ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب السابع والثلاثون (5)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فلما تركوا مذهبهم في كل ما ذكرنا، وكان قول القائل: مات زيد وزيد كاتب ومحمد رسول الله ومسيلمة كذاب، حقّاً ولم يكن في ذلك منع من أن غير زيد قد مات، وأن غير زيد كُتَّاب كثير، وأن موسى وعيسى وإبراهيم رسل الله، وأن الأسود العنسي والمغيرة الجلاح وبناتاً كذابون، بطل قول هؤلاء القوم إن الخطاب إذا ورد بصفة ما وفي اسم ما أو في زمان ما أن ما عداه بخلاف. ولا يغلط علينا من سمع كلامنا هذا، فيظن أننا إذ أنكرنا قولهم: إن غير المذكور بخلاف المذكور، إننا نقول: إن غير المذكور موافق للمذكور، بل كلا الأمرين عندنا خطأ فاحش، وبدعة عظيمة، وافتراء بغير هدى. ولكنا نقول: إن الخطاب لا يفهم منه إلا ما قضي لفظه فقط، وأن لكل قضية حكم اسمها فقط، وما عداه فغير محكوم له، لا بوفاقها ولا بخلافها لكنا نطلب دليل ما عداها من نص وارد اسمه، وحكم مسموع فيه، أو من إجماع، ولا بد من أحدهما، وبالله تعالى التوفيق.

فصل في عظيم تناقضهم في هذا الباب

قال أبو محمد: وبالجملة فإن مذهبهم في القياس، ومذهبهم في دليل الخطاب ومذهبهم في الخصوص، مذاهب يبطل بعضها بعضاً ويهدم بعضها بعضاً، وذلك أنهم قالوا في القياس: إذا نص على حكم ما فنحن ندخل ما لا ينص عليه في حكم المنصوص عليه، ونتبع السنة ما لا سنة فيه، فإذا أوجب الربا في البر بالبر أوجبناه نحن في التبن بالتبن، وإذا وجبت الكفارة، على العامد في الصيد أوجبناه نحن على المخطىء، وقالوا في دليل الخطاب: إذا نص على حكم ما فنحن نخرج ما لم ينص عليه من حكم المنصوص عليه، ولا نتبع السنة ما لا سنة فيه. فقالت طوائف منهم لا نزكي غير السائمة، لأنه ذكرت السائمة في بعض الأحاديث.

وقالت طائفة منهم: لا نأكل الخيل، لأنه إنما ذكر في الآية الركوب والزينة. وقالت طوائف منهم: لا نقضي بالمتعة إلا التي طلقت ولم تمس ولا فرض لها لأن هذه قد ذكرت بصفتها في بعض الآيات. قال أبو محمد: وهذا ضد قولهم في القياس وإبطاله. وقالوا في الخصوص: لا نقضي لجميع ما اقتضاه النص، لكن نخرج منه بعض ما يقع عليه لفظ، فقالوا في قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } إنما عنى الذكر من الأولاد دون الإناث.

وقالوا في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } : إنما عنى من الأحرار لا من العبيد، ومن الأباعد لا من الإخوة والآباء والأبناء والأزواج. وقالوا في قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } وفي قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لا قصاص من جرح إلا من الموضحة فقط ولا قصاص من متلف ولا من لطم ولا من نتف شعر.

قال أبو محمد: وهذا مذهب يبطل قولهم في القياس وفي دليل الخطاب معاً ونحن نرى إن شاء الله تعالى تناقضهم في مذاهبهم هذه في مسألة واحدة. روى المالكيون حديث القطع في ربع دينار، فقالوا: لا يستباح فرج زوجة بأقل من ربع دينار، قياساً على ما يقطع فيه يد السارق، وذكر ربع الدينار في القطع موجب ألا يكون الصداق أقل منه، ثم قالوا: لا يقطع المستعير لأنه ليس سارقاً، وذكر الله تعالى السارق موجب ألا يقطع من ليس سارقاً. ثم قالوا: من سرق شيئاً فأكله قبل أن يخرج من حرزه، وإن كان يساوي دنانير، فلا قطع عليه، فخصوا بالقطع بعض السراق دون بعض. وكذلك فعل الحنفيون سواء بسواء، إلا أنهم قالوا: لا يقطع سارق لحم ولا مصحف ولا فاكهة ولا زرنيخ. وروى محمد بن المغيرة المخزومي عن مالك: أن الإناء يغسل من ولوغ الخنزير سبعاً، قياساً على الحديث الوارد في الكلب، ثم قالوا: لا يغسل من لعاب الكلب ثوب ولا جسد، لأنه إنما ذكر في الحديث الإناء ولم يذكر غيره، ثم روى ابن القاسم عنه أنه قال: لا يهرق الإناء إلا أن يكون فيه ماء وأما غير الماء فلا يضره ولوغ الكلب.

وأما الشافعيون فأتوا إلى آية الظهار فقاسوا على الأم والأخت، وقالوا: ذكر الله تعالى الأم دليلاً على أن الأخت مثلها، ثم قالوا: ذكر الله تعالى المظاهر دليلاً على أن المرأة إذا ظاهرت من زوجها بخلاف ذلك، ثم قالوا: ومن ظاهر من أمته فلا كفارة عليه، فخصوا بعض النساء المذكورات في الآية بلا دليل، كل ذلك ومثل هذا في أقوالهم كثير، بل هو أكثر أقوالهم، وما سلم منها من التناقض إلا الأقل، وكلها يهدم بعضها بعضاً، ويدل هذا دلالة قطع على أن أقوالهم من عند غير الله تعالى، إذا ما كان من عند الله تعالى فلا اختلاف فيه ولا تعارض، وبعضه يصدق بعضاً.

فصل من تناقضهم في ذلك أيضاً

قال أبو محمد: نص الله تعالى على إيجاب الدية والكفارة في قتل المؤمن خطأ، فأوجبها القياسيون في قتل المؤمن الذمي خطأ، ولا ذكر له في الآية أصلاً، ثم اختلفوا: فطائفة أوجبت الكفارة في قتل العمد قياساً على قتل الخطأ، وطائفة منعت من ذلك، وكان تناقض هذه الطائفة أعظم، لأنهم أوجبوا الكفارة على قاتل الصيد خطأً: قياساً على قاتله عمداً، ومنعوا من الكفارة في قتل المؤمن عمداً، ولم يقيسوه على قتله خطأ، هذا وكلهم يسمع قول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } وقول رسول الله : «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» فوجب بهذين النصين ألا يؤخذ أحد بخطأ من فعله، إلا ما جاء به النص من إيجاب الكفارة على المخطىء في قتل المؤمن، وما أجمعت الأمة عليه من ضمان الخطأ في إتلاف الأموال، وأن الوضوء ينتقض بالأحداث الخارجة من المخرجين بالنسيان كالعمد فقط. ومن تناقضهم أن قالت طوائف منهم في قول النبي : «مَنْ بَاعَ نَخْلاً وَفِيهَا تَمْرٌ قَدْ أُبرَ فَهُوَ لِلبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ» فقال بعضهم: إذا ظهر، أبر أو لم يؤبر، فهو للبائع، وهذا قول أبي حنيفة، وقد كثر تناقض أصحابه في دليل الخطاب جدّاً. وقالت طوائف منهم: واجب أن تكون الرقبة في الظهار إلا مؤمنة، لأن الرقبة التي ذكرت في كفارة القتل لا تكون إلا مؤمنة، فوجب أن تكون الرقبة المسكوت عن ذكر دينها في الظهار مثل الرقبة المذكور دينها في القتل.

ثم قال بعض هذه الطائفة لما ذكر القلتين في قوله: «إِذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثاً» وجب أن يكون لها ما دون القلتين بخلاف القلتين. قال أبو محمد: فهلا قالوا في الرقبة كذلك، وأوجبوا أن يكون المسكوت عنها بخلاف المذكور دينها، كما جعلوا المسكوت عنه فيما دون القلتين بخلاف المذكور من القلتين؟ أو هلا جعلوا المسكوت عنه مما دون القلتين مثل القلتين، كما جعلوا المسكوت عن دينها في الظهار مثل المذكور دينها في القتل؟. وقالت طائفة أخرى منهم: لا يقول المأموم: سمع الله لمن حمده، لأن ذلك لم يذكر في بعض الأحاديث، ولا يقول الإمام: آمين، لأنه لم يذكر ذلك في بعض الأحاديث، وإن كان قد ذكر في غيرها، لكن يغلب المسكوت ههنا، فلا نقول إلا ما جاء في كلا الحديثين ذكره. ثم قالت: الجزية من غير أهل الكتاب، وإن كان الله تعالى لم يأمر بأخذها إلا من أهل الكتاب، وادعوا ذلك على عثمان رضي الله عنه.

قال أبو محمد: وهذا لا يصح عن عثمان أصلاً، وأول من أخذ الجزية من غير أهل الكتاب، فالقاسم بن محمد الثقفي قائد الفاسق الحجاج أخذها من عُبَّاد البُدّ من كفرة أهل السند، وأما عثمان رضي الله عنه فلم يتجاوز إفريقية وأهلها نصارى، ولا تجاوز في الشرق خراسان وفي الشمال أذربيجان وأهلها مجوس. ومن عجائبهم التي تغيظ كل ذي عقل ودين، والتي كان يجب عليهم أن يراقبوا الله تعالى في القول بها، أو يستحيوا من تقليد من أخطأ فيها، إطباقهم على أن قول الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } فليس يدخل فيه القاتل خطأ وأن القاتل خطأ بخلاف القاتل عمداً في ذلك، ثم أجمع الحنفيون والشافعيون والمالكيون على قول الله تعالى: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } إلى منتهى قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَاد فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } فقالوا كلهم: إن القاتل الصيد وهو محرم خطأ تحت هذا الحكم وهم يسمعون هذا الوعيد الشديد الذي لا يستحقه مخطىء بإجماع الأمة، فيكون في عكس الحقائق والتحكم في دين الله تعالى أعظم من هذا التلاعب في حكمين وردا بلفظ العمد، ففرقوا بينهما كما ترى؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وقالوا: ذكر الله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } فقالوا: نقيس من يظاهر بجريمته أو بشيء محرم على الأم، ونلحق المسكوت عنه بالمذكور. ثم قالوا: لا نقيس تظاهر المرأة من زوجها بتظاهره منها، ولا نلحق عنه بالمذكور ثم قالوا: نوجب الكفارة على المرأة الموطوءة نهاراً في رمضان قياساً على الرجل الواطىء في رمضان، فيلحق المسكوت عنه بالمذكور، وقد قالوا كما ذكرنا: نلحق الرقبة المسكوت عنها في الظهار بالرقبة المذكور دينها في القتل، ثم قالوا: نوجب في التعويض من الصيام في كفارة القتل إطعاماً، وإن كان قد عوض من الصيام بالإطعام في كفارة الظهار التي قسنا آنفاً رقبتها على رقبة القتل، وقاس بعضهم التيمم على الوضوء، أن لا بد من بلوغ التيمم إلى المرفقين وأبوا أن يقيسوا مسح الرأس في التيمم على مسحه في الوضوء.

وقالوا: الحكم المسكوت عنه بحكم المذكور ههنا، ثم لم يقيسوا قوله تعالى في الرجعة: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } على قوله تعالى في الدَّين: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فقالوا: هذا لا نحكم عنه للمسكوت عنه بحكم المذكور، وقالوا هنالك: نحكم للمسكوت عنه بحكم المذكور.

وأما الحنفيون فحكموا في آيتي الشهادة المسكوت عنه بحكم المذكور، فقبلوا النساء في الرجعة والطلاق والنكاح وفي آية التيمم، فأوجبوا إلى المرفقين، ولم يحكموا في رقب الظهار والقتل والكفارة للمسكوت عنه بحكم المذكور، ولا حكموا لغير السائمة بحكم السائمة، ففرقوا ههنا بين المسكوت عنه وبين المذكور، فكل طائفة منهم تحكمت في دين الله بعقولها وتقليدها الفاسد، بلا برهان. وقد احتج بعضهم عليَّ حيث وافق هواه، بأن البدل حكمه حكم المبدل منه فأعلمته بأن ذلك باطل بلغة العرب التي خوطبنا بها في القرآن والسنة، وبحكم الشريعة، أما اللغة فإن البدل على أربعة أضرب: بدل البعض من الكل، وبدل البيان، وبدل الغلط، وبدل الصفة من الموصوف، فليس في هذه الوجوه بدل يكون حكمه حكم المبدل منه إلا بدل البيان وحده، كقولك: مررت بزيد رجل صالح على أن أحدهما نكرة الآخر معرفة، وأما القرآن فقد أبدل الله تعالى من عتق رقبة الكفارة، صيام ثلاثة أيام، ومن عتق رقبة الظهار صيام شهرين متتابعين، وأبدل من عتق رقبة الكفارة إطعام عشرة مساكين، ومن هؤلاء العشرة صيام ثلاثة أيام، وأبدل من صيام الشهرين إطعام ستين مسكيناً، وأبدل تعالى من هدي المتعة صيام عشرة أيام، ومن هدي الأذى صيام ثلاثة أيام فبطل ما ادعوه.

وقالت طائفة منهم في قوله : «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» لا ينقض الوضوء إلا من مسة بباطن يده دون ظاهرها، فلم يحكموا في ذلك بكل ما يقع عليه اسم «مس». ثم قالوا في ذلك بحديث لا يصح فيه: «مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى فَرجِه فَلْيَتَوَضَّأ» . قال أبو محمد: ولو صح لما كان مانعاً من إيجاب الوضوء في مسه بغير اليد، لأنه إنما يكون في هذه الرواية التي احتجوا بها ذكر الإفضاء باليد فقط، وكان يكون في الحديث الآخر المس جملة، كما لم يكن في قوله : «مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأ» ما يوجب إسقاط الوضوء من الريح والغائط، بل كان مضافاً إليه ومجموعاً معه. ثم نقضوا هذا فقالوا في حديثين وردا: أحدهما: «إِذَا وَقَعَتِ الحُدُودِ فَلاَ شُفْعَةَ» والآخر: «إِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ» فاستعملوا كلا اللفظين ولم يجعلوهما حديثاً واحداً، بل أوجبوا قطع الشفعة بتحديد الحدود وإن لم تصرف الطرق، وقالوا: نعم إذا حدث الحدود فلا شفعة وإذا زيد في ذلك فصرفت الطرق فلا شفعة أيضاً.

قال أبو محمد: ولم يفعل ذلك الحنفيون ههنا ولكنهم قد نقضوه فيما ذكرنا آنفاً من مس الفرج، ونقضه بعضهم في حديثين رويا عن رسول الله في أحدهما: «أنه عليه السلام مسح بناصيته» ، وفي الآخر: «أنه مسح على العمامة» فقالوا: هذا حديث واحد، ولا يجزىء المسح على العمامة دون الناصية. قال أبو محمد: وهذا خلاف ما فعلوا في الشفعة مع أن كون الحديث الذي فيه ذكر الناصية غير الحديث الذي فيه ذكر العمامة، أبين من أن يحتاج فيه كلفة، لأن راوي الناصية المغيرة بن شعبة، وراوي العمامة فقط بلال وعمرو بن أبي أمية الضمري معاً، فمن ادعى أنهما حديث واحد فقد افترى وقفا ما ليس له به علم، وذلك لا يحل وقد كان ينبغي لهم أن يحكموا المسكوت عنه من المسح على الرأس المستور، بحكمهم على الرجلين المستورين كما حكموا بالمسح على الجرموقين قياساً على الخفين، وكما قاسوا المسح على الجبائر في الذراعين على المسح على الخفين في الرِّجلين، والجبائر لم يأت ذكرها في نص صحيح أصلاً، وإذا جاز عندهم تعويض المسح عليها من غسل الذراعين فتعويض المسح على العمامة من مسح الرأس أولى، لأن هذا مسح عوض من مسح، وذلك مسح عوض من غسل، وكان قياس الرأس على الرجلين، لأنهما طرفا الجسد، ولأنهما جميعاً يسقطان في التيمم: أولى من قياس الذراعين بالجبائر على الرجلين، ولكن القوم ليسوا في شيء، وإنما يقولون ما خرج إلى أفواههم دون تعقب، وقلدهم من تلاهم.

وأتوا إلى قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فتناقضوا فقالوا: هذه الآية موجبة أنه لا يقتل الحر بالعبد وليست موجبة ألا يقتل الذكر بالأنثى، أفيكون أقبح تحكماً ممن يقول: إن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} موجب ألا يقتل حر بعبد ويقولون: إن قوله تعالى: {وَالأُنثَى بِالأُنْثَى} موجباً ألا تقتل الأنثى بالذكر والذكر بالأنثى؟ وأما نحن فإن قوله : «المُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» عموم موجب عندنا قتل الحر بالعبد والعبد بالحر، والذكر بالأنثى والأنثى بالذكر، وكذلك قوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } موجب القصاص بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، فيما دون النفس، يقص فيه للحر من العبد، وللعبد من الحر، والإماء والحرائر فيما بينهن، ومع الرجال كذلك ولا قصاص لكافر من مؤمن أصلاً، لنصوص أخر ليس هذا مكان ذكرها.

وقال بعضهم: قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يدل على أن الدم الذي يكون مسفوحاً ليس حراماً. قال أبو محمد: وهم قد نسوا أنفسهم في هذه الآية، لأنه إذا كان ذكر المسفوح موجباً أن يكون غير المسفوح مباحاً، فوجب أن يكون ذكر لحم الخنزير في الآية نفسها، موجباً إباحة جلده، وشعره، وهم لا يقولون هذا، فقد تناقضوا، فإن ادعوا إجماعاً كذبوا، لأن كثيراً من الفقهاء يبيحون بيع جلده، والانتفاع به إذا دبغ والخرز بشعره، فهذا تناقض لم يبعد عنهم فينسوه. وأيضاً فإن قوله تعالى في سورة المائدة في آية منها من آخر ما نزل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } مبين أن كل دم فهو حرام ويدخل في ذلك المسفوح وغير المسفوح وهذا بيِّن وبالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث

في دليل الخطاب (1) | في دليل الخطاب (2) | في دليل الخطاب (3) | في دليل الخطاب (4) | في دليل الخطاب (5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(1) | في إبطال القياس في أحكام الدين(2) | في إبطال القياس في أحكام الدين(3) | في إبطال القياس في أحكام الدين(4) | في إبطال القياس في أحكام الدين(5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(6) | في إبطال القياس في أحكام الدين(7) | في إبطال القياس في أحكام الدين(8) | في إبطال القياس في أحكام الدين(9) | في إبطال القياس في أحكام الدين(10) | في إبطال القياس في أحكام الدين(11) | في إبطال القياس في أحكام الدين(12) | في إبطال القياس في أحكام الدين(13) | في إبطال القياس في أحكام الدين(14) | في إبطال القياس في أحكام الدين(15) | في إبطال القياس في أحكام الدين(16) | في إبطال القياس في أحكام الدين(17)