الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
الآيات البينات في عدم سماع الأموات
عند الحنفية السادات
  ► ◄  
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله محيي الأموات ومعيد الرفات ومجازيهم على المعاصي ومثيبهم على الطاعات والسامع من الداعين خفي الأصوات الذي لا يخفى عليه شيء في الأرضين والسموات.

والصلاة والسلام على من كان تكليم الجماد له إحدى المعجزات وعلى آله وصحبه أصحاب الكرامات الباهرات.

أما بعد، فإني في شهر رمضان عام خمس وثلثمائة وألف من هجرة من أنزل عليه القرآن تفصيلا لكل شئ وتبيانا ذكرت في مجلس درسي العام ما قالته الأئمة الأحناف الأعلام في كتبهم الفقهية وأحكامهم الشرعية من عدم سماع الموتى كلام الأحياء وأن من حلف لا يكلم زيدا فكلمه وهو ميت لا يحنث، وعليه فتوى العلماء. فأشاع بعض من انتسب إلى العلم من غير إدراك لما حرروه ولا فهم أن هذا العزو غير صحيح وأنه قول منكر مغاير للشرع الرجيح وأنه لم يعتقد ذلك أحد من أصحاب الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فاتبعه أتباع كل ناعق من أفراد الجهلة والعوام والمرجفون في مدينة السلام. فأحببت للنصيحة في الدين ولتبيان ما أتى في الكتاب المبين وتعليم إخواني المسلمين أن أجمع في هذه الرسالة أقوال أصحابنا الأحناف وما قاله غيرهم من الأئمة والفقهاء الأشراف وأن أحرر ما قالوه وأنقل من كتبهم ما سطروه بعباراتهم المفصلة ونصوصهم المطولة وأدلتهم المحبرة وأجوبتهم المحررة، ليتضح للعامة ما جهلوه ويظهر للمعاندين صواب ما أخطأوه. ورتبتها على ثلاثة فصول وخاتمة جامعة إن شاء الله تعالى للمعقول والمنقول وللنزاع حاسمة، وسميتها الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات. والله سبحانه المسئول أن يوفقنا للصواب ويرزقنا استماع الحق واتباعه في المبدأ والمآب أمين.

الفصل الأول في نقل كلام الأئمة الحنفية في ذلك

قال العلامة الحَصَكَفي الحنفي في كتابه الشهير بالدر المختار شرح تنوير الأبصار في باب اليمين في الضرب والقتل وغير ذلك ما لفظه:

ما شارك الميت فيه الحي يقع اليمين فيه على الحالتين الموت والحياة وما اختص بحالة الحياة وهو كل فعل يلذ ويؤلم ويغم ويسر كشتم وتقبيل تقيد بها، ثم فرع عليه: فلو قال إن ضربتك أو كسوتك أو كلمتك أو دخلت عليك أو قبلتك تقيد كل منها بالحياة حتى لو علق بها طلاقا أو عتقا لم يحنث بفعلها في ميت، بخلاف الغسل والحمل والمس وإلباس الثوب كحلفه لا يغسله أو لا يحمله لا تتقيد بالحياة. انتهى.

وقال محشيه العلامة الطحطاوي ما لفظه:

قوله أو كلمتك إنما تقيد بالحياة لأن المقصود من الكلام الإفهام والموت ينافيه لأن الميت لا يسمع ولا يفهم، وأورد أنه عليه الصلاة والسلام قال لأهل القليب قليب بدر: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها؟ فقال النبي : «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم». وأجيب عنه بأنه غير ثابت يعني من جهة المعنى وإلا فهو في الصحيح وذلك أن عائشة رضي الله عنها ردته بقوله تعالى {وما أنت بمسمع من في القبور} {إنك لا تسمع الموتى} وقوله من جهة المعنى ينظر ما المراد به فإن ظاهره يقتضي ورود اللفظ عن الشارع وأن المعنى لا يستقيم وفيه ما فيه. وأجيب أيضا بأنه إنما قاله عليه الصلاة والسلام على وجه الموعظة للأحياء لا لإفهام الموتى كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين أما نساؤكم فنكحت وأما أموالكم فقسمت وأما دوركم فقد سكنت فهذا خبركم عندنا فما خبرنا عندكم. ويرده أن بعض الأموات رد عليه بقوله الجلود تمزقت والأحداق قد سالت ما قدمنا ما لقينا وما أكلنا ربحنا وما خلفنا خسرنا، أو كلاما نحو هذا كما في بعض شراح الجامع الصغير. وأيضا ورد عنه عليه الصلاة والسلام: «إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا». كمال. وفي النهر أحسن ما أجيب به أنه كان معجزة له انتهى.

وقال شيخ مشائخنا العلامة ابن عابدين في حاشيته على الكتاب المذكور ما لفظه:

وأما الكلام فلأن المقصود منه الإفهام والموت ينافيه، ولا يرد ما في الصحيح من قوله لأهل قليب بدر: «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟» فقال عمر رضي الله عنه: أتكلم الميت يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم أو من هؤلاء». فقد أجاب عنه المشايخ بأنه غير ثابت يعني من جهة المعنى وذلك لأن عائشة رضي الله تعالى عنها ردته بقوله تعالى {وما أنت بمسمع من في القبور} و {إنك لا تسمع الموتى} وأنه إنما قاله على وجه الموعظة للأحياء وبأنه مخصوص بأولئك تضعيفا للحسرة عليهم وبأنه خصوصية له عليه الصلاة والسلام معجزة. لكن يشكل عليهم ما في مسلم: «إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا». إلا أن يخصوا ذلك بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال جمعا بينه وبين الآيتين فإنه شبه فيهما الكفار بالموتى لإفادة بعد سماعهم وهو فرع عدم سماع الموتى، هذا حاصل ما ذكره في الفتح هنا وفي الجنائز. ومعنى الجواب الأول أنه وإن صح سنده لكنه معلول من جهة المعنى بعلة تقتضي عدم ثبوته عنه عليه الصلاة والسلام وهي مخالفته للقرآن فافهم. انتهى كلام ابن عابدين عليه الرحمة.

ولنذكر كلام إمام الحنفية ابن الهمام في فتح القدير حاشية الهداية فإنه قال في باب الجنائز على قوله ولقّن الشهادة لقوله عليه الصلاة والسلام: «لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله»، والمراد الذي قرب من الموت، ما نصه:

قوله والمراد الذي قرب من الموت مثل لفظ القتيل في قوله عليه الصلاة والسلام: «من قتل قتيلا فله سلبه» وأما التلقين من بعد الموت وهو في القبر فقيل يفعل لحقيقة ما روينا ونسب لأهل السنة والجماعة وخلافه إلى المعتزلة وقيل لا يؤمر به ولا ينهى عنه، ويقول: "يا فلان بن فلان اذكر دينك الذي كنت عليه في دار الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". ولا شك أن اللفظ لا يجوز إخراجه عن حقيقته إلا بدليل فيجب تعيينه وما في الكافي من أنه إن كان مات مسلما لم يحتج إليه من بعد الموت وإلا لم يفد يمكن جعله الصارف يعني أن المقصود منه التذكير في وقت تعرض الشيطان وهذا لا يفيد بعد الموت وقد يختار الشق الأول والاحتياج إليه في حق التذكير لتثبُّت الجنان للسؤال فنفي الفائدة مطلقا ممنوع، نعم الفائدة الأصلية منتفية وعندي أن مبنى ارتكاب هذا المجاز هنا عند أكثر مشايخنا رحمهم الله تعالى هو أن الميت لا يسمع عندهم على ما صرحوا به في كتاب الإيمان في باب اليمين بالضرب لو حلف لا يكلمه فكلمه ميتا لا يحنث لأنها تنعقد على ما بحيث يفهم والميت ليس كذلك لعدم السماع، وورد عليه قوله في أهل القليب: «ما أنتم بأسمع منهم». وأجابوا تارة بأنه مردود من عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كيف يقول عليه الصلاة والسلام ذلك والله تعالى يقول {وما أنت بمسمع من في القبور} و {إنك لا تسمع الموتى} وتارة بأن تلك خصوصية له صلى الله تعالى عليه وسلم معجزة وزيادة حسرة على الكافرين وتارة بأنه من ضرب المثل كما قال علي رضي الله تعالى عنه. ويشكل عليهم ما في مسلم: «إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا». اللهم إلا أن يخصوا ذلك بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال جمعا بينه وبين الآيتين فإنهما تفيدان تحقيق عدم سماعهم، فإنه تعالى شبه الكفار بالموتى لإفادة تعذر سماعهم وهو فرع عدم سماع الموتى، إلا أنه على هذا ينبغي التلقين من بعد الموت لأنه يكون حين إرجاع الروح فيكون حينئذ لفظ موتاكم في حقيقته، وهو قول طائفة من المشايخ، أو هو مجاز باعتبار ما كان نظرا إلى أنه الآن حي إذ ليس معنى الحديث إلا من في بدنه الروح، وعلى كل حال هو محتاج إلى دليل آخر في التلقين حالة الاحتضار إذ لا يراد الحقيقي والمجازي معا ولا مجازيان وليس يظهر معنى يعم الحقيقي والمجازي حتى يعتبر مستعملا فيه ليكون من عموم المجاز للتضاد وشرط إعماله فيهما أن لا يتضادا. انتهى كلام العلامة ابن الهمام.

وقال أيضا العلامة الشيخ أحمد الطحطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح للشرنبلالي شرح نور الإيضاح في باب أحكام الجنائز على قول الشارح "قال المحقق ابن همام وحمل أكثر مشايخنا إياه على المجاز أي من قرب من الموت مبناه على أن الميت لا يسمع عندهم" ما نصه:

قوله مبناه على أن الميت لا يسمع عندهم على ما صرحوا به في كتاب الإيمان لو حلف لا يكلمه فكلمه ميتا لا يحنث لأنها تنعقد على من يفهم والميت ليس كذلك لعدم السماع قال الله تعالى {وما أنت بمسمع من في القبور} {إنك لا تسمع الموتى} وهو يفيد تحقيق عدم سماع الموتى إذ هو فرعه انتهى كلام الشرنبلالي والطحطاوي.

وقال العلامة العيني في شرح الكنز في باب اليمين في الضرب والقتل وغير ذلك بعد قول الماتن "وكلمتك تقيد بالحياة" ما لفظه:

لأن الضرب هو الفعل المؤلم ولا يتحقق في الميت والمراد في الكلام الإفهام وأنه يختص بالحي. انتهى.

ومثله في البحر ونصه: لأن المقصود من الكلام الإفهام والموت ينافيه.

وقال العلامة ابن ملك في مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار الجامع بين الصحيحين في قوله عليه الصلاة والسلام «إنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا»:

وفيه دلالة على حياة الميت في القبر لأن الإحساس بدون الحياة ممتنع عادة وهل ذلك بإعادة الروح أولا ففيه اختلاف العلماء فمنهم من يقول بتلك وتوقف أبو حنيفة في ذلك. انتهى بلفظه.

فتبين من تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار وحاشيته للطحطاوي ولابن عابدين ومن فتح القدير والهداية ومن مراقي الفلاح وحاشيته وشروح الكنز ومن سائر المتون المبينة على المفتي به من قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه ومشايخ المذهب أن الميت لا يسمع بعد خروج روحه كما قالت عائشة وتبعها طائفة من أهل العلم والمذاهب الأخرى، وأن الحنفية لم يحكوا خلافا في حكمهم هذا عن أحد من علماء المذهب ولم يحنثوا الحالف كما فصلنا. وهو المطلوب ولله الحمد.

وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد هذه الأقوال في الفصل الثاني والثالث فانتظرهما ولا تغفل.

تتمة [في التلقين بعد الدفن]

اعلم أن مسألة التلقين قبل الموت لم نعلم فيها خلافا، وأما بعد الموت وهي التي تقدم ذكرها في الهداية وغيرها فاختلف الأئمة والعلماء فيها فالحنفية لهم فيها ثلاثة أقوال.

الأول أنه يلقن بعد الموت لعود الروح للسؤال.

والثاني لا يلقن.

والثالث لا يؤمر به ولا ينهى عنه.

وعند الشافعية يلقن كما قال ابن حجر في التحفة:

ويستحب تلقين بالغ عاقل أو مجنون سبق له تكليف ولو شهيدا كما اقتضاه إطلاقهم بعد تمام الدفن لخبر فيه وضعفه اعتضد بشواهد على أنه من الفضائل فاندفع قول ابن عبد السلام إنه بدعة انتهى.

وأما عند الإمام مالك نفسه فمكروه. قال الشيخ علي المالكي في كتابه كفاية الطالب الرباني لختم رسالة ابن أبي زيد القيرواني ما لفظه:

وأرخص بمعنى استحب بعض العلماء هو ابن حبيب في القراءة عند رأسه أو رجليه أو غيرهما ذلك بسورة يس لما روي أنه قال: "ما من ميت يقرأ عند رأسه سورة يس إلا هون الله تعالى عليه". ولم يكن ذلك أي ما ذكر من القراءة عند المحتضر عند مالك رحمه الله تعالى أمرا معمولا وإنما هو مكروه عنده وكذا يكره عند تلقينه بعد وضعه في قبره. انتهى.

وأما الحنبلية فعند أكثرهم يستحب. قال الشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني الحنبلي في شرح دليل الطالب ما لفظه:

واستحب الأكثر تلقينه بعد الدفن انتهى.

واستفيد منه أن غير الأكثر من الحنابلة يقول بعدم التلقين بعد الموت أيضا.

وأما الظاهرية فالظاهر من كلام أبي محمد بن حزم الذي هو من أجل العلماء الظاهرية عدم التلقين أيضا كما سيأتي في الفصل الثالث فلا تغفل.

الفصل الثاني في النقل عمن وافق الأئمة الحنفية في عدم السماع من علماء المذاهب الثلاثة وغيرهم

قال الإمام النووي الشافعي رحمه الله تعالى في شرحه لصحيح مسلم في باب عرض مقعد الميت من الجنة في الكلام على قوله في قتلى بدر: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» ما عبارته:

قال المازري قال بعض الناس الميت يسمع عملا بظاهر هذا الحديث، ثم أنكره المازري وادعى أن هذا خاص في هؤلاء انتهى المقصود منه بلفظه.

وأنت تعلم أن المازري من أجل العلماء المالكية المتقدمين. وسيأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث نقل الزرقاني المالكي عن الباجي والقاضي عياض الإمامين المالكيين القول أيضا بعدم السماع فليحفظ.

وقال الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في كتابه البحور الزاخرة في أحوال الآخرة ما عبارته:

وأنكرت عائشة رضي الله تعالى عنها سماع الموتى وقالت ما قال رسول الله : «إنهم ليسمعون الآن ما أقول» إنما قال: «ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم أنه حق» ثم قرأت قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى} {وما أنت بمسمع من في القبور} قال الحافظ ابن رجب: وقد وافق عائشة على نفي سماع الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء ورجحه القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنا في كتابه الجامع الكبير واحتجوا بما احتجت به وأجابوا عن حديث قليب بدر بما أجابت به عائشة رضي الله تعالى عنها وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي دون غيره وهو سماع الموتى لكلامه. وفي صحيح البخاري قال قتادة: أحياهم الله تعالى -يعني أهل القليب- حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما. وذهب طوائف من أهل العلم إلى سماع الموتى كلام الأحياء في الجملة انتهى ما هو المقصود منه.

فتبين منه أن طائفة من العلماء وافقوا عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا على عدم السماع وأن منهم القاضي أبو يعلى الذي هو من أكابر العلماء الحنبلية كما هو مذهب أئمتنا الحنفية رحمهم الله تعالى.

وفي روح المعاني:

واحتج من أجاز السماع في الجملة بما رواه البيهقي والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال: "أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى فزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم أحد عليهم إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة". وأجاب المانعون أن تصحيح الحاكم غير معتبر. وأنا إن سلمنا صحته نلتزم القول بأن الموتى الذين لا يسمعون هم من عدا الشهداء لأن الشهداء يسمعون في الجملة لامتيازهم على سائر الموتى بما أخبر عنهم من أنهم أحياء عند الله عز وجل. واحتجوا أيضا بحديث: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه". وأجاب المانعون أن الحافظ ابن رجب تعقبه وقال: إنه ضعيف بل منكر. انتهى باقتصار من تفسير سورة الروم.

وفي صحيح البخاري في باب دعاء النبي على كفار قريش وهلاكهم يوم بدر من حديث هشام عن أبيه قال: ذكر عند عائشة رضي الله تعالى عنها أن ابن عمر رفع إلى النبي : «إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله». فقالت وهلَ إنما قال رسول الله : «إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن»، قالت وذلك مثل قوله إن رسول الله قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال: «إنهم ليسمعون ما أقول»، إنما قال: «إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق». ثم قرأت {إنك لا تسمع الموتى} {وما أنت بمسمع من في القبور} يقول حين تبوأوا مقاعدهم من النار. انتهى ما في صحيح البخاري.

فقال الحافظ ابن حجر في شرحه:

وقال السهيلي ما محصله: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك للنبي لقول الصحابة له أتخاطب أقواما قد جيفوا فأجابهم، قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين وذلك إما بآذان رؤوسهم على قول الأكثر أو بآذان قلوبهم، قال: وقد تمسك بهذا الحديث من يقول إن السؤال يتوجه على الروح والبدن، ورده من قال إنما يتوجه على الروح فقط بأن الإسماع يحتمل أن يكون لأذن الرأس ولأذن القلب فلم يبق فيه حجة. قلتُ: إذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي لم يحسن التمسك به في مسألة السؤال أصلا. وقد اختلف أهل التأويل في المراد بالموتى في قوله تعالى {إنك لا تسمع الموتى} وكذلك المراد ب {من في القبور} فحملته عائشة على الحقيقة وجعلته أصلا احتاجت معه إلى تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»، وهذا قول الأكثر. وقيل هو مجاز والمراد ب {الموتى} وب {من في القبور} الكفار، شبهوا بالموتى وهم أحياء والمعنى: من هم في حال الموتى أو في حال من سكن القبر، وعلى هذا لا يبقى في الآية دليل على ما نفته عائشة رضي الله تعالى عنها والله تعالى أعلم. انتهى ما قاله الحافظ ابن حجر بلفظه.

وقال أيضا في شرح البخاري في باب ما جاء في عذاب القبر من كلام طويل ما نصه:

وقال ابن التين: لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية لأن الموتى لا يسمعون بلا شك لكن إذا أراد الله تعالى إسماع ما ليس من شانه السماع لم يمتنع كقوله تعالى {إنا عرضنا الأمانة} الآية وقوله تعالى {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها} الآية. وسيأتي في المغازي قول قتادة إن الله تعالى أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه عليه الصلاة والسلام توبيخا ونقمة. انتهى. وقد أخذ ابن جرير وجماعة من الكرامية من هذه القصة أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط وأن الله تعالى يخلق فيه إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم. وذهب ابن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد. وخالفهم الجمهور فقال تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث. إلى أن قال ابن حجر: إن المصنف -يعني البخاري- أشار إلى طريق من طرق الجمع بين حديثي ابن عمر وعائشة بحمل حديث ابن عمر على أن مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسألة وحينئذ كانت الروح قد أعيدت إلى الجسد، وقد تبين من الأحاديث الأخرى أن الكافر المسؤول يعذب، وأما إنكار عائشة فمحمول على غير وقت المسألة فيتفق الخبران. انتهى بلفظه.

وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي الشافعي في شرحه الكبير للجامع الصغير في الكلام على قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الميت إذا دفن يسمع خفق نعالهم إذا ولوا منصرفين» ما نصه:

وعورض بقوله تعالى {وما أنت بمسمع من في القبور} وأجيب بأن السماع في حديثنا مخصوص بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال. انتهى بلفظه.

وفي كتاب المفاتيح في حل المصابيح لشرف الدين الحسين بن محمد:

قوله عليه الصلاة والسلام «إنه ليسمع قرع نعالهم» أي لو كان حيا فإن جسده قبل أن يأتيه الملك ويقعده ميت لا يحس بشيء، وقوله فيقعدانه الأصل فيه أن يحمل على الحقيقة على حسب ما يقتضيه الظاهر ويحتمل أن يراد بالإقعاد التنبيه لما يسأل عنه والإيقاف عما هو عليه الصلاة والسلام بإعادة الروح إليه. انتهى.

ومما يؤيد مذهب الحنفية والموافقين لهم بعدم السماع أن الميت لو كان يسمع مطلقا لما ورد أن الروح ترجع إليه وقت المسألة في القبر ثم تذهب فافهم.

والعجب من بعض من لا فهم له ممن ينتسب إلى مذهب الإمام أبي حنيفة يُشيع عند العوام أن السماع مجمع عليه وأنه أيضا مذهب ذلك الإمام الأعظم وأصحابه ممن تأخر وتقدم بزعم أنه عليه الرحمة قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأن الحديث في سماعهم قد صح. ولم يعلم أن الحنفية قد تمسكوا كعائشة وغيرها بالآيتين وأولوا ما ورد بعد معرفتهم الحديثين. ولعل هذا المتوهم يزعم أيضا أن النكاح بلا ولي باطل في مذهب أبي حنيفة لورود الحديث الصحيح فيه، وأن الصلاة بلا فاتحة الكتاب خداج لأن الحديث الصحيح ورد أن «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، وأن الوضوء بلا نية غير صحيح لورود حديث «إنما الأعمال بالنيات» ونحو ذلك مما ذهب الإمام إلى خلافه مع وجود هذه الأحاديث المغايرة لمذهبه الواردة عليه. ولم يعلم هذا المنتسب أن الإمام وأتباعه رأوا الأحاديث المصححة المعارضة لمذهبه في كثير من المسائل فأولوها أو حفظو ما يعارضها من الآيات والأحاديث أو علموا نسخها أو تخصيصها، فلم يعملوا بها لهذه العوارض أو نحوها مما هو مفصل في محله من الكتب الأصولية والحديثية الفقهية ككتاب مختلف الآثار للإمام الطحاوي والإمام محمد بن الحسن وشرح الهداية وكتاب العقود وغير ذلك.

وكيف يسوغ لمن شم رائحة العلم وأدرك شيئا من لوامع الفهم بعد اطلاعه على عبارات الحنفية وغيرهم التي سردناها وأجوبتهم عن الآثار التي رويناها أن يقول ويشيع أن مذهب الحنفية كغيرهم سماع الموتى لقول إمامنا الأعظم إذا صح الحديث فهو مذهبي ويجري ذلك على عمومه. وهل هذا إلا مكابرة على الثابت بالعيان وإخفاء لضوء الشمس الذي تجحده العينان أو خيانة في حمل علوم الدين لمآرب خبيثة يستخف بها ضعفاء المسلمين.

[لقد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادي]

والله تعالى والمستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الفصل الثالث في حياة الأنبياء عليهم السلام البرزخية وفي أن النعيم والعذاب على الروح والبدن كما هو مذهب الجمهور من أهل السنة السنية وأن زيارة القبور أمر مشروع أيضا عند أئمتنا الحنفية

فاعلم أرشدنا الله وإياك إلى الطريق الأسلم أن المشايخ الحنفية وإن قالوا بعدم سماع الأموات كلام الأحياء إلا أنهم قالوا بأن النعيم والعذاب للروح والبدن وأن الزيارة أمر مشروع ولننقل لك من كلام العلماء في ذلك سالكين إن شاء الله تعالى أقصر المسالك.

[حياة الأنبياء البرزخية]

أما حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الحياة البرزخية التي هي فوق حياة الشهداء الذين قال الله تعالى فيهم {بل أحياء عند ربهم يرزقون} فأمر ثابت بالأحاديث الصحيحة. قال بخاري عصره شيخ مشايخنا الشيخ علي السويدي البغدادي في كتابه العقد:

أخرج أبو يعلى والبيهقي وصححه عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون». وأخرج الإمام أحمد ومسلم في صحيحه والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي قال: «مررت ليلة أسري بي على موسى قائما يصلي في قبره». قال المناوي: أي يدعو ويثني عليه ويذكره، فالمراد الصلاة اللغوية وهي الدعاء والثناء وقيل المراد الشرعية، وعليه القرطبي. ولا تدافع بين هذا وبين رؤيته إياه تلك الليلة في السماء السادسة لأن للأنبياء عليهم الصلاة والسلام مسارح أو لأن أرواح الأنبياء بعد مفارقة البدن في الرفيق الأعلى ولها إشراف على البدن وتعلق به وبهذا التعلق رآه يصلي في قبره ورآه في السماء فلا يلزم كون موسى عليه الصلاة والسلام عرج به من قبره ثم رد إليه بل ذلك مقام روحه واستقرارها وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى الأجساد، كما أن روح نبينا بالرفيق الأعلى وبدنه الشريف في ضريحه المكرم يرد السلام على من يسلم عليه الصلاة والسلام. ومن غلظ طبعه عن إدراك هذا فلينظر إلى السماء في علوها وتعلقها وتأثيرها في الأرض وحياة النبات والحيوان، إذا تأملت في هذه الكلمات علمت أن لا حاجة إلى التكلفات البعيدة التي منها أن هذا كان رؤية منام أو تمثيلا أو إخبارا عن وحي لا رؤية عين. وفي المواهب اللدنية:

اختلف في رؤية نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فحمل ذلك بعضهم على رؤية أرواحهم إلا عيسى عليه السلام فيحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام عاين كل واحد منهم في قبره في الأرض على الصورة التي أخبر بها من الموضع الذي ذكر أنه عاينه فيه فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصر والبصيرة ما أدرك به ذلك، ويشهد له رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم الجنة والنار في عرض الحائط والقدرة صالحة لكليهما. إلى آخر ما قال انتهى ما في المواهب وشرحه، وتمام البحث فيه وأن أجسام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تأكلها الأرض كما ورد بالحديث بخلاف غيرهم. وقد روي في المواهب عن أبي داود بلفظ: «إن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء». ومن خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى وكل ملكا يبلغه صلاة المصلين والمسلمين عليه الصلاة والسلام. وورد أيضا: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي فرددت عليه». فلا تغفل.

[النعيم والعذاب في القبر للروح والبدن]

وأما كون العذاب والنعيم للروح والبدن فأمر مسلم عند الجمهور، ولا ينافي عدم السماع على قول الأئمة الحنفية ومن وافقهم. فهذا النائم يرى الرؤيا فتلتذ روحه وبدنه أو تغتم روحه ويتألم ويضطرب بدنه وإذا تكلم عنده شخص وهو في تلك الحالة لا يسمع. وقد وردت به الأخبار فاعتقدته ذوو الأبصار.

قال ابن وهبان الحنفي في منظومته الشهيرة:

وحق سؤال القبر ثم عذابه ** وكل الذي عنه النبيون أخبروا

حساب وميزان صحائف نشرت ** جنان ونيران صراط ومحشر

قال شارحها ابن الشحنة: اشتمل البيتان على مسائل:

الأولى سؤال منكر ونكير وهما ملكان يدخلان القبر فيسألان العبد عن دينه ونبيه وهو مما يجب الإيمان به لأنه أمر ممكن أخبر به الصادق المعصوم والأحاديث فيها ثابتة صحيحة، أي مثل ما رواه البخاري عن أنس أن رسول الله قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا وأما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» انتهى.

الثانية عذاب القبر للكافرين وبعض عصاة المؤمنين وتنعيم أهل الطاعة في القبر بما يعلمه الله تعالى ويريده. والنصوص في ذلك صحيحة كثيرة يبلغ معناها حد التواتر. قال المصنف: "ومن أكلته السباع والحيتان فغاية أمره أن يكون بطن ذلك قبرا له" باقتصار.

نعم إن بعض العلماء ذهب إلى عدم إعادة الروح إلى البدن وقت السؤال وأن السؤال للروح فقط وكذا التعذيب أو التنعيم. ومنهم أبو محمد بن حزم الظاهري الشهير فإنه قال في كتابه الملل والنحل من كلام طويل ما لفظه:

وأيضا فإن جسد كل إنسان لا بد له من العود إلى التراب يوما كما قال عز وجل {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} فكل من ذكرنا من مصلوب أو غريق أو محرق أو أكيل سبع أو دابة بحر أو قتيل لم يقبر فإنه يعود رمادا أو رجيعا أو يتقطع فيعود إلى الأرض ولا بد وكل مكان استقرت فيه النفس إثر خروجها فهو لها قبر إلى يوم القيامة وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره قبل يوم القيامة فخطأ لأن الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا وأحيانا ثلاثا وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء عليهم السلام ك {الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} {كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه} ومن خصه نص، وكذلك قوله تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} فصح نص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده إلا إلى الأجل المسمى وهو يوم القيامة وكذا أخبر رسول الله أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا عن يمين أدم عليه السلام أرواح أهل السعادة وعن شماله أرواح أهل الشقاوة وأخبر يوم بدر إذ خاطب الموتى وأخبر أنهم قد وجدوا ما وعدهم به حقا قبل أن يكون لهم قبور فقال له المسلمون يا رسول الله أتخاطب أقواما قد جيفوا فقال : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم». فلم ينكر على المسلمين قولهم قد جيفوا وأعلمهم أنهم سامعون فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك. وأما الجسد فلا حس له قال الله عز وجل {وما أنت بمسمع من في القبور} فنفى عز وجل السمع عمن في القبور وهي الأجساد بلا شك ولا يشك مسلم في أن الذي نفى الله عز وجل عنه السمع هو غير الذي أثبت له رسول الله السمع فهذا هو الحق وأما ما خالف هذا فخلاف لله عز وجل ولرسوله ومكابرة للعقل وللمشاهدة. ولم يأت قط عن رسول الله في خبر يصح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المساءلة، ولو صح ذلك عنه لقلنا به فإذ لم يصح فلا يحل لأحد أن يقوله، وإنما انفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح في القبور إلى الأجساد المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوي تركه شعبة وغيره، وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبي وهو أحد الأئمة: ما جازت قط للمنهال بن عمرو شهادة في الإسلام على باقة بقل. وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك. وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم - لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات حدثنا إسماعيل بن إسحاق البصري نا عيسى بن حبيب حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقريء عن جده محمد بن عبد الله عن سفيان بن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يصلب فقيل له هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فمال ابن عمر إليها فعزاها وقال إن هذه الجثث ليست بشيء وإن الأرواح عند الله عز وجل فقالت أسماء: وما يمنعني وقد أهدي رأس زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. ونا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا أبو موسى محمد بن المثنى الزمن نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن أبي اسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في قول الله عز وجل {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} قال: هي التي في البقرة {وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون}. فهذا ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، ولا مخالف لهم في الصحابة رضي الله تعالى عنهم، تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله تعالى وأن الجثث ليست بشيء ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان والوفاة كذلك وهو قولنا وبالله تعالى التوفيق. وقد صح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه رأى موسى عليه السلام تلك الليلة في السماء السادسة أو السابعة، وبلا شك أنه رأى روحه وأما الجسد فموارى في التراب بلا شك فعلى هذا إن موضع كل روح يسمى قبرا له فتعذب الأرواح حينئذ وتسأل حيث هي وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن حزم بحروفه ولا تنسى توقف الإمام الأعظم في ذلك.

وقد رده العلامة ابن القيم في كتاب الروح بعد أن نقل بعضه بقوله:

قلت: ما ذكره أبو محمد فيه حق وباطل، أما قوله من ظن أن الميت يحيا في قبره فخطأ فهذا فيه إجمال. إن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي يقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص. وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ. إلى أن قال ابن القيم:

إن الروح بالبدن لها خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام:

أحدها تعلقها به في بطن الأم جنينا.

الثاني تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.

الثالث تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.

الرابع تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة.

الخامس تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا. انتهى وأطال في البحث كما هي عادته فمن أراده فليرجع اليه.

وتبين أيضا مما نقلناه عن أبي محمد بن حزم أنه موافق للحنفية أيضا في مسألة عدم سماع الموتى وإن خالفهم في غيره وهو من أجل علماء مذهب داود الظاهري المجتهد المشهور.

تتمة

قال العلامة أبو الحسن علي سيف الدين الآمدي الأشعري في كتابه أبكار الأفكار ما عبارته:

الفصل الثالث في عذاب القبر ومسألة منكر ونكير:

وقد اتفق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف وأكثرهم بعد ظهوره على إثبات إحياء الموتى في قبورهم ومسألة الملكين لهم وتسمية أحدهما منكر والآخر نكيرا وعلى إثبات عذاب القبر للمجرمين والكافرين. وذهب أبو الهذيل وبشر بن المعتمر إلى أن من ليس بمؤمن فإنه لا يسأل ويعذب فيما بعد النفختين أيضا. وذهب الصالحي من المعتزلة وابن جرير الطبري وطائفة من الكرامية إلى تجويز ذلك على الموتى في قبورهم. وذهب بعض المتكلمين إلى أن الآلام تجتمع في أجساد الموتى وتتضاعف من غير حس بها فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة. وذهب ضرار بن عمرو وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة إلى إنكار ذلك كله. وأنكر الجبائي وابنه والبلخي تسمية الملكين منكرا ونكيرا مع الاعتراف بهما وأنما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل والنكير تقريع الملكين له.

والدليل على إحياء الموتى في قبورهم قبل الحشر قوله تعالى {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} والمراد بالإماتتين ما بين الموتة التي قبل مزار القبور والموتة التي بعد مساءلة منكر ونكير، والمراد بالحياتين الحياة الأولى والحياة لأجل المساءلة على ما قاله المفسرون.

فإن قيل لا نسلم أن المراد بالإماتتين والحياتين ما ذكرتموه وما ذكرتموه عن المفسرين فهو معارض بما يناقضه من قول غيرهم من المفسرين أيضا فإنه قد قيل إن المراد بالإماتتين الموتة الأولى في أطوار النطفة قبل نفخ الروح فيها والثانية التي قبل مزار القبور والمراد بالحياتين الحياة التي قبل مزار القبور والمراد بالحياتين الحياة التي قبل مزار القبور والحياة لأجل الحشر، وليس أحد القولين أولى من الآخر بل هذا القول أولى لأنه لو كان كذلك فيكون على وفق المفهوم من قوله تعالى {وأحييتنا اثنتين} حيث يدل بمفهومه على نفي حياة ثالثة، وما ذكرتموه يلزم منه أن يكون الإحياء ثلاث مرات الإحياء الأول قبل مزار القبور والإحياء الثاني للمسألة والإحياء الثالث للحشر وهو خلاف المفهوم.

قلنا بل ما ذكرناه أولى لوجهين:

الأول أنه الشائع المستفيض بين أرباب التفسير وما ذكرتموه نقول شذوذ لا يؤبه لهم.

الثاني أنه حمل الإماتة على حالة أطوار النطفة مخالف للظاهر فإن الإماتة لا تطلق إلا بعد سابقة الحياة.

ثم إنه أطال في الأجوبة إلى أن قال في الكلام على عذاب القبر وأدلة من يقول بنفيه:

ومنها قوله تعالى حكاية عن الكفار إذا حشروا {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} فإنه دليل على أنهم لم يكونوا معذبين قبل ذلك. ومنها قوله تعالى {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} وهي خلاف قول من قال بأن الميت يحيى للمسائلة ثم يموت. إلى أن قال:

والجواب: أما ما ذكروه من الشبهة الأولى فقد اختلف المتكلمون في جوابها فمنهم من قال بالتزام الثواب والعقاب في حق الموتى من غير حياة كما حكاه عن الصالحي وابن جرير الطبري وبعض الكرامية. وأما أصحابنا فقد اختلفوا فمنهم من قال ترد الحياة إلى بعض أجزاء البدن وأخصها منها بذلك والمسائلة والعذاب، وقال القاضي أبو بكر لا يبعد أن ترد الحياة وان كنا نحن لا نشعر بها كما قال صاحب السكة. انتهى، وأطال في الأجوبة فإن أردته فارجع إليه.

وتبين أيضا منه موافقة ابن جرير الطبري المجتهد وغيره للحنفية في عدم السماع، لأنه لما نفى الحياة فمن الأولى أن ينفي السماع أيضا كما لا يخفى على كل ذي فهم غير متصعب. فلا تغفل.

[زيارة القبور]

وأما مشروعية زيارة المقابر فاسمع ما قالته الأئمة الحنفية في كتبهم المرضية قال الشرنبلالي في مراقي الفلاح:

فصل في زيارة القبور.

ندب زيارتها من غير أن يطأ القبور للرجال والنساء، وقيل تحرم على النساء. والأصح أن الرخصة ثابتة للرجال والنساء فتندب لهن أيضا على الأصح. والسنة زيارتها قائما والدعاء عندها قائما كما كان يفعل رسول الله في الخروج إلى البقيع ويقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لي ولكم العافية». ويستحب للزائر قراءة سورة يس لما ورد. انتهى.

وقال محشيه الطحطاوي:

قوله للرجال ويقصدون بزيارتها وجه الله تعالى وإصلاح القلب ونفع الميت بما يتلى عنده من القرآن ولا يمس القبر ولا يقبله فإنه من عادة أهل الكتاب ولم يعهد الاستلام إلا للحجر الأسود والركن اليماني خاصة. وتمامه في الحلبي. وقال الغزالي في الإحياء: إن ذلك من عادة النصارى. قوله وقيل تحرم على النساء وسئل القاضي عن جواز خروج النساء إلى المقابر فقال لا تسأل عن الجواز والفساد في مثل هذا وإنما تسأل عن مقدار ما يلحقها من اللعن فيه. وقال بعد أسطر: إن مسألة القراءة على القبر ذات خلاف، قال الإمام: تكره لأن أهلها جيفة ولم يصح فيها شيء عنده عنه ، وقال محمد: تستحب. انتهى المقصود منه بلفظه.

قلت: وتعبير الإمام عن الميت بالجيفة مأخوذ مما رواه أبو داود مرفوعا عنه : "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله"، فافهم.

وقال أيضا: فللإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره عند أهل السنة والجماعة صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو قراءة للقرآن أو الأذكار أو غير ذلك من أنواع البر ويصل ذلك إلى الميت وينفعه. قال الزيعلي في باب الحج عن الغير. انتهى.

ومثله من أبحاث الزيارة في رد المحتار وغيره من كتب المذهب وكذا مسائل القراءة ونحوها المسطورة في كتب سائر المذاهب تركناها خشية التطويل إذ كان المقصود من تحرير هذه الرسالة بيان قول الأئمة الحنفية إن الميت لا يسمع عندهم وعند جملة من علماء المذاهب الأخر. فأثبتنا ولله الحمد صحة نقلنا عنهم وما تلقيناه منهم.

فإن قيل: إذا كان مذهب الحنفية وكثير من العلماء المحققين على عدم السماع فما فائدة السلام على الأموات وكيف صحة مخاطبتهم عند السلام.

قلت: لم أجد فيما بين يدي الآن من كتبهم جوابهم عن ذلك ولا بد أن تكون لهم أجوبة عديدة فيما هنالك. والذي يخطر في الذهن ويتبادر إلى الخاطر والفهم أنهم لعلهم أجابوا بأن ذلك أمر تعبدي وبأنا نسلم سرا في آخر صلاتنا إذا كنا مقتدين وننوي بسلامنا الحفظة والإمام وسائر المقتدين مع أن هؤلاء القوم لا يسمعونه لعدم الجهر به، فكذا ما نحن فيه، على أن السلام هو الرحمة للموتى، وننزلهم منزلة المخاطبين السامعين. وذلك شائع في العربية كما لا يخفى على العارفين فهذه العرب تسلم على الديار وتخاطبها على بعد المزار.

وبعد أن حررت هذه الكلمات رأيت في شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك في فصل جامع للوضوء في الكلام على حديث أبي هريرة أن رسول الله خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» ما لفظه:

قال الباجي وعياض: يحتمل أنهم أحيوا له حتى سمعوا كلامه كأهل القليب ويحتمل أن يسلم عليهم مع كونهم أمواتا لامتثال أمته ذلك بعده قال الباجي وهو الأظهر.

ورأيت أيضا في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح في باب الصلاة على الجنائز ما عبارته:

قوله وينوي بالتسليمتين الميت مع القوم، وجزم في الظهيرية بأنه لا ينوي الميت، ومثله لقاضي خان. وفي الجوهرة: قال في البحر: وهو الظاهر لأن الميت لا يخاطب بالسلام لأنه ليس أهلا للخطاب، قال بعض الفضلاء وفيه نظر لأنه ورد أنه كان يسلم على أهل القبور. انتهى، على أن المقصود منه الدعاء لا الخطاب. انتهى بلفظه.

وكذلك في حاشية ابن عابدين على الدر المختار.

وقال في البحر ما نصه:

وفي الظهيرية: ولا ينوي الإمام الميت في تسليمتي الجنازة بل ينوي من على يمينه في التسليمة الأولى ومن على يساره في التسليمة الثانية. انتهى. وهو الظاهر لأن الميت لا يخاطب بالسلام عليه حتى يُنوى به إذ ليس أهلا له. انتهى ما في البحر بحروفه.

فتبين لك من كلام الفقهاء المشهورين أن الميت لا ينوى بالسلام ولا يخاطب، وأن القصد بسلامه الدعاء وهذا كله مطابق لما قدمناه. والحمد لله رب العالمين.

إذا علمت ما مضى من النقول الصحيحة وأقوال أهل المذهب الحنفي وغيرهم الرجيحة تبين لك ما في الرسالة المسماة بالمحنة الوهبية من الخبط والخلط والكذب وسوء الفهم والتلبيس وإطالة اللسان على القائلين بعدم السماع بما لفظ بعضه: "فيلزم من قوله هذا أن الذي ينكر سماع الكفار يكفر لأن جاحد المعلوم من الدين بالضرورة يكفر" انتهى.

فنعوذ بالله من الخذلان وتكفير المسلمين والجدال الباطل في الدين. فافهم ما قلناه وكن من الشاكرين.

الخاتمة

ونسأل الله تعالى حسنها إذا بلغت الروح المنتهى في بيان الخلاف في مستقر الأرواح بعد مفارقتها البدن إلى يوم القيامة والبعث، ونتبعها بمسائل.

قال الحافط ابن القيم في كتاب الروح:

هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها وهي إنما تتلقى من السمع فقط، واختلف في ذلك.

فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء، اذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين ويلقاهم ربهم بالعفو عنهم. وهذا مذهب أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه الله عنهما.

[وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها.

وقالت طائفة: الأرواح على أفنية القبور].

وقال الإمام مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.

وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة.

وقال أبو عبد الله بن منده: قال طائفة من الصحابة والتابعين إن التابعين إن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت، بئر بحضرموت.

وقال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ فقال: إن الأرض التي يقول الله تعالى {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث وقال هي الأرض التي يورثها الله المؤمنين في الدنيا.

وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس.

وقالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر زمزم وأرواح الكفار ببئر برهوت.

وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين. وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن أي روحه تذهب في الأرض حيث شاءت.

وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن شماله.

وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها.

وقال أبو عمر بن عبد البر: أوراح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين على أفنية القبور. وروى عبد الله بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس يقول: «أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمر الجنة». وعن عبد الله بن عمرو: «أرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة». وفي مسلم: «في أجواف طير خضر». وقال قتادة: بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل من ثمار الجنة. وقال ابن المبارك عن ابن جريج فيما قرئ عليه عن مجاهد: ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها. وذكر معاوية بن صالح عن بن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين فقال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة تأتي ربها كل يوم تسلم عليه. وعن مجاهد: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك.

قال ابن القيم:

ولا تنافي بين هذه الأقوال الشرعية والأحاديث النبوية لأن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت. فمنها في أعلى عليين وهي أرواح الأنبياء عليهم السلام وهم متفاوتون في منازلهم. ومنها في حواصل طير ومنها من يكون محبوسا على باب الجنة ومنها من يكون مقره بباب الجنة. ومنها من يكون محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى فإنها كانت روحا سفلية. ومنها أرواح تكون في تنور الزناة وأرواح تكون في نهر الدم تسبح. وليس للأرواح شقيها وسعيدها مستقر واحد بل روح في أعلى عليين وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض. وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك فضل اعتناء عرفت حجة ذلك. ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا. إلى آخر ما قال.

والمفهوم منه أن مستقرها يتفاوت بتفاوت حال صاحبها إيمانا وكفرا وصلاحا وفسقا. وأنت تعلم اختلاف العلماء فيما قال، وما رواه الإمام مالك في الموطأ: «إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه». والله تعالى أعلم.

وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض. وهذا قول من يقول إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته. وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين. والمقصود أن عند هذا الفرقة المبطلة مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض.

وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع والكلبية إلى أبدان الكلاب والبهيمية إلى أبدان البهائم والدنية السفلية إلى أبدان الحشرات. وهذا قول التناسخية منكري المعاد وهو قول خارج عن أقوال أهل الاسلام كلهم.

قلت: وإن ما تقوله اليهود الآن قريب من هذا، فإن عندهم أن الميت تنتقل روحه إلى غيره إلى ثلاث مرات، أي تنتقل من شخص إلى آخر ثم إذا مات تنتقل إلى آخر ثم إلى ثالث، ثم إلى ما شاء الله تعالى من الأماكن على ما ذكر لي أحد علمائهم.

مسائل

الأولى هل أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا.

وجوابها على ما في كتاب الروح أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة وأرواح منعمة. فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، والأوراح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها.

الثانية هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات.

وجوابها نعم. قال الله تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} روى أبو عبد الله بن منده بسنده إلى ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله تعالى أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.

والقول الثاني في الآية إن الممسك والمرسل في الآية كلاهما توفي وفاة النوم فمن استكملت أجلها أمسكها عنده فلا يردها إلى جسدها ومن لم تستكمل أجلها ردها إلى جسدها لتستكمله.

الثالثة هل الروح تموت أم الموت للبدن وحده.

وجوابها أن الناس اختلفوا في ذلك. فقالت طائفة: تموت وتذوق الموت لأنها نفس والنفس ذائقة الموت. قالوا: وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا الله وحده، قال الله تعالى {كل من عليها فان} وقال الله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت.

وقال آخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان. قالوا وقد دل على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى في أجسادها ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب. وقال الله تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم وقد ذاقت الموت. وقد نظم أحمد بن الحسين الكندي ذلك في قوله:

تنازع الناس حتى لا اتفاق لهم ** إلا على شجب والخلف الشجب

فقيل تخلص نفس المرء سالمة ** وقيل تشرك جسم المرء في العطب

الرابعة

اختلف الناس في حقيقة الروح من سائر الطوائف وكذا اختلفوا في أنها هل النفس أو غيرها وهل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم مساكن له مودع فيه أو جوهر مجرد وهل الأمّارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم هي ثلاث أنفس وهل الروح هي الحياة أو غيرها وهل هي مخلوقة قبل الأجساد أم بعدها.

أما مسألة تقدم خلق الأرواح على الأجساد وتأخرها عنها فللعلماء فيها قولان معروفان. وممن ذهب إلى من تقدم خلقها محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم وحكاه إجماعا. وأدلتهم قوله تعالى في سورة الأعراف {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} قالوا: وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان لأرواحنا ولم تكن الأبدان حينئذ موجودة. وقوله : "إن الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام «فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»". وأجاب عن ذلك من يقول بتأخر خلق الروح عن البدن بأجوبة مطولة. والعلامة البيضاوي حمل الآية على التمثيل في تفسيره وفي شرحه للمصابيح. واستدلوا على تأخر خلقها بأدلة مفصلة منها قوله عليه الصلاة والسلام: «إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضعة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح». واستدلوا أيضا بغير هذا مما هو مفصل في كتاب الروحين روح المعاني لوالدنا المبرور نور الله تعالى روضته والروح لابن القيم فراجعهما إن شئت.

أما الكلام على بقية المسائل فقد قال ابن القيم:

والذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدله العقل والفطرة أنه جسم حادث مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي هذا الجسم اللطيف متشابكا لهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإدارة، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول الآثار فارق الروح البدن وانفصل بأمر الله تعالى إلى عالم الأرواح. قال الله تعالى {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}.

وإن أردت استقصاء أبحاثها فعليك بكتاب الروح فإنه يهب لك روحا وينيلك فيما ترجوا نجحا. وإن شئت أن ترد قالا وقيلا فتذكر قوله تعالى {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [هذا] وأصخ بفكرك نحو ما قلته وتدبر جميع ما زبرته وتأمله تأمل طالب للحق غير كاتم للقول الصدق. ولا تنظر بعين الحاسد فتُلفى لضوء الشمس جاحد. إذ لم يبق والفضل لله سبحانه مجال لإنكار المكابرين ولا حجة بعد هذا للمعاندين وغير المطلعين.

فلنكتف بهذا المقدار لئلا يطول الكتاب على ذوي الأنظار، ويكفي لكل ذي رأي سديد من القلادة ما أحاط بالجيد، ولا سيما وقد تكفلت بتفصيل هذه المسائل كتب العلماء المتقدمين والأئمة المحققين الأفاضل. والله سبحانه الهادي إلى صوب الصواب والمسمع للجماد كلام الأحياء إذا شاء كما أسمع سارية كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.

والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على جميع الأنبياء والمرسلين وعلى أشرفهم نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين الطيبين الطاهرين.


*
*

قلت: جاء في آخر الأصل المطبوع عنه ما نصه:

وقد كملت هذه الرسالة تأليف شيخنا العلامة الحبر البحر الفهامة فريد عصره ووحيد مصره مؤيد سنة سيد المرسلين وقامع المبتدعين خاتمة المحققين مولانا السيد نعمان خير الدين أفندي آلوسي زاده رئيس المدرسين ببغداد حماه الله تعالى من كيد الحساد وأدام به نفع العباد آمين في 8 ربيع الثاني سنة 1329.

وهو يشعر بأنه منقول عن أصل نسخ في حياة المؤلف رحمه الله تعالى.