ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الرابع/الباب التاسع والثلاثون (3)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


مثال ذلك: أن الشدة والإسكار لو كانا علة لتحريم لكانت الخمر حراماً مذ خلقها الله تعالى، فالخمر لم تزل مذ خلقها الله تعالى شديدة مسكرة، وقد كانت حلال في الإسلام سنين، وهي على الصفة هي الآن لم تبدل، ولا حدثت لها حال لم تكن قبل ذلك فبطل بهذا أن تكون الشدة علة التحريم، كما أن الباري تعالى جعل النارية علة الإحراق وتصعيد الرطوبات، فلا تزال كذلك أبداً، حاشا ما خص عز وجل منها من نار إبراهيم الخليل عليه السلام، ولم تزل كذلك مذ خلقها تعالى حتى في جهنم، أعاذنا الله تعالى منها: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } . قال أبو محمد: فتفسخوا تحت هذا السؤال، وتضوروا منه، لأنه صحيح لا مخرج منه البتة. فقال بعضهم: إنما تكون العلة علة إذا جعلها الله تعالى علة. قال أبو محمد: وهذا ترك منهم لقولهم في العلل جملة، وترك منهم للقياس ورجوع إلى النص، وإذ قد راجعوا إلى هذا فلم يبق بيننا وبينهم إلا تسميتهم الحكم علة فقط، فلو قالوا: لا يجب الحكم إلا إذا نصه الله عز وجل لوافقونا البتة، ولكنهم تعلقوا باسم العلة، لأنه مشترك، ليرجعوا من قريب إلى تخليطهم، وليتعدوا النص إلى ما لا نص فيه، وهذا ما لا يسوغونه. وبالله تعالى التوفيق.

وقال بعضهم: هذا خبر الواحد هو حجة في إيجاب العمل، وليس حجة في إيجاب العلم، فلا تنكروا علينا كون الشيء علة في مكان، وغير علة في مكان آخر. فيقال له وبالله تعالى التوفيق: هذا تمويه منكم، لا تتخلصون به مما ألزمناكم إياه لأننا لم ننكر نحن عليكم أن يكون الشيء حجة في مكانه وبابه، وغير حجة فيما ليس بمكانه ولا ببابه، وإنما أنكرنا عليكم أن يكون ما ادعيتموه علة حجة موجبة للحكم في بعض مكانها وبابها بغير نص، وغير حجة في سائر بابها، وبعض أماكنها من غير نص أيضاً فهذا الذي أنكرنا عليكم لا ما سواه. وأما خبر الواحد المسند من طريق العدول فهو حجة في إيجاب العمل أبداً إذا كان عن النبي عند جميعنا، ثم اختلفنا، فقالت طائفة منهم: ومنه ما لا يضطر إلى العلم فهو غير موجب للعلم أبداً، وما كان منه يضطر إلى العلم بأسباب معروفة فيه فهو موجب للعلم أبداً.

وقالت طائفة: هو موجب للعلم أبداً إذا كان عن رسول الله فبطل تشبيههم للعلة بالخبر. قال أبو محمد: واحتج عليهم من سلف من أصحابنا فقالوا: ما تقولون في إنسان قال في حياته أو عند موته: أعتقوا عبدي ميموناً لأنه أسود، وله عبيد سود كثير، أتعتقونهم لعلة السواد الجامعة لهم، والتي جعلها علة في عتق ميمون قياساً على ميمون؟ أم لا تعتقون منهم أحداً حاشا ميمون وحده، فإن قلتم: نعتقهم، نقضتم فتاويكم، وخالفتم الإجماع، وإن قلتم. لا نعتقهم تركتم القول بإجراء العلل وبالقياس وعدتم إلى قولنا. قال أبو محمد: وهذا إلزام صحيح، ونحن نزيده بياناً فنقول، وبالله تعالى التوفيق: إن رسول الله قال لأمراء سراياه: «إِذَا نَزِلْتُمْ بِأَهْلِ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ أَرَادُوا أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ الله تَعَالَى فَلاَ تَفْعَلُوا، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَتُوافِقُونَ حُكْمِ الله تَعَالَى فِيهِمْ أَمْ لاَ، وَلَكِنْ أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ، ثُمَّ اِقْضُوا فِيهِمْ مَا شِئْتُمْ، فَإِذَا سَأَلُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةِ الله عَزَّ وَجَلَّ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلاَ تَعْطُوهُمْ ذِمَّةِ الله وَلاَ ذِمَّةِ رَسُولِهِ وَلكِنْ أَعْطُوهُمْ ذِمَّتَكُمْ، فَإِنْ تَخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ الله وَذَمَّةَ رَسُولِهِ» ، أو كلاماً هذا معناه، فهذا نص جليّ من رسول الله على أن الإقدام على نسبة شيء إلى الله تعالى بغير يقين لا يحل، وأن نسبة ذلك إلى الإنسان أهون وإن كان كل ذلك باطلاً، وقد قال رسول الله : «إِنْ كَانَ كَذِباً عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ» ، فلو جاز أن يقال بالقياس وبالفعل لكان الإقدام به على كلام الناس، وأحكامهم أولى من الإقدام به على الله عز وجل ورسوله فلما اتفقوا على أن من قال: اعتقوا عبدي سالماً لأنه أسود، وله عبيد سود أنه لا يعتق غير سالم وحده الذي نص عليه، اتقاء أن يعتقه، وخوفاً من تبديل أمر الموصي وكلامه، فإن الأولى بهم أن يتقوا الله عز وجل في قوله في النهي عن الذبح بالسن: «فَإِنَّهُ عَظْمٌ» . وفي أمره بهرق السمن إذا مات فيه الفأر، فلا يتعدوا ذلك إلى كل عظم وكل زيت وكل دهن وكل كلب وكل سنور. وفي أمره البائل في الماء الراكد الذي لا يجزي ألا يتوضأ منه ولا يغتسل، فلا يتعدوه إلى المحدِث في الماء، ولا إلى ما لم يبل فيه أصلاً، فإن الأوجب عليهم ألا ينسبوا إلى الله تعالى ولا إلى رسوله تعليلاً لم ينصا عليه، وأحكاماً لم يأذنا بها ولا ذكراها أصلاً، ولا في كلامهما ما يوجبهما البتة، ولكنهم اتقوا أن ينسبوا إلى الناس ما لا يقولون، ولم يتقوا أن ينسبوا إلى الله تعالى ورسوله ما لم يقولا، وحسبك بهذا عظيمة، نعوذ بالله منها.

وقد شغب بعضهم في هذا السؤال بأن قال: كنا نعتق سائر عبيده السودان لو أن الموصي يقول لنا بعقب قوله: اعتقوا عبدي سالماً لأنه أسود واعتبروا ــــ فكنا حينئذ نعتق كل عبد له أسود. قال أبو محمد: وهذا جواب فاسد من وجهين: أحدهما: أنه حتى لو قال ذلك ما جاز أن يعتق كل عبد له أسود، لأنه ليس قوله «اعتبروا» أولى بأن يكون معناه «قيسوا» منه بأن يكون معناه «واعتبروا بحالي التي أنا فيها فبادروا إلى طاعة ربكم ولا تخالفوا وصيتي» . وأيضاً فيلزم من أجاب بهذا الجواب الفاسد ألا يقيس على شيء من الأحكام إلا حتى يكون إلى جنب كل حديث فيه حكم أو كل آية فيها حكم، «واعتبروا واعتبروا» وهذا غير موجود في شيء من الأحكام ولا في الحديث ولا في صلة شيء من الآيات، فبطل القياس جملة بنص قوله هذا المجيب، والله تعالى الحمد.

قال أبو محمد: والسؤال باق بحسبه عليهم ونزيدهم فيه فنقول: حتى لو قال: فاعتبروا، ثم لما كان نهاراً آخر قال: «اذبحوا كبشي الفلاني، لأنه أعرج» وله كباش عرج، أيذبحون كل كبش له أعرج، من أجل قوله بالأمس في أمر عتق عبد «واعتبروا؟» . أم لا يقدمون على ذلك إلا حتى يكون عند وصيته به «واعتبروا؟» . فإن قالوا: نكتفي بقوله: «واعتبروا» مرة واحدة، خرقوا الإجماع، وهذا أمر لا يقولونه، ولو قالوه لكانوا حاكمين بلا دليل، ومدعين بلا برهان، وإن لم يقولوا بذلك فقد تركوا القياس جملة، ولزمهم طلب هذه اللفظة إلى جنب كل آية وحديث وهذا لا يجدونه أبداً.

قال أبو محمد: وقد قال بعضهم في جواب هذا السؤال، إذ تتبعنا عليهم إدخالهم في أحكام الله تعالى وحكم رسوله ما لم يأت به نص، لكن تعليلاً منهم وقياساً ثم يتحرّون تجنب مثل هذا في أقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي، فلا يتعدون نصوص أقوالهم، فقالوا: خطاب الآدميين وقد يكون فاسداً ولا حكمة فيه، وخطاب الله تعالى حكمة. قال أبو محمد: وهذا تمويه لا ينفك به من السؤال المذكور، ويقال له: أي فساد في خطاب امرىء موص في ماله بما أباحه له الله تعالى والرسول وإجماع الأمة، ولم يتعد إلى مكروه؟ فلو جاز ألا يحمل كلامه على موجبه ومفهومه خوف فساده، لما جاز تنفيذ تلك الوصية جملة خوف فسادها فلما اتفقوا معنا على تجويز تلك الوصية وحملها على ظاهرها، صح أنها حق، وبطل تمويه من رام الفرق بين ما سألناهم عنه، من حملهم كلام الناس على ظاهره ومفهومه وحملهم كلام ربهم تعالى على الكهانات بالدعاوى والظنون، وما ليس فيه ولا مفهوماً منه وقلنا لهم: فيم غلبتم ما لم يؤمن فساده وما لا حكمة فيه، من أقوال أبي حنيفة المتخاذلة، وأقوال مالك المتناقضة، وأقوال الشافعي المتعارضة، على المضمون فيه الحكمة من كلام الله تعالى وكلام رسوله ؟ حتى صرتم لا تأخذون من النصوص إلا ما وافق كلام أحد المذكورين، ولا تزالون تتحيلون في إبطال حكم ما خالف قولهم من القرآن السنة بأنواع الحيل الباردة الغثة؟ والسؤال يعد لهم لازم لا انفكاك عنه أصلاً، وبالله تعالى التوفيق.

ومما احتج به عليهم أصحابنا في إبطال العلل والقياس نهي الله تعالى الناس عن سؤالهم النبي ، وأمرهم الاقتصار على ما يفهمون مما يأمرهم به فقط، فلو كان المراد من النص غير ما سمع منه لكان السؤال لهم لازماً، ليتبينوا ويتعلموا، فلما منعوا من السؤال أيقنا أنهم إنما لزمهم ما أعلموا به فقط. فأجاب بعض أصحاب القياس فقال: إنما نهوا عن سؤال من سأل عن أبيه. قال أبو محمد: وهذا الكذب بعينه لأن نص الآية يكذب هذا القائل في قوله تعالى بعقب النهي عن السؤال: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } وبيَّن ذلك طلحة رضي الله عنه في قوله: كنا نهينا أن نسأل النبي عن شيء فكان يعجبنا أن يأتي بالرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونسمع، وقال النواس بن سمعان: أقمت بالمدينة سنة لا أهاجر، يريد لا أبايع على الهجرة، لأننا كنا إذا هاجر أحدنا لم يجز له أن يسأل النبي عن شيء أو كلاماً هذا معناه. وقد قال النبي : «أَعْظَمُ النَّاسِ جُرْماً فِي الإِسْلاَمِ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» ، وقد قال : «اتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَلَكِنْ إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» فبطل اعتراض هذا المعترض.

فصل فيما ورد في القرآن من النهي عن القول بالعلل

قال أبو محمد: ونحن موردون ــــ إن شاء الله تعالى ــــ ما في القرآن من النهي عن القول بالعلل في أحكام الله عز وجل وشرائعه، فكتاب الله تعالى هو الحق الذي يقذف بالحق عن الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ومن أبى ذلك ختمنا له الآية، وهو قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } . قال أبو محمد: قال الله تعالى: { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } فأخبر تعالى أن البحث عن علَّة مراده تعالى ضلالاً، لأنه لا بد من هذا، أو من أن تكون الآية نهياً عن البحث عن المعنى المراد، وهذا خطأ لا يقوله مسلم، بل البحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم، وعلى كل مسلم فيما يخصه فصح القول الثاني ضرورة ولا بد.

وقال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } ، وقال تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . قال أبو محمد: وهذه كافية في النهي عن التعليل جملة، فالمعلل بعد هذا عاص لله عز وجل، وبالله نعوذ من الخذلان. وقال تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .

قال أبو محمد: وقال الله تعالى حاكياً عن إِبليس إذ عصى وأبى عن السجود أنه قال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } . فصح أن خطأ آدم عليه السلام إنما كان من وجهين: أحدهما: تركه حمل نهي ربه تعالى عن الوجوب. والثاني: قبوله قول إبليس أن نهي الله عن الشجرة إنما هو لعلة كذا.

فصح يقيناً بهذا النص البيِّن أن تعليل أوامر الله تعالى معصية، وأن أول ما عصى الله تعالى به في عالمنا هذا القياس، وهو قياس إبليس على أن السجود لآدم ساقط عنه، لأنه خير منه، إذ إبليس من نار وآدم من طين، ثم بالتعليل للأوامر كما ذكرنا، وصح أن أول من قاس في الدين وعلل في الشرائع فإبليس. فصح أن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس، وأنه مخالف لدين الله تعالى، نعم ولرضاه، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين، ومن إثبات علة لشيء من الشريعة، وبالله تعالى التوفيق.

وقال الله عز وجل حاكياً عن قوم من أهل الاستخفاف أنهم قالوا إذا أمروا بالصدقة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } . قال أبو محمد: فهذا إنكار منه تعالى للتعليل، لأنهم قالوا: «لو أراد الله تعالى إطعام هؤلاء لأطعمهم دون أن يكلفنا نحن إطعامهم» . وهذا نص لا خفاء به، على أنه لا يجوز تعليل شيء من أوامره، وإنما يلزم فيها الانقياد فقط وقبولها على ظاهرها.

وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } فهم ظلموا فحرمت عليهم، ونحن نظلم فلم تحرم علينا الطيبات التي أحلت لنا، وقال : «إِنَّنَا سَنَرْكَبُ سُنَنَ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبِّ لَدَخَلْنَاهُ» فصح أننا ظلمنا كظلمهم، ولم يحرم علينا ما حرم عليهم، فبطل التعليل جملة، إذ لو كان ظلمهم علة التحريم لوجب أن يكون ظلمنا علة فينا لمثل ذلك، فلما لم يكن هذا كذلك، علمنا أن الله تعالى جعل ظلمهم سبباً لأن حرَّم عليهم ما حرم، ولم يجعل ظلمنا سبباً لأن يحرم علينا مثل ذلك، فصح أنه يفعل ما يشاء في مكان ما من أجل شيء ما، ولا يفعل ذلك في مكان آخر من أجل مثل ذلك الشيء بعينه، وهذا بطلان ما ادَّعاه خصومنا من العلل القياس نصّاً، وقال تعالى لموسى عليه السلام: {إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } . فكان كون موسى عليه السلام بالوادي المقدس سبباً لخلع نعليه، ونحن نكون بذلك الوادي، وبكل مكان مقدس كمكة والمدينة وبيت المقدس، ولا يلزمنا خلع نعالنا، ولو كان دخول الوادي المقدس علة للخلع للزمنا ذلك. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } .

قال أبو محمد: هذه آية كافية إنه لا يحل التعليل في شيء من الدين، ولا أن يقول قائل: لم حرم هذا وأحل هذا؟ فقد صح قولنا: إن قول القائل: حرم البُر بالبُر لأنه مكيل، أو أنه مدخل، أو أنه مأكول، بدعة نعوذ بالله منها. فصل في تناقض قولهم في التعليل والقياس قال أبو محمد: ونحن نورد ــــ إن شاء الله تعالى ــــ طرفاً يسيراً من تناقضهم في التعليل، لندل بذلك عن إفساد مذهبهم، وإلا فتناقضهم لو تتبع لدخل في أزيد من ألف ورقة، ولعل الله تعالى يعيننا على تقصي ذلك في كتاب «الإعراب» إن شاء الله تعالى. فمن ذلك أن رسول الله قال: «لَعَنَ الله اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِم الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» فكان يلزمهم أن يجعلوا ما حرم أكله محرماً بيعه، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل كثير منهم يبيحون بيع الزبول ولا خلاف أن أكل الحيوان حياً كما هو محرم ولا خلاف في جواز بيع أكثره. وكذلك فعلوا في قوله في الاستحاضة، فإنه عرق، فكان يلزمهم أن يجعلوا كل عرق يسيل من الجسد في مثل حكم المستحاضة، كما جعلوا الميعان في الزيت علة لتحريمه إن مات فيه فأر قياساً على السمن، لكنهم تناقضوا في ذلك. وهذا إجماع منهم على ترك الحكم بالعلل والقياس، وهكذا يكون الباطل مرة مصحوباً ومرة متروكاً، وصح قولنا: إن ما كان سبباً في مكان نص عليه لحكم ما فلا يكون سبباً في مكان آخر لم ينص عليه لمثل ذلك الحكم.

فقالوا: معنى التعليل هو إجراء صفة الأصل في فروعه. قال أبو محمد: وهذا قول فاسد، لأن جميع أحكام الشريعة كلها أصول، فإن كانوا عنوا بذلك أن الصلاة جملة أصل جامع ثم النوازل فيها فروع إنما هي أجزاء من الصلاة، ولا تسمى أجزاء الشيء فروعاً له، لأن الفرع غير الأصل، والأجزاء ليست غير الكل. فبطل ما موَّهوا به من تقسيمهم الشريعة على فروع وأصول، وصح أن جميع أحكام الشريعة كلها سواء وأصول، ولا يوجد شيء منها إلا عن قرآن أو عن الرسول أو عن إجماع. ونص تعالى عن ألا يقرب المشركون المسجد الحرام، فقال بعضهم: إن علة ذلك تطهير المسجد الحرام منهم، فأجروا ذلك في كل مسجد، فكان يلزمهم وإذا لزم الحج إلى مكة، أن يلزم إلى المدينة لأن مسجد المدينة والمدينة عند القائلين بما ذكرنا أفضل من مسجد مكة ومن مكة، وهذا إن طردوا فيه أصولهم كفروا، فإذا ادعوا الإجماع المانع لهم من ذلك قيل لهم: لا عليكم قيسوا إيجاب جزاء الصيد بالمدينة وحرمه، فقد قال بذلك بعض التابعين من الأئمة.

وقيسوا الجزاء فيما حرم قطعة من شجر الحرم على الجزاء فيما حرم صيده من صيد الحرم، فإن لم يفعلوا فقد تناقضوا وتركوا إجراء العمل، وتركوا القياس، وتركوا أن يتعدوا النص، ولو فعلوا هذا في كل مسائلهم لاهتدوا ولنجوا من ضلال القياس وفتنته. وقالوا: إن علة الحدود الزجر والردع. قال أبو محمد: كذبوا في ذلك إذا كان ذلك لما جاز العفو في قتل النفس ولم يجز العفو في الزنى بالأمة وفي السرقة، ولو كان ذلك لما كانت السرقة أولى بوجوب حد محدود فيها من الغضب، ولا كانت الخمر أولى بذلك من لحم الخنزير ومن الربا، ولا كان الزنى أولى بذلك من القذف بالكفر، أو بترك الصلاة، ولا كان الزنى بذلك أولى من ترك الصلاة، فظهر كذب دعواهم في ذلك، والحمد لله رب العالمين.

وقالوا: إن علة القصر في الصلاة في السفر إنما هي المشقة، فلذلك حدت بيوم ويومين وثلاثة أيام، على اختلافهم في ذلك. قال أبو محمد: وهذا أمر كان ينبغي لأهل التقوى ألا يمروه على خواطرهم فكيف أن يحلوا به ويحرموا ويتركوا له قول ربهم تعالى؟ فأول ذلك الكذب البحث أن أصل القصر المشقة. ولو كان ذلك لكان المريض المدنف المثبت العلة كالمبطون، والذي به ناقض الحمى والموم والسل ممن تثقل عليه الكلمة يسمعها ويصعب عليه رد الجواب بكلمة فما فوقها، أولى بالقصر العظيم مشقة الصلاة عليه وتكلف القراءة فيها والإيماءة والتشهد صرف ذهنه إليها، من المراكب في عمارية ومعه مائة عبد يتمشى في أيام الربيع على ضياعه من روضة إلى نهر، ومن نهر إلى صيد، ومن صيد إلى نزهة، ومن كل منظر بديع إلى منظر حسن ينزل إذا شاء ويرجل إذا شاء، إلا أنه من ذلك قاصد مسافة أكثر من ثلاثة أيام من وطنه. وهذا ما لا يحيل على صبي له أدنى فهم، فكيف على من يتعاطى التحريم والتحليل، ويستدرك على ربه تعالى أشياء لم يذكرها ربه تعالى ولا رسوله ، إن هذا لهو الضلال المبين.

هذا والمريض والمسافر قد سوى الله عز وجل بينهما في الفطر في رمضان، وفي إباحة متيمم، فهلا ساوى القياسيون المعللون بينهما في قصر الصلاة للذي المريض أحوج عليه من المسافر، لأنه أكثر مشقة منه وأحوج إلى الراحة؟ فأين قياسهم وعللهم؟ ثم هلك، لو صح ما قالوه، إن العلة في قصر الصلاة مشقة السفر، وأعوذ بالله من ذلك فأي تمام للمشقة في ثمانية وأربعين ميلاً في سهل وأمن وظلال أشجار، وفي أيام الربيع في آذار وفي نيسان، ولفارس مريح قوي، على سبعة وأربعين ميلاً في أوعار وشعار، وفي حمارة القيظ في تموز، وفي خوف شديد لراجل مكدود كبير السن ضعيف الجسم؟ فأباحوا للفارس الذي ذكرنا أن يفطر في رمضان ويقصر الصلاة، ومنعوا الرجل المكدود في الوعر والحر من ذلك .

وقالوا: لا بد لـه من الصيام والإتمام، أفترى الميل الواحد هو الذي حصلت فيه المشقة؟ أو ترى نصف اليوم الذي به تمت الثلاثة هو الذي حصلت المشقة دون اليومين ونصف يوم؟. هذا لا يحتمل مثلـه إلا من اللـه تعالى، الذي لا يسأل عما يفعل، وأما نحن فنسأل، أو من رسولـه المبين مراد ربه تعالى، ثم لم يكفهم إلا أن ادعوا على العقل هذا البهتان، لأنهم عند أنفسهم أهل الحكمة في الشريعة بما توجبه عقولـهم. وقد موه بعضهم بأنه إنما تعلق في ذلك الحديث عن النبي : «لاَ تُسَافِرُ امْرَأَةٌ يَوْماً وَلَيْلَةً إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» . قال أبو محمد: إن احتجاجهم بهذا الحديث في إيجاب الفطر والقصر والقريب من تحديدهم المذكور، فليت شعري: أي شيء في منع المرأة من السفر يوماً وليلة مما يوجب القصر في يوم وليلة؟ ومشي يوم وليلة يختلف؟ ففي أيام كانون الأول لا يكمل الراحل ثلاثين ميلاً إلى الليل. وفي أيام صدر حزيران ــــ في طيب الـهواء وطول الأيام والشمس في آخر الجوزاء وأول السرطان ــــ يكمل أربعين ميلاً والركبان كذلك، والسير يختلف، فمن أين لـهم أن يجدوا اليوم والليلة بأربعة برد؟. وقد علمنا أن بين مشي شيخ ضعيف وحمار أعرج، وبين مشي العساكر، وبين مشي الرفاق، وبين مشي المسافر الراكب دابة مطيقة، وبين مشي البريد في اختلاف الأزمان، أشد الاختلاف وأعظم التباين، فكيف يستجيز ذو لب أن يجد ما يقصر فيه ويفطر بثلاثة أيام، اتو اليوم التام؟ ولا خلاف أن ما تمشيه العساكر في أربعة أيام الشتاء يمشيه البريد في يوم واحد في آخر الربيع وأول الصيف، وهذا معروف بالمشاهدة.

وأيضاً، فإن ذلك الحديث قد جاء بألفاظ شتى ففي بعضها «أكثر من ثلاثة أيام» وفي بعضها «ثلاثة أيام» وفي بعضها «ليلتين» وفي بعضها «يوم وليلة» وفي بعضها «يوم» وفي بعضها «بريد» وفي بعضها «لا تسافر» على الإطلاق دون تحديد شيء أصلاً، فبطل احتجاجهم به.

فإن تعلقوا بابن عمر وابن عباس، فقد خالفهم ابن مسعود وعائشة ودحية بن خليفة، وشرحبيل بن السمط وغيرهم من الصحابة، نعم، وابن عمر نفسه، فقد صح عنه القصر في الأميال اليسيرة جداً. وفي الميل وفي سفر ساعة. وعللوا الشفعة في الأرضين والحكم على الشريك يعتق شقصه في العبد والأمة يعتق الباقي: بأن ذلك الضرر بالشريك.

وتناقضوا في ذلك في قولهم: لا شفعة في الجوهر ولا في العبيد ولا في الحيوان ولا في الثياب ولا في السيوف، وقد علم كل ذي عقل أن الضرر في ذلك بالشركة وانتقال الملك بالصدقة أو البيع أعظم من الضرر في الأرضين. فهلا قاسوا ههنا كما قاس المالكيون الشفعة في التين والرطب على الشفعة في الأرضين خوف الضرر الداخل على الشريك؟. وهلا قاسوا هبة الشريك على بيعه؟ فيقولوا: شريكه أولى بالهبةِ لئلا يدخل عليه ضرر؟. فإن قالوا: لم يرد أن يهبه، قيل لهم: وكذلك لم يرد أن يبيع منه. فإن رجعوا إلى النص فقد امتدوا، ولزمهم ألا يقيسوا أصلاً، ولا يتعدوا حدود الله في النصوص، ولا يقيسوا الشفعة في التين والثمار ــــ دون سائر العروض على وجوبها في الأرضين والأشجار عندهم. وهلا قاسوا من حبس شقصاً له في أرض مشارعه على من أعتق شقصاً له في عبد، لاجتماعهما في الضرر؟ ولكن هكذا يفضح الباطل أهله. وكذلك يكون تناقض أهله. وهل قاسوا المعسر بعتق شقصه على الموسر بعتق شقصه، لأن الضرر في ذلك واحد، وهم يقيسون عليه كل من أتلف شيئاً فيوجبون عليه فيما عدا المكيلات والموزونات القيمة لا المثل، قالوا: نفعل ذلك قياساً على تقويم الشقص على المعتق، فهلا قوموا على المعسر إذا أعتق كما يقومون عليه فيما أتلف ويتبعه به ديناً؟. قال أبو محمد: وفيما ذكرنا كفاية، وقلما تخلو لهم مسألة من مثل ما أوردنا وبالله تعالى التوفيق.

وقال بعض حذاقهم: قد تكون علة الخصم علة لخصمه عليه في إبطال قوله.

مثال ذلك: أن يقول الحنفي والمالكي لما كان الوقوف بعرفة لا يصح إلا بمعنى آخر يقترن إليه وهو الإحرام، وجب ألا يصح الاعتكاف إلا بمعنى آخر يقترن إليه وهو الصيام، فيقول الشافعي: لما كان الوقوف بعرفة لا يقتضي الصيام، وجب أن يكون الاعتكاف لا يفتقر إلى الصيام، وعلتهم كلهم فيما ذكروا أن الوقوف بعرفة والاعتكاف لبث وإقامة في موضع مخصوص. قال أبو محمد: ومثل هذا لا يعجز أن يأتي به من استجاز الهذيان في حال صحته من البرسام ولو تتبعنا ترجيحاتهم العلل لأوردنا من ذلك مضاحك تغني عن كل ملهى وحسبنا الله ونعم الوكيل. ومن تأمل كتب متأخريهم ومناظراتهم، وتكلفهم إخراج العلل لكل حكم مختلف فيه أو مجتمع عليه في الشريعة، كان فيه نص يعرفونه أو لم يعرفوا فيه نصّاً، رأى كلاماً لا يأتي بمثله سالم لدماغ أصلاً، إلا أن يكون سالكاً سبيل المجون والسخافة ونعوذ بالله من الخذلان.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الرابع

في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (1) | في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (2) | في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (3) | في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (4) و هو باب الكلام في الاجتهاد ما هو ؟