التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد/المجلد الرابع/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



التمهيد المجلد الرابع[عدل]

حديث ثامن لزيد بن أسلم يجري مجرى المتصل وهو صحيح من وجوه[عدل]

مالك، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله قال " إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها ثم إذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها ونهى رسول الله عن الصلاة في تلك الساعات " .

هكذا قال يحيى في هذا الحديث عن مالك عن عبد الله الصنابحي وتابعه القعنبي وجمهور الرواة عن مالك، وقالت طائفة منهم مطرف وإسحاق بن عيسى الطباع فيه عن مالك عن زيد عن عطاء عن أبي عبد الله الصنابحي واختلف عن زيد بن أسلم في ذلك من حديثه هذا فطائفة قالت عنه في ذلك عبد الله الصنابحي كما قال مالك في أكثر الروايات عنه وقالت طائفة أخرى عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي عبد الله الصنابحي وممن قال ذلك معمر وهشام بن سعد والدراوردي ومحمد بن مطرف أبو غسان وغيرهم، "وما أظن هذا الاضطراب جاء إلا من زيد بن أسلم والله أعلم".

ذكر عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي عبد الله الصنابحي قال قال رسول الله  : "إن الشمس تطلع بين قرني الشيطان أو قال يطلع معها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها فإذا كانت في وسط السماء قارنها فإذا دلكت أو قال زالت فارقها فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها فلا تصلوا هذه الثلاث ساعات" وقال البخاري ابن أبي مريم عن أبي غسان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن الصنابحي أبي عبد الله عن النبي في الوضوء وفضله وكذلك قال الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد ابن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي عبد الله الصنابحي فذكر حديث النهي عن الصلاة في الثلاث ساعات والصواب عندهم قول من قال فيه أبو عبد الله وهو عبد الرحمن بن عسيلة تابعي ثقة ليست له صحبة.

وروى زهير بن محمد هذا الحديث عن زيد بن أسلم عن عطاء عن "عبد الله" الصنابحي قال سمعت رسول الله فذكره وهذا خطأ عند أهل العلم والصنابحي لم يلق رسول الله وزهير بن محمد لا يحتج به "إذا خالفه غيره"، "وقد صحف فجعل كنيته اسمه وكذلك فعل كل من قال فيه عبد الله لأنه أبو عبد الله.

وقد قال فيه الصلت بن بهرام عن الحرث بن وهب عن أبي عبد الرحمن الصنابحي فهذا صحف أيضا فجعل اسمه كنيته وكل هذا خطأ وتصحيف والصواب ما قاله مالك فيه في رواية مطرف وإسحاق بن عيسى الطباع ومن رواه كروايتهما عن مالك في قولهم في عبد الله الصنابحي أن كنيته أبو عبد الله وأسمه عبد الرحمن والله المستعان".

وقد روي عن ابن معين أنه قال : عبد الله الصنابحي يروي عنه المدنيون يشبه أن تكون له صحبة وأصح من هذا عن ابن معين أنه سئل عن أحاديث الصناحبي عن النبي فقال مرسلة ليست له صحبة.

قال أبو عمر : صدق يحيى بن معين ليس في الصحابة أحد يقال له عبد الله الصنابحي وإنما في الصحابة الصنابح الأحمسي وهو الصنابح بن الأعسر كوفي روى عنه قيس بن أبي حازم أحاديث منها حديثه في الحوض ولا في التابعين أيضا أحد يقال له عبد الله الصنابحي فهذا أصح قول من قال أنه أبو عبد الله لأن أبا عبد الله الصنابحي مشهور في التابعين كبير من كبرائهم واسمه عبد الرحمن بن عسيلة وهو جليل كان عبادة بن الصامت كثير الثناء عليه :

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا ضمرة قال حدثنا جابر بن أبي سلمة والعلاء بن هارون عن ابن عون عن رجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع قال كنا عند عبادة بن الصامت نعوده إذ جاء أبو عبد الله الصنابحي فلما رآه عبادة قال لئن شفعت لأشفعن لك ولئن قدرت لأنفعنك ولئن سئلت لأشهدن لك ثم قال من سره أن ينظر إلى رجل كأنه رفع فوق سبع سموات ثم رد فعمل على ما رأى فلينظر إلى أبي عبد الله يعني الصنابحي.

قال أحمد بن زهير وحدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز عن الصنابحي قال دخلت على عبادة بن الصامت وهو في الموت فبكيت فقال مهلا لم تبكي فوالله لئن اسشتهدت لأشهدن لك وذكر نحوه وحديث ضمرة أتم وذكر ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن الصنابحي أنه قال له متى هاجرت قال خرجنا من اليمن مهاجرين فقدمنا الجحفة فأقبل راكب قلت الخبر فقال دفنا النبي منذ خمس.

وقال ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الرحمن بن عسيلة قال لم يكن بيني وبين وفاة رسول الله إلا خمس ليال توفي وأنا بالجحفة فقدمت وأصحابه متوافرون فسألت بلالا عن ليلة القدر فقال ليلة ثلاث وعشرين.

قال أبو عمر : قدم الصنابحي هذا يومئذ المدينة، فصلى وراء أبي بكرالصديق رضي الله عنه المغرب فسمعه يقرأ في الركعة الآخرة بعد أم القرآن : {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا}. وهو معدود في تابعي أهل الشام وبها توفي وأحاديثه التي في الموطأ مشهورة جاءت عن النبي من طرق شتى من حديث أهل الشام وممن رواها عن النبي عقبة بن عامر وعمرو بن عبسة وأبو أمامة الباهلي ومرة بن كعب البهزي وقيل كعب بن مرة وسنذكرها في هذا الباب على شرطنا في توصيل المرسلات وبالله العون لا شريك له.

وأما قوله في هذا الحديث " أن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان " وقوله هذا الإسناد تطلع على قرن الشيطان وتطلع بين قرني الشيطان ونحو هذا فإن للعلماء في ذلك قولين :

أحدهما أن ذلك اللفظ على الحقيقة، وإنها تغرب وتطلع على قرن شيطان وعلى رأس شيطان، وبين قرني شيطان على ظاهر الحديث حقيقة لا مجازا من غير تكيف لأنه لا يكيف ما لا يرى واحتج من قال بهذا القول بما أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال أخبرنا أبو الفتح الفارسي إبراهيم بن علي بمصر.

قال أبو عمر : وقد كتب إلينا أبو الفتح بإجازة ما رواه وأباح لنا أن نحدث عنه وكتب ذلك بخطه قال أخبرنا محمد بن القاسم بن بشار النحوي قال حدثني أبي قال حدثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن حمزة بن عفيف البلخي قال حدثنا محمد بن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبي بكر الهذلي عن عكرمة قال قلت لابن عباس أرأيت ما جاء عن النبي في أمية بن أبي الصلت آمن شعره وكفر قلبه قال هو حق فما أنكرتم من ذلك قلت : أنكرنا قوله :

والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد

ليست بطالعة لهم في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد

فما بال الشمس تجلد قال والذي نفسي بيده ما طلعت الشمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك فيقولون لها اطلعي اطلعي فتقول لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله فيأتيها ملك عن الله تعالى يأمرها بالطلوع فتطلع لضياء بني آدم فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع بين قرنيه فيحرقه الله بحرها وما غربت الشمس قط إلا خرت لله ساجدة فيأتيها شيطان فيريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها وذلك قول رسول الله ما طلعت إلا بين قرني شيطان ولا غربت إلا بين قرني شيطان.

وأخبرنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صدق أمية بن أبي الصلت في بيتين من شعره قال :

رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد

فقال النبي صدق . قال :

والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد

تأبى فما تطلع لهم في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد

فقال النبي  : صدق.

"وذكر أسد بن موسى قال حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال حملة العرش أحدهم على صورة إنسان والثاني على صورة ثور والثالث على صورة نسر والرابع على صورة أسد".

وحدثني أبو محمد قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعد قال حدثنا محمد بن فطيس قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا شعبة،عن سماك قال سمعت المهلب بن أبي صفرة يحدث عن سمرة بن جندب أن النبي قال لا تصلوا عند طلوع الشمس ولا عند غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان أو على قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان أو على قرني شيطان شك شعبة.

قال أبو عمر : بلغني أن أبا محمد عبد الله بن إبراهيم سئل عن تأويل حديث زيد ابن أسلم هذا فقال ممكن أن يكون للشيطان قرن يظهره عند طلوع الشمس وعند غروبها على ظاهر الحديث وما صنع أبو محمد رحمه الله في جوابه هذا شيئا وأظنه أشار إلى نحو القول المذكور من حمل الكلام على حقيقته دون مجازه والله أعلم.

وقال قوم من العلماء وجه هذا الحديث ومعناه عندنا حمله على مجاز اللفظ واستعارة القول واتساع الكلام وقالوا أراد بذكره قرن الشيطان أمة تعبد الشمس،وتسجد لها، وتصلي في حين طلوعها وغروبها من دون الله وكان يكره التشبه بالكفار ويحب مخالفتهم وبذلك وردت سنته وكأنه أراد والله أعلم أن يفصل دينه من دينهم إذ هم أولياء الشيطان وحزبه فنهى عن الصلاة في تلك الأوقات لذلك وهذا التأويل جائز في اللغة معروف في لسان العرب لأن الأمة تسمى عندهم قرنا والأمم قرونا قال الله عز وجل : {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} وقال : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} وقال : {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} وقال " خير الناس قرني".

وحدثني خلف بن القاسم قال حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن ناصح الدمشقي بمصر قال حدثنا أحمد بن علي بن سعيد القاضي قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد عن أبي سنان عن ابن أبي الهذيل عن خباب بن الأرت أنه رأى ابنه عبد الله يقص فلما رجع اتزر وأخذ السوط وقال أمع العمالقة أنت هذا قرن قد طلع فهذا خباب قد سمى القصاص قرنا طالعا إنكارا منه للقصص وخباب من كبار الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل الفصاحة والبيان وإنما قال ذلك خباب لأن القصص أحدث عليهم ولم يكونوا يعرفونه وكان عبد الله بن عمر ينكره ويقول لم يكن على عهد النبي ولا على عهد أبي بكر ولا على عهد عمر ولا على عهد عثمان وإنما كانت القصص حين كانت الفتنة وجائز أن يضاف القرن إلى الشيطان لطاعتهم في ذلك للشيطان وقد سمى الله الكفار حزب الشيطان وهذا أعرف في اللغة من أن يحتاج فيه إلى إكثار.

وحجة من قال بهذا التأويل ما أخبرناه أبو عبد الله عبيد بن محمد قال حدثنا عبد الله "بن مسرور" قال : حدثناعيسى بن مسكين، قال حدثنا محمد بن سنجر قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن أبي يحيى سليم بن عامر الخبائري وضمرة بن حبيب وأبي طلحة نعيم بن زياد كل هؤلاء سمعه من أبي أمامة الباهلي صاحب رسول الله قال سمعت عمرو بن عبسة السلمي يقول : "أتيت رسول الله وهو نازل بعكاظ فقلت يا رسول الله من معك في هذا الأمر قال معي رجلان أبو بكر وبلال قال فأسلمت عند ذلك فلقد رأيتني ربع الإسلام قال فقلت يا رسول الله أمكث معك أم الحق بقومي فقال بل الحق بقومك فيوشك أن يفيء الله بمن ترى إلى الإسلام ثم أتيته قبيل فتح مكة فسلمت عليه فقلت يا رسول الله أنا عمرو بن عبسة أحب أن أسألك عما تعلم وأجهل وعما ينفعني ولا يضرك فقال يا عمرو بن عبسة أنك تريد أن تسألني عن شيء ما سألني عنه أحد ممن ترى ولن تسألني عن شيء إلا أنبأتك به إن شاء الله فقلت يا رسول الله فهل من ساعة أقرب من أخرى أو ساعة يتقي ذكرها قال نعم أن أقرب ما يكون الرب من الدعاء جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن فإن الصلاة محضورة مشهودة إلى طلوع الشمس فإنها تطلع بين قرني الشيطان وهي ساعة صلاة الكفار فدع الصلاة حتى ترتفع قدر رمح ويذهب شعاعها ثم الصلاة محضورة مشهودة حتى تعتدل الشمس اعتدال الرمح نصف النهار فإنها ساعة تفتح فيها أبواب جهنم وتسجر فدع الصلاة حتى يفيء الفيء ثم الصلاة محضورة مشهودة حتى تغيب الشمس فإنها تغرب بين قرني الشيطان وهي ساعة صلاة الكفار فقلت يا رسول الله هذا في هذا فكيف في الوضوء قال أما الوضوء فإنك إذا توضأت وذكر الحديث.

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق البصري قال حدثنا أبو داود السجستاني قال حدثنا إبراهيم بن خالد الكلبي قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا جرير بن عثمان قال حدثنا سليم بن عامر عن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة قال أتيت رسول الله وهو بعكاظ قلت من معك على هذا الأمر قال حر وعبد ومعه أبو بكر وبلال ثم قال فارجع حتى يمكن الله لرسوله قال فأتيته بعد فقلت يا رسول الله جعلني الله فداك شيئا تعلمه وأجهله لا يضرك وينفعني الله به هل من ساعة أفضل من ساعة وهل من ساعة لا يصلى فيها قال لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد، إن الله تبارك وتعالى ينزل في جوف الليل فيغفر إلا ما كان من الشرك والبغي والصلاة مشهودة فصل حتى تطلع الشمس فإذا طلعت فاقصر فإنها تطلع على قرن شيطان وهي صلاة الكفار حتى ترتفع فإذا استقلت الشمس فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يعتدل النهار فإذا اعتدل النهار فأقصر "عن الصلاة" فإنها ساعة تسجر فيها جهنم حتى يفي الفيء فإذا أفاء الفيء فصل فإن الصلاة محضورة مشهودة حتى تدنو الشمس للغروب فإذا تدلت فاقصر عن الصلاة فإنها تغيب على قرن شيطان وهي صلاة الكفار.

قال أبو عمر : فقد قال في هذا الحديث عند طلوع الشمس وعند غروبها هي صلاة الكفار وفي غير هذا الإسناد في هذا الحديث ويصلي لها الكفار وفي غيره في هذا الحديث أيضا هي ساعة صلاة الكفار وبعضهم يقول فيه أيضا وحينئذ يسجد لها الكفار كل هذه الألفاظ قد رويت في حديث عمرو بن عبسة هذا وهو حديث صحيح من حديث الشاميين رواه أبو أسامة الباهلي عن عمرو بن عبسة ورواه جماعة عن أبي أمامة منهم أبو سلام الحبشي وقد سمعه أبو سلام أيضا من عمرو بن عبسة وسمعه من عمرو بن عبسة يزيد بن طلق وغيره وهو حديث طويل في إسلام عمرو بن عبسة فيه معاني حديث الصنابحي في النهي عن الصلاة في ثلاث ساعات وفي فضل الوضوء جميعا وسنذكره بتمامه في الباب الذي يأتي بعد هذا إن شاء الله.

وقد روي عن أبي أمامة عن النبي مختصرا.

حدثني خلف بن القاسم قال حدثنا محمد بن أحمد بن المسور قال حدثنا مقدام بن داود قال حدثنا علي بن "معبد بن شداد" قال حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة عن النبي " قال لا تصلوا عند طلوع الشمس فإنها تطلع بين قرني شيطان وكل كافر يسجد لها، "ولا تصلوا عند غروب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وكل كافر يسجد لها"، ولا تصلوا وسط النهار فإن جهنم تسجر عند ذلك".

وهذه الأحاديث في ظاهرها حجة للقولين جميعا والله أعلم لقوله فيها بين قرني شيطان على ما روي عن ابن عباس في تأويله.

وأجمع العلماء أن نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها منسوخ إلا أنهم اختلفوا في تأويله "ومعناه"، فقال علماء الحجاز معناه المنع من صلاة النافلة دون الفريضة هذه جملة قولهم وقال العراقيون كل صلاة فريضة أو نافلة أو جنازة فلا تصلي ذلك الوقت لا عند طلوع الشمس ولا عند الغروب ولا عند الاستواء لأن الحديث لم يخص نافلة من فريضة إلا عصر يومه لقوله من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر وقد مضى الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من ذلك في هذا الكتاب ويأتي القول في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح ممهدا مبسوطا بما للعلماء في ذلك من المذاهب في باب محمد بن يحيى بن حبان إن شاء الله ونذكر ها هنا أقاويل الفقهاء في الصلاة عند استواء الشمس في كبد السماء لأنه أولى المواضع بما في ذلك وبالله العون.

فأما مالك وأصحابه فلا بأس عندهم بالصلاة نصف النهار قال ابن القاسم قال مالك لا أكره الصلاة نصف النهار إذا استوت الشمس في وسط السماء لا في يوم الجمعة ولا في غيره، ولا أعرف هذا النهي وما أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار فقد أبان مالك حجته في مذهبه هذا أنه لم يعرف النهي عن الصلاة وسط النهار وقد روي عن مالك أنه قال لا أكره التطوع نصف النهار إذا استوت الشمس ولا أحبه ومحمل هذا عندي أنه لم يصح عنده حديث زيد بن أسلم المذكور في هذا الباب عن عطاء عن الصنابحي لأنه قد رواه أو صح عنده ونسخ منه واستثنى الصلاة نصف النهار بما ذكرنا من العمل الذي لا يجوز أن يكون مثله إلا توقيفا والله أعلم وقد روى مالك عن ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون حتى يخرج عمر فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذن جلسوا يتحدثون حتى إذا سكت المؤذن وقام عمر سكتوا فلم يتكلم أحد وخروج عمر إنما كان بعد الزوال بدليل حديث طنفسة عقيل ابن أبي طالب وإذا كان خروجه بعد الزوال وقد كانوا يصلون إلى أن يخرج فقد كانوا يصلون وقت استواء الشمس والله أعلم.

ويوم الجمعة عند مالك وغير يوم الجمعة سواء لأن الفرق بينهما لم يصح عنده في أثر ولا نظر وممن رخص في ذلك أيضا الحسن وطاووس والاوزاعي وقال أبو يوسف والشافعي وأصحابه لا بأس بالتطوع نصف النهار يوم الجمعة خاصة وهي رواية عن الأوزاعي وأهل الشام وحجة الشافعي ومن قال بقوله هذا ما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن إسحق بن عبد الله عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة.

واحتج أيضا بحديث مالك عن ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك وقد تقدم ذكره قال وخبر ثعلبة عن عامة أصحاب رسول الله في دار الهجرة أنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة.

قال أبو عمر : كأنه يقول النهي عن الصلاة عند استواء الشمس صحيح وخص منه يوم الجمعة بما روى من العمل الذي لا يكون مثله إلا توقيفا وبالخبر المذكور أيضا وبقي سائر الأيام موقوفة على النهي.

وإبراهيم بن محمد الذي روى عنه الشافعي هذا الخبر هو ابن أبي يحيى المدني متروك الحديث وإسحق بعده في الإسناد وهو ابن أبي فروة ضعيف أيضا فكأنه إنما يقوى عنده هذا الخبر بما روي عن الصحابة في زمن عمر من الصلاة نصف النهار يوم الجمعة وبالله التوفيق.

وقد حدثني عبد الرحمن بن مروان قال حدثنا أحمد بن سليمان بن عمر البغدادي قال حدثنا أبو الليث "نصر بن القاسم الفرائضي قال حدثنا إسحق بن أبي إسرائيل عن حسان بن إبراهيم قال حدثنا الليث"، قال حدثنا مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة قال قال رسول الله  : "الصلاة تكره نصف النهار إلا يوم الجمعة فإن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة" . وهذا الحديث منهم من يوقفه.

وحدثني سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا إسحاق بن محمد القروي قال حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن السائب بن يزيد قال النداء الذي ذكر الله في القرآن إذا كان الإمام على المنبر زمن النبي وأبي بكر وعمر حتى كان عثمان فكثر الناس واستبعدت البيوت فزاد النداء الثاني فلم يعيبوه قال السائب وكان عمر إذا خرج ترك الناس الصلاة وجلسوا فإذا جلس على المنبر صمتوا وكان عطاء بن أبي رباح يكره الصلاة نصف النهار في الصيف ويبيح ذلك في الشتاء وقال أبو حنيفة والثوري ومحمد بن الحسن والحسن بن حي وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل لا يجوز التطوع نصف النهار في شتاء ولا صيف وكرهوا ذلك ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه أن تصلى فريضة ولا على جنازة ولا شيء من الصلوات لا فائتة مذكورة ولا غيرها ولا نافلة عند استواء الشمس نصف النهار.

والحجة لمن قال بقول العراقيين في هذا الباب حديث الصنابحي المذكور في هذا الباب وحديث عمرو بن عبسة وحديث عقبة بن عامر :

حدثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا عمرو بن منصور قال حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا الليث بن سعد قال حدثنا معاوية بن صالح قال أخبرني أبو يحيى سليم بن عامر وضمرة بن حبيب وأبو طلحة نعيم بن زياد قالوا سمعنا أبا أمامة الباهلي يقول سمعت عمرو بن عبسة يقول قلت يا رسول الله هل من ساعة أقرب من الأخرى وهل ساعة يتقى ذكرها قال نعم إن أقرب ما يكون الرب من العبد جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن فإن الصلاة مشهودة محضورة إلى طلوع الشمس فإنها تطلع بين قرني شيطان وهي ساعة صلاة الكفار فدع الصلاة حتى ترتفع الشمس قيد رمح ويذهب شعاعها ثم الصلاة مشهودة محضورة حتى تعتدل الشمس اعتدال الرمح نصف النهار فإنها ساعة تفتح فيها أبواب جهنم وتسجر فدع الصلاة حتى يفيء الفيء ثم الصلاة محضورة مشهودة حتى تغيب الشمس فإنها تغيب بين قرني شيطان وهي صلاة الكفار.

قال أبو عمر : في حديث عمرو بن عبسة هذا النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند استوائها وعند غروبها وفيه إباحة الصلاة بعد الفجر إلى طلوع الشمس وبعد زوالها إلى الغروب وتدبره تجده كما ذكرت لك وهو حديث صحيح وطرقه كثيرة حسان شامية إلا أن قوله في هذا الحديث ثم الصلاة محضورة مشهودة حتى تغيب الشمس قد خالفه فيه غيره في هذا الحديث فقال ثم الصلاة مشهودة متقبلة حتى يصلى العصر وهذا أشبه بالسنن المأثورة في ذلك.

وقد روي في هذا الحديث أيضا حتى تكون الشمس قد دنت للغروب قيد رمح أو رمحين وسنذكر اختلاف العلماء في الصلاة النافلة والفجر والعصر وما روي في ذلك من الآثار في باب محمد بن يحيى بن حبان في هذا الكتاب إن شاء الله.

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة قال حدثنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن يزيد بن طلق عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عمرو بن عبسة قال أبو داود حدثنا عثمان بن أبي شيبة أن محمد بن جعفر حدثهم عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن يزيد بن طلق عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عمرو بن عبسة وهذا لفظ أبي سلمة قال أتيت رسول الله فقلت يا رسول الله من أسلم معك قال حر وعبد يعني أبا بكر وبلالا فقلت يا رسول الله علمني مما تعلم وأجهل هل من الساعات ساعة أفضل من أخرى قال نعم صل من الليل الآخر وفي حديث شعبة قال نعم جوف الليل فصل ما بدا لك حتى تصلي الصبح وفي حديث حماد فإن الصلاة مشهودة متقبلة ثم انته حتى تطلع الشمس وما دامت مثل الحجفة حتى تستقر فإنها تطلع بين قرني شيطان ويسجد لها الكفار، ثم صل ما بدا لك فإنها مشهودة متقبلة حتى يستوي العمود على ظله فإنها ساعة تسجر فيها الجحيم فإذا زالت الشمس فصل فإنها مشهودة متقبلة حتى تصلي العصر ثم انته حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان ويسجد لها الكفار.

وقد روى من حديث البهزي معنى حديث عمرو بن عبسة هذا رواه الثوري عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن رجل من أهل الشام عن كعب بن مرة البهزي قال قال رجل لرسول الله أي الليل اسمع يا رسول الله قال جوف الليل الآخر ثم الصلاة مقبولة حتى تصلي الفجر ثم لا صلاة حتى تكون الشمس قيد رمح أو رمحين ثم الصلاة مقبولة حتى يقوم الظل قيام الرمح ثم لا صلاة حتى تزول الشمس ثم الصلاة مقبولة حتى تكون الشمس قد دنت للغروب قيد رمح أو رمحين وذكر فضل الوضوء أيضا.

قال أبو عمر : أحاديث هذا الباب عن عمرو بن عبسة كلها وحديث البهزي إنما فيها ما يدل على صلاة التطوع لا الفرائض وذلك بين منها والله أعلم وذكر الأثرم قال سالت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن الصلاة نصف النهار يوم الجمعة فقال يعجبني أن تتوقاها، فذكرت له حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي كنا نصلي يوم الجمعة حتى يخرج عمر قلت له هذا يدل على الرخصة في الصلاة نصف النهار فقال ليس في هذا بيان إنما جاء الكلام مجملا كنا نصلي ثم قال لا ولكن حديث النبي من وجوه إنما نهى عن الصلاة نصف النهار وعند طلوع الشمس وعند الغروب حديث عمرو بن عبسة وعقبة بن عامر والصنابحي.

وذكر الأثرم قال حدثنا منجاب بن الحارث قال أخبرنا خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي عن أبيه قال كنت أرى أصحاب رسول الله فإذا زالت الشمس يوم الجمعة قاموا فصلوا أربعا.

قال أبو عمر : حديث ثعلبة بن أبي مالك أقوى من هذا الحديث وأبين وحديث السائب بن يزيد مثله والله أعلم.

وأما حديث عقبة بن عامر فحدثني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو النضر قال حدثنا الليث عن موسى بن علي بن أبي رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر الجهني قال ثلاث ساعات نهى رسول الله أن ن صلي فيها، أو نقبر فيها موتانا عند طلوع الشمس حتى تبيض وعند انتصاف النهار حتى تزول وعند اصفرار الشمس وإضافتها حتى تغيب.

وحدثنا عبيد بن محمد قال حدثنا عبد الله بن مسرور قال حدثنا عيسى بن مسكين قال حدثنا محمد بن سنجر قال حدثنا الفضل بن دكين قال حدثنا موسى بن علي بن رباح اللخمي المصري قال سمعت أبي يقول أنه سمع عقبة بن عامر قال ثلاث ساعات كان رسول الله ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب.

وأخبرني محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال حدثنا سويد بن نصر، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن علي بن رباح قال سمعت أبي يقول سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول ثلاث ساعات كان رسول الله ينهانا أن نصلي فيها أو نقبر فيها موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع فذكره حرفا بحرف.

وروي عن عمر بن الخطاب أنه نهى عن الصلاة نصف النهار وقال ابن مسعود كنا ننهى عن ذلك وقال أبو سعيد المقبري أدركت الناس وهم يتقون ذلك وأما الصلاة على الجنائز في ذلك الوقت فإن أهل العلم أيضا اختلفوا في ذلك فقال مالك لا بأس بالصلاة على الجنائز بعد العصر ما لم تصفر الشمس فإذا اصفرت لم يصل على الجنازة إلا أن يكون يخاف عليها فيصلى عليها حينئذ ولا بأس بالصلاة على الجنازة بعد الصبح ما لم يسفر فإذا أسفر فلا تصلوا عليها ألا أن تخافوا عليها هذه رواية ابن القاسم عنه وذكر ابن عبد الحكم عنه أن الصلاة على الجنائز جائزة في ساعات الليل والنهار عند طلوع الشمس وعند غروبها ولا خلاف "في ذلك" عن مالك وأصحابه أن الصلاة على الجنائز ودفنها نصف النهار جائزة.

وقال الثوري : لا يصلى على الجنائز إلا في مواقيت الصلاة وتكره الصلاة عليها نصف النهار وحين تغيب الشمس وبعد الفجر قبل أن تطلع الشمس.

وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يصلي على الجنائز عند الطلوع ولا عند الغروب ولا نصف النهار ويصلى عليها في غيرها من الأوقات.

وقال الليث : لا يصلى على الجنازة في الساعة التي تكره فيها الصلاة وقال الأوزاعي يصلى عليها ما دام في ميقات العصر فإذا ذهب عنهم ميقات العصر لم يصلوا عليها حتى تغرب الشمس.

وقال الشافعي : يصلى على الجنائز في كل وقت والنهي عنده عن الصلاة في تلك الساعات إنما هو عن النوافل المبتدئات والتطوع وأما عن صلاة فريضة أو صلاة سنة فلا لدلائل من الأثر سأذكرها في كتابي هذا إن شاء الله.

حديث تاسع لزيد بن أسلم مثل الذي قبله[عدل]

مالك، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله قال إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له.

قد تقدم القول في الصنابحي وفيمن دونه في هذا الإسناد وقال أبو عيسى بن عيسى بن سورة الترمذي سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن حديث مالك عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله قال إذا توضأ العبد المسلم فمضمض خرجت الخطايا من فيه الحديث فقال مالك بن أنس وهم في هذا الحديث فقال عبد الله الصنابحي وهو أبو عبد الله الصنابحي واسمه عبد الرحمن بن عسيلة ولم يسمع من النبي عليه السلام والحديث مرسل وعبد الرحمن هو الذي روى عن أبي بكر الصديق.

قال أبو عمر : يستند هذا الحديث أيضا من طرق حسان من حديث عمرو بن عبسة وغيره وسنذكرها في آخر هذا الباب إن شاء الله.

وفي هذا الحديث من الفقه أن الوضوء مسنونة ومفروضة جاء فيه مجيئا واحدا وإن من شرط المؤمن وما ينبغي له إذا أراد الصلاة أن يأتي بما ذكر في هذا الحديث لا يقصر عن شيء منه فإن قصر عن شيء منه كان للمفترض حينئذ حكم وللمسنون حكم إلا أن العلماء أجمعوا على أن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين ومسح الرأس فرض ذلك كله لأمر الله به في كتابه المسلم عند قيامه إلى الصلاة إذا لم يكن متوضئا لا خلاف علمته في شيء من ذلك إلا في مسح الرجلين وغسلهما على ما نبينه في بلاغات مالك إن شاء الله.

واختلفوا في المضمضة والاستنثار فقالت طائفة ذلك فرض وقال آخرون ذلك سنة وقال بعضهم المضمضة سنة والاستنثار فرض.

وليس في مسند حديث "الموطأ ذكر المضمضة إلا في هذا الحديث، وفي حديث" عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد بن عاصم في صفة وضوء رسول الله ولا في الموطأ ذكر الأذنين في الوضوء في حديث مسند إلا في حديث الصنابحي هذا.

وقد استدل بعض أهل العلم على أن الأذنين من الرأس وأنهما يمسحان بماء واحد مع الرأس بحديث الصنابحي هذا لقوله فيه فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه فنذكر أقاويل الفقهاء في ذلك ها هنا ونؤخر ذكر المرفقين إلى باب عمرو بن يحيى وذكر الكعبين إلى قوله ويل للأعقاب من النار ونرجئ ذكر القول في مسح الرأس إلى باب عمرو بن يحيى أيضا في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أن شاء الله.

وجاء في هذا الحديث ذكر الاستنثار فنذكره أيضا بعون الله وكذلك لا أعلم في مسند حديث الموطأ ومرفوعة موضعا أشبه بالقول في الماء المستعمل من هذا الحديث ونحن ذاكرو ذلك كله ها هنا ونذكر حكم المضمضة والاستنثار أيضا ها هنا لأنهما متقاربان في المعنى عند العلماء وبالله توفيقنا وهو حسبنا لا شريك له.

فأما الاستنثار والاستنشاق فمعناهما واحد متقارب إلا أن أخذ الماء بريح الأنف هو الاستنشاق والاستنثار رد الماء بعد أخذه بريح الأنف أيضا وهذه حقيقة اللفظين وقد كان مالك يرى أن الاستنثار أن يجعل يده على أنفه ويستنثر وقد ذكرنا مذاهب العلماء في ذلك في باب أبي الزناد.

وأكثر أهل العلم يكتفون في هذا المعنى باللفظ الواحد وقد روي عن النبي اللفظتان جميعا وذلك قوله في هذا الحديث فإذا استنثر وقوله في حديث أبي هريرة : "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر ولينتثر أو ليستنثر" ، ونحو هذا على ما روي في ذلك وقوله في حديث أبي هريرة أيضا : "من توضأ فليستنثر ومن استجمر فليوتر" ، وروي من حديث أبي رزين العقيلي أن رسول الله قال له : وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ومن حديث ابن عباس أن رسول الله قال : "استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا" ، ومن حديث همام عن أبي هريرة عن النبي قال : "إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره من الماء ثم لينتثر" ، وقد ذكرنا هذه الآثار بأسانيدها في باب أبي الزناد والحمد لله.

فاللفظتان كما ترى مرويتان يتداخلان وأهل العلم يعبرون باللفظ الواحد عن الثاني اكتفاء وعلما بالمراد فأما اختلافهم في حكمهما فإن مالكا والشافعي وأصحابهما يقولون المضمضة والاستنشاق سنة ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء وبذلك قال محمد بن جرير الطبري وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد وقتادة والحكم بن عتبة وروي أيضا عن الحسن البصري والزهري وربيعة ويحيى بن سعيد وقتادة والحكم بن عتبة فمن توضأ وتركهما وصلى فلا أعادة عليه عند واحد من هؤلاء المذكورين.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري هما فرض في الجنابة سنة في الوضوء فإن تركهما في غسله من الجنابة وصلى أعاد كمن ترك لمعة ومن تركهما في وضوئه "وصلى" فلا إعادة عليه.

وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان وهو قول إسحاق بن راهويه هما فرض في الغسل والوضوء جميعا وروى الزهري وعطاء مثل هذا القول أيضا وروي عنهما مثل قول مالك والشافعي وكذلك اختلف أصحاب داود فمنهم من قال هما فرض "في الغسل والوضوء جميعا ومنهم من قال إن المضمضة سنة والاستنشاق فرض" وكذلك اختلف عن أحمد بن حنبل على هذين القولين المذكورين عن داود وأصحابه ولم يختلف قول أبي ثور وأبي عبيد : أن المضمضة سنة، والاستنشاق واجب قالا فمن ترك الاستنشاق وصلى أعاد ومن ترك المضمضة لم يعد وكذلك القول عند أحمد بن حنبل في رواية وعن بعض أصحاب داود وحجة من لم يوجبهما أن الله لم يذكرهما في كتابه ولا أوجبهما رسوله ولا اتفق الجميع عليه والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه وحجة ن أوجبهما في الغسل من الجنابة دون الوضوء قوله  : "تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة وفي الأنف ما فيه من الشعر وأنه لا يوصل إلى غسل الأسنان والشفتين إلا بالمضمضة وقد قال العينان تزنيان والفم يزني ونحو هذا إلى أشياء يطول ذكرها " وحجة من أوجبهما في الوضوء وفي غسل الجنابة جميعا أن الله عز وجل قال : {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} كما قال : {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}. فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر والنبي لم يحفظ عنه أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله للجنابة وهو المبين عن الله عز وجل مراده قولا وعملا وقد بين أن من مراد الله بقوله : {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} المضمضة والاستنشاق مع غسل سائر الوجه وحجة من فرق بين المضمضة والاستنشاق أن النبي فعل المضمضة ولم يأمر بها وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل وفعل الاستنثار وأمر به وأمره على الوجوب أبدا إلا أن تبين غير ذلك من مراده وهذا على أصولهم في ذلك.

وأما اختلاف العلماء في حكم الأذنين في الطهارة فإن مالكا قال فيما روى عنه ابن وهب وابن القاسم وأشهب وغيرهم الأذنان من الرأس إلا أنه قال يستأنف لهما ماء جديد سوى الماء الذي يمسح به الرأس فوافق الشافعي في هذه لأن الشافعي قال يمسح الأذنين بماء جديد كما قال مالك ولكنه قال هما سنة على حيالهما لا من الوجه ولا من الرأس وقول أبي ثور في ذلك كقول الشافعي سواء حرفا بحرف وقول أحمد بن حنبل في ذلك كقول مالك سواء في قوله الأذنان من الرأس وفي أنهما يستأنف لهما ماء جديد.

وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه : الأذنان "من الرأس يمسحان مع الرأس بماء جديد وروي عن جماعة من السلف مثل ذلك القول من الصحابة والتابعين وقال ابن شهاب الزهري : الأذنان" من الوجه، وقال الشعبي ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس وبهذا القول قال الحسن بن حي وإسحاق بن راهويه أن باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس وحكيا عن أبي هريرة هذا القول وعن الشافعي والمشهور من مذهبه ما تقدم ذكره رواه المزني والربيع والزعفراني والبويطي، وغيرهم.

وقد روي عن أحمد بن حنبل مثل قول الشافعي وإسحاق في هذا أيضا وقال داود إن مسح أذنيه فحسن وإن لم يمسح فلا شيء عليه وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي ولا يوجبون عليه إعادة إلا اسحق بن راهويه فإنه قال إن ترك مسح أذنيه عامدا وقال أحمد بن حنبل إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد وقد كان بعض أصحاب مالك يقول : من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامدا أعاد وهذا عند الفقهاء ضعيف وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر ولو كان كذلك لم يعرف الفرض الواجب من غيره وقال بعضهم من ترك مسح أذنيه فكأنه ترك مسح بعض رأسه وهو ممن يقول بأن الفرض مسح بعض الرأس وإنه يجزئ المتوضئ مسح بعضه وقوله هذا كله ليس على أصل مذهب مالك الذي يقتدي به وسيأتي القول في مسح الرأس في باب عمرو بن يحيى إن شاء الله.

واحتج مالك والشافعي في أخذهما للأذنين ماء جديدا بأن عبد الله بن عمر كان يفعل ذلك وحجة أبي حنيفة وأصحابه ومن قال بقولهم أن الأذنين يمسحان مع الرأس بماء واحد حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس عن النبي أنه كذلك فعل وذلك موجود أيضا في حديث عبد الله الخولاني عن ابن عباس عن علي في صفة وضوء رسول الله وفي حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء وفي حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده عن النبي واحتجوا أيضا بحديث الصنابحي هذا قوله فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه كما قال في الوجه من أشفار عينيه وفي اليدين من تحت أظفاره ومعلوم أن العمل في ذلك واحد بماء واحد واحتجوا أيضا بما أخبرنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا يزيد ابن هرون قال أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه رأى رسول الله يتوضأ فذكر الحديث كله ثلاثا ثلاثا وفيه قال ومسح برأسه وأذنيه "ظاهرهما وباطنهما" مسحة واحدة وأكثر الآثار على هذا وقد يحتمل أنه مسح رأسه مرة واحدة وأذنيه مرة واحدة لأنه ذكر الوضوء ثلاثا ثلاثا إلا الرأس والأذنين.

وحجة من قال بغسل باطنهما مع الوجه وبمسح ظاهرهما مع الرأس أن الله قد أمر بغسل الوجه وهو مأخوذ من المواجهة فكل ما وقع عليه اسم وجه وجب عليه غسله وأمر عز وجل بمسح الرأس وما لم يواجهك من الأذنين فمن الرأس لأنهما في الرأس فوجب المسح على ما لم يواجه منهما مع الرأس

قال أبو عمر : هذا قول ترده الآثار الثابتة عن النبي عليه السلام أنه كان يمسح ظهور أذنيه وبطونهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والربيع بنت معوذ، وغيرهم.

وحجة ابن شهاب في أنهما من الوجه لأن ما لم ينبت عليه الشعر فهو من الوجه لا من الرأس إذا أدركته المواجهة ولم يكن قفا والله قد أمر بغسل الوجه أمرا مطلقا ويمكن أن يحتج له بحديث ابن أبي مليكة أنه رأى عثمان بن عفان فذكر صفة وضوء رسول الله ثلاثا ثلاثا قال ثم أدخل يده فأخذ ماء فمسح به رأسه وأذنيه فغسل ظهورهما وبطونهما.

ومن الحجة له أيضا ما صح عن رسول الله أنه كان يقول في سجوده سجد وجهي للذي خلقه فشق سمعه وبصره فأضاف السمع إلى الوجه وهذا كلام محتمل للتأويل يمكن فيه الاعتراض.

وحجة الشافعي في قوله أن مسح الأذنين سنة على حيالها وليستا من الوجه ولا من الرأس إجماع القائلين بإيجاب الاستيعاب في مسح الرأس انه إن ترك مسح أذنيه وصلى لم يعد فبطل قولهم أنهما من الرأس لأنه لو ترك شيئا من رأسه عندهم لم يجزئه وإجماع العلماء في أن الذي يجب عليه حلق رأسه في الحج ليس عليه أن يأخذ ما على أذنيه من الشعر فدل ذلك على أنهما ليستا من الرأس وإن مسحهما سنة على الانفراد كالمضمضة والاستنشاق ولكل طائفة منهما اعتلال من جهة الأثر والنظر تركت ذلك خشية الإطالة وإن الغرض والجملة ما ذكرنا وبالله توفيقنا.

قال أبو عمر : المعنى الذي يجب الوقوف على حقيقته في الأذنين أن الرأس قد رأينا له حكمين فما واجه منه كان حكمه الغسل ما علا منه وكان موضعا لنبات الشعر كان حكمه المسح واختلاف الفقهاء في الأذنين إنما هو هل حكمهما المسح كحكم الرأس أو حكمهما الغسل كغسل الوجه أو لهما من كل واحد منهما حكم أو هما من الرأس فيمسحان معه فلما قال في هذا الحديث حديث الصنابحي فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه "فأتى بذكر الأذنين مع الرأس ولم يقل إذا غسل وجهه خرجت الخطايا من أذنيه" علمنا أن الأذنين ليس لهما من حكم الوجه شيء لأنهما لم يذكرا معه وذكرا مع الرأس فكان حكمهما المسح كحكم الرأس فليس يصح من الاختلاف في ذلك عندي إلا مسحهما مع الرأس بماء واحد واستئناف الماء لهما في المسح فإن هذين القولين محتملان للتأويل.

وأما قول من أمر بغسلهما أو غسل بعضهما فلا معنى له وذلك مدفوع بحديث الصنابحي هذا مع ما روي عن النبي في مسحهما وبالله التوفيق واستدل بعض من لم يجز الوضوء بالماء المستعمل بحديث الصنابحي هذا وقال الماء إذا توضئ به مرة خرجت الخطايا معه فوجب التنزه عنه لأنه ماء الذنوب وهذا عندي لا وجه له لأن الذنوب لا تنجس الماء لأنها لا أشخاص لها "ولا أجسام" تمازج الماء فتفسده وإنما معنى قوله خرجت الخطايا مع الماء إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده المؤمنين رحمة منه بهم وتفضلا عليهم اعلموا بذلك ليرغبوا في العمل به.

واختلف الفقهاء في الوضوء بالماء المستعمل وهو الذي قد توضئ به مرة فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما لا يتوضأ به ومن توضأ به أعاد أبدا لأنه ليس بماء مطلق ويتيمم واجده لأنه ليس بواجد ماء ومن حجتهم في ذلك على الذين أجازوا الوضوء به عند عدم غيره أنه لما كان مع الماء الذي يستعمل كلا ماء كان عند عدمه أيضا كلا ماء ووجب التيمم.

وقال بقولهم في ذلك أصبغ بن الفرج وهو قول الأوزاعي وأما مالك فقال لا يتوضأ به إذا وجد غيره من الماء ولا خير فيه ثم قال إذا لم يجد غيره توضأ به ولم يتيمم لأنه ماء طاهر لم يغيره شيء وقال أبو ثور وداود الوضوء بالماء المستعمل جائز لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء فوجب أن يكون مطهرا لطهارته ولأنه لا يضاف إلى شيء وهو ماء مطلق واحتجوا بإجماع الأمة على طهارته إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ نجاسة وإلى هذا ذهب أبو عبد الله المروزي محمد بن نصر ومن حجتهم أن الماء قد يستعمل في العضو الواحد لا يمتنع من ذلك أحد ولا يسلم من ذلك واختلف عن الثوري في هذه المسألة فروي عنه أنه قال لا يجوز الوضوء بالماء المستعمل وأظنه حكي عنه أيضا أنه قال هو ماء الذنوب وقد روي عنه خلاف ذلك وذلك أنه أفتى من نسي مسح رأسه أن يأخذ من بلل لحيته فيمسح به رأسه وهذا واضح في استعمال الماء المستعمل وقد روي عن علي بن أبي طالب وابن عمر وأبي أمامة وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري والنخعي ومكحول والزهري أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا أنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه فهؤلاء كلهم أجازوا الوضوء بالماء المستعمل وأما مالك والشافعي وأبو حنيفة ومن قال بقولهم فلا يجوز عندهم لمن نسي مسح رأسه ووجد في لحيته بللا أن يمسح رأسه بذلك البلل ولو فعل لم يجزئه وكان كمن لم يمسح وكان عليه الإعادة لكل ما صلى بذلك الوضوء عندهم لأنه ماء قد أدى به فرض فلا يؤدى به فرض آخر كالجمار وشبهها.

قال أبو عمر : الجمار مختلف في ذلك منها.

وقال بعض المنتمين إلى العلم من أهل عصرنا أن الكبائر والصغائر يكفرها الصلاة والطهارة واحتج بظاهر حديث الصنابحي هذا وبمثله من الآثار وبقوله فما ترون ذلك يبقى من ذنوبه وما أشبه ذلك وهذا جهل بين وموافقة للمرجئة فيما ذهبوا إليه من ذلك وكيف يجوز لذي لب أن يحمل هذه الآثار على عمومها وهو يسمع قول الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} وقوله تبارك وتعالى : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. في آي كثيرة من كتابه.

ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البر مكفرة للكبائر والمتطهر المصلي غير ذاكر لذنبه الموبق ولا قاصد إليه "ولا حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه" ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله لما كان لأمر الله عز وجل بالتوبة معنى ولكان كل من توضأ وصلى يشهد له بالجنة بأثر سلامه من الصلاة وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر وهذا لا يقوله أحد ممن له فهم صحيح وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرض والفروض لا يصح أداء شيء منها إلا بقصد ونية "واعتقاد أن لا عودة" فأما أن يصلي وهو غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر ولا نادم على ذلك فمحال وقد قال رسول الله "الندم توبة" وقال "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر".

حدثنا يونس بن عبد الله بن محمد بن معاوية قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء قال حدثنا خالد بن مخلد قال حدثنا محمد ابن جعفر بن أبي كثير قال حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله  : "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن من الخطايا ما لم تغش الكبائر".

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو بكر محمد بن أبي العوام قال حدثنا عمر بن سعيد القرشي قال حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله قال : "الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما لمن اجتنب الكبائر".

وروى عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري عن الأعمش عن أبي وائل قال قال عبد الله بن مسعود الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر .

قال وأخبرني الثوري عن أبيه عن المغيرة بن شبيل عن طارق بن شهاب سمع سلمان الفارسي يقول حافظوا على هذه الصلوات الخمس فإنهن كفارة هذه الجراح ما لم تصب المقتلة وحدثنا سعيد قال حدثنا قاسم قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا ابن فضيل عن مغيرة عن زياد بن كليب عن إبراهيم بن علقمة عن سليمان "بن يسار" أن رسول الله قال : "ألا أحدثكم عن يوم الجمعة".

"لا يتطهر رجل ثم يأتي الجمعة فيجلس وينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كانت له كفارة ما بين الجمعة إلى الجمعة ما اجتنبت الكبائر".

قال أبو بكر : وحدثنا إسحاق بن منصور، عن أبي كدينة، عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن القرثع عن سلمان عن النبي عليه السلام قال أحدثك عن يوم الجمعة من تطهر وأتى الجمعة ثم أنصت حتى يقضي الإمام صلاته كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها ما اجتنبت المقتلة.

قال : وحدثنا عفان قال : حدثنا أبو عوانة عن مغيرة بن أبي معشر زياد بن كليب عن إبراهيم بن علقمة عن القرثع عن سلمان عن رسول الله مثل حديث إسحاق بن منصور عن أبي كدينة وهذا يبين لك ما ذكرنا ويوضح لك أن الصغائر تكفر بالصلوات الخمس لمن اجتنب الكبائر فيكون على هذا معنى قول الله عز وجل : {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الصغائر بالصلاة والصوم والحج وأداء الفرائض وأعمال البر وإن لم تجتنبوا الكبائر ولم تتوبوا منها لم تنتفعوا بتكفير الصغائر إذا واقعتم الموبقات المهلكات والله أعلم وهذا كله قبل الموت، فإن مات صاحب الكبيرة فمصيره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه فإن عذبه فبجرمه وإن عفا عنه فهو أهل العفو وأهل المغفرة وإن تاب قبل الموت وقبل حضوره ومعاينته وندم واعتقد أن لا يعود واستغفر ووجل كان كمن لم يذنب وبهذا كله الآثار الصحاح عن السلف قد جاءت وعليه جماعة علماء المسلمين ولو تدبر هذا القائل الحديث الذي فيه ذكر خروج الخطايا من فمه وأنفه ويديه ورجليه ورأسه لعلم أنها الصغائر في الأغلب ولعلم أنها معفو عنها بترك الكبائر دليل ذلك قوله العينان تزنيان واليدان تزنيان والفم يزني ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه يريد والله أعلم أن الفرج بعمله يوجب المهلكة وما لم يكن ذلك فأعمال البر يغسلن ذلك كله وقد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب لولا قول ذلك القائل وخشيت أن يغتر به جاهل فينهمك في الموبقات اتكالا على أنها تكفرها الصلوات الخمس دون الندم عليها والاستغفار والتوبة منها والله أعلم ونسأله العصمة والتوفيق.

حدثني سعيد بن نصر و عبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحق القاضي قال حدثنا الحجاج بن المنهال قال حدثنا ابن سلمة، عن ثابت، وعلي بن زيد، وحميد وصالح المعلم ويونس عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله قال الصلوات الخمس والجمعة "إلى الجمعة" كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.

وأما حديث عمرو بن عبسة في هذا الباب ومنه قام حديث الصنابحي والله أعلم فحدثنا أبو عبد الله محمد بن خليفة رحمه الله قال حدثنا "أبو" بكر محمد بن الحسين الآجرى قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي حدثنا أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمان الدمشقي قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب أنه لقي أبا أمامة الباهلي فسأله عن حديث عمرو بن عبسة السلمي حين حدث شرحبيل بن السمط وأصحابه أنه سمع رسول الله يقول من رمى بسهم في سبيل الله فبلغ أخطأ أو أصاب كان سهمه ذلك كعدل رقبة من ولد إسماعيل ومن خرجت له شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة ومن أعتق رقبة مسلمة كانت له فكاكا من جهنم ومن قام إلى الوضوء يراه حقا عليه فمضمض غفرت له ذنوبه مع أول قطرة من طهوره فإذا غسل وجهه فمثل ذلك فإذا غسل رجليه فمثل ذلك فإن جلس جلس سالما وإن صلى تقبل منه قال شهر : فحدثني أبو أمامة عن عمرو بن عبسة بهذا الحديث سمعه من رسول الله "إلا أن إسماعيل بن عياش أجمعوا أنه ليس بحجة فيما ينفرد به".

وحدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا إبراهيم بن مروان الدمشقي قال حدثنا ابن عياش هو إسماعيل قال حدثني يحيى بن أبي عمرو السيباني عن أبي سلام الحبشي وعمرو بن عبد الله أنهما سمعا أبا أمامة الباهلي يحدث عن عمرو بن عبسة السلمي قال رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية ورأيت أنها آلهة باطل كانوا يعبدون الحجارة والحجارة لا تضر ولا تنفع قال فلقيت رجلا من أهل الكتاب فسألته عن أفضل الدين فقال رجل يخرج من مكة ويرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها وهو يدعو إلى أفضل الدين فإذا سمعت به فاتبعه فلم يكن لي هم إلا مكة آتيها فأسأل هل حدث فيها حدث أو أمر فيقولون لا فانصرف إلى أهلي وأهلي بالطريق غير بعيد فاعترض خارجي مكة فأسألهم هل حدث فيها حدث أو أمر فيقولون لا فإني قاعد على الطريق إذ مر بي راكب فقلت من أين جئت فقال من مكة قلت حدث فيها حدث قال نعم رجل رغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها قلت صاحبي الذي أريد فشددت راحلتي برحلها فجئت منزلي الذي كنت أنزل فيه فسألت عنه فوجدته مستخفيا بشأنه ووجدت قريشا عليه جرءاء فتلطفت حتى دخلت فسلمت عليه ثم قلت من أنت فقال أنا نبي فقلت وما النبي قال رسول الله قلت من أرسلك قال الله قلت فبم أرسلك قال بأن توصل الأرحام وتحقن الدماء وتؤمن السبل وتكسر الأوثان ويعبد الله وحده لا يشرك به شيء قلت نعم ما أرسلك فاشهد أني قد آمنت بك وصدقت بك أمكث معك أم ماذا ترى قال قد ترى كراهية الناس لما جئت به فامكث في أهلك فإذا سمعت بأني خرجت مخرجي فائتني فلما سمعت به خرج إلى المدينة سرت حتى قدمت عليه قلت يا نبي الله تعرفني قال نعم أنت السلمي الذي جئتني فقلت لي كذا وكذا فاغتنمت ذلك المجلس وعرفت أنه لا يكون لي أفرغ قلبا منه في ذلك المجلس قلت يا رسول الله أي الساعات أسمع قال جوف الليل الآخر والصلاة مشهودة متقبلة حتى تخرج الشمس فإذا رأيتها خرجت حمراء فاقصر عنها فإنها تخرج بين قرني شيطان وتصلي لها الكفار فإذا ارتفعت قدر رمح أو رمحين فصل فإن الصلاة مشهودة متقبلة حتى يستوي الرمح بالظل فإذا استوى الرمح بالظل فأقصر عنها فإنه حين تسجر أبواب جهنم فإذا فاء الظل فصل فإن الصلاة مشهودة متقبلة حتى تغرب الشمس فإذا رأيتها حمراء فاقصر عنها فإنها تغرب بين قرني شيطان وتصلي لها الكفار ثم أخذ في الوضوء وقال إذا توضأت فغسلت يديك خرجت خطايا يديك من أطراف أناملك مع الماء فإذا غسلت وجهك ومضمضت واستنثرت خرجت خطايا وجهك من فيك وخياشيمك مع الماء فإذا مسحت برأسك وأذنيك خرجت خطايا رأسك وأذنيك من أطراف شعرك مع الماء فإذا غسلت رجليك خرجت خطايا رجليك وأناملك مع الماء فصليت فحمدت ربك بما هو أهله انصرفت من صلاتك كيوم ولدتك أمك.

قال أبو داود : وقرأت على المؤمل بن أهاب قال حدثنا النضر بن محمد قال حدثنا عكرمة بن عمار العجلي قال حدثنا شداد ابن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير عن أبي أمامة "قيل لعكرمة ولقي شداد أبا أمامة"؟ قال نعم وواثلة وصحب أنس بن مالك إلى الشام قال قال عمرو بن عبسة السلمي كنت في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان قال فسمعت برجل بمكة فساق الحديث بمعنى ما تقدم قال فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني قال نعم ألست الذي لقيتني بمكة قال فقلت بلى رجاء يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة قال صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وحتى ترتفع فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقبل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار فقلت أي نبي الله الوضوء حدثني عنه قال : "ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق ويستنثر إلا خرجت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه مع الماء ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله خرجت خطايا وجهه من طرف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرجت خطايا يديه من أنامله مع الماء ثم يمسح برأسه إلا خرجت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرجت خطايا رجليه من أنامله مع الماء فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو أهله إلا انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه" وذكر باقي الكلام.

قال : وحدثنا أبو توبة الربيع بن نافع قال حدثنا محمد بن المهاجر عن العباس بن سالم عن أبي سلام عن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة السلمي أنه قال أتيت رسول الله في أول ما بعث وهو بمكة وهو حينئذ مستخف فقلت من أنت قال أنا نبي قلت وما النبي فذكر الحديث وقال قلت يا رسول الله علمني مما علمك الله فقال سل عما شئت فقلت يا رسول الله أي الليل أفضل قال : "جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح ثم أقصر حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح أو رمحين فإنها تطلع بين قرني شيطان وتصلي لها الكفار ثم صل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى يعتدل رمح بظله ثم أقصر فإن جهنم تسجر وتفتح أبوابها فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت فإن الصلاة مكتوبة مشهودة حتى تصلي العصر ثم أقصر حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان، وتصلي لها الكفار فإذا توضأت فاغسل يديك فإنك إذا غسلت يديك خرجت خطاياك من أطراف أناملك ثم إذا غسلت وجهك خرجت خطاياك من وجهك ثم إذا مضمضت واستنثرت خرجت خطاياك من فيك ومناخرك ثم إذا غسلت ذراعيك خرجت خطاياك من ذراعيك ثم إذا مسحت برأسك خرجت خطاياك من أطراف شعرك ثم إذا غسلت رجليك خرجت خطاياك من أطراف أنامل رجليك فإن ثبت في مجلسك كان لك حظك من وضوئك فإن قمت فذكرت ربك وحمدت وركعت له ركعتين تقبل عليهما بقلبك خرجت من خطاياك كيوم ولدتك أمك" .

حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثنا محمد بن فطيس، قال : حدثنا أبو يزيد شجرة بن عيسى قال حدثنا علي بن زياد قال حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن رجل من أهل الشام عن كعب بن مرة البهزي قال قال رجل يا رسول الله أي الليل أسمع قال : "جوف الليل الآخر ثم الصلاة مقبولة حتى تصلي الفجر ثم لا صلاة حتى تكون الشمس قيد رمح أو رمحين ثم الصلاة مقبولة حتى يقوم الظل قيام الرمح ثم لا صلاة حتى تزول الشمس ثم الصلاة مقبولة حتى تكون الشمس قد دنت للغروب قدر رمح أو رمحين فإذا غسلت وجهك خرجت خطاياك من وجهك وإذا غسلت ذراعيك خرجت الخطايا من ذراعيك وإذا غسلت رجليك خرجت الخطايا من رجليك" .

قال أبو عمر : ليس في شيء من هذه الآثار : فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من أذنيه وذلك موجود في حديث الصنابحي وسائر حديث الصنابحي كله على ما في حديث عمرو بن عبسة المذكور في هذا الباب والحمد لله وإنما ذكرناها ليبين بها حديث الصنابحي ويتصل ويستند فلذلك ذكرناها لتقف على نقلها وتسكن إليها وبالله التوفيق.

حديث عاشر لزيد بن أسلم مسند ثابت[عدل]

مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي رافع مولى رسول الله قال : "استسلف رسول الله بكرا فجاءته إبل من إبل الصدقة قال أبو رافع فأمرني رسول الله أن أقضي الرجل بكره فقلت لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا فقال رسول الله أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء قال أهل اللغة البكر من الإبل الفتى والخيار المختار الجيد قال صاحب العين ناقة خيار وجمل خيار والجمع خيار أيضا ويقال أربع الفرس وأربع الجمل إذا ألقى رباعيته فهو رباع والأنثى رباعية" .

قال أبو عمر : معلوم أن استسلاف رسول الله الجمل البكر المذكور في هذا الحديث لم يكن لنفسه لأنه قضاه من إبل الصدقة ومعلوم أن عليه لا يحل له أكلها ولا الانتفاع بها وقد مضى بيان هذا في ربيعة ولهذا علمنا أنه لم يكن ليؤدي عن نفسه من مال المساكين وإذا صح هذا علمنا أنه إنما استسلف الجمل للمساكين واستقرضه عليهم لما رأى من الحاجة ثم رده من إبل الصدقة كما يستقرض ولي اليتيم عليه نظرا له ثم يرده من ماله إذا طرأ له مال وهذا كله لا ينازع فيه والحمد لله.

وقد اختلف العلماء في حال المستقرض منه الجمل المذكور في هذا الحديث فقال منهم قائلون لم يكن المستقرض منه ممن تجب عليه صدقة ولا يلزمه زكاة لأنه قد رد عليه رسول الله صدقته ولم يحتسب له بها وقت أخذ الصدقات وخروج السعاة وقتا واحدا يستوي الناس فيه فما لم يحتسب له بما أخذ منه صدقة علم أنه لم يكن ممن تلزمه صدقة في ماشيته لقصور نصابها عن ذلك والله أعلم هذا قول من لم يجز تعجيل الزكاة قبل محلها.

وقال آخرون : جائر أن يكون المستقرض منه في حين رد ما استقرض منه إليه ممن لا تجب عليه الصدقة لجائحة لحقته في إبله وماله قبل تمام الحول فوجب رد ما أخذ منه إليه ومثال ذلك الاستسلاف في هذا الموضع عند هؤلاء أن يقول الإمام للرجل أقرضني على زكاتك لأهلها فإن وجبت عليك زكاة بتمام ملكك للنصاب حولا فذاك وإلا فهو دين لك أرده عليك من الصدقة وهذا كله على مذهب من أجاز تعجيل الزكاة قبل وقت وجوبها.

وقد اختلف الفقهاء في تعجيل الزكوات قبل حلول الحول فأجاز ذلك أكثر أهل العلم وممن ذهب إلى إجازة تعجيل الزكاة قبل الحلول : سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد

وروي ذلك عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وابن شهاب والحكم بن عتيبة وابن أبي ليلى.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد يجوز تعجيل الزكاة لما في يده ولما يستفيده في الحول وبعده بسنين وقال زفر التعجيل عما في يده جائز ولا يجوز عما يستفيده وقال ابن شبرمة يجوز تعجيل الزكاة لسنين.

وقال مالك : لا يجوز تعجيلها قبل الحلول إلا بيسير وقالت طائفة لا يجوز تعجيلها قبل محلها بيسير ولا كثير ومن عجلها قبل محلها لم يجزئه وكان عليه إعادتها كالصلاة.

وروي ذلك عن الحسن البصري وهو قول بعض أصحاب داود وروى خالد بن خداش وأشهب عن مالك مثل ذلك.

قال أبو عمر : من لم يجز تعجيلها قاسها على الصلاة وعلى سائر ما يجب مؤقتا لأنه لا يجزئ من فعله قبل وقته ومن أجاز تعجيلها قاس ذلك على الديون الواجبة لآجال محدودة أنه جائز تعجيلها وفرق بين الصلاة والزكاة بأن الصلاة يستوي الناس كلهم في وقتها وليس كذلك أوقات الزكاة لاختلاف أحوال الناس فيها فأشبهت الديون إذا عجلت وقد استدل الشافعي على جواز تعجيل الزكاة بهذا الحديث وفي قضاء رسول الله المستسلف منه البكر جملا جيدا دليل على أنه لم يكن ممن عليه صدقة لأنه لم يحتسب له بذلك قضاه وبرئ إليه منه ولا حجة للشافعي فيما استدل به من هذا الحديث في جواز تعجيل الزكاة.

وقد احتج بعض من نصر مذهبه على ما ذكرناه بأن قال جائز أن يكون الذي استقرض منه البكر ممن تحل له الصدقة فأعطاه النبي صلى الله عليه وسام غير بعيره بمقدار حاجته وجمع في ذلك وضع الصدقة في موضعها وحسن القضاء قال وجائز أن يستسلف الإمام للفقراء ويقضي من سهمهم أكثر مما أخذ لما يراه من النظر والصلاح إذا كان ذلك من غير شرط ولا منفعة تعجيل.

ثم نعود إلى القول في معنى الاستسلاف المذكور في هذا الحديث فنقول إن قال قائل لا يجوز أن يكون الاستقراض المذكور على المساكين لأنه لو كان قرضا على المساكين لما أعطى رسول الله من أموالهم أكثر مما استقرض لهم قيل له لما بطل أن يستقرض رسول الله عل الصدقة لغنى وأن لا يستقرضها لنفسه لم يبق إلا أنه استقرضها لأهلها وهم الفقراء ومن ذكر معهم وكان في هذا الحديث دليل على أنه جائز لإمام إذا استقرض للمساكين أن يرد من مالهم أكثر مما أخذ على وجه النظر والصلاح إذا كان من غير شرط ووجه النظر في ذلك والمصلحة معلوم فإن منفعة تعجيل ما أخذه لشدة حاجة الفقير إليه أضعاف ما يلحقهم في رد الأفضل لأن ميل الناس إلى العاجل من أمر الدنيا فكيف نعطيه أكثر مما أخذ منه والصدقة لا تحل لغني فالجواب عن هذا أنه جائز ممكن أن يكون المستقرض منه قد ذهبت إبله بنوع من جوائح الدنيا وكان في وقت صرف ما أخذ منه إليه فقيرا تحل له الزكاة فأعطاه النبي خيرا من بعيره بمقدار حاجته وجمع في ذلك وضع الصدقة في موضعها وحسن القضاء وجائز أن يكون غارما وغازيا ممن تحل له الصدقة مع القضاء ووضع الصدقة موضعها والله أعلم وسيأتي في ذكر الخمسة الأغنياء الذين تحل لهم الصدقة فيما بعد من حديث زيد بن أسلم إن شاء الله.

وفي هذا الحديث أيضا من الفقه إثبات الحيوان في الذمة وإذا صح ثبوت الحيوان في الذمة بما صح من جواز استقراض الحيوان صح فيه السلم على الصفة وبطل بذلك قول من لم يجز الاستقراض في الحيوان ولا أجازوا السلم فيه.

واختلف الفقهاء في السلم في الحيوان وفي استقراضه فذهب العراقيون إلى أن السلم في الحيوان "وفي استقراضه" لا يجوز وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح وروي ذلك عن ابن مسعود وحذيفة وعبد الرحمن بن سمرة.

وحجة من قال بهذا القول إن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته لأن مشيه وحركاته وملاحته وجريه كل ذلك لا يدرك وصفه وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته وادعوا النسخ في حديث أبي رافع المذكور وما كان مثله وقالوا نسخه ما قضى به رسول الله في أنه أوجب على المعتق نصيبه من عبد بينه وبين آخر إذ أوجب عليه قيمة نصيب شريكه ولم يوجب عليه نصف عبد مثله.

وقال داود بن علي وأصحابه لا يجوز السلم في الحيوان ولا في شيء من الأشياء إلا في المكيل والموزون خاصة وما خرج عن المكيل والموزون فالسلم فيه غير جائز عندهم لحديث ابن عباس عن رسول الله أنه قال : "من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ولنهيه عن بيع ما ليس عندك" ، قالوا فكل ما لم يكن مكيلا أو موزونا فداخل في بيع ما ليس عندك.

قال أبو عمر : بنوا هذا على ما أصلوا من أن كل بيع جائز بظاهر قول الله عز وجل : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} إلا بيع ثبت في السنة النهي عنه أو أجمعت الأمة على فساده.

وقال أهل المدينة ومالك وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي وأصحابه السلم في الحيوان جائز بالصفة وكذلك كل ما يضبط بالصفة في الأغلب وحجتهم في ذلك حديث أبي رافع هذا لما فيه من ثبوت الحيوان في الذمة ومثله حديث أبي هريرة في استقراض رسول الله الجمل ومن حجتهم أيضا : "إيجاب رسول الله دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه وهي أخماس عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة" ، ودية شبه العمد وذلك من الإبل ثلاثون جذعة وثلاثون حقة وأربعون خلفة وفي بطونها أولادها فجعل الحيوان دينا في الذمة إلى أجل وقد كان ابن عمر يجيز السلم في الوصف وأجاز أصحاب أبي حنيفة أن يكاتب الرجل عبده على مملوك وهذه مناقضة منهم وأجاز الجميع النكاح على عبد موصوف وذكر الحسن بن علي الحلواني، قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا الليث قال حدثني يحيى بن سعيد قال قلت لربيعة أن أهل انطابلس حدثوني أن خير بن نعيم كان يقضي عندهم بأنه لا يجوز السلف في الحيوان وقد كان يجالسك ولا أحسبه قضى به إلا عن رأيك فقال لي ربيعة قد كان ابن مسعود يقول ذلك قال يحيى فقلت وما لنا ولابن مسعود في هذا قد كان ابن مسعود يتعلم منا ولا نتعلم منه وقد كان يقضي في بلاده بأشياء فإذا جاء المدينة وجد القضاء على غير ما قضى به فيرجع إليه وأما اعتلال العراقيين بأن الحيوان لا يمكن صفته غير مسلم لهم لأن الصفة في الحيوان يأتي الواصف منها بما يدفع الإشكال ويوجب الفرق بين الموصوف وغيره كسائر الموصوفات من غير الحيوان وإذا أمكنت الصفة في الحيوان جاز السلم فيه بظاهر قول رسول الله  : "لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها"، فجعل الصفة تقوم مقام الرؤية.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يجوز استقراض شيء من الحيوان كما لا يجوز السلم فيه لأن رد المثل لا يمكن لتعذر المماثلة عندهم في الحيوان وقال مالك والأوزاعي والليث والشافعي يجوز استقراض الحيوان كله إلا الإماء فإنه لا يجوز استقراضهن وعند مالك فيما ذكر ابن المواز إن استقرض أمة ولم يطأها ردها بعينها وإن وطئها لزمته القيمة ولم يردها وعند الشافعي يردها ويرد معها عقدها يعني صداق مثلها وإن حملت ردها بعد الولادة وقيمة ولدها إن ولدوا أحياء يوم سقطوا وما نقصتها الولادة وإن ماتت لزمه مثلها فإن لم يوجد مثلها فقيمتها.

وحجة من لم يجز استقراض الإماء وهم جمهور العلماء إن الفروج محظورة لا تستباح إلا بنكاح أو ملك يمين ولأن القرض ليس بعقد لازم من جهة المقترض لأنه يرده متى شاء فأشبه الجارية المشتراة بالخيار ولا يجوز وطؤها بإجماع حتى تنقضي أيام الخيار فهذه قياس عليها ولو جاز استقراض الإماء لحصل الوطء في غير نكاح ولا ملك صحيح وقال أبو إبراهيم المزني وداود بن علي وأبو جعفر الطبري استقراض الإماء جائز قال المزني والطبري قياسا على بيعها وإن ملك المستقرض صحيح يجوز له فيه التصرف كله وكل ما جاز بيعه جاز قرضه في نفس القياس، وقال داود لم يحظر الله استقراض الإماء ولا رسوله ولا اتفق الجميع على المنع منه وقد أباح الاستسلاف للحيوان رسول الله والأصل الإباحة حتى يصح المنع من وجه لا معارض له واحتج بهذا الحديث أيضا كل من أوجب على من استهلك شيئا من الحيوان مثله إن وجد له مثل لا قيمته قالوا وكما كان يكون له مثل في القضاء فكذلك يكون له مثل في الضمان عن الاستهلاك وممن قال بالمثل في المستهلكات كلها الشافعي وأحمد وداود وجماعة لقول الله : {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}.

وأما مالك رحمه الله فقال من استهلك شيئا من الحيوان بغير إذن صاحبه فعليه قيمته ليس عليه أن يؤخذ بمثله من الحيوان ولكن عليه قيمته يوم استهلكه القيمة أعدل فيما بينهما في الحيوان والعروض قالوا وأما الطعام فبمنزلة الذهب والورق وإذا استهلكه أحد بغير إذن صاحبه فعليه مثل مكيلته من صنفه.

قال أبو عمر : المكيل كله والموزون المأكول والمشروب هذا حكمه عنده وأما ما لا يؤكل مثل الرصاص القطن وما أشبه ذلك فالذي اختاره إسماعيل أن يكون فيه المثل لأنه يضبط بالصفة قال وقد احتج عبد الملك في القيمة في الحيوان بأن رسول الله قضى فيمن أعتق نصف عبد له بقيمة النصف الباقي للشريك ولم يقض بنصف عبد مثله.

قال أبو عمر : في حديث أبي رافع هذا ما يدل على أن المقرض إن أعطاه المستقرض أفضل مما أقرضه جنسا أو كيلا أو وزنا أن ذلك معروف وأنه يطيب له أخذه منه لأنه أثنى فيه على من أحسن القضاء وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة.

وروى سلمة بن كهيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي يتقاضاه فأغلظ له فهم به أصحابه فنهاهم فقال ألا كنتم مع الطالب ثم قال دعوه فإن لصاحب الحق مقالا اشتروا له بعيرا فلم يجدوا إلا فوق سنة فقال اشتروا له فوق سنة فأعطوه فجاء إلى النبي فقال أخذت حقك قال نعم : قال : كذلك افعلوا خيركم أحسنكم قضاء وهذا عند جماعة العلماء إذا لم يكن عن شرط منهما في حين السلف.

وقد أجمع المسلمون نقلا عن نبيهم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف أو حبة كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة.

وفيه دليل على أن للإمام أن يستسلف للمساكين على الصدقات ولسائر المسلمين على بيت المال لأنه كالوصي لجميعهم أو الوكيل.

وفيه أن التداين في البر، والطاعة، والمباحات، جائز، وإنما يكره التداين في الإسراف وما لا يجوز وبالله التوفيق.

حديث حادي عشر لزيد بن أسلم مسند يجري مجرى المتصل[عدل]

مالك، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل فقال له معاوية ما أرى بهذا بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله ويخبرني عن رأيه لا أساكنك أرضا أنت بها ثم قدم أبو الدرداء على عمر فذكر ذلك له فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن.

قد ذكرنا أبا الدرداء عويمرا رحمه الله في كتاب الصحابة بما يغني عن ذكره ها هنا وكذلك ذكرنا معاوية هنالك.

والسقاية : الآنية، قيل : إنها آنية كالكأس وشبهه، يشرب بها. "وقال الأخفش السقاية الإناء الذي يشرب به".

وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل : {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} ، قال : السقاية. مكيال كان يسمى السقاية. "وقال غيره : بل كل إناء يشرب فيه".

وذكر ابن حبيب عن مالك، قال : السقاية البرادة يبرد فيها الماء تعلق. وقال الأخفش : أهل الحجاز يسمون البرادة سقاية، ويسمون الحوض الذي فيه الماء سقاية.

وقال ابن وهب : بلغني أنها كانت قلادة خرز وذهب وورق.

وقال ابن حبيب : من قال إن السقاية قلادة فقد وهم وأخطأ وهو قول لا وجه له عند أهل العلم باللسان.

قال أبو عمر : ظاهر هذا الحديث الانقطاع لأن عطاء لا أحفظ له سماعا من أبي الدرداء وما أظنه سمع منه شيئا لأن أبا الدرداء توفي بالشام في خلافة عثمان لسنتين بقيتا من خلافته ذكر ذلك أبو زرعة عن أبي مسهر عن سعيد بن عبد العزيز.

وقال الواقدي : توفي أبو الدرداء سنة اثنتين وثلاثين ومولد عطاء بن يسار سنة إحدى وعشرين وقيل سنة عشرين.

قال أبو عمر : وقد روى عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء حديث لهم البشرى وممكن أن يكون سمع عطاء بن يسار من معاوية لأن معاوية توفي سنة ستين وقد سمع عطاء بن يسار من أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاصي و عبد الله ابن عمر وجماعة من الصحابة هم أقدم موتا من معاوية ولكنه لم يشهد هذه القصة لأنها كانت في زمن عمر وتوفي عمر سنة ثلاث، وعشرين أو أربع وعشرين من الهجرة.

واختلف في وقت وفاة عطاء بن يسار فقال الهيثم بن عدي توفي سنة سبع وتسعين وقال الواقدي توفي عطاء بن يسار سنة ثلاث ومائة وهو ابن أربع وثمانين سنة أخبرني بذلك أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه على أن هذه القصة لا يعرفها أهل العلم لأبي الدرداء إلا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار وأنكرها بعضهم لأن شبيها بهذه القصة عرضت لمعاوية مع عبادة بن الصامت وهي صحيحة مشهورة محفوظة لعبادة مع معاوية "من وجوه وطرق شتى".

وحديث تحريم التفاضل في الورق بالورق والذهب لعبادة محفوظ عند أهل العلم. ولا أعلم أن أبا الدرداء روى عن النبي في الصرف ولا في بيع الذهب بالذهب ولا الورق بالورق حديثا والله أعلم.

وكان معاوية يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من رسول الله في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر من الذهب والفضة بالمضروب ولا في المصوغ بالمضروب، "وقيل : إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة والله أعلم" حتى وقع له مع عبادة ما يأتي ذكره في هذا الباب وقد سأل عن ذلك أبا سعيد بعد حين فأخبره عن النبي بتحريم التفاضل في الفضة بالفضة والذهب بالذهب تبرهما وعينهما وتبر كل واحد منهما بعينه.

وإنما كان سؤاله أبا سعيد استثباتا لأنه كان يعتقد أن النهي إنما ورد في العين ولم يكن والله أعلم علم بالنهي حتى أعلمه غيره وخفاء مثل هذا على مثله غير نكير لأنه من علم الخاصة وذلك موجود لغير واحد من الصحابة.

ويحتمل أن يكون مذهبه كان كمذهب ابن عباس فقد كان ابن عباس وهو بحر في العلم لا يرى بالدرهم بالدرهمين يدا بيد بأسا حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد.

وذكر الحلواني قال حدثنا محمد بن عيسى قال أخبرنا هشيم قال أخبرنا أبو حرة قال : "سأل رجل ابن سيرين عن شيء فقال لا علم لي به فقال الرجل إني أحب أن تقول فيه برأيك قال إني أكره أن أقول فيه برأي ثم يبدو لي غيره فأطلبك فلا أجدك إن ابن عباس قد رأى في الصرف رأيا ثم رجع عنه".

أخبرني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد بن سليمان الربعي عن أبي الجوزاء قال سمعت ابن عباس وهو يأمر بالصرف الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين يدا بيد فقدمت العراق فأفتيت الناس بذلك ثم بلغني أنه نزل عن ذلك فقدمت مكة فسألته فقال لي إنما كان ذلك رأيا مني وهذا أبو سعيد يحدث عن النبي ينهى عنه.

قال أبو عمر : حديث أبي سعيد في الصرف عند مالك عن نافع عن أبي سعيد يأتي ذكره في باب نافع من هذا الكتاب إن شاء الله.

فغير نكير أن يخفي على معاوية ما خفي على ابن عباس.

وقد روينا عن معاوية كما قدمنا ذكره أنه كان يذهب إلى أن الربا في المضروب دون غيره وهو شيء لا وجه له عند أحد من أهل العلم وقد قلنا أن قصته المذكورة في هذا الحديث مع أبي الدرداء. لا توجد إلا في حديث زيد هذا.

وإذا كان ابن عباس وعمر قبله وأبو بكر قبلهما يخفي عليهم ما يوجد عند غيرهم ممن هو دونهم فمعاوية أحرى أن يوجد عليه مثل ذلك مع أبي الدرداء.

وأما قصة معاوية مع عبادة فحدثني أحمد بن قاسم "ابن عبد الرحمن"، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله يقول الذهب بالذهب مثلا بمثل الكفة بالكفة، "والفضة بالفضة مثلا بمثل، الكفة بالكفة"، والبر بالبر، مثلا بمثل يدا بيد والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد قال حتى ذكر الملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد قال معاوية إن هذا لا يقول شيئا فقال لي عبادة والله لا أبالي أن لا أكون بأرضكم هذه.

"وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا عبيد الله بن عمر قال حدثنا يحيى بن سعيد القطان" عن إسماعيل قال حدثني حكيم بن جابر عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله فذكر نحوه إلى قوله : الملح بالملح.

وقال : "قال معاوية إن هذا لا يقول شيئا فقال عبادة إني والله ما أبالي أن لا أكون بأرض معاوية أشهد أني سمعت رسول الله يقول ذلك".

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد بن مسرهد قال حدثنا معتمر بن سليمان عن خالد الحذاء قال أنبأنا أبو قلابة عن أبي أسماء عن عبادة بن الصامت أنهم أرادوا بيع آنية من فضة إلى العطاء فقال عبادة قال رسول الله الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح يدا بيد مثلا بمثل من زاد أو ازداد فقد أربى.

"هكذا قال المعتمر عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء وهو خطأ" والصواب في هذا الحديث ما قاله أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث وقول المعتمر عن خالد عن أبي قلابة عن أبي أسماء خطأ وقد خالفه الثوري وغيره عن خالد.

"وأخطأ أيضا المعتمر في قوله إن الآنية بيعت إلى العطاء وإنما بيعت في أعطيات الناس لا إلى العطاء وإنما الحديث لأبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة لا أبي قلابة عن أبي أسماء كذلك روى الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة ذكر وكيع وعبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح الديناري كلهم عن الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال كان معاوية يبيع الآنية من الفضة بأكثر من وزنها فقال عبادة سمعت رسول الله يقول : " الذهب بالذهب وزنا بوزن والفضة بالفضة وزنا بوزن والبر بالبر مثلا بمثل والشعير بالشعير مثلا بمثل والتمر بالتمر مثل بمثل والملح بالملح مثلا بالمثل وبيعوا الذهب بالفضة يدا بيد كيف شئتم، "والبر بالشعير يدا بيد كيف شئتم والتمر بالملح يدا بيد كيف شئتم هذا لفظ حديث عبد الرزاق وقال وكيع إذا اختلف الأصناف فبيعوا كيف شئتم".

وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا "عبد الوهاب" بن عبد المجيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث قال : "كنا في غزاة وعلينا معاوية فأصبنا ذهبا وفضة فأمر معاوية رجلا ببيعها الناس في أعطياتهم فتنازع الناس فيها فقام عبادة فنهاهم فردوها فأتى الرجل معاوية فشكا إليه فقام معاوية خطيبا فقال : ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله أحاديث يكذبون فيها لم نسمعها فقام عبادة فقال والله لنحدثن عن رسول الله بما سمعنا وإن كره معاوية قال رسول الله  : "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة ولا التمر بالتمر ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا الملح بالملح إلا مثلا بمثل سواء بسواء عينا بعين".

وحدثنا عبد الوارث، حدثنا قاسم حدثنا أحمد بن زهير حدثنا عبد الله بن عمر حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال كنت في حلقة بالشام فيها مسلم بن يسار فجاء أبو الأشعث قالوا أبو الأشعث فجلس فقلت حدث أخاك حديث عبادة بن الصامت قال نعم غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة فكان فيما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا ببيعها في أعطيات الناس فتنازع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت ذلك فقال إني سمعت رسول الله وإن كره معاوية أو قال أو رغم معاوية ما أبالي أن أصحبه في جنده ليلة سوداء قال حماد هذا أو نحوه".

"وروى هذا الحديث محمد بن سيرين عن محمد بن يسار وعبد الله بن عبيد عن عبادة حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبي قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين قال حدثني مسلم بن يسار وعبد الله بن عبيد وقد كان يدعى ابن هرمز قالا جمع المنزل بين عبادة بن الصامت وبين معاوية إما في بيعة أو في كنيسة فقام عبادة فقال نهى رسول الله عن الذهب بالذهب فذكر نحو ما تقدم وزاد وأمرنا أن نبيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا".

وحدثنا عبد الوارث، قال : حدثنا قاسم، قال حدثنا محمد بن أبي العوام قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن رجلين أحدهما مسلم بن يسار عن عبادة بن الصامت نحوه.

وحدثنا سعيد بن نصر قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا ابن جدعان عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله  : "الذهب بالذهب مثلا بمثل "والورق بالورق مثلا بمثل والتمر بالتمر مثلا بمثل والحنطة بالحنطة مثلا بمثل والشعير بالشعير مثلا بمثل حتى خص الملح بالملح مثلا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى". واللفظ لحديث الحميدي.

"وروى هذا الحديث بكر المزني عن مسلم بن يسار عن عبادة كما رواه محمد بن سيرين حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا مبارك بن فضالة قال حدثنا بكر بن عبد الله المزني عن أبي عبد الله مسلم بن يسار قال خطب معاوية بالشام فقال ما بال أقوام يزعمون أن النبي عليه السلام نهى عن الصرف وقد شهدنا النبي عليه السلام ولم نسمعه نهى عنه فقام عبادة بن الصامت فقال سمعت رسول الله ينهى أن يباع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل والورق بالورق إلا مثلا بمثل وذكر ستة أشياء البر والتمر والشعير والملح إلا مثلا بمثل لنحدثن بما سمعنا وإن كرهت يا معاوية لندعنك ولنلحقن بأمير المؤمنين فقال أيها الرجل أنت وما سمعت".

حدثنا أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن الجهم السمري قالا جميعا حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن مسلم بن يسار عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت أنه قام فقال يا أيها الناس إنكم قد أحدثتم بيوعا لا أدري ما هي وإن الذهب بالذهب "وزنا بوزن" تبره وعينه يدا بيد زاد محمد بن الجهم والفضة بالفضة وزنا بوزن يدا بيد تبرها وعينها ثم اتفقا ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد ولا يصلح "نساء"، والبر بالبر مدى بمدى يدا بيد والشعير بالشعير مدى بمدى يدا بيد، "ولا بأس ببيع الشعير بالبر والشعير أكثرهما يدا بيد ولا يصلح نسيئة والتمر بالتمر حتى عد الملح بالملح، مثلا بمثل يدا بيد" من زاد أو ازداد فقد أربى.

قال قتادة : وكان عبادة بدريا عقبيا أحد نقباء الأنصار وكان بايع رسول الله على أن لا يخاف في الله لومة لائم هكذا رواه ابن أبي عروبة عن قتادة عن مسلم بن يسار موقوفا، "فذكر الحديث وتابع هشام الدستوائي سعيد بن أبي عروبة على هذا الإسناد" عن قتادة، عن مسلم بن يسار.

ورواه همام عن قتادة عن أبي الخليل عن مسلم المكي عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت عن النبي مثله بمعناه. "وسعيد وهشام كلاهما عندهم أحفظ من همام فهذا ما بلغنا في قصة معاوية مع عبادة في بيع الآنية بأكثر من وزنها ذهبا كانت أو فضة وذلك عند العلماء معروف لمعاوية مع عبادة لا مع أبي الدرداء والله أعلم وممكن أن يكون له مع أبي الدرداء مثل هذه القصة أو نحوها ولكن الحديث في الصرف محفوظ لعبادة وهو الأصل الذي عول عليه العلماء في باب الربا ولم يختلفوا أن فعل معاوية في ذلك غير جائز وأن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة لا يجوز إلا مثلا بمثل تبرهما وعينهما ومصوغهما وعلى أي وجه كانت وقد مضى في باب حميد بن قيس حديث ابن عمر في الصائغ الذي أراد أن يأخذ فضل عمله فقال ابن عمر لا هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم".

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا موسى بن معاوية قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة قال قال رسول الله الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل "سواء بسواء" يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد.

وقرأت على عبد الوارث أن قاسما حدثهم، قال : حدثنا "محمد بن إسماعيل" الترمذي، قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا أمي الصيرفي قال حدثنا أبو صالح سنة مائة قال كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عماله أن لا يشتروا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ولا الحنطة بالحنطة إلا مثلا بمثل ولا الشعير بالشعير إلا مثلا بمثل ولا التمر بالتمر إلا مثلا بمثل.

قال أبو عمر : على هذا مذهب الصحابة، والتابعين وجماعة فقهاء المسلمين فلا وجه للإكثار فيه.

حدثني خلف بن القاسم بن سهل الحافظ قال حدثنا أبو الميمون البجلي عبد الرحمن بن عمر بدمشق قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا محمد بن المبارك، عن يحيى بن حمزة، عن برد بن سنان عن إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب عن أبيه أن عبادة أنكر على معاوية شيئا فقال لا أساكنك بأرض أنت بها ورحل إلى المدينة فقال له عمر ما أقدمك فأخبره فقال ارجع إلى مكانك فقبح الله أرضا لست فيها ولا أمثالك وكتب إلى معاوية لا إمارة لك عليه.

قال أبو عمر : فقول عبادة : لا أساكنك بأرض أنت بها وقول أبي الدرداء على ما في حديث زيد بن أسلم يحتمل أن يكون القائل ذلك قد خاف على نفسه الفتنة لبقائه بأرض ينفذ فيها في العلم قول خلاف الحق عنده وربما كان ذلك منه أنفة لمجاورة من رد عليه سنة علمها من سنن رسول الله برأيه وقد تضيق صدور العلماء عند مثل هذا وهو عندهم عظيم رد السنن بالرأي.

وجائز للمرء أن يهجر من خاف الضلال عليه ولم يسمع منه ولم يطعه وخاف أن يضل غيره وليس هذا من الهجرة المكروهة ألا ترى أن رسول الله أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين أحدث في تخلفه عن تبوك ما أحدث حتى تاب الله عليه وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع الكلام معه.

وقد حلف ابن مسعود أن لا يكلم رجلا رآه يضحك في جنازة :

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا عبد الملك بن بحر قال حدثنا موسى بن هارون قال حدثنا العباس بن الوليد قال حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي عن رجل من عبس أن ابن مسعود رأى رجلا يضحك في جنازة، فقال : تضحك وأنت في جنازة؟ والله لا أكلمك أبدا.

وغير نكير أن يجهل معاوية ما قد علم أبو الدرداء وعبادة فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم

قال أبو عمر : حديث عبادة المذكور في هذا الباب وإن كانوا قد اختلفوا في إسناده فهو عند جماعة من فقهاء الأمصار أصل ما يدور عليه عندهم معاني الربا إلا أنهم قد اختلفت مذاهبهم في ذلك على ما أوضحناه في باب ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان من هذا الكتاب والحمد لله.

قال أبو عمر : ولا يوجد عن النبي شيء ذكر فيه هذه الستة الأشياء المذكورة في حديث عبادة وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فجعلها جماعة علماء المسلمين القائلين بالقياس أصول الربا وقاسوا عليها ما أشبهها وما كان في معناها واستدلوا بقوله في الحديث حتى خص الملح بالملح فجعلوا الملح أصلا لكل إدام فحرموا التفاضل في كل إدام كما حرموا التفاضل في كل مأكول على علل أصولها مستنبطة من هذا الحديث فذهب العراقيون إلى أن العلة فيها الكيل والوزن لأن كل ما ذكر من الأنواع الستة لم تخل من كيل أو وزن وكذلك جاء الحديث به نصا قال في الذهب وفي الورق وزنا بوزن وقال في غير ذلك مدى بمدى ونحو ذلك

وسئل الشافعي فقال العلة في ذلك الأكل لا غير إلا في الذهب والورق فلم يقس عليهما غيرهما لأنهما أثمان المبيعات وقيم المتلفات وكذلك قول أصحاب مالك في الذهب والورق وعللوا الأربعة بأنها أقوات مدخرة فأجازوا التفاضل فيما لا يدخر إذا كان يدا بيد ولا بأس عندهم برمانة برمانتين وتفاحة بتفاحتين أو ما كان مثل ذلك يدا بيد وذلك غير جائز عند الشافعي لأن علته في ذلك الأكل وسواء عنده ما يدخر وما لا يدخر.

والربا عند جماعة العلماء في الصنف الواحد يدخله من جهتين وهما النساء والتفاضل فلا يجوز شيء من الأنواع الستة بمثله إلا يدا بيد مثلا بمثل على ما نص عليه الرسول فإذا اختلف الجنس جاز فيه التفاضل ولم يجز فيه النساء لقول رسول الله  : "بيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد"

إلا أن مالكا جعل البر والشعير جنسا واحدا فلم يجز فيه التفاضل لشيء رواه عن سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وسليمان بن يسار وخالفه في ذلك جماعة فقهاء الأمصار.

وسنذكر هذا المعنى مجودا في باب "عبد الله" بن يزيد مولى الأسود بن سفيان من كتابنا هذا إن شاء الله.

قال أبو عمر : لا ربا عند العلماء في غير هذه الأنواع الستة وما كان في معناها في عللهم وأصولهم التي ذكرنا ولا حرام عندهم في شيء من البيوع بعد ما تضمنت أصولهم المذكورة في هذا الباب على "ما وصفنا" إلا من طريق الزيادة في السلف والقول بالذرائع عند من قالها وهم مالك وأبو حنيفة وأصحابهما.

وكان سعيد بن المسيب والشافعي وأبو ثور وأحمد وجماعة ذهبوا إلى أن لا ربا إلا في ذهب أو ورق أو ما كان يكال، أو يوزن مما يوكل ويشرب استدلالا والله أعلم بحديث عبادة المذكور في هذا الباب "وكانوا ينفون" القول بالذرائع ويقولون : لا يحكم على مسلم أو غيره بظن ولا تشرع الأحكام بالظنون ولا ينبغي أن يظن المسلم إلا الخير.

"وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال إنما الربا على من أراد أن يربي" فهذا ما في السنة من أصول الربا.

وأما الربا الذي ورد به القرآن فهو الزيادة في الأجل يكون بإزائه زيادة في الثمن وذلك أنهم كانوا يتبايعون بالدين إلى أجل فإذا حل الأجل قال صاحب المال إما أن تقضي وإما أن تربي فحرم الله ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله واجتمعت عليه أمته.

ومن هذا الباب عند "أهل العلم" ضع وتعجل لأنه عكس المسألة، ومن رخص فيه لم يكن عنده من هذا الباب، "وجعله من باب المعروف".

وأما من نفى القياس من العلماء فإنهم لا يرون الربا في غير الستة الأشياء المذكورة في حديث عبادة بن الصامت وما عداها عندهم فحلال جائز بعموم قول الله تعالى : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ، وممن روي عنه هذا القول قتادة وما حفظته لغيره، وهو مذهب داود بن علي ولهذا الباب تلخيص "يطول شرحه ويتسع القول فيه"، وفيما ذكرت لك كفاية ومقنع لمن تدبر وفهم وبالله التوفيق.

وقد ذكرنا منه نكتا موعبة كافية في غير موضع من كتابنا هذا والحمد لله.

حديث ثاني عشر لزيد بن أسلم مسند ثابت[عدل]

مالك، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي اذهب إلى رسول الله فاسأله لنا شيئا نأكله وجعلوا يذكرون من حاجتهم فذهبت إلى رسول الله فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله يقول لا أجد ما أعطيك فتولى الرجل وهو مغضب ويقول لعمري إنك لتعطي من شئت فقال رسول الله  : "إنه ليغضب علي أن لا أجد ما أعطيه من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا" قال الأسدي فقلت للقحة لنا خير من أوقية، قال : "والأوقية أربعون درهما" فرجعت ولم أسأله فقدم على رسول الله بعد ذلك بشعير وزبيب فقسم لنا منه حتى أغنانا الله.

هكذا رواه مالك وتابعه هشام بن سعد وغيره وهو حديث صحيح وليس حكم الصاحب إذا لم يسم كحكم من دونه إذا لم يسم عند العلماء لارتفاع الجرحة عن جميعهم وثبوت العدالة لهم قال الأثرم قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل إذا قال رجل من التابعين حدثني رجل من أصحاب النبي ولم يسمه فالحديث صحيح قال نعم.

وقد روى عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن النبي نحو هذا الحديث الذي رواه عطاء بن يسار عن الأسدي قال أبو سعيد استشهد أبي يوم أحد وتركنا بغير مال فأصابتنا حاجة شديدة فقالت لي أمي أي بني ائت النبي فاسأله لنا شيئا قال فجئت وهو في أصحابه جالس فسلمت وجلست فاستقبلني وقال : "من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله ومن استكف كفاه الله" قال قلت ما يريد غيري فرجعت ولم أكلمه في شيء فقالت لي أمي ما فعلت، فأخبرتها الخبر فرزقنا الله شيئا فصبرنا وبلغنا "حتى ألحت علينا حاجة هي أشد منها" فقالت لي أمي ائت النبي فسله لنا شيئا قال فجئته وهو في أصحابه جالس فاستقبلني فأعاد القول الأول وزاد فيه "من سأل وله أوقية، أو قيمة أوقية فهو ملحف" فقلت إن لي ناقة خيرا من أوقية فرجعت ولم أسأله.

هكذا روي هذا الحديث عن أبي سعيد ورواه مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري بغير هذا اللفظ والمعنى واحد إلا أنه لم يذكر فيه من سأل وله أوقية إلى آخره وإنما هذا موجود من رواية مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد على ما تقدم في هذا الباب.

وهذا الحديث من حديث ابن شهاب محفوظ كما رواه مالك وليس يحفظ حديث أبي سعيد الخدري المذكور فيه الأوقية إلا بالإسناد المذكور عن عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه وهو لا بأس به وقد احتج به أحمد بن حنبل وسنذكر قوله في ذلك إن شاء الله تعالى.

وفي حديث زيد بن أسلم هذا من الفقه معرفة بعض ما كان عليه رسول الله من الحلم وما كان القوم فيه من الصبر على الإقلال وقلة ذات اليد.

وأما قول الرجل فيه والله إنك لتعطي من شئت فيحتمل أن يكون من الأعراب الجفاة الذين لا يدرون حدود ما أنزل الله على رسوله وفي هذا دليل على ما قال مالك إن من تولى تفريق الصدقات لم يعدم من يلومه قال وقد كنت أتولاها لنفسي فأوذيت فتركت ذلك وقد يجوز أن يكون منع النبي عليه السلام للرجل الذي منعه حين سأله من الصدقة لأنه كان غنيا لا تحل له أو ممن لا يجوز له أخذها لمعان الله ورسوله أعلم بها.

وفيه أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة.

والأوقية إذا أطلقت فإنما يراد بها الفضة دون الذهب وغيره هذا قول العلماء ألا ترى إلى حديث أبي سعيد الخدري ليس فيما دون خمس ذود صدقة، "وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" ولا فيما دون خمس أواق صدقة فلم يختلف العلماء أنه لم يعن بذلك إلا الفضة دون غيرها وما علمت أن أحدا قال في الأوقية المذكورة في هذا الحديث أنه أريد بها غير الفضة، وفي ذلك كفاية.

والأوقية أربعون درهما وهي بدراهمنا اليوم ستون درهما أو نحوها فمن سأل وله هذا الحد والعدد والقدر من الفضة أو ما يقوم مقامها ويكون عدلا منها فهو ملحف سأل إلحافا، والإلحاف في كلام العرب الإلحاح لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك والإلحاح على غير الله مذموم لأنه قد مدح الله بضده فقال {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} ولهذا قلت إن السؤال لمن ملك هذا المقدار مكروه ولم أقل إنه حرام لا يحل لأن ما لا يحل يحرم الإلحاح فيه وغير الإلحاح ويحرم التعرض له وفيه وما علمت أحدا من أهل العلم إلا وهو يكره السؤال لمن ملك هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب فغير جائز لأحد ملك أربعين درهما أو عدلها من الذهب أن يسأل على ظاهر الحديث.

وما جاء من غير مسألة فجائز له أن يأكله "إن كان من غير الزكاة وهذا ما لا أعلم فيه خلافا فإن كان من الزكاة ففيه من الاختلاف ما نبينه إن شاء الله" .

ولا تحل الزكاة لغني إلا لخمسة على ما ذكرنا في باب ربيعة

وأما غير الزكاة من التطوع كله فذلك جائز للغني والفقير.

وقد جعل بعض أهل العلم الأربعين درهما حدا بين الغنى والفقر فقال إن الصدقة يعني الزكاة لا يحل أخذها لمن ملك أربعين درهما لأنه غني إذا ملك ذلك وأظنه ذهب إلى هذا الحديث والله أعلم.

وهذا باب اختلف العلماء فيه ونحن نذكره ها هنا وبالله توفيقنا.

فأما مالك رحمه الله فروى عنه ابن القاسم أنه سئل هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهما فقال نعم وهو المشهور من مذهب مالك.

وروى الواقدي عن مالك أنه قال لا يعطى من الزكاة من له أربعون درهما.

قال أبو عمر : هذا يحتمل أن يكون قويا مكتسبا "حسن التصرف في هذه المسألة وفي الأولى ضعيفا عن الاكتساب" أو من له عيال، والله أعلم.

وقد قال مالك في صاحب الدار التي ليس فيها فضل عن سكناه ولا في ثمنها فضل إن بيعت يعيش فيه بعد دار تحمله أنه يعطى من الزكاة قال وإن كانت الدار في ثمنها ما يشتري له به مسكن ويفضل له فضل يعيش به أنه لا يعطى من الزكاة والخادم عنده كذلك.

وقوله أيضا هذا في الدار والخادم يحتمل التأويلين جميعا إلا أن المعروف من مذهبه أنه لا يحد في الغنى حدا لا يجاوزه إلا على قدر الاجتهاد والمعروف من أحوال الناس وكذلك يرد ما يعطى المسكين الواحد من الزكاة أيضا إلى الاجتهاد من غير توقيف.

فأما الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد وأحمد بن حنبل والطبري فكلهم يقولون فيمن له الدار والخادم وهو لا يستغني عنهما أنه يأخذ من الزكاة وتحل له ولم يفسروا هذا التفسير الذي فسره مالك.

إلا أن الشافعي قال في كتاب الكفارات من كان له مسكن لا يستغني عنه هو وأهله وخادم أعطى من كفارة اليمين والزكاة وصدقة الفطر قال وإن كان مسكنه يفضل عن حاجته وحاجة أهله الفضل الذي يكون بمثله غنيا لم يعط من ذلك شيئا فهذا القول ضارع قول مالك إلا أن مالكا قال يفضل له من ذلك فضل "يعيش به، ولم يقل كم يعيش به، والشافعي قال : يفضل له من ذلك فضل" يكون به غنيا.

وروى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال يعطى من الزكاة من له المسكن والخادم ورواه الربيع عن الحسن.

وفسره أبو عبيد على نحو ما قال الشافعي.

وعن إبراهيم النخعي نحو قول الحسن في ذلك.

وعن سعيد بن جبير مثله.

واختلفوا في المقدار الذي تحرم به الصدقة لمن ملكه من الذهب والفضة وسائر العروض.

فأما مالك فقد ذكرنا قوله في الأربعين درهما ولا اختلاف عنه في ذلك.

وكان الحسن البصري يقول من له أربعون درهما فهو غني.

وحجة من ذهب إلى أن يحد في هذا أربعين درهما حديث الأسدي المذكور في هذا الباب وهو حديث ثابت وقد رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أيضا حدثنا يعيش بن سعيد بن محمد قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن غالب التمتام قال حدثنا إبراهيم بن بشار قال حدثنا سفيان عن داود بن شابور عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال "من سأل وله أربعون درهما أو قيمتها فهو الملحف "

وذكر كلاما فيه تغليظ على السائل إذا ملك ذلك، وقد ذكرنا حديث أبي سعيد الخدري بمثل ذلك أيضا.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تحل الصدقة لمن له مائتا درهم ولا بأس أن يأخذها من له أقل منها ويكرهون أن يعطى إنسان واحد من الزكاة مائتي درهم فإن أعطيها أجزأت عن المعطى عندهم ولا بأس أن يعطى أقل من مائتي درهم وهو قول ابن شبرمة.

وروى هشام عن أبي يوسف في رجل له "على رجل" مائة وتسعة وتسعون درهما فيتصدق عليه من زكاة بدرهمين أنه يقبل واحدا ويرد واحدا ففي هذا إجازة أن يقبل تمام المائتين وكراهة أن يقبل ما فوقها.

وحجتهم في ذلك قول رسول الله أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم والغني من له مائتا درهم لوجوب الزكاة عليه فيها لأنها لا تؤخذ إلا من غني.

وكان الثوري والحسن بن صالح وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقولون لا يعطى من الزكاة من له خمسون درهما أو عدلها من الذهب واحتجوا في ذلك بحديث عبد الله بن مسعود في ذلك عن النبي أنه قال : "من سأل وهو غني جاءت يوم القيامة مسألته خدوشا وكموشا أو كدوحا في وجهه" قيل وما غناه أو ما الغنى يا رسول الله قال : خمسون درهما أو عدلها من الذهب وهذا الحديث أنما يدور على حكيم بن جبير وهو متروك الحديث هكذا رواه جماعة أصحاب الثوري منهم ابن المبارك وغيره عن الثوري عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود.

إلا يحيى بن آدم فإنه جعل فيه مع حكيم بن جبير زبيد الأيامى ولا يجوز عند الثوري وأحمد بن حنبل والحسن بن صالح ومن قال بقولهم أن يعطى أحد من الزكاة أكثر من خمسين درهما لأنه الحد بين الغني والفقير عندهم والزكاة إنما جعلها الله للفقراء والمساكين وحرمها على الأغنياء إلا الخمسة الذين ذكرهم رسول الله وسيأتي ذكرهم في كتابنا هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.

وقال عبيد الله بن الحسن : من لا يكون له ما يقيمه ويكفيه سنة فإنه يعطى من الزكاة وما أعلم لهذا القول وجها إلا أن يكون صاحبه عساه أخذه من حديث ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب أن رسول الله كان يدخر مما أفاء الله عليه قوت سنة ثم يجعل ما سوى ذلك في الكراع والسلاح مع قول الله عز وجل : {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}.

وقال الشافعي : يعطى الرجل على قدر حاجته حتى يخرجه ذلك من حد الفقر إلى حد الغنى كان ذلك تجب فيه الزكاة أو لا تجب فيه الزكاة ولا أحد حد في ذلك حدا ذكره المزني والربيع جميعا عنه ولا خلاف عنه في ذلك وكان الشافعي يقول أيضا قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع كسبه ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله.

وقال الطبري : لا يأخذ من الزكاة من له خمسون درهما أو عدلها ذهبا إذا كان على التصرف بها قادرا حتى يستغني عن الناس فإذا كان كذلك حرمت عليه الصدقة.

وأما إذا صرف الخمسين درهما في مسكن أو خادم أو ما لا يجد منه بدا وليس له سواها وكان على التصرف بها غير قادر حلت له الزكاة بحديث ابن مسعود "عن النبي " في الخمسين درهما، وذكر حديث قبيصة بن المخارق لا تحل المسألة لمن له سداد من عيش أو قوام من عيش فكأنه جعل السداد الخمسين درهما المذكورة في حديث ابن مسعود والله تعالى أعلم بهذا الظاهر من معنى قوله هذا.

قال أبو عمر : ليس عن النبي ولا عن أصحابه في هذا الباب شيء يرفع الإشكال ولا ذكر أحد عنه ولا عنهم في ذلك نصا غير ما جاء عن النبي من كراهية السؤال وتحريمه لمن ملك مقدارا ما في آثار كثيرة مختلفة الألفاظ والمعاني فجعلها قوم من أهل العلم حدا بين الغني والفقير.

وأبى ذلك آخرون وقالوا إنما فيها تحريم السؤال أو كراهيته.

فأما من جاءه شيء من الصدقات عن غير مسألة فجائز له أخذه وأكله ما لم يكن غنيا الغنى المعروف عند الناس فتحرم عليه حينئذ الزكاة دون التطوع.

ولا خلاف بين علماء المسلمين أن الصدقة المفروضة لا تحل لغني إلا ما ذكر في حديث أبي سعيد الخدري على ما يأتي ذكره إن شاء الله في موضعه من كتابنا هذا.

واختلفوا في الصدقة التطوع هل تحل للغني فمنهم من يرى التنزه عنها ومنهم من لم ير بها بأسا إذا جاءت من غير مسألة، "لقوله لعمر ما جاءك من غير مسألة فكله وتموله فإنما هو رزق ساقه الله إليك"، مع إجماعهم على أن السؤال لا يحل لغني معروف الغنى.

وأكثر من كره صدقة التطوع إنما كرهها من أجل الامتنان ورأوا التنزه عن التطوع من الصدقات لما يلحق قابضها من ذل النفس والخضوع لمعطيها ونزعوا أو بعضهم بالحديث أن الصدقة أوساخ الناس يغسلونها عنهم فرأوا التنزه عنها ولم يجيزوا أخذها لمن استغنى عنها بالكفاف ما لم يضطروا إليها حتى لقد قال سفيان رحمه الله جوائز السلطان أحب إلي من صلات الإخوان لأنهم يمنون.

قال أبو عمر : ويحتمل مع هذا أنه رأى أن له في بيت المال حقا.

والآثار المروية عن النبي في كراهته السؤال مطلقا أو لمن ملك مقدارا ما كثيرة جدا منها حديث الأسدي المذكور في هذا الباب لمالك عن زيد ابن أسلم ومنها حديث أبي سعيد على ما تقدم وفيها جميعا ذكر الأوقية أو عدلها وحديث ابن مسعود في الخمسين درهما أو عدلها من الذهب وحديث سهل بن الحنظلية أنه سمع رسول الله يقول من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من نار جهنم فقالوا يا رسول الله وما يغنيه قال : ما يغذيه في أهله، وما يعشيهم وحديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رجل من مزينة أنه سمع النبي يخطب وهو يقول من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله ومن سأل الناس وله عدل خمسة أوساق سأل إلحافا وحديث قبيصة بن المخارق أن رسول الله قال له يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة فسأل حتى يصيبها أو يمسك ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة فسأل حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا الفاقة فقد حلت له المسألة فسأل حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش ثم يمسك وما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا.

وروى الفراسي أنه قال لرسول الله  : "أأسأل يا رسول الله قال لا وإن كنت لا بد سائلا فسل الصالحين" "وذكر الحديث".

وروى عوف بن مالك الأشجعي : " أنهم بايعوا رسول الله " وهم سبعة أو ثمانية"، فأخذ عليهم أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا ويصلوا الصلوات الخمس ويسمعوا ويطيعوا ولا يسألوا الناس شيئا. " قال : فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يسأل أحدا يناوله".

وروى ثوبان عن رسول الله أنه قال : "من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا تكفلت له بالجنة" وروى عمر بن الخطاب وغيره عن النبي أنه قال : "إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأله فكل وتصدق".

وعنه أنه قال" من آتاه الله شيئا من غير مسألة ولا استشراف فليأكل وليتمول فإنما هو رزق ساقه الله إليه" وهذا معناه أن يكون فقيرا أو يكون الشيء الذي جاءه من غير مسألة ليس من الزكاة إن كان غنيا بدليل قوله "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" ويروى "لذي مرة قوي" رواه عبد الله بن عمرو بن العاص.

ورواه أيضا عبيد الله بن عدي بن الخيار عن رجلين من أصحاب النبي عن النبي .

وهذه كلها آثار مشهورة صحاح معروفة عند أهل الحديث مروية في المسانيد والمصنفات وأمهات الدواوين ذكرها أبو داود وغيره كرهت الإتيان بأسانيدها لاشتهارها والسؤال عند أهل العلم مكروه لمن يجد منه بدا على كل حال

روينا " عن ابن عباس من وجوه أنه أوصاه رسول الله وكان في وصيته له إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله".

وقال رسول الله " لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".

قال أبو عمر :

وما زال ذوو الهمم والأخطار من الرجال يتنزهون عن السؤال.

ولقد أحسن أبو الفضل أحمد بن المعذل بن غيلان العبدي الفقيه المالكي حيث يقول :

ما دونه أن سيل من حاجب ... من يبغض التارك عن سؤله

التمس الأرزاق عند الذي ... جودا ومن يرضى عن الطالب

ومن إذا قال جرى قوله ... بغير توقيع إلى كاتب

قال أبو عمر :

كان أحمد بن المعذل شاعرا فقيها ناسكا وكان أخوه عبد الصمد شاعرا ماجنا ولأحمد قصيدته المشهورة في فضل الرباط.

ومن أحسن ما قيل نظما في الرضى والقناعة وذم السؤال قول بعض الأعراب :

علام سؤال الناس والرزق واسع ... وأنت صحيح لم تخنك الأصابع

وللعيش أوكار وفي الأرض مذهب ... عريض وباب الرزق في الأرض واسع

فكن طالبا للرزق من رازق الغنى ... وخل سؤال الناس فالله صانع

وقال مسلم بن الوليد :

أقول لمأفون البديهة طائر ... مع الحرص لم يغنم ولم يتمول

سل الناس إني سائل الله وحده ... وصائن عرضي عن فلان وعن فل

وقال عبيد بن الأبرص :

من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب

ومن قصيدة للحسين بن حميد :

وسائل الناس إن جادوا وإن بخلوا ... فإنه برداء الذل مشتمل

وقال أبو العتاهية فأحسن :

أتدري أي ذل في السؤال ... وفي بذل الوجوه إلى الرجال

يعز علي التنزه من رعاه ... ويستغنى العفيف بغير مال

تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال

وما دنياك إلا مثل فيء ... أظلك ثم آذن بالزوال

إذا كان النوال ببذل وجهي ... فلا قربت من ذاك النوال

معاذ الله من خلق دنيء ... يكون الفضل فيه علي لا لي

توق يدا تكون عليك فضلا ... فصانعها إليك عليك عالي

يد تعلوا بجميل فعل ... كما علت اليمين على الشمال

وجوه العيش من سعة وضيق ... وحسبك والتوسع في الحلال

وتنكر أن تكون أخا نعيم ... وأنت تصيف في فيء الظلال

وأنت تصيب قوتك في عفاف ... وريك إن ظمئت من الزلال

متى تمسي وتصبح مستريحا ... وأنت الدهر لا ترضى بحال

تكابد جمع شيء بعد شيء ... وتبغي أن تكون رخي بال

وقد يجزى قليل المال مجزى ... كثير المال في سد الخلال

إذا كان القليل يسد فقري ... ولم أجد الكثير فلا أبالي

هي الدنيا رأيت الحب فيها ... عواقبه التفرق عن تقال

تسر إذا نظرت إلى هلال ... ونقصك إن نظرت إلى الهلال

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حفص بن عمر النمري قال حدثنا سعيد عن عبد الملك بن عمير عن زيد بن عقبة الفزاري عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله " المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل الرجل ذا السلطان أو في أمر لا يجد منه بدا".

قال أبو عمر : حديث سمرة هذا من أثبت ما يروى في هذا الباب وهو أصل عندهم في سؤال السلطان، وقبول جوائزه وعمومه يقتضي كل سلطان لم يخص من السلاطين صفة دون صفة وقد كان يعلم كثيرا مما يكون بعده ألا ترى إلى قوله سيكون بعدي أمراء الحديث فما لم يعلم الحرام عندهم بصفته جاز قبوله :

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا عبد الله بن أبي حسان حدثنا مسلم حدثنا محمد بن مسلم الطائفي عن أيوب بن موسى عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقبل الجوائز من الأمراء وقبل جوائز الأمراء جماعة منهم الشعبي والحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد ومالك بن أنس، والأوزاعي.

وكان يحيى بن سعيد في ديوان الوليد وجماعة من العلماء كانوا في ديوان بني أمية وبني العباس في العطاء.

ذكر الحسن بن علي الحلواني في كتاب المعرفة قال حدثنا ابن عمير قال حدثنا ضمرة عن أبي جميلة قال ذكر الوليد بن هشام لعمر بن عبد العزيز القاسم بن مخيمرة قال فأرسل إليه فلما دخل عليه قال له عمر سل حاجتك قال يا أمير المؤمنين قد علمت ما جاء في المسألة قال ليس أنا ذلك، إنما أنا قاسم فسل حاجتك قال يا أمير المؤمنين أخذ مني قال قد أمرنا لك بخادم فخذها من عند الوليد بن هشام هكذا قال الحسن الحلواني.

وحدثنا علي بن حفص قال حدثنا الأشجعي عن سفيان عن منصور قال خرج إبراهيم النخعي وتميم بن سلمة إلى عامل حلوان فأعطاهما قال ففضل تميما على إبراهيم فوجد إبراهيم من ذلك في نفسه.

وذكر ابن أبي حاتم حديث أحمد بن منصور الرمادي عن القعنبي قال سمعت يحيى بن سليم الطائفي يحدث عن سفيان بن عيينة أن محمد بن إبراهيم يعني "الهاشمي" واليا كان على مكة بعث إلى سفيان الثوري مائتي دينار فأبى أن يقبلها فقلت له يا أبا عبد الله كأنك لا تراها حلالا قال بلى ولكني أكره أن أذل.

وقال سفيان : جوائز السلطان أحب إلى من صلة الإخوان لأنهم لا يمنون والإخوان يمنون.

قال الحلواني : وحدثنا عفان قال حدثنا معاذ قال حدثنا ابن عون قال أمر عمر بن عبد العزيز بمال للحسن ومحمد فلم يقبل محمد وقبل الحسن.

قال : وحدثنا زيد بن الحباب عن سلام بن مسكين، قال : بعث عمر بن عبد العزيز إلى الحسن ومحمد بن ثابت البناني ويزيد الرقاشي ويزيد الضبي بثمانمائة ثمانمائة وحلة حلة فقبلوا كلهم إلا محمد بن سيرين.

قال : وحدثنا دحيم قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا ابن حاتم قال قدم علينا سليمان بن يسار في زمن الوليد بن عبد الملك فدعاه الوليد إلى منزله فصنع حماما ودخله فاطلى بنورة ثم خرج وانصرف إلى المنزل فتغذى معه.

أخبرنا محمد بن زكرياء قال أخبرنا أحمد بن سعد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا مروان بن عبد الملك قال حدثنا المفضل بن عبد الرحمن قال حدثنا عبد الله بن داود عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت قال رأيت هدايا المختار تأتي ابن عباس وابن عمر فيقبلانها.

قال مروان : وحدثنا محمد بن يحيى الأزدي قال حدثنا أبو نصر التمار قال حدثنا سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال قال الحسن لا يرد عطاياهم إلا أحمق أو مراء.

حدثنا محمد بن عبد العزيز وكان فاضلا قال سمعت ابن عيينة حدثنا أحمد بن زهير حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا محمد بن عبد العزيز وكان فاضلا قال سمعت ابن عيينة يقول من زعم أن سفيان لم يأخذ من السلطان أنا أخذت له منهم.

قال أبو عمر : كان الثوري يحتج بقول ابن مسعود لك المهنأ، وعليه المأثم

وهذا لولا خروجنا بذكره عن معاني هذا الباب لذكرنا من ذلك ما يطول به الكتاب فقد جمعهم منهم أحمد بن خالد وغيره.

وروي عن بكير بن الأشج أنه كان يقبل هدية امرأة سوداء تبيع المزر بمصر قال لأني كنت أراها تغزل.

وقال الليث إن لم يكن له مال سوى الخمر فليكف عنه

قال وأكره طعام العمال من جهة الورع من غير تحريم وقال القاسم بن محمد لو كانت الدنيا كلها حراما لما كان بد من العيش فيها.

وقال مالك فكل من عمل للسلطان عملا فله رزقه من بيت المال قال فلا بأس بالجائزة يجاز بها الرجل يراه الإمام بجائزته أهلا لعلم أو دين عليه ونحو ذلك.

قال أبو عمر : أما من حد في الغنى حدا خمسين درهما أو أربعين درهما أو مائتي درهم وزعموا أن المرء غني بملكه هذا المقدار على اختلافهم فيه ومن قال إنه لا يعطى أحد من الفقراء أكثر من مائتي درهم أو أكثر من خمسين درهما من الزكاة فإنه يدخل على كل واحد منهم ما يرد قوله من حديث سهل بن أبي حثمة أن رسول الله ودى الأنصاري المقتول بخيبر بمائة ناقة من إبل الصدقة ودفعها إلى أخيه عبد الله بن سهل.

قد نزع لهذا بعض أصحابنا وفي ذلك عندي نظر فأما من جعل المرء بملكه ما تجب فيه الصدقة غنيا لقوله " أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم " فإنه يدخل عليه الإجماع على أن من ملك خمسة أوسق من شعير قيمتها خمسة دراهم أو نحوها مما لا يكون غنى عند أحد وكان ملكه إياها بزرعه لها في أرضه ولم يملك من حصاده غيرها إن الصدقة عليه فيها وإن لم يملك شيئا سوها وهذا عند جميعهم فقير مسكين غير غني وقد وجبت عليه الصدقة وهذا ينقض ما أصلوه وما ذهب إليه مالك والشافعي أولى بالصواب في هذا الباب والله أعلم.

أخبرنا محمد بن عبد الملك قال حدثنا أبو سعيد الأعرابي قال حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن رجلين "قالا أتينا رسول الله وهو يقسم نعم الصدقة فسألناه فصعد فينا البصر وصوب وقال ما شئتما فلا حق فيها لغني ولا لقوي مكتسب".

ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال" لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة وبعضهم يقول فيه ولا لذي مرة قوى".

ومن أحسن ما رأيت "من أجوبة" في معاني السؤال وكراهيته ومذاهب أهل الورع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق قال حدثنا الخضر بن داود قال حدثنا أبو بكر الأثرم قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يسأل عن المسألة متى تحل ؟

فقال إذا لم يكن عنده ما يغذيه ويعشيه على حديث سهل بن الحنظلية.

قيل لأبي عبد الله : فإن اضطر إلى المسألة قال : هي مباحة له إذا اضطر.

قيل له : فإن تعفف قال ذلك خير له.

ثم قال : ما أظن أحدا يموت من الجوع الله يأتيه برزقه.

ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري من استعف أعفه الله وحديث أبي ذر أن النبي قال له تعفف.

قال : وسمعت أبا عبد الله وذكر حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار " عن رجلين أتيا النبي فسألاه عن الصدقة فقال لهما إن شئتما ولا حق فيها لغني ولا لقوي مكتسب" فقال هذا أجودها إسنادا ثم قال قد يكون قويا ولا يكون مكتسبا لا يكون في يده حرفة ولا يقدر على شيء فهذا تحل له الصدقة وإن كان قويا إذا كان غير مكتسب فإن كان يقدر على أن يكتسب فهو مضيق عليه في المسألة فإذا غيب عليك أمره فلم تدر أيكتسب أم لا؟

أعطيته وأخبرته بما يحرم عليه. "قال أبو بكر" وسمعته يسال عن قوله ذي مرة قوي قال هو الصحيح ثم قال ما أحسنه وأجوده من حديث يعني حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار "وقد ذكرناه بسندنا فيه قبل هذا والحمد لله".

"أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الحميد بن أحمد قال حدثنا الخضر بن داود، قال : حدثنا أبو بكر"، قال وسمعت أبا عبد الله يقول لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة على حديث قبيصة بن المخارق حتى يصيب قواما أو سدادا من عيش قيل له ما السداد قال ما يعشيه.

قال أبو عمر : هذا على نحو جواب مالك في هذا الباب.

قال أبو بكر : وسمعته يعني أحمد بن حنبل يسأل عن الرجل الذي لا يجد شيئا أيسأل أم يأكل الميتة فقال أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله هذا شنيع قال وسمعته يسأل هل يسأل الرجل لغيره فقال لا ولكن يعرض كما قال النبي حين جاءه قوم مجتابي النمار فقال" تصدقوا ولم يقل أعطوهم".

قال أبو عمر : قد قال  : " اشفعوا تؤجروا وفيه إطلاق السؤال لغيره والله أعلم وقال ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه".

قال أبو بكر قيل له يعني أحمد بن حنبل فالرجل يذكر الرجل فيقول أنه محتاج فقال هذا تعريض وليس به بأس فإنما المسألة أن تقول أعطه ثم قال لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه فكيف لغيره والتعريض ها هنا أعجب إلي.

قلت لأبي عبد الله : رجل سأل وهو ممن تحل له المسألة فجاءه رجل بمائة درهم فقال هذا رزق ساقه الله إليه فإن كان من الزكاة فهذا يضيق على المعطي والمعطى فإن كان من عرض ماله فلا بأس به.

قال أبو عبد الله : لا يأخذ من الصدقة من له خمسون درهما ولا يأخذ منها أكثر من خمسين درهما قيل له وما الأصل في أن لا يعطى أكثر من خمسين قال لأنه إذا أخذ خمسين صار غنيا إلا أن يكون له عيال أو يكون غارما أو يكون عليه دين.

ثم قال : حديث عبد الله بن مسعود في هذا حديث حسن وإليه نذهب في الصدقة.

قلت له : ورواه زبيد وهو لحكيم بن جبير فقط فقال رواه زبيد فيما قال يحيى بن آدم سمعت سفيان يقول فحدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد قلت لأبي عبد الله : لم "يخبر به" محمد بن عبد الرحمن؟ فقال : لا.

قال : وسمعته، وذكر حديث أبي سعيد الخدري عن النبي من سأل وله أوقية أو قيمة أوقية فهو ملحف. فقال هذا يقوي حديث عبد الله بن مسعود قيل لأبي عبد الله : "حديث عبد الله بن مسعود" من حديث من هو فقال من حديث عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال قلت فإن كان رجل له عيال قال يعطى كل واحد منهم خمسين خمسين ومن كان له خمسون لم يعط منها شيئا وإن كان له دون خمسين بلغ الخمسين قيل له فإن كانت الخمسون لا تكفيه من سنة إلى سنة إنما تكفيه ثلاثة أشهر، "أو نحوها"، وهو يشتهي أن لا يحوجه إلى أحد فقال لا ينبغي أن يعطيه أكثر من خمسين فقلت أنا للذي سأله إذا فنيت الخمسون أعطاه خمسين أخرى قال نعم إذا فنيت أعطاه أخرى.

قال أبو عمر : أما اللقحة المذكورة في حديث هذا الباب : قول الأسدي : فقلت للقحة لنا خير من أوقية، فاللقحة الناقة اللبون.

"وذكر الحربي عن أبي نصر عن الأصمعي أنه قال لقاح الإبل أن تحمل سنة".

قال أبو عمر : قال أحبحة بن الجلاح :

تبوع للحليلة حيث كانت ... كما يعتاد لقحته الفصيل

حديث ثالث عشر لزيد بن أسلم مسند صحيح[عدل]

مالك، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي قتادة الأنصاري مثل حديث أبي النضر في الحمار الوحشي إلا أن في حديث زيد بن أسلم قال هل معكم من لحمه شيء؟

هكذا هو في الموطأ وسيأتي حديث أبي النضر في بابه إن شاء الله.

وفي قوله  : "هل معكم من لحمه شيء" دليل على أن صيد البر للمحرم حلال إذا لم يصده إلا أنه في هذا المعنى وفيما يصاد من أجل المحرم كلام وتعليل واختلاف بين العلماء يأتي ذلك إن شاء الله في باب حرف الميم عند ذكر حديث ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله وفي حرف السين عند ذكر أحاديث أبي النضر سالم مولى عمر بن عبيد الله وبالله العون.

واختلف في اسم أبي قتادة صاحب رسول الله وقد ذكرناه في كتاب الصحابة. والحمد لله كثيرا.

حديث رابع عشر لزيد بن أسلم صحيح متصل[عدل]

مالك عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط.

قد ذكرنا عبد الله بن سعد بن أبي سرح في كتاب الصحابة بما يغني عن ذكره ها هنا وتوفي بفلسطين سنة ست وثلاثين وكان أخا عثمان لأمه وابنه عياض ثقة مأمون.

هكذا روى مالك هذا الحديث في موطئه عند جماعة رواته فيما علمت لم يقل فيه على عهد رسول الله وهو حديث قد خرجه في المسند جماعة المصنفين من أهل العلم بالحديث لأنه قد صح فيه عن أبي سعيد أن ذلك كان منه على عهد رسول الله روي ذلك عنه من وجوه وشرطنا أن لا نترك ذكر مثل هذا في كتابنا أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال حدثنا داود بن قيس عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال : "كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب "فلم نزل" نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر وكان فيما كلم به الناس أن قال إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك".

قال أبو سعيد : فأما أنا، فلا أزال أخرجه أبدا ما عشت.

قال أبو داود : رواه ابن علية وغيره عن ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان عن عياض عن أبي سعيد بمعناه وذكر فيه رجل واحد عن ابن علية أو صاعا من حنطة وليس بمحفوظ.

قال أبو داود : وقد حدثناه مسدد عن إسماعيل بن علية ليس فيه ذكر الحنطة.

قال أبو داود : وقد ذكر معاوية بن هشام في هذا الحديث عن الثوري عن زيد بن أسلم عن عياض عن أبي سعيد نصف صاع من بر وهو وهم من معاوية بن هشام أو ممن روى عنه.

قال أبو داود : وحدثناه حامد بن يحيى عن سفيان بن عيينة عن ابن عجلان سمع عياضا عن أبي سعيد الخدري مثله وزاد فيه أو صاعا من دقيق قال حامد فأنكروا ذلك على سفيان فتركه قال أبو داود هذه الزيادة وهم من ابن عيينة.

أخبرنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال أخبرنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا محمد بن منصور قال حدثنا سفيان قال حدثنا ابن عجلان قال : سمعت عياض ابن عبد الله يخبر عن أبي سعيد الخدري قال لم يخرج على عهد رسول الله إلا صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من زبيب أو صاع من دقيق أو صاع من سلت ثم شك سفيان فقال من دقيق أو سلت.

قال أبو عمر : لم يذكر فيه ابن عيينة صاعا من طعام.

وكذلك رواه يحيى القطان عن داود بن قيس لم يذكر الطعام وكذلك رواه عبد الله بن عبد الله بن عثمان عن عياض عن أبي سعيد ليس فيها من طعام.

وكذلك رواه الحارث بن أبي ذباب عن عياض عن أبي سعيد ليس فيها ذكر الطعام.

ورواه الثوري عن زيد بن أسلم فقال فيه من طعام كما قال مالك طعام.

"قرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا محمد بن عبد السلام قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا يحيى قال حدثنا داود بن قيس عن عياض عن أبي سعيد الخدري قال لم نزل نخرج على عهد الرسول صاعا من تمر وصاعا من شعير وصاعا من أقط فلم نزل كذلك حتى كان معاوية بن أبي سفيان فقال أرى أن نصف صاع من سمراء الشام يعدل صاع تمر فأخذ به الناس".

خالفه وكيع عن داود بن قيس فذكر فيه صاعا من طعام كما قال القعنبي عن داود " : أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب النسوي قال أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك قال حدثنا وكيع عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط".

قال أبو عمر : هذا الثوري وموضعه من الحفظ وموضعه قد ذكر في هذا الحديث عن زيد بن أسلم كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله وكذلك قال فيه كل من رواه فلذلك ذكرناه في المسند كما ذكره القوم وبالله التوفيق.

وقال فيه الثوري : صاعا من طعام كما قال مالك وكما قال داود بن قيس فيما رواه عنه القعنبي.

"ورواه يحيى القطان عن داود بن قيس فلم يذكر فيه الطعام" : قرأت على عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا أبو صالح وحدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا عيسى بن حماد قالا جميعا أخبرنا الليث بن سعد قال حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم عن عياض بن عبد الله بن سعد حدثه أن أبا سعيد الخدري قال كنا نخرج في عهد رسول الله صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من الأقط لا نخرج غيره.

زاد عبد الوارث : فلما كثر الطعام في زمن معاوية جعلوه مدى حنطة.

"أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا هناد بن السري"، وأخبرنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا موسى بن معاوية قالا جميعا أخبرنا وكيع عن داود بن قيس الفراء عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري قال كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط فلم نزل كذلك حتى قدم معاوية المدينة فكان فيما كلم به الناس قال ما أرى مدين من سمراء الشام إلا تعدل صاعا من هذا قال فأخذ الناس به أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني هناد بن السري وبعضهم في بعض والمعنى سواء وفي حديث موسى بن معاوية زيادة قال أبو سعيد فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبدا ما عشت.

أخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا محمد بن علي بن حرب المروزي قال أخبرنا محرز بن الوضاح عن إسماعيل بن أمية عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري قال "فرض رسول الله صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط".

قال أبو عمر : هذه الآثار كلها تدل على أن هذا الحديث مرفوع فلذلك ذكرناه في كتابنا هذا على شرطنا.

وذكر فيه زيد بن أسلم من رواية مالك والثوري صاعا من طعام وكذلك ذكر فيه داود بن قيس من رواية وكيع والقعنبي وكلهم ذكر فيه الشعير والتمر والأقط وزاد بعضهم فيه الزبيب.

وتأول أصحابنا وغيرهم في ذكر الطعام في حديث أبي سعيد هذا أنه الحنطة لأنه مقدم في الحديث، ثم الشعير والتمر، والأقط بعده. وكذلك اختلف الحسن وابن سيرين على ابن عباس في حديثه في صدقة الفطر فقال عنه ابن سيرين صاع من بر.

وقال عنه الحسن : نصف صاع من بر.

وقال أبو رجاء : سمعت ابن عباس يخطب على منبركم يعني منبر البصرة يقول صدقة الفطر صاع من طعام فتأولوه أيضا على أنه البر ولم يسمع الحسن ولا ابن سيرين هذا الحديث من ابن عباس وقد سمعه منه أبو رجاء.

وأما حديث ابن عمر فسيأتي في باب نافع من كتابنا هذا باختلاف ألفاظه وتخريج معانيه ونذكر هناك إن شاء الله أحكام زكاة الفطر ووجوبها على الصغير والكبير والحر والعبد وما للعلماء في ذلك من التنازع والأقاويل بأتم ما يكون إن شاء الله ونذكر ها هنا اختلافهم في مكيلة صدقة الفطر وما الذي يخرج فيها من الحبوب وأصناف المأكول أو القيمة من العروض وغيرها وما لهم في ذلك من الأقاويل والاعتلال وبالله الحول وهو المستعان.

أجمع العلماء أن الشعير والتمر لا يجزئ من أحدهما إلا صاع كامل أربعة أمداد بمد النبي .

واختلفوا في البر : فقال مالك والشافعي وأصحابهما لا يجزئ من البر ولا من غيره أقل من صاع بصاع النبي أربعة أمداد بمده وهو قول البصريين وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابهما يجزئ من البر نصف صاع وروي ذلك عن جماعة من الصحابة وجماعة التابعين بالحجاز والعراق.

وحجة من قال بالصاع من البر وغيره حديث أبي سعيد الخدري هذا وأنه ليس في شيء من الأحاديث الصحاح نصف صاع.

وحديث الزهري عن أبي سعيد عندهم لا يصح.

وفي حديث ابن عمر " عن النبي صاع من تمر أو صاع من شعير" وكذلك حديث ابن عباس الصحيح فيه صاع لا نصف صاع والتمر والشعير كان قوت القوم في ذلك الوقت فواجب اعتبار القوت في كل زمان والقضاء منه بصاع كامل على ما في الآثار الصحاح عن ابن عمر وغيره منه بصاع كامل على ما في الآثار الصحاح عن ابن عمر وغيره.

وحجة من قال بنصف صاع من بر : ما يروى عن ابن عمر أنه قال بعد أن ذكر " أن رسول الله فرض صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير قال فعدل الناس به نصف صاع من بر والناس في ذلك الزمان كبار الصحابة".

وقد روي أن عمر عدل ذلك وقضى به.

وقيل : إن ذلك إنما كان في زمن معاوية وقد ذكرنا من روى هذا في حديث ابن عمر من كتابنا هذا في باب نافع والحمد لله وكان الصحابة في زمن معاوية متوافرين لا يجوز عليهم الغلط في مثل هذا واحتجوا أيضا بحديث الزهري عن ابن أبي صغير عن رسول الله قال في صدقة الفطر.

وصاع من بر عن "كل" اثنين أو صاع من شعير أو تمر عن كل واحد غنيا كان أو فقيرا وهو حديث مضطرب "لا يثبت".

واحتج أيضا من قال بنصف صاع من بر بما روي عن سعيد بن المسيب قال "كانت صدقة الفطر تعطى على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر نصف صاع من حنطة".

وروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وجابر وابن الزبير ومعاوية نصف صاع من بر وفي الأسانيد عن بعضهم ضعف واختلاف وكذلك روى سعيد بن المسيب، عطاء وطاووس ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن ومصعب بن سعد وغيرهم نصف صاع من بر.

وأما ابن عمر، فكان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر إلا مرة واحدة أعوزه التمر فأخرج شعيرا.

وجملة قول مالك أنه يؤدي ما كان جل عيش أهل بلده: القمـح والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والزبـيب والتمر والاقط، قال: ولا أرى لأهل مصر أن يدفعوا إلا القمـح، لأن ذلك جل عيشهم، إلا أن يعلو سعرهم فـيكون عيشهم الشعير فـيعطونه. قال: ويعطى صاعًا من كل شيء، ولا يعطى مكان ذلك عرضًا من العروض. قال أشهب: وسئل مالك عن الذي يؤدي الشعير فـي زكاة الفطر، فقال: لا يؤدي الشعير إلا أن يكون يأكله، قـيل: فـينقـيه؟ قال: لا، بل يؤديه علـى وجهه كما يأكله قـيل له: فإن الناس يقولون: مدان، فقال: القول ما قال رسول الله ، قال: فذكرت له الأحاديث التـي تذكر عن النبـي فـي الـمدين من الـحنطة، فانكرها.

وقال الشافعي: أي قوت كان الأغلب علـى رجل أدى منه زكاة الفطر إن كان حنطة أو ذرة أو سلتًا أو شعيرًا أو تمرًا أو زبـيبًا أدى صاعًا بصاع النبـي ولا يؤدي إلا الـحب، لا يؤدي دقـيقًا ولا سويقًا ولا قـيمة، قال: فإن أدى أهل البادية الأقط لـم يبن لـي أن علـيهم إعادة.

وقال أبو حنـيفة: يؤدي نصف صاع من بر أو دقـيق أو سويق أو زبـيب أو صاع من تمر أو شعير.

وقال أبو يوسف ومـحمد: الزبـيب بمنزلة التمر والشعير، وما سوى ذلك يخرج بالقـيمة: قـيمة ما ذكرنا من البر وغيره.

وقال الأوزاعي: يؤدي كل إنسان مدين من قمـح بمد أهل بلده. وقال اللـيث: مدين من قمـح بمد هشام وأربعة أمداد من التمر والشعير والأقط وقال أبو ثور: الذي يخرج فـي زكاة الفطر صاع من تمر أو شعير أو طعام أو زبـيب أو اقط، إن كان بدويًا، ولا يعطى قـيمة شيء من هذه الأصناف وهو يجدها.

قال أبو عمر : سكت أبو ثور عن ذكر البر. وكان أحمد بن حنبل يستـحب إخراج التمر. والأصل فـي هذا الباب، ومداره علـى وجهين: أحدهما: اعتبار القوت وأنه لا يجوز إلا الصاع من كل شيء منه، لأنه لا يثبت عن النبـي إلا الصاع، وهذا قول مالك والشافعي. والوجه الآخر: اعتبار التمر والشعير وقـيمتهما وعدلهما علـى ما قال الكوفـيون، وفـي أخذ البدل والقـيمة فـي الزكاة، وفـي صدقة الفطر كلام يطول، واعتلال يكثر لـيس هذا موضع ذكره، وبالله التوفـيق.

حديث خامس عشر لزيد بن أسلم مسند صحيح[عدل]

مالك، عن زيد بن أسلم عن ابن وعلة المصري أنه سأل ابن عباس عما يعصر من العنب فقال ابن عباس أهدى رجل لرسول الله راوية خمر فقال له النبي " أما علمت أن الله حرمها قال لا قال فساره إنسان إلى جنبه فقال بم ساررته قال أمرته ببيعها فقال رسول الله إن الذي حرم شربها حرم بيعها قال ففتح المزادتين حتى ذهب ما فيهما".

ابن وعلة هذا اسمه عبد الرحمن بن وعلة السبئي أصله من مصر ثم انتقل إلى المدينة وسكنها وهو في أهل المدينة معدود وكان ثقة من ثقات التابعين مأمونا على ما روى وحمل روى عنه زيد بن أسلم والقعقاع بن حكيم وأبو الخير اليزني وغيرهم.

ذكر إسحاق بن منصور عن ابن معين أنه قال عبد الرحمن بن وعلة ثقة.

وفي هذا الحديث من الفقه أن ما يعصر من العنب يسمى خمرا في لسان العرب لكن الاسم الشرعي لا يقع عليها إلا أن تغلى وترمى بالزبد ويسكر كثيرها أو قليلها وفي اللغة قد يسمى العنب خمرا لكن الحكم يتعلق بالاسم الشرعي دون اللغوي.

وفيه : أن النهي من قبل الله إذا ورد فحكمه التحريم إلا أن يزيحه عن ذلك دليل يبين المراد منه ألا ترى إلى قول رسول الله " أما علمت أن الله حرمها ثم قال إن الذي حرم شربها حرم بيعها" فأطلق عن الله تحريمها.

ولا خلاف بين علماء المسلمين أن تحريمها إنما ورد في سورة المائدة بلفظ النهي في قوله عز وجل : {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى : {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وإلى : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}. وهذه الآية نسخت كل لفظ ورد بإباحتها نصا أو دليلا فنسخت ما جرى من ذكرها في سورة البقرة وسورة النساء وسورة النحل.

وأجمعت الأمة على أن خمر العنب حرام في عينها قليلها وكثيرها فأغنى ذلك عن الإكثار فيها وقد تقدم في كتابنا هذا في باب الألف "من ذلك" ما فيه كفاية، "إن شاء الله تعالى".

وفي هذا الحديث "دليل" أن الخمر لم تكن حراما حتى نزل تحريمها.

وفي سياقة الحديث ما يدل على أن ما سكت الله عن تحريمه فحلال وأن أصل الأشياء على الإباحة حتى يرد المنع ألا ترى أن المهدي لراوية الخمر في هذا الحديث إنما أهداها اعتقادا منه للإباحة.

ولا خلاف بين أهل الإسلام أن الخمر لم ينزل الله في كتابه أنه أمر بشربها ثم نسخ ذلك بتحريمها وفي إجماعهم على ذلك دليل على صحة ما قلنا وإن ما عفا الله عنه وسكت فداخل في باب الإباحة ألا ترى إلى "قول" سعيد بن جبير حيث قال كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا.

وسؤال الصحابة رسول الله عن الخمر في أول الإسلام إنما كان لما كانوا يجدونه من الشر والسفه، عند شربها على ما جاء منصوصا في الآثار في تفسير قوله : {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية.

وفيه أيضا دليل أن كل ما لا يجوز أكله أو شربه من المأكولات والمشروبات لا يجوز بيعه ولا يحل ثمنه لقوله عليه السلام" إن الذي حرم شربها حرم بيعها "ويوضح ذلك أيضا قول رسول الله حيث قال : "لعن الله اليهود ثلاثا حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم ثمنه".

وقد احتج عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمثل هذا حين بلغه أن سمرة باع خمرا فقال قاتل الله سمرة أو ما علم أو ما سمع أن رسول الله قال : "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم "فجملوها" فباعوها وأكلوا أثمانها.

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح وهو بمكة : إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.

وحدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد حدثنا أبو داود حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا ابن وهب قال حدثنا معاوية بن صالح عن عبد الوهاب بن بخت عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال إن الله حرم الخمر وثمنها وحرم الخنزير وثمنه.

وجميع العلماء على تحريم بيع الدم والخمر.

وفي ذلك أيضا دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله ولهذا والله أعلم كره مالك بيع زبل الدواب ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة.

والقياس ما قاله مالك وهو مذهب الشافعي وظاهر هذا الحديث شاهد لصحة ذلك فلم أر وجها لذكر اختلاف الفقهاء في بيع السرجين والزبل ها هنا لأن كل قول تعارضه السنة وتدفعه ولا دليل عليه من مثلها لا وجه له قال الله عز وجل : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.

حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا عبيد بن عبد الواحد قال حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف المدني قال حدثني زيد بن أسلم مولى عمر عن عبد الرحمن بن وعلة رجل من أهل مصر أنه جاء إلى عبد الله بن عباس فقال إن لنا كروما فكيف ترى في بيع الخمر " فقال ابن عباس رأيت رجلا من دوس جاء إلى رسول الله فقال يا رسول الله إني أهديت لك هدية فقال رسول الله وما هي قال راوية خمر فقال رسول الله شعرت أن الله تعالى قد حرم الخمر بعدك فأمر الدوسي بها غلامه يبيعها فلما ولى بها قال رسول الله ماذا أمرت بها قال أمرت ببيعها فقال رسول الله شعرت أن الذي حرم شربها حرم بيعها".

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الإثم مرفوع عمن لم يعلم قال الله عز وجل : {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.

ومن أمكنه التعلم ولم يتعلم أثم والله أعلم.

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن الخمر لا يجوز لأحد تخليلها ولو جاز "لأحد" تخليلها ما كان رسول الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادتين حتى ذهب ما فيهما،لأن الخل مال وقد نهى رسول الله عن إضاعة المال بل كان رسول الله يأمره أن يخللها لقوله نعم الإدام الخل ولأنه أنصح الناس للناس وأدلهم على قليل الخير وكثيره.

وذكر ابن وضاح أن سحنون كان يذهب هذا المذهب.

وقد اختلف الفقهاء في تخليل الخمر فقال مالك فيما روى عنه ابن القاسم وابن وهب لا يحل لمسلم أن يخلل الخمر ولكن يهريقها فإن صارت خلا بغير علاج فهو حلال لا بأس به وهو قول الشافعي وعبيد الله بن الحسن البصري وأحمد بن حنبل وروى أشهب عن مالك قال إذا خلل النصراني خمرا فلا بأس بأكله وكذلك إن خللها مسلم واستغفر الله وهذه الرواية ذكرها ابن عبد الحكم في كتابه وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول فيمن اشترى قلال خل فوجد فيها قلة خمر قال لا يجعل فيها شيء يخللها قال ولا يحل للمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خلا ولا يبيعها ولكن ليهرقها فإن فات علاجها "بعد أن وجدت خمرا" من غير علاج، فإنها حلال لا بأس بها إن شاء الله.

قال ابن وهب : وهو قول عمر بن الخطاب والزهري وربيعة وكان أبو حنيفة والثوري، "والأوزاعي" والليث بن سعيد لا يرون بأسا بتخليل الخمر وقال أبو حنيفة إن طرح فيها السمك والملح فصارت مريا وتحولت عن حال الخمر جاز.

وخالفه محمد بن الحسن في المري وقال لا يعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده.

قال أبو عمر : الصحيح عندي في هذه المسألة ما قاله مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه والدليل على ذلك ما رواه الثوري عن السدي عن أبي هبيرة " عن أنس قال جاء رجل إلى النبي وفي حجره يتيم وكان عنده خمر له حين حرمت فقال يا رسول الله نصنعها خلا قال لا فصبها حتى سال الوادي".

وروى مجالد، عن أبي الوداك " عن أبي سعيد الخدري قال كان عندي خمر لأيتام فلما نزل تحريم الخمر أمرنا رسول الله أن نهريقها".

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن بن يحيى قال حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير بن حرب قال حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي عن أبي هبيرة "عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي عن أيتام ورثوا خمرا قال أهرقها قال أفلا أجعلها خلا قال لا".

قال أبو عمر : أبو هبيرة هذا هو يحيى بن عباد ثقة.

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن السدي عن يحيى بن عباد "عن أنس بن مالك قال سئل رسول الله عن الخمر تتخذ خلا قال : لا".

وأخبرني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثنا أبو أسامة في سنة مائتين بعد قتل أبي السرايا بأشهر قال حدثنا مجالد ابن سعيد عن أبي الوداك " عن أبي سعيد قال كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت الآية التي في سورة المائدة سألنا رسول الله "فقلنا" إنه ليتيم فقال أهريقوها".

وروى معمر عن ثابت وقتادة عن أنس قال لما حرمت الخمر "جاء رجل إلى النبي فقال كان عندي مال يتيم فاشتريت به خمرا فتأذن لي أن أبيعها فأرد على اليتيم ماله فقال النبي قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ولم يأذن لهم النبي في بيع الخمر".

وذكر أبو عبد الله المروزي قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو بكر الحنفي قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر قال حدثني شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم " عن تميم الداري أنه قال أهدى رجل إلى رسول الله راوية من خمر فلما كان العام الذي حرمت جاء براوية خمر فلما نظر إليه ضحك وقال هل شعرت أنها قد حرمت فقال يا رسول الله أفلا أبيعها وانتفع بثمنها فقال رسول الله لعن الله اليهود ثلاث مرات انطلقوا إلى ما حرم الله من شحوم البقر والغنم فأذابوه وجعلوه إهالة فابتاعوا به ما يأكلون وإن الخمر حرام وثمنها حرام".

قال أبو عبد الله : وحدثنا إسحاق قال حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا مطيع الغزال عن الشعبي عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال لا تحل التجارة في شيء لا يحل أكله وشربه.

قال وحدثنا يحيى بن يحيى قال حدثنا هشيم عن مطيع بن عبد الله قال سمعت الشعبي يحدث عن ابن عمر "عن عمر" فذكره.

فهذه الآثار كلها تدل على أن من ورث خمرا من المسلمين وصارت بيده أهرقها ولم يحبسها ولا خللها وذلك دليل على فساد قول من قال : يخللها.

فأما إذا تخللت من ذاتها بغير صنع آدمي فقد روي فيها عن عمر ما تسكن النفس إليه وقال به مالك والشافعي وأكثر فقهاء الحجاز على ما قدمنا ذكره في باب إسحاق والحمد لله واحتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء وهو حديث يروى عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقوي أنه يأكل المري الذي جعل فيه الخمر ويقول دبغته الخل والملح وهذا ومثله لا حجة في شيء منه إذا كان مخالفا لما ثبت عن رسول الله وقد ذكرنا كثيرا من معاني هذا الباب مجودا في باب إسحاق وذلك يغني عن تكريره ها هنا.

وذكر ابن وهب، عن يونس عن ابن شهاب قال لا خير في خل من خمر أفسدت حتى يكون الله الذي أفسدها قال وحديث ابن أبي ذئيب عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد عن أسلم مولى عمر بن الخطاب "عن عمر بن الخطاب"، قال لا تؤكل خمر أفسدت ولا شيء منها حتى يكون الله تولى إفسادها.

وروى الحسن بن أبي الحسن عن عثمان بن أبي العاصي أن تاجرا اشترى خمرا فأمره أن يصبها في دجلة فقالوا ألا تأمره أن يجعلها خلا فنهاه عن ذلك.

فهذا عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاصي يخالفان أبا الدرداء في تخليل الخمر وليس في أحد حجة مع السنة وبالله التوفيق.

وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الأمر عند نزول تحريمها لئلا يستدام حبسها بقرب العهد بشربها إرادة لقطع العادة في ذلك وإذا كان هذا هكذا لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذ والأمر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا تخللت ولم يسأل عن خمر تخللت فنهى عن ذلك والله تعالى الموفق للصواب، "لا شريك له".

حديث سادس عشر لزيد بن أسلم مسند صحيح[عدل]

مالك عن زيد بن أسلم عن ابن وعلة المصري عن ابن عباس أن رسول الله قال إذا دبغ الإهاب فقد طهر.

قد تقدم القول في هذا الإسناد وسماع ابن وعلة من ابن عباس صحيح.

روى هذا الحديث عن زيد بن أسلم جماعة منهم ابن عيينة وهشام بن سعد وسليمان بن بلال.

ورواه عن ابن وعلة جماعة منهم القعقاع بن حكيم وأبو الخير "اليزني" وزيد بن أسلم.

ومعلوم أن المقصود بهذا الحديث ما لم يكن طاهرا من الأهب كجلود الميتات وما لا تعمل فيه الذكاة من السباع عند من حرمها لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ للتطهير ومستحيل أن يقال في الجلد الطاهر أنه إذا دبغ فقد طهر، "وهذا يكاد علمه أن يكون ضرورة وفي قوله أيم ا إهاب دبغ فقد طهر"، نص ودليل فالنص طهارة الإهاب بالدباغ والدليل منه أن كل إهاب لم يدبغ فليس بطاهر وإذا لم يكن طاهرا فهو نجس والنجس رجس محرم فبهذا علمنا أن المقصود بذلك القول جلود الميتة.

وإذا كان ذلك كذلك كان هذا الحديث معارضا لرواية من روى في "هذه الشاة" الميتة : إنما حرم أكلها، "ولرواية من روى في الميتة إنما حرم أكلها"، ولرواية من روى إنما حرم لحمها ومبينا "لمراد الله تعالى في قوله عز وجل : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} كما كان قوله  : "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا" ، بيانا لقول الله عز وجل : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}".

وبطل بنص هذا الحديث قول من قال أن الجلد من الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ.

وبطل بالدليل منه قول من قال إن جلد الميتة وإن لم يدبغ يستمتع به وينتفع وهو قول روي عن ابن شهاب والليث بن سعد وهو مشهور عنهما على أنه قد روي عنهما خلافه : والأشهر عنهما ما ذكرنا.

ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس حديث شاة ميمونة وهو " أن رسول الله مر على شاة لميمونة "ميتة" فقال : ألا استمتعتم بإهابها قالوا : وكيف يا رسول الله وهي ميتة قال : إنما حرم لحمها" قال معمر : وكان الزهري ينكر الدباغ ويقول : ليستمتع به على كل حال.

قال أبو عبد الله المروزي : وما علمت أحدا قال ذلك قبل الزهري.

وروى الليث، عن يونس بن يزيد قال سألت ابن شهاب عن جلد الميتة فقال حدثني عبيد الله بن عبد الله " عن ابن عباس أن رسول الله وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال رسول الله هلا انتفعتم بجلدها قالوا : إنها ميتة قال إنما حرم أكلها".

قال ابن شهاب : لا نرى منها بالسقاء بأسا ولا ببيع جلدها وابتياعه وعمل الفراء منها.

قال أبو عمر : هكذا روى هذا الحديث معمر ويونس ومالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس في قصة شاة ميمونة لم يذكروا الدباغ أيضا والدباغ موجود في حديث ابن عيينة والأوزاعي وعقيل والزبيدي وسليمان بن كثير وزيادة من حفظ مقبولة وذكر الدباغ أيضا موجود في هذه القصة من حديث عطاء عن ابن عباس.

روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء " عن ابن عباس أن رسول الله مر بشاة مطروحة من الصدقة قال أفلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به".

وقال ابن جريج، عن عطاء، " عن ابن عباس قال أخبرتني ميمونة أن شاة ماتت فقال النبي  : ألا دبغتم إهابها فجاء ذكر الدباغ" في هذا الحديث عن ابن عباس من وجوه صحاح ثابتة.

وكان ابن شهاب يذهب إلى ظاهر الحديث في قوله إنما حرم أكلها وكان الليث بن سعد يقول بقول ابن شهاب في ذلك ذكر الطحاوي قال وقال الليث بن سعد لا بأس ببيع جلود الميتة قبل الدباغ إذا يبست لأن رسول الله أذن في الانتفاع بها والبيع من الانتفاع.

قال أبو جعفر الطحاوي : ولم نجد عن واحد من الفقهاء جواز بيع جلود الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث.

قال أبو عمر : يعني من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح على ما تقدم ذكره وهو قول يأباه جمهور العلماء وقد ذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك وذكره ابن خويز منداد في كتابه عن ابن عبد الحكم أيضا قال من اشترى جلد "ميتة"، فدبغه وقطعه نعالا فلا يبعه حتى يبين فهذا يدل على أن مذهبه جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ وبعد الدباغ قال ابن خويز منداد وهو قول الزهري والليث بن سعد قال والظاهر من مذهب مالك غير ما حكاه ابن عبد الحكم وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة ولكن يبيح الانتفاع بها في الأشياء اليابسة ولا يصلى عليه ولا يؤكل فيه هذا هو الظاهر من مذهب مالك.

وفي المدونة لابن القاسم : من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته وحكي أن ذلك قول مالك.

وذكر أبو الفرج أن مالكا قال من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شيء عليه.

قال إسماعيل : إلا أن يكون لمجوسي.

قال أبو عمر : ليس في تقصير من قصر عن ذكر الدباغ في حديث ابن عباس حجة على من ذكره لأن من أثبت شيئا هو حجة على من لم يثبته والآثار المتواترة عن النبي بإباحة الانتفاع بجلد الميتة بشرط الدباغ كثيرة جدا.

منها ما ذكرنا عن ابن عباس من رواية ابن وعلة ومن رواية عطاء.

ومنها " حديث عائشة أن النبي أمر أن يستمتع بجلود الميتة" إذا دبغت رواه مالك عن يزيد بن قسيط عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أمه عن عائشة.

وروى إسرائيل عن الأعمش عن إبراهيم " عن الأسود عن عائشة قالت قال رسول الله دباغ جلود الميتة زكاتها".

ورواه شريك عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الأسود عن عائشة.

ومنها حديث ميمونة من غير حديث ابن عباس روى ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحرث والليث بن سعد عن كثير ابن فرقد إن عبد الله بن مالك بن حذافة حدثه عن أمه العالية بنت سبيع أن ميمونة زوج النبي حدثتها أنه مر برسول الله رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار فقال لهم رسول الله لو اتخذتم إهابها قالوا إنها ميتة فقال رسول الله يطهرها الماء والقرظ.

وحدثنا سعيد بن نصر و عبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر وأحمد بن زهير قال حدثنا الحسين بن محمد المروزي قال حدثنا شريك عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الأسود عن عائشة قالت سئل رسول الله عن جلود الميتة فقال دباغها طهورها.

خالفا شريك إسرائيل في إسناده.

وروى منصور عن الحسن عن جون بن قتادة عن سلمة بن المحبق.

ورواه شعبة وهشام وغيرهما عن قتادة عن الحسن عن جون بن قتادة عن سلمة بن المحبق أن النبي في غزوة تبوك أتى أهل بيت فدعا بماء عند امرأة فقالت ما عندي ماء إلا قربة ميتة فقال أو ليس قد دبغته؟

قالت : بلى، قال فإن ذكاته دباغه هذا لفظ حديث هشام.

وفي حديث شعبة : دباغه طهوره.

وفي رواية منصور عن الحسن قال ذكاة الأديم دباغه.

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون عن مسعر عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن ابن عباس عن النبي في "جلد الميتة" : أن دباغه اذهب خبثه ورجسه أو نجسه.

والآثار بهذا أيضا عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة جدا فلا وجه لمن قصر عن ذكر الدباغ ولا لمن ذهب إلى ذلك ويقال لمن قال بما روي عن ابن شهاب من إباحة الانتفاع بجلود الميتة قبل الدباغ أتقول إن جلد الشاة لا يموت بموت الشاة وإنه كاللبن أو الصوف فإن قال نعم بان جهله ولزمه مثل ذلك في اللحم والشحم ومعلوم أن الجلد فيه دسم وودك وأكله لمن شاء ممكن كإمكان اللحم والشحم ولا فرق بين الجلد واللحم في قياس ولا نظر ولا معقول لأن الدم جار في الجلد كما هو "جار" في اللحم وإن قال إن الجلد يموت بموت الشاة كما يموت اللحم قيل له فالله عز وجل قد حرم الميتة وتحريمه على الإطلاق إلا أن يخص شيئا من ذلك دليل وقد خص الجلد بعد الدباغ والأصل في الميتة عموم التحريم ولم يخص إهابها بشيء يصح ويثبت إلا بعد الدباغ ألا ترى إلى قوله ذكاة الأديم طهور وقوله عليه السلام دباغه أذهب خبثه ونجسه وفي هذا دليل على أنه قبل الدباغ رجس نجس غير طاهر وما كان كذلك لم يجز بيعه ولا شراؤه والأمر في هذا واضح وعليه فقهاء الحجاز والعراق والشام ولا أعلم فيه خلافا إلا ما قد بينا ذكره عن ابن شهاب والليث ورواية شاذة عن مالك.

وفي هذه المسألة قول ثالث قالت به طائفة من أهل الآثار وذهب إليه أحمد بن حنبل وهو في الشذوذ قريب من القول الأول وذلك أنهم ذهبوا إلى تحريم الجلد وتحريم الانتفاع به قبل الدباغ وبعده.

واحتجوا من الأثر بما حدثناه أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال قرئ علينا كتاب رسول الله بأرض جهينة وأنا غلام شاب أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب.

وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال وحدثنا محمد بن إسماعيل مولى بني هاشم قال حدثنا الثقفي عن خالد عن الحكم بن عتيبة أنه انطلق هو وناس معه إلى عبد الله بن عكيم رجل من جهينة قال الحكم فدخلوا وقعدت على الباب فخرجوا إلي فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم أن رسول الله كتب إلى جهينة قبل موته بشهر : "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب".

قال أبو عمر : هكذا قال خالد الحذاء عن الحكم قال انطلقت مع الأشياخ حتى أتينا عبد الله بن عكيم وهذا لفظ حديث معتمر بن سليمان عن خالد والمعنى واحد.

وقال شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى على ما تقدم وكذلك رواه منصور بن المعتمر عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم.

ورواه القاسم بن مخيمرة عن عبد الله بن عكيم قال حدثنا مشيخة لنا أن النبي كتب إليهم أن لا ينتفعوا من الميتة بشيء وهذا اضطراب كما ترى يوجب التوقف عن العمل بمثل هذا الخبر.

وقال داود بن علي سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث فضعفه وقال ليس بشيء إنما يقول حدثني الأشياخ.

قال أبو عمر : ولو كان ثابتا لاحتمل أن يكون مخالفا للأحاديث التي ذكرنا من رواية ابن عباس وعائشة وسلمة بن المحبق وغيرهم عن

"النبي أنه أباح الانتفاع بجلود الميتة إذا دبغت وقال دباغها طهورها" لأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم أن لا ينتفعوا من الميتة بإهاب قبل الدباغ وإذا احتمل أن لا يكون مخالفا له فليس لنا أن نجعله مخالفا وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن استعمالهما وممكن استعمالهما بأن نجعل خبر ابن عكيم في النهي عن جلود الميتة قبل الدباغ.

ونستعمل خبر ابن عباس وغيره في الانتفاع بها بعد الدباغ فكان قوله لا تنتفعوا من الميتة بإهاب قبل الدباغ ثم جاءت رخصة الدباغ.

وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت رسول الله بشهر كما جاء في الخبر فممكن أن تكون قصة ميمونة "وسماع ابن عباس منه قوله أيما إهاب دبغ فقد طهر" قبل موت رسول الله بجمعة أو دون جمعة والله أعلم.

وروي من حديث ابن عمر عن النبي مثل حديث ابن عكيم وإسناده ليس بالقوي وقال بعض من ذهب مذهب ابن حنبل في هذا الباب قد روي عن عمر وابن عمر وعائشة كراهية لباس الفراء من غير الذكي قال وذلك دليل على أن الدباغ لا يطهر الجلد ولا يذهب بنجاسته وذكر ما رواه إسحاق بن راهويه قال حدثنا ابن أبي عدي عن الأشعث عن محمد قال كان ممن يكره الصلاة في الجلد إذا لم يكن ذكيا عمر وابن عمر وعائشة وعمران بن حصين وأسير بن جابر.

وروى الحكم، وغيره عن زيد بن وهب قال أتانا كتاب عمر بن الخطاب ونحن بأذربيجان أن لا تلبسوا إلا ذكيا قال وكانت عائشة تكره الصلاة في جلود الميتة وتكره لباس الفراء منها قال لها محمد بن الأشعث ألا نهدي لك من الفراء التي عندنا فقالت : أخشى أن تكون ميتة فقال ألا نذبح لك من غنمنا قالت بلى واحتج بأن الله عز وجل حرم الميتة تحريما عاما لم يخص منها شيئا بعد شيء فكان ذلك واقعا على الجلد واللحم جميعا واحتج أيضا بقول الله عز وجل لموسى عليه السلام : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} وبقول كعب وغيره كانت نعلا موسى من جلد حمار ميت هذا كله ما احتج به بعض من ذهب مذهب أحمد بن حنبل في هذا الباب وقال إن حديث ابن عباس مختلف فيه لأن قوما يقولون عن ابن عباس عن ميمونة وقوما يقولون عن ابن عباس عن سودة.

وقوما يقولون : عن ابن عباس، عن سودة.

ومرة جعلوها لميمونة.

ومرة يجعلون الشاة لسودة.

ومرة جعلوها لمولاة ميمونة.

ومرة قالوا : عن ابن عباس سمعت رسول الله .

قال أبو عمر : هذا كله ليس باختلاف يضر لأن الغرض صحيح والمقصد واضح ثابت وهو أن الدباغ يطهر إهاب الميتة وسواء كانت الشاة لميمونة "أو لسودة" أو لمن شاء الله.

وممكن أن يكون ذلك كله، "أو بعضه".

وممكن أن يسمع ابن عباس بعد ذلك من رسول الله ما حكاه عنه ابن وعلة قوله أيما إهاب دبغ فقد طهر وذلك ثابت عنه وإذا ثبت ذلك فقد ثبت تخصيص الجلد بشرط الدباغ من جملة تحريم الميتة والسنة هي المبينة عن الله مراده من مجملات خطابه.

وأما ما روي عن عمر وابن عمر وعائشة في كراهية لباس ما لم يكن ذكيا من الفراء فيحمل ذلك عندنا على التنزه والاختيار والاستحباب لأنهم قد روي عنهم خلاف ما تقدم وتهذيب الآثار عنهم أن تحمل على ما ذكرنا.

وروى شعبة عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي يحيى الهذلي عن أبي وائل، عن عمر، قال : دباغ الأديم ذكاته.

وروى هشام وهمام عن قتادة عن حسان بن بلال عن ابن عمر قال دباغ الأديم ذكاته.

وروى جرير، عن منصور عن إبراهيم، "عن الأسود، عن عائشة أنه سألها عن الفراء فقالت لعل دباغه طهوره وهذا أشبه عن عائشة وأولى لأن الأعمش يروي عن إبراهيم" وعمارة بن عمير جميعا عن الأسود عن عائشة عن النبي دباغ الأديم ذكاته وأكثر أحوال الرواية عن عمر وابن عمر وعائشة أن تحمل على الاختلاف فيسقطها والحجة فيما ثبت عن النبي دون غيره.

وأما ما ذكروه من نعلي موسى فلا حجة فيه لأنهما لم يكونا من جلد مدبوغ "وإنما كانت الحجة تلزم لو أنهما كانتا من جلد ميتة مدبوغ" هذا على أن في شريعتنا ومنهاجنا الذي أمرنا باتباعه قوله أيما إهاب دبغ فقد طهر.

ذكر الأثرم، قال سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل يقدم وعليه جلود الثعالب أو غيرها من جلود الميتة المدبوغة فقال إن كان لبسه وهو يتنأول أيما إهاب دبغ فقد طهر فلا بأس أن يصلي خلفه قيل له فتراه أنت جائزا قال لا نحن لا نراه جائزا لقول النبي لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ولكنه إذا كان يتأول فلا بأس أن يصلي خلفه فقيل له كيف وهو مخطئ في تأويله فقال وإن كان مخطئا في تأويله ليس من تأول كمن لا يتأول ثم قال كل من تأول شيئا جاء عن النبي وعن أصحابه أو عن أحدهم فيذهب إليه فلا بأس أن يصلي خلفه وإن قلنا نحن خلافه من وجه آخر لأنه قد تأول قيل له فإن من الناس من يقول ليس جلد الثعالب بإهاب فنفض يده وقال ما أدري أي شيء هذا القول ثم قال أبو عبد الله من تأول فلا بأس أن يصلي خلفه يعني إذا كان تأويله له وجه في السنة.

قال أبو عمر : ما أنكره أحمد من قول القائل إن جلود الثعالب لا يقال للجلد منها إهاب هو قول يحكى عن النضر بن شميل أنه قال إنما الإهاب جلد ما يؤكل لحمه من الأنعام وأما ما لا يؤكل لحمه فإنما هو جلد ومسك.

وقد أنكرت طائفة من أهل العلم قول النضر بن شميل هذا وزعمت أن العرب تسمي كل جلد إهابا واحتجت بقول عنترة :

فشككت بالرمح الطويل إهابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم

واختلف الفقهاء "أيضا" بعد ما ذكرنا في حكم طهارة الجلد المذكور بعد الدباغ هل هي طهارة كاملة في كل شيء كالمذكى أو هي طهارة ضرورة تبيح الانتفاع به في شيء دون شيء فذكر أبو عبد الله محمد بن نصر قال وإلى جواز الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ في كل شيء من البيع وغيره وكراهية الانتفاع بها قبل الدباغ ذهب أكثر أهل العلم من التابعين وهو قول يحيى بن سعيد الأنصاري وعامة علماء الحجاز وقال حدثنا إسحاق قال حدثنا عبد الله بن وهب عن حيوة بن شريح عن خالد بن أبي عمران أنه قال سألت القاسم وسالما عن جلود الميتة إذا دبغت أيحل ما يجعل فيها قالا نعم ويحل ثمنها إذا بينت مما كانت.

قال : وحدثنا إبراهيم بن الحسن العلاف قال حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال لا يختلف عندنا بالمدينة أن دباغ جلود الميتة طهورها قال وقد روي عن الزهري مثل ذلك.

حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا الوليد بن الوليد بن زيد العبسي مولى لهم دمشقي قال سألت الأوزاعي عن جلود الميتة فقال حدثني الزهري أن دباغها طهورها.

قال أبو عبد الله : وكذلك قال الأوزاعي والليث بن سعد وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة وكذلك قال الشافعي وأصحابه وابن المبارك وإسحاق بن إبراهيم وهو قول مالك بن أنس إلا أن مالكا من بين هؤلاء كان يرخص في الانتفاع بها بعد الدباغ ولا يرى الصلاة فيها ويكره بيعها وشراءها.

قال أبو عبد الله : وسائر من ذكرنا جعلها طاهرة بعد الدباغ وأطلق الانتفاع بها في كل شيء وهو القول الذي نختاره ونذهب إليه.

قال أبو عمر : قوله أطلق الانتفاع بها في كل شيء يعني الوضوء فيها والصلاة فيها وبيعها وشراءها وسائر وجوه الانتفاع بها وبثمنها "كالجلود" المذكاة سواء. "وعلى هذا أكثر أهل العلم بالحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث وممن قال بهذا الثوري والأوزاعي و عبد الله بن الحسن العنبري والحسن بن حي وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وهو قول داود بن علي والطبري وإليه ذهب ابن وهب صاحب مالك كل هؤلاء يقولون دباغ الإهاب طهوره للصلاة والوضوء والبيع وكل شيء".

وذكر ابن وهب في موطئه عن ابن لهيعة وحيوة بن شريح جميعا عن خالد بن أبي عمران قال سألت القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله عن جلود الميتة إذا دبغت آكل ما جعل فيها قالا نعم ويحل ثمنها إذا بينت مما كانت.

قال ابن وهب : وأخبرنا محمد ابن عمرو عن ابن جريج قال قلت لعطاء الفرو من جلود الميتة يصلي فيها قال نعم وما بأسه وقد دبغ.

قال ابن وهب : وسمعت الليث بن سعد يقول لا بأس بالصلاة في جلود الميتة إذا دبغت "ولا بأس بالنعال من الميتة إذا دبغت" ولا بأس بالاستقاء بها والشرب منها والوضوء فيها.

قال أبو عمر : فهذه الرواية عن الليث بذكر شرط الدباغ أولى مما تقدم عنه.

قال ابن وهب وقال يحيى بن سعيد لقد بلغني أن بعض الناس يرى بيعها وإن لم تدبغ لأن النبي أمر أن ينتفع بها.

قال أبو عمر : هذا القول مأخوذ والله أعلم عن ابن شهاب وقد مضى القول فيه بما فيه كفاية والحمد لله.

ومن حجة من ذهب إلى أن الطهارة بالدباغ في جلود الميتة طهارة كاملة في الأشياء الرطبة واليابسة وأجاز الشرب منها والاستقاء بها، "والصلاة" عليها، وسائر ما يجوز في الجلود المذكاة ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا ابن أبي مريم قال حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا جعفر بن ربيعة أن أبا الخير حدثه قال حدثني ابن وعلة السبئي قال سألت عبد الله بن عباس فقلت إنا نكون بالمغرب فيأتينا المجوس بالأسقية فيها الماء والودك فقال اشرب فقلت رأي تراه فقال ابن عباس سمعت رسول الله يقول دباغها طهورها.

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا محمد بن الجهم قال حدثنا يعلى بن عبيد عن محمد بن إسحاق عن القعقاع بن حكيم عن عبد الرحمن بن وعلة قال سألت ابن عباس عن جلود الميتة فقال قال رسول الله دباغها طهورها.

حدثنا عبد الوارث، قال : حدثنا قاسم قال حدثنا مطلب بن شعيب قال حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث قال حدثني هشام حدثني زيد بن أسلم، عن ابن وعلة السبئي قال : سألت عبد الله بن عباس عن أسقية نجدها بالمغرب في مغازينا فيها السمن والزيت لعلها تكون ميتة أفنأكل منها قال لا أدري ولكن سمعت رسول الله يقول أيما إهاب دبغ فقد طهر.

فهذه الآثار كلها عن ابن عباس تدل على أنه فهم من الخبر معنى عموم الانتفاع به وحمل الحديث على ظاهره وعمومه وإنما سئل عن الشرب فيها ونحو ذلك فأطلق الطهارة عليها إطلاقا غير مقيد بشيء ولم تختلف فتوى ابن عباس وغيره أن دباغ الأديم طهوره.

وكذلك لم يختلف قول ابن مسعود وأصحابه في ذلك.

وكان مالك وأصحابه حاشا ابن وهب يرون أن ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت في الجلوس عليها والعمل والامتهان في الأشياء اليابسة كالغربلة وشبهها ولا تباع ولا يتوضأ فيها ولا يصلى عليها لأن طهارتها ليست بطهارة كاملة ومن حجتهم إن الله عز وجل حرم الميتة فثبت تحريمها بالكتاب وأباح رسول الله الاستمتاع بجلدها والانتفاع به بعد الدباغ.

وروى مالك عن يزيد بن قسيط عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أمه "عن عائشة أن رسول الله أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت وفهمت عائشة المراد من ذلك فكانت تكره لباس الفراء من الجلود التي ليست مذكاة".

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة قال حدثنا مطرف قال حدثنا مالك عن نافع عن القاسم بن محمد أنه قال لعائشة ألا نجعل لك فروا تلبسينه قالت إني لأكره جلود الميتة قال إنا لا نجعله إلا ذكيا فجعلناه فكانت تلبسه.

وروى مجاهد ونافع عن ابن عمر أنه كان لا يلبس إلا ذكيا وقد تقدم عن عمر وغيره من الصحابة مثل ذلك.

وفي نعلي موسى عليه السلام ما يحتج به ها هنا.

فهذا "ما" في طهارة جلود الميتة عند العلماء قديما وحديثا والحمد لله.

وأما قوله "أيما إهاب دبغ" فإنه يقتضي عمومه جميع الأهب وهي الجلود كلها لأن اللفظ جاء في ذلك مجيء عموم لم يخص شيئا منها وهذا أيضا موضع اختلاف وتنازع بين العلماء.

فأما مالك وأكثر أصحابه فالمشهور من مذهبهم أن جلد الخنزير لا يدخل "في عموم" قوله "أيما إهاب دبغ فقد طهر" لأنه محرم العين حيا وميتا، جلده مثل لحمه، لا يعمل فيه الدباغ كما لا تعمل في لحمه الذكاة ولهم في هذا الأصل اضطراب :

حدثني أحمد بن سعيد بن بشر حدثنا ابن أبي دليم حدثنا ابن وضاح قال حدثنا الصمادحي عن معن بن عيسى قال سمعت مالكا وسئل عن جلد الخنزير إذا دبغ قال لا ينتفع به.

حدثني عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال سمعنا أبا عمرو بن أبي زيد يقول سمعت ابن وضاح يقول حدثنا موسى بن معاوية عن معن بن عيسى عن مالك أنه قال لا ينتفع بجلد الخنزير وإن دبغ قال وقال لي سحنون لا بأس به.

وأخبرنا سعيد بن سيد قال أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا موسى بن معاوية عن معن بن عيسى عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ فكرهه.

قال ابن وضاح : وسمعت سحنون يقول لا بأس به.

قال أبو عمر : قول سحنون هذا هو قول محمد بن عبد الحكم وقول داود بن علي وأصحابه وحجتهم ما حدثناه أحمد بن فتح قال حدثنا حمزة بن محمد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف قال حدثنا زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة أنه قال لابن عباس إنا قوم نغزو أرض المغرب وإنما استقيتنا جلود الميتة فقال ابن عباس سمعت رسول الله يقول "أيما مسك دبغ فقد طهر". "حملوه على العموم في كل جلد".

قال أبو عمر : يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها.

وأما جلد الخنزير فلم يدخل في هذا المعنى لأنه لم يدخل في السؤال لأنه غير معهود الانتفاع بجلده إذ لا تعمل الذكاة فيه وإنما دخل في هذا العموم والله أعلم من الجلود ما لو ذكي لاستغنى عن الدباغ.

"و" يحتمل أن يكون جلد الخنزير غير داخل في عموم هذا الخبر لأنه إنما حرم على عموم المسوك كالتي إذا ذكيت استغنت عن الدباغ وأما جلد الخنزير فالذكاة فيه والميتة سواء لأنه لا تعمل فيه الذكاة.

وذكر ابن القاسم عن مالك أنه خفف ذلك في جلود السباع وكره جلود الحمير المذكاة.

ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل إن الإهاب جلد البقر والغنم والإبل.

وما عداها فإنما يقال له جلد لا إهاب.

قال ابن القاسم : أما جلد السبع والكلب إذا ذكي فلا بأس ببيعه والشرب فيه والصلاة به.

قال أبو عمر : الذكاة عند مالك وابن القاسم عاملة في السباع لجلودها وغير عاملة في الحمير والبغال لجلودها والنهي عند جمهور أهل العلم في أكل كل ذي ناب من السباع أقوى من النهي عن أكل لحوم الحمر لأن قوما قالوا : إن النهي عن الحمر إنما كان لقلة الظهر.

وقال آخرون : إنما نهى منها عن الجلالة ولم يعتل بمثل هذه العلل في السباع.

وقال عبد الملك بن حبيب لا يحل بيع جلود السباع ولا الصلاة فيها وإن دبغت إذا لم تذك قال ولو ذكيت لجلودها لحل بيعها والصلاة فيها.

قال أبو عمر : جعل التذكية في السباع لجلودها أكمل طهارة من دباغها وهذا على ما ذكرنا من أصولهم في أن الذكاة عاملة في السباع لجلودها وأن طهارة الدباغ ليست عندهم طهارة كاملة ولكنها مبيحة للانتفاع فيما ذكروه "على ما تقدم ذكره" في هذا الباب وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأصحابه.

وأما أشهب فقال جلد الميتة "إذا دبغ" لا أكره الصلاة فيه ولا الوضوء منه وأكره بيعه ورهنه فإن بيع، أو رهن لم أفسخه قال وكذلك جلود السباع إذا ذكيت ودبغت وهي عندي أخف لموضع الذكاة مع الدباغ فإن لم تذك جلود السباع فهي كسائر جلود الميتة إذا دبغت.

قال : أشهب : وأما جلود السباع إذا ذكيت ولم تدبغ فلا يجوز بيعها ولا ارتهانها ولا الانتفاع بشيء منها في حال ويفسخ البيع فيها والرهن ويؤدب فاعل ذلك إلا أن يعذر بجهالة لأن "النبي حرم كل ذي ناب "من السباع" فليست الذكاة فيها ذكاة كما أنها ليست في الخنزير ذكاة.

قال أبو عمر : قول أشهب هذا، هو قول أكثر الفقهاء وأهل الحديث.

وقال الشافعي : جلود الميتة كلها تطهر بالدباغ وكذلك جلد ما لا يؤكل لحمه إذا دبغ إلا الكلب والخنزير فإن الذكاة والدباغ لا يعملان في جلودهما شيئا.

قال أبو عمر : ولا تعمل الذكاة عند الشافعي في جلد ما لا يؤكل لحمه وقد تقدم في باب إسماعيل بن أبي حكيم اختلاف العلماء فيما يؤكل لحمه وما لا يؤكل من السباع.

وحكى عن أبي حنيفة أن الذكاة عنده عاملة في السباع والحمر لجلودها ولا تعمل الذكاة عنده في جلد الخنزير شيئا ولا عند أحد من أصحابه.

وكره الثوري جلود الثعالب والهر وسائر السباع ولم ير بأسا بجلود الحمير.

قال أبو عمر : هذا في الذكاة دون الدباغ وأما الدباغ فهو عنده مطهر لجلود الثعالب، وغيرها.

وقالت طائفة من أهل العلم لا يجوز الانتفاع بجلود السباع لا قبل الدباغ ولا بعده مذبوحة كانت أو ميتة وممن قال هذا القول الأوزاعي وابن المبارك وإسحاق وأبو ثور ويزيد بن هارون واحتجوا بأن رسول الله إنما أباح الانتفاع بجلد الميتة المدبوغ إذا كان مما يؤكل "لحمه" لأن الخطاب الوارد في ذلك إنما خرج على شاة ماتت لبعض أزواج النبي فدخل في ذلك كل ما يؤكل لحمه وما لم يؤكل لحمه فداخل في عموم تحريم الميتة واستدلوا بقول أكثر العلماء في المنع من جلد الميتة بعد الدباغ لأن الذكاة غير عاملة فيه قالوا فكذلك السباع لا تعمل فيها الذكاة لنهي رسول الله عن أكلها ولا يعمل فيها الدباغ لأنها ميتة لم يصح خصوص شيء منها وزعموا أن قول من أجاز الانتفاع بجلد الخنزير بعد الدباغ شذوذ لا يعرج عليه.

وحكى إسحاق بن منصور الكوسج عن النضر بن شميل أنه قال في قول النبي أيما إهاب دبغ فقد طهر إنما يقال الإهاب لجلود الإبل والبقر والغنم.

وأما السباع فجلود : قال الكوسج : وقال لي إسحاق بن راهويه هو كما قال النضر بن شميل وحجة الآخرين قوله إيما إهاب دبغ فقد فعم الأهب فعم الأهب كلها فكل إهاب داخل تحت هذا الخطاب إلا أن يصح إجماع في شيء من ذلك فيخرج من الجملة وبالله التوفيق.

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ويحيى بن عبد الرحمن حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن أحمد الزراد قال حدثنا ابن وضاح قال سألت سحنونا عن لبس الفراء من القلنيات وقلت له إنه بلغني فيها عنك شيء وقلت إنهم ليس يغسلونها إنما يذبحونها فيدبغونها بذلك الدم قال وما ذلك الدم قال أليس يسيرا قلت بلى قال أو ليس يذهب مع الدباغ قلت بلى قال لا بأس به إذا دبغ الإهاب فقد طهر.

واختلف الفقهاء في الدباغ الذي يطهر به جلود الميتة ما هو فقال أصحاب مالك وهو المشهور من مذهبه كل شيء دبغ به الجلد من ملح أو قرظ أو شب أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به.

وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه إن كل شيء دبغ به جلد الميتة فأزال شعره ورائحته وذهب بدسمه ونشفه فقد طهره وهو بذلك الدباغ طاهر وهو قول داود.

وذكر ابن وهب قال : قال يحيى بن سعيد ما دبغت به الجلود من دقيق أو قرظ أو ملح فهو لها طهور.

وللشافعي في هذه المسألة قولان : أحدهما هذا والآخر أنه لا يطهره إلا الشب أو القرظ لأنه الدباغ المعهود على عهد رسول الله الذي خرج عليه الخطاب "والله الموفق".

حديث سابع عشر لزيد بن أسلم مسند صحيح[عدل]

مالك، عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبي سعيد إن رسول الله قال " إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه، وليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان".

قيل : إن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري يكنى أبا جعفر توفي سنة اثنتي عشرة ومائة وهو ابن سبع وسبعين "سنة".

وقد ذكرنا أباه في كتاب الصحابة بما يغني عن ذكره ها هنا وعبد الرحمن من ثقات التابعين بالمدينة.

هكذا روى هذا الحديث جماعة رواة الموطأ فيما علمت وليس عندهم في هذا "الحديث" عن مالك غير هذا الإسناد إلا ابن وهب فإن عنده في ذلك عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال " إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه".

هذا آخر هذا الحديث عنده ولم يروه أحد بهذا الإسناد عن مالك إلا ابن وهب.

وعند ابن وهب أيضا عن مالك عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه هذا الحديث المذكور في هذا الباب على حسبما ذكرناه.

وحديث عبد الرحمن بن أبي سعيد أشهر.

وحديث عطاء بن يسار معروف أيضا

حدثني سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحق القاضي قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنه كان يصلي وبين يديه ابن لمروان بن الحكم فضربه فقال مروان ضربت ابن أخيك قال ما ضربت إلا شيطانا سمعت رسول الله يقول إن أبى فرده فإن أبى فقاتله فإنما هو شيطان.

قال أبو عمر : في هذا الحديث كراهية المرور بين يدي المصلي إذا كان وحده وصلى إلى غير سترة وكذلك حكم الإمام إذا صلى إلى غير سترة.

وأما المأموم من مر بين يديه كما أن الإمام والمنفرد لا يضر أحدا منهما ما مر من وراء سترة الإمام وسترة الإمام سترة لمن خلفه وإنما قلنا إن هذا في الإمام وفي المنفرد لقوله إذا كان أحدكم يصلي ومعناه عند أهل العلم يصلي وحده بدليل حديث ابن عباس وبذلك قلنا إن المأموم ليس عليه أن يدفع من يمر بين يديه لأن ابن عباس قال أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله يصلي بالناس بمنى فمررت بين يدي بعض الصف "فنزلت" وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد.

هكذا رواه مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس ألا ترى أنه مر بين يدي بعض الصف فلم يدرأه أحد ولم يدفعه ولا أنكر عليه فإذا كان الإمام أو المنفرد يصليان إلى سترة فليس عليه أن يدفع من يمر من وراء سترته وهذه الجملة كلها على ما ذكرت لك لا أعلم بين أهل العلم فيه اختلافا والآثار الثابتة دالة عليها.

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن العمل في الصلاة جائز والذي يجوز منه عند العلماء القليل نحو قتل البرغوث وحك الجرب وقتل العقرب بما خف من الضرب ما لم تكن المتابعة والطول والمشي إلى القوم إذا كان ذلك قريبا ودرء المار بين يدي المصلي وهذا كله ما لم يكثر فإن كثر أفسد وما علمت أحدا من العلماء خالف هذه الجملة ولا علمت أحدا منهم جعل بين القليل من العمل الجائز في الصلاة وبين الكثير المفسد لها حدا لا يتجاوز إلا ما تعارفه الناس.

والآثار المرفوعة في هذا الباب والموقوفة كثيرة "وقد ذكرنا من فتل الدم وقتل القمل في الصلاة في باب هشام بن عروة ما فيه كفاية".

ومن العمل في الصلاة شيء لا يجوز منه فيها القليل ولا الكثير وهو الأكل والشرب والكلام عمدا في غير شأن الصلاة، وكذلك كل ما باينها وخالفها من اللهو والمعاصي وما لم ترد فيه إباحة قليل ذلك كله وكثيره غير جائز شيء منه في الصلاة.

وقوله في الحديث فإن أبى فليقاتله فالمقاتلة هنا المدافعة وأظنه كلاما خرج على التغليظ ولكل شيء حد وأجمعوا أنه لا يقاتله بسيف ولا يخاطبه ولا يبلغ منه مبلغا تفسد به صلاته فيكون فعله ذلك أضر عليه من مرور المار بين يديه وما أظن أحدا بلغ بنفسه إذا جهل أو نسي فمر بين يدي المصلي إلى أكثر من الدفع وفي إجماعهم على ما ذكرنا ما يبين لك المراد من الحديث.

وقد بلغني أن عمر بن عبد العزيز في أكثر ظني ضمن رجلا دفع آخر من بين يديه وهو يصلي فكسر أنفه دية ما جنى على أنفه وفي ذلك دليل على أنه لم يكن له أن يبلغ ذلك به ولأن ما تولد عن المباح فهو معفو عنه.

وقد كان الثوري يدفع المار بين يديه إذا صلى دفعا عنيفا.

وذكر عنه أبو داود أنه قال : يمر الرجل يتبختر بين يدي وأنا أصلي فأدفعه ويمر الضعيف فلا أمنعه وهذا كله يدلك على أن الأمر ليس على ظاهره في هذا الباب.

وذكر ابن القاسم عن مالك قال إذا جاز المار بين يدي المصلي فلا يرده قال وكذلك لا يرده وهو ساجد.

وقال أشهب إذا مر قدامه فليرده بإشارة ولا يمشي إليه لأن مشيه إليه أشد من مروره بين يديه فإن مشى إليه ورده لم تفسد بذلك صلاته.

قال أبو عمر : "إن كان مشيا كثيرا فسدت صلاته والله أعلم" وإنما ينبغي له أن يمنعه ويدرأه منعا لا يشتغل به عن صلاته فإن أبى عليه فليدعه يبوء بإثمه لأن الأصل في مروره أنه لا يقطع على المصلي صلاته :

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال أخبرنا أبو أسامة عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله " لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم وإذا لم يقطع الصلاة شيء فإنما هو تغليط على المار" ولذلك جاء فيه ما جاء والله أعلم.

وسنذكر اختلاف الناس فيما يقطع الصلاة وما لا يقطعها في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله.

والصحيح عندنا أن الصلاة لا يقطعها شيء مما يمر بين يدي المصلي بوجه من الوجوه ولو كان خنزيرا وإنما يقطعها ما يفسدها من الحدث وغيره "مما جاءت به الشريعة".

وأما الحديث بأن الإمام سترة لمن خلفه فحدثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان الأعناقي قال حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال جئت أنا والفضل على أتان ورسول الله يصلي بعرفة فمررنا ببعض الصف فنزلنا عنها وتركناها ترتع ودخلنا معه في الصف فلم يقل لنا النبي شيئا فهذا دليل على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه وأوضح من هذا حديث حدثناه خلف بن القاسم قال حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن قال حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي قال حدثنا سعيد بن محمد بن تراب الحضرمي، قال حدثنا خلاد بن يزيد الأرقط قال حدثنا هشام بن الغازي عن نافع عن ابن عمر قال صلى بنا رسول الله الظهر أو العصر فجاءت بهمة لتمر بين يديه فجعل يدرؤها حتى رأيته ألصق منكبه بالجدار فمرت خلفه ألا ترى أنه كره أن تمر بين يديه ولم يكره أن تمر خلفه.

وهذا الحديث خولف فيه خلاد هنا فروي عن هشام بن الغزي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي وبهذا الإسناد ذكره أبو داود.

وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد، وحدثنا سعيد بن نصر، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قالا جميعا حدثنا عيسى بن يونس عن هشام بن الغازي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال أقبلنا مع رسول الله من ثنية أذاخر فحضرته الصلاة إلى جدار فاتخذه قبلة ونحن خلفه فجاءت بهمة لتمر بين يديه فما زال يدرؤها حتى ألصق بطنه بالجدار ومرت من ورائه. وكان رسول الله يصلي إلى سترة في السفر والحضر إن لم يكن جدار نصب أمامه شيئا وكان يأمر بذلك .

والسترة في الصلاة سنة مسنونة معمول بها.

روى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر، قال : فمن ثم اتخذها الأمراء ذكره البخاري وجميعهم.

وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه أنه شهد النبي بالبطحاء الظهر والعصر ركعتين ركعتين وبين يديه عنزة تمر من ورائها المرأة والحمار وصلى الظهر رسول الله إلى شجرة من حديث شعبة أيضا عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي.

وأخبرني عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير العبدي قال حدثنا إسرائيل عن سماك عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة بن عبيد الله قال قال رسول الله  : إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل فلا يضرك من مر من بين يديك.

وحدثني محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا العباس بن محمد الدوري قال حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ قال حدثنا حيوة بن شريح عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت سئل رسول الله في غزوة تبوك عن سترة المصلي فقال مثل مؤخرة الرحل.

وأمر رسول الله بالدنو من السترة، رواه سهل بن أبي حثمة قال قال رسول الله إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته وهو حديث مختلف في إسناده ولكنه حديث حسن ذكره النسائي وأبو داود وغيرهما.

ومقدار الدنو من السترة موجود في حديث مالك عن نافع عن ابن عمر عن بلال أن رسول الله إذ صلى بالكعبة جعل عمودا عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة وجعل بينه وبين الجدار نحوا من ثلاثة أذرع هكذا رواه ابن القاسم وجماعة عن مالك وقد ذكرنا ذلك في باب نافع واليه ذهب الشافعي وأحمد وهو قول عطاء.

قال عطاء : أقل ما يكفيك ثلاثة أذرع والشافعي وأحمد يستحبان ثلاثة أذرع ولا يوجبان ذلك.

ولم يحد فيه "أيضا" مالك حدا.

وكان عبد الله بن المغفل يجعل بينه وبين السترة ستة أذرع وقال عكرمة إذا كان بينك وبين الذي يقطع الصلاة قذفة حجر لم يقطع الصلاة.

وروى سهل بن سعد الساعدي قال كان بين مقام النبي وبين القبلة ممر عنز :

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي والنفيلي قالا جميعا حثدنا عبد العزيز بن أبي حازم قال حدثني أبي عن سهل بن سعد قال كان بين مقام النبي وبين القبلة ممر عنز.

قال أبو عمر : حديث مالك عن نافع عن ابن عمر عن بلال أن رسول الله جعل بينه وبين الجدار في الكعبة ثلاثة أذرع أصح من حديث سهل بن سعد من جهة الإسناد وكلاهما حسن.

وأما استقبال السترة والصمد لها فلا تحديد في ذلك عند العلماء وحسب المصلي أن تكون سترته قبالة وجهه.

وقد روينا عن المقداد بن الأسود قال ما رأيت رسول الله صلى إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا خرجه أبو داود.

فهذا ما جاء من الآثار التي اجتمع العلماء عليها ولا أعلمهم اختلفوا في العمل بها ولا أنكر أحد منهم شيئا منها وإن كان بعضهم قد استحسن شيئا واستحسن غيره ما يقرب منه وهذا كله بحمد الله سواء أو قريب من السواء إن شاء الله.

وأما صفة السترة وقدرها في ارتفاعها وغلظها فقد اختلف العلماء في ذلك :

فقال مالك : أقل ما يجزئ في السترة غلظ الرمح وكذلك السوط والعصا وارتفاعها قدر عظم الذراع هذا أقل ما يجزئ عنده وهو قول الشافعي في ذلك كله.

وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه أقل السترة قدر مؤخرة الرحل ويكون ارتفاعها على ظهر الأرض ذراعا وهو قول عطاء.

وقال قتادة : ذراع وشبر.

وقال الأوزاعي : قدر مؤخرة الرحل ولم يحد ذراعا ولا عظم ذراع ولا غير ذلك وقال يجزئ السهم والسوط والسيف يعني في الغلظ واختلفوا فيما يعرض ولا ينصب وفي الخط فكل من ذكرنا قوله أنه لا يجزئ عنده أقل من عظم الذراع أو أقل من ذراع لا يجيز الخط ولا أن يعرض العصا والعود في الأرض فيصلي إليها وهم مالك والليث وأبو حنيفة وأصحابه كلهم يقول الخط ليس بشيء وهو باطل ولا يجوز عند واحد منهم إلا ما ذكرنا وهو قول إبراهيم النخعي وقال أحمد بن حنبل وأبو ثور إذا لم يجعل تلقاء وجهه شيئا ولم يجد عصا ينصبها فليخط خطا وكذلك قال الشافعي بالعراق.

وقال الأوزاعي : إذا لم "يكن" ينتصب له عرضه بين يديه وصلى إليه فإن لم يجد خط خطا وهو قول سعيد بين جبير قال الأوزاعي والسوط يعرضه أحب إلي من الخط.

وقال الشافعي بمصر : لا يخط "الرجل" بين يديه خطا إلا أن يكون في ذلك حديث ثابت فيتبع.

قال أبو عمر : احتج من ذهب إلى الخط عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا سليمان بن الأشعث قال حدثنا مسدد قال حدثنا بشر بن المفضل قال حدثنا إسماعيل بن أمية قال حدثني أبو عمرو بن محمد بن حريث أنه سمع جده حريثا يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله قال إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصاه فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا ولا يضره من مر بين يديه.

وهذا الحديث عند أحمد بن حنبل ومن قال بقوله حديث صحيح وإليه ذهبوا ورأيت أن علي بن المديني كان يصحح هذا الحديث ويحتج به.

وقال أبو جعفر الطحاوي إذ ذكر هذا الحديث أبو عمرو بن محمد بن حريث هذا مجهول وجده أيضا مجهول ليس لهما ذكر في غير هذا الحديث ولا يحتج بمثل هذا "من" الحديث.

واختلف القائلون بالخط في هيئة الخط فقالت "منهم" طائفة يكون عرضا منهم : الأوزاعي.

وقالت طائفة يكون طولا كالعصا "يقيمها"، منهم عبد الله بن داود الخريبي.

وقالت طائفة يكون كالهلال والمحراب منهم أحمد بن حنبل.

حديث ثامن عشر لزيد بن أسلم مسند صحيح[عدل]

مالك، عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله قال الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها "ذلك" من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقى به كان ذلك له حسنات فهي لذلك أجر ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر وسئل عن الحمر فقال لم ينزل علي فيها "شيء"، إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.

أبو صالح السمان اسمه ذكوان وهو والد سهيل بن أبي صالح مدني نزل الكوفة ثقة مأمون على ما روى وحمل من أثر في الدين من خيار التابعين وهو مولى لجويرية امرأة من غطفان.

روى عنه من أهل المدينة سمى وزيد بن أسلم والقعقاع بن حكيم وعبد الله بن دينار وابنه سهيل.

وروى عنه من أهل الكوفة الأعمش والحكم بن عتيبة وعاصم بن أبي النجود وتوفي أبو صالح السمان بالمدينة سنة إحدى ومائة وكان أبو هريرة إذا نظر إلى أبي صالح هذا قال ما على هذا أن لا يكون من بني عبد مناف.

وفي هذا الحديث من الفقه أن الأعيان لا يؤجر المرء في اكتسابها إنما يؤجر في استعمال ما ورد الشرع بعمله مع النية التي تزكو بها الأعمال إذا نوى بها صاحبها وجه الله والدار الآخرة وما يقربه من ربه إذا كان "ذلك" على سنة، ألا ترى أن الخيل أجر لمن اكتسبها ووزر على من اكتسبها على ما جاء به الحديث وهي جنس واحد قال الله عز وجل : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}. وقال الله تعالى : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}. وقال عز وجل : {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}.

وفيه أن الحسنات تكتب للمرء إذا كان له فيها سبب وإن لم يقصد قصدها تفضلا من الله تعالى على عباده المؤمنين ورحمة منه بهم وليس هذا حكم "اكتساب" السيئات إن شاء الله يدلك على ذلك أنه لم يذكر في هذا الحديث حركات الخيل وتقلبها في سيئات المفتخر بها كما ذكر ذلك في حسنات المحتسب المريد بها البر ألا ترى أنها لو قطعت حبلها نهارا فأفسدت زرعا أو رمحت فقتلت أو جنت أن صاحبها برئ من الضمان عند جميع أهل العلم ويبين ذلك أيضا قوله في هذا الحديث ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات.

وفي هذا دليل على أن المسلم إذا صنع شيئا يريد به الله عز وجل فكل ما كان بسبب منه واليه كان له حكمه في الأجر والله أعلم.

ومن هذا الباب قوله " من كان منتظرا الصلاة فهو في صلاة وقال  : انتظار الصلاة بعد الصلاة ذلكم الرباط ذلكم الرباط لأن انتظار الصلاة سبب شهودها.

وكذلك انتظار العدو في الموضع المخوف فيه إرصاد للعدو، "وقوة لأهل الموضع وعدة للقاء العدو"، "وسبب لذلك كله".

ومنه قول معاذ بن جبل واحتسب في نومتي مثل ما احتسب في قومتي وكان ينام بعض الليل ويقوم بعضه وبالنوم كان يقوى على القيام وكذلك يقوى برعي الخيل وأكلها وشربها على ملاقاة العدو إذا احتيج إليها وهذا كله في تعظيم فعل الرباط لأنه جلوس وانتظار واستعداد للعدو مع ما فيه من الخوف والروعات أحيانا.

وقد يكتب للرجل عمله الذي كان يعمله إذا حبسه عنه عذر من مرض أو غيره وفي ذلك المعنى شعبة من هذا المعنى.

وقد أتينا بما روى فيه من الآثار في باب محمد بن المنكدر والحمد لله.

وروى يحيى بن سلام قال أخبرنا شريك عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال من ارتبط فرسا في سبيل الله كان بوله وروثه في أجره.

وروى صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب عن أبيه عن جده أن النبي قال من ارتبط فرسا في سبيل الله كان علفه وشربه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة وأما قوله ربطها في سبيل الله فإنه يعني ارتبطها من الرباط.

قال الخليل. الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة أيضا قال والرباط الشيء الذي تربط به، وتربط "أيضا". وقال أبو حاتم عن أبي زيد الرباط من الخيل الخمس فما فوقها وجماعة ربط وهي التي ترتبط يقال منه ربط يربط ربطا وارتبط يرتبط ارتباطا ومربط الخيل ومرابط الخيل.

قال الشاعر :

أمر الإله بربطها لعدوه... في الحرب إن الله خير موفق

وقالت ليلى الأخيلية :

لا تقربن الدهر آل محرق ... إن ظالما أبدا وإن مظلوما

قوم رباط الخيل حول بيوتهم ... وأسنة زرق تخلن نجوما

وينشد لابن عباس رضي الله عنه من قوله :

أحبوا الخيل واصطبروا عليها ... فإن العز فيها والجمالا

إذا ما الخيل ضيعها أناس ... ربطناها فشاركت العيالا

نقاسمها المعيشة كل يوم ... ونكسوها البراقع والجلالا

وقال مكحول بن عبد الله :

تلوم على ربط الجياد وحبسها ... وأوصي بها الله النبي محمدا

وقال الأخطل :

ما زال فينا رباط الخيل نعرفه ... وفي كليب رباط اللؤم والعار

وأما قوله : " " : فما أصابت في طيلها، فالطيل الحبل يطول فيه للدابة وهو مكسور الأول وقلما يأتي في الأفعال.

وأما الأسماء فكثير، مثل قمع وضلع ونطع وعنب وشبع وسرر الصبي وطيل الدابة قال القطامي واسمه عمير بن شييم التغلبي :

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل

وفيه لغة أخرى طول يقال طال طولك وطال طيلك جميعا مكسورة الأول مفتوحة الثاني، قال طرفة :

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد

لا يقال في الخيل إلا بكسر الأول وفتح الثاني يقال أرخ للفرس من طواله ومن طياله.

وأما طوال الدهر وما كان مثله فيقال بالضم والفتح وكذلك الطول والطوال من الطول.

وأما قوله من المرج، أو الروضة فقيل المرج : موضع الكلأ، وأكثر ما يكون ذلك في المطمئن "من الأرض". والروضة : الموضع المرتفع. وأما قوله فاستنت شرفا أو شرفين، فإن الاستنان أن تلج في عدوها في إقبالها وإدبارها، يقال جاءت الإبل سننا أي تستن في عدوها وتسرع أنشد يعقوب بن السكيت لأبي قلابة الهذلي :

ومنها عصبة أخرى سراع ... رمتها الريح كالسنن الطراب

أي كابل تستن في عدوها قال ورمتها : استخفتها، قال : والطراب : التي قد طربت إلى أولادها.

وقال عدي بن زيد :

فبلغنا صنعه حتى نشا ... فاره البال لجوجا في السنن

فاره البال : أي ناعم البال.

وقال عوف بن الجزع :

بنو المغيرة في السواد كأنها ... سنن تحير حول حوض المبكر

قال يعقوب : يقول : فرقوا الخيل فكأنها إبل جاءت سننا ثم تفرقت حول حوض المبكر. "والمبكر" : الذي يسقي إبله بكرة يقال أبكر الرجل وبكر وابتكر.

ومن هذا "أيضا" حديث عبيد بن عمير قال إن في الجنة لشجرة لها ضروع كضروع البقر يغذى بها ولدان الجنة حتى أنهم ليستنون كاستنان البكارة والبكارة صغار الإبل.

ومن هذا أيضا قولهم في المثل السائر : استنت الفصال حتى القرعى يضرب هذا المثل للرجل الضعيف يرى الجلداء يفعلون شيئا فيفعل مثله فكأنه قال ولو قطعت حبلها الذي ربطت به فجعلت تجري وتعدو من شرف إلى شرف يريد من كدية إلى كدية كان ذلك كله حسنات لصاحبها لأنه أراد باتخاذها وجه الله.

"وأما قوله : شرفا أو شرفين فالشرف ما ارتفع من الأرض" وأما قوله تغنيا وتعففا فإنه أراد استغناء عن الناس وتعففا عن السؤال يقال منه تغنيت بما رزقني الله تغنيا وتغانيت تغانيا واستغنيت استغناء كل ذلك قد قالته العرب في ذلك قال الشاعر :

كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا

وقال الأعشى :

وكنت امرأ زمنا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغن

وعلى هذا "المعنى" كان ابن عيينة رحمه الله يفسر قول رسول الله ليس منا من لم يتغن بالقرآن يقول يستغنى به وأما قوله ولم ينس حق الله في رقابها فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :

قال منهم قائلون : معناه : حسن ملكتها وتعهد شبعها والإحسان إليها وركوبها غير مشقوق عليها كما جاء في الحديث لا تتخذوا ظهورها كراسي.

وخص رقابها بالذكر لأن الرقاب تستعار كثيرا في موضع الحقوق اللازمة والفروض الواجبة ومنه قوله عز وجل : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وقول رسول الله من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وكثر عندهم استعمال ذلك واستعارته حتى جعلوه في الرباع والأموال ألا ترى إلى قول كثير :

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال

قال أبو عمر : من ذهب في تأويل قوله  : ولم ينس حق الله في رقابها إلى حسن التملك والتعهد بالإحسان فهو والله أعلم مذهب من قال إن المال ليس فيه حق واجب سوى الزكاة ولم ير في الخيل زكاة وهو قول جمهور العلماء :

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أبي قال حدثنا عبد الله بن يونس قال حدثنا بقي وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا أحمد بن دحيم قال حدثنا إبراهيم بن حماد قال حدثنا عمي إسماعيل بن إسحاق قالا "جميعا" : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق وعلى هذا مذهب أكثر الفقهاء أنه ليس في الأموال حق واجب غير الزكاة ومن حجتهم ما ذكره ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج أبي السمح عن ابن حجيرة الخولاني عن أبي هريرة أن رسول الله قال : إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك.

وقال آخرون : معنى قوله ذلك إطراق فحلها وإفقار ظهرها وحمل عليها في سبيل الله.

والى هذا ونحوه ذهب ابن نافع فيما أظن لأن يحيى بن يحيى قال سألت عبد الله بن نافع عن حق الله في رقابها وظهورها فقال يريد أن لا ينسى أن يتصدق لله ببعض ما يكتسب عليها وهذا مذهب من قال في المال حقوق سوى الزكاة وممن قال ذلك مجاهد والشعبي، والحسن.

ذكر إسماعيل القاضي قال حدثنا أبو بكر قال حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن منصور وابن أبي نجيح عن مجاهد : {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} قال : سوى الزكاة.

قال : وحدثنا أبو بكر وعلي قالا : حدثنا ابن فضيل عن بيان عن عامر قال في المال حق سوى الزكاة.

وزاد فيه إسماعيل بن سالم عن الشعبي قال تصل القرابة وتعطي المساكين.

قال : وحدثنا أبو بكر قال حدثنا أبن علية عن أبي حيان قال حدثنا مزاحم بن زفر قال كنت جالسا عند عطاء "فأتاه أعرابي" فسأله : إن لي إبلا فهل علي فيها حق بعد الصدقة قال نعم.

قال : وحدثنا أبو بكر قال حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن، قال : في المال حق سوى الزكاة.

حدثنا خلف بن القاسم قال حدثنا الحسن بن رشيق قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن زفر القاضي بمصر قال حدثنا محمد بن روح أبو يزيد قال حدثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي قال حدثنا المبارك بن فضالة قال سمعت الحسن يحدث عن قيس بن عاصم المنقري وكان ممن نزل البصرة من أصحاب رسول الله أنه لما قدم على رسول الله قال هذا سيد أهل الوبر قال قلت يا رسول الله ما خير المال قال نعم المال الأربعون والأكثر الستون وويل لأصحاب المئين إلا من أدى حق الله في رسلها ونجدتها وأفقر ظهرها وأطرق فحلها ومنح غزيرها ونحر سمينها فأطعم القانع والمعتر وذكر تمام الحديث.

"فقد جعل رسول الله في الماشية حقا سوى الزكاة وهذا بين في حديث جابر أيضا :

حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يعلى بن عبيد عن عبد الملك بن أبي سليمان عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله  : "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر تطأه ذات الظلف بظلفها، "وتنطحه" ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جماء؟ ولا مكسورة القرن" قالوا يا رسول الله وما حقها قال إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنحها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله".

وقال آخرون : أراد بقوله ولم ينس حق الله في رقابهما ولا ظهورها الزكاة الواجبة "فيها"، ولا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار أوجب الزكاة في الخيل إلا أبا حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان عدا أبا حنيفة في ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد وسائر فقهاء الأمصار.

فأما أبو حنيفة فكان يقول إذا كانت الخيل سائمة ذكورا وإناثا يطلب نسلها فالزكاة فيها عن كل فرس دينار قال وإن شاء قومها وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم.

قال أبو عمر : هذا يدل على ضعف قوله لأن المواشي التي تجب فيها الزكاة لا يجوز تقويمها عند أحد من أهل العلم وحجة من لم يوجب الزكاة في الخيل قوله ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة وسيأتي هذا الحديث في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.

وروى علي عن النبي "أنه" قال : عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق.

وقال الثوري عن عبد الله بن حسن : نهى رسول الله أن يؤخذ من الخيل شيء ولم يبلغنا أن أحدا من الخلفاء الراشدين أخذ من الخيل صدقة إلا خبر روي عن عمر بن الخطاب فيه اضطراب، وعن عثمان فيه خبر منقطع.

وروي عن علي، وابن عمر : أن لا صدقة في الخيل وبذلك قال علماء التابعين وفقهاء المسلمين إلا ما ذكرنا من قول أبي حنيفة وهو قول ضعيف.

فأما الذي روي عن عمر وعثمان : فروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار أن جبير ابن يعلى أخبره أنه سمع يعلى بن أمية يقول ابتاع عبد الرحمن بن أمية أخو يعلى بن أمية من رجل من أهل اليمن فرسا أنثى بمائة قلوص فندم البائع فلحق بعمر فقال غصبني يعلى وأخوه فرسا لي فكتب إلى يعلى أن ألحق بي فأتاه فأخبره الخبر فقال عمر بن الخطاب إن الخيل لتبلغ هذا عندكم فقال ما علمت فرسا قبل هذا بلغ هذا فقال عمر نأخذ من أربعين شاة "شاة"، ولا نأخذ من الخيل شيئا خذ من كل فرس دينارا، "قال" : فضرب على الخيل دينارا دينارا.

وعن ابن جريج، قال أخبرني ابن أبي حسين أن ابن شهاب أخبره أن عثمان كان يصدق الخيل، وأن السائب بن يزيد أخبره : إنه كان يأتي عمر بن الخطاب بصدقة الخيل.

"قال ابن أبي حسين" : قال ابن شهاب : لم أعلم أن رسول الله سن صدقة الخيل.

قال أبو عمر : الخبر في صدقة الخيل عن عمر صحيح من حديث الزهري وقد روى من حديث مالك أيضا :

حدثني محمد، قال : حدثنا علي بن عمر الحافظ قال حدثنا أبو بكر الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري أن السائب بن يزيد أخبره قال لقد رأيت أبي يقيم الخيل ثم يدفع صدقتها إلى عمر رضي الله عنه وهذا حجة لأبي حنيفة ومعنى قوله والله

أعلم تفرد به جويرية عن مالك، "وجويرية ثقة".

وقد ذكر معمر عن أبي إسحاق وغيره كلاما معناه عن عمر أن أهل الشام ألحوا عليه في أخذ الصدقات من خيلهم وعبيدهم فكان يأخذها منهم وكان يرزقهم مثل ذلك من الأجرية، "قال" : فلما كان معاوية حسب ذلك فإذا الذي كان يعطيهم أكثر من الذي كان يأخذ منهم فترك ذلك ولم يأخذ منهم شيئا، ولم يعطهم شيئا.

وأما قوله : ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فالفخر والرياء معروفان.

فأما النواء، فهو مصدر ناوأت العدو مناوأة ونواء "وهي المساواة"، قال أهل اللغة : أصله من ناء إليك ونؤت إليه أي نهض إليك ونهضت إليه قال بشر بن أبي خازم :

بلت قتيبة في النواء بفارس ... لا طائش رعش ولا وقاف

وقال أعشى باهلة :

أما يصبك عدو في مناوأة ... يوما فقد كنت تستعلى وتنتصر

وقال أوس بن حجر :

إذا أنت ناوأت الرجال فلم تنوء ... بقرنين غرتك القرون الكوامل

إذا ما استوى قرناك لم يهتضمهما ... عزيز ولم يأكل صفيفك آكل

"ولا يستوي قرن النطاح الذي به ... تنوء وقرن كلما قمت مائل"

وقال جرير :

إني امرؤ لم أرد فيمن أناوئه ... للناس ظلما ولا للحرب ادهانا

وأما قوله الآية الجامعة الفاذة فالفاذ : هو الشاذ، والفاذة : الشاذة قال ابن الأعرابي يقال ما يدع في الحرب فلان شاذا ولا فاذا أي أنه شجاع لا يلقاه أحد إلا قتله ويقال فاذة وفذة وفاذ وفذ ومنه قول النبي صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ

قال أبو عمر : يعني والله أعلم أنها آية منفردة في عموم الخير والشر ولا أعلم آية أعم منها لأنها تعم كل خير وكل شر.

فأما الخير فلا خلاف بين المسلمين أن المؤمن يرى في القيامة ما عمل من الخير ويثاب عليه.

وأما الشر فلله عز وجل أن يغفر وله أن يعاقب قال الله عز وجل : {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ولما نزلت : {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} بكى أبو بكر وقال يا رسول الله أكل ما نعمل نجزي به فقال له رسول الله يا أبا بكر ألست تمرض ألست تنصب ألست تصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به في الدنيا وقال المرض كفارة وما يصيب المؤمن من مصيبة إلا كفر بها من خطاياه.

وقوله في الحمر في هذا الحديث مثل قوله  : "في كل "ذي" كبد رطبة أجر".

وكان الحميدي رحمه الله يقول : إن اتخذت حمارا،

فانظر كيف تتخذه أما الخيل فقد جاء فيها ما جاء.

وفي هذا الحديث والله أعلم دليل على أن كلامه ذلك في الخيل كان بوحي من الله لأنه قال في الحمر لم ينزل علي فيها شيء إلا الآية الجامعة الفاذة فكان قوله في الخيل نزل عليه والله أعلم ألا ترى إلى قوله لقد عوتبت الليلة في الخيل وهذا يعضد قول من قال إنه "كان" لا يتكلم في شيء إلا بوحي وتلا : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. واحتج بقوله أوتيت الكتاب ومثله معه وبقول عبد الله بن عمرو يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك قال نعم قال في الرضا والغضب قال نعم فإني لا أقول إلا حقا.

حديث تاسع عشر لزيد بن أسلـم مسند[عدل]

مالك ، عن زيد بن أسلـم ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِـيِ الدِيلِ يُقَالُ لَهُ بُسْرُ بْنُ مِـحْجَنٍ عَنْ أَبـيِهِ مِـحْجَنٍ أَنَّهُ كَانَ فـي مَـجْلِسٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ، فَأُذِنَ بِالصَّلاَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ فَصَلَّـى ثُمَّ رَجَعَ وَمِـحْجَنٌ فـي مَـجْلِسِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِـيَ مَعَ النَّاسِ؟ أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلـمٍ؟» قَالَ بَلَـى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلكِنـيِ قَدْ صَلَّـيْتُ فـي أَهْلـيِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : «إِذَا جِئْتَ فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّـيْتَ»

اختلف الناس عن زيد بن أسلـم فـي اسم هذا الرجل، فقال مالك وأكثر الرواة لـه عن زيد فـيه : بسر بن مـحجن بالسين الـمهملة، كذلك هو فـي الـموطأ عند جمهور رواته، وقـيل فـيه بشر بن عمر الزهرانـي.

عن مالك عن زيد بن أسلـم عن بشر بن مـحجن فقـيل لـه فـي ذلك، فقال : كان مالك بن أنس يروي هذا الـحديث قديمًا عن زيد بن أسلـم فـيقول : فـيه بشر، فقـيل لـه : هو بسر، فقال : عن بسر أو بشر، وقال بعد ذلك : عن زيد بن أسلـم عن ابن مـحجن ولـم يقل بسر ولا بشر.

وقال فـيه الثوري عن زيد بن أسلـم : بشر بالشين الـمنقوطة، وكان أبو نعيم يقول بالسين كما قال مالك ومن تابعه. ورواه الدراوردي عن زيد بن أسلـم، فقال فـيه : عن بشر بالـمنقوطة كما قال الثوري. ورواه ابن جريج عن زيد بن أسلـم، فقال فـيه : بسر كما قال مالك، وروى هذا الـحديث أيضًا حنظلة بن علـي الأسلـمي، عن بشر بن مـحجن ولـم يذكر أباه.

ورواه عبد اللـه بن جعفر بن نـجيح عن زيد بن أسلـم عن بشر بن مـحجن عن أبـيه بالـمنقوطة، ـ كما قال الثوري فـي رواية أصحاب الثوري عنه وقد قـيل فـيه عن الثوري بسر أيضًا.

وحدثنـي أحمد بن عبد اللـه قال : حدثنا الـميمون بن حمزة الـحسينـي قال : حدثنا أحمد بن مـحمد بن سلامة الأزدي قال : سمعت إبراهيم بن أبـي داود البرلسي يقول : سمعت أحمد بن صالـح فـي الـمسجد الـجامع بمصر يقول : سمعت جماعة من ولده ومن رهطه فما اختلف علـى منهم اثنان أنه بشر ـ كما قال الثوري.

قال أبو عمر : فـي هذا الـحديث وجوه من الفقه : أحدها قولـه لـمـحجن الديلـي : «ما منعك أن تصلـي مع الناس ألست برجل مسلـم؟» وفـي هذا ـ واللـه أعلـم ـ دلـيل علـى أن من لا يصلـي لـيس بمسلـم وإن كان موحدًا، وهذا موضع اختلاف بـين أهل العلـم وتقرير هذا الـخطاب فـي هذا الـحديث : أن أحدًا لا يكون مسلـمًا إلا أن يصلـي، فمن لـم يصل فلـيس بمسلـم.

وفـيه أن من أقر بالصلاة وبعملـها وإقامتها، أنه يوكل إلـى ذلك إذا قال : إنـي أصلـي لأن مـحجنا قال لرسول اللـه : قد صلـيت فـي أهلـي، فقبل منه. ولا حجة فـي هذا الـحديث لـمن قال : إن الإقرار بالصلاة دون إقامتها يحقن الدم، لأنه لـم يقل إنـي مؤمن بالصلاة مقر بها غير أنـي لا أصلـي، بل قال لـه : قد صلـيت.

والظاهر أنه لـم ينـجه إلا قولـه لرسول اللـه  : قد صلـيت فـي أهلـي. واختلف العلـماء فـي حكم تارك الصلاة عامدًا ـ وهو علـى فعلـها قادر : فروي عن علـي بن أبـي طالب وابن عباس وجابر وأبـي الدرداء تكفـير تارك الصلاة، قالوا : من لـم يصل فهو كافر. وعن عمر بن الـخطاب أنه قال : لاحظ فـي الإسلام لـمن ترك الصلاة.

وعن ابن مسعود من لـم يصل فلا دين لـه. وقال إبراهيم النـخعي والـحكم بن عتـيبة وأيوب السختـيانـي وابن الـمبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه : من ترك صلاة واحدة متعمدًا حتـى يخرج وقتها لغير عذر وأبى من قضائها وأدائها، وقال : لا أصلـي، فهو كافر ودمه ومالـه حلال، ولا يرثه ورثته من الـمسلـمين ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وحكم مالـه ما وصفنا، كحكم مال الـمرتد وبهذا قال أبو داود الطيالسي، وأبو خيثمة، وأبو بكر بن أبـي شيبة.

وقال إسحاق بن راهويه : وكذلك كان رأى أهل العلـم من لدن النبـي إلـى زماننا هذا أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتـى يذهب وقتها كافر، إذا أبى من قضائها، وقال لا أصلـيها.

قال إسحاق وذهاب الوقت : أن يؤخر الظهر إلـى غروب الشمس والـمغرب إلـى طلوع الفجر. قال : وقد أجمع العلـماء أن من سب اللـه عز وجل، أو سب رسولـه ، أو دفع شيئًا أنزلـه اللـه، أو قتل نبـيًا من أنبـياء اللـه، وهو مع ذلك مقر بما أنزل اللـه أنه كافر فكذلك تارك الصلاة حتـى يخرج وقتها عامدًا. قال : ولقد أجمعوا فـي الصلاة علـى شيء لـم يجمعوا علـيه فـي سائر الشرائع، لأنهم بأجمعهم قالوا : من عرف بالكفر، ثم رأوه يصلـي الصلاة فـي وقتها، حتـى صلـى صلوات كثـيرة فـي وقتها، ولـم يعلـموا منه إقرارًا باللسان، أنه يحكم لـه بالإيمان، ولـم يحكموا لـه فـي الصوم والزكاة والـحج بمثل ذلك.

قال إسحاق : فمن لـم يجعل تارك الصلاة كافرًا فقد ناقض وخالف أصل قولـه وقول غيره، قال : ولقد كفر ابلـيس إذ لـم يسجد السجدة التـي أمر بسجودها، قال : وكذلك تارك الصلاة عمدًا حتـى يذهب وقتها، كافر إذا أبى من قضائها. وقال أحمد بن حنبل ولا يكفر أحد بذنب إلا تارك الصلاة عمدًا، ثم ذكر استتابته وقتلـه.

وحجة من قال بهذا القول، ما روي من الآثار عن النبـي فـي تكفـير تارك الصلاة. منها حديث جابر عن النبـي أنه قال : «لـيس بـين العبد وبـين الكفر» أو قال : «بـين الشرك ـ إلا ترك الصلاة» وحديث بريدة عن النبـي أنه قال : «العهد الذي بـيننا وبـينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر». وقولـه : «من ترك صلاة العصر يعنـي متعمدًا فقد حبط عملـه». هذا كلـه مـما احتـج به إسحاق بن راهويه فـي هذه الـمسألة، لقولـه الـمذكور.

واحتـج أيضًا بأن رسول اللـه كان إذا غزا قومًا، لـم يغز علـيهم حتـى يصبح، فإذا أصبح كان إذا سمع أذانًا أمسك، وإذا لـم يسمع أذانًا أغار ووضع السيف. واحتـج أيضًا بقول اللـه عز وجل : {أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا} وبقولـه عز وجل : {وأقـيموا الصلاة ولا تكونوا من الـمشركين} وبقولـه عز وجل {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة} وبقولـه عز وجل {والذين يقـيمون الصلاة} {وأقاموا الصلاة} وبآيات نـحو هذا كثـيرة، وآثار.

واحتـج غيره مـمن ذهب مذهبه فـي هذه الـمسألة، بحديث أبـي هريرة قال : من ترك الصلاة، حشر مع قارون وفرعون وهامان. وبحديث أنس عن النبـي  : «من صلـى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك الـمسلـم». قالوا : هذا دلـيل علـى أن من لـم يصل صلاتنا ولـم يستقبل قبلتنا فلـيس بمسلـم، وبما رواه شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبـي الدرداء، قال : أوصانـي خـلـيلـي أبو القاسم بسبع : «لا تشرك باللـه شيئًا وإن قطعت وإن حرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا، فمن تركها فقد برئت منه الذمة، ولا تشرب الـخمر فإنها مفتاح كل شر وأطع والديك، وإن أمراك أن تـخرج لـهما من دنـياك فافعل، ولا تنازع الأمر أهلـه وإن رأيت أنك أنت، ولا تفر من الزحف، فإن فـيه الـهلكة وأنفق علـى أهلك من طولك وأخفهم فـي اللـه، ولا ترفع عصاك عنهم». وبما روي عن الصحابة الذين قدمنا الذكر عنهم بذلك.

وجدت فـي كتاب أبـي ـ رحمه اللـه ـ بخطه، أن أحمد بن سعيد بن حزم حدثهم قال : حدثنا مـحمد بن مـحمد بن بدر الباهلـي، قال : حدثنا أبو شريح مـحمد بن زكرياء كاتب العمري، قال : حدثنا الفريابـي، قال : حدثنا سفيان عن أبـي الزبـير، عن جابر بن عبد اللـه قال : قال رسول اللـه  : «بـين العبد وبـين الكفر ترك الصلاة». ورواه ابن جريج عن أبـي الزبـير عن جابر عن النبـي مثلـه. حدثنا عبد اللـه بن مـحمد قال : حدثنا حمزة بن مـحمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا أحمد بن حرب قال : حدثنا مـحمد بن ربـيعة عن ابن جريج فذكره وأخبرنا مـحمد بن إبراهيم قال : حدثنا مـحمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا الـحسين بن حريث قال : حدثنا الفضل بن موسى عن الـحسين بن واقد عن عبد اللـه بن بريدة عن أبـيه قال : قال رسول اللـه  : «إن العهد الذي بـيننا وبـينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر».

وذكر إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا مـحمد بن أبـي بكر قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا الـمسعودي قال أنبأنـي الـحسن بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد اللـه قال : قـيل لعبد اللـه : إن اللـه يكثر ذكر الصلاة فـي القرآن {الذين هم علـى صلاتهم دائمون} ، {والذين هم علـى صلواتهم يحافظون} فقال عبد اللـه علـى مواقـيتها. فقال : ما كنا نرى إلا أن تترك، فقال عبد اللـه : تركها الكفر. وفـي هذه الـمسألة قول ثان قال الشافعي : يقول الإمام لتارك الصلاة : صل، فإن قال : لا أصلـي، سئل؟ فإن ذكر علة تـحبسه، أمر بالصلاة علـى قدر طاقته، فإن أبى من الصلاة حتـى يخرج وقتها قتلـه الإمام، وإنما يستتاب ما دام وقت الصلاة قائمًا، يستتاب فـي أدائها واقامتها، فإن أبى قتل وورثه ورثته. وهذا قول أصحاب مالك ومذهبهم، وبعضهم يرويه عن مالك.

وروى مـحمد بن علـي البجلـي قال : حدثنا يونس بن عبد الأعلـى قال سمعت ابن وهب يقول : قال مالك من آمن باللـه وصدق الـمرسلـين وأبى أن يصلـي قتل. وبه قال أبو ثور وجميع أصحاب الشافعي، وهو قول مكحول وحماد بن زيد ووكيع. ومن حجة من ذهب هذا الـمذهب أن أبا بكر الصديق رضي اللـه عنه استـحل دماء مانعي الزكاة. وقال : واللـه لأقاتلن من فرق بـين الصلاة والزكاة، فقاتلـهم علـى ذلك فـي جمهور الصحابة وأراق دماءهم لـمنعهم الزكاة وابايتهم من أدائها. فمن امتنع من الصلاة وأبـي من أقامتها، كان أحرى بذلك. ألا ترى أن أبا بكر، شبه الزكاة بالصلاة، ومعلوم أنهم كانوا مقرين بالإسلام والشهادة، يوضح لك ذلك قول عمر لأبـي بكر : كيف تقاتلـهم، وقد قال رسول اللـه  : «أمرت أن أقاتل الناس حتـى يقولوا لا إلـه إلا اللـه، فإذا قالوها عصموا منـي دماءهم وأموالـهم إلا بحقها، وحسابهم علـى اللـه؟» فقال أبو بكر : هذا من حقها واللـه لو منعونـي عناقًا أو عقالاً مـما كانوا يعطون رسول اللـه لقاتلتهم علـى ذلك. ولو كفر القوم لقال أبو بكر : قد تركوا لا إلـه إلا اللـه وصاروا مشركين، وقد قالوا لأبـي بكر بعد الأسار : ما كفرنا بعد إيماننا، ولكن شححنا علـى أموالنا، وذلك بـين فـي شعرهم. قال شاعرهم :

ألا فاصبحينا قبل نائرة الفجر……..لعل منايانا قريب وما ندري

أطعنا رسول اللَّه ما كان بـيننا……..فـيا عجبًا ما بال مُلك أبـي بكر

فإن الذي سَاْلوكم فمنعتم…………لَكَالتَمر أو أشهى إلـيهم من التمر

فرأى أبو بكر فـي عامة الصحابة ومعه عمر قتالـهم وبعث خالد بن الولـيد وغيره إلـى قتال من ارتد. هذا كلـه احتـج به الشافعي رحمه اللـه، وقال : ففـي هذا دلالة علـى أن من امتنع مـما افترض اللـه علـيه كان علـى الإمام أخذه به وقتالـه علـيه، وإن أتـى ذلك علـى نفسه. وأما توريث ورثتهم أموالـهم، فلأن عمر بن الـخطاب لـما ولـى، رد علـى ورثة مانعي الزكاة كل ما وجد من أموالـهم بأيدي الناس.

وقد كان أبو بكر سباهم كما سبى أهل الردة، فخالفه فـي ذلك عمر، لصلاتهم وتوحيدهم، ورد إلـى ورثتهم أموالـهم فـي جماعة الصحابة، ولـم ينكر ذلك علـيه أحد. وقال أهل السير : إن عمر لـما ولـي، أرسل إلـى النسوة اللاتـي كان الـمسلـمون حازوهن، فخيرهن أن يمكثن عند من هن عنده بتزويج وصداق، أو يرجعن إلـى أهلـيهن بالفداء، فاخترن أن يمكثن عند من كن عنده فمكثن عندهم بتزويج وصداق. قال : وكان الصداق الذي جعل لـمن اختار أهلـه، عشر أواق لكل امرأة، والأوقـية أربعون درهما، فاحتـج الشافعي بفعل عمر هذا فـي جماعة الصحابة أيضًا من غير نكير. وروى سفيان بن عيـينة عن عمرو بن دينار عن مـحمد بن طلـحة بن يزيد قال : قال عمر بن الـخطاب لأن أكون سألت رسول اللـه عن ثلاث، أحل إلـي من حمر النعم : الـخـلـيفة بعده، وعن قوم أقروا بالزكاة ولـم يؤدوها أيحل لنا قتالـهم، وعن الكلالة.

وروى حماد بن زيد عن عمرو بن مالك النكري عن أبـي الـجوزاء عن ابن عباس قال : قواعد الدين ثلاثة : شهادة أن لا إلـه إلا اللـه، والصلاة، وصوم رمضان، ثم قال ابن عباس : تـجده كثـير الـمال ولا يزكي، فلا يقال لذلك كافر ولا يحل دمه. وقد ذكرنا هذا الـحديث بإسناده فـي كتاب الزكاة من كتاب الاستذكار. ومن حجته أيضًا ما حدثناه عبد اللـه بن مـحمد بن عبد الـمؤمن، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال : حدثنا عبد اللـه بن أحمد بن حنبل قال : حدثنـي أبـي قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا هشام بن حسان عن الـحسن عن ضبة بن مـحصن عن أم سلـمة قالت قال رسول اللـه  : «إنه سيكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برىء، ومن كره فقد سلـم، ولكن من رضي وتابع» قالو يا رسول اللـه ألا نقاتلـهم؟ قال : «لا، ما صلوا الـخمس».

وفـيه دلـيل علـى أنهم إن لـم يصلوا الـخمس قوتلوا. ومن حجتهم أيضًا قولـه : «نهيت عن قتل الـمصلـين»، وفـي ذلك دلـيل علـى أن من لـم يصل لـم ينه عن قتلـه، واللـه أعلـم، ألا ترى إلـى قولـه لأصحابه الذين شاوروه فـي قتل مالك بن الدخشم : «ألـيس يصلـي؟» قالوا : بلـى، ولا صلاة لـه، فنهاهم عن قتلـه لصلاته، إذا قالوا لـه : بلـى إنه يصلـي، ولو قالوا : إنه لا يصلـي ما نهاهم عن قتلـه، واللـه أعلـم، ولـم يحتـج علـيهم فـي الـمنع من قتلـه إلا بالشهادة والصلاة لأنه قال لـهم : «ألـيس يشهد أن لا إلـه إلا اللـه؟» قالوا : بلـى، ولا شهادة لـه، فقال : «ألـيس يصلـي؟» قالوا بلـى، ولا صلاة لـه. قال أولئك الذين نهانـي اللـه عن قتلـهم. وقد قال فـي غير ذلك الـحديث : «نهيت عن قتل الـمصلـين».

واعتلوا فـي دفع الآثار الـمروية فـي تكفـير تارك الصلاة، بأن قالوا : معناها من ترك الصلاة جاحدًا لـها معاندًا مستكبرًا غير مقر بفرضها. قالوا ويلزم من كفرهم بتلك الآثار وقبلـها علـى ظاهرها فـيهم، أن يكفر القاتل والشاتم للـمسلـم وأن يكفر الزانـي وشارب الـخمر والسارق، والـمنتهب، ومن رغب عن نسب أبـيه، فقد صح عنه أنه قال : «سباب الـمسلـم فسوق، وقتالـه كفر». وقال : «لا يزنـي الزانـي حين يزنـي وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الـخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إلـيه فـيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن». وقال : «لا ترغبوا عن، آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم». وقال : «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض». إلـى آثار مثل هذه، لا يخرج بها العلـماء الـمؤمن من الإسلام، وإن كان بفعل ذاك فاسقًا عندهم، فغير نكير أن تكون الآثار فـي تارك الصلاة كذلك.

قالوا : ومعنى قولـه : «سباب الـمسلـم فسوق، وقتالـه كفر»، أنه لـيس بكفر يخرج عن الـملة وكذلك كل ما ورد من تكفـير من ذكرنا، مـمن يضرب بعضهم رقاب بعض، ونـحو ذلك. وقد جاء عن ابن عباس، وهو أحد الذين روي عنهم تكفـير تارك الصلاة ـ أنه قال فـي حكم الـحاكم الـجائر : كفر دون كفر. حدثنـي مـحمد بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل قال حدثنا سفيان بن عيـينة عن هشام بن حجير عن طاوس قال : قال ابن عباس : لـيس بالكفر الذي تذهبون إلـيه، أنه لـيس بكفر ينقل عن الـملة، ثم قرأ : {ومن لـم يحكم بما أنزل اللـه فأولئك هم الكافرون} واحتـجوا أيضًا بقول عبد اللـه بن عمر لا يبلغ الـمرء حقـيقة الكفر، حتـى يدعو مثنى مثنى. وقالوا : يحتمل قولـه «لا يزنـي الزانـي حين يزنـي وهو مؤمن» يريد مستكمل الإيمان لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالـمعصية وكذلك السارق وشارب الـخمر ومن ذكر معهم.

وعلـى نـحو ذلك تأولوا قول عمر بن الـخطاب : لا حظ فـي الإسلام لـمن ترك الصلاة. قالوا : أراد أنه لا كبـير حظ لـه، ولا حظًا كاملاً لـه فـي الإسلام. ومثلـه قول ابن مسعود وما أشبهه، وجعلوه كقولـه : لا صلاة لـجار الـمسجد إلا فـي الـمسجد، أي أنه لـيس لـه صلاة كاملة. ومثلـه الـحديث : «لـيس الـمسكين بالطواف علـيكم» يريد لـيس هو الـمسكين حقا، لأن هناك من هو أشد مسكنة منه، وهو الذي لا يسأل ونـحو هذا مـما اعتلوا به. وقد رأى مالك استتابة الاباضية والقدرية فإن تابوا وإلا قتلوا ـ ذكر ذلك إسماعيل القاضي عن أبـي ثابت عن ابن القاسم وقال : قلت لأبـي ثابت : هذا رأي مالك فـي هؤلاء حسب؟ قال : بل فـي كل أهل البدع، قال القاضي : وإنما رأى مالك ذلك فـيهم لإفسادهم فـي الأرض وهم أعظم افسادًا من الـمـحاربـين لأن إفساد الدين أعظم من إفساد الـمال لا أنهم كفار.

قال أبو عمر : فهذا مالك يريق دماء هؤلاء، لـيسوا عنده كفارًا فكذلك تارك الصلاة عنده من هذا الباب قتلـه، لا من جهة الكفر.

ومـما يدل علـى أن تارك الصلاة لـيس بكافر كفرًا ينقل عن الإسلام إذا كان مؤمنا بها معتقدًا لـها حديث ابن مسعود عن النبـي قال : «أمر بعبد من عباد اللـه أن يضرب فـي قبره مائة جلدة، فلـم يزل يسأل اللـه ويدعوه، حتـى صارت جلدة واحدة فامتلأ قبره نارا، فلـما أفاق، قال : علام جلدتمونـي؟ قالوا : إنك صلـيت صلاة بغير طهور، ومررت علـى مظلوم فلـم تنصره». قال الطحاوي : فـي هذا الـحديث ما يدل علـى أن تارك الصلاة لـيس بكافر، لأن من صلـى صلاة بغير طهور فلـم يصل، وقد أجيبت دعوته ولو كان كافرا ما أجيبت لـه دعوة لأن اللـه تبارك وتعالـى يقول : {وما دعاء الكافرين إلا فـي ضلال} .

وقد ذكرنا إسناد حديث ابن مسعود هذا فـي باب يحيى بن سعيد عند قولـه : «خمس صلوات كتبهن اللـه علـى العباد»، ثم قال : ومن لـم يأت بهن، فلـيس لـه عند اللـه عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر لـه». ومـما يدل علـى أن الكفر منه ما ينقل عن الإسلام، قول : «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان»، وكافر النعمة يسمى كافرًا، وأصل الكفر فـي اللغة الستر، ومنه قـيل : للـيل كافر، لأنه يستر. قال لبـيد : فـي لـيلة كفر النـجوم غمامها، أي سترها. وفـي هذه الـمسألة قول ثالث قالـه ابن شهاب، رواه شعيب بن أبـي حمزة عنه، قال : إذا ترك الرجل الصلاة، فإن كان إنما تركها، لأنه ابتدع دينا غير الإسلام قتل، وإن كان إنما هو فاسق، فإنه يضرب ضربًا مبرحًا، ويسجن حتـى يرجع. قال : والذي يفطر فـي رمضان كذلك.

قال أبو جعفر الطحاوي : وهو قولنا، وإلـيه يذهب جماعة من سلف الأمة من أهل الـحجاز والعراق.

قال أبو عمر : بهذا يقول داود بن علـي، وهو قول أبـي حنـيفة فـي تارك الصلاة أنه يسجن ويضرب ولا يقتل. وابن شهاب القائل ما ذكرنا هو القائل أيضًا فـي قول النبـي  : «أمرت أن أقاتل الناس حتـى يقولوا لا إلـه إلا اللـه». كان ذلك فـي أول الإسلام، ثم نزلت الفرائض بعد، وقولـه هذا يدل علـى أن الإيمان عنده قول وعمل واللـه أعلـم، وهو قول الطائفتـين اللتـين ذكرنا قولـهم قبل قول ابن شهاب كلـهم يقولون : الإيمان قول وعمل.

وقد اختلفوا فـي تارك الصلاة كما علـمت، واحتـج من ذهب هذا الـمذهب ـ أعنـي مذهب ابن شهاب، فـي أنه يضرب ويسجن ولا يقتل ـ بقول رسول اللـه  : «أمرت أن أقاتل الناس حتـى يقولوا : لا إلـه إلا اللـه، فإذا قالوها، عصموا منـي دماءهم وأموالـهم إلا بحقها». قالوا : وحقها الثلاث التـي قال النبـي  : «لا يحل دم امرىء مسلـم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس». قالوا : والكافر جاحد وتارك الصلاة الـمقر بالإسلام لـيس بجاحد ولا كافر ولبس بمستكبر ولا معاند، وإنما يكفر بالصلاة من جحدها، واستكبر عن أدائها. قالوا : وقد كان مؤمنا عند الـجميع بـيقـين قبل تركه للصلاة، ثم اختلفوا فـيه إذا ترك الصلاة فلا يجب قتلـه إلا بـيقـين، ولا يقـين مع الإختلاف، فالواجب القول بأقل ما قـيل فـي ذلك، وهو الضرب والسجن. وأما القتل ففـيه اختلاف، والـحدود تدرأ بالشبهات. واحتـجوا أيضًا بقولـه : «سيكون علـيكم بعدي أمراء، يؤخرون الصلاة عن ميقاتها، فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة». قالوا : وهذا يدل علـى أنهم غير كفار بتأخيرها حتـى يخرج وقتها ولو كفروا بذلك ما أمرهم بالصلاة خـلفهم بسبحة ولا غيرها.

قال أبو عمر : هذا قول قد قال به جماعة من الأئمة مـمن يقول : الإيمان قول وعمل. وقالت به الـمرجئة أيضًا، إلا أن الـمرجئة تقول : الـمؤمن الـمقر مستكمل الإيمان. وقد ذكرنا اختلاف ائمة أهل السنة والـجماعة فـي تارك الصلاة. فأما أهل البدع فإن الـمرجئة قالت تارك الصلاة مؤمن مستكمل الإيمان، إذا كان مقرًا غير جاحد، ومصدقا غير مستكبر. وحكيت هذه الـمقالة عن أبـي حنـيفة وسائر الـمرجئة، وهو قول جهم.

وقالت الـمعتزلة : تارك الصلاة فاسق، لا مؤمن ولا كافر، وهو مخـلد فـي النار، إلا أن يتوب. وقالت الصفرية وإلازارقة من الـخوارج : هو كافر، حلال الدم والـمال. وقالت الإباضية هو كافر، غير أن دمه ومالـه مـحرمان، ويسمونه كافر نعمة، فهذا جميع ما اختلف فـيه أهل القبلة فـي تارك الصلاة. وفـي هذا الـحديث أيضًا : أن من صلـى فـي بـيته ثم دخـل الـمسجد، فأقـيمت علـيه تلك الصلاة أنه يصلـيها معهم، ولا يخرج حتـى يصلـي، وإن كان قد صلـى فـي جماعة أهلـه أو غيرهم، لأن فـي حديث هذا الباب : بلـى يا رسول اللـه، ولكنـي قد صلـيت فـي أهلـي، فقال رسول اللـه لـه علـى ذلك أن يصلـي وإن كان قد صلـى فـي أهلـه، ولـم يبـين أنه كان صلـى منفردًا.

وهذا موضع اختلف العلـماء فـيه، فقال جمهور الفقهاء : إنما هذا لـمن صلـى وحده، وأما من صلـى فـي بـيته أو غير بـيته فـي جماعة فلا يعيد تلك الصلاة، لأن اعادتها فـي جماعة لا وجه لـه، وإنما كانت الإعادة لفضل الـجماعة، وهذا قد صلـى فـي جماعة، فلا وجه لإعادته فـي جماعة أخرى ولو جاز أن يعيد فـي جماعة أخرى من صلـى فـي جماعة، للزمه أن يعيد فـي جماعة أخرى ثالثة ورابعة، إلـى ما لا نهاية لـه فـي تلك الصلاة، وهذا لا يجوز أن يقول به أحد، واللـه أعلـم. واحتـجوا بقولـه : «لا تعاد صلاة فـي يوم مرتـين» وقالوا : معنى هذا الـحديث أن من صلـى فـي جماعة لا يعيد فـي جماعة.

ومـمن قال بهذا القول : مالك بن أنس وأبو حنـيفة والشافعي وأصحابهم. أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ـ قراءة منـي علـيه ـ أن قاسم بن أصبغ حدثهم، قال : حدثنا عبـيد بن عبد الواحد البزار قال : حدثنا علـي بن الـمدينـي، قال : حدثنا يزيد بن زريع، قال : حدثنا حسين وهو الـمعلـم عن عمرو بن شعيب عن سليمان مولـى ميمونة قال : أتـيت علـى ابن عمر وهو علـى البلاط وهم يصلون، فقلت ألا تصلـي معهم؟ قال : إنـي سمعت رسول اللـه يقول : «لا تصلوا صلاة فـي يوم مرتـين».

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن مـحمد البرتـي، قال : حدثنا أبو معمر قال : حدثنا عبد الوارث، قال : حدثنا حسين الـمعلـم، عن عمرو بن شعيب، عن سليمان بن يسار قال : مررت بابن عمر وهو جالس بالبلاط والقوم يصلون قال : فقلت : ألا تصلـي؟ قال : قد صلـيت، قال : قلت : القوم يصلون، قال : سمعت رسول اللـه يقول : «لا تصلوا صلاة فـي يوم مرتـين».

وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهو قول داود : جائز لـمن صلـى فـي جماعة ثم دخـل الـمسجد فأقـيمت تلك الصلاة، أن يصلـيها ثانـية فـي جماعة. قال أحمد : ولا يجوز لـه أن يخرج إذا أقـيمت علـيه الصلاة حتـى يصلـيها، وإن كان قد صلـى فـي جماعة. واحتـج بحديث أبـي هريرة : قولـه فـي الذي خرج عند الإقامة من الـمسجد : أما هذا، فقد عصى أبا القاسم .

وروى عن أبـي موسى الأشعري وحذيفة بن الـيمان وأنس بن مالك وصلة بن زفر والشعبـي والنـخعي، إعادة الصلاة فـي جماعة لـمن صلاها فـي جماعة، وبه قال حماد بن زيد وسليمان بن حرب حكى ذلك أبو بكر الاثرم عن أحمد وعن سائر من ذكرنا ـ كما ذكرنا بالاسانـيد.

فمن ذلك أن قال : حدثنا عبد اللـه بن بكر السهمي، قال : حدثنا حميد عن أنس قال : قدمنا مع أبـي موسى حين بعثه عمر علـى البصرة، فصلـى بنا الغداة فـي الـمربد، فانتهينا إلـى الـمسجد الـجامع، فأقـيمت الصلاة علـينا، فصلـينا مع الـمغيرة بن شعبة. قال : وأخبرنا عثمان بن أبـي شيبة وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا جرير عن لـيث عن نعيم بن أبـي هند عن رِبّعيُّ بن حِراش عن صلة بن زفر قال : انطلقت مع حذيفة فـي حاجة فأتـينا علـى مسجد يصلون الظهر فصلـينا معهم ثم خرجنا فأتـينا علـى مسجد يصلون الظهر، فصلـينا معهم، وذكر مثل ذلك فـي العصر والـمغرب من اعادتهما فـي جماعة، قال فذهبت أقوم فـي الثالثة فأجلسنـي. قال : وحدثنا موسى بن إسماعيل : قال حدثنا أبو عوانة عن إسماعيل بن سالـم عن عامر قال : إذا دخـلت الـمسجد وقد صلـيت صلاة وحدك أو فـي جماعة، فأقـيمت تلك الصلاة وأنت فـي الـمسجد، فإنـي أكره أن تـخرج كما تـخرج الـيهود والنصارى، ولكن صلـها معهم فتكون صلاتك التـي قد صلـيت قبل ذلك الفريضة وصلاتك هذه التطوع، صلـها معهم وإن كان العصر. حدثنا سليمان بن حرب، قال : صلـيت ثم أتـيت مسجد حماد بن زيد، وذلك فـي صلاة العصر، وقد علـم حماد بن زيد أنـي أصلـي بهم ها هنا، فأقـيمت الصلاة، فقال لـي حماد : صل، قلت : قد صلـيت، قال صل : فصلـيت، قلت لسليمان : من صلـى فـي جماعة أيعيد؟ قال : نعم.

حدثنا عبد اللـه بن مـحمد حدثنا عبد الـحميد بن أحمد حدثنا الـخضر بن داود حدثنا أبو بكر الاثرم، فذكر الاحاديث إلـى آخرها. واتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه علـى أن معنى حديث ابن عمر الذي قدمنا ذكره عن النبـي  : «لا تصلوا صلاة فـي يوم واحد مرتـين» قالا إنما ذلك أن يصلـي الإنسان الفريضة، ثم يقوم فـيصلـيها ثانـية ينوي بها الفرض مرة أخرى يعتقد ذلك، فأما إذا صلاها مع الإمام علـى أنها سنة تطوع فلـيس باعادة للصلاة.

قال أبو عمر : قد علـمنا أن رسول اللـه ، إنما أمر الذي صلـى فـي أهلـه وحده، أن يعيد فـي جماعة من أجل فضل صلاة الـجماعة علـى صلاة الفذ لـيتلافـى ما فاته من فضل الـجماعة، إذا كان قد صلـى منفردًا. والـمصلـي فـي جماعة قد حصل لـه الفرض والفضل، فلـم يكن لاعادته الصلاة وجه، إلا أن يتطوع بها وسنة التطوع أن يصلـي ركعتـي، وقد روي عن النبـي أنه قال : «صلاة اللـيل والنهار مثنى مثنى» يعنـي فـي التطوع. وروي عنه أنه نهى عن القصد إلـى التطوع بعد العصر والصبح، فمن ها هنا لـم يكن لإعادة الصلاة لـمن صلاها فـي جماعة وجه، واللـه أعلـم. والأحاديث عن السلف تدل علـى ذلك، لفضل الـجماعة، واللـه أعلـم.

روى مالك عن عفـيف بن عمر السهمي عن رجل من بنـي أسد أنه سأل أبا أيوب الأنصاري فقال إنـي أصلـي فـي بـيتـي ثم آتـي الـمسجد فأجد الإمام يصلـي أفأصلـي معه؟ فقال أبو أيوب : نعم، فصل معه، ومن صنع ذلك فإن لـه سهم جمع، أو مثل سهم جمع، قال ابن وهب : يعنـي يضعف لـه الأجر.

قال أبو عمر : قول ابن وهب هذا ـ واللـه أعلـم ـ خير من قول من قال : إن الـجمع ها هنا الـجيش، وإن لـه أجر الغازي أو الغزاة، من قولـه {تراءى الـجمعان} يعنـي الـجيشين.

ولـيس هذا عندي بشيء، والوجه ما قالـه ابن وهب وهو الـمعروف عن العرب. أخبرنـي عبد اللـه بن مـحمد حدثنا أحمد بن مـحمد بن إسماعيل حدثنا مـحمد بن الـحسن حدثنا الزبـير بن أبـي بكر قال : حدثنـي عمي مصعب بن عبد اللـه أن فـي وصية الـمنذر بن الزبـير : إن لفلان بغلتـي الشهباء، ولفلان عشرة الآف درهم، ولفلان سهم جمع. قال مصعب فسألت عبد اللـه بن الـمنذر بن الزبـير، ما يعنـي بسهم الـجمع؟ قال نصيب رجلـين. واختلف الفقهاء أيضًا فـيما يعاد من الصلوات مع الإمام لـمن صلاها فـي بـيته. فقال مالك تعاد الصلوات مع كلـها مع الإمام، إلا الـمغرب وحدها، فإنه لا يعيدها لأنها تصير شفعًا. قال : ومن صلـى فـي جماعة ولو مع واحد، فإنه لا يعيد تلك الصلاة إلا أن يعيدها فـي مسجد النبـي أو الـمسجد الـحرام أو الـمسجد الأقصى. قال : وإن دخـل الذي صلـى وحده الـمسجد، فوجدهم جلوسًا فـي آخر صلاتهم، فلا يجلس معهم، ولا يدخـل فـي صلاتهم، حتـى يعلـم أنه يدرك منها ركعة. ومن قول مالك أنه لا يدري أي صلاتـيه فريضته، وإنما ذلك عنده إلـى اللـه يجعلـها أيتهما شاء، ولا يقول أنها نافلة. وروي عن ابن عمر وسعيد بن الـمسيب مثل قولـه هذا : ذلك إلـى اللـه يجعل أيتهما شاء. واختلفت أجوبته وأجوبة أصحابه فـيمن أحدث فـي الثانـية مع الإمام، أو ذكر بعد فراغه منها أن الأولـى علـى غير وضوء، أو أسقط منها سجدة، بما لـم أر لذكره وجها فـي هذا الـموضع.

وقال ابن وهب فـي الـموطأ : قال مالك : من أحدث فـي هذه فصلاته فـي بـيته هي صلاته.

قال أبو عمر : هذا هو الصحيح فـي قولـه وقول غيره فـي هذه الـمسألة. وقال أبو حنـيفة وأصحابه : لا يعيد الـمصلـي وحده العصر مع الإمام ولا الفجر ولا الـمغرب، ويصلـي معه الظهر والعشاء، ويجعل صلاته مع الإمام نافلة. قال مـحمد بن الـحسن : لأن النافلة بعد العصر والصبح لا تـجوز ولا تعاد الـمغرب، لأن النافلة لا تكون وترًا فـي غير الوتر. وقال الأوزاعي : يعيد مع الإمام جميع الصلوات إلا الـمغرب والفجر. وهو قول عبد اللـه بن عمر وحجة من قال هذا القول : أن الوتر فـي صلاة النافلة غير جائز، لقول رسول اللـه  : «صلاة اللـيل مثنى مثنى»، ولاجماع العلـماء أن النافلة غير الوتر لا تكون وترًا، وقال رسول اللـه  : «لا وتران فـي لـيلة».

وقال رسول اللـه  : «لا صلاة بعد الصبح حتـى تطلع الشمس وصلـى بعد العصر ركعتـين». وجاء عن جماعة من السلف أنهم كانوا يتطوعون بعد العصر ما كانت الشمس بـيضاء نقـية، ولـم يجىء ذلك عن واحد منهم فـي الصلاة بعد الصبح. والنهي عند ابن عمر ومن قال بقولـه عن الصلاة بعد العصر معناه إذا أصفرت الشمس وكانت علـى الغروب، وأما إذا كانت بـيضاء نقـية فلا بأس عندهم بصلاة النافلة. وللقول فـي هذا التأويل موضع من كتابنا غير هذا يأتـي ذكره فـي باب مـحمد بن يحيى بن حيان إن شاء اللـه، فلذلك لـم ير ابن عمر باعادة العصر بأسًا، وكره اعادة الصبح.

وقال الشافعي : يصلـي الرجل الذي صلـى وحده مع الـجماعة كل صلاة : الـمغرب وغيرها، لأن النبـي قال لـمـحجن الديلـي : «إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صلـيت»، ولـم يخص صلاة من صلاة. قال : والأولـى هي الفريضة، والثانـية سنة تطوعًا سنها رسول اللـه ، وهو قول داود بن علـي إلا أن داود يرى الإعادة فـي الـجماعة علـى من صلـى وحده فرضا، ولا يحتسب عنده بما صلـى وحده، وفرضه ما أدركه من صلاة الـجماعة. وأما من صلـى فـي جماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فالإعادة ها هنا استـحباب. واختلف عن الثوري، فروي عنه أنه يعيد الصلوات كلـها مع الإمام، كقول الشافعي سواء. وروي عنه مثل قول مالك ولا خلاف عن الثوري أن الثانـية تطوع وأن التـي صلـى وحده هي الـمكتوبة. وقال أبو ثور يعيدها كلـها، إلا الفجر والعصر، إلا أن يكون فـي مسجد فتقام الصلاة فلا يخرج حتـى يصلـيها.

وحجته النهي عن صلاة النافلة بعد العصر وبعد الصبح. فأما ما احتـج به مالك من قول ابن عمر وسعيد بن الـمسيب : ذلك إلـى اللـه يجعل أيتهما شاء، ولـم يقل واحد منهما أن الثانـية نافلة، فإن ابن عمر وسعيد بن الـمسيب قد اختلف عنهما فـي ذلك، وإن كان نقل مالك أصح. حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا أبو عبد الـملك مـحمد بن عبد اللـه بن أبـي دايم قال : حدثنا مـحمد بن وضاح، قال : حدثنا آدم بن أبـي أياس العسقلانـي قال : حدثنا ابن أبـي ذئب عن عثمان بن عبد اللـه قال سألت عبد اللـه بن عمر عن رجل صلـى العصر ثم أعاد فـي الـجماعة أيهما الـمكتوبة؟ قال : الأولـى.

حدثنا عبد اللـه بن مـحمد بن عبد الـمؤمن قال : حدثنا عبد الـحميد بن أحمد الوراق قال : حدثنا الـخضر بن داود قال : حدثنا أبو بكر الأثرم قال : حدثنا أبو بكر بن أبـي شيبة قال : حدثنا الثقفـي عن عبد اللـه بن عثمان عن مـجاهد قال : خرجت مع ابن عمر من دار عبد اللـه بن خالد، حتـى نظرنا إلـى باب الـمسجد، فإذا الناس فـي صلاة العصر فلـم يزل بـي واقفًا حتـى صلـى الناس وقال : إنـي قد صلـيت فـي البـيت.

وحدثنا أحمد بن عبد اللـه بن مـحمد ـ قراءة منـي علـيه ـ أن أباه حدثه قال : حدثنا عبـيد اللـه بن يونس، قال : حدثنا بقـي بن مخـلد قال : حدثنا أبو بكر بن أبـي شيبة فذكر بإسناده مثلـه. وذكر أبو بكر الأثرم قال : حدثنا حفص بن عمر قال : حدثنا همام قال : حدثنا قتادة قال : قلت لسعيد بن الـمسيب : إذا صلـيت وحدي ثم أدركت الـجماعة؟ فقال : أعد، غير أنك إذا أعدت الـمغرب صلـيت إلـيها ركعة أخرى تشفع بها، واجعل صلاتك وحدك تطوعًا. وهذا حديث لا وجه لـه، كيف يشفع الـمغرب وتكون الأولـى تطوعًا.

وقد أجمع العلـماء أن الـمغرب لا تشفع بركعة إذا نوى بها الفريضة، وإن التطوع لا يكون وترًا فـي غير الوتر. وقد كان جماعة من العلـماء ينكرون أشياء كثـيرة من حديث قتادة عن سعيد بن الـمسيب منها هذا. وأما ما جاء عن ابن عمر من رواية مالك فـي موطئه، وما قد ذكرناه عنه ها هنا، فإن الـحديثـين وإن تدافعا، فإنه قد يحتمل أن يخرجا علـى غير وجه التدافع : بأن يحملا علـى أن قولـه ذلك إلـى اللـه أنه أراد بذلك القبول، أي أنه يتقبل أيتهما شاء، فقد يتقبل اللـه النافلة التطوع، ولا يتقبل الفريضة وقد يتقبل اللـه الفريضة دون التطوع، وقد يتقبلـهما بفضلـه جميعا وقد لا يقبل واحدة منهما، ولـيس كل صلاة مقبولة. وكان بعض الصالـحين يقول : طوبى لـمن تقبلت منه صلاة واحدة. قال : ذلك علـى وجه الإشفاق.

وقد روينا عن ابن عمر مثل هذا ومعناه. أخبرنا أحمد بن قاسم، قال : حدثنا مـحمد بن عيسى قال : حدثنا علـي بن عبد العزيز قال : حدثنا أبو عبـيد قال : حدثنا هشام بن عمار قال : حدثنا هشام بن يحيى الغسانـي عن أبـيه قال : جاء سائل إلـى ابن عمر فقال لابنه : اعطه دينارًا فقال لـه ابنه : تقبل اللـه منك يا أبتاه، فقال : لو علـمت أن اللـه تقبل منـي سجدة واحدة، أو صدقة درهم واحد، لـم يكن غائب أحب إلـي من الـموت أتدري مـمن يتقبل اللـه؟ إنما يتقبل اللـه من الـمتقـين. فكان ابن عمر ـ واللـه أعلـم ـ وسعيد بن الـمسيب إذا سأل كل واحد منهما السائل : أيتهما صلاتـي؟ أي أيتهما التـي يتقبل اللـه منـي؟ أجابه كل واحد منهما بأن ذلك لـيس إلـيه علـمه، وأن ذلك أمر علـمه إلـى اللـه، وهو تأويل مـحتمل صحيح. وقد تأول هذا التأويل عبد الـملك بن الـماجشون، وقال : إن الأولـى هي صلاته. والنظر يصحح ما قالـه لإجماع الفقهاء القائلـين بأن شهود الـجماعة لـيس بفرض واجب. علـى أن الذي صلـى وحده لو لـم يدخـل الـمسجد فـيعيد مع الـجماعة لـم يكن علـيه شيء. وفـي قول ابن عمر تعاد مع الإمام كل صلاة إلا الـمغرب والفجر، دلـيل علـى أن الأخرى عنده تطوع وسنة.

ويشهد لـما ذكرناه ما رواه ابن أبـي ذئب عن عثمان بن عبد اللـه أن الأولـى صلاته. ومـما يصحح هذا الـمذهب أيضًا ما رواه أبو ذر وأبو هريرة وجماعة، عن النبـي إنه قال : «سيكون علـيكم بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقـيتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة» أي نافلة. وحديث يزيد بن الأسود الـخزاعي عن النبـي قال : إذا صلـيتما فـي رحالكما، ثم أتـيتما الناس وهم يصلون فصلـيا معهم، فإنها لكما نافلة. وهذه الأحاديث تدل علـى أن الأولـى فرضه والثانـية تطوع لـه، وتدل أيضًا علـى إعادة الصلاة مع الإمام، أنه أمر عام من غير تـخصيص ولا تعيـين. وذكر أبو بكر الأثرم قال : حدثنا عفان قال : حدثنا جرير بن حازم قال : سمعت حمادًا قال : كان إبراهيم يقول : إذا نوى الرجل صلاة كتبتها الـملائكة، فمن يستطيع أن يحولـها؟ فما صلـى بعدها فهو تطوع.

قرأت علـى عبد الوارث بن سفيان حدثكم قاسم بن أصبغ؟ قال نعم حدثنا قال : حدثنا هشيم بن بشير قال : أخبرنا يعلـى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبـيه عن النبـي أنه أتـى برجلـين بعدما صلـى الغداة كانا فـي آخر الـمسجد لـم يصلـيا معه، قال : «ما منعكما أن تصلـيا معنا»؟ قالا : كنا قد صلـينا فـي رحالنا. قال : «فلا تفعلا، إذا صلـيتما فـي رحالكما ثم أتـيتما مسجد جماعة فصلـيا معهم، فإنها لكما نافلة». وهذا نص فـي موضع الـخلاف يقطعه، وباللـه التوفـيق.

وروى شعبة عن يعلـى بن عطاء بإسناده مثلـه سواء. والـحجة لـمالك والقائلـين بقولـه أن الصلوات كلـها تعاد مع الإمام إلا الـمغرب قولـه : «صلاة اللـيل مثنى مثنى»، وقولـه علـيه الصلاة والسلام : «لا وتران فـي لـيلة». ومعلوم أن الـمغرب إن أعادها كانت إحدى صلاتـيه تطوعًا، وسنة التطوع أن تصلـى ركعتـين، وغير جائز أن يكون وتران فـي لـيلة، لأن ذلك لو كان صار شفعًا، وبطل معنى الوتر، فلـما كان فـي إعادة الـمغرب مخالفة لـهذين الـحديثـين منع مالك من اعادتها.

ولا يدخـل علـى من قال بقولـه فـي إعادة العصر والصبح مع الإمام، مخالفة لـحديث النهي عن التطوع بالنافلة بعد الصبح والعصر لأنهم لا يقولون أن الثانـية نافلة، بل يقولون : إننا لا نعلـم أي الصلاتـين فرضه ولا يأمرونه أن يدخـل مع الإمام إلا بنـية الفرض، ثم ذلك إلـى اللـه يجعلـها أيتهما شاء، فأيتهما جعلـها فالأخرى تطوع. والأغلب عندهم فـي الظن أن الثانـية فرضه لفضل صلاة الـجماعة علـى صلاة الفذ. وتأولوا فـي قول رسول اللـه فـي حديث يزيد بن الأسود : «فإنها لكما نافلة».

قالوا : معنى نافلة : فضيلة وزيادة خير. ولا يعجب أن يكون معنى قولـه ذلك أن يكون تطوعًا. واحتـجوا بقول اللـه تعالـى : {نافلة لك} . أي فضيلة وبقولـه عز وجل : {ووهبنا لـه إسحاق ويعقوب نافلة} أي فضيلة. ومن أدل دلـيل علـى أن الأولـى فرضه والثانـية نفل علـى مذهب مالك وأصحابه، مـما لـم يختلفوا فـيه، ـ أنهم لـم يختلفوا أن من صلـى وحده لا يكون إمامًا فـي تلك الصلاة، فدل علـى أنها غير فريضة وإذا كانت غير فريضة كانت تطوعًا، وباللـه التوفـيق.

حديث موفى عشرين لزيد بن أسلم مسند صحيح[عدل]

مالك، عن زيد بن أسلم عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه أن ابن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال ابن عباس يغسل المحرم رأسه وقال المسور لا يغسل المحرم رأسه قال فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب قال فسلمت عليه فقال من هذا قلت أنا "عبد الله" بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسالك كيف كان رسول الله يغسل رأسه وهو محرم قال فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأ حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه أصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيت رسول الله يفعل.

روى يحيى بن يحيى هذا الحديث عن مالك عن زيد بن أسلم عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه فذكره ولم يتابعه على إدخال نافع بين زيد بن أسلم وبين إبراهيم بن عبد الله بن حنين أحد "من" رواة الموطأ عن مالك فيما علمت وذكر نافع في هذا الإسناد عن مالك خطأ عندي لا أشك فيه فلذلك لم أر لذكره في الإسناد وجها وطرحته منه كما طرحه ابن وضاح وغيره وهو الصواب إن شاء الله وهذا مما يحفظ من خطأ يحيى بن يحيى في الموطأ وغلطه ومثل هذا من غلطه الواضح أيضا روايته في كتاب الحج أيضا عن مالك عن نافع عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله أهدى جملا "كان" لأبي جهل بن هشام وهذا غلط غيرمشكل وليس لذكر نافع في هذا الإسناد وجه وإنما رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر لا عن نافع وكذلك هو عند "كل" من روى الموطأ عن مالك.

وقد روى عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين هذا ابن شهاب ونافع مولى عبد الله بن عمر وزيد بن أسلم ومحمد بن عمرو ومحمد بن إسحاق والحرث بن أبي ذباب ويزيد بن أبي حبيب وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن وموسى بن عبيدة وغيرهم.

وحنين جد إبراهيم هذا يقال إنه مولى العباس بن عبد المطلب وقيل مولى علي بن أبي طالب فالله أعلم.

واختلف على إبراهيم بن عبد الله بن حنين هذا، "في حديثه" عن أبيه عن علي عن النبي في النهي عن القراءة في الركوع والتختم بالذهب اختلافا يدل على أنه لم يكن بالحافظ والله أعلم.

وسنذكر "ذلك" في باب حديث نافع من كتابنا هذا إن شاء الله.

"وروى هذا الحديث ابن عيينة عن زيد بن أسلم بإسناده وقال في آخره قال المسور بن مخرمة لابن عباس والله لا ماريتك أبدا".

حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا الخشني، حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا زيد بن أسلم عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه قال "تمارى ابن عباس والمسور بن مخرمة في المحرم يغسل رأسه بالماء وهما بالعرج فأرسلوني إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله قال فأتيته وهو يغتسل بين قرني البئر فسلمت عليه فرفع رأسه وضم ثوبه إلى صدره حتى إني لأنظر إلى صدره فقلت أرسلني إليك ابن أخيك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله يغسل رأسه وهو محرم قال فغرف الماء على رأسه وأمر على رأسه فأقبل به وأدبر وقال هكذا رأيت رسول الله يفعل فقال المسور والله لا ماريتك أبدا".

وفي هذا الحديث من الفقه أن الصحابة إذا اختلفوا لم تكن الحجة في قول واحد منهم إلا بدليل يجب التسليم له من الكتاب أو السنة ألا ترى أن ابن عباس والمسور بن مخرمة وهما من فقهاء الصحابة وإن كانا من أصغرهم سنا اختلفا فلم يكن لواحد منهما حجة على صاحبه حتى أدلى ابن عباس بالسنة ففلج وهذا يبين لك أن قول النبي أصحابي كالنجوم هو على ما فسره المزني وغيره من أهل النظر أن ذلك في النقل لأن جميعهم ثقات مأمونون عدل رضي فواجب قبول ما نقل كل واحد منهم وشهد به على نبيه

ولو كانوا كالنجوم في آرائهم واجتهادهم إذا اختلفوا لقال ابن عباس للمسور أنت نجم وأنا نجم فلا عليك وبأينا اقتدى في قوله فقد اهتدى ولما احتاج إلى طلب البينة "والبرهان" من السنة على "صحة" قوله.

وسائر الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا حكمهم في ذلك كحكم ابن عباس والمسور بن مخرمة سواء وهم أول من تلا : {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال العلماء إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه فإن قبض فإلى سنته ألا ترى أن ابن مسعود قيل له أن أبا موسى الأشعري قال في أخت وابنة وابنة ابن أن للأبنة النصف وللأخت النصف ولا شيء لبنت الابن وأنه قال للسائل ائت ابن مسعود فإنه سيتابعنا فقال ابن مسعود : {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} بل أقضي فيها بقضاء رسول الله للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت.

وبعضهم لم يرفع "هذا" الحديث، وجعله موقوفا على ابن مسعود، وكلهم روى فيه، أنه تلا : {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} الآية.

وفي الموطأ أن أبا موسى أفتى بجواز رضاع الكبير فرد ذلك عليه ابن مسعود فقال أبو موسى لا تسألوني ما دام هذا الحبر بين أظهركم.

وروى مالك أن ابن مسعود رجع عن قوله في الربيبة إلى قول أصحابه بالمدينة وهذا الباب في اختلاف الصحابة ورد بعضهم على بعض وطلب كل واحد منهم الدليل والبرهان على ما قاله من الكتاب والسنة إذا خالفه صاحبه أكبر من أن يجمع في كتاب فضلا عن أن يكتب في باب والأمر فيه واضح.

وإذا كان هذا محل الصحابة رضي الله عنهم وهم أولو العلم "والدين" والفضل، "وخير" أمة أخرجت للناس وخير القرون ومن قد رضي الله عنهم وأخبر بأنهم رضوا عنه وأثنى عليهم بأنهم الرحماء بينهم الأشداء على الكفار الركع السجد وأنهم الذين أوتوا العلم : "قال مجاهد وغيره في قول الله عز وجل : {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} قال : أصحاب محمد إلى كثير من ثناء الله عز وجل عليهم واختياره إياهم لصحبة نبيه ،

فإذا كانوا وهم بهذا المحل من الدين والعلم لا يكون أحدهم على صاحبه حجة ولا يستغنى عند خلاف غيره له عن حجة من كتاب الله أو سنة رسوله فمن دونهم أولى وأحرى أن يحتاج إلى أن يعضد قوله بوجه يجب التسليم له :

حدثني أحمد بن فتح قال حدثنا أحمد بن الحسن بن عتبة الرازي قال حدثنا عبيد الله بن عمر بن عبد العزيز العمري قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا سعيد بن داود بن أبي زنبر عن مالك بن أنس عن داود بن الحصين عن طاووس عن عبد الله بن عمر قال العلم ثلاثة أشياء كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري.

وروى ابن وهب قال : حدثنا عبد الرحمن بن زياد المعافري عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال العلم ثلاثة فما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة وسنة قائمة وفريضة عادلة.

وقال إسماعيل القاضي حدثنا أبو ثابت عن ابن وهب قال : قال مالك : الحكم حكمان حكم جاء به كتاب الله وحكم أحكمته السنة قال ومجتهد رأيه فلعله يوفق قال ومتكلف فطعن عليه.

وذكر ابن وضاح عن محمد بن يحيى عن ابن وهب قال : قال لي مالك الحكم الذي يحكم به الناس حكمان ما في كتاب الله أو أحكمته السنة فذلك الحكم الواجب وذلك الصواب.

والحكم الذي يجتهد فيه الحاكم برأيه فلعله يوفق وثالث متكلف فما أحراه أن لا يوفق.

قال : وقال لي مالك : الحكمة والعلم وقال مرة والفقه نور يهدي به الله من يشاء من خلقه ويؤتيه من أحب من عباده وليس بكثرة المسائل.

قال أبو عمر : إجماع الصحابة حجة ثابتة وعلم صحيح إذا كان طريق ذلك الإجماع التوقيف فهو أقوى ما يكون من السنن وإن كان اجتهادا ولم يكن في شيء من ذلك مخالفا فهو أيضا علم وحجة لازمة قال الله عز وجل : {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} . وهكذا إجماع الأمة، إذا اجتمعت على شيء فهو الحق الذي لا شك فيه لأنها لا تجتمع على ضلال وما عدا هذه قال مالك رحمه الله.

وقد تقصينا الأقاويل في هذا الباب، في كتابنا في العلم فمن أحبه تأمله هناك وبالله تعالى التوفيق.

وفي هذا الحديث دليل والله أعلم على أن ابن عباس قد كان عنده في غسل المحرم رأسه علم عن رسول الله أنبأه ذلك أبو أيوب أو غيره لأنه كان يأخذ علم أصحاب رسول الله في السنن وغيرها عن جميعهم ويختلف إليهم ألا ترى إلى قول عبد الله بن حنين لأبي أيوب رحمه الله أرسلني إليك ابن عباس أسالك كيف كان رسول الله يغسل رأسه وهو محرم ولم يقل "هل" كان رسول الله يغسل رأسه وهو محرم على حسبما اختلفا فيه فالظاهر والله أعلم أنه قد كان عنده من ذلك علم.

واختلف أهل العلم في غسل المحرم رأسه بالماء فكان مالك لا يجيز ذلك للمحرم ويكرهه "له"، ومن حجته أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام.

قال مالك فإذا رمى المحرم جمرة العقبة "جاز له غسل رأسه وإن لم يحلق قبل الحلق لأنه إذا رمى جمرة العقبة" فقد حل له قتل القمل وحلق الشعر وإلقاء التفث ولبس الثياب قال وهذا الذي سمعت من أهل العلم.

وعند جويرية في هذا الباب عن مالك حديث غريب صحيح حدثناه عبد الرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا ابن الأعرابي وحدثنا محمد قال حدثنا علي بن عمر الحافظ قال حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار قالا حدثنا أبو داود السجستاني حدثنا سوار بن سهل القرشي حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنه رأى قيس بن سعد بن عبادة غسل أحد شقي رأسه بالشجرة ثم التفت فإذا هديه قد قلدت فقام فأهل قبل أن يغسل شق رأسه الآخر.

وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وداود لا بأس بأن يغسل المحرم رأسه بالماء وكان عمر بن الخطاب يغسل رأسه بالماء وهو محرم ويقول لا يزيده الماء إلا شعثا.

ورويت الرخصة في ذلك "أيضا" عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وعليه جماعة التابعين وجمهور فقهاء المسلمين.

وقد أجمعوا أن المحرم يغسل رأسه من الجنابة وأتباع مالك في كراهيته للمحرم غسل رأسه بالماء "قليل"، وقد كان ابن وهب وأشهب يتغاطسان وهما محرمان مخالفة لابن القاسم في إبايته من ذلك وكان ابن القاسم يقول إن من غمس رأسه في الماء أطعم شيئا خوفا من قتل الدواب ولا بأس عند جميعهم أن يصب الماء "على" المحرم لحر يجده.

وكان أشهب يقول لا أكره للمحرم غمس رأسه في الماء قال وما يخاف في الغمس ينبغي أن يخاف مثله في صب الماء على الرأس من الحر.

وأما غسل المحرم رأسه بالخطمي والسدر فالفقهاء على كراهية ذلك هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وكان مالك وأبو حنيفة يريان الفدية على المحرم إذا غسل رأسه بالخطمي.

وقال أبو ثور : لا شيء عليه إذا فعل ذلك وكان عطاء وطاووس ومجاهد يرخصون للمحرم إذا كان قد لبد رأسه "في غسل رأسه" بالخطمي ليلين.

وروي عن ابن عمر أنه كان يفعل ذلك ويحتمل أن يكون هذا من فعل ابن عمر بعد رمي جمرة العقبة وكان رضي الله عنه إذا لبد حلق فإنما كان فعله "ذلك" والله تعالى أعلم عونا على الحلق واحتج بعض المتأخرين على جواز غسل المحرم رأسه بالخطمي بأن النبي أمر بالمحرم الميت أن يغسلوه بماء وسدر وأمرهم أن يجنبوه ما يجتنب المحرم قال فدل ذلك على إباحة غسل رأس المحرم بالسدر قال والخطمي في معناه.

قال أبو عمر : هذا حديث اختلف الفقهاء في القول به وليس هذا موضع الكلام فيه واختلفوا أيضا في دخول "المحرم" الحمام فكان مالك وأصحابه يكرهون ذلك ويقولون من دخل الحمام فتدلك وأنقى الوسخ فعليه الفدية وكان الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود بن علي لا يرون بدخول المحرم الحمام بأسا.

وروي عن ابن عباس من وجه ثابت أنه كان يدخل الحمام وهو محرم.

وفي هذا الحديث أيضا استتار الغاسل عند الغسل ومعلوم أن الذي كان يستره بالثوب لا يطلع منه على ما يستره به عن مثله فالسترة واجبة على القريب والبعيد قال رسول الله " استر عورتك إلا عن زوجتك أو أمتك" وهذا معناه عند الحاجة إلى ذلك لا غير.

وسيأتي في ستر العورة ما فيه كفاية في باب ابن شهاب إن شاء الله تعالى.

وأما قوله يغتسل بين القرنين فقال ابن وهب القرنان العمودان المبنيان اللذان فيهما السانية على رأس الجحفة.

وقال غيره : هما حجران مشرفان أو عمودان على الحوض يقوم عليهما السقاة.

حديث واحد وعشرون لزيد بن أسلم مسند[عدل]

مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع "بن حكيم"، عن أبي يونس مولى عائشة زوج النبي أنه قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ثم قالت إذا بلغت هذه الآية فآذني : {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فلما بلغتها آذنتها فأملت علي : "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" . ثم قالت سمعتها من رسول الله .

في هذا الحديث من الفقه جواز دخول مملوك المرأة عليها وفيه ما يدل على مذهب من قال إن القرآن نسخ منه ما ليس في مصحفنا اليوم ومن قال بهذا القول يقول إن النسخ على ثلاثة أوجه في القرآن أحدها ما نسخ خطه وحكمه وحفظه فنسي يعني رفع خطه من المصحف وليس حفظه على وجه التلاوة ولا يقطع بصحته على الله ولا يحكم به اليوم أحد وذلك نحو ما روي أنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم.

ومنها قوله : "لو أن لابن آدم واديا من ذهب لابتغى إليه ثانيا ولو أن له ثانيا لابتغى إليه ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" قيل إن هذا كان في سورة ص.

ومنها. "بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه" . وهذا من حديث مالك عن إسحاق عن أنس أنه قال أنزل الله في الذين قتلوا ببئر معونة قرآنا قرأناه ثم نسخ بعد بلغوا قومنا وذكره.

ومنها قول عائشة : " كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله وهن مما يقرأ" إلى أشياء في مصحف أبي و عبد الله وحفصة وغيرهم مما يطول ذكره.

ومن هذا الباب قول من قال إن سورة الأحزاب كانت نحو سورة البقرة أو الأعراف :

روى سفيان وحماد بن زيد عن عاصم عن زر بن حبيش قال قال لي أبي بن كعب كائن تقرأ سورة الأحزاب أو كائن تعدها قلت ثلاثا وسبعين آية قال قط لقد رأيتها وإنها لتعادل البقرة ولقد كان فيما قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله، والله عزيز حكيم.

وقال مسلم بن خالد عن عمرو بن دينار قال كانت سورة الأحزاب تقارن سورة البقرة.

"وروى أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا سيف عن مجاهد قال كانت الأحزاب مثل سورة البقرة أو أطول ولقد ذهب يوم مسيلمة قرآن كثير ولم يذهب منه حلال ولا حرام"

أخبرنا عيسى بن سعيد بن سعدان "المقرئ"، قال أخبرنا أبو القاسم إبراهيم بن أحمد بن جعفر الخرقي المقرئ قال أخبرنا أبو الحسن صالح بن أحمد القيراطي قال أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان قال أخبرني يحيى بن آدم قال أخبرنا عبد الله بن الأجلح عن أبيه عن عدي بن عدي بن عميرة بن فروة عن أبيه عن جده عميرة بن فروة أن عمر بن الخطاب قال لأبي وهو إلى جنبه أوليس كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله إن انتفاءكم من آبائكم كفر بكم فقال بلى ثم قال : أو ليس كنا نقرأ : الولد للفراش وللعاهر الحجر فيما فقدنا من كتاب الله فقال أبي بلى.

والوجه الثاني أن ينسخ خطه ويبقى حكمه وذلك نحو قول عمر بن الخطاب لولا أن يقول قوم زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي الشيخ والشيخة "إذا زنيا" فارجموهما البته بما قضيا من اللذة نكالا من الله والله عزيز حكيم فقد قرأناها على عهد رسول الله فهذا مما نسخ ورفع خطه من المصحف وحكمه باق في الثيب من الزناة إلى يوم القيامة إن شاء الله "عند أهل السنة".

ومن هذا الباب قوله في هذا الحديث : وصلاة العصر "في مذهب من نفى أن تكون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر".

وقد تأول قوم في قول عمر قرأناها على عهد رسول الله أي تلوناها والحكمة تتلى بدليل قول الله عز وجل : {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} وبين أهل العلم في هذا تنازع يطول ذكره.

والوجه الثالث أن ينسخ حكمه ويبقى خطه يتلى في المصحف وهذا كثير نحو قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} نسختها : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} الآية. وهذا من الناسخ والمنسوخ المجتمع عليه.

وقد أنكر قوم أن يكون هذا الحديث في شيء من معنى الناسخ والمنسوخ، وقالوا : إنما هو من معنى السبعة الأحرف التي أنزل الله القرآن عليها نحو قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود رحمهما الله "فامضوا إلى ذكر الله". وقراءة ابن مسعود : "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما". وقراءة أبي وابن عباس : "وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين". وقراءة ابن مسعود وابن عباس : "فلما خر تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب". ونحو هذا من القراءات المضافة إلى الأحرف السبعة وقد ذكرنا ما للعلماء من المذاهب في تأويل قول رسول الله أنزل القرآن على سبعة أحرف في باب ابن شهاب عن عروة من هذا الكتاب.

وقد أبت طائفة أن يكون شيء من القرآن إلا ما بين لوحي مصحف عثمان واحتجوا بقول الله عز وجل : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. إلى أشياء احتجوا بها يطول ذكرها.

وأجمع العلماء أن ما في مصحف عثمان بن عفان وهو الذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا هو القرآن المحفوظ الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه ولا تحل الصلاة لمسلم إلا بما فيه وإن كل ما روى من القراآت في الآثار عن النبي أو عن أبي أو عمر بن الخطاب أو عائشة أو ابن مسعود أو ابن عباس أو غيرهم من الصحابة مما يخالف مصحف عثمان المذكور لا يقطع بشيء من ذلك على الله عز وجل ولكن ذلك في الأحكام يجري في العمل مجرى خبر الواحد.

وإنما حل مصحف عثمان رضي الله عنه هذا المحل لإجماع الصحابة وسائر الأمة عليه ولم يجمعوا على ما سواه وبالله التوفيق ويبين لك هذا أن من دفع شيئا مما في مصحف عثمان كفر ومن دفع ما جاء في هذه الآثار وشبهها من القراءات لم يكفر.

ومثل ذلك من أنكر صلاة من الصلوات الخمس واعتقد أنها ليست واجبة عليه كفر ومن أنكر أن يكون التسليم من الصلاة أو قراءة أم القرآن أو تكبيرة الإحرام فرض لم يكفر ونوظر فإن بان له فيه الحجة وإلا عذر إذا قام له دليله وإن لم يقم له على ما ادعاه دليل محتمل هجر وبدع فكذلك ما جاء من الآيات المضافات إلى القرآن في الآثار فقف على هذا الأصل.

وفي هذا الحديث دليل على أن الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر لقوله فيه وصلاة العصر وهذه الواو تسمى الواو الفاصلة.

وحديث عائشة هذا صحيح لا أعلم فيه اختلافا.

وقد روي عن حفصة في هذا نحو حديث عائشة سواء رواه مالك عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع أنه قال كنت أكتب مصحفا لحفصة أم المؤمنين فقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني : {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فلما بلغتها آذنتها فأملت علي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، وقوموا لله قانتين.

هكذا رواه مالك موقوفا وحديث حفصة هذا قد اختلف في رفعه وفي متنه أيضا.

وممن رفعه عن زيد هشام بن سعد حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا المطلب بن شعيب قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا الليث قال حدثني هشام عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع أنه قال : أمرتني حفصة أن أكتب لها مصحفا فقالت إذا بلغت آية الصلاة من البقرة فتعال أملها عليك فلما بلغتها جئتها فقالت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر هكذا سمعت رسول الله يقرأ.

وذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع أن حفصة أمرت أن يكتب لها مصحف فقالت إذا أتيت على ذكر الصلوات فلا تكتب حتى أمليها عليك كما سمعتها من رسول الله حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر قال نافع فرأيت الواو فيها قال عبيد الله وكان زيد بن ثابت يقول صلاة الوسطى صلاة الظهر.

قال أبو عمر : هذا إسناد صحيح جيد في حديث حفصة، ووجدت في أصل سماع أبي رحمه الله بخطه أن أبا عبد الله محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم قال حدثنا سعيد بن عثمان قال حدثنا نصر بن مرزوق قال أخبرنا أسد بن موسى قال حدثنا حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن حفصة زوج النبي أنها قالت لكاتب مصحفها إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى أخبرك ما سمعت من رسول الله يقول فلما أخبرتها قالت أكتب فإني سمعت رسول الله يقول : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر".

وروى هشيم قال : حدثنا جعفر بن إياس عن رجل حدثه عن سالم بن عبد الله أن حفصة أم المؤمنين أمرت رجلا يكتب لها مصحفا فقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني : {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}. فلما بلغتها أعلمتها ذلك فقالت له اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر ذكره سنيد وغيره عن هشيم ففي هذا الحديث أنها جعلت صلاة العصر بدلا من الصلاة الوسطى ولم يأت "فيه" بالواو، فلو صح هذا، كانت صلاة العصر هي الصلاة الوسطى.

"وقد احتج بعض من زعم أن الصلاة الوسطى صلاة العصر بحديث هشيم هذا وما كان مثله وقال إن سقوط الواو وثبوتها في مثل هذا من كلام العرب سواء واحتج بقول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهما ... م وليث الكتيبة في المزدحم

يريد الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة.

والعرب تقول اشتر ثوبا قطنا كتانا صوفا وقالوا إن من هذا الباب قول الله تعالى : {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}. أي فيهما فاكهة نخل ورمان.

وكذلك قالوا في قوله تعالى : {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} يريد وملئكته جبريل وميكائيل" وهذا خلاف ما "تقدم، وخلاف ما" روي عن عائشة، وحديث عائشة أصح وكذلك رواية من أثبت "الواو" في حديث حفصة أصح إسنادا والله أعلم وحسبك بقول نافع فرأيت الواو فيها.

وقد اختلف العلماء في الصلاة الوسطى فقالت طائفة الصلاة الوسطى صلاة الصبح وممن قال بهذا عبد الله بن عباس وهو أصح ما روى عنه في ذلك إن شاء الله وعبد الله بن عمر وعائشة على اختلاف عنهم في ذلك.

وروى زهير بن محمد ومصعب بن سعد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال الصلاة الوسطى صلاة الصبح.

وذكر إسماعيل بن إسحاق قال أخبرنا إبراهيم بن حمزة وعلي بن المديني واللفظ له قالا حدثنا عبد العزيز بن محمد قال حدثني زيد بن أسلم قال سمعت ابن عمر يقول الصلاة الوسطى صلاة الصبح.

قال أبو عمر : وهذا قول طاووس وعطاء ومجاهد وبه قال مالك بن أنس وأصحابه.

ذكر إسماعيل : قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال : أخبرنا عبد العزيز "بن محمد"، عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول الصلاة الوسطى صلاة الصبح تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار وهي أكثر الصلوات تفوت الناس.

قال إسماعيل : وحدثنا "به" محمد بن أبي بكر قال حدثنا عبد الله ابن جعفر عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس مثله.

قال إسماعيل : الرواية عن ابن عباس في ذلك صحيحة ويدل على مذهبه قول الله عز وجل : {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} فخصت بهذا النص مع أنها منفردة بوقتها لا يشاركها غيرها في "هذا" الوقت فدل ذلك على أنها الوسطى والله أعلم.

"وزاد غيره أنها لا تجتمع مع غيرها لا في سفر ولا حضر وإن رسول الله لم يضمها إلى غيرها في وقت واحد".

قال أبو عمر : وقال قائلون : "إن" الصلاة الوسطى صلاة الظهر روي ذلك عن زيد بن ثابت وهو أثبت ما روي عنه وروى ذلك أيضا عن "عبد الله" بن عمر وعائشة وأبي سعيد الخدري على اختلاف عنهم.

وروى أيضا عن عبد الله بن شداد وعروة بن الزبير أنها الظهر : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر قال أخبرنا أبو داود قال أخبرنا محمد بن المثنى قال أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرنا شعبة قال حدثني عمرو بن أبي حكيم قال سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال " كان رسول الله يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحابه منها فنزلت : {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وقال : إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين".

وروى شعبة أيضا عن سعد بن إبراهيم قال سمعت حفص بن عمر يحدث عن زيد بن ثابت قال الصلاة الوسطى صلاة الظهر.

وشعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت مثله.

ومالك عن داود بن الحصين عن ابن يربوع المخزومي سمع زيد بن ثابت مثله.

وقال إسماعيل : من قال إنها الظهر ذهب إلى أنها وسط النهار أو لعل بعضهم روى في ذلك أثرا فاتبعه.

قال أبو عمر : وقال آخرون : الصلاة الوسطى صلاة العصر وممن قال بذلك علي بن أبي طالب لا خلاف عنه من وجه معروف صحيح.

وقد روى من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أنه قال الصلاة الوسطى صلاة الصبح وحسين هذا متروك الحديث مدني ولا يصح حديثه بهذا "الإسناد".

وقال قوم إن ما أرسله مالك رحمه الله في موطئه عن علي بن أبي طالب في الصلاة الوسطى أنها الصبح أخذه من حديث ابن ضميرة هذا إلا أنه لا يوجد عن علي إلا من حديثه والصحيح عن علي من وجوه شتى صحاح "أنه" قال في الصلاة الوسطى صلاة العصر وروي ذلك عن النبي رواه عنه جماعة من أصحابه منهم عبيدة السلماني وشتير بن شكل ويحيى بن الجزار "والحرث"، والأحاديث عنه في ذلك صحاح ثابتة أسانيدها حسان ذكر إسماعيل قال أخبرنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا يحيى وعبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عاصم عن زر قال "قلت" لعبيدة : سل عليا عن الصلاة الوسطى فسأله قال كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله يقول يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وأجوافهم وبيوتهم نارا.

وممن قال أيضا الصلاة الوسطى صلاة العصر أبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة "الدوسي"، وأبو سعيد الخدري وهو قول عبيدة السلماني والحسن البصري ومحمد بن سيرين، والضحاك بن مزاحم وسعيد بن جبير وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وأكثر أهل الأثر، "وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب"، وروى ذلك "أيضا" عن ابن عباس وابن عمر وعائشة على اختلاف عنهم كما ذكرنا.

وأما حديث ابن عمر فرواه شعبة عن أبي حيان قال سمعت ابن عمر سئل عن الصلاة الوسطى فقال هي العصر.

وأما حديث عائشة فرواه وكيع عن محمد بن عمرو عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : هي العصر وروى ذلك إسماعيل أيضا عن محمد بن أبي بكر عن ابن مهدي عن محمد بن عمرو عن القاسم عن عائشة.

واحتج من قال أنها العصر بما حدثناه عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال أخبرنا عثمان بن أبي شيبة قال أخبرنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة ويزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي "أن رسول الله قال يوم الخندق : "حبسونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا".

وحدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال أخبرنا أحمد بن زهير قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبان بن يزيد، قال حدثنا قتادة أن أبا حسان أخبره عن عبيدة السلماني أنه سمع عليا "قال" : إن رسول الله قال يوم الخندق : " اللهم املأ بيوتهم وقبورهم نارا كما حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس".

ورواه شعبة "عن قتادة" عن أبي حسان عن عبيدة عن علي مثله مرفوعا.

وذكر إسماعيل القاضي قال حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام بن حسان عن محمد بن عبيدة "السلماني" عن علي عن النبي أنه قال يوم الخندق" شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس ملأ الله قلوبهم وقبورهم نارا".

قال القاضي : أحسن الأحاديث المرفوعة في هذا الباب عن علي حديث هشام بن حسان عن محمد بن عبيدة.

وحدثني محمد بن إبراهيم، قال أخبرنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا عيسى عن الأعمش عن مسلم عن شتير بن شكل، عن علي قال شغلوا النبي عن صلاة العصر حتى صلاها بين صلاتي العشاءين فقال شغلونا عن صلاة الوسطى ملأ الله بيوتهم "وقبورهم" نارا.

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال أخبرنا قاسم بن أصبغ قال أخبرنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سفيان قال حدثني الأعمش عن مسلم أبي الضحى عن شتير بن شكل عن علي قال قال رسول الله يوم الأحزاب "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غابت الشمس ملأ الله قلوبهم وأجوافهم نارا".

وروى شعبة أيضا عن الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي قال كان النبي على فرضة من فرض الخندق فقال " شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس ملأ الله قبورهم وبطونهم "وبيوتهم" نارا"

قال شعبة لم يسمع يحيى بن الجزار من على غير هذا الحديث.

وروى سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي قال الصلاة الوسطى صلاة العصر ويوم الحج الأكبر يوم النحر.

واحتج من قال إنها الصبح بحديث مالك عن زيد بن أسلم عن أبي يونس عن عائشة المذكور في هذا الباب.

ويجوز أن يحتج به "أيضا" من قال : إنها الظهر لأن قوله والصلاة الوسطى وصلاة العصر يقتضي أن الوسطى ليست "صلاة" العصر.

وقد عارض بعض المتأخرين حديث عائشة هذا بحديث زيد بن أرقم قال كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت : {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}. قال : فهذا زيد بن أرقم يذكر أن الآية هكذا أنزلت ليس فيها وصلاة العصر وهو الثابت بين اللوحين بنقل الكافة.

واحتج أيضا من قال إنها العصر بقول رسول الله "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" قالوا فلم يخصها رسول الله بالذكر إلا لأنها الوسطى التي خصها الله بالتأكيد والله أعلم.

وروى عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال الصلاة الوسطى صلاة المغرب ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها ولا تقصر في السفر وأن رسول الله لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها وهذا لا أعلمه قاله غير قبيصة.

قال أبو عمر : كل ما ذكرنا قد قيل فيما وصفنا، وبالله توفيقنا، وهو

أعلم بمراده عز وجل من قوله : {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}. وكل واحدة من الخمس وسطى لأن قبل كل واحدة منهن صلاتين وبعدها صلاتين كما قال زيد بن ثابت في الظهر والمحافظة على جميعهن واجب والله المستعان.

حديث ثان وعشرون لزيد بن أسلم مسند[عدل]

مالك عن زيد بن أسلم عن عمرو بن معاذ الأشهلي الأنصاري عن جدته أنها قالت قال رسول الله "يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن لجارتها ولو كراع شاة محرقا".

قال صاحب العين الكراع "من الإنسان" ومن الدواب وسائر المواشي ما دون الكعب.

وفي هذا الحديث الحض على الصلة والهدية بقليل الشيء وكثيره وفي ذلك دليل على بر الجار وحفظه لأن من ندبت "إلى" أن تهدي إليه وتصله فقد منعت من أذاه وأمرت ببره.

والآثار في الهدايا وحسن الجوار كثيرة معروفة وفي ذكر القليل من ذلك ما ينبه على فضل الكثير منه لمن فهم معنى الخطاب وبالله التوفيق ولقد أحسن القائل :

افعل الخير ما استطعت وإن كان ... قليلا فلن تطيق بكله

ومتى تفعل الكثير من الخيـ ... رإذا كنت تاركا لأقله

وأحسن من هذا قول محمود الوراق :

لقد رأيت الصغير من عمل الخيـ ... رثوابا عجبت من كبره

أو قد رأيت الحقير من عمل الشر ... جزءا أشفقت من حذره

وجدة عمرو بن معاذ "هذا" قيل : إن اسمها حواء بنت يزيد بن السكن مدنية وقد قيل إنها جدة ابن بجيد أيضا.

وحديث كل واحدة منهما قد روي عن صاحبته وسنذكر بعض ذلك الاختلاف في الباب "الذي يلي هذا الباب" في حديث زيد ابن أسلم عن ابن بجيد الأنصاري إن شاء الله.

حدثنا أحمد بن فتح حدثنا علي بن شجاع بن فارس البغدادي حدثنا أحمد بن عبد الجبار الصوفي حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عمر بن عبيد "عن الأعمش"، عن شقيق عن عبد الله قال قال رسول الله  : " اقبلوا الهدية وأجيبوا الداعي".

حديث ثالث وعشرون لزيد بن أسلم مسند[عدل]

مالك عن زيد بن أسلم عن ابن بجيد الأنصاري ثم الحارثي عن جدته أن رسول الله قال " ردوا السائل ولو بظلف محرق".

هكذا رواه جماعة رواة الموطأ عن مالك وتابع ملكا على إسناد هذا الحديث ولفظه ومعناه معمر عن زيد بن أسلم.

وكذلك رواه منصور بن حيان وسعيد المقبري عن ابن بجيد عن جدته عن النبي بمعنى حديث مالك رواه "عن" المقبري محمد بن إسحاق وابن أبي ذئب والليث ورواه عن منصور بن حيان سفيان.

والظلف في اللغة الظفر من ذوي الأظلاف وذلك معروف.

قال الفرزدق :

وكان كعنز السوء قامت بظلفها ... إلى مدية مدفونة تستثيرها.

وابن بجيد مدني معروف روى عنه زيد بن أسلم وسعيد المقبري ومنصور بن حيان حديثه هذا.

وجدت في أصل سماع أبي رحمه الله بخطه أن محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم قال أخبرنا سعيد بن عثمان قال حدثنا نصر بن مرزوق قال حدثنا أسد بن موسى قال أخبرنا ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن بجيد " عن أم بجيد قالت قلت يا رسول الله : "والله" : إن المسكين ليقف على بابي حتى استحي فما أجد ما أضع في يده فقال ادفعي في يده ولو ظلفا محترقا".

وبهذا الإسناد عن أسد قال حدثنا الليث بن سعد قال حدثنا سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن بجيد أخي بني حارثة عن جدته أم بجيد أنها حدثته وكانت ممن بايعت رسول الله أنها قالت لرسول الله  : "والله إن المسكين ليقوم على بابي فما أجد له شيئا أعطيه إياه فقال لها رسول الله وإن لم تجدي له شيئا تعطيه إياه إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه في يده".

وخالف حفص بن ميسرة "أبو عمر الصنعاني" في إسناد هذا الحديث وفي الذي قبله فقلبهما وجعل إسناد هذا في متن ذلك رواه ابن وهب ومعاذ بن فضالة عن أبي عمر الصنعاني حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عمرو بن معاذ الأشهلي عن جدته حواء قالت سمعت رسول الله يقول " ردوا السائل ولو بظلف محرق" وهذا لفظ حديث ابن وهب وقال معاذ ولو بشيء محترق.

وتابعه على هذا اللفظ "بهذا الإسناد" هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، "وهذا الحديث إنما هو لابن بجيد.

وروي أيضا عن حفص بن ميسرة، عن زيد ابن أسلم" عن ابن بجيد عن جدته أم بجيد سمعت النبي يقول "لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة".

وقد روي عن سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن بجيد الأنصاري عن جدته قالت قال رسول الله  : "يا نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة".

وهذا عند مالك إنما هو حديث عمرو بن معاذ الأشهلي إلا أن لفظ حديث مالك ليس فيه ذكر فرسن وإنما فيه ولو كراع محترق.

قال صاحب العين : فرسن البعير معروف.

وقال الأصمعي في قوله فرسن شاة هذه استعارة وإنما يعرف الفرسن للبعير والظلف للشاة قال واستعارة الفرسن لغير البعير هو كقول الشاعر :

أشكو إلى مولاي من مولاتي ... تربط بالحبل أكير عاتي

قال أبو عمر : في هذا الحديث : الحض على الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها وفي قول الله عز وجل : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} أوضح الدلائل في هذا الباب.

وتصدقت عائشة رضي الله عنها بحبتين من عنب فنظر إليها بعض أهل بيتها فقالت لا تعجبن فكم فيها من مثقال ذرة.

ومن هذا الباب قول رسول الله اتقوا النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة.

وإذا كان الله يربي الصدقات ويأخذ الصدقة بيمينه فيربيها كما يربي أحدنا فلوه أو فصيله فما بال من عرف هذا يغفل عنه وما التوفيق إلا بالله.

وفي سماع رسول الله في حديث ابن بجيد هذا من رواية المقبري وغيره قول جدة ابن بجيد له إن المسكين ليقف على بابي ولم ينكر عليها دليل على أن قوله في حديث أبي هريرة ليس المسكين بالطواف عليكم لم يرد به "اسم" المسكنة ولكنه أراد معنى منها ليس موجودا في الطواف على الأبواب وهو الصبر على اللاواء والفقر مع ترك السؤال وكلاهما يقع عليه اسم مسكين بظاهر الحديثين فكأنه أراد والله أعلم ليس المسكين على تمام المسكنة وعلى الحقيقة إلا الذي لا يسأل الناس ومنه قوله  : " ليس "من " البر الصيام في السفر". أي ليس البر كله بتمامه لأن الفطر أيضا في السفر في رمضان بر للأخذ برخصة الله عز وجل وإباحته وبالله التوفيق.

حديث رابع وعشرون لزيد بن أسلم مسند[عدل]

مالك، عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه "أنه" قال : سئل رسول الله عن العقيقة؟ فقال : "لا أحب العقوق وكأنه إنما كره الاسم وقال من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل".

روى هذا الحديث "ابن عيينة عن" زيد بن أسلم عن رجل من "بني" ضمرة، عن أبيه أو عن عمه هكذا على الشك والقول في ذلك قول مالك ولا أعلمه روى معنى هذا الحديث عن النبي "إلا من هذا الوجه ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي " واختلف فيه على عمرو بن شعيب أيضا.

"ومن أحسن أسانيد حديثه ما ذكره عبد الرزاق قال : أخبرنا داود بن قيس قال سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده قال " سئل النبي عن العقيقة فقال لا أحب العقوق وكأنه كره الاسم قالوا يا رسول الله ينسك أحدنا عن ولده فقال من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة".

وقد روي عن النبي في العقيقة آثار سنذكرها هنا إن شاء الله تعالى.

وفي هذا الحديث كراهية ما يقبح معناه من الأسماء وكان رسول الله يحب الاسم الحسن ويعجبه الفال الحسن وقد جاء عنه في حرب ومرة ونحوهما ما رواه مالك وغيره وذلك معروف ستراه في بابه من كتابنا هذا إن شاء الله.

وكان الواجب بظاهر هذا الحديث أن يقال للذبيحة عن المولود نسيكة ولا يقال عقيقة لكني لا أعلم أحدا من العلماء مال إلى ذلك ولا قال به وأظنهم والله أعلم تركوا العمل بهذا المعنى المدلول عليه من هذا الحديث لما صح عندهم في غيره من لفظ العقيقة وذلك أن سمرة بن جندب روى عن النبي أنه قال الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه.

وروى سلمان الضبي عن النبي أنه قال " مع الغلام عقيقته فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى" وهما حديثان ثابتان إسناد كل واحد منهما خير من إسناد حديث زيد بن أسلم هذا.

حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال أملى علينا علي بن عبد العزيز بمكة في المسجد الحرام قال : حدثنا معلى بن أسد قال أخبرنا سلام بن أبي مطيع قال حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله " الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويسمى".

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال أخبرنا عفان قال حدثنا أبان قال حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي قال " كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويماط عنه الأذى ويسمى".

قال أحمد بن زهير : وحدثنا أبي قال حدثنا قريش بن أنس عن حبيب بن الشهيد قال قال لي ابن سيرين سل الحسن ممن سمع حديث العقيقة فسألته عن ذلك فقال من سمرة وحدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا حماد بن سلمة قال : أخبرنا أيوب وقتادة ويونس وهشام وحبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين عن سلمان بن عامر الضبي أن رسول الله قال " مع الغلام عقيقته فأهرقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى" .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أبو غسان قال أخبرنا إسرائيل عن عبد الله بن المختار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال سمعت النبي يقول : " الغلام مرتهن بعقيقته".

فهذا لفظ العقيقة قد صح عن النبي من وجوه ثابتة أثبت من حديث زيد بن أسلم هذا وعليها العلماء وهو الموجود في كتب الفقهاء وأهل الأثر في الذبيحة عن المولود العقيقة دون النسيكة.

وأما العقيقة في اللغة فزعم أبو عبيد عن الأصمعي وغيره أن أصلها الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، "قال" : وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه عقيقة لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح قال ولهذا قيل في الحديث وأميطوا عنه الأذى يعني بالأذى ذلك الشعر.

قال أبو عبيد : وهذا مما قلت لك أنهم ربما سموا الشيء باسم غيره إذا كان معه أو من سببه فسميت الشاة عقيقة لعقيقة الشعر وكذلك كل مولود من البهائم فإن الشعر الذي يكون عليه حين يولد عقيقة وعقة قال زهير يذكر حمار وحش :

أذلك أم شتيم الوجه جأب ... عليه من عقيقته عفاء

يعني صغار الوبر.

وقال ابن الرقاع في العقة يصف حمارا :

تحسرت عقة عنه فأنسلها ... واجتاب أخرى جديدا بعد ما ابتقلا

قال : يريد أنه لما فطم من الرضاع وأكل البقل ألقى عقيقته واجتاب أخرى وهكذا زعموا يكون قال أبو عبيد العقة والعقيقة في الناس والحمر ولم يسمع في غير ذلك.

قال أبو عمر : هذا كله كلام أبي عبيد وحكايته، وما ذكره في تفسير العقيقة، وقد أنكر أحمد بن حنبل تفسير أبي عبيد هذا للعقيقة وما ذكره عن الأصمعي وغيره في ذلك وقال : إنما العقيقة "الذبح نفسه"، قال : ولا وجه لما قال أبو عبيد.

واحتج بعض المتأخرين لأحمد بن حنبل في قوله هذا بأن قال ما "قال" أحمد من ذلك فمعروف في اللغة لأنه يقال عق إذا قطع ومنه يقال عق والديه إذا قطعهما.

قال أبو عمر : يشهد لقول أحمد بن حنبل قول الشاعر :

بلاد بها عق الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها

يريد أنه لما شب، قطعت عنه تمائمه.

ومثل هذا قول ابن ميادة واسمه : الرماح :

بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي

وقول أحمد في معنى العقيقة في اللغة أولى من قول أبي عبيد وأترب وأصوب والله أعلم".

قال أبو عمر : في هذا الحديث : قوله  : " من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل دليل على أن العقيقة ليست بواجبة لأن الواجب لا يقال فيه من أحب فليفعله".

وهذا موضع اختلف العلماء فيه فذهب أهل الظاهر إلى أن العقيقة واجبة فرضا منهم داود بن علي وغيره واحتجوا لوجوبها بأن رسول الله أمر بها وفعلها وكان بريدة الأسلمي يوجبها وشبهها بالصلاة فقال الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس.

وكان الحسن البصري يذهب إلى أنها واجبة عن الغلام يوم سابعه فإن لم يعق عنه عق عن نفسه.

وقال الليث بن سعد : يعق عن المولود في أيام سابعه في أيها شاء فإن لم تتهيأ لهم العقيقة في سابعه فلا بأس أن يعق عنه بعد ذلك وليس بواجب أن يعق عنه بعد سبعة أيام وكان الليث يذهب إلى أنها واجبة في السبعة الأيام.

وكان مالك يقول : هي سنة واجبة يجب العمل بها وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور والطبري.

قال مالك : لا يعق عن الكبير ولا يعق عن المولود إلا يوم سابعه ضحوة فإن جاوز يوم السابع لم يعق عنه. "وقد روى عنه أنه يعق عنه في السابع الثاني".

قال : ويعق عن اليتيم ويعق العبد المأذون له في التجارة عن ولده إلا أن يمنعه سيده.

قال مالك : ولا يعد اليوم الذي ولد فيه إلا أن يولد قبل الفجر من ليلة ذلك اليوم.

وروى عن عطاء إن أخطأهم أمر العقيقة يوم السابع أحببت أن يؤخروه إلى يوم السابع الآخر.

وروى عن عائشة أنها قالت إن لم يعق عنه يوم السابع ففي أربع عشرة فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين وبه قال إسحاق بن راهويه وهو مذهب ابن وهب قال ابن وهب قال مالك بن أنس إن لم يعق عنه في يوم السابع عق عنه في السابع الثاني.

وقال ابن وهب : ولا بأس أن يعق عنه في السابع الثالث.

وقال مالك : إن مات قبل السابع لم يعق عنه وروى عن الحسن مثل ذلك.

وقال الليث بن سعد في المرأة تلد ولدين في بطن واحد أنه يعق عن كل واحد منهما.

قال أبو عمر : ما أعلم عن أحد من فقهاء الأمصار خلافا في ذلك والله أعلم.

وقال الشافعي : لا يعق المأذون له المملوك عن ولده ولا يعق عن اليتيم كما لا يضحى عنه.

وقال الثوري : ليست العقيقة بواجبة، وإن صنعت فحسن.

وقال محمد بن الحسن : هي تطوع كان المسلمون يفعلونها فنسخها ذبح الأضحى فمن شاء فعل ومن شاء لم يفعل.

وقال أبو الزناد : العقيقة من أمر المسلمين الذين كانوا يكرهون تركه.

قال أبو عمر : الآثار كثيرة مرفوعة عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين في استحباب العمل بها وتأكيد سنتها ولا وجه لمن قال إن ذبح الأضحى نسخها.

واختلفوا في عدد ما يذبح عن المولود من الشياه في العقيقة عنه فقال مالك يذبح عن الغلام شاة واحدة وعن الجارية شاة الغلام والجارية في ذلك سواء والحجة له ولمن قال بقوله في ذلك ما حدثناه عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله عق عن الحسن والحسين كبشا، كبشا.

وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن فاطمة ذبحت عن حسن وحسين كبشا كبشا وكان عبد الله بن عمر يعق عن الغلمان والجواري من ولده شاة شاة وبه قال أبو جعفر محمد بن علي بن حسين كقول مالك سواء.

وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة وهو قول ابن عباس وعائشة وعليه جماعة أهل الحديث وحجتهم في ذلك ما حدثناه أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه قال حدثنا قاسم بن أصبغ، قال : حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد وحدثنا أبو عثمان سعيد بن نصر قراءة مني عليه أيضا واللفظ له قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال حدثنا الحميدي قالا جميعا حدثنا سفيان قال أخبرنا عمرو بن دينار قال أخبرني عطاء بن أبي رباح أن حبيبة بنت ميسرة الفهرية مولاته أخبرته أنها سمعت أم كرز الخزاعية تقول سمعت رسول الله قال في العقيقة " عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة".

وعند ابن عيينة أيضا في هذا الحديث إسناد آخر عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كرز حدثنيه سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الترمذي قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثني عبيد الله بن أبي يزيد قال أخبرني أبي أنه سمع سباع بن ثابت يحدث أنه سمع أم كرز الكعبية تقول سمعت رسول الله يقول " اقروا الطير على مكناتها" قالت وسمعته يقول "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثا".

هكذا قال ابن عيينة في هذا الحديث عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه وخالفه حماد بن زيد فلم يقل عن أبيه.

حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد بن زيد عن عبيد الله بن أبي يزيد عن سباع بن ثابت عن أم كرز قالت قال رسول الله " عن الغلام شاتان مثلان وعن الجارية شاة".

قال أبو داود : هذا هو الصحيح، وهم ابن عيينة فيه.

قال أبو عمر : لا أدري من أين قال هذا أبو داود وابن عيينة حافظ وقد زاد في الإسناد وله عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كرز ثلاثة أحاديث.

وحدثنا بحديث حماد بن زيد أيضا عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا مسدد قال حدثنا حماد بن زيد فذكره بإسناده حرفا بحرف

وقال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول مكافأتان : مستويتان متقاربتان.

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا داود بن قيس عن عمرو بن شعيب، "عن أبيه" عن جده، قال سئل رسول الله عن العقيقة فقال" لا أحب العقوق "فقال أي رسول الله إنما أسألك عن أحدنا يولد له المولود فقال" من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة".

قال أبو عمر : انفرد الحسن وقتادة بقولهما : إنه لا يعق عن الجارية بشيء وإنما يعق عن الغلام فقط بشاة وأظنهما ذهبا إلى ظاهر حديث سلمان مع الغلام عقيقته والى ظاهر حديث سمرة الغلام مرتهن بعقيقته.

وكذلك انفرد الحسن وقتادة أيضا بأن الصبي يمس رأسه بقطنة قد غمست في "دم العقيقة".

قال أبو عمر : أما حلق رأس الصبي عند العقيقة فإن العلماء كانوا يستحبون ذلك وقد ثبت عن النبي أنه قال في حديث العقيقة يحلق رأسه ويسمى.

وقال بعضهم في هذا الحديث وهو حديث سمرة يحلق رأسه ويدمي ولا أعلم أحدا من أهل العلم قال يدمي رأس الصبي إلا الحسن وقتادة فإنهما قالا يطلى رأس الصبي بدم العقيقة وأنكر ذلك سائر أهل العلم وكرهوه.

وحجتهم في كراهيته قول رسول الله في حديث سلمان بن عامر الضبي" وأميطوا عنه الأذى" فكيف "يجوز" أن يؤمر بإماطة الأذى عنه وأن يحمل على رأسه الأذى.

وقوله " أميطوا عنه الأذى" ناسخ لما كان عليه أهل الجاهلية من تخضيب رأس الصبي بدم العقيقة.

"روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان أهل الجاهلية إذا حلقوا رأس الصبي وضعوا دم العقيقة على رأسه بقطنه مغموسة في الدم فأمرهم رسول الله أن يجعلوا مكان الدم خلوقا

وروي عن بريده الأسلمي نحو ما روي عن عائشة في ذلك حدثناه عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن ثابت قال حدثنا علي بن الحسين قال حدثني أبي قال حدثني عبد الله بن بريده قال سمعت أبي بريده يقول كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بالزعفران.

قال أبو عمر : لا أعلم أحدا قال في حديث سمرة ويدمى مكان ويسمى إلا هماما :

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق ألتمار بالبصرة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حفص بن عمر النمري قال حدثنا همام قال حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي قال" كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويدمى "فكان قتادة إذا سئل عن الدم كيف يصنع "به"؟ قال : إذا ذبحت العقيقة أخذت "منها" صوفة، واستقبلت بها أوداجها، ثم توضع على يافوخ الصبي على رأسه ثم يغسل رأسه بعد ويحلق.

قال أبو داود : وقوله ويدمى وهم من همام وجاء تفسيره عن قتادة وهو منسوخ.

وأما تسمية الصبي فإن مالكا رحمه الله قال يسمى يوم السابع وهو قول الحسن البصري.

والحجة لهذا القول حديث سمرة "وقد ذكرناه، وهو" قوله يذبح عنه يوم سابعه ويسمى يريد والله أعلم ويسمى يومئذ.

قال مالك : إن لم يستهل صارخا لم يسم وقال ابن سيرين وقتادة والأوزاعي إذا ولد وقد تم خلقه سمي في الوقت إن شاء ويجوز أن يحتج لمن قال بهذا القول بما روي عن النبي أنه قال" ولد لي الليلة غلام فسميته بإبراهيم".

وعند مالك والشافعي وأصحابهما وهو قول أبي ثور يتقي في العقيقة من العيوب ما يتقي في الضحايا ويسلك بها مسلك الضحايا : يؤكل منها ويتصدق ويهدى إلى الجيران وروي مثل ذلك عن عائشة وعليه جمهور العلماء.

قال عطاء : إذا ذبحت العقيقة فقل باسم الله هذه عقيقة فلان، "قال" : وتطبخ وتقطع قطعا ولا يكسر لها عظم، وهو قول الشافعي في أن لا يكسر لها عظم.

وقد روي عن عائشة أنها قالت : لا تكسر عظام العقيقة.

وقال مالك وابن شهاب : لا بأس بكسر عظامها وقال ابن جريج تطبخ بماء وملح أعضاء أو قال أرابا وتهدى في الجيران والصديق ولا يتصدق منها بشيء.

حديث خامس وعشرون لزيد بن أسلـم مرسل[عدل]

مالك ، عن زيد بن أسلـم عن سعيد بن الـمسيب ، أن رسول الله نَهى عَنْ بَـيْعِ الْـحَيَوانِ بِاللَّـحْمِ .

قال أبو عمر : لا أعلـم هذا الـحديث يتصل من وجه ثابت من الوجوه عن النبـي ، وأحسن أسانـيده مرسل سعيد بن الـمسيب هذا، ولا خلاف عن مالك فـي إرساله، إلا ما حدثنا خـلف بن قاسم، حدثنا مـحمد بن عبد الله بن أحمد حدثنا أبـي حدثنا أحمد بن حماد بن سفيان الكوفـي حدثنا يزيد بن عمرو العبدي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي قال : نهى رسول الله عن بـيع اللـحم بالـحيوان.

وهذا حديث إسناده موضوع لا يصح عن مالك ولا أصل له فـي حديثه. ورواه معمر عن زيد بن أسلـم عن سعيد بن الـمسيب أن النبـي نهى عن بـيع اللـحم بالشاة الـحية. هذا لفظ حديث معمر، قال زيد بن أسلـم : نظرة ويدًا بـيد.

هكذا قال معمر عن زيد بن أسلـم. وقد اختلف الفقهاء فـي القول بهذا الـحديث وفـي معناه : فكان مالك يقول : الـمراد من هذا الـحديث تـحريم التفاضل فـي الـجنس الواحد، وهو عنده من باب الـمزابنة والغرر، لأنه لا يدري هل فـي الـحيوان مثل اللـحم الذي أعطي أو أقل أو أكثر. وبـيع اللـحم باللـحم لا يجوز متفاضلاً فكذلك بـيع الـحيوان باللـحم إذا كانا من جنس واحد والـجنس الواحد عنده : الإبل والبقر والغنم وسائر الوحش وذوات الاربع الـماكولات، هذا كله عنده جنس واحد، لا يجوز بـيع لـحمه بلـحمه إلا مثلا بمثل، وقد أجازه علـى التـحرى، ولا يجوز حيوانه بلـحمه عنده أصلا من أجل الـمزابنة.

ومن هذا الباب عنده الشيرق بالسمسم، والزيت بالزيتون، لا يجوز شيء منه علـى حال والطير كله عنده جنس واحد، والـحيتان كلها جنس واحد. وما ذكرت لك من أصله فـي بـيع الـحيوان باللـحم، هو الـمذهب الـمعروف عنه، وعلـيه أصحابه، إلا أشهب، فإنه لا يقول بهذا الـحديث. ولا بأس عنده ببـيع اللـحم بالـحيوان من جنسه وغير جنسه، حكى ذلك مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم وغيره عنه. قال ابن القاسم : من سلـم فـي دجاج فأخذ فـيها عند حلول الأجل طيرًا من طير الـماء لـم يجز، لأن طير الـماء إنما يراد للأكل لالغيره. وقال أشهب ذلك جائز، وقال الفضل بن سلـمة : كان ابن القاسم لا يجيز حي ما يقتنى بحي ما لا يقتنى لا مثلا بمثل، ولا متفاضلاً، للـحديث الذي جاء فـيه النهي عن اللـحم بالـحيوان وأجاز حي ما يقتنى بحي ما يقتنـى متفاضلاً، وأجاز حي ما لا يقتنى بحي ما لا يقتنى علـى التـحري. قال الفضل : لأنه إن كان لـحمًا، فلا بأس ببـيع بعضه ببعض علـى التـحري وإن كان حيوانًا، فهو يجوز متفاضلاً فكيف تـحريًا.

قال أبو عمر : قد قال غيره من الـمالكيـين لا يجوز التـحري فـي الـمذبوح إذا لـم يسلـخ ويجرد، ويوقف علـى ما يمكن تـحريه منه وهو الصحيح من القول فـي ذلك إن شاء الله. قال الفضل : وكان أشهب يجيز حي ما لا يقتنى بحي ما لا يقتنى، وبحي ما يقتنى متفاضلاً، فكذلك أجاز أن يأخذ فـي الدجاج والاوز طيرًا من طير الـماء.

قال أبو عمر : إذا اختلف الـجنسان فلا خلاف عن مالك وأصحابه، أنه جائز بـيع الـحيوان حينئذ باللـحم. وقال أبو حنـيفة وأبو يوسف : لا بأس باللـحم بالـحيوان من جنسه ومن غير جنسه علـى كل حال بغير اعتبار وهو قول أشهب وقال مـحمد بن الـحسن : لا يجوز إلا علـى الاعتبار.

قال أبو عمر : الاعتبار عنده نـحو التـحري عند ابن القاسم فافهم.

وقال اللـيث بن سعد والشافعي وأصحابه : لا يجوز بـيع اللـحم بالـحيوان علـى كل حال من جنسه ولا من غير جنسه، علـى عموم الـحديث.

قال أبو عمر : قال الشافعي بهذا الـحديث وإن كان مرسلاً، وأصله أن لا يقبل الـمراسيل إلا مراسيل سعيد بن الـمسيب، فإنه زعم أنه افتقدها فوجدها صحاحا، قال أبو يحيى زكرياء بن يحيى الساجي : سمعت عيسى بن شاذان يقول : ارسال سعيد بن الـمسيب عن رسول الله يوازي إسناد غيره، وقال الـمزنـي : القـياس أن يجوز، إلا أن يثبت فـيه الـحديث فلا يجوز اتباعًا للاثر وتركا للقـياس.

قال أبو عمر : فقهاء الـمدينة علـى كراهية بـيع الـحيوان باللـحم وهو العمل عندهم. ومـمن روي ذلك عنهم سعيد بن الـمسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الـحارث بن هشام وعروة بن الزبـير والقاسم بن مـحمد كلهم كانوا يحرمون بـيع اللـحم بالـحيوان عاجلاً وآجلاً.

وذكر مالك عن أبـي الزناد قال : كل من ادركت ينهي عن بـيع الـحيوان باللـحم. قال أبو الزناد : وكان يكتب ذلك فـي عهود العمال فـي زمان أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل. قال أبو الزناد : وسمعت سعيد بن الـمسيب يقول : نهي عن بـيع الـحيوان باللـحم، قال : فقلت لسعيد بن الـمسيب : أرأيت رجلاً اشترى شارفًا بعشر شياه؟ فقال سعيد إن كان اشتراها لـينـحرها فلا خير فـي ذلك.

وذكر مالك أيضًا عن داود بن الـحصين أنه سمع سعيد بن الـمسيب يقول : كان من ميسر أهل الـجاهلـية، بـيع الـحيوان باللـحم بالشاة والشاتـين. وهذا يدل علـى مذهب مالك فـي هذا الباب أنه من طريق القمار والـمزابنة والله أعلـم، لأنه ذكر الـميسر وهو القمار. قال إسماعيل بن إسحاق : وإنما دخـل ذلك فـي معنى الـمزابنة، لأن الرجل لو قال للرجل : أنا أضمن لك من جزورك هذه، أو من شاتك هذه، كذا وكذا رطلاً، فما زاد فلـي وما نقص فعلـي، كان ذلك هو الـمزابنة فلـما لـم يجز ذلك لهم، لـم يجز أن يشتروا الـجزور ولا الشاة بلـحم، لأنهم يظهرون إلـى ذلك الـمعنى.

قال : ولهذا قال سعيد بن الـمسيب : إن كان اشترى الشارف لـينـحرها، فلا خير فـي ذلك. قال إسماعيل : لأنه إذا اشتراها لـينـحرها، فكأنه اشتراها بلـحم، ولو كان لا يريد نـحرها لـم يكن بذلك بأس، لأن الظاهر أنه اشترى حيوانًا بحيوان، فوكل إلـى نـيته وأمانته.

قال أبو عمر : قد أوضحنا مذهب مالك وغيره فـي الـمزابنة فـي باب داود بن الـحصين. ومن ذهب إلـى كراهية بـيع الـحيوان بأنواع اللـحوم فالـحجة له ظاهر الـحديث، لأن حقـيقة الكلام أن يكون علـى عمومه، ويحمل علـى ظاهره، إلا أن يزيحه عن ذلك دلـيل يجب التسلـيم لـمثله. وروي عن ابن عباس فـي هذا روايتان : أحداهما إجازة بـيع اللـحم بالشاة، والثانـية كراهية ذلك، وهو الأشهر عنه.

وروي عن ابن عباس أيضًا أن جزورا نـحرت علـى عهد أبـي بكر الصديق، فقسمت علـى عشرة أجزاء، فقال رجل أعطونـي جزءا بشاة، فقال أبو بكر : لا يصلـح هذا. قال الشافعي : ولا أعلـم مخالفًا من الصحابة لأبـي بكر فـي ذلك.

وروى الثوري أيضًا عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن الـمسيب أنه كره أن يباع حي بميت ـ يعنـي الشاة الـمذبوحة بالقائمة. قال سفيان : ولا نرى به بأسًا ـ ذكره عبد الرزاق عن الثوري.

قال أبو عمر : جملة مذهب مالك فـي هذا الباب أن الأزواج الثمانـية وهي : الإبل، والبقر، والضأن، والـمعز، وكذلك الـجواميس، والظباء، وحمر الوحش، وكل ذي أربع مـما يجوز أكله، كل ذلك صنف واحد، لا يجوز حيوان منه بلـحم بعضه علـى حال، ولا لـحم بعضه ببعض إلا مثلا بمثل. ولـحوم الطير كلها صنف واحد : الأوز، والبط، والدجاج، والنعام، والـحدأ، والرخم، والنسور، والعقبان، والغراب، والـحمام، والـيمام، وكل ذي ريش من طير الـماء وطير البر، لا يجوز حي ذلك كله بمذبوح شيء منه علـى حال، ولا يجوز لـحم شيء منه بشيء من الـجنس الـمذكور، إلا مثلاً بمثل، ويجوز علـى التـحري.

قال ابن عبد الـحكم : لا يجوز التـحري إلا فـيما قل مـما يدرك ويلـحقه التـحري. وأما ما كثر فلا يجوز فـيه التـحري لأنه لا يحاط بعلـمه. ويجوز لـحم الطير بحي الأنعام، وذوات الأربع يدًا بـيد، وإلـى أجل إذا كان الـمذبوح معجلاً قد حسر عن لـحمه وعرف، وكانت القنـية تصلـح فـي الـحي منهما وأما ما يستـحيى ويقتنى من الـجنسين جميعًا، فلا بأس بواحد منه باثنـين يدًا بـيد، فإذا اختلف الـجنسان جازا لأجل.

هذا كله هو الـمشهور من مذهب مالك وأصحابه، إلا أشهب علـى ما ذكرت لك وعلـى مذهب الشافعي لا يجوز حي بميت من جميع اللـحوم والـحيوان وعلـى مذهب أبـي حنـيفة ذلك كله جائز وله حجج كثـيرة من طريق الاعتبار تركت ذكرها.

حديث سادس وعشرون لزيد بن أسلم مرسل[عدل]

وهو أول حديث من مراسيل عطاء بن يسار :

مالك، عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار قال " جاء رجل إلى رسول الله فسأله عن وقت صلاة الصبح قال فسكت عنه رسول الله حتى إذا كان من الغد صلى الصبح "حين طلع الفجر، ثم صلى الصبح" من الغد بعد أن أسفر، ثم قال : أين السائل عن وقت الصلاة؟ قال : هأنذا يا رسول الله، فقال : ما بين هذين وقت".

قال أبو عمر : لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث كما رواه يحيى سواء وقد يتصل معناه من وجوه شتى من حديث أبي موسى الأشعري وحديث جابر وحديث عبد الله بن عمرو وحديث بريدة الأسلمي إلا أن في هذه الأحاديث كلها سؤال السائل رسول الله عن مواقيت الصلوات جملة وإجابته إياه في الصبح بمثل "معنى" حديث مالك هذا.

وقد روى أنس بن مالك عن النبي مثل حديث عطاء بن يسار هذا سواء في صلاة الصبح وحدها لم يشرك معها غيرها رواه جماعة عن حميد الطويل عن أنس منهم حماد ابن سلمة وغيره أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي أن أباه أخبره قال أخبرنا أحمد بن خالد قال أخبرنا علي بن عبد العزيز قال أخبرنا حجاج بن منهال قال أخبرنا حماد بن سلمة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك " أن رجلا سأل النبي عن وقت صلاة الفجر فقال صلها معنا غدا فصلاها النبي بغلس فلما كان اليوم الثاني أخر حتى أسفر ثم قال أين السائل عن وقت هذه الصلاة فقال الرجل أنا يا نبي الله فقال النبي أليس قد حضرتها معنا أمس واليوم قال بلى قال فما بينهما وقت".

وحدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد، قال أخبرنا محمد بن معاوية قال أخبرنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا علي بن حجر قال أخبرنا إسماعيل، قال حدثنا حميد عن أنس" أن رجلا أتى النبي فسأله عن وقت صلاة الغداة فلما أصبحنا من الغد أمر حين انشق الفجر أن تقام الصلاة فصلى بنا فلما كان من الغد أسفر ثم أمر فأقيمت الصلاة فصلى بنا ثم قال أين السائل عن وقت الصلاة ما بين هذين وقت".

وهذا إسناد صحيح متصل بلفظ حديث عطاء بن يسار ومعناه

وقد روي من حديث جابر عن النبي مثله

وبلغني أن سفيان بن عيينة حدث بهذا الحديث عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أنس بن مالك عن النبي وما أدري كيف صحة هذا عن سفيان وأما الحديث عن زيد ابن أسلم فالصحيح فيه أنه من مرسلات عطاء والله أعلم

وفي هذا الحديث من الفقه تأخير البيان عن وقت السؤال إلى وقت آخر يجب فيه فعل "ذلك، إذا كان لعلة جائز عند أكثر أهل العلم".

وأما تأخير البيان عن حين تكليف الفعل والعمل حتى ينقضي وقته فغير جائز عند الجميع وهذا باب طال فيه الكلام بين أهل النظر من أهل الفقه فمن أجاز تأخير البيان في هذا الباب احتج من جهة الأثر بهذا الحديث وما أشبهه وبقوله في حجته خذوا عني مناسككم. "والمناسك" لم تتم إلا في أيام، وقد كان يمكنه أن يعلمهم ذلك قولا في مدة أقرب من مدة تعليمه إياهم عملا وكذلك قد كان قادرا على أن يبين للسائل ميقات تلك الصلاة وسائر الصلوات بقوله في مجلسه ذلك ولكنه أخر ذلك ليبين ذلك له عملا ولم يمتنع من ذلك لما يخاف عليه من احترام المنية لأن الله عز وجل قد كان أنبأه والله أعلم أنه لا يقبضه حتى يكمل به الدين ويبين للأمة على لسانه ما يتوصل به إلى معرفة الأحكام وكذلك فعل ولله الحمد كثيرا.

وقد يكون البيان بالفعل أثبت أحيانا فيما فيه عمل من القول وقد قال ليس الخبر كالمعاينة. رواه ابن عباس عن النبي ، ولم يروه "غيره والله أعلم".

ومعلوم أن الصدر الأول لم يخبروا بما سمعوا من الأخبار ضربة واحدة بل كانوا يخبرون بالشيء على حسب الحال ونزول النوازل وكذلك الأخبار المستفيضة أيضا لم تقع ضربة واحدة والكلام في هذا الباب يطول جدا وليس هذا موضعه وفيما لوحنا به منه كفاية وتنبيه إن شاء الله تعالى.

وفي هذا الحديث أيضا أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر وإن وقتها ممدود إلى آخر الإسفار حتى تطلع الشمس.

فأما أول وقتها، فلا خلاف بين علماء المسلمين أنه طلوع الفجر على ما في هذا الحديث وغيره وهو إجماع فسقط الكلام فيه والفجر هو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المستنير المنتشر تسميه العرب الخيط الأبيض قال الله عز وجل : {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} يريد بياض النهار من سواد الليل.

قال أبو دؤاد الأيادي :

فلما أضاءت لنا سدفة ... ولاح من الصبح خيط أنارا

وقال آخر :

قد كاد يبدو أو بدت تباشره ... وسدف الليل البهيم ساتره

وقد سمته أيضا الصديع، ومنه قولهم : أنصدع الفجر.

قال بشر بن أبي خازم، أو عمرو بن معدي كرب :

به السرحان مفترشا يديه ... كأن بياض لبته الصديع

وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال :

إذا ما الليل كان الصبح فيه ... أشق كمفرق الرأس الدهين

ويقولون للأمر الواضح : هذا كفلق الصبح، وكانبلاج الفجر، وتباشير الصبح.

قال الشاعر : .

فوردت قبل انبلاج الفجر ... وابن ذكاء كامن في كفر

وذكاء : الشمس، فسمي الصبح ابن ذكاء. والكفر : ظلمة الليل، ويقال لليل كافر، لتغطيته الأشياء بظلمته.

وأما آخر وقتها فكان مالك فيما حكى عنه ابن القاسم يقول : آخر وقت "صلاة" الصبح الإسفار كأنه ذهب إلى هذا الحديث لأنه صلاها في اليوم الثاني حين أسفر ثم قال ما بين هذين وقت فكان ظاهر قوله أن ما عدا هذين فليس بوقت ومعنى قوله ما بين هذين وقت يريد هذين وما بينهما وقت.

وأما الشافعي، والثوري، وجمهور الفقهاء، وأهل الآثار، فإنهم قالوا : آخر صلاة الصبح أن تدرك منها ركعة قبل طلوع الشمس، وروي مثل ذلك عن مالك أيضا فبان بذلك أن قوله في رواية ابن القاسم عنه آخر وقت صلاة الصبح الإسفار أنه أراد الوقت المستحب ويوضح ذلك أيضا أنه لا خلاف عنه ولا عن أصحابه أن مقدار ركعة قبل طلوع الشمس عندهم وقت في صلاة الصبح لأصحاب الضرورات وأن من أدرك منهم ذلك لزمته الصلاة لقوله " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح".

وقيل إن هذا الحديث أيضا دليل على أن أول الوقت وآخره سواء وبهذا نزع من قال : "أن لا" فضل لأول الوقت على آخره لقوله " ما بين هذين وقت" قال بذلك قوم من أهل الظاهر وخالفهم جماعة من الفقهاء ونزعوا بأشياء سنذكر بعضها في هذا الباب إن شاء الله.

والذي في قوله ما بين هذين وقت مما لا يحتمل تأويلا سعة الوقت وبقي التفضيل بين أوله وآخره موقوفا على الدليل.

واختلف الفقهاء في الأفضل في وقت صلاة الصبح فذهب العراقيون أبو حنيفة وأصحابه، والثوري والحسن بن حي وغيرهم إلى أن الإسفار بها أفضل من التغليس في الأزمنة كلها : في الشتاء والصيف واحتجوا بحديث رافع بن خديج وما كان مثله عن النبي في ذلك وحديث رافع يدور على عاصم بن عمر بن قتادة وليس بالقوي رواه عنه محمد بن إسحاق وابن عجلان وغيرهما :

أخبرنا أحمد بن قاسم "بن عبد الرحمن قراءة مني عليه" أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا الحرث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن ابن عجلان عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديح قال قال رسول الله أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر وهذا أحسن أسانيد هذا الحديث.

وقد رواه بقية بن الوليد عن شعبة عن داود البصري عن زيد بن أسلم، عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج عن النبي بمعناه وهذا إسناد ضعيف لأن بقية ضعيف وزيد بن أسلم لم يسمع من محمود بن لبيد.

واحتجوا أيضا بأن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود كانا يسفران بصلاة الصبح.

وكان مالك، والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي يذهبون إلى أن التغليس بصلاة الصبح أفضل وهو قول أحمد بن حنبل وداود بن علي وأبي جعفر الطبري.

والحجة لهم في ذلك" أن رسول الله كان يصلي الصبح فينصرف النساء "متلففات بمروطهن"، ما يعرفن من الغلس وأنه لم يزل يغلس بالصبح إلى أن توفي صلوات الله عليه".

حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الحميد بن أحمد حدثنا الخضر بن داود، حدثنا أبو بكر الأثرم قال قلت لأحمد بن حنبل ما معنى قوله أسفروا بالفجر فقال إذا بان الفجر فقد أسفر قلت كان أبو نعيم يقول في حديث رافع بن خديج : أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم بها فهو أعظم للأجر فقال نعم كله سواء إنما هو إذا تبين الفجر فقد أسفر.

قال أبو بكر : يقال في المرأة إذا كانت متنقبة فكشفت عن وجهها قد أسفرت عن وجهها فإنما هو أن ينكشف الفجر وهكذا بلغني عن أبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل رحمه الله.

قال أبو عمر : صح عن رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغلسون ومحال أن يتركوا الأفضل ويأتوا الدون وهم النهاية في إتيان الفضائل ولا معنى لقول من احتج بأنه لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما لأنه معلوم أن الإسفار أيسر على الناس من التغليس وقد اختار التغليس لفضله.

وجاء عنه أنه قال : "أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله فكان العفو إباحة والفضل كله في رضوان الله".

وسئل عليه السلام عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله فقال : "الصلاة في أول وقتها"

حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق "القاضي"، قال حدثنا عبد الواحد بن غياث قال حدثنا قزعة بن سويد قال حدثنا عبد الله بن عمر عن القاسم بن غنام عن بعض أمهاته عن أم فروة قالت سمعت رسول الله يقول " إن أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة لأول وقتها" وهذا أحسن أسانيد هذا الحديث وقد روي عن ابن عمر عن النبي معناه ولا يصح إسناده.

وأصح دليل على تفضيل أول الوقت مما قد نزع به ابن خواز بنداد وغيره قوله عز وجل : {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}.

فوجبت المسابقة إليها وتعجيلها وجوب ندب وفضل للدلائل القائمة على جواز تأخيرها.

ومما يدل على أن أول الوقت أفضل أيضا ما حدثناه أحمد بن قاسم بن عيسى قال حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة البغدادي "ببغداد"، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال حدثني جدي قال حدثنا يعقوب بن الوليد عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله " أن أحدكم ليصلي الصلاة "وما فاته وقتها"، ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله".

وقوله في هذا الحديث ولما فاته من وقتها دليل على أنه لم يفته وقتها كله والله أعلم لأن من حقها التبعيض.

ولا خلاف بين المسلمين أن من صلى صلاته في شيء من وقتها أنه غير حرج إذا أدرك وقتها ففي هذا ما يغني عن الإكثار ولكنهم اختلفوا في الأفضل من ذلك على ما ذكرناه ومعلوم أن من بدر إلى أداء فرضه في أول وقته كان قد سلم مما يلحق المتواني من العوارض ولم تلحقه ملامة وشكر له بداره إلى طاعة ربه.

وقد أجمع المسلمون على تفضيل تعجيل المغرب من قال أن وقتها ممدود إلى مغيب الشفق ومن قال أنه ليس لها إلا وقت واحد كلهم يرى تعجيلها أفضل.

وأما الصبح، فكان أبو بكر الصديق وعمر الفاروق يغلسان بها، فأين المذهب عنهما؟.

وبذلك كتب عمر إلى عماله أن صلوا الصبح والنجوم بادية مشتبكة وعلى تفضيل أوائل الأوقات جمهور العلماء، وأكثر أئمة الفتوى.

وسيأتي شيء من هذا "المعنى في" الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.