي أن يرسل من يكذب عليه لعدم علمه بكذبه، أو عدم حكمته في إرساله.

وأما الرب تعالى: فلا يجوز أن يرسل نبيا يكذب عليه لا عمدا، ولا خطأ، وكذلك الشاهد والمخبر الذي قد علم أنه تارة يصدق وتارة يكذب - يمكن أن يستدل ببعض أخباره الذي يظهر فيها صدقه لدلالات تقترن بذلك، بخلاف الرسول، فإنه إذا كذب كذبة واحدة امتنع أن يكون الله أرسله، فصار جميع ما يبلغه عن الله هو كاذب في أن الله أرسله به، فكذبه في كلمة واحدة يوجب أنه كاذب في جميع ما بلغه عن الله، وأن جميع ما حكاه ورواه عن الله قد كذب فيه، وإن قدر أن ذلك الكلام في نفسه حق، لكن تبليغه عن الله ونقله وروايته وحكايته عن الله كذب على الله.

وقد أخبر الله أنه ينسخ ما يلقيه الشيطان، مما يناقض مقصود التبليغ، بقوله تعالى:

وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم * ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم

وإن قالوا: خبره يناقض بعضه بعضا كان الجواب من وجهين:

أحدهما: أن هذا أيضا إن كان حقا، فإنه يقدح في رسالته، فإن الرسول لا يناقض بعض خبره بعضا، ومن كان كذلك لم يصح لكم أن تحتجوا بشيء مما جاء به. وإن كان باطلا لم يرد عليه.

فعلم أن استدلالهم بما في هذا الكتاب على صحة دينهم الذي خالفوا به هذا الكتاب - في غاية الفساد، وهو جمع بين النقيضين واستدلال بما في الكتاب على ما يوجب بطلان الاستدلال بشيء مما في الكتاب.

وإذا كانت النتيجة تستلزم فساد بعض مقدمات الدليل بطل الاستدلال بذلك الدليل، الذي لا يصح إلا بصحة مقدماته، فإذا كانت مقدمته لا تصح إلا مع فساد نتيجته، ونتيجته مستلزمة لفساد مقدمته - كان الجمع بين صحة المقدمة، والنتيجة جمعا بين النقيضين.

وكذلك من استدل بشيء من الكتاب على ما يناقض ما في الكتاب، كاستدلال النصارى بآيات فيه على صحة دينهم، كان تناقضا، فإنه إن صح ذلك الدليل، بأن مدح دينهم مع ذمه كان متناقضا، والكتاب المتناقض لا يكون كتاب الله.

وإن فسد أحدهما، إما فساد دينهم، وإما فساد مدحه، فالكتاب الذي فيه فساد لا يكون كتاب الله، فيلزم أن لا يكون كتاب الله على التقديرين، فلا يصح الاستدلال به من جهة كونه خبر الله، وأما الاستدلال به من جهة كون المتكلم به رجلا عالما حكيما، وهذا لا يفيد العلم، إذ ليس معصوما إلا الأنبياء عليهم السلام.

والنصارى يجوزون أن يكون معصوما غير الأنبياء، فبتقدير أن يكون كذلك فهو حجة عليهم، وإن قالوا: هو رجل عالم ليس برسول من الله قيل لهم فهذا قوله ليس بحجة لجواز أن يخطئ، ولكن يعتضد بقوله، وأما إذا ادعى أن الله أرسله، وهو لم يرسله بهذا الكتاب كله - فهذا كذاب لا يحتج بشيء من كلامه، ولا يكون مثل هذا عدلا فضلا عن أن يكون حكيما، بل هو من الذين افتروا على الله كذبا: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء.

والجواب الثاني: أنا قد بينا أن ما ذكروه لا يناقض شيئا مما أخبر به، وأنه ليس في هذا الكتاب تناقض يحتجون به بوجه من الوجوه.

وأما قولهم: وأعظم حجتنا ما وجدناه فيه من الشهادة لنا بأن الله جعلنا فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.

فيقال: بل ما ذكروه حجة عليهم لا لهم، فإن الله أخبر المسيح أنه جاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وخبر الله حق، ووعد الله صدق، والله لا يخلف الميعاد، فلما اتبع المسيح من آمن به جعلهم الله فوق الذين كفروا به من اليهود وغيرهم.

ثم لما بعث الله محمدا بالدين الذي بعث به المسيح، وسائر الأنبياء قبله، وكان محمد ، مصدقا لما جاء به المسيح، وكان المسيح مبشرا برسول يأتي من بعده اسمه (أحمد) صارت أمة محمد أتبع للمسيح عليه السلام من النصارى الذين غيروا شريعته، وكذبوه فيما بشر به، فجعل الله أمة محمد فوق النصارى إلى يوم القيامة.

كما جعلهم أيضا فوق اليهود إلى يوم القيامة، والنصارى بعد النسخ والتبديل ليسوا متبعين المسيح، لكنهم أتبع له من اليهود الذين بالغوا في تكذيبه وسبه، فإنهم كذبوه أولا، وكذبوا محمدا ثانيا، فصاروا أبعد عن متابعة المسيح من النصارى فكانوا مجعولين فوق اليهود.

والمؤمنون أمة محمد ، هم المتبعون للمسيح عليه السلام، ومن سواهم كافر به فأمة محمد فوق اليهود والنصارى إلى يوم القيامة، ولهذا لما جاء المسلمون يقاتلون النصارى غلبوهم، وأخذوا منهم خيار الأرض: الأرض المقدسة، وما حولها من مصر والجزيرة، و أرض المغرب ولم يزل المسلمون منتصرين على النصارى، ولا يزالون إلى يوم القيامة لم تنتصر النصارى قط على جميع المسلمين،

وإنما تنتصر على طائفة من المسلمين بسبب ذنوبهم، ثم يؤيد الله المؤمنين عليهم.

ولو كان النصارى هم المتبعين للمسيح عليه السلام، والمسلمون كفارا به - لوجب أن ينتصروا على جميع المسلمين؛ لأن جميع المسلمين ينكرون إلهية المسيح ويكفرون النصارى، فعلم أن المتبعين للمسيح هم المسلمون دون النصارى


هامش

  1. الخروج 4: 22
  2. انظر مزمور 2: 7
  3. يوحنا 20: 17
  4. 4٫0 4٫1 4٫2 التثنية 33: 2
  5. مزمور 51: 11
  6. مزمور 107: 1
  7. الخروج 33: 20
  8. ينظر يوحنا 1: 18
  9. الخروج 7: 1
  10. التثنية 1: 29-30
  11. الخروج 33: 12-13
  12. العدد 14: 14
  13. الخروج 19: 9
  14. 14٫0 14٫1 العدد 11: 16-17
  15. العدد 12: 5
  16. 16٫0 16٫1 16٫2 تقدم
  17. انظر مزمور 5: 11
  18. انظر 1يوحنا 4: 16
  19. يوحنا 17: 3
  20. متى 13: 41-42
  21. مزمور 91: 11
  22. لوقا 22: 43
  23. متى 10: 40
  24. لوقا 12: 9
  25. متى 26: 53
  26. متى 12: 18
  27. مرقس 10: 18
  28. انظر يوحنا 12: 44
  29. متى 27: 46، مرقس 15: 34
  30. التكوين 1: 26
  31. التكوين 3: 22
  32. التكوين 19: 24: فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء
  33. مزموز 2: 7
  34. الخروج 20: 3-5 والتثنية 5: 7-9


الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية
الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | فهرس