ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني/الباب السادس والثلاثون (7)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وقد احتج بعض من قلد مالكاً بأنه المعني بقول رسول الله في إنذاره بزمان يأتي لا يوجد فيه عالم أعلم من عالم المدينة. أخبرنا عبد الله بن ربيع التميمي، عن محمد بن معاوية، عن أحمد بن شعيب، أنا علي بن محمد، ثنا محمد بن كثير، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزناد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «يَضْرِبُونَ أَكْبَادَ الإِبْلِ وَيَطْلبُونَ العِلْمَ فَلا يَجِدُونَ عَالِماً أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ المَدِينَةِ» . فقال النسائي: قوله «أبو الزناد» خطأ، إنما هو «أبو الزبير» . قال أبو محمد: وهكذا حدثناه أحمد بن عبد الله الطلمنكي، ثنا ابن مفرج قال: ثنا محمد بن أيوب الصموت، ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، ثنا عمرو بن علي، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جريح، عن أبي الزبير، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «يُوشَكُ أَنْ تُضْرَبَ أَكْبَادُ المطِيِّ فَلاَ يُوجَدُ عَالِمٌ أَعْلَمُ مِنْ عَالِمِ المَدِينَةِ» قال البزار: لم يرْوِ ابن جريج عن أبي صالح غير هذا الحديث. حدثنا أحمد بن عمر، ثنا علي بن الحسن بن فهر، أنا محمد بن علي، ثنا محمد بن عبد الله البَيِّع إجازة، أنا أبو النضر الفقيه أحمد بن محمد العنزي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا أبو مسلم، عن عبد الرحمن بن يونس المستلمي، نا معن بن عيسى، حدثني زهير أبو المنذر التميمي، ثنا عبيد الله بن عمر بن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : «يَخْرُجُ نَاسٌ مِنَ المَشْرِقِ فِي طَلَبِ العِلْمِ فَلاَ يَجِدُونَ عَالِماً أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ المَدِينَةِ» وقال عالم أهل المدينة. حدثنا أحمد بن عمر، ثنا فهر، نا ابن أحمد بن إبراهيم بن فراس، ثنا ابن الأعرابي، ثنا محمد بن إسماعيل الصوفي، ثنا علي بن المديني، ثنا سفيان بن عيينة، فذكر الحديث فقال ابن عيينة: وضعناه على مالك بن أنس، قال ابن فراس: ثنا محمد بن أحمد اليقطيني، نا محمد بن أحمد بن سلم الحراني، ثنا أبو موسى الأنصاري وذكر هذا الحديث فقال: بلغني عن ابن جريج أنه كان يقول: نرى أنه مالك بن أنس. قال أبو محمد: هذا حديث لم يقنعوا بقبيح فعلهم في التقليد، حتى أضافوا إلى ذلك الكذب على رسول الله في الصفة المذكورة في الحديث المذكور، على أن في سنده أبو الزبير وهو مدلس ما لم يقل: «حدثنا» أو: «أخبرنا» ومع ذلك فليست تلك الصفة موجودة في عصر مالك، لأنه كان في عصره ابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن الماجشون، وسفيان الثوري، والليث، والأوزاعي، وكل هؤلاء لا يمكن لمن له أقل إنصاف وعلم أن يفضله في علمه وورعه على واحد منهم، ولا في فهمه للقرآن، ولا لحديث النبي ، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وليت شعري ما الذي دلهم على أنه مالك، دون أن يقولوا إنه سعيد بن المسيب الذي كان أفقه من مالك وأفضل؟.

وذكروا عن سفيان بن عيينة أنه قال: كانوا يرونه مالكاً، قالوا: فإنما عنى سفيان بذلك التابعين. قال أبو محمد: فزادوا كذبة، وما دليلهم على أن سفيان عنى بذلك التابعين؟ لو صح عن سفيان؟ ولعله عنى بذلك مقلدي مالك من صغار أصحابه. قال أبو محمد: هذا بارد وكذب، وليت شعري أي شيء من إدراك سفيان للتابعين مما يوجب أنه عناهم بهذا القول؟ فكيف يصح عن سفيان إلا ما رويناه آنفاً من أنه ظن منه، ومثل هذا من الإقدام على القطع بالظنون لا يستسهله إلا من يستسهل الكذب، نعوذ بالله من ذلك.

ومما يوضح كذبهم في هذا على سفيان بن عيينة ما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري، ثنا أحمد بن عيسى بن إسماعيل البلوي، ثنا غندر، ثنا خلف بن القاسم الحافظ، ثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي، ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري، قال محمد بن أبي عمر: قال سفيان بن عيينة: لو سئل أي الناس أعلم؟ لقالوا سفيان، يعني الثوري، فهذا سفيان بن عيينة يقطع بأنهم كانوا يقولون سفيان أعلم الناس، فدخل في ذلك مالك وغيره. وأما الرواية عن أبي جريج فلا يدرى عمن هي، وإنما هي بلاغ ضعيف كما ترى. وبالله تعالى التوفيق. وقد ضربت آباط الإبل أيام عمر في طلب العلم حقّاً، الذي هو العلم بالحقيقة وهو القرآن وسنن رسول الله ، وهاجر الناس في خلافته إلى المدينة، متعلمين للعلم، ومتفقهين في الدين، وما كان في أقطار البلاد يومئذ أحد يقطع على أنه أعلم من عمر، لا سيما مع شهادة النبي له بالعلم والدين، وأقصى ما يمكن أن يشك، هل يساويه في العلم عليّ وعائشة ومعاذ وابن مسعود؟ وأما أن يقطع بأنهم أعلم منه جملة، فلا أصلاً. وأما الإكثار من الرأي فليس علماً أصلاً، ولو كان علماً لكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن أعلم من مالك، لأنهم أكثر فتيا ورأياً منه فإذاً ليس الرأي علماً، وإنما العلم حفظ سنن رسول الله وأقوال الصحابة والتابعين، فقد كان في عصر مالك من هو أوسع علماً منه كشعبة وسفيان، ومن هو مثله كسفيان بن عيينة والأوزاعي وهشيم وغيره، فظهر كذب من كذب في الحديث المذكور، وبالله تعالى التوفيق.

ثم لو صح، وصح أنه مالك باسمه ونسبه، لكان إنما فيه أنه لا يوجد أعلم منه قط، وليس فيه أنه لا يوجد مثله في العلم، فبطل احتجاجهم، ولم يمنع وجود مثله في العلم، وعارضهم بعض الشافعيين بما حدثناه هشام بن سعيد الخير بن فتحون قال: ثنا عبد الجبار المقرىء بمصر، نا الحسن بن الحسين النجيرمي، ثنا جعفر بن محمد الأصبهاني، نا يونس بن حبيب، نا أبو داود الطيالسي، نا جعفر بن سليمان، عن النضر بن معبد، عن الجارود، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : «لاَ تَسُبُّوا قُرَيْشاً فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلأُ الأَرْضَ عِلْماً، اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَذَقْتَ أَوَّلَهَا عَذَاباً أَوْ وَبَالاً فَأَذِقْ آخِرَهَا نَوَالاً» . فقالوا: هذه صفة الشافعي، فما ملأ الأرض علماً قرشي غيره، وحدثنا أحمد بن محمد بن الجسور قال: نا ابن أبي دليم، نا ابن وضاح، نا أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن معمر الأزهري، عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله قال: «تَعلَّمُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَلاَ تُعَلِّمُوهَا، وَقَدِّمُوا قُرَيْشاً وَلاَ تُؤَخِّرُوها. فَإِنَّ للِقُرشِيِّ قُوَّةَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ» . قال أبو محمد: وهذا حديث صحيح، أصح من حديثهم الذي شنعوا به.

وأما الحقيقة في ذلك الحديث فهي: أن الصفة التي بيَّن في ذلك الحديث لم تأت بعد هذا، إن صح الحديث المذكور، لأن الزمان إلى الآن لم تكن قط فيه البلاد عارية من عالم يضاهي علماء المدينة، فقد كان في عصر الصحابة بالعراق ابن مسعود وعلي وسليمان، وكان بالشام معاذ وأبو الدرداء، وكان بمكة ابن عباس، ولا يحل لذي ورع وعلم أن يقول: إن عمر وعائشة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت كانوا أفقه من علي وابن مسعود ومعاذ وما ابن عباس بمتأخر عمن ذكرنا. ثم أتى التابعون، فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول: إن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار كانا أفقه من عطاء والحسن وعلقمة والأسود، ثم أتى صغار التابعين، فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول: إن ربيعة والزهري وأبا الزناد كانوا أفقه من إبراهيم النخعي، وعامر والشعبي وسعيد بن جبير وأيوب السختياني وعمر بن عبد العزيز، ثم أتى عصر مالك، فكان معه ابن أبي ذئب وسفيان الثوري والأوزاعي وابن جريج والليس، وليس أحد ممن ذكرنا دونه في رواية ولا دراية ولا ورع، ثم هكذا إلى أن انقطع الفقه من المدينة جملة. واستقر في الآفاق. فإنما ذلك الحديث، إن صح، إذا قرب قيام الساعة، وأرز الإيمان إلى المدينة ومكة، وغلب الدجال على الأرض، حاشا مكة والمدينة، فحينئذ يكون ذلك، وإنما حتى الآن فلم تأت صفة ذلك الحديث، وهذا بين ظاهر. وأما الإنذار بما ذكرنا فكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم، عن أبي زيد المروزي، عن محمد بن يوسف، عن محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا إبراهيم بن المنذر، نا أنس بن عياض، حدثني عبيد الله، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْزِرُ إِلَى المَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إِلَى حُجْرِهَا» .

وكما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن رافع والفضل بن سهل الأعرج، ثنا شبابة بن سوار قال: ثنا عاصم بن محمد العمري، عن أبيه عن ابن عمر عن النبي : «إِنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ المَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا» . وكما حدثنا حمام بن أحمد، عن عبد الله بن إبراهيم، عن أبي زيد، عن الفربري، عن البخاري، ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا أبو عمرو الأوزاعي، ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك، عن النبي قال: «لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلاَّ مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ» وذكر باقي الحديث. ثم نقول لهم، هبكم، حتى لو صح الحديث المذكور، ثم لو صح أنه مالك بلا شك، أي شيء كان يكون فيه مما يوجب اتباعه دون غيره من العلماء؟ ولا شك عند أحد من نقلة الحديث في صحة الحديث المسند إلى رسول الله أنه رأى رؤيا فيها: أنه أعطي قدحاً فشرب منه حتى رأى الري يجري في أظفاره ثم ناول فضله عمر، فقيل له: يا رسول الله ما أولت ذلك فقال : «العلم» وصحة الحديث، أنه : «أُرِيَ أُمَّتَهُ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ بَعْضُهَا إِلَى الثَّدْيَيْنِ، وَعَلَى عُمَرَ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ» ؛ وأنه أخبر أن ذلك الدين فقد صح عن النبي أن عمر من أعلم أمته وأصحابه، ومن أئمتهم ديناً. ولا خلاف بين أحد المسلمين أن عمر وعليّاً وابن مسعود وعائشة. أعلم من مالك بلا شك، وليس ذلك يوجب تقليد أحد ممن ذكرنا، ولا اتباعه على جميع أقواله، كما فعلوا هم بمالك، فبطل تعلقهم بالحديث المذكور لو صح، وتأولهم فيه كذب بحت، لا يحل لأحد نسبته إلى رسول الله . وما الفرق بينهم في الإقدام وبين الشافعيين لو استحلوا أن يقولوا: إن قول رسول الله : «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هذَا الأَمْرِ بِرُّهُمْ لِبِرِّهِمْ وَفَاجِرُهُمْ لِفَاجِرِهِمْ» ــــ إن المراد بهذا هو الشافعي، لأنه قرشي النسب، فيجب أن يكون الناس تبعاً له؟ وبين الداوديين لو أنهم استحلوا فقال: إن قول رسول الله : «لَوْ أَنَّ العِلْمَ ــــ أَوْ هذَا الدِّينَ ــــ بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رَجُلٌ أَوْ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسٍ» المراد بهذا داود وأبو حنيفة، لأنهما من أبناء فارس؟ هذا على أن هذين الحديثين صحيحان لا شك في صحتهما، وحديث عالم المدينة معلول لا يصح. فإن قالوا: قد كان في قريش علماء غير الشافعي، وفي الفرس علماء غير داود وأبي حنيفة، قيل لهم: وقد كان بالمدينة علماء غير مالك بلا شك، وكان هذا استحلال للكذب على رسول الله ، لا يستجيزه ذو ورع.

قال أبو محمد: وأما احتجاجهم بقول مالك: هذا العمل ببلدنا، فهذا لا معنى له، لأن العمل بالمدينة قبل مولد مالك بثلاث وعشرين سنة لم يجز إلا بالظلم والجور والفسق، ولا وليهم إلا الفساق من عمال بني مروان، ثم عمال بني العباس كالحجاج وحبيش بن دلجة، وطارق وعبد الرحمن بن الضحاك وغيرهم ممن لا يعتد بهم. وما أدرك مالك قط بالمدينة بعقله عمل أمير ووال يقتدي به أصلاً، ولقد كان التغيير بدأ في السنن من قبل ما ذكرنا كقول مروان: ذهب ما هنالك. ودليل ما ذكرنا تركهم عمل عمر وعثمان في نصوص الموطأ، فبطل الاحتجاج بالعمل جملة، ولا يبق إلا الرواية التي رواها ثقات العلماء عن أمثالهم، إذ لم يمكن الظالمين أن يحولوا بينهم وبين ألسنتهم، كما حالوا بينهم وبين العمل، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: ومن البرهان اللائح على بطلان التقليد أن أهل العصر الأول والعصر الثاني والعصر الثالث: وهي القرون التي أثنى عليها النبي كما حدثنا عبد الله بن ربيع، عن محمد بن إسحاق بن السليم، عن ابن الأعرابي، عن أبي داود، عن مسدد وعمرو بن عون قالا: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله : «خَيْرُ أُمَّتِي القَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَالله أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لاَ، ثُمَّ يَظْهَرُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذُرُونَ ولاَ يُوفُونَ، وَيحربونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيُفْشُونَ فِيهِمُ السمن» . قال أبو محمد: وهكذا في كتابي، والصواب: يخونون ولا يؤتمنون. و «بلفظة» يخونون، رويناه من طريق مسلم، عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة، عن أبي حمزة، عن زهدم، عن عمران، عن رسول الله ــــ فكان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النبي والفقه في القرآن، ويرحلون في ذلك إلى البلاد، فإن وجدوا حديثاً عنه عملوا به واعتقدوه، ولا يقلد أحد منهم أحداً البتة، فلما جاء أهل العصر الرابع تركوا ذلك كله، وعولوا على التقليد الذي ابتدعوه ولم يكن قبلهم، فاتبع ضعفاء أصحاب أبي حنيفة أبا حنيفة، وأصحاب مالك مالكاً، ولم يلتفتوا إلى حديث يخالف قولهما، ولا تفقهوا في القرآن والسنن، ولا بالوا بهما، إلا من عصمه الله عز وجل وثبته على ما كان عليه السلف الصالح في الأعصار الثلاثة المحمودة، من اتباع السنن عن رسول الله والتفقه في القرآن وترك التقليد.

وأما أفاضل أصحاب أبي حنيفة ومالك فما قلدوهما، فإن خلاف ابن وهب وأشهب وابن الماجشون والمغيرة وابن أبي حازم، لمالك أشهر من أن يتكلف إيراده، وقد خالفه أيضاً ابن القاسم، وكذلك خلاف أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد لأبي حنيفة أشهر من أن يتكلف إيراده، وكذلك خلاف أبي ثور والمزني للشافعي رحمه الله. وكذلك خالف أصبغ وسحنون ابن القاسم، وخالف بن المواز أصبغ، وكذلك خالف محمد بن علي بن يوسف المزني في كثير، وكذلك خالف الطحاوي أيضاً أبا حنيفة وأصحابه، فإن كان النظر حقّاً فقد أخطؤوا في التقليد، وإن كان التقليد حقّاً فقد أخطؤوا النظر وترك التقليد، فقد ثبت الخطأ عليهم على كل حال، والخطأ واجب أن يجتنب. قال أبو محمد: وقد سألناهم فقلنا لهم: أنتم مقرون معنا بأن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام ينزل إذا خرج الدجال اللعين، فيدبر أهل الإسلام بملتهم لا بملة أخرى، فقالوا لنا: أبرأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أو بتقليد مالك وابن القاسم وسحنون ــــ: يحكم بين المسلمين ويقضي في الدين، ويفتي المستفتين؟ ألا إن هذا هو الضلال المبين. ولقد نكس الإسلام، وذلت النبوة، وهانت الرسالة وخزي الحق وأهله: إن كان رسول الله وروحه وكلمته يرجع تابعاً لمثل هؤلاء الذين لا يقطع لهم بنجاة، ولا يضمن ما هم عليه عند الله تعالى فلا والله، بل ما يقضي ويحكم ويفتي إلا بما أتى به أخوه في الرسالة، وصاحبه في النبوة، وقسيمه في نزول الوحي، محمد بن عبد الله ، وليبطلن الآراء الفاسدة فلا خوف من أحد. فمن أضل طريقه ممن يدين بشيء هو موقن أنه لم يكن أول الإسلام، ولا يكون عند نزول المسيح عليه السلام ومن يضلل الله فما له من هاد.

ابن فراس، نا محمد بن علي بن علي بن زيد، نا سعيد بن منصور، نا هشيم، أنا ابن أبي ليلى، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل: أن رجلاً مات وترك ابنته وابنة ابنه وأخته لأبيه وأمه، فأتوا أبا موسى الأشعري فسألوه عن ذلك فقال: لابنته النصف، والنصف الباقي للأخت، فأتوا ابن مسعود فذكروا ذلك له فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين إن أخذت بقول الأشعري وتركت قول رسول الله . فهذا ابن مسعود يسمي القول من الصاحب إذا خالف النص: ضلالاً وخلافاً للهدى. وحدثنا أحمد بن عمر، نا أبو ذر، نا عبد الله بن أحمد، نا إبراهيم بن خزيم، نا عبد بن حميد، نا أبو نعيم، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سئل حذيفة عن قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } قال: لم يكونوا يعبدونهم، ولكن إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه.

قال أبو محمد: هذه صفة المقلدين لأبي حنيفة ومالك والشافعي، ولا يحرمون إلا ما جاء عن صاحبهم تحريمه، ولا يحلون إلا ما جاءهم عن صاحبهم تحليله، نبرأ إلى الله تعالى من مثل هذا الاعتقاد، ونعوذ به منه في أحد من ولد آدم، حاشا رسول الله . حدثنا عبد الرحمن بن سلمة، نا أحمد بن خليل، نا خالد بن سعد، أخبرني أسلم بن عبد العزيز القاضي، وسعيد بن عثمان العناني قالا: نا يونس بن عبد الأعلى، نا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي . كتب إلي يوسف بن عبد الله النمري، أنا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، نا ابن وضاح، نا دحيم، نا ابن وهب، نا ابن لهيعة، عن بكير بن الأشج أن رجلاً قال للقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: عجباً لعائشة كانت تصلي في السفر أربعاً ورسول الله كان يصلي ركعتين، فقال: يا ابن أخي عليك بسنة رسول الله حيث وجدتها، فإن من الناس من لا يعاب. كتب إلي النمري: ثنا سعيد بن نصر، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن إسماعيل الترمذي، نا الحميدي، نا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه: قال عمر بن الخطاب: إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء. قال سالم: قالت عائشة: أنا طيبت رسول الله لحله قبل أن يطوف بالبيت، قال سالم: فسنة رسول الله أحق أن تتبع.

قال أبو محمد: فنحن نسألهم أن يعطونا في الأعصار الثلاثة المحمودية، عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعي التابعين، رجلاً واحداً قلد عالماً كان قبله، فأخذ بقوله كله ولم يخالفه في شيء، فإن وجدوه، ولن يجدوه والله أبداً لأنه لم يكن قط فيهم، فلهم متعلق على سبيل المسامحة، ولم يجدوه فليوقنوا أنهم قد أحدثوا بدعة في دين الله تعالى لم يسبقهم إليها أحد. وليعلموا أن عصابة من أهل العصر الرابع ابتدعوا في الإسلام هذه البدعة الشنعاء إلا من عصم الله تعالى منهم، والبدع محرمة، وشر الأمور محدثاتها، وليعلموا أن طلاب سنن رسول الله حيث كانت، والعاملين بها والمتفقهين في القرآن الذين لا يقلدون أحداً، هم على منهاج الصحابة والتابعين والأعصار المحمودة، وأنهم أهل الحق في كل عصر، والأكثرون عند الله تعالى، بلا شك، وإن قل عددهم، وبالله تعالى التوفيق. وليعلم من قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة، نعني التقليد، إنما حدثت في الناس وابتدىء بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة، وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاماً بعد وفاة رسول الله وأنه لم يكن قط في الأسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعداً على هذه البدعة، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالماً بعينه، فيتبع أقواله في الفتيا، فيأخذ بها ولا يخالف شيئاً منها، ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم، ثم لم تزل تزيد حتى عمت بعد المائتين من الهجرة عموماً طبق الأرض، إلا من عصم الله عز وجل، وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون، وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم، نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه، وألا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين، وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح.

حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، قال: نا محمد بن إسحاق بن السليم قال: نا ابن الأعرابي، عن أبي داود، نا أبو بكر بن شيبة، نا وكيع، عن الأوزاعي، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي قلابة قال: قال أبو مسعود، وهو البدري، لأبي عبد الله، وهو حذيفة، أو قال أبو عبد الله، وهو حذيفة، لأبي مسعود البدري. ما سمعت رسول الله يقول في «زعموا» ؟ قال: سمعت رسول الله يقول: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ» . وقد نص رسول الله في حديث عذاب القبر على أن المنافق أو المرتاب يقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فهذا التقليد مذموم في التوحيد، فكيف ما دونه. وقال ابن مسعود: لا تكن إمعة. فسئل: ما هو؟ فقال: الذي يقول أنا مع الناس. حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا بشار بندار، نا ابن أبي عدي، أنبأنا شعبة، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: لا يكونن أحدكم إمعة، يقول: إنما أنا مع الناس، ليوطن أحدكم نفسه إن كفر الناس ألا يكفر، وبه إلى بندار، نا محمد بن جعفر، نا شعبة قال: سمعت أبا إسحاق يقول: سمعت هبيرة وأبا الأحوص عن ابن مسعود قال: إذا وقع الناس في الشر، قل: لا أسوة لي في الشر. وبه إلى بندار قال: ثنا سعيد بن عامر، نا شعبة عن الحكم قال: ليس أحد من الناس إلا وأنت آخذ من قوله أو تارك إلا النبي . وبه إلى بندار: نا أبو داود، نا شعبة عن منصور، عن سعيد بن جبير أنه قال في الوهم: يعيد، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: ما تصنع بحديث سعيد بن جبير مع قول رسول الله ؟.

حدثنا محمد بن سعيد، عن القلعي، عن الصواف،: عن بشر بن موسى، عن الحميدي قال: قال سفيان: ما زال أمر الناس معتدلاً حتى غير أبو حنيفة بالكوفة والبتي بالبصرة، وربيعة بالمدينة. قال أبو محمد: وصدق سفيان، فإن هؤلاء أول من تكلم بالآراء، ورد الأحاديث، فسارع الناس في ذلك واستحلوه، والناس سراع إلى قبول الباطل والحق مر ثقيل. وقد أوردنا قبل هذا المكان بأوراق يسيرة أن النبي لما تلا: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } قال له عدي بن حاتم ــــ وكان قبل ذلك نصرانيّاً ــــ: يا رسول الله ما كنا نعبدهم؟ فقال له كلاماً معناه: إنهم كانوا يحرمون ما حرموا عليهم، ويحلون ما أحلوا لهم، وأخبر أن هذه هي العبادة.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثاني

في الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (1) | في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك (2) | في إبطال التقليد (1) | في إبطال التقليد (2) | في إبطال التقليد (3) | في إبطال التقليد (4) | في إبطال التقليد (5) | في إبطال التقليد (6) | في إبطال التقليد (7) | في إبطال التقليد (8) | في إبطال التقليد (9) | في إبطال التقليد (10)