ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال قوم من أصحابنا ومن غيرهم: لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل. قال أبو محمد: وقد أخطأ هؤلاء القائلون. وجائز نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف، والشيء بمثله، ويفعل الله ما يشاء ولا يُسأل عما يفعل، وإن احتج محتج بقوله الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وبقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } وبقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } وبقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فلا حجة لهم في شيء من ذلك.

أما قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } فنعم دين الله كله يسر، والعسر والحرج وهو ما لا يستطاع، إما ما استطيع فهو يسر.

وأما قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } فنعم، ولا خفيف في العالم إلا وهو ثقيل بالإضافة إلى ما هو أخف منه، ولا ثقيل البتة إلا وهو خفيف بالإضافة إلى ما هو أثقل منه، هذا أمر يعلم حسّاً ومشاهدة، ولا يشك ذو عقل أن الصلوات الخمس المفروضة علينا أخف من خمسين صلاة، وأنها لو كانت صلاة واحدة كانت أخف علينا من الخمس، وقد خفف الله تعالى عن المسافر فجعلها ركعتين وعن الخائف فجعلها ركعة واحدة، ولو شاء ألا يكلفنا صلاة أصلاً لكان أخف بلا شك.

وقد نصّ الله تعالى في الصلاة على أنها كبيرة إلا على الخاشعين، ولا يشك ذو عقل وحس أن صيام شهر أخف من صيام عام، وأن صيام ساعة أخف من صيام يوم، فكل ما كلفنا الله تعالى فهو يسر وتخفيف بالإضافة إلى ما هو أشد مما حمله من كان قبلنا، كما قال الله تعالى آمراً لنا أن ندعوه فنقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .

وكما نصّ تعالى أنه وضع بنبيه الإصر الذي كان عليهم، والأغلال التي كانوا يطوقونها، إذ يقول تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فهذا هو عين اليسر وعين التخفيف وإسقاط الحرج، وأين يقع ما كلفناه نحن مما كلفه بعض قوم موسى، من قتل أنفسهم بأيديهم، فكل شيء كلفناه يهون عند هذا، وكذلك ما في شرائع اليهود من أنه من خطر على ميت تنجس يوماً إلى الليل، وسائر الثقائل التي كلفوا وحرم عليهم، وخفف عنا ذلك كله. ولله الحمد والمنة.

وأما قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فإنما معناه بخير منها لكم، وكلام الله لا يتفاضل في ذاته، فمعناه أكثر أجراً. ولو احتج بهذه الآية من يستجيز أن يقول: لا ننسخ الأخف إلا بالأثقل لكنا أقوى شغباً ممن خالفه، لأنه لا خلاف أن الأثقل فاعله أعظم أجراً وقد قال عليه السلام لعائشة في العمرة: «هِيَ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكَ وَنَفَقَتِكَ» كانت الناسخة أعظم أجراً، فلا يكون ذلك إلا لثقلها، فهذه الآية عليهم لا لهم فسقط احتجاجهم بكل ما شغبوا به. ثم نقول: إن من قال: إن الله تعالى إنما يلزمنا أخف الأشياء: فإنه يلزمه إسقاط الشرائع كلها، لأنها كلها ثقال بالإضافة إلى ترك عملها، والاقتصار على عمل جزء من كل عمل منها، وهذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة. فصار قول من خالفنا مؤدياً إلى الخروج عن الإسلام جملة ولا عمل في الدنيا إلا وفيه كلفة ومشقة. وقد قال الشاعر: هل الولد المحبوب إلا تَعِلة وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل وفي الأكل والشرب مشقة، فلو أن الإنسان يصل إلى ذوق الطعوم المستطابة والشبع، دون تكلف تناول ومضغ وبلع، لكان أخف عليه وأقل مشقة وأيسر غرراً، فرب مختنق بأكله كان في ذلك حتفه، أو الإشراف على الحتف. ورب متأذ بما يدخل من ذلك في جوفه، وبما يدخل بين أضراسه، ومغث لمعدته فيتقيأ فيألم لذلك، ومن ملوث لثوبه بما يسقط من يده ولو تتبعنا ما في اللذات من عسر ومشقة لطال ذلك جدّاً، فكيف بالأعمال المكلفة. ولكن العسر والمشقة تتفاضل، فإنما رفع الله عز وجل عنا في بعض المواضع ما لا نطيق، وخفف تعالى في بعضها تخفيفاً أكثر من تخفيف آخر. وقد جاء في الأثر: حفت الجنة بالمكاره فبطل بهذا الحديث نصّاً قول من قال: إن الله تعالى لا ينسخ الأخف بالأثقل. وصحّ أن الله تعالى يفعل ما يشاء فينسخ الأخف بالأثقل، والأثقل بالأخف، والشيء بمثله، والشيء بإسقاطه جملة، ويزيدنا شريعة من غير أن يخفف عنا أخرى لا معقب لحكمه ولا يُسْأَل عما يفعل. فإن اعترضوا بقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } فهذه حجة عليهم بينة لا محيد عنها، لأن التخفيف لا يكون إلا بعد تثقيل، فإذا ثقل علينا تعالى أولاً فما الذي يمنع من أن يثقل علينا آخراً إن شاء.

وقد كنا برهة خالين من ذلك التثقيل الأول ثم ثقلنا به، فما المانع من أن يعود علينا ثانية كما كان أولاً وأن نزاد تثقيلاً آخر أشد منه، ويكفي من هذا كله وجودنا ما لا سبيل لهم إلى دفع نسخه تعالى أشياء خفافاً بأشياء ثقال. فمن ذلك نسخه تعالى صيام يوم عاشوراء بصيام شهر رمضان، ونسخ إباحة الإفطار في رمضان، وإطعام مساكين ــــــ بدل ما يفطر من أيامه ــــــ بوجوب صيامه فرضاً على كل حاضر صحيح بالغ عاقل عالم بالشهر، ولزوم الصيام فيه، ونسخ سقوط الغسل عن المولج العامد الذاكر لطهارته بإيجاب الغسل عليه، ونسخ تعالى إباحة الكلام للمصلي بعد أن كان حلالاً بتحريمه، وقد كان الكلام فيها فيما ناب الإنسان أخف بلا شك، ونسخ تعالى سقوط فرض الجهاد وبيعة المسلمين لرسول الله على بيعة النساء بإيجاب القتال، وحرم الخمر بعد إحلالها وقال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فصح أنه تعالى حرم عليهم أشياء كانت لهم حلالاً وقد كان المنسوخ من كل ما ذكرنا أخف من الناسخ بالحس والمشاهدة. وقد بيّن الله تعالى ذلك بإخباره أن في الخمر والميسر منافع للناس، فأبطل تعالى علينا تلك المنافع ولا يشك ذو عقل أن عدم المنفعة أثقل من وجودها. ونسخ تعالى الأذى والحبس عن الزواني والزناة والرجم والتغريب، ولا شك عند من له عقل أن الحجارة والسياط أثقل من السب والسجن. وقد اعترض بعض من يخالف قولنا في هذه المسألة بأن قال في نسخ الحبس عن الزواني: إن الحبس لم يكن مطلقاً، وإنما كان مقيداً بوقت منتظراً لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } . قال أبو محمد: وهذا الاعتراض ساقط من وجوه ثلاثة: أحدها: أنه لا يجد مثل هذا الشرط في أذى الزناة وتبكيتهم ولا في سائر ما ذكرنا من الخفائف المنسوخة بالثقائل. والثاني: أن كل نسخ في الدنيا فهذه صفته، وإنما هو مقيد عند الله تعالى بوقت محدود في علمه تعالى، كما قالت عائشة في فرض قيام الليل: إنه تعالى أمسك خاتمة الآية في السماء اثني عشر شهراً ثم أنزلها. ولا فرق بين أن يبدي إلينا ربنا تعالى أنه سينسخ ما يأمرنا به بعد مدة وبين ألا يبدي إلينا ذلك حتى ينسخه وكل ذلك نسخ ولا فرق بين معجل النسخ ومؤجله، في أن كل ذلك نسخ.

والثالث: أن السبيل الذي انتظر بهن هو أثقل مما كان عليهن أولاً، لأنه شدخ بالحجارة حتى يقع الموت بعد الإيلام بالسوط، أو نفي في الأرض بعد الإيلام بالسوط، فكانت السبيل المحمولة لـهن سبيل الـهلاك أو البلاء وكل ذلك أشد من الحبس. وهذا نفس ما اختلفنا فيه فأجزناه نحن وأبوه هم. وقد اعترض بعضهم في نسخ البيعة على بيعة النساء بإيجاب القتال بأن قال: كان القتال أثقل علينا في صدر الإسلام لقلتنا، فلما كثر عددنا صار تركه أثقل. قال أبو محمد: ولو كان لـهذا القائل علم بكيفيات الأسماء وحدود الكلام لم يأت بهذا الـهذر. ويقال لـه: أخبرنا، أزاد الناس حين نزول آية إيجاب القتال زيادة قووا بها قوة ثانية أكثر مما كانوا أم لا؟ فإن قال: لا. نقص قولـه وتبرأ منه وأخبر أن الحال بعد نزول هذه الآية الموجبة للقتال ـــــ بعد أن كان غير واجب ـــــ كالحال التي كانت قبل نزول إيجاب القتال. وبطل ما قدر من التفاضل في القوة الموجبة لنزول إيجاب القتال، وإن قال: نعم، جمع أمرين: أحدهما: أنه يقفو ما ليس لـه به علم ويكذب، والثاني: أنه لم يتخلص بعد من إلزامنا ويقال لـه: لا بد أنه قد كان بين بلوغهم العدد الذي بلغوه حين نزول آية إيجاب القتال عليهم، وبين نزول الآية وقت ما لا بد منه فقد كان العدد موجوداً ولا قتال عليهم. ثم نسخ بإيجاب القتال.

وأيضاً فإنه ليس في المعقول أصلاً، ولا في الوجود عدد إذا بلغته الجماعة قويت على محاربة أهل الأرض كلـهم، وقد ألزم اللـه تعالى المسلمين إذا أمرهم بالقتال مجاهدة كل من يسكن معمور العالم من الناس، والمسلمون يومئذ لم يبلغوا الألف، وقد علم كل ذي عقل أنه لا فرق في القوة ـــــ على محاربة أهل الأرض كلـهم ـــــ بين ألف وألفين وبين واحد واثنين. وإنما ههنا نزول النصر، فإذا أنزل اللـه تعالى على الإنسان الواحد قوي ذلك الواحد على محاربة أهل الأرض كلـهم، وعجزوا كلـهم عنه، كما قال تعالى لنبيّه : {هٍهَهُهِ (المائدة: 67) وأيقنا بذلك لو بارزوه كلـهم لسقطوا أمامه، ولقدر على جميعهم. وقد قال بعض المخالفين لقولنا: إن الصبر على القتال أثقل لذي النفس الآنفة.

قال أبو محمد: ويكفينا من الرد على هذه المقالة تكذيب اللـه عز وجل لـها، فإنه تعالى خاطب الصحابة رضي اللـه عنهم، وهم آنف الناس نفوساً، وأحماهم قلوباً، وأعزهم همماً، أو خاطب أيضاً كل مسلم يأتي إلى يوم القيامة وهم أعز الأمم نفوساً، وأقرها على الضيم، بأن قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وكفانا عز وجل الشغب والتعب وبيّن أن الكتاب مكروه عندنا. والمكروه أثقل شيء.

وأخبرنا سبحانه وتعالى أن المكروه ـــــ الذي هو أثقل ـــــ قد يكون لنا فيه خير أكثر مما في الأخف، فقد حكم الله تعالى لنا في هذه المسألة حكماً جليّاً، لا يسوغ لأحد أن يتكلم بعد سماعه في هذا المعنى بكلمة مخالفة لقولنا، والحمد لله رب العالمين. واعترض بعضهم بأن قال: لم تكن الخمر مباحة، بل كانت حراماً بالعقل فلم ينسخ إباحتها. قال أبو محمد: فنقول وبالله تعالى التوفيق: إذ هذا القائل لو اشتغل بقراءة حديث النبي لكان ذلك أولى به من الكلام في الدين قبل النفقة فيه، وقد روينا في الحديث الصحيح تحليلها قبل أن تحرم، حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج قال: ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، ثنا أبو همام عبد الأعلى، ثنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله قال: «يا أَيُّها النَّاسُ إِنَّ الله يعرض بِالخمرِ، وَلَعَلَّ الله سَيُنْزِلُ فِيها أَمْراً، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْها شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ» . قال: فما لبثنا إلا يسيراً حتى قال : «إِنَّ الله حَرَّمَ الخَمْرَ فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هذِهِ الآيَةَ وَعِنْدَهُ شَيْءٌ فلا يَشْرَبْ وَلا يَبِعْ» . وروينا من الأطراف الصحاح شربها معلناً بعلم رسول الله ــــــ أكثر ذلك ــــــ عن حمزة، وسعد، وأبي عبيدة بن الجراح، وسهيل بن بيضاء، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي أيوب، وأبي طلحة، وأبي دجانة سماك بن خرشة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل وغيرهم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكيف يقول هذا الجاهل: إنها لم تكن حلالاً، وإن العقل حرمها، وأين عقل هذا الجنون العديم العقل ـــــ على الحقيقة ـــــ من عقل رسول الله الذي كان يراهم يشربونها ــــــ ولا ينكر ذلك عليهم ـــــ أزيد من ستة عشر عاماً بعد مبعثه عليه السلام، فإن الخمر لم تحرم إلا بعد أُحُد. وأُحُد كانت في الثالث من الهجرة، وتنادم الصحابة في المدينة بحضرة رسول الله ، وما وقع لبعضهم من العربدة على بعض، ومن الجنايات في شارفي عليّ، ومن التخليط في الصلاة ـــــ أشهر من أن يجهله من له علم بالأخبار، وكل ذلك يعلمه ولا ينكره عليه السلام، ولا يحلّ لمؤمن أن يقول إنه عليه السلام أقرّ على حرام أصلاً، ويكفي من هذا ما قدمنا من أمره عليه السلام يبيعها قبل أن تحرم، وبأن ينتفع بها، والشرب يدخل في الانتفاع، وبالله التوفيق.

فصل في نسخ الشيء قبل أن يعمل به

قال أبو محمد: أكثر المتقدمون في هذا الفصل وما ندري أن لطالب الفقه حاجة ولكن ما تكلموا ألزمنا بيان الحق في ذلك بحول الله وقوته، والصحيح من ذلك: أن النسخ بعد العمل به وقبل العمل به، جائز كل ذلك، وقد نسخ تعالى عنا إيجابه خمسة وأربعين صلاة في كل يوم وليلة، قبل أن يعمل بها أحد. قال أبو محمد: ومن جعل هذا بداء فقد جعل النسخ بداء ولا فرق، وكل ما دخلوه في نسخ الشيء قبل أن يعمل به راجع عليهم في نسخه بعد أن يعمل به ولا فرق، والله تعالى يفعل ما يشاء، والذي نقدر أن الذي حداهم إلى الكلام في هذه المسألة مذهبهم الفاسد في المصالح، ونحن لا نقول بها، بل نفوِّض الأمر إلى الله عز وجل يفعل ما يشاء، ليس عليه زمام، ولا له متعقب، وسنبين ذلك في «باب العلل» من هذا الديوان إن شاء الله تعالى. فإن قال قائل: فماذا أراد الله عز وجل منا إذ قال: خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم نسخها وردها إلى خمس قبل أن نصلي الخمسين؟ قيل له، وبالله تعالى التوفيق: إنه أراد منا الطاعة والانقياد والعزيمة على صلاتها، والاعتقاد لوجوبها علينا فقط، ولم يرد تعالى قط منا كون تلك الصلوات، ولا أن نعملها، ونحن لا ننكر أن يأمر تعالى بما لم يرد قط منا كونه، بل يوجب ذلك، ونقول: إنه تعالى أمر أبا طالب بالإيمان، ولم يرد قط تعالى كون إيمانه موجوداً.

وقد نصّ تعالى على ذلك بقوله: {يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وقوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } . فأخبر تعالى أنه لم يجب هداية أبي طالب، وأنه أراد ألا يهدي قوماً، وكلهم مأمور بالاهتداء، وقد بيَّنا هذا في كتاب الفصل، ولو أنه تعالى لم ينسخها حتى نصليها لعلمنا حينئذ أنه تعالى أراد كونها منا، كما علمنا أنه تعالى أراد إسلام أبي بكر وعمر وسائر من أسلم، وإنما نعلم ما أراد تعالى كونه بعد ظهوره، أو أخبرنا الله تعالى بأنه سيكون والله أعلم، وهو الذي أطلعنا عليه من غيبه، ونحن كنا مأمورون بالصلاة.

وقد يموت كثير من الناس قبل أن يتأتى عليه وقت صلاة بعد بلوغه، إنه تعالى إنما أراد من هؤلاء الانقياد والعزيمة فقط، والله تعالى لم يرد قط ممن مات قبل حلول وقت الصلاة أن يصليها. واحتج بعض من تقدم ـــــ في إجازة نسخ الشيء قبل العمل به ـــــ بحديث الزبير: إذ خاصم الأنصاري في سيل مَهْزُور ومُذَيْنب وجعل الأمر الآخر منه عليه السلام ناسخاً للأول. وأبطل قول من قال: كان الأمر الأول على سبيل الصلح وترك الزبير بعض حقه وقال: إن هذا لا يحل أن يقال، لأن حكمه عليه السلام كله حق واجب، لقول الله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فلم يخص أمراً دون أمر، ولو ساغ ذلك في هذا الحديث، لساغ لكل أحد أن يقول في أي حُكْم حَكَم به رسول الله : هذا على سبيل الصلح لا على سبيل الحقيق، وهذا كفر من قائله. قال أبو محمد: وقد صدق هذا المحتج فيما قال. قال بعضهم: لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد.

قال أبو محمد: وهذا قياس، والقياس باطل، ولو كان القياس حقّاً لكان هذا فاسداً، إذ ليس سقوط العقل موجباً لسقوط الاعتقاد، وقد يعتقد وجوب الشيء وتصحيحه من لا يفعله من المسلمين العصاة، وقد يفعله من لا يعتقده من المنافقين والمرائين، وهذا أمر يعلم بالمشاهدة، فبطل أن يكون الاعتقاد مرتبطاً بالعمل، وبطل ما موَّه به هذا المعترض من أنه لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد، فإن قالوا: لو جاز نسخ الشيء قبل العمل به لكان اعتقاده حسناً وطاعة، وفعله قبيحاً ومعصية، وهذا محال. فالجواب: إن هذا شغب ضعيف لأنهم جمعوا بين حكم زمانين مختلفين، وإنما يكون اعتقاد الشيء حقّاً ـــــ إن فعل ـــــ إذا لم ينسخ، فأما إذا نسخ فإنما الواجب اعتقاداً أنه معصية إن فعل، واعتقاد أنه قد كان طاعة في وقت آخر، وهذا ليس محالاً فإن قالوا: الاعتقاد فعل قيل لهم: الاعتقاد فعل النفس منفردة لا شركة للجسد معها فيه، والعمل فعل النفس بتحريك الجسد، فهو شيء آخر غير الاعتقاد وقد فرق رسول الله بينهما بقوله «العَمَلُ بِالنِّيَّاتِ» ، فجعل النية وهي الاعتقاد غير العمل.

قال أبو محمد: وقد احتج القدماء ـــــ من القائلين بقولنا في هذه المسألة ــــ بحجج منها أمره تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، وقول إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ } وقالوا: هذا بيان جلي أن الذي أمر به نسخ قبل أن يكون، لأن قوماً قالوا: إنما أمر بتحريك السكين على حلق ولده فقط، فأبطل تعالى قولهم بقول إبراهيم: {إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ } ولو لم يؤمر بقتله لما كان في تحريك السكين على حلقه بلاء فصح بقول إبراهيم عليه السلام، أنه إنما أمر بقتل ولده وإماتته بالذبح، ثم نسخ ذلك قبل فعله. قال أبو محمد: وهذا احتجاج صحيح لا ينفك منه أصلاً. فإن قال قائل: عرفونا ما الذي أراد الله تعالى منا إذا أمرنا بالشيء ثم نسخه قبل فعله، أراد العمل به ثم بدا له قبل فعله؟ أم أراد ألا يعمل به؟ والشيء إذا لم يرده تعالى فقد سخطه وكرهه ولم يرضه، فعلى قولكم إنه تعالى يأمرنا بما يكره ويسخط ويلزمنا ما لا يرضى كونه منا. قال أبو محمد: فيقال، وبالله تعالى التوفيق، إنه تعالى أمر بما أمر من ذلك ولا مراد له إلا الانقياد في المأمور فقط، ولم يرد قط وقوع الفعل، ونهانا عنه قبل أن يكون منا، ولا يُسأل عما يفعل، ولسنا ننكر أن يأمرنا تعالى الآن بأمر قد علم أنه بعد مدة ينهى عنه ويسخطه، وإنما الذي ننكر أن يأمر تعالى بما هو ساخط له في حين أمره، فهذا لا سبيل إليه.

وأما أن يأمرنا بأمر قد علم أنه سينهانا عنه في ثاني الأمر، ويسخطه بعد مرور وقت الأمر به، فهذا واجب وهذه صفة كل نسخ، وكل أمر مرتبط بكل وقت، وبالله تعالى التوفيق، وقد اعترض بعضهم في أمره تعالى بخمسين صلاة، ثم جعلها تعالى إلى خمس بأن قال: إنما يلزمنا الأمر إذا بلغنا، وكان ذلك الأمر لم يبلغ بعد إلى المسلمين، فأجاب بعض من سلف القائلين بقولنا: إنه تعالى قد أبلغ أمره بذلك إلى رسوله، فهو سيدنا وإمامنا فكان الخمسون اللازمة له لبلوغ الأمر إليه، ثم نسخت عنه قبل أن يعمل بها.

قال أبو محمد: فإن قالوا: لم يرد الله تعالى قط بالخمسين إلا خمساً يعطي بكل واحدة عشر حسنات، واحتجوا بما في آخر الحديث من قوله تعالى: «هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ» فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إن هذا الكلام هو بيان قولنا لا قولهم، لأن الخمس لا تكون خمسين في العدد أصلاً، وإنما هي خمسون في العدد، وخمسون في الأجل، وكنا ألزمنا أولاً خمسين في العدد وهي خمسون في الأجر فقط، فأسقط عنا التعب وبقي لنا الأجر، فصحّ أن الساقط غير اللازم ضرورة، وبرهان ذلك حطّه تعالى إلى خمس وأربعين وإلى أربعين، ثم إلى خمس وثلاثين ثم ثلاثين، وهكذا خمساً خمساً حتى بقيت خمساً، وهذا لا إشكال فيه، في أن الملزم غير المستقر آخراً، فبطل اعتراضهم، والحمد لله رب العالمين.

ومن طريق ما اعترض به بعضهم أن قال: لعله عليه السلام قد صلَّى الخمسين صلاة قبل نسخها، أو لعل الملائكة صلتها قبل نسخها. قال أبو محمد: وهذا جهل شديد، ولو كان لقائل هذا أدنى علم بالأخبار لم يقل هذا الهجر، لأن الإسراء إنما كان في جوف الليل، ولم يأت الصباح إلا وهو قد رجع إلى مكة وكان بها قبل مغيب الشفق وبعد غروب الشمس، وقبل طلوع الشمس من تلك الليلة؛ وإنما لزمت الخمسون في يوم وليلة. وأيضاً فهو عليه السلام، يذكر بلفظه في الحديث: أنه لم ينفك راجعاً وآتياً من ربه تعالى إلى موسى عليه السلام، وأما الملائكة فلم يبعث رسول الله إليهم، بل بعضهم هم الرسل من الله تعالى إليه، وإنما بعث إلى الجن والإنس الساكنين دون سماء الدنيا، وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين مع النصوص الواردة في القرآن والحديث في خطاب هذين النوعين فقط، وإنما بعث إليهما فقط، والملائكة في مكان لا ليل فيه، وإنما هي في السموات التي هي الأفلاك، وفي الكرسي وتحت العرش وحوله، والليل إنما يبلغ إلى فلك القمر الذي هو سماء الدنيا فقط، والجن مرجومون بالشهب إذا دنوا منها بنص القرآن بقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } فصح يقيناً أن الملائكة لا تلزمهم صلاتنا، لأنهم لا ليل عندهم ولا نهار، وإنما هو أنوار بسيطة صافية، وإنما تلزم الصلوات في أوقات الليل والنهار. وقد احتج في هذا بعض من تقدم بأن قال: يقال لمن أبى ذلك: ما الذي أنكرتم؟ أنسخ ما قد فعل؛ أم نسخ ما لم يفعل؛ أن نسخ الأمر الوارد بالفعل ولا سبيل إلى قسم رابع، فإن قالوا: نسخ ما قد فعل، أحالوا، ولا سبيل إلى نسخ ما قد فعل، لأنه قد فعل وفني، فلا سبيل إلى رده؛ وإن قالوا: نسخ ما لم يفعل، فقد أثبتوا نسخ الشيء قبل فعله، وهذا هو نفس ما أبطلوا، لأن الذي لم يفعل هو غير الذي فعل ضرورة. فإن قالوا: نسخ الأمر فلا فرق بين نسخ الأمر قبل أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الأمر، وبين نسخه بعد أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الأمر، والفعل المأمور به على كل حال غير الأمر به، فلا يتعلق الأمر بالفعل لأنه غيره، لأن الأمر هو فعل الله مجرداً، والفعل هو فعلنا نحن فبينهما فرق كما ترى. قال أبو محمد: وهذه حجة ضرورة لا محيد عنها.

واحتج أيضاً بأن قال: إن الأمر إذا ورد ففعله فاعلون ثم نسخ فلا خلاف في جواز ذلك، ولا شك في أنه قد بقي خلق كثير لم يعملوا به ممن لم يأت بعد، وقد كانوا مخاطبين بذلك الأمر حين نزوله، فقد نسخ قبل أن يعمل به الذين لم يعملوا به، ولا فرق بين أن يجوز نسخه قبل أن يعمل به بعض المأمور وبين نسخه قبل أن يعمل به أحد منهم. قال أبو محمد: وهذه أيضاً حجة ضرورية لا محيد عنها. قال أبو محمد: وسألني سائل فقال: لو أمر الله تعالى بأمر فقال: اعملوا بهذا الأمر ثمانية متصلة، أو قال أبداً، أيجوز نسخ هذا أم لا؟ فقلت: إن النسخ جائز في هذه لأنه من باب نسخ الشيء قبل أن يعمل به، ولا فرق بين أن يأمرنا بخمسين صلاة نصليها، وبين أن يأمرنا بعمل ما أبداً، أو ثمانية أيام، ثم ينسخه عنا قبل أن يتم عمل ذلك، وليس الكذب في الأمر والنهي مدخل وإنما يدخل الكذب في الأخبار، فلو أن الأمر خرج بهذا التحديد بلفظ الخبر لم يجز نسخه، لأنه كان يكون كذباً مجرداً، إذ في الأخبار يقع الكذب، وهذا بخلاف الأمر إذا خرج بلفظ الخبر غير مرتبط بتحديد وقت، فالنسخ جائز فيه؛ لأنه ليس يكون حينئذ كذباً، وإنما يكون النسخ حينئذ بياناً للوقت الذي لزمنا ذلك العمل، فما جاء بلفظ الخبر على التأييد فلا يجوز نسخه قول الله: «هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ» فلو بدل لكان هذا القول كذباً، ومنه لأبد الأبد «دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» ، والقول في المتعة فهي حرام بحرمة الله ورسوله إلى يوم القيامة، فلو نسخ هذان الأمران لكان هذان القولان كذباً إذ كان يبطل وجوده ما أخبرنا بوجوده إلى يوم القيامة، وبالله تعالى التوفيق. فصل في نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا بعد أن اتفقوا على جواز نسخ القرآن بالقرآن، وجواز نسخ السنة بالسنة، فقالت طائفة: لا تنسخ السنة بالقرآن ولا القرآن بالسنة، وقالت طائفة: جائز كل ذلك، والقرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة والسنة تنسخ بالقرآن وبالسنة. قال أبو محمد: وبهذا نقول وهو الصحيح، وسواء عندنا السنة المنقولة بالتواتر والسنة المنقولة بأخبار الآحاد، كل ذلك ينسخ بعضه بعضاً، وينسخ الآيات من القرآن، وينسخه الآيات من القرآن، وبرهان ذلك ما بيّناه في باب الأخبار من هذا الكتاب، من وجوب الطاعة لما جاء عن النبي ، كوجوب الطاعة لما جاء في القرآن ولا فرق، وأن كل ذلك من عند الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } فإذا كان كلامه وحياً من عند الله عز وجل، والقرآن وحي، فنسخ الوحي بالوحي جائز، لأن كل ذلك سواء في أنه وحي.

واحتج من منع ذلك بقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } . قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لم نقل إن رسول الله بدّله من تلقاء نفسه، وقائل هذا كافر، وإنما نقول: إنه عليه السلام بدله بوحي من عند الله تعالى، كما قال آمراً له أن يقول: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } فصح بهذا نصّاً جواز نسخ الوحي بالوحي، والسنة وحي فجائز نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قالوا: والسنة ليست مثلاً للقرآن ولا خيراً منه. قال أبو محمد: وهذا أيضاً لا حجة لهم فيه، لأن القرآن أيضاً ليس بعضه خيراً من بعض، وإنما المعنى نأت بخير منها لكم أو مثلها لكم، ولا شك أن العمل بالناسخ خير من العمل بالمنسوخ، قبل أن ينسخ، وقد يكون الأجر على العمل بالناسخ مثل الأجر على العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ، وقد يكون أكثر منه، إلا أن فائدة الآية أننا قد أمنا أن يكون العمل بالناسخ أقل أجراً من العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ، لكن إنما يكون أكثر منه أو مثله، ولا بد من أحد الوجهين، تفضلاً من الله تعالى ـــــ لا إله إلا هو ـــــ علينا. وأيضاً فإن السنة مثل القرآن في وجهين:

أحدهما: أن كلاهما من عند الله عز وجل على ما تلونا آنفاً من قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } . والثاني استواؤهما في وجوب الطاعة بقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } وإنما افترقا في ألا يكتب في المصحف غير القرآن، ولا يتلى معه غيره مخلوطاً به، وفي الإعجاز فقط.

وليس في العالم شيئان إلا وهما يشتبهان من وجه ويختلفان من آخر لا بد من ذلك ضرورة ولا سبيل إلى أن يختلفا من كل وجه، ولا أن يتماثلا من كل وجه، وإذ قد صح هذا كله، فالعمل بالحديث الناسخ أفضل وخير من العمل بالآية المنسوخة، وأعظم أجراً، كما قلنا قبل ولا فرق، وقد قال تعالى: { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } وقد تكون المشركة خيراً منها في الجمال وفي أشياء من الأخلاق ونحوها، وإن كانت المؤمنة خيراً عند الله تعالى، وهذا شيء يعلم حسّاً ومشاهدة، وبالله تعالى التوفيق. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } . قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه كل ما جاء عن النبي فالله عز وجل هو المثبت له، وهو تعالى الماحي به لما شاء أن يمحو من أوامره، وكل من عند الله، وهذه الآية حجة لنا عليهم في أنه تعالى يمحو ما شاء بما شاء عن العموم، ويدخل في ذلك السنة والقرآن. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } قالوا: والمبين لا يكون ناسخاً. قال أبو محمد: وهذا خطأ من وجهين، أحدهما: ما قد بيَّنا في أول الكلام في النسخ، من أن النسخ نوع من أنواع البيان، لأنه بيان ارتفاع الأمر المنسوخ، وبيان إثبات الأمر الناسخ، والثاني: أن قولهم: إن المبين لا يكون ناسخاً دعوى لا دليل عليها، وكل دعوى تعرت من برهان فهي فاسدة ساقطة.

واحتجوا بقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } . قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه لم يقل تعالى: إني لا أبدل آية إلا مكان آية، وإنما قال لنا: إنه يبدل آية مكان آية، ونحن لم ننكر بل أثبتناه، وقلنا: إنه يبدل آية، ويفعل أيضاً غير ذلك، وهو تبديل وحي غير ذلك، متلو مكان آية، ببراهين أخر، وكل ما أبطلنا به أقوالهم الفاسدة في دليل الخطاب، فهو مبطل لاحتجاجهم بهذه الآية. واحتجوا بقوله تعالى: { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } قالوا: فإذا منعه الله تعالى من أن يبين القرآن من قبل أن يقضي إليه وحيه، فهو من نسخه أشد منعاً. قال أبو محمد: وهذا شغب وتمويه، لأننا لم نجز قط أن يكون الرسول عليه السلام ينسخ الآيات من القرآن قبل أن يقضى إليه وحي نسخها، وقائل ذلك عندنا كافر، وإنما قلنا: إنه عليه السلام إذا قضى إليه ربه تعالى وحياً غير متلو بنسخ آية، أبداه رسول الله إلى الناس حينئذ بكلامه، فكان سنة مبلغة وشريعة لازمة ووحياً منقولاً، ولا يضره أن يسمى قرآناً ولا يكتب في المصحف، كما لم يضر ذلك سائر الشرائع التي ثبتت بالسنة، ولا بيان لها في القرآن، من عدد ركوع الصلوات، ووجوه الزكوات، وما حرم من البيوع وسائر الأحكام، وكل ذلك من عند الله عز وجل. واحتج بعضهم بقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } قال: وهذا لا يطلق إلا على القرآن. قال أبو محمد: وهذا كله كذب من قائله وافتراء، وكل وحي أتى إلى النبي بشريعة من الشرائع، فإذا نزل به الروح القدس من ربه، وقد جاء نص الحديث، بأن جبريل عليه السلام نزل فصلى، فصلى رسول الله ، ثم صلى فصلى رسول الله هكذا، حتى علمه الصلوات الخمس، وليس هذا في القرآن، وقد نزله روح القدس كما ترى. قال أبو محمد: فبطل كل ما احتجوا به، وبالله تعالى التوفيق.

وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا أحدث الله تعالى لنبيه عليه السلام أمراً برفع سنة تقدمت أحدث النبي عليه السلام سنة تكون ناسخة لتلك السنة الأولى. فأنكر عليه بعض أصحابه هذا القول فقال: لو جاز أن يقال في وحي نزل ناسخاً لسنة تقدمت فعمل بها النبي ، أن عمله هذا نسخ السنة الأولى لكان إذا عمل عليه السلام سنة فنسخ بها سنة سالفة له، فعمل بها الناس إن عمل الناس نسخ السنة الأولى، وهذا خطأ.

قال أبو محمد: وهذا اعتراض صحيح، والرسول مفترض عليه الانقياد لأمر ربه عز وجل. فإنما الناسخ هو الأمر الوارد من الله عز وجل، لا العمل الذي لا بد منه، والذي إنما يأتي انقياداً لذلك الأمر المطاع. قال أبو محمد: فيقال لمن خالفنا في هذه المسألة: أيفعل الرسول أو يقول شيئاً من قبل نفسه دون أن يوحى إليه به؟ فإن قال: نعم، كفر وكذبه ربه تعالى بقوله عز وجل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } وبقوله تعالى آمراً له أن يقول: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } فلما بطل أن يكون فعله أو قوله إلا وحياً، وكان الوحي ينسخ بعضه بعضاً، كانت السنة والقرآن ينسخ بعضها بعضاً.

قال أبو محمد: ومما يبين نسخ القرآن بالسنة بياناً لا خفاء به قوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } ثم قال : «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً: البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائةٍ وَتَغْرِيبُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بالثيب جَلْدُ مِائَةٍ والرَّجْمُ» فكان كلامه الذي ليس قرآناً ناسخاً للحبس الذي ورد به القرآن. فإن قال قائل: ما نسخ الحبس إلا قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } قيل له: أخطأت، لأن هذا الحديث يوجب بنصه أنه قبل نزول آية الجلد لأنه بيان السبيل الذي ذكر الله تعالى، وأمر لهم باستماع تلك السبيل، وأيضاً فإن في الحديث التغريب والجلد، وليس ذلك في الآية التي ذكرت، فالحديث هو الناسخ على الحقيقة، لا سيما إذا كان خصمنا من أصحاب أبي حنيفة والشافعي أو مالك، فإنهم لا يرون على الثيب جلداً إنما يرون الرجم فقط، فوجب على قولهم الفاسد ألا مدخل للآية المذكورة أصل في نسخ الأذى والحبس الذي كان حدّ الزناة والزواني. فإن قال قائل منهم: ما نسخ الأذى والحبس إلا ما روي مما كان نازلاً وهو: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، قيل له، وبالله تعالى التوفيق: قد تركت قولك ووافقتنا على جواز نسخ القرآن المتلو بما ليس مثله في التلاوة، وبما ليس مثله في أن يكتب في المصحف، فإذا جوزت ذلك، فكذلك كلامه بنص القرآن وحي غير متلو، وليس ذلك بمانع من أن ينسخ به. وقد بلح بعضهم ههنا فقال: إنما عنى بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } غير المحصنين فقط وقال: كما خرج العبد والأمة من هذا النص، فكذلك خرج المحصن والمحصنة منه.

قال أبو محمد: فيقال له: إذا جوَّزت خروج حكم ما من أجل خروج حكم آخر بدليل، فلا ننكر على أبي حنيفة قوله: من تزوج أمه وهو يعلم أنها أمه فوطئها خارج عن حكم الزناة، ولا ننكر على مالك قوله: إن من وطىء عمته وخالته بملك اليمين، وهو يعلم أنهما محرمتان عليه خارج عن حكم الزناة، ولا تدخل أنت فيهم اللوطي ولا ذكر له فيهم، وهذا من غلطهم أن يخرجوا من الزناة من وقع عليه اسم زان، وأن يدخلوا فيهم من لا يقع عليه اسم زان، وهذا جهار بالمعصية لله تعالى وخلاف أمره، وتحكم في الدين بلا دليل نعوذ بالله من ذلك.

قال أبو محمد: ومما نسخت فيه السنة القرآن، قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ) فإن القراءة بخفض أرجلكم وفتحها، كلاهما لا يجوز إلا أن يكون معطوفاً على الرؤوس في المسح ولا بد، لأنه لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن المعطوف عليه، لأنه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان، لا تقول: ضربت محمداً وزيداً، ومررت بخالدٍ وعمراً، وأنت تريد أنك ضربت عمراً أصلاً، فلما جاءت السنة بغسل الرجلين صحّ أن المسح منسوخ عنهما.

وهكذا عمل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى قال عليه السلام: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ وَالعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ» وكذلك قال ابن عباس: نزل القرآن بالمسح. قال أبو محمد: والنسخ تخصيص بعض الأزمان بالحكم الوارد دون سائر الأزمان، وهم يجيزون بالسنة تخصيص بعض الأعيان، مثل قوله عليه السلام: «لا قَطْعَ إِلاَّ في رُبُعِ دِينارٍ فَصَاعِداً» وما أشبه ذلك، فما الفرق بين جواز تخصيص بعض الأعيان بالسنة، وبين جواز تخصيص بعض الأزمان بها؟ وما الذي أوجب أن يكون هذا ممنوعاً، وذلك موجوداً؟ فإن قالوا: ليس التخصيص كالنسخ، لأن التخصيص لا يرفع النص، والنسخ يرفع النص كله. قيل لهم: إذا جاز رفع بعض النص بالسنة ــــــ وبعض النص نص ــــــ فلا فرق بين رفع بعض نص آخر بها، وكل ذلك سواء، ولا فرق بين شيء منه.

قال أبو محمد: وقد أقروا وثبت الخبر، بأن آيات كثيرة رفع رسمها البتة، ولا يجوز أن ترفع بقرآن، إذ لو رفعت بقرآن لكان ذلك القرآن موجوداً متلوّاً، وليس في شيء من المتلو ذكر رفع لآية كذا مما رفع البتة، فوجب ضرورة أن ما ارتفع، وهذا نفس ما أجزنا من نسخ القرآن بالسنة، فإن قالوا: إنما رفع بالإنساء، قيل لهم: الإنساء ليس قرآناً، وإنما ذلك هو فعل منه تعالى وأمر بألا يتلى. قال أبو محمد: ومما نسخ من القرآن بالسنة قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } نسخ بعضها قوله : «لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وقد قال قوم: إن آيات المواريث نسخت هذه الآية. قال أبو محمد: وهذا خطأ محض، لأن النسخ هو رفع حكم المنسوخ ومضاد له، وليس في آية المواريث ما يمنع الوصية للوالدين والأقربين إذ جائز أن يرثوا ويوصى لهم مع ذلك من الثلث، ومن بديع ما يقع لمن قال: إن القرآن لا تنسخه السنة، أنهم نسوا أنفسهم، فجعلوا حديث عمران بن الحصين في الستة الأعبد، ناسخاً لوصية الوالدين والأقربين، فأثبتوا ما نفوا وصححوا ما أبطلوا، وقد تكلمنا في بطلان ذلك فأغنى عن ترديده، ولا فرق بينهم في دعواهم لذلك وبين من قال: بل الآية نسخت حديث الستة الأعبد.

ومما نسخ من السنة بالقرآن: صلحه أهل الحديبية إلى المدة التي كانت، ثم نسخ الله تعالى ذلك في سورة براءة، ولم يجز لنا صلح مشرك إلا على الإسلام فقط، حاشا أهل الكتاب، فإنه تعالى أجاز صلحهم على أداء الجزية مع الصغار، وأبطل تعالى تلك الشروط كلها، وتلك المدة كلها، وبالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع

في أقل الجمع | في الاستثناء | في الكناية بالضمير | في الإشارة | في المجاز والتشبيه | فصل في التشبيه | في أفعال رسول الله | الكلام في النسخ | فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها | فصل في قول الله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ | فصل في اختلاف الناس على النسخ | فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ | فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه | فصل هل يجوز نسخ الناسخ ؟ | فصل في مناقل النسخ | فصل في آية ينسخ بعضها، ما حكم سائرها ؟ | فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب | فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف | فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل | فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي | فصل في النسخ بالإجماع | فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس | في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام | في الإجماع، وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع | فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع | فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو | فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما | فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان | فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة | فصل فيمن قال: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع | فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافاً | فصل في قول من قال: قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل | فصل في إبطال قول من قال: الإجماع هو إجماع أهل المدينة | فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة | إن قول الواحد من الصحابة إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع | فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة | فصل في معنًى نسبوه إلى الإجماع | فصل واختلفوا: هل يدخل أهل الأهواء أم لا ؟