ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب الثامن والثلاثون (17)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وقال آخرون منهم: أجل العبد في الإيلاء أربعة أشهر، ولا يتزوج إلا امرأتين، فأبو حنيفة يقول: عدة الأمة حيضتان، ومن الوفاة نصف عدة الحرة، وبالشهور في الطلاق نصف عدة الحرة، وتحرم الأمة على زوجها الحر أو العبد بتطليقتين إلا بعد زوج، ولا يتزوج العبد إلا امرأتين فقط، وأجل العبد يولي من زوجته الأمة نصف أجل الحر، في إيلائه وأجل الحر في إيلائه من الأمة نصف أجل إيلائه من الحرة. قال أبو حنيفة: صيام العبد في ظهاره من زوجته الحرة والأمة كصيام الحر في ظهاره من الزوجة الحرة والأمة، ولا تحرم الحرة على زوجها العبد إلا بثلاث طلقات، وأجل العبد على زوجته الحرة أو الأمة كأجل الحر في ذلك، وأجل العبد يولي من الزوجة الحرة كأجل الحر. وقال مالك: عدة الأمة حيضتان، ومن الوفاة نصف عدة الحرة، وتحرم الزوجة الحرة والأمة على العبد بتطليقتين، وأجل العبد يولي من زوجته الحرة والأمة نصف أجل الحر، في إيلائه، وأجل العبد يعن عن زوجته الحرة والأمة نصف أجل الحر. وقال مالك: يتزوج العبد أربعاً من الحرائر، والإماء وصيام العبد في ظهاره من زوجته الحرة والأمة، كصيام الحر، وعدة الأمة في الطلاق بالشهور ثلاثة أشهر كالحرة. وقال الشافعي: عدة الأمة حيضتان، وفي الوفاة وبالشهور في الطلاق نصف عدة الحرة، وتحرم الحرة والأمة على العبد بتطليقتين، ولا يتزوج العبد إلا اثنتين، وأجل العبد يعن أيولي من الحرة أو الأمة كأجل الحر في كل ذلك، وصيامه في الظهار كصيام الحر.

فاعجبوا لتناقض قياساتهم وهكذا في سائر الأحكام ولا فرق.

فاتفقوا في صوم الظهار على ألا يقيسوه على سائر أحكام العبد، و لا إجماع في ذلك، لأن قتادة وغيره يقول: هو على نصف صيام الحر، ولم يتفقوا على نصف حكم العبد من حكم الحر إلا في عدة الوفاة، وعدة الحيض وطلاق العبد والأمة، ولا إجماع في ذلك، لأن ابن سيرين يرى عدة الأمة كعدة الحرة في الوفاة وفي الإقراء، وصح عن ابن عباس أنه أمر عبده بمراجعة زوجته، وهي أمة بعد طلقتين، ولم يقس بعضهم قوله: من نظر إلى فرج امرأة طلقها طلاقاً رجعياً في العدة بشهوة فهي رجعة، على قوله: فإن نظر إلى شيء من بدنها غير الفرج بشهوة فليست رجعة، ولا على قوله إنه إن لمسها في بدنها بشهوة فهي رجعة.

ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته: لست لي بامرأة ونوى الطلاق ولم يره طلاقاً، على قوله لها: قومي ونوى الطلاق فهو طلاق. ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته: اختاري، فقالت: أنا أختار نفسي، قال: فهي بذلك طالق: على قوله لها: طلقي نفسك فقالت: أنا أطلق نفسي، أو قالت: قد اخترت نفسي، فلم ير ذلك كله طلاقاً، ولا على قوله: لو قال لها: لا ملك لي عليك، قال: هو طلاق. ولا قاس بعضهم قوله لمن قال لامرأته: أنت طالق مثل الجبل، فجعلها واحدة رجعية على قوله: إن قال لها أنت طالق مثل عظيم الجبل فجعلها واحدة بائنة. ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته: اختاري اختاري، اختاري فقالت: قد اخترت نفسي بالأولى أو قالت بالوسطى أو قالت بالآخرة فهي طلقة واحدة، على قوله فيمن قال لامرأته: اختاري اختاري اختاري، فقالت: قد اخترت نفسي بالواحدة، أو قالت واحدة، قال: فهي طالق ثلاثاً. وقاس بعضهم قوله في التخيير على قوله في التمليك.

ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها، أنت عليّ حرام مثل الخنزير والميتة والدم، فقال: هي ثلاث ولا بد، على قوله ذلك في غير المدخول بها وقال بعد ذلك: لم أنو إلا واحدة فإنه يحلف، وتكون واحدة ويراجعها إن أحبا، ولم يقس ذلك كله على قوله: قال لمدخول بها أو لغير مدخول بها: أنت بتة، أو أنت البتة، فقال: هي ثلاث على حال فيهما معاً.

ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها وغير المدخول بها: قد خليت سبيلك، إنه ينوي ويحلف على ما نوى، على قوله لمن قال لامرأته: حبلك على غاربك، إنها في المدخول بها ثلاث ولا بد، وفي غير المدخول بها ينوي وتكون واحدة، ولا قاس أكثرهم في قوله في التحريم في الزوجة على قوله في التحريم في الأمة وقد سوى بعضهم بين كل ذلك. ولا قاس بعضهم قوله فيمن شك أطلق زوجته أم لم يطلق وهي تقول له: لم تطلق أنه تطلق عليه ولا بد. على قوله فيمن قال لامرأته: إن كتمتني أمراً كذا فأنت طالق، أو قال لها: إن أبغضتني فأنت طالق، فأخبرته بخبر لا يدري أكتمه ما خاف عليه أم لا، وقالت له: لست أبغضك وهو لا يدري أصدقت أم كذبت أنه طلاق عليه. ولا قاس بعضهم قوله في إباحة جميع كفارات الإيمان قبل الحنث على قوله: إن كفارة يمين الإيلاء لا تكون إلا بعد الحنث. ولا قاس بعضهم جواز تسري العبد عبده على منعه من التفكير بالعتق فيما لا يجزي فيه إلا العتق لواجد الرقبة، وهو واجد رقاباً يطؤهن. ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته: كل امرأة أتزوجها عليك فهي كظهر أمي، قال: ليتزوج عليها واحدة أو اثنتين معاً أو ثلاثاً معاً، وليس عليه في كل ذلك إلا كفارة واحدة على قوله لها: ومتى تزوجت عليك فالتي أتزوج عليك كظهر أمي، فرأى عليه لكل امرأة يتزوجها كفارة.

ولم يقس بعضهم سقوط اللعان على الأعمى والمحدودة لسقوط شهادتها على قوله: إن اللعان لا يسقط عن الفاسق المعلن لسقوط شهادته. ولم يقس بعضهم قوله: من أعسر النفقة أجّل شهرين أو نحوهما وإلا فرق بينهما، على قوله: فإن أعسر بالصداق أجَّل عامين أو نحوهما ثم فرق بينهما. ولم يقس بعضهم عدة المستحاضة من الطلاق سنة، ميزت الدم أم لم تميز كانت لها أيام معهودة أو لم تكن، على قوله: عدتها من الوفاة أربعة أشهر وعشر. ولم يقس بعضهم قوله: من قتل أمةً أو عبداً قيمة كل واحد منهما مائة ألف درهم لم يغرم في العبد إلا عشرة آلاف درهم غير عشرة دراهم، وفي الأمة خمسة آلاف درهم غير خمسة دراهم، فإن كانت القيمة أقل من عشرة آلاف في العبد وخمسة آلاف في الأمة غرم القيمة كلها، على قوله: إن غصب عبداً أو أمة فماتا عنده غرم قيمتهما، ولو بلغت ألف درهم، ولم يقس هذا الهذيان على سائر أقواله: إن أحكام العبد على نصف أحكام الحر، في النكاح والطلاق وغير ذلك.

ولم يقس قوله: إنه يقص بين الحر والعبد والكافر والمؤمن في النفس على قوله: إن ما دون النفس يقص فيه بين المؤمن والكافر، ولا يقص فيه بين العبد والحر. ولم يقس بعضهم قوله: يقتل عشرة بواحد على قوله: لا تقطع يدان بيد، ولا عينان بعين. ولم يقس بعضهم قوله: لا يستقاد من أحد بحجارة ولا بطعنة رمح، على قوله: يقتل الزاني المحصن بالحجارة والمحارب بالطعن بالرمح. ولم يقس بعضهم إباحته قتل المرأة في الزنى وفي القود على قوله في منع قتلها إذا ارتدت. قال أبو محمد: فيما ذكرنا كفاية على أننا لم نكتب من تناقضهم في القياس، وتركهم في القياس، وتركهم له إلا جزءاً يسيراً جداً من أجزاء عظيمة جداً، ولو تقصينا ذلك لقام منه ديوان أعظم من جميع ديواننا هذا كله. وكل ما ذكرنا فإنهم إن احتجوا فيه بإجماع على تركه لم ينفكوا من أحد وجهين: إما أن يدعوه بغير علم فيكذبوا، وإما أن يصدقوا في ذلك، فإن كانوا قد صدقوا أقروا أن الإجماع جاء بترك القياس، ولو كان حقّاً ما جاء الإجماع بتركه، وإن ادعوا أنهم تركوا القياس حيث تركوه لنص وارد في ذلك، فاعلموا أن كل قياس خالفناهم فيه، فإن النص قد ورد بخلاف ذلك القياس، لا بد من ذلك، وإن قالوا بتركنا القياس حيث تركناه لدليل غير النص، قلنا لهم هذا ما لا نعرفه ولا قدرته، وأي دليل يكون أقوى من النص؟ هذا عدم لا سبيل إلى وجوده أبداً. وبالجملة فكل واحد منهم إنما استعمل القياس في يسير من مسائله جدّاً، وتركه في أكثرها، فإن كان القياس حقّاً فقد اخطؤوا بتركه وهم يعلمونه، وإن كان باطلاً فقد اخطؤوا باستعماله، فهم في خطأ متيقن إلا في القليل من أقوالهم. وقال بعضهم: لا نقيس على شاذ. قال أبو محمد: وهذا تحكم فاسد، لأنه ليس شيء في الشريعة شاذّاً، تعالى الله أن يلزمنا الشواذ، بل كل ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله فهو حق، والحق لا يكون شاذّاً، وإنما الشاذ الباطل. وقال بعضهم: لا نقيس على فرع. قال أبو محمد: وهذا كالأول، ولا فرع في الشريعة، وكل ما جاء نصّاً أو إجماعاً فهو أصل، فأين ههنا فرع؟ لو أنصف القوم أنفسهم؟. وقال بعضهم: الحدود والكفارات لا تؤخذ قياساً.

قال أبو محمد: وما الفرق بينهم وبين من قال بل العبادات وأحكام الفروج لا تؤخذ قياساً، وكل من فرَّق بين شيء من أحكام الله تعالى فهو مخطىء، بل الدين كله لا يحل أن يحكم في شيء منه بقياس، على أنهم قد تناقضوا وقاسوا في البابين، وأوجبوا حد اللوطي قياساً، وأوجبوا كفارات كثيرة قياساً، والقوم متناقضون تناقضاً يشبه اللعب والهزل: أعوذ بالله مما امتحنوا به. فإن قال قائل: وأنتم قد تركتم حديثاً كثيراً. قلنا لهم: وبالله تعالى التوفيق: كذبتم وأفكتم، ولا يوجد ذلك من أحد منا أبداً إلا أربعة أوجه لا خامس لها: إما لقيام البرهان على نسخه أو تخصيصه بنص آخر، وهذا لا يحل لأحد.

وإما أنه لم يبلغ إلى الذي لم يقل به منا، وهذا عذر ظاهر و{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } . وإما أن بعضنا يرى ترك كل ما رواه المدلّس إلا ما قال فيه «حدثنا» أو «أنبأنا» وهذا خطأ، وبعضنا يرى قبول جميع روايته إذا لم يدلّس المنكرات إلى الثقات، إلا ما صح فيه تدليسه، وبهذا نقول وعلى كل ما ذكرنا البرهان، والبرهان لا يتعارض، والحق لا يعارضه حق آخر. وإما أن بعضنا يرى ترك الحديثين المتعارضين، لأنه لم يصح عنده الناسخ، وإذ لم يصح عنده الناسخ منهما فهو منهيّ أن يقفو ما لا علم له به، وهذا خطأ، وبعضنا يرى ههنا الأخذ بالزائد، وبه نقول. فليس منّا أحد ــــ ولله الحمد ــــ ترك حديثاً صحيحاً بلغه بوجه من الوجوه لقول أحد دون رسول الله ، ولا لرأي ولا لقياس ونعوذ بالله من ذلك. وأما هم فإنهم يتركون نصوص القرآن لآرائهم وأهوائهم وتقليدهم، ويتركون الصحيح من الحديث عندهم كذلك، ويتركون القياس وهم يعرفونه ويعلمونه وهو ظاهر إليهم كذلك، فالقوم لم يتمسكوا إلا باتباع الهوى والتقليد فقط، ونعوذ بالله من الخذلان.

وقد انتهينا من إيضاح البراهين على إبطال الحكم بالقياس في دين الله تعالى إلى حيث أعاننا الله تعالى عليه، راجين الأجر الجزيل على ذلك، ولاح لكل من ينصف نفسه: أن القياس ضلال ومعصية وبدعة، لا يحل لأحد الحكم به في شيء من الدين كله، فليتق كل امرىء ربه. ولا يحمله اللجاج على الإعراض عن الحق، ولا يقتحم به حب استدامة رياسة قليلة على تحمل ندامة طويلة، فعن قريب يقف في مواقف الحكم بين يدي عالم الخفيات، فليفكر من حكم في دين الله تعالى بغير ما عهد به إليه في كلامه وكلام رسول الله إلينا: ماذا تكون حجته إذا سئل عن ذلك؟.

وليوقن أن من سُئل يوم القيامة بماذا حكمت؟. فقال: بكلامك يا رب وكلام رسوله إليّ، فقد برىء من التبعة من هذا الوجه جملة، ومن زاد على ذلك أو تعدَّاه فلينظر في المَخْلَص، وليعد المسألة في حكمه بتقليد الآباء ورأيه وقياسه جواباً و: {فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } وحسبي الله ونعم الوكيل.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث

في دليل الخطاب (1) | في دليل الخطاب (2) | في دليل الخطاب (3) | في دليل الخطاب (4) | في دليل الخطاب (5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(1) | في إبطال القياس في أحكام الدين(2) | في إبطال القياس في أحكام الدين(3) | في إبطال القياس في أحكام الدين(4) | في إبطال القياس في أحكام الدين(5) | في إبطال القياس في أحكام الدين(6) | في إبطال القياس في أحكام الدين(7) | في إبطال القياس في أحكام الدين(8) | في إبطال القياس في أحكام الدين(9) | في إبطال القياس في أحكام الدين(10) | في إبطال القياس في أحكام الدين(11) | في إبطال القياس في أحكام الدين(12) | في إبطال القياس في أحكام الدين(13) | في إبطال القياس في أحكام الدين(14) | في إبطال القياس في أحكام الدين(15) | في إبطال القياس في أحكام الدين(16) | في إبطال القياس في أحكام الدين(17)