ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول/الباب الحادي والثلاثون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


في صفة التفقه في الدين، وما يلزم كل امرىء طلبه من دينه،وصفة المفتيالذي لم يفت في الدين، وصفة الاجتهاد الواجب على أهل الإسلام


قال أبو محمد: قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } فبين الله عز وجل في هذه الآية وجه التفقه كله، وأنه ينقسم قسمين: أحدهما: يخص المرء في نفسه وذلك مبين في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } فهذا معناه تعليم أهل العلم لمن جهل حكم ما يلزمه. والثاني: تفقه من أراد وجه الله تعالى، بأن يكون منذراً لقومه وطبقته قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } ففرض على كل أحد طلب ما يلزمه، على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه في تعرف ما ألزمه الله تعالى إياه، وقد بينا أن الاجتهاد هو افتعال من الجهد، فهو في الدين إجهاد المرء نفسه في طلب ما تعبده الله تعالى به في القرآن، وفيما صح عن النبي لأنه لا دين غيرهما، فأقلهم في ذلك درجة من هو في غمار العامة، ومن حدث عهده بالجلب من بلاد الكفر وأسلم من الرجال والنساء. وقد ذكرنا كيف يطلب هؤلاء علم ما يلزمهم من شرائع الإسلام، في باب إبطال التقليد من كتابنا هذا، فأغنى عن ترداده، ونذكر منه ههنا ما لا بد من ذكره، وهو أن كل مسلم عاقل بالغ من ذكر أو أنثى، حر أو عبد، يلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضاً بلا خلاف من أحد من المسلمين، وتلزم الطهارة والصلاة المرضى والأصحاء، ففرض على كل من ذكرنا أن يعرف فرائض صلاته وصيامه وطهارته وكيف يؤدي كل ذلك. وكذلك يلزم كل من ذكرنا أن يعرف ما يحل له ويحرم، من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والأقوال والأعمال، فهذا كله لا يسع جهله أحداً من الناس، ذكورهم وإناثهم، أحرارهم وعبيدهم وإمائهم، وفرض عليهم أن يأخذوا في تعلم ذلك من حين يبلغون الحلم وهم مسلمون، أو من حين يسلمون بعد بلوغهم الحلم، ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الأرقاء على تعليمهم ما ذكرنا، إما بأنفسهم، وإما بالإباحة لهم لقاء من يعلمهم، وفرض على الإمام أن يأخذ الناس بذلك، وأن يراتب أقواماً لتعليم الجهال. ثم فرض على كل ذي مال تعلم حكم ما يلزمه من الزكاة، وسواء الرجال والنساء والعبيد والأحرار، فمن لم يكن له مال أصلاً فليس تعلم أحكام الزكاة عليه فرضاً.

ثم من لزمه فرض الحج، ففرض عليه تعلم أعمال الحج والعمرة. ولا يلزم ذلك من لا صحة لجسمه ولا مال له، ثم فرض على قواد العساكر معرفة السير وأحكام الجهاد، وقسم الغنائم والفيء، ثم فرض على الأمراء والقضاة تعلم الأحكام والأقضية والحدود، وليس تعلم ذلك فرضاً على غيرهم، ثم فرض على التجار وكل من يبيع غلته تعلم أحكام البيوع، وما يحل منها وما يحرم، وليس ذلك فرضاً على من لا يبيع ولا يشتري ثم فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو دسكرة ــــ وهي المجشرة عندنا ــــ أو حلة أعراب أو حصن أن ينتدب منهم لطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها، ولتعلم القرآن كله، ولكتاب كل ما صح عن النبي من أحاديث الأحكام أولها عن آخرها وضبطها بنصوص ألفاظها، وضبط كل ما أجمع المسلمون عليه ما اختلفوا فيه من يقوم بتعليمهم وتفقيههم من القرآن والحديث والإجماع. يكتفي بذلك على قدر قلتهم أو كثرتهم بالآية التي تلونا في أول هذا الكتاب، بحسب ما يقدر أن يعمهم بالتعليم، ولا يشق على المستفتي قصده، فإذا انتدب لذلك من يقوم بما ذكرنا فقط سقط عن باقيهم إلا ما يلزمه خاصة نفسه فقط على ما ذكرنا آنفاً، ولا يحل للمفقه أن يقتصر على آراء الرجال دون ما ذكرنا. فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله كما ذكرنا ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المحتوين على صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم، ولو أنهم بالصين لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } والنفار والرجوع لا يكون إلا برحيل. ومن وجد في محلته من يفقهه في صنوف العلم كما ذكرنا فالأمة مجمعة على أنه لا يلزمه رحيل في ذلك، إلا القصد إلى مسجد الفقيه أو منزله فقط، كما كان الصحابة يفعلون مع النبي وهكذا القول في حفظ القرآن كله وتعليمه، ففرض على كل مسلم حفظ أم القرآن وقرآن ما، وفرض على جميع المسلمين أن يكون في كل قرية أو مدينة أو حصن من يحفظ القرآن كله ويعلمه الناس ويقرئه إياهم، لأمر رسول الله بقراءاته. فصح بكل ما ذكرنا أن النفار المذكور فرض على الجماعة كلها حتى يقوم بها بعضهم فيسقط عن الباقين. وأما من قال: إنه ليس فرضاً على الجماعة، لكنه فرض على بعضهم بغير أعيانهم، فنكتفي من إبطال قوله بأنه يحمل خطاب الله تعالى واقعاً على لا أحد، لأنه إذا لم يعين تعالى من يخاطب، ولا خاطب الجميع، فلم يخاطب أحداً عز وجل عن ذلك، وفي هذا سقوط الفرض عن كل من لم يخاطب، فهو ساقط على كل أحد، إذ كل أحد لم يخاطب، وفي هذا بطلان الدين، وبالله تعالى التوفيق.

فالناس في ذلك على مراتب، فمن ارتفع فهمه عن فهمهم أغتام المجلوبين من بلاد العجم منذ قريب، وعن فهم أغتام العامة، فإنه لا يجزيه في ذلك ما يجزي من ذكرنا، لكن يجتهد هذا على حسب ما يطيق في البحث عما نابه من نص الكتاب والسنة ودلائلهما، ومن الإجماع ودلائله؛ ويلزم هذا إذا سأل الفقيه فأفتاه أن يقول له: من أين قلت هذا؟ فيتعلم من ذلك مقدار ما انتهت إليه طاقته وبلغه فهمه.

وأما المنتصبون لطلب الفقه، وهم النافرون للتفقه، الحاملون لفرض النفار عن جماعتهم، المتأهبون لنذارة قومهم، ولتعلم المتعلم، وفتيا المستفتي، وربما للحكم بين الناس، ففرض عليهم تقصي علوم الديانة على حسب طاقتهم، ومن أحكام القرآن، وحديث النبي ورتب النقل، وصفات النقلة، ومعرفة السند الصحيح مما عداه من مرسل ضعيف، هذا فرضه اللازم له، فإن زاد إلى ذلك معرفة الإجماع والاختلاف، ومن أين قال كل قائل، وكيف يرد أقاويل المختلفين المتنازعين إلى الكتاب والسنة، فحسن، وفرض عليه تعلم كيفية البراهين التي يتميز بها الحق من الباطل، وكيف يعمل فيما ظاهره التعارض من النصوص، وكل هذا منصوص في القرآن. قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } فهذا إيجاب لتعلم أحكام القرآن، وأحكام أوامر النبي ، لأن هذين أصل الدين، وقال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } فوجب بذلك تعرف عدول النقلة من فساقهم، وفقهائهم ممن لم يتفقه منهم.

وأما معرفة الإجماع والاختلاف، فقد زعم أن هذا يجب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } قال: ففرض علينا معرفة ما اتفق عليه أولو الأمر منا، لأننا مأمورون بطاعتهم، ولا يمكننا طاعتهم إلا بعد معرفة إجماعهم الذي يلزمنا طاعتهم فيه. وأما معرفة الاختلاف، ومعرفة ما يتنازعون فيه، ومعرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة فبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ففرض علينا معرفة ما يتنازعون فيه، ومعرفة كيف يرد ذلك إلى الكتاب والسنة، لأننا إن لم نعرف الاختلاف ظننا أن القول الذي نسمعه من بعض العلماء لا خلاف فيه، فنتبعه دون أن نعرضه على القرآن والسنة، فنخطىء ونعصي الله تعالى، إذ أخذنا قولاً نهينا عن اتباعه.

قال أبو محمد: وهذا خطأ، لأننا إنما أمرنا تعالى بطاعة أولي الأمر فيما نقلوه إلينا عن رسول الله ، فأما أن يقولوا من عند أنفسهم بحكم لا نص فيه فما جاز هذا قط لأحد أن يفعله، ولا حل لأحد قط أن يطيع من فعله. وقد توعد الله تعالى ورسوله على هذا أشد الوعيد، فكيف على من دونه قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } فصح أن من قال في الدين بقول أضافه إلى الله تعالى فقد كذب، وتقوَّل على الله تعالى الأقاويل. وأن من لم يضفه إلى الله تعالى، فليس من الدين أصلاً، لكن معرفة الاختلاف علم زائد، قال سعيد بن جبير: أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف، وصدق سعيد، لأنه علم زائد، وكذلك معرفة من أين قال كل قائل، فأما معرفة كيفية إقامة البرهان فبقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فلم نقل شيئاً إلا ما قاله ربنا عز وجل وأوجبه علينا، والحمد لله رب العالمين.

وإنما نحن منبهون على ما أمرنا الله تعالى، وموقفون على مواضع الأوامر التي مر عليها من يمر غافلاً أو معرضاً، ومنذرون قومنا فيما تفقهنا فيه، ونفرنا لتعلمه ــــ بمن الله عز وجل علينا، كما أمرنا تعالى، إذ يقول: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ولا نقول من عند أنفسنا شيئاً ونعوذ بالله من ذلك، ولم يبح الله تعالى ذلك لأحد لا قديماً ولا حديثاً، وبالله تعالى نتأيد، وقال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ففرض علينا معرفة الناسخ من المنسوخ، وفرض على من قصد التفقه في الدين، كما ذكرنا أن يستعين على ذلك من سائر العلوم بما تقتضيه حاجته إليه في فهم كلام ربه تعالى، وكلام نبيه قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ففرض على الفقيه أن يكون عالماً بلسان العرب، ليفهم عن الله عز وجل وعن النبي ، ويكون عالماً بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن، وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الحركات، وبناء الألفاظ، فمن جهل اللغة وهي الألفاظ الواقعة على المسميات، وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني، فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا الله تعالى ونبينا ، ومن لم يعرف ذلك اللسان لم يحل له الفتيا فيه، لأنه يفتي بما لا يدري، وقد نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } وبقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } وبقوله تعالى: {هأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وبقوله تعالى: {هأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وقال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ } .

وفرض على الفقيه أن يكون عالماً بسير النبي ، ليعلم آخر أوامره وأولها، وحربه لمن حارب، وسِلْمه لمن سالم، وليعرف على ماذا حارب، ولماذا وضع الحرب، وحرم الدم بعد تحليله، وأحكامه التي حكم بها، فمن كانت هذه صفته، وكان ورعاً في فتياه، مشفقاً على دينه صليباً في الحق، حلَّت له الفتيا وإلا فحرام عليه أن يفتي بين اثنين، أو أن يحكم بين اثنين، وحرام على الإمام أن يقلده حكماً أو يتيح له فتيا، وحرام على الناس أن يستفتوه لأنه إن لم يكن عالماً بما ذكرنا، فلم يتفقه في الدين، وإن لم يكن مشفقاً على دينه فهو فاسق، وإن لم يكن صليباً لم يأمر بمعروف، ولا نهى عن منكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان على الناس قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وهذا متوجه إلى العلماء بالمعروف وبالمنكر، لأنه لا يجوز أن يدعو إلى الخير إلا من علمه، ولا يمكن أن يأمر بالمعروف إلا من عرفه، ولا يقدر على إنكار المنكر إلا من يميزه.

فإن كان مع ما ذكرنا قويّاً على إنفاذ الأمور حَسَنُ السياسة حل له القضاء والإمارة، وإلا فلا. قال رسول الله : «المُؤْمِنُ القَويُّ أَحَبُّ إلَى الله مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ» ، وقال لأبي ذر: «يَا أَبَا ذَرَ إِنِّي أُحِبُّ إِلَيْكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، إِنَّكَ ضَعِيفٌ فَلاَ تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنِيْنِ وَلاَ تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» ، وكان أبو ذر رضي الله عنه ممن له أن يفتي ولم يكن ممن له أن يقضي، لأنه لم يكن له حسن التأتي في تناول ما يريد، بل كانت فيه عجرفة ومهاجمة، ربما صار بها منذراً وقد أمر معاذاً وأبا موسى ــــ إذ بعثهما قاضيين على اليمن، ومعلمين للدين، وأميرين بأن ييسرا ولا ينفرا، هذا على عظيم فضل أبي ذر وكريم سوابقه في الإسلام، وزهده وورعه ورفضه للدنيا، وثباته على ما فارق عليه نبيه ، وصدعه بالحق، وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم، وتقدمه على أكثر الصحابة.

فحد الفقه هو المعرفة بأحكام الشريعة من القرآن، ومن كلام المرسل بها، الذي لا تؤخذ إلا عنه، وتفسير هذا الحد ــــ كما ذكرنا ــــ المعرفة بأحكام القرآن وناسخها ومنسوخها، والمعرفة بأحكام كلام رسول الله ناسخه ومنسوخه، وما صح نقله مما لو يصح، ومعرفة ما أجمع العلماء عليه، وما اختلفوا فيه، وكيف يرد الاختلاف إلى القرآن وكلام الرسول ، فهذا تفسير العلم بأحكام الشريعة. وكل من علم مسألة واحدة من دينه على الرتبة التي ذكرنا، أجاز له أن يفتي بها، وليس جهله بما جهل بمانع من أن يفتي بما علم، ولا علمه بما علم بمبيح له أن يفتي فيما جهل، وليس أحد بعد النبي إلا وقد غاب عنه من العلم كثير هو موجود عند غيره، فلو لم يفت إلا من أحاط بجميع العلم. لما حل لأحد من الناس بعد رسول الله أن يفتي أصلاً وهذا لا يقوله مسلم، وهو إبطال للدين، وكفر من قائله. وفي بعثه النبي الأمراء إلى البلاد، ليعلموا الناس القرآن وحكم الدين، ولم يكن أحد منهم يستوعب جميع ذلك، لأنه قد كان تنزل بعدهم الآيات والأحكام بيان صحيح بأن العلماء، وإن فاتهم كثير من العلم، فإن لهم أن يفتوا ويقضوا بما عرفوا. وهذا الباب أيضاً بيان جلي على أن من علم شيئاً من الدين علماً صحيحاً فله أن يفتي به، وعليه أن يطلب علم ما جهل مما سوى ذلك، ومن علم أن في المسألة التي نزلت حديثاً قد فاته، لم يحل له أن يفتي في ذلك حتى يقع على ذلك الحديث. ومن لم يعلم الأحكام على الصفة التي ذكرنا قبل، لكن إنما أخذ المسائل تقليداً، فإنه لا يحل لمسلم أن يستفتيه، ولا يحل له أن يفتي بين اثنين، ولا يحل للإمام أن يوليه قضاء ولا حكماً أصلاً، ولا يحل له إن قلد ذلك أن يحكم بين اثنين، وليس أحد بعد النبي إلا وهو يخطىء ويصيب، فليس خطأه بمانع من قبول صوابه، وبالله تعالى التوفيق، فلا يوجد مفت في الديانة وفي الطب أبداً، إلا أحد ثلاثة أناسي: إما عالم يفتي بما بلغه من النصوص بعد البحث والتقصي، كما يلزمه، فهذا مأجور أخطأ وأصاب، وواجب عليه أن يفتي بما علم، وإما فاسق يفتي بما يتفق له، مستديماً لرياسة أو لكسب مال، وهو يدري أنه يفتي بغير واجب، وإما جاهل ضعيف العقل، ويفتي بغير يقين علم، وهو يظن أنه مصيب، ولم يبحث حق البحث، ولو كان عاقلاً لعرف أنه جاهل، فلم يتعرض لما لا يحسن.

حدثني أبو الزناد سراج بن سراج، وخلف بن عثمان البحام، وأبو عثمان سعيد بن محمد الضراب كلهم يقولون: سمعت عبد الله بن إبراهيم الأصيلي يقول: قال لي الأبهري أبو بكر محمد بن صالح: كيف صفة الفقيه عندكم بالأندلس؟ فقلت له: يقرأ المدونة، وربما المستخرجة، فإذا حفظ مسائلهما أفتى. فقال لي: هذا ما هو؟ فقلت له: نعم، فقال لي: أجمعت الأمة على أن من هذه صفته لا يحل له أن يفتي. قال أبو محمد: علي بن أحمد، وحدثني أبو مروان عبد الملك بن أحمد المرواني قال: سمعت أحمد بن عبد الملك الإشبيلي المعروف بابن المكري، ونحن مقبلون من جنازة من الربض بعدوة نهر قرطبة، وقد سأله سائل فقال له: ما المقدار الذي بلغه المرء، حل له أن يفتي. ثم أخبرني أحمد بن الليث الأنسري، أنه حمل إليه وإلى القاضي أبي بكر يحيى بن عبد الرحمن بن واقد كتاب الاختلاف الأوسط لابن المنذر فلما طالعاه قالا له: هذا كتاب من لم يكن عنده في بيته لم يشم رائحة العلم، قال: وزادني ابن واقد أن قال: ونحن ليس في بيوتنا، فلم نشم رائحة العلم. قال أبو محمد: لم نأت بما ذكرنا احتجاجاً لقولنا، ولكن إلزاماً لهم ما يلتزمونه، فإن قول أكابر أهل بلادنا عندهم أثبت من العيان، وأولى بالطاعة مما رووا في حديث النبي ، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان. قد بينا صفة الطلب والمفتي والاجتهاد الذي نأمر به، ونصوب من فعله، وهو طلب الحكم في المسألة من نص القرآن، وصحيح الحديث، وطلب الناسخ من المنسوخ، وبناء الحديث بعضه مع بعض ومع القرآن، وبناء الآي بعضها مع بعض على ما بينا فيما سلف من كتابنا هذا، ليس عليه غير هذا البتة، وإن طالع أقوال الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم عصراً عصراً، ففرض عليه أن ينظر من أقوال العلماء كلها نظراً واحداً، ويحكم فيها القرآن والسنة، فلأيها حكم اعتقده وأفتى به واطرح سائرها، وإن لم يجد شيئاً مما بلغه منها، بل عليه أن يأخذ بالنص وإن لم يبلغه أن قائلاً قال به، لما قد بيناه في كلامنا في الإجماع من امتناع الإحاطة بأقوال العلماء السالفين، ومن قيام البرهان على أنه لا يخلو عصر من قائل الحق، فهذا هو الاجتهاد الصحيح الذي يؤجر من فعله على كل حال، فإن وافق الحق عند الله عز وجل أجر أجراً ثانياً على الإصابة، فحصل له أجران، وإن لم يوافق لإدراك الحق لم يأثم، وقد حصل له أجر الطلب للحق وإرادته كما قال الشاعر: وما كل موصوف له الحق يهتدي***** ولا كل من أم الصوى يستبينها

وكل ما سمي اجتهاداً من غير ما ذكرنا فهو باطل وإفك، وزين بأن سمي اجتهاداً كما سمي اللديغ سليماً، والمهلكة مفازة، والأسود السخامي أبا البيضاء والأعمى بصيراً، وكما سمى قوم المسكر نبيذاً، وطلاء وهو الخمر بعينها، ويبين ما قلنا قوله : «إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» أو كما قال . واعتراضها ههنا أمر نحتاج إلى تفسيره لغلط أكثر الناس فيه، وهو إيقاع اسم الحفظ واسم العلم واسم الفقه، على كل ما يستحق شيئاً من هذه الأسماء، لأنها أسماء واقعة على صفات متغايرة، فوجب بيانها، فنفسر ذلك في علم الشريعة التي عرضنا في ديواننا هذا الكلام فيها، وبالله تعالى التوفيق، وبه عز وجل نتأيد لا إله إلا هو، فنقول وبالله تعالى نستعين:

الحفظ: اسم واقع على وصفه المرء، وهي ذكره لأكثر سواد ما صنف وجمع، وذكر في علمه وغرضه الذي قصد، كحافظ سواد القرآن، وحافظ سواد الحديث ونصوصه، أو حافظ نصوص مسائل مذهبه الذي يقصد وينتحل. فهذا معنى الحفظ.

وأما اسم العلم: فهو واقع على صفة في المرء، وهو اتساعه على الإشراف على أحكام القرآن، وروى الحديث صحيحه وسقيمه فقط، فإن أضاف إلى ذلك الوقوف على أقوال الناس، كان ذلك حسناً، كلما اتسع باع المرء في هذه المعاني زاد استحقاقه لاسم العلم، وهكذا في كل علم من العلوم، ويكون مع ذلك ذاكراً لأكثر ما عنده، وليس هذا حقيقة معنى لفظة «العلم» في اللغة، لكنه معناه في قولهم: فلان عالم، وفلان أعلم من فلان. وأما تفسير لفظة «العلم» في اللغة فقد فسرناه في كتابنا هذا، وفي كتابنا الموسوم بالفصل.

وأما اسم الفقه: فهو واقع على صفة في المرء، وهي فهمه لما عنده؛ وتنبهه على حقيقة معاني ألفاظ القرآن والحديث، ووقوفه عليها، وحضور كل ذلك في ذكره متى أراده، ويزيد القياسيون علينا ههنا زيادة وهي: معرفته بالنظائر في الأحكام والمسائل وتمييزه لها، فهذه معاني الأسماء المذكورة في قولهم: فلان حافظ، وفلان عالم، وفلان فقيه. فإن قال قائل: أيجوز الاجتهاد بحضرة النبي ؟ فالجواب: أنه فيما لم يؤمروا به ولا نهوا عنه، ولكنه مباح لهم، جائز كاجتهادهم فيما يجعلونه علماً للدعاء إلى الصلاة، ولم يكن ذلك على إيجاب شريعة تلزم، وإنما كان إنذاراً من بعضهم لبعض، كقول أحدنا لجاره إذا نهض للصلاة: قم بنا إلى الصلاة، حتى إذا نزل الوحي على النبي بما وافق رؤيا عبد الله بن زيد الأنصاري أبطل كل ما كانوا تراضوا به، وقد اجتهد قوم بحضرته فيمن هم السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة وجوههم كالقمر ليلة البدر، فأخطؤوا في ذلك حتى بين لهم النبي من هم، ولم يعنفهم في اجتهادهم، وقد أخطؤوا فيه، ولكن بين أنهم لم يصيبوا، وأن الحق في خلاف ما قالوا كلهم.

فإنما يجوز الاجتهاد في تأويل مثل هذا، وفيما يعرف به بعضهم بعضاً بحضور الصلاة وما أشبه ذلك، وأما في إيجاب فرض أو تحريم شيء أو ضرب حد، فحرام أن يجوز فيه لأحد اجتهاد برأيه فقط، أو قول بوجه من الوجوه، لأنهم كانوا يكونون بذلك شارعين ما لم يأذن به الله، ومفترين على الله تعالى، وقد نزههم الله تعالى عن ذلك وكل ما جاز لهم رضوان الله عليهم أن يجتهدوا فيه فهو جائز لنا، ولكل إلى يوم القيامة، وما حرم علينا من ذلك وغيره فقد كان حراماً عليهم ولا فرق. وقد أفتى أبو السنابل باجتهاده في المتوفى عنها زوجها وهي حامل، فأخذ بآية الأربعة أشهر وعشراً فأخطأ، وهو مجتهد فله أجر واحد لأنه لم يصب حكم الله تعالى. وأما حديث معاذ فيما روي من قوله: أجتهد رأيي، وحديث عبد الله بن عمر وفي قوله: أجتهد بحضرتك يا رسول الله، فحديثان ساقطان. أما حديث معاذ فإنما روي عن رجال من أهل حمص لم يسموا، وحديث عبد الله منقطع أيضاً لا يتصل.

فإن قال قائل: أيجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد؟ فالجواب وبالله تعالى التوفيق. إن من ظن أن الاجتهاد يجوز لهم في شرع شريعة لم يوح إليهم فيها فهو كفر عظيم، ويكفي من إبطال ذلك أمره تعالى نبيه أن يقول: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } وقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } وأنه كان يسأل عن الشيء فينتظر الوحي ويقول: «مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي هذَا شَيْءٌ» ذلك في حديث في زكاة الحمير وميراث البنتين مع العم والزوجة وفي أحاديث جمة وإن كان السائل عن هذا يعني أيجوز عليه الاجتهاد في قبول شاهدين لعلهما مغفلان؟ فهذا جائز والحكم بيمين لعلها كاذبة؟ فهذا جائز، لأنه بهذا أمر نصّاً، وهو لم يؤت علم الغيب في كل موضوع، وإنما أمر بقبول الشاهدين العدلين عنده من المسلمين أو العدل كذلك مع يمين الطالب أو المرأة الواحدة في الرضاع، أو الكافرين في الوصية في السفر، أو الواحد على رؤية الهلال، أو الأربعة العدول في الزنى، أو المرأتين مكان الرجل، أو يمين المدعى عليه ــــ إن مبطلاً وإن محقّاً ــــ ما لم يعلم هو ببطلان الشهادة، أو قوله: «ويسلط الله من يشاء على ظلم من يشاء حتى ينصف كل مظلوم يوم الحشر» و {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَا لِهَـذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } «ولا مثقال ذرة إلا جازى عليها» إلا ما أسقط من ذلك بالتوبة أو باجتناب الكبائر.

وهذا الذي قلنا هو نص جلي، وقد بين ذلك بقوله: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» وبقوله عليه السلام: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هذَا بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ» وبقوله عليه السلام: إذا قال له الحضرمي في خصمه: يا رسول الله إنه فاجر لا يرع عن شيء ــــ وكان عليه السلام قد أوجب عليه اليمين ــــ فقال للحضرمي: «لَيْسَ لَكَ إِلاَّ ذلِكَ» وإذ قال له أصحابه حين قتل عبد الله بن سهل: يا رسول الله أتقبل أيمان يهودي؟ فلم يجعل لهم غير ذلك: وبقوله للمتلاعنين: «إِنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمْ تَائِبٌ» . فبين عليه السلام أنه إنما يفعل ما أمره به ربه تعالى؛ ولم يكلف قط أن يعطي الحق صاحبه بيقين، ولا أن يعلم عيب الشهود، ولا كلفنا نحن شيئاً من ذلك أيضاً، وإنما أمر أن يقضي بالبينة العدلة عنده، ولا يقدر على أكثر من أن يحكم بالعدالة الظاهرة إليه، وبظاهر العلم عنده، وكما أمر بقبول اليمين من المنكر، وهما شيئان متغايران: أحدهما: بما شهدت به البينة، وألا يقضي على من حلف في قضية ألزم فيها اليمين، فهذا هو الذي ألزم النبي وألزمنا نحن بعده . والثاني: أن يمكن صاحب الحق في علم الله تعالى من حقه، وهذا لا سبيل إلى علمه في كل موضع، فإن حرمنا هذا وحرمنا وفاق العدل عند الله عز وجل. فلا إثم ولا حرج، لأنه لا سبيل إلى علم ذلك بيقين، ولا كلفناه، وهذا لا يسمى اجتهاداً على الإطلاق، ولكنه يقين اتباع ما أمر به عليه السلام من الحكم بالعدول على حسب ما يطيق على معرفته، وهو الظاهر، وبقبول يمين المنكر، ولا سبيل إلى اجتهاد النبي في شرع الشرائع، والأوامر عنده واردة متيقنة، ولا إشكال فيها. يعمل خاصها من عامها، وناسخها من منسوخها، ومستثناها من المستثنى منه، علم يقين ومشاهدة في جميع ما أنزل عليه. وأما الاجتهاد الذي كلفناه نحن، فهو طلب هذه المعاني، ولم نشاهدها كلها فنعلمها لكن نقبلها من الثقات الذين أمرنا الله تعالى بقبول نذارتهم إلى أن يبلغونا إلى الذين شهدوها، وهم ونحن لا نعلم كل ذلك علم يقين. فإن اعترض معترض بفعله عليه السلام في أخذ الفداء، فنزل من عتابه على ذلك ما نزل. فالجواب: أننا لا ننكر أن يفعل عليه السلام ما لم يتقدم نهي من ربه تعالى له عنه، إلا أنه لا يترك وذلك، ولا بد من أن ينبه عليه. وأما الوهم من النبي وهو يقصد بذلك فعل الخير، فلسنا ننكره إلا أنه لا يقر عليه البتة، وهذا لا يجوز أن يكون في شرع شريعة، ولا إيجاب فرض، ولا تحريم، وإنما هو فيما قدره مباحاً له، إذ لم ينه عنه قبل ذلك، لكن كفعله بابن أم مكتوم إذ نزلت: {عَبَسَ وَتَوَلَّى } . وقد احتج بعضهم ممن أجاز الاجتهاد بالرأي في الدين، بأمر سليمان وداود عليهم السلام: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } .

قال أبو محمد: وهذه مسألة اختلف الناس فيها على وجوه، فقوم قالوا: نسخ الله حكم داود بحكم سليمان عليهما السلام.

قال أبو محمد: وهذا باطل، لأنه لو كان كذلك لكان داود مفهماً لها، لأنه كان يكون حاكماً بأمر أمر به قبل أن ينسخ، ولما كان سليمان أولى بالإفهام منه. وقال بعضهم: حكم بدليل منصوب لم يوافق فيه الحقيقة وحكم سليمان فوافق الحقيقة. قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق: إن داود عليه السلام حكم بظاهر الأمر، مثل ما لو حكمنا نحن بشهادة شاهدين عدلين عندنا، وهما في علم الله عز وجل المغيب عنا مغفلان، فأطلع الله تعالى على غيب تلك المسألة سليمان عليه السلام. فأوحى إليه بيقين من هو صاحب الحق فيها، بخلاف شهادة الشهود أو نحو ذلك مما أفهم الله تعالى سليمان فيه بيقين عين صاحب الحق، فهذا وجه تلك الآية الذي لا يجوز خلافه، لبطلان كل تأويل غيره، ولقوله تعالى في الآية نفسها: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } فصح أن داود بالحكم والعلم الذي آتاه الله تعالى في تلك المسألة، وأن سليمان ــــ عليهما جميعاً السلام ــــ حكم فيها بالحكم والعلم الذي آتاه الله تعالى فيها بالفهم الزائد لحقيقتها.

وأما ادعاء المرأتين في الولد، ودعاء سليمان عليه السلام بالسكين ليشقه بينهما، فإن سليمان عليه السلام إنما أراد اختبار صبرهما، ولم يهم قط بشق الصبي، وإنما دعا بالسكين موهماً لهما بذلك، وقد يكون الله تعالى أمره بذلك كما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسماعيل عليه السلام، ولم يرد قط تعالى ذبحه، وإنما أراد اختبار صبر إبراهيم عليه السلام، واختبار صبر المرأتين فقط، ثم نهاه عن شقه، إذ لاح أيتهما أمه. كما نهى إبراهيم عن ذبح إسماعيل فهذا أيضاً وجه ظاهر حسن، والله أعلم. وأما أمر موسى والخضر عليهما السلام، فإن الخضر نبي موحى إليه، ولم يفعل شيئاً من كل ما فعل باجتهاد، كما يظن من لا عقل له، وإنما فعل كل ذلك بوحي أوحاه الله إليه. وبيان ذلك نص الله تعالى بأن حكى عنه أنه قال لموسى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً } وأما سؤال موسى عليه السلام له عن ذلك فإنما فعله ناسياً لعهده، ولسنا ننكر أن تنسى الأنبياء عليهم السلام، وقد صلى نبينا خامسة ناسياً وسلم من ثلاث ومن اثنين ناسياً. وهذا الذي قلنا هو نص القرآن في قوله تعالى حاكياً عن موسى أنه قال للخضر: {قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } .

قال أبو محمد: فإن احتجوا بما حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي، عن عمر بن عبد الملك الخولاني، عن محمد بن بكر البصري، عن سليمان بن الأشعث، نا إبراهيم بن موسى، ثنا عيسى، نا أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة تقول: قال رسول الله : «إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيَّ فِيهِ» فهذا حديث ساقط مكذوب/ لأن أسامة بن زيد هذا ضعيف لا يحتج بحديثه، متفق على أنه كذلك ويبين كذبه ما ذكرنا في أول هذا الباب من الأحاديث التي فيها تركه عليه السلام الحكم فيما لم ينزل عليه فيه شيء، وانتظاره الموحى في كل ذلك، ويكفي من ذلك قول الله تعالى آمراً له أن يقول: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } وقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } وأمر الله تعالى له أن يقول: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .

فلو أنه شرع شيئاً لم يوح إليه به، لكان مبدلاً للدين من تلقاء نفسه، وكل من أجاز هذا فقد كفر وخرج عن الإسلام، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان فإن احتج فيها معترض بقوله تعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } فإن الذي أراه الله تعالى هو الذكر والوحي بنص الآية، لأن أولها: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } وقال تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } ثم توعده على ذلك فقال: {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً }

فبين تعالى أنه عليه السلام لو أوجب شيئاً في الدين بغير وحي، لكان مفترياً على ربه تعالى، وقد عصمه الله عز وجل من ذلك، وكفر من أجازه عليه، فصح أنه لا يفعل شيئاً إلا بوحي، فسقط الاجتهاد الذي يدعيه أهل الرأي أو القياس جملة. وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فصح بهذه الآية أن كل نبي كان قبله، فهكذا كانوا أيضاً، إنما اتبع كل نبي شرعته التي أوحي إليه بها فقط.

وأما أمور الدنيا ومكايد الحروب ــــ ما لم يتقدم نهي عن شيء من ذلك ــــ وأباح تعالى له التصرف فيه كيف شاء، فلسنا ننكر أن يدبر عليه السلام كل ذلك على حسب ما يراه صلاحاً، فإن شاء الله تعالى إقراره عليه أقره، وإن شاء إحداث منع له من ذلك في المستأنف منع، إلا أن كل ذلك مما تقدم الوحي إليه بإباحته إياه ولا بد.

وأما في التحريم والإيجاب فلا سبيل إلى ذلك البتة، وذلك مثل ما أراد النبي أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة فهذا مباح، لأن لهم أن يهبوا من أموالهم ما أحبوا ما لم ينهوا على ذلك، ولهم أن يمنعوه ما لم يؤمروا بإعطائه، وكذلك منازله في حروبه، له أن ينزل من الأرض حيث شاء، ما لم ينه عن مكان بعينه، أو يؤمر بمكان بعينه، وكذلك قوله في تلقيح ثمار أهل المدينة، لأنه مباح للمرء أن يلقح نخله ويذكر تينه، ومباح أن يترك فلا يفعل شيئاً من ذلك. وقد أخبرني محمد بن عبد الله الهمداني عن أبيه: أنه ترك تينه سنين دون تذكير فاستغنى عن التذكير، فلعل النخل كذلك، لو توبع عليه ترك التلقيح سنة بعد سنة لاستغنى عن ذلك. وهذا كله ليس من أمور الدين الواجبة والمحرمة في شيء، إنما هي أشياء مباحة من أمور المعاش، من شاء فعل ومن شاء ترك، وإنما الاجتهاد الممنوع منه ما كان في التحريم والإيجاب فقط بغير نص، وقد نص النبي في حديث التلقيح على قولنا. وقال : «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ» . وقد حدثنا بهذا الحديث عبد الله بن يوسف بن ناهي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمر والناقد، وكلاهما عن أسود بن عامر، ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة وثابت وهشام، عن أبيه عن عائشة، وثابت عن أنس: أن رسول الله مرَّ بقوم يلقحون النخل فقال: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ» قال فخرج شيصاً، فمر بهم فقال: «مَا لِنَخْلِكُمْ؟» فقالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ» .

قال أبو محمد: فهذا بيان جلي ــــ مع صحة سنده ــــ في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين، وأنه لا يقول الدين إلا من عند الله تعالى، وأن سائر ما يقول فيه برأيه ممكن فيه أن يشار عليه بغيره فيأخذ عليه السلام به، لأن كل ذلك مباح مطلق له، وإننا أبصر منه بأمور الدنيا التي لا خير معها إلا في الأقل، وهو أعلم منا بأمر الله تعالى وبأمر الدين المؤدي إلى الخير الحقيقي، وهذا نص قولنا. وبالله تعالى التوفيق. وفي هذا كفاية والحمد رب العالمين. ومن ذلك ما قال أبو بكر يوم الحديبية لرسول الله إذ قال له بعض من حضر: أرى أن نميل على عيال هؤلاء ــــ فقال أبو بكر: «نرى أن نمضي لوجهنا» فهذا كله مباح للإمام أن يغزو، وله أن يؤخر الغزو ويومه ذلك وشهره ذلك، ويغزو بعد ذلك.

فاعلم الآن أن الاجتهاد إنما هو طلب الحقيقة من الوجوه المؤدية إليها، لا من حيث لا يؤدي إليها والطلب، كما ذكرنا هو الاستدلال، فالاستدلال والاجتهاد شيء واحد، وقد يستدل من لا يقع على حقيقة الدليل. وكون الشيء في نفسه حقّاً هو شيء آخر. لأنه قد يكون الشيء حقّاً ولا يوافق له طالبه، ولا يضر ذلك الحق، كما أن في منازلنا أشياء لا يعلمها غيرنا من الناس، وليس جهل من جهلها أو ظن فيها غير ما فيها مما يحيل الحق عن وجهه، كما لا نريده علم من علمه درجة في أنه حق، والحق المعلوم والحق المجهول سواء في أنهما حق، واقعان تحت جنس الحق، وكل شيئين وقعا تحت نوع واحد أو تحت جنس واحد، فإنهما متساويان في ذلك النوع وذلك الجنس مساواة صحيحة، نعني فيما أوجبه لهما تلك الجنسية، أو تلك النوعية وكل من بلغه عن النبي خبر فقد لزمه البحث عنه، فإن لم يفعل فقد عصى الله تعالى. وكل من قامت عليه حجة من أصول صححها. وأقر بأنها حق، فلاحت له وفهمها، ثم لم يرجع إلى موجبها لتقليد، أو لأنه ظن أن ههنا حجة أخرى لا يعلمها فهو فاسق، وذلك نحو من أقر بخبر الواحد، فأتاه حديث صحيح مسند، فتركه لقياس أو لهوى، أو تقليداً لمالك أو للشافعي أو لأبي حنيفة أو لأحمد أو لداود، أو لصاحب من الصحابة أو تابع، أو فقيه قديم أو حديث معتقداً أن ذلك الفقيه أو الصاحب كان عنده فضل علم جهله هو، أو أن النص الذي قاس عليه أحق أن يتبع، فهو فاسق ساقط العدالة عاص لله عز وجل.

وأما من تعلق بحديث آخر معارض للحديث الذي بلغه، فما دام لا يحقق أصلاً في بناء الأحاديث بعضها على بعض، فهو مأجور على اجتهاده ــــ وإن كان مخطئاً ــــ ولا إثم عليه في خطئه، وهكذا القول في الآي، وفي الأحاديث والآي، ولا فرق. وأما من ذكرنا قبل فبخلاف ذلك، لأنه ترك الحق وهو يعلمه، فدخل فيمن شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى. وأما إذا حقق أصلاً في بناء الأحاديث أو الآي، أو الأحاديث مع الآي فالتزمه، ثم لم يعتقد موجبه فهو فاسق كما قدمنا للآية التي قال تعالى فيها: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } وهذا الذي فعل ما ذكرنا، فقد ترك ما أقر بلسانه أنه هدى وأنه أمر الله تعالى ورسوله عليه السلام، وصار فيمن شهد على نفسه.

وكذلك من أبى قبول خبر الواحد، أو أبى قبول وجه العمل في البناء الصحيح في النصوص، فأقيمت الحجة عليه في ذلك كله، من براهين راجعة إلى النصوص وفهمها ولاحت له فلم يرجع إلى الحق في ذلك، وإنما يعذر من لم تقم عليه حجة بجهله فقط، وكذلك من قامت عليه البراهين في إبطال القياس فتمادى عليه. وأما من أجاز أن يكون صاحب فمن دونه ينسخ أمراً أمر به رسول الله أو يحدث شريعة؛ فهذا كافر مشرك حلال الدم والمال، بمنزلة اليهود والنصارى، وعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين، ونحن برآء منه وهو بريء منا، فإن لم تقم عليه الحجة فهو مخطىء مأجور مرة لقصده إلى الخير، وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول

في استصحاب الحال (1) | في استصحاب الحال (2) | في استصحاب الحال (3) | وهو باب الحكم بأقل ما قيل | في ذم الاختلاف | في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل | في الشذوذ | في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا | في الدليل | في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض | في صفة التفقه في الدين | في وجوب النيات في جميع الأعمال | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها