ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول/الباب الرابع والعشرون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال أبو محمد: رحمه الله: ادعى قوم أن هذا أيضاً نوع من أنواع الإجماع صحيح لا شك فيه. وقالوا: لأنه قد صح إلزام الله عز وجل لنا اتباع الإجماع والنص، وحرم علينا القول بلا برهان، فإذا اختلف الناس في شيء فأوجب قوم فيه مقداراً ما وذلك نحو النفقات والأروش والديات، وبعض الزكوات وما أشبه ذلك، وأوجب آخرون أكثر من ذلك واختلفوا فيما زاد على ذلك، فالإجماع فرض علينا أن نأخذ به. وأما الزيادة فدعوى من موجبها، إن أقام على وجوبها برهاناً من النص أخذنا به والتزمناها، وإن لم يأت عليها بنص فقوله مطرح وهو مبطل عند الله عز وجل بيقين لا شك فيه، ونحن محقون في الأخذ بأقل ما قيل عند الله عز وجل بيقين، لأنه أمر مجتمع عليه والاتفاق من عند الله عز وجل، ولزوم ما اجتمع عليه فرض لا شك فيه، والاختلاف ليس من عند الله عز وجل قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } . قال أبو محمد: كان يكون هذا حقّاً صحيحاً لو أمكن ضبط أقوال جميع أهل الإسلام في كل عصر، وإذ لا سبيل إلى هذا فتكلفه عناء لا معنى له، ولا بد من ورود النص في كل حكم من أحكام الشريعة، لكن إذا ورد نص بإيجاب عمل ما فبأقل ما يقع عليه اسم فاعل لما أمر به، يسقط عنه الفرض، كمن أمر بصدقة، فبأي شيء تصدق، فقد أدى ما أمر به، ولا يلزمه زيادة، لأنها دعوى بلا نص ولا غاية لذلك فهو باطل.

ولا سبيل إلى أن يكون الله تعالى حكم في الشريعة يلزمنا لم يجعل عليه دليلاً من نص، وقال الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } فما لم يكن في الكتاب فليس من الدين في شيء، وهو ساقط عنا بيقين، ومنهم من قال: بل نأخذ بأكثر ما قيل، لأنه لا يخرج من لزمه فرض عما لزمه إلا بيقين، ولا يقين إلا بعد أن يستوعب كل ما قيل. قال أبو محمد: وهذا باطل، لأنه صار بهذا القول قافياً ما ليس له به علم، ومثبتاً حكماً بلا برهان، وهذا حرام بنص القرآن وإجماع الأمة، وكل من خالفنا في هذا الأصل فإنه يتناقض ضرورة ويرجع إلى القول به. ألا ترى أننا اتفقنا كلنا على إيجاب خمس صلوات وادعى قوم أن الوتر فرض فوجب الانقياد لما اجتمعوا عليه، وترك ما اختلفوا فيه، إلا أن يأتوا بدليل على ما زادوا. وكذلك اتفقنا على أن في خمسين من البقر بقرة، وقال قوم: في كل خمس بقرات شاة، وقال قوم: في الثلاثين تبيع وفي الأربعين، وقال قوم: فيما زاد على الأربعين بحساب ذلك بجزء من بقرة، فوجب الأخذ بما اتفقوا عليه، وترك ما اختلفوا فيه، إذا لم يأتوا بدليل على ما ادعوا من ذلك. ووجب أن يلزم أحداً إلا البقرة في خمسين، وهي المتفق عليه منهم ومن غيرهم، لا ما زاد في إيجاب الغرامة في ذلك.

ثم نقول لمن خالفنا في هذا الأصل: أرأيت إن اجتمع الناس على مقدار ما؟ ثم قال قوم بأزيد منه، ولم يأتوا على صحة قولهم بدليل: هل لك بد من ثلاثة أوجه لا رابع لها، إما أن تقول بما أجمعوا عليه، وبترك ما اختلفوا فيه، وهو قولنا هذا الذي خالفتنا فيه، أو تأخذ بأكثر ما قيل بلا دليل فتصير قافياً ما ليس لك به علم ومثبتاً حكماً بلا برهان، فهذا حرام بنص القرآن، وبإجماع الأمة، لم يقل به أحد، ويصير قائله منتهكاً إما عرضاً حراماً، وإما مالاً حراماً، وإما موجباً شرعاً لم يأذن به الله تعالى، وكل ذلك حرام لا يحل أصلاً.

وإما أن يترك هذين القولين فيفارق الإجماع جملة، ويأتي أيضاً بقول لم يقله أحد فإذ قد سقط هذان القولان بالضرورة البرهانية، صح القول الأول ضرورة بيقين لا بد منه، وبالله تعالى التوفيق. فإن قال قائل: لا يجوز أن يخلو أحد القولين من دليل عليه، إما أن يقوم الدليل على صحة القول بالمقدار الأقل، وإما أن يقوم الدليل على صحة الزيادة عليه. قال أبو محمد: لسنا نحتاج إلى التطويل معه ههنا، لكنا نقول، وبالله تعالى التوفيق، لسنا ننازعك فيما قام الدليل عليه، وإنما نسألك عن مسألة قال فيها قوم بمقدار مّا، وقال آخرون بزيادة لا دليل عليها بأيديهم ــــ شرط أن تكون المسألة من مسائل الإجماع المجرد التي قد أحال النص فيها على طاعة أولي الأمر منا على اتباع سبيل المؤمنين. فإن قلت: إن عدم الدليل على صحة الزيادة على أقل ما قيل هو دليل على صحة القول بأقل ما قيل، فهذا هو نفس قولنا شئت أم أبيت، وبالله تعالى التوفيق.

وقد احتج بعض من ضغط هذا الباب، ممن اضطر إلى الشغب بمثل ما نذكره وشبهه إلى أن قال: ما الفرق بينكم وبين من قال: هذه قصة قد لزم فيها حكم بإجماع، فلا يخرج المرء عما لزم بإجماع إلى سقوطه عنه إلا بإجماع آخر، فالواجب أن يقال بأكثر ما قيل. فيقال له: هذا تمويه فاسد، لأنهما أمران أردت مزجهما وتصييرهما أمراً واحداً. ولا يصح ذلك، لأن كون وجوب الحكم في مسألة ما هو شيء آخر غير وجوب مقدار ما في ذلك الحكم. فليس اتفاق الأمة على أن ههنا حكماً واجباً مما يوجب في ذلك مقداراً محدوداً، بل هذا هو باب آخر، فإذا وجب الحكم نظرنا حينئذ في قدر الحكم فيه بنص وارد، فإن لم يرد نص صرنا فيه إلى الإجماع، فالعدد المتفق عليه واجب قبوله بإجماع، ومن ادعى زيادة كلف الدليل، فإن أتى به لزم اتباعه، وإلا سقط قوله بقول الله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . ومن هذا النوع هو علمنا أن علينا ديناً وشرائع، إلا أنه من ادعى وجوب شيء ما يدخله في الشرع، لم يلتفت إليه، ولم يجب قبوله إلا بنص أو إجماع، وهكذا علمنا بوجوب حكم ما علينا ليس يوجب قبولنا من كل من حد لنا ذلك الحكم بحد مّا، إلا أن يأتي على حده بنص أو إجماع. وهذا كله باب واحد، والأصل أن لا حكم على أحد ولا شيئاً حراماً على أحد بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وبقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } .

وبقوله : «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذَا» فلا يحل لأحد من مال أحد ولا من دمه ولا من عرضه ولا من بشرته إلا ما أباحه نص أو إجماع، وما عدا ذلك فباطل بالنصوص التي ذكرنا، فأقل ما قيل في كل ما ذكرنا: هو واجب بالإجماع على وجوبه، وكل زيادة على ذلك فباطل، إلا أن يأتينا مدعيها بنص يصحح قوله. وصح بالنص المذكور أنه إن اتفق الناس أو جاء نص بإيجاب مقدار منا من عرض مسلم أو بشرته أو ماله فهو وجوبه، ثم إن ادعى مدع وجوب زيادة في ذلك ولم يأت على صحة دعواه بنص فهو باطل بيقين، لأنه لا محل ما قد حرم الله تعالى، وكذلك القول فيمن حرم شيئاً مما في الأرض حاشا ما جاء في تحريمه نص أو إجماع. وكذلك من فرض شيئاً زائداً على ما أوجب أنه فرض نص أو إجماع وكفى بهذا بياناً.

ويلزمنا من قال بخلاف هذا إن كان مالكيّاً، أو شافعيّاً أن يوجب الزكاة في العسل، لأن الأمة مجمعة على أن في الأموال زكاة بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فيلزمهم ألا يسقط هذا الحق اللازم بإجماع إلا بإجماع آخر، ولزمه إن كان حنفياً أن يوجب الزكاة في الحلي والعوامل بما ذكرنا، ومثل هذا كثير جداً، مسقط أكثر مذاهبهم، ومفسد لجمهور أقوالهم في الصلاة والطهارة والحج وسائر أبواب الفقه كلها، وبالله تعالى التوفيق. فإن قال قائل: إذا قلتم لو كان هذا القول الزائد واجباً لجاء به دليل، فماذا تقولون لمن قال لكم لو كان ساقطاً لجاء بإسقاطه دليل، فالواجب: أن هذا قول صحيح وقد نصصنا على الدلائل الواردة بإسقاط كل قول بتحريم، أو بتحليل أو إيجاب حكم لم يأت بصحته نص أو إجماع، وهي الآيات التي تلوناها آنفاً فوجب بها أن كل مقدار اتفق على وجوبه أو أخذه فهو واجب، ومن زاد على ذلك بدعواه شيئاً فهو مفتر مبطل بتلك النصوص ما لم يأت على صحة دعواه بنص، وهذا أمر جلي لا إشكال فيه، ولا يذهب عنه إلا مخذول أو معاند، وإنما هذا فيما لم يرد فيه نص، وأما ما جاء فيه نص فلا نراعي فيه ما اتفق عليه منه، ولا نبالي بمن خالفنا حينئذ، ولا نراعي فيه استصحاب حال ولا أقل ما قيل فيه.

ولكن نأخذ بالنص زائداً كان على ما اتفق عليه، أو ناقصاً عنه، أو موافقاً له، لأن الدليل قد قام حينئذ والبرهان صح على وجوب الانتقال إلى ما جاء به النص، وصح بذلك الأخذ بالزائد على أقل ولو لم ينفرد بالرواية للزائد إلا إنسان واحد ثقة، وخالفه جميع أهل الأرض، لكان القول بما رواه ذلك الواحد واجباً، لأنه محق ولكان فرضاً علينا خلاف كل من خالف رواية ذلك الواحد، ولو أنهم جميع أهل الأرض سواء، لأنهم كلهم حينئذ مبطلون يلزمهم قبول رواية ذلك الواحد، الحق أكثر من كل من خالفه، وأولى أن يتبع. قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فعم تعالى ولم يخص، وقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } . فإن قال قائل: فما تقولون في شاهدين شهد أحدهما لزيد على عمرو بدينار، وشهد له الآخر عليه بدينارين. أتقولون بأقل ما اتفقنا عليه؟. قال أبو محمد: هذا قد قام البرهان من النص على وجوب القضاء له بالدينار بشهادتهما، ومن نص آخر ثان يقضي له بالدينار الباقي إن حلف المدعى له ما شاهده، فهذا من باب ما قام الدليل على وجوب الحكم بالزيادة فيه، وقد قال بعض من خالفنا: إن القائل بما أخذتم به، من أقل ما قيل لم يقل به، لأنه أقل ما قيل، وإنما قال به لدليل ما أوجبه عنده، فقولوا بدليله حتى نناظركم عليه.

قال أبو محمد: فيقال من قال بهذا، وبالله تعالى التوفيق: إنا لا نتعنى باستدلال المستدلين، لأنه قد يستدل المرء بدليل غير واجب، فيخرجه البحث إلى قول صحيح كما عرض لابن مسعود، إذ سئل عن امرأة توفي عنها زوجها قبل أن يدخل بها، وقبل أن يفرض لها صداقاً، فقال: بعد شهر أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله تعالى، وإن كان خطأ فالله ورسوله بريئان، ثم أفتى بما وافق الحق من فعل رسول الله دون أن يكون علمه. فنحن لا نبالي باستدلال ابن مسعود بل لا نقول به أصلاً، لكنا نقول بما أخرجه إليه السعد، لأنه وافق قضاء رسول الله ، فإذا وجدنا القائل قد أوجب مقداراً ما، ووافقه على إيجابه جميع العلماء أولهم عن آخرهم، فقد أوجب الله تعالى علينا اتباع الإجماع وألا نخالف سبيل المؤمنين وأُولي الأمر منا. ولا نبالي باستدلاله في ذلك، إذ لم يأمر الله تعالى باتباع استدلال الواحد أو الطائفة من العلماء، وإنما أمرنا تعالى باتباع ما اتفقوا عليه، وترك ما تنازعوا فيه حتى نرده فنحكم فيه القرآن والسنة، فقد فعلنا ذلك، فأخذنا بما أجمعوا عليه وهو أقل ما قيل: لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } فلا يحل لمسلم خلاف هذا، وكلفنا من زاد على ذلك المقدار زيادة يتورع فيها أن يأتي ببرهان من النص إن كان صادقاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } فإن جاء ببرهان من القرآن والسنة قبلنا منه، وإلا تركنا قوله، لأن من لم يأت ببرهان فليس صادقاً لقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .

وقد علم كل ذي حس صحيح من الناس أن الاستدلال على القول شيء آخر غير القول المستدل عليه، فقد أدى التقليد أقواماً إلى أقوال صحاح والتقليد فاسد، لكن البحث أوقعهم عليها فصادفوا أقوالاً فيها أحاديث صحاح لم تبلغهم قط، ولا استدلوا بها. ومن علم كيفية المقدمات علم أن من المقدمات الفاسدة تنتج إنتاجاً صحيحاً في بعض الأوقات، ولكن ذلك لا يصحب بل يخون كثيراً، وقد بينا هذا في كتابنا الموسوم، «بكتاب التقريب» بياناً كافياً، والحمد لله رب العالمين كثيراً. فقد صح بما ذكرنا أنه قد يخطىء في كيفية الاستدلال من يصيب في القول المستدل عليه. وقد صح أيضاً أنه قد يصيب المرء في ابتداء الاستدلال، ثم لا يوفيه حقه فيخطىء في القول المستدل عليه، فقد استدل قوم بنصوص صحاح ثم تأولوا فيها ما ليس فيها، وقاسوا عليها ما لم يذكر فيها، وأصابوا في الاستدلال بالنص وأخطؤوا في الحكم به فيما ليس موجوداً في ذلك النص. وقد استدل سعد رضي الله عنه على تحريم البيضاء جملة بنهي النبي عن الرطب بالتمر، فصح بهذا أنه ليس علينا اتباع استدلال القائلين بالفتيا، وإنما علينا اتباع الفتيا إن أيدها نص أو إجماع، ولا نبالي أخطأ قائلها في استدلاله عليها أم أصاب. وكذلك يلزمنا ترك الفتيا إذا لم يقم عليها برهان من النص أو الإجماع، وإن استدل قائلها بنص صحيح إلا أنه ظن أن ذلك النص يوجب ما أفتى به.

وذلك النص في الحقيقة غير موجب لتلك الفتيا، وأيضاً فإن من المسائل مسائل ليس يروى فيها نص، وإنما هي إجماع مجرد على أمر أمره النبي ، كإجماع الناس على القراض، وكإجماع طوائف من الناس على الإيجاب في دية الذمي إذا قتله ذمي ثمانمائة درهم، أو ستة أبعرة وثلثي بعير، واختلف آخرون في الزيادة على ذلك إلى أن ساواه قوم بدية المسلم، وقال آخرون: نصف دية المسلم، وقال آخرون: ثلث دية المسلم، فاحتج الموجبون في ذلك ثمانمائة درهم أو ستة أبعرة وثلثي بعير، بأن قالوا: هذا مجمع على وجوبه، وما زاد على ذلك فمختلف فيه، وذكروا ما رويناه من طريق يونس بن عبيد أن الحسن البصري قال: دية اليهودي والنصراني ثمانمائة درهم. وقال بهذا المقدار في دية المجوسي خاصة مالك والشافعي . ورووه عن عثمان رضي الله عنه. واحتج من أوجب في ذلك نصف الدية بروايات عن بعض الصحابة، وآثار من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي صحيفة لا تصح، وقد اختلف الصحابة في هذا فبطل هذا القول، واحتج من أوجب في ذلك ثلث الدية وهم الشافعي وأصحابه، بأن رووا ذلك عن بعض الصحابة، وقد قلنا إن الصحابة مختلفون في ذلك، فليس بعضهم في ذلك حجة دون بعض. واحتج في ذلك بعض أصحاب الشافعي بأن ادعى أنه أقل ما قيل؛ وهذا باطل لما أوردناه من قول الحسن آنفاً، وقال بعضهم ــــ ممن يعرف الاختلاف: لم نقل ذلك لشيء من هذا كله لكن لقوله تعالى: {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى } ؟. فوجب ألا يساوى به المسلم ولا المسلمة، فوجب حطه إلى ثلث الدية.

وقال أبو محمد: وهذا احتجاج فاسد البتة، لأنهم يساوون بينهما في أنه إن غصب المسلم مال ذمي أن يغرمه الذمي ما غصب، وفي قطعهما في السرقة، ويحلف كل واحد منهما للآخر في الدعوى. وأيضاً فقد جعلوا دية الذمي أكثر من دية يد المسلمة ومن دية عينها، وساووه بمأمومة الحر المسلم، ولا شك في أن حرمة شعرة من مسلم أعظم من حرمة كل ذمي في الأرض، فكيف عضو من أعضاء المسلم، ونجدهم قد فضلوا على المسلم في بعض المواضع؛ فقالوا: لا يقتل الكافر الحر إذا قتل عبداً مسلماً، فجعلوه ههنا أعظم حرمة من المسلم، وهذا قول سوء تقشعر منه الجلود. ويلزمهم على هذا أن أبا جهل وأبا لهب كانا أعظم حرمة من زيد بن حارثة وبلال بعد إسلامهما، وقبل عتقهما، ومعاذ الله من هذا. وإنما يجب استعمال قوله عز وجل: {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } في ألا يساوى بينهما في القود أصلاً، وأما في الحقوق الواجبة فيما دون الأجسام والكرامة والحرمة فليس التساوي فيها تساوياً في القدر، لأنه لا خلاف بين أحد من أن أحكام الأموال يستوي فيها أبو بكر والصحابة وأهل الذمة، وبالله تعالى التوفيق، فكان الواجب ألا يكلف الذمي غرماً بعد الجزية إلا ما أوجبه نص أو إجماع، وقد أوجب الإجماع المذكور عليه إما ثمانمائة درهم، وإما ستة أبعرة وثلثي بعير، ووقع التنازع في الزيادة فلما لم يأت بشيء من ذلك نص صحيح وجب أن يطرح ولا يلتفت إليه. فإن قالوا بتقليد صاحب في ذلك، قيل لهم: ليس الصاحب الذي قلدتم بأولى من صاحب آخر خالفه في ذلك، مع أن التقليد كله باطل على ما سنبينه في بابه من ديواننا هذا إن شاء الله تعالى. فإن قال قائل: أنتم متناقضون في قولكم بأقل ما قيل في المقادير اللازمة في الأموال والحدود وفي الأعداد كلها وترككم الزيادة إلا أن يوجبها نص مع قولكم إن من اتفق عليه من زمان ما ثم ادعى قوم ارتفاعه، فإن الواجب التمادي عليه، والثبات على ما قد اتفق على وجوبه، حتى يأتي مدعي ارتفاعه ببرهان على ما ادعى من ذلك فهلا قلتم إنه لا يلزم هذا الحكم إلا مدة الزمان الذي اتفق على لزومه فيها دون الأزمان والأعيان التي اختلف في لزوم ذلك فيها ولها، كما قلتم: لا نأخذ في المقادير اللازمة في الأموال والحدود والأعداد إلا بما اتفق عليه دون ما اختلف فيه.

قال أبو محمد: فيقال له وبالله تعالى التوفيق: إن هذا شغب ضعيف، وتمويه فاسد، ولا تناقض بين القولين أصلاً، بل هما شيء واحد، وباب واحد، لأن الإجماع على وجوب الحكم، وورود النص كالإجماع على أقل المقادير والأعداد، كلاهما قد صح فيه الإجماع، ثم إن الدعوى لانتقال الحكم عما كان علمه، وللزوم النص بعض ما يقتضيه لفظه دون بعض الدعوى للزيادة على أقل ما قيل من المقادير والأعداد ولا فرق، وكلا الأمرين إيجاب شرع وحكم بلا نص، وذلك لا يحل اتباعه. وثباتنا على ما اتفقنا على أنه واجب، أو أنه مباح، أو أنه حرام، وتركنا من فارق ما اتفقنا على وجوبه من المقادير والأعداد ولا فرق، ومسقط الحق بعد وجوبه كالزائد فيه، أو الناقص منه، وكالشارع غيره، ولا فرق بين كل ذلك أصلاً، فهو كله باب واحد كما ترى.

ولا شغب من أراد التمويه بالفرق بين الأمرين، وإنما موّه مَن موّه في ذلك، وغلط من غلط، لأنه رأى أحد الأمرين زيادة على ما اتفق عليه، ورأى الآخر خروجاً عما اتفق عليه، فظن أنهما بابان مختلفان، فأخطأ في ذلك بل هو كله باب واحد، لأنه كله ممن خالفنا خروج عما اتفق عليه بلا دليل، ومفارقة ما أجمع عليه بلا برهان، وهو كله في مذهبنا نحن باب واحد، لأنه كلها منا ثبات على ما اتفق عليه، ولزوم لما صح الإجماع فيه، وامتناع من مفارقته، وبالله تعالى التوفيق. وأيضاً فإنه لم يقل قط مسلم أن النبي إذا حكم اليوم بحكم ما، أن هذا الحكم لا يلزم الناس غداً إلا باستئناف برهان مجدد، بل الأمة كلها مجمعة على وجوب حكم النص وتماديه إلى يوم القيامة. وكذلك حكمه عليه السلام على زان أو سارق، هو حكم منه على كل زان أو سارق إلى يوم القيامة. وهكذا كل ما حكم به النص في عين ما هو حكم في نوع تلك العين أبداً، ولو كان خلاف ذلك ــــ ونعوذ بالله من هذا الظن ــــ لبطلت لوازم نبوته في الزمان الآتي بعده، وهذا كفر من معتقده، فصح أن حكمه في زمانه حكم باق في كل زمان أبد الأبد، ولم يقل قط مسلم إنه إذا حكم بأخذ درهم، أو ضرب عشرة أسواط، أو إيجاب ركعتين، أو صوم يوم إنه يجب بذلك أخذ درهمين، وضرب عشرين سوطاً، أو إيجاب أربع ركعات وصوم يومين، بل هذه حدود الله تعالى التي حرم تعديها، وأخبر أن متعديها من الظالمين بقوله تعالى: {يأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } فهذا فرق أوضح من الشمس لا يراها العميان، وقد تغيب عن بعض الأماكن في بعض الأوقات. وهذا برهان لا يغيب نوره أبداً، ويراه كل ذي عقل وحس سليم ممن خوطب بالديانة، وأيضاً فإن أقل ما قيل حق ويقين، لأنه إجماع وخصمنا موافق لنا على وجوبه والزيادة عليه شك، ودعوى وظن، ولا يحل رفع اليقين بالشك ولا ترك الحق بالظن، ولا مفارقة الواجب بالدعوى، وقد حرم الله تعالى ذلك، إذ يقول عز وجل: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } وفيما ذكرنا كفاية لمن له عقل ونصح نفسه، وبالله تعالى التوفيق. فإن قال قائل: أنتم تقولون إن الإجماع والنص أصلان، والعمل بهما فرض، وأنتم تأخذون في النص بالزائد أبداً، ولا تأخذون بالمتيقن عليه، وتأخذون في الإجماع بأقل ما قيل، وهو المتفق عليه، فكيف هذا؟. فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إن الإجماع راجع إلى النص، وإلى التوقيف كما بينا في أول الكلام في الإجماع، وإنما أخذنا به، لأنه نقل العمل أو إقرار على أمر معلوم علمه عليه السلام، فأقره ولم ينكره، وليس اختلاف الموجبين للمقادير المختلفة في الأحكام نقلاً لشيء من ذلك، وإنما هو أن ما عدم أن يقوم عليه دليل نص، فإما رأى من قائله أو قياس أو تقليد، وكل ذلك باطل ودعوى بلا دليل فلذلك لزم تركه. وأما الزيادة في النص من أحد الرواة، فهو نقل صحيح، والأخذ بالنقل الصحيح واجب، والسبب الموجب لقبول الزيادة من العدل في الرواية هو السبب نفسه الموجب لقبول أقل ما قيل في الإجماع، إنما ذلك قبول ما صح من النقل فقط. وأما ما اختلف فيه، ولم يأت أحد من المختلفين فيه بنص فليس نقلاً، والسبب المانع من قبول التقليد هو السبب المانع من قبول ما زاده قائل على ما اتفق عليه هو وغيره من العلماء بأجمعهم دون دليل يأتي به يوجب زيادته ما زاد وهو كله تقليد. وقد قال بعض الشافعيين: محتجّاً في أخذ الشافعي رحمه الله في دية اليهودي والنصراني، بأنها ثلث دية المسلم، بأن ذلك أقل ما قيل.

قال أبو محمد: وليس كذلك، وقد روينا عن يونس بن عبيد عن الحسن: أن دية النصراني واليهودي ثمانمائة درهم، وقد صح عن بعض المتقدمين أنه لا دية له، فليس ثلث الدية أقل ما قيل. وأما نحن فإنا نقول: إنه لا دية لذمي أصلاً، لا يهودي ولا نصراني، ولا مجوسي إذا قتله مسلم خطأ أو عمداً، وإن قتله عندنا يهوديّاً كان أو نصرانيّاً أو مجوسيّاً أقل ما قيل، وهو ثمانمائة درهم أو ستة أبعرة وثلثا بعير.

وبرهاننا على ذلك أن الله تعالى إنما ذكر قبل الخطأ والدية فيه إن كان المقتول مؤمناً، هذا هو نص الآيات الواردات في ذلك، فلم يذكر الله تعالى لذمي دية. وقال عليه السلام: من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يأخذوا الدية، وإما أن يستقيدوا، أو كما قال عليه السلام. ونهى عليه السلام أن يقتل مؤمن بكافر فبطلت الدية إن قتله مسلم، لأنه عليه السلام إنما جعل الدية في العمد حيث يكون الخيار فيها أو في القود، وليس ذلك بين المؤمن والكافر، لكنه بين الكفار فيما بينهم وبين المؤمنين فيما بينهم، فصح قولنا وبالله تعالى التوفيق.

وحرام أخذ شيء من مال مسلم إلا بنص أو إجماع، وأما إن قتل ذمي مسلماً عمداً فقد بطلت ذمته، ولا بد من قتله وأخذ ماله كله، ولا رأي في ذلك لولي المقتول ولا دية، وحديث عبد الله بن سهل ثابت العمل، وليس فيه ذكر أن الدية التي ذكر عليه السلام كانت في عمد، إذ قد يقتلونه خطأ، ولا في قوله عليه السلام في ذلك الحديث: «أَتُقْسِمُونَ عَلَى رَجُلٍ فَيُسْلِم بِرُمَّتِهِ» أنه لو أسلم لكان فيه لولي المقتول خيار، فلا يجوز التزيد في الحديث ما ليس فيه، وسورة براءة مبينة لأحكام أهل الذمة التي لا يجوز تعديها وهي ناسخة لكل ما كان قبلها. وقد احتج بعض الموافقين لنا في هذا الفصل بأن قال: يقال لمن قال قد اتفق على وجوب حكم ما في هذه المسألة، فلا تبرأ من ذلك الحكم إلا بإجماع آخر على البراءة منه. قال فيقال له: لو شهد عدلان على أن زيداً غصب مالاً من عمرو، ولم يثبت قدر ذلك المال، للزم على قولكم أن يقال للمشهود عليه قد ثبت عليك حق فلا تبرأ حتى يقر المغصوب منه ببراءتك من كل حق له عندك. فلما أجمع الناس بلا خلاف، على أنه لا يقال له ذلك. لكن يقال له قد ثبت قبلك حق ما فأقر بما شئت، واحلف على ما أنكرت، ولا يلزمك غير ذلك، صح قولنا بأقل ما قيل، وبطل اعتراضكم وبالله تعالى التوفيق. واحتج أيضاً بأن قال ــــ من الدليل على الأخذ بأقل ما قيل: إن شاهدين لو شهدا على زيد أنه سرق، وقال أحدهما: ربع دينار، وقال آخر: بل سدس دينار، فإنه يؤخذ بأقل ما اتفقا عليه فلا يقطع ولا يغرم إلا سدس دينار فقط. قال أبو محمد: وهاتان حجتان تلزم أصحاب القياس، وليس مما نرضى أن نحتج به، وإنما اعتمادنا على البراهين الضرورية التي قدمنا وبالله تعالى نعتصم. وقال هذا القائل أيضاً: إن المقدَرين إذا اختلفا في تقدير السلعة، فإننا نأخذ بما اتفقا عليه. قال: فإن قال لنا قائل: فلم تأخذون بالزيادة في الخبر عن النبي ؟ وتقولون عند هذا الزائد علم لم يكن عند من لم يأت بتلك الزيادة. فهلا قلتم وعند هذا المقدار الزائد علم زائد بقيمة هذه السلعة فهلا أخذتم به؟. قال أبو محمد: وهذا الذي اعترض به على القائل بما ذكرنا اعتراض فاسد، لكنا نقول الجواب عن هذا: أن تقدير المقدار ليس من باب الخبر في الدين، لأن الخبر نقل عن مشاهدة يوجب حكماً على الناس كلهم، وتقدير المقدار إنما هو من باب الشهادة التي لا يقبل فيها إلا اثنان، أو واحد مع يمين الطالب، فلو كان مع هذا المقدار الزائد آخر عدل يشهد بتلك الزيادة لأخذنا بها، وإن كان ذلك فيما يؤخذ فيه باليمين مع الشاهد حلف المشهود له مع ذلك المقدر الزائد، واستحق الزيادة، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق: إن الله تعالى قال: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ثم أوجب تعالى الدية في قتل المؤمن خطأ فهي لازمة للمؤمن والذمي بعموم الخطاب، ولزوم الدين، لكل إنسي وجني، ولم يأت نص بإيجاب دية لذمي إن قتل خطأ فهو معفو عنه جملة أصابه مسلم أو ذمي. وصح عن النبي أنه قال: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خيرَتَيْن، وَإِما أَنْ يُوَدى وَإِمَّا أَنْ يُقَادُ» أو كلام هذا معناه. وصح أنه عليه السلام قال: «لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» فصح أن الدية لا تجب في العمد إلا حيث يجب التخيير فيها بين الدية وبين القود. وليس ذلك في قتل المسلم الذمي أصلاً، فبطل أن يكون على المسلم دية في الذمي لا في عمد ولا في خطأ، فإن قتل الذمي ذميّاً فهو داخل في هذا الخطاب، والقود بينهما، أو الدية، وليس إلا أحد القولين إما ما اتفق على وجوبه كما قال الحسن، وإما الدية التي قضى بها رسول الله في المسلم، فنظرنا في قول الحسن فوجدناه لا ينسند أصلاً ولا وجه له فسقط. ولا ندري أيضاً هل أجمع على مقدار ذلك أو لا؟ بل لعل من العلماء من قال لا دية لذمي أصلاً، ولعل في العلماء من يقول بأقل مما قال الحسن، فسقط هذا القول، ووجدنا الله يقول: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } فصح أن دية الذمي على الذمي كدية المسلم على المسلم، ولسنا في ذلك جاعلين لهم كالمسلمين حاشا لله من ذلك نحكم بينهم بالحكم بين المسلمين. كما أمر الله تعالى، ونحن وهم نقتل الذمي بالذمي، كما نقتله بالمسلم، وليس هذا مساواة المسلم بالمجرم وبالله تعالى حسبنا.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول

في استصحاب الحال (1) | في استصحاب الحال (2) | في استصحاب الحال (3) | وهو باب الحكم بأقل ما قيل | في ذم الاختلاف | في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل | في الشذوذ | في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا | في الدليل | في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض | في صفة التفقه في الدين | في وجوب النيات في جميع الأعمال | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها