ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول/الباب الخامس والعشرون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال أبو محمد: قال قوم: هذا مما يسع فيه الاختلاف. قال أبو محمد: وهذا باطل والاختلاف لا يسع البتة، ولا يجوز لما نذكره بعد هذا، وإنما الفرض علينا اتباع ما جاء به القرآن عن الله تعالى الذي شرع لنا دين الإسلام، وما صح عن رسول الله الذي أمره الله تعالى ببيان الدين فقال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ولا مزيد. وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

فما صح في النصين أو أحدهما فهوالحق، ولا يزيده قوة أن تجمع عليه أهل الأرض، ولا يوهنه ترك من تركه، فصح أن الاختلاف لا يجب أن يراعى أصلاً. وقد غلط قوم فقالوا: الاختلاف رحمة، واحتجوا بما روي عن النبي : «أَصحابِي كَالنُّجُومِ بَأَيِّهِم اقْتَدَيْتُم اهْتَدَيْتُمْ» . قال أبو محمد: وهذا من أفسد قول يكون، لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطاً. هذا ما لا يقوله مسلم، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط، وأما الحديث المذكور فباطل مكذوب من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية: أحدها: أنه لم يصح من طريق النقل. والثاني أنه لم يجز أن يأمر بما نهى عنه وهو عليه السلام قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسره، وكذب عمر في تأويل تأوله في الهجرة، وكذب أسيد بن حضير في تأويل تأوله فيمن رجع عليه سيفه وهو يقاتل، وخطأ أبا السنابل في فتيا أفتى بها في العدة، وقد ذكرنا هذا المعنى في باب إبطال التقليد من كتابنا هذا، مستوعباً فأغنى عن إيراده ههنا، وفيما ذكرنا كفاية.

فمن المحال الممتنع الذي لا يجوز البتة، أن يكون يأمر باتباع ما قد أخبر أنه خطأ، فيكون حينئذ أمر بالخطأ، تعالى الله عن ذلك، وحاشا له من هذه الصفة، وهو عليه السلام قد أخبر أنهم يخطئون، فلا يجوز أن يأمرنا باتباع من يخطىء إلا أن يكون أراد نقلهم لما رووا عنه فهذا صحيح، لأنهم رضي الله عنهم كلهم ثقات، فعن أيهم نقل فقد اهتدى الناقل. والثالث أن النبي لا يقول الباطل، بل قوله الحق وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد، وكذب ظاهر، لأنه من أراد جهة مطلع الجدي قام (جهة) مطلع السرطان لم يهتد، بل قد ضل ضلالاً بعيداً، وأخطأ خطأ فاحشاً، وخسر خسراناً مبيناً، وليس كل النجوم يهتدى بها في كل طريق، فبطل التشبيه المذكور، ووضح كذب ذلك الحديث وسقوطه وضوحاً ضرورياً.

قال أبو محمد: وقد ذم الله تعالى الاختلاف في غير ما موضع من كتابه قال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } . وقال تعالى مفترضاً للاتفاق وموجباً رفض الاختلاف: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إلى قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فصح أنه لا هدى في الدين إلا ببيان الله تعالى لآياته، وأن التفرق في الدين حرام لا يجوز، وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } وقال تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } .

حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدوي، نا أحمد بن زيد، ثنا أبو عمران الجوني قال: كتب إلى عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله يعرف في وجهه الغضب فقال: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلاَفِهِمْ فِي الكِتَابِ» . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، نا أبو إسحاق البلخي، نا الفربري، نا البخاري، حدثنا أبو الوليد هو الطيالسي، نا شعبة، أخبرني عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت النزال بن سبرة قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال: سمعت رجلاً قرأ آية سمعت من رسول الله خلافها، فأخذت بيده فأتيت به رسول الله فقال: «كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ» قال شعبة: أظنه قال: «لاَ تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا» .

حدثنا محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني، نا بندار، نا غندر، نا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال، عن ابن مسعود، عن النبي بهذا الحديث. وذكر شعبة في آخره قال: حدثني مسعر عنه فرفعه إلى ابن مسعود عن رسول الله قال: «وَلاَ تَخْتَلِفُوا» .

حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم، نا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة، عن محمد بن زياد، سمع أبا هريرة عن النبي قال: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» . وبه إلى مسلم، نا يحيى بن يحيى، وإسحاق بن منصور، وأحمد بن سعيد بن صخر الدارمي قال يحيى: أنا أبو قدامة الحارث بن عبيد، وقال إسحاق: نا عبد الصمد هو ابن عبد الوارث التنوري، ثنا همام، وقال أحمد: نا حبان، نا أبان، قالوا كلهم: نا أبو عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله البلخي، عن النبي أنه قال: «اِقْرَؤُوا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا» . وبه إلى مسلم، حدثني زهير بن حرب، نا جرير عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «إِنَّ الله تَعَالَى يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثاً وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثاً، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ المَالِ» .

قال أبو محمد: ففي بعض ما ذكرنا كفاية، لأن الله تعالى نص على أن الاختلاف شقاق، وأنه بغي ونهى عن التنازع والتفرق في الدين، وأوعد على الاختلاف بالعذاب العظيم، وبذهاب الريح، وأخبر أن الاختلاف تفريق عن سبيل الله، ومن عاج عن سبيل الله تعالى فقد وقع في سبيل الشيطان، قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به، وإنما أراده تعالى إرادة كون، كما أراد كون الكفر وسائر المعاصي. فإن قال قائل: إن الصحابة قد اختلفوا وأفاضل الناس، أفيلحقهم هذا الذم؟ قيل له، وبالله تعالى التوفيق: كلا، ما يلحق أولئك شيء من هذا، لأن كل امرىء منهم تحرى سبيل الله ووجهة الحق، فالمخطىء منهم مأجور أجراً واحداً لنيته الجميلة في إرادة الخير، وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم لأنهم لم يتعمدوه ولا قصدوه ولا استهانوا بطلبهم والمصيب مأجور منهم أجرين. وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين ولم يبلغه، وإنما الذم المذكور والوعيد الموصوف، لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى الذي هو القرآن وكلام النبي بعد بلوغ النص إليه، وقيام الحجة به عليه وتعلَّق بفلان وفلان مقلِّداً عامداً للاختلاف، داعياً إلى عصبية وحمية الجاهلية، قاصداً للفرقة، متحرياً في دعواه برد القرآن والسنة إليها، فإن وافقها النص أخذ به، وإن خالفها تعلق بجاهليته وترك القرآن وكلام النبي فهؤلاء هم المختلفون المذمومون. وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين، وقلة التقوى، إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم، مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى، وعن رسوله .

فإن قال قائل: فإذ لا بد من مواقعة الاختلاف فكيف التخلص من هذا الذم الوارد في المختلفين، قيل له، وبالله تعالى التوفيق: قد علمنا الله تعالى الطريق في ذلك، ولم يدعنا في لبس وله الحمد، فقال تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }

فإذا وردت الأقوال، فاتبع كلام الله تعالى، وكلام نبيه الذي هو بيان عما أمرنا الله تعالى به، وما أجمع عليه جميع المسلمين، فهذا هو صراط الله تعالى وحبله الذي إذا تمسكت به أخرجك من الفرقة المذمومة ومن الاختلاف المكروه إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى، وهذا هو الذي أجمع عليه جميع أهل الإسلام قديماً وحديثاً، فإن لم يكن قط مسلم إلا ومن عقده وقوله: إن كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه السلام فرض قبوله، وأنه لا يحل لأحد معارضته بشيء من ذلك ولا مخالفته، وبقيت سائر الأقوال المأخوذة من تقليد فلان وفلان، ومن القياس، ومن الاستحسان، وهي الاختلاف المذموم الذي لا يحل اتباعه، فمن تركها فقد ترك الاختلاف، وأصحاب أولئك الأقوال كلها مأمورون بتركها والرجوع إلى حبل الله تعالى وصراطه، فإذا تركوها فقد تركوا الاختلاف والفرقة، ورجعوا إلى الفرض عليهم من الاتفاق اللازم، ولهذا قلنا بفسخ قضاء كل قاضي قضى به بخلاف النص، وسواء قال به طوائف من العلماء أو لا، قال الله عز وجل: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } فاستثنى تعالى من رحم من جملة المختلفين، وأخرج المرحومين من جملة المختلفين وعديدهم، ومن ظن أن قوله تعالى: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أنه يعني وللرحمة خلقهم، وأرادوا بذلك استباحة الاختلاف، فهو في غاية الفساد ببرهانين ضروريين.

أحدهما: أن الله تعالى استثنى من رحم فأخرجهم من جملة المختلفين، فلو أنه تعالى خلق المختلفين للرحمة لاستثنى المرحومين من أنفسهم، ولأخرجهم من جملة أنفسهم، وهذا باطل لا يجوز ومحال في الكلام لا يفهم. والبرهان الثاني: أن المختلفين موجودون، وكل موجود عن حالة ما، فلا شك عند كل مسلم أنه تعالى إنما خلقه ليكون على تلك الحالة، وصح يقيناً بلا مرية أنه الاختلاف الذي هم عليه بالعيان خلقهم، إلا أن يقول قائل: إن الضمير الذي في خلقهم وهو الهاء والميم راجع إلى من رحم، فيكون المراد حينئذ استثناء المرحومين من جملة المختلفين، وأن أولئك الذين اعتصموا بحبل الله تعالى للرحمة فهذا صحيح لا شك فيه، وذم الاختلاف وخروجه من الرحمة باق بحسبه، وممن قال بهذا من السلف الصالح عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، كما كتب إلى المهلب، عن ابن مناس، عن ابن مسرور، عن يونس بن عبد الأعلى، أخبرني ابن وهب، أخبرني عبد الله بن يزيد، عن المسعودي قال: سمعت عمر بن عبد العزيز قرأ هذه الآية: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } قال: خلق أهل رحمته ألا يختلفوا، قال ابن وهب: وسمعت مالكاً يقول فيها: الذين رحمهم الله لم يختلفوا.

قال أبو محمد: معنى قولنا الاختلاف في الدين غير جائز، إنما هو أن طاعة أمر الله تعالى وأمر رسوله لا يجوز خلافها البتة، وليس فيما جاء من عند الله تعالى على لسان رسوله تخالف، إنما هو محكم أو خاص من جملة مخصوصة منها، أو ناسخ ومنسوخ فقط، وإذ لا حق إلا فيما جاء من عند الله على لسان رسول الله فخلاف الحق لا يحل، هذا أمر لا يخفى صوابه على أحد، كما أن الثلاثة أكثر من الاثنين، وبالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول

في استصحاب الحال (1) | في استصحاب الحال (2) | في استصحاب الحال (3) | وهو باب الحكم بأقل ما قيل | في ذم الاختلاف | في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل | في الشذوذ | في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا | في الدليل | في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض | في صفة التفقه في الدين | في وجوب النيات في جميع الأعمال | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها