ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب الثامن والثلاثون (2)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال أبو محمد: ومن قال بقياسه فقد تعدى حدود الله، وقفاً ما لا علم به، وأخبر عن الله تعالى بما لا يعلم أحد ما عند الله تعالى إلا بإخبار من الله تعالى بذلك، وإلا فهو باطل، وقد بينا فيما خلا أن قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } إنما هو جميع أولي الأمر لا بعضهم ولم يجمعوا قط على القول بالقياس، فكيف نكون نحن مأمورين باتباعهم فيما افترقوا فيه؟. وهذا ضد أمر الله تعالى في القرآن وبرهان قاطع وهو أن الله تعالى قال: {يأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } وحدود الله تعالى هي كل ما حد وبيَّن فصح أنه ليس لأحد أن يتعدى في شيء من الدين ما حدَّه الله تعالى في القرآن، وعلى لسان رسوله بالوحي فبطل أن يحمل أولوا الأمر على تعدي حدود الله تعالى، لأنه باطل فقد اتفقنا أنهم لا يجمعون على باطل، وكل ما لم يكن من حدود الله تعالى، ووحيه فهو من عند الله ضرورة لا بد من ذلك، وقد قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } . فصح بهذه الآية أنه لا يمكن أن يكون إجماع أبداً إلا على ما جاء من عند الله تعالى بالوحي الذي لا يعلم ما عند الله تعالى إلا به، والذي قد انقطع بعد رسول الله فبطل بهذه النصوص يقيناً أن يجمعوا على غير نص صحيح. واحتجوا بقول الله تعالى في آية الكلالة: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قالوا: فأنتم تقولون: إن الميراث ههنا إنما هو بعد الدَّين والوصية، قالوا: وليس هذا في الآية فإنما قلتموه قياساً على سائر آيات المواريث التي فيها أنها بعد الوصية والدين.

قال أبو محمد: وهذا خطأ عظيم، ونعوذ بالله تعالى من أن نثبت الميراث في مواريث الإخوة بعد الوصية والدَّين من طريق القياس، وما أثبتنا ذلك إلا بنص النبي إذ كان يقدم إلى الجنازة فيسأل : «أَعَلَيْهِ دَيْنٌ ؟» فإن قيل له: «لا» صلى عليه، وإن قيل له: «نعم» سأل : «أَعَلَيْهِ وَفَاءٌ؟» فإن قيل له: «نعم» صلَّى عليه، وإن قالوا: «لا» قال : «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» ولم يصلِّ هو عليه، وبقوله : «إِنَّ الشَّهِيدَ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الدَّيْنُ» أو كلاماً هذا معناه، وقوله : «إِنَّ صَاحِبَكُمْ مُرْتَهِنٌ بِدَينِهِ» وبأمره جملة بالوصية لمن عنده شيء يوصي فيه، وبأمره بالوصية بالثلث فدون. وقال في الوصية بالثلث والنهي عن الوصية بأكثر: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِياءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً» أو كما قال فعم الورثة كلهم، ولم يخص أخاً ولا أختاً من غيرهما، فصح ضرورة ألا ميراث لأحد إلا بعد الدَّين ثم الوصية، فسقط تمويههم بذكر الآية المذكورة.

ثم نعكس عليهم هذا السؤال المذكور بعينه، فنقول لهم: إذا فعلتم أنتم ذلك في آية الكلالة قياساً على سائر المواريث، فيلزمكم أن توجبوا الإطعام في كفارة القتل لمن عجز عن الصيام والرقبة، قياساً على كفارة الظهار، وقياساً على كفارة الواطىء في نهار رمضان، ولا تفرقوا بين الأمرين، فقد ذكر الله تعالى في كلتا الآيتين عتق الرقبة ثم الصيام لشهرين متتابعين، ثم ذكر تعالى في أحدهما تعويض الإطعام من الصيام، فافعلوا ذلك في المسكوت عنه من الآية الأخرى، لا سيما وأنتم قد قستم، أو بعضكم، المسكوت عنه من دين الرقبة في الظهار على المنصوص عليه من أن تكون مؤمنة في قتل الخطأ، فما الذي جعل قياس الرقبة في الظهار على التعويض في القتل حقّاً وجعل قياس التعويض بالإطعام من الصيام في كفارة قتل الخطأ على التعويض بالإطعام من الصيام في كفارة الظهار، باطلاً؟ ولولا التخليط والموق ونعوذ بالله من الخذلان. واحتج بعضهم بأن قال: إن ثبات العشرين منّا للمائتين من الكفار منسوخ بالقياس على نسخ ثبات المائة منّا للألف من الكفار.

قال أبو محمد: وهذا تخليط وكذب، وعكس الخطأ على الخطأ، وما نسخ قط ثبات المائة للألف، ولا ثبات العشرين للمائتين، وقد بيَّنا هذه المسألة في باب الكلام في النسخ من ديواننا هذا، وبالجملة لا يحل لمسلم أن يقول في آية ولا حديث بالنسخ إلا عن نص صحيح، لأن طاعة الله وطاعة رسوله واجبة، فإذا كان كلامهما منسوخاً فقد سقطت طاعته عنا، وهذا خطأ، ومن ادعى سقوط طاعة الله تعالى، وسقوط طاعة نبيه في مكان ما من الشريعة فقوله مطروح مردود، ما لم يأت على صحة دعواه بنص ثابت، فإن أتى به فسمعاً وطاعة، وإن لم يأت به فهو كاذب مفتر، إلا أن يكون ممن لم تقم عليه الحجة، فهو مخطىء معذور باجتهاده، وبالله تعالى التوفيق.

واحتجوا أيضاً بقول الله تعالى: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وهذا عمدة ما موَّهوا به في إثبات القياس مع آية الاعتبار، ومع قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . قال أبو محمد: وهذا من أطرف ما شغبوا به من الجرأة على التمويه بكلام الله تعالى، ووضعه في غير موضعه، فهذا عظيم جدّاً نعوذ بالله من الخذلان، وما فهم أحد قط له عقل أن للقياس في هذه الآية مدخلاً أو طريقاً، أو نسبة بوجه من الوجوه، وما هذه الآية إلا نص جليّ، أمر تعالى ذوي عدل من المؤمنين أن يحكما في الصيد المقتول بما يشبهه من النعم، فهذا نص لا قياس، وإنما كان يكون قياساً لو قالوا كما أمرنا تعالى إذا قتلنا الصيد المحرم علينا قتله أن نجزيه بمثله من النعم. فكذلك إذا قتلنا شيئاً من النعم حراماً علينا لملك غيرنا له، فواجب علينا أن نجزيه بمثله من الصيد، وأيضاً فكما قاسوا ملك الله تعالى الصيود فأوجبوا الجزاء على قاتلها مخطئاً، وخالفوا القرآن في ذلك قياساً على ملك الناس، فواجب عليهم على أصلهم الفاسد أن يقيسوا ملك الناس من النعم، ومن الصيد إذا قتله فيلزموه أن يجزيه بمثله، إن كان صيداً فمن النعم، وإن كان من النعم فمثله من الصيد.

فهذا حقيقة القياس الذي إن قالوه كفروا، وإن تركوا القياس وتناقضوا ووفقوا في تركهم له، وأيضاً فإن كانت هذه الآية متيحة للقياس، فينبغي ألا يكون إلا حتى يحكم فيه ذوا عدل منا، أو يكون عدل ذلك صياماً. فهكذا هو الحكم في الآية، وأما الآية المذكورة فلا نسبة بينها وبين القياس البتة، وإنما فيها أن الصيد يكون مثلاً للنعم وهذا أمر لا ننكره، فالعالم كله متماثل في بعض أوصافه، وإنما أنكرنا أن نحكم في الديانة شيء لم يأت فيه ذلك الحكم من الله تعالى بمثل الحكم المنصوص فيما يشبهه، فهذا هو الباطل والخطأ والحرام الذي لا يحل وبالله تعالى نتأيد.

واحتج أيضاً بعضهم بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } وبقوله تعالى: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ }

قالوا: فقستم واجد الثمن للماء والثمن للرقبة، وإن لم يكن عنده رقبة ولا ماء، على من عنده الرقبة والماء، فلم تجيزوا لهما التيمم ولا الصيام. قال أبو محمد: وهذا من ذلك التمويه المعهود، ويعيذنا الله تعالى أن نقول بالقياس في شيء من الدين، وليس ما ذكروا قياساً ولكنه نص جليّ بلا تأويل فيه البتة، لأن الله تعالى إنما قال في آية كفارة قتل الخطأ والعود للظهار بعد إيجاب الرقبة. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } ولم يقل تعالى فمن لم يجد رقبة، ولكنه تعالى أطلق الوجود، فكل وجود يتوصل به إلى عتق الرقبة، فإنه مانع من الصيام، فالواجب اتباعه، لأنه موافق لظاهر الآية الذي لا يجوز خلافه، وهكذا القول في كفارة الواطىء في نهار رمضان، وأما التيمم لمن لم يكن له ماء وعنده ثمن يبتاع به الماء، فإن أصحابنا قالوا ما ذكر هؤلاء، ورأوا واجباً على من وجد ماء للشراء أن يبتاعه بقيمته في الوقت لا بأكثر. وقال غيرهم: بأكثر من قيمته ما لم يجحف به. وقال الحسن البصري: يبتاعه بكل ما يملك إن لم يبع منه بأقل.

قال أبو محمد: ولعل من حجة أصحابنا أن يقولوا: إن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } يقتضي بعموم هذا اللفظ واجده بالابتياع والاستيهاب كما يقول القائل: أمر كذا موجود في السوق، فيقولوا إن واجده بالابتياع والاستيهاب واجد للماء. قال أبو محمد: وأما نحن فلا يجوز عندنا بيع الماء البتة بوجه من الوجوه، ولا بحال من الأحوال، لنهي النبي عن بيع الماء، فهذا عندنا على عمومه، وقولنا هذا هو قول إياس بن عبد الله المزني، صاحب رسول الله وغيره. فلا يجوز ابتياع الماء للوضوء البتة ولا للغسل، لأنه منهي عن ابتياعه، وهو غير واجد للماء، فحكمه التيمم إلا أن يتطوع عليه صاحب الماء بأن يهبه إياه، فذلك جائز، وهو حينئذ واجد للماء مالك له، ففرضه التطهر به، وأما من اضطر إلى شرب الماء، وخشي الهلاك من العطش، ولم يجد من يتطوع له بماء يحيي به رمقه، ففرض عليه إحياء نفسه كيف أمكن، بغلبة أو بأخذه سرّاً مختفياً بذلك، أو بابتياعه، فإذا لم يقدر على غير البيع فابتاعه فهو حينئذ جائز له، والثمن حرام على البائع، وهو باق على ملك المبتاع المضطر، وهو بمنزلة من اضطر إلى ميتة أو لحم خنزير فلم يجده مع ذلك إلا بثمن، ففرض عليه أن يبتاعه لإحياء نفسه. وكذلك ما يبذل من المال في فدى الأسرى، وفي الرشوة لدفع المظلمة، فهذا كله باب واحد، وهو مباح للمعطي وحرام على الآخذ، لأن المعطي مضطر، والآخذ آكل مال بالباطل، عاص لله تعالى، نعوذ بالله. ثم نعكس عليهم اعتراضهم هذا فنقول لهم، وبالله تعالى التوفيق: إن كان هذا عندهم قياساً فيلزمهم أن يقولوا بقول الحسن في ابتياع الماء بكل ما يملك، لأنه واجد له، فلا يسعه التيمم مع وجود الماء، كما يقولون فيمن لم يجد رقبة إلا بكل ما يملك، وهو قادر على اكتساب ما يقوم بقوته وقوت عياله بعد ذلك، فإنه لا يجزيه عندهم إلا ابتياع الرقبة بملكه كله، فإن لم يقولوا في الماء كذلك فقد تناقضوا وتركوا القياس الذي يزعمون أنه دين، وهذا ما لا انفكاك منه.

واحتجوا بقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ، قالوا: ولم يذكر تعالى بيوت الأولاد، فوجب إباحة الأكل من بيوت الأولاد قياساً على الإباحة من بيوت الآباء. قال أبو محمد: وهذا في غاية الفساد والكذب، ومعاذ الله أن تكون الإباحة للأكل من بيوت الأولاد قياساً على إباحة ذلك من بيوت الآباء والأقارب، وما أبحنا الأكل من بيوت الأولاد إلا بنص جلي وهو قول رسول الله : «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ أَحَدُهُمْ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَ أَحَدِكُمْ مِنْ كَسْبِهِ» فبهذا أبحنا الأكل من بيوت الأولاد، ولكن يلزمهم إذا فعلوا ذلك قياساً بزعمهم على بيوت الآباء، أن يسقطوا الحد على الابن الواطىء أمة أبيه. كما أسقطوا الحد عن الأب إذا وطىء أمة ولده ولزمهم أن يسووا في جميع الأحكام بين الأبناء والآباء وسائر القرابات، كما فعلوا ذلك قياساً على الأكل، وإلا فقد تناقضوا، وتركوا القياس واحتجوا بقول الله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } بقوله تعالى {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، قالوا: فأدخلتم من لم يذكر في الآيتين المذكورتين من الأعمام والأخوال في حكم من ذكر فيهما.

قال أبو محمد: وهذا ليس قياساً بل هو نص جلي لأن النبي قال لعائشة: «إِنَّهُ عَمُّكِ فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ» وقال : «لاَ تُسَافِرُ المَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ» فأباح لكل ذي محرم أن يسافر معها، وإذا سافر معها فلا بد له من رفعها ووضعها ورؤيتها فدخل ذو المحارم كلهم بهذا النص في إباحة رؤية المرأة فبطل ظنهم أن ذلك إنما هو قياس، وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا بقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } قالوا: فأدخلتم بنات البنين وإن سفلن، وبنات البنات وإن سفلن، والجدات وإن علون، وعمات الآباء والأجداد وخالاتهم وعمات الأمهات والجدات وخالاتهن، وإن بعدن في التحريم، وإن لم يذكرن في آية التحريم. قالوا: وهذا قياس، وكذلك أدخلتم تحريم ما نكح الأجداد وإن علوا وبنو البنين وإن سفلوا، قياساً على تحريم ما نص عليه من نكاح نساء الآباء وحلائل الأبناء. قال أبو محمد: وهذه دعوى فاسدة، بل هذا نص جلي، وبنو البنين وبنو البنات وإن سفلوا، وبنات البنين وبنات البنات وإن سفلن، فإنه يقع عليهن في اللغة بنص القرآن اسم البنين والبنات وإن سفلن.

قال الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فجعلنا بنين له وبنو البنين بنون بالنص، والجد والجدة وإن بعدا فاسم الأب والأم يقع عليهما كما قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني آدم وحواء، وهكذا القول فيمن سفل من أولاد الإخوة والأخوات، ومن علا من الأعمام والأخوال، والعمات والخالات، فمن كنت من ولد أخيه فهو عمك وعمتك، وأنت ابن أخيه وأخيها، ومن كنت من ولد أخته فهو خالك وخالتك، وأنت ابن أخته وأختها، وإنما فرقنا بين أحكام بعض من يقع عليه الاسم الواحد في المواضع التي فوق النص أو الإجماع المنقول المتيقن بينهم فيها، وهذا أيضاً الذي ذكروا إجماع، والإجماع لا يجوز خلافه. ثم نقول لهم: إذا فعلتم ذلك ــــ بزعمكم ــــ قياساً فيلزمكم أن تسووا أيضاً قياساً بين كل من ذكرنا في الإنكاح والمواريث، ووجوب الإنفاق، وهم لا يفعلون ذلك، فقد نقضوا أصلهم، وأقروا بترك القياس، وهكذا تكون الأقوال الفاسدة، وبالله تعالى التوفيق.

واحتجوا بقول الله تعالى في المطلقة ثلاثاً: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } قالوا: فقستم وفاة هذا الزوج الثاني وفسخ نكاحه عنها على علاقة لها في كونها إذا مسها في ذلك حلالاً المطلِّق ثلاثاً، قالوا لنا: بل لم تقنعوا بذلك حتى قلتم إن كانت ذمية طلقها مسلم ثلاثاً فتزوجها ذمي، فطلقها بعد أن وطئها لم تحل بذلك لمطلقها ثلاثاً، ولا تحل إلا بموته عنها، أو بفسخ نكاحه منها. قال أبو محمد: فالجواب وبالله تعالى التوفيق: أننا أبحنا لها الرجوع إليه بالوفاة وبالفسخ لوجهين: أحدهما: الإجماع المتيقن، والثاني: النص الصحيح الذي عنه تم الإجماع، وهو قول رسول الله للقرظية المطلقة ثلاثاً: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عَسِيلَتَهُ وَيَذُوقَ عَسِيلَتَكِ» . قال علي: فهذا الحديث أعم من الآية، وزائد على ما فيها، فوجب الأخذ به، ووجب أن كل ما كان بعد ذوق العسيلة، مما يبطل به النكاح، فهي به حلال رجوعها إلى الزوج المطلق ثلاثاً، لأنه إنما جعل الحكم الرافع للتحريم ذوق العسيلة في النكاح الصحيح، فإذا ارتفع بذلك التحريم فقد صارت كسائر النساء، فإذا خلت من ذلك الزوج بفسخ أو وفاة أو طلاق كان لها أن تنكح من شاءت من غير ذوي محارمها، ولم يشترط النبي بعد ذوق العسيلة طلاقاً من فسخ من وفاة، وأيقنا أنه لم يبحها للزوج الأول، وهي بعد في عصمة الزوج الثاني، ولا خلاف بين أحد في ذلك. وأما طلاق الذمي وسائر الكفار، فليس طلاقاً، لأن كل ما فعل الكافر، وقال غير اللفظ بالإسلام، فهو باطل مردود إلا ما أوجب إنفاذه النص أو الإجماع المتيقن المنقول، أو أباحه له النص أو الإجماع، كذلك فإذا لفظ بالطلاق فهو لغو لأنه لا نص ولا إجماع في جواز طلاقه، فليس مطلقاً وهو بعد في عصمته، لصحة نكاحهم بالنص من إقرار النبي للكفار، لما أسلموا مع نسائهم، على نكاحهم معهن، ولأنه من ذلك النكاح خُلق، وقد علمنا أنه مخلوق من أصح نكاح، ولا يحل لمسلم أن يمر بباله غير هذا، ولم يمنع تعالى في الآية من إباحة رجعتها بعد وفاة الزوج، أو فسخ نكاحه، وإنما ذكر تعالى الطلاق، فقط، وعم رسول الله بإجمال لفظه الطلاق وغيره، وقد كان يلزم من قال بذلك الخطاب منهم ألا يبيحها إلا بعد الطلاق لا بعد الفسخ والوفاة، فهذه الآية حجة عليهم لا لهم، وبالله تعالى التوفيق.

واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } قالوا: فقستم الكافرات في ذلك على المؤمنات. قال أبو محمد: وهذا خطأ، وقد بينا، في باب مفرد من كتابنا هذا، لزوم شريعة الإسلام لكل كافر ومؤمن مستوياً بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } فهذا لازم في كل حكم، حاشا ما فرق النص والإجماع المتيقن فيه بين أحكامنا وأحكامهم، وما كان كرامة لنا، فإنه ليس لهم فيه حظ لقول الله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } والصغار لا يجتمع مع الكرامة أصلاً. وأيضاً فالأمة كلها مجمعة على أن حكم العدة في الطلاق وسقوطها على الذمية كحكمها على المسلمة، والإجماع لا يجوز خلافه. وأيضاً فإن الآيات التي أوجب الله تعالى فيها العدد على المطلقات معلومة محصورة، لا خلاف بين المسلمين أن المراد بها الممسوسات، وأصل الناس كلهم على البراءة من وجوب الأحكام عليهم، حتى يلزمهم الحكم نص أو إجماع، وإلا فلا يلزم أحداً حكم إلا أن يلزمه إياه نص أو إجماع، فبقيت الذمية المطلقة غير الممسوسة لم يأت قط بإيجاب عدة عليها، فلم يجز لأحد أن يلزمها عدة لم يأت بها نص ولا إجماع، ووجب المتعة لها، ونصف الصداق بإيجاب الله تعالى ذلك لكل مطلقة فرض لها صداق المتعة خاصة لكل مطلقة، وهي إحدى المطلقات فبطل ظن هؤلاء القوم، والحمد لله رب العالمين.

واحتجوا بما في القرآن من الآيات التي فيها خطاب النبي وحده، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } ومثل قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وما أشبه ذلك. قالوا: فقلتم: هي لازمة لنا ومباحة، كلزومها النبي وإباحتها له.

قال أبو محمد: وهذا من التخليط ما هو، لأن النص حكم علينا بذلك إذ يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } وبقوله : «عَلَيْكُم بِسُنَّتِي» وبغضبه على من تنزه عن أن يفعل مثل فعله، فبطل تمويههم بأن هذا قياس، وصح وجوب كل شريعة خوطب بها : علينا ما لم ننه عن ذلك، كقول النبي في الوصال: «لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ» .

فلو قال قائل: إن الذين تعلقوا به مما ذكروا هو حجة عليهم في إبطال القياس، لكان حقّاً، لنص النبي على أنه ليس كهيئتنا، ولا كأحدنا، ولا مثلنا، وإذ ليس مثلنا والقياس عند القائلين به إنما هو قياس الشيء على مثله لا على ما ليس مثله. فقد بطل القياس ههنا فيلزمهم ألا يحكموا على الناس بشيء خوطب به النبي وحده، وإن فعلوا ذلك خرجوا من الإسلام، فصح أنه لا مدخل لهذه الآيات، ولا لهذا المعنى في القياس البتة، وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا أيضاً بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يأُوْلِي الأَبْصَارِ } .

قال أبو محمد: وهذه هي قاعدتهم بظنهم في القياس، وما كانوا أبعد قط من القياس منهم في هذه الآية، وما فهم قط ذو عقل من قول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يأُوْلِي الأَبْصَارِ } تحريم مد بلوط بمدي بلوط وما للقياس مجال على هذه الآية أصلاً بوجه من الوجوه، ولا علم أحد قط في اللغة التي بها نزل القرآن أن الاعتبار هو القياس، وإنما أمرنا تعالى أن نتفكر في عظيم قدرته في خلق السموات والأرض، وما أحل بالعصاة كما قال تعالى في قصة إخوة يوسف عليه السلام: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فلم يستحِ هؤلاء القوم أن يسموا القياس اعتباراً وعبرة على جاري عادتهم في تسمية الباطل باسم الحق ليحققوا بذلك باطلهم. وهذا تمويه ضعيف، وحيلة واهية، وقد قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى } فأبطل الله تعالى كل تسمية قام بصحتها برهان، إما من لغة مسموعة من أهل اللسان، وإما منصوصة في القرآن وكلام النبي ، وما عدا ذلك فباطل.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث

في دليل الخطاب (1) | في دليل الخطاب (2) | في دليل الخطاب (3) | في دليل الخطاب (4) | في دليل الخطاب (5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(1) | في إبطال القياس في أحكام الدين(2) | في إبطال القياس في أحكام الدين(3) | في إبطال القياس في أحكام الدين(4) | في إبطال القياس في أحكام الدين(5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(6) | في إبطال القياس في أحكام الدين(7) | في إبطال القياس في أحكام الدين(8) | في إبطال القياس في أحكام الدين(9) | في إبطال القياس في أحكام الدين(10) | في إبطال القياس في أحكام الدين(11) | في إبطال القياس في أحكام الدين(12) | في إبطال القياس في أحكام الدين(13) | في إبطال القياس في أحكام الدين(14) | في إبطال القياس في أحكام الدين(15) | في إبطال القياس في أحكام الدين(16) | في إبطال القياس في أحكام الدين(17)