ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وأما قول من قال: إن افترق أهل العصر على أقوال كثيرة جدّاً أو أكثر من واحد، فإن ما لم يقولوه قد صحّ الإجماع منهم على تركه، فقد قلنا في تعذر معرفة ذلك وحصره، ونقول أيضاً إن شاء الله تعالى وقد قلنا، إنه لا يمكن مع ذلك أن يجمع أهل عصر طرفة عين، فما فوقها خطأ على خطأ لإخبار النبي بأنه: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ» فهذه الأقوال كلها متخاذلة غير موضوعة وضعاً صحيحاً خارجة عن الإمكان إلى الامتناع وما كان هكذا فلا وجه للاشتغال به. قال أبو محمد: فموَّهوا ههنا بأن قالوا: قد صحّ الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم بعد رسول الله على المنع من بيع أمهات الأولاد، وكان بيعهم على عهده حلالاً وقد صح إجماعهم على جلد شارب الخمر ثمانين جلدة، ولم يكن ذلك على عهده وقد صحّ إجماعهم على إسقاط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة التي كانت على عهد رسول الله . قلنا: كذبتم وأفكتم، أما جلد شارب الخمر ثمانين فيعيذ الله تعالى عمر من أن يشرع حدّاً لم يأت به وحي من الله تعالى ورسوله . ونحن نسألكم: ما الفرق بين ما تدعونه بالباطل من إحداث حد لم يشرعه رسول الله في الخمر؟ وبين إثبات حد في اللياطة بقطع الذكر أو في الزنى بجلد مائتين أو بقطع يد الغاصب؟ أو بقلع أضراس آكل الخنزير؟ وما الفرق بين هذا كله وبين إسقاط صلاة وزيادة أخرى، وإبطال صوم رمضان وإحداث شهر آخر، ومن أجاز هنا فقد خرج عن الإسلام، وكفر كفراً صراحاً، ولحق بالباطنية وغلاة الروافض واليهود والنصارى الذين بدلوا دينهم، وإنما جلد عمر الأربعين الزائدة تعزيراً، كما صحّ عنه أنه كان إذا أتي بمن تتابع في الخمر جلده ثمانين، وإذا أتي بمن لم يكن له منه إلا الوهلة ونحوها جلده أربعين. ويا معشر من لا يستحي من الكذب، أين الإجماع الذي تدعونه؟ وقد صحّ أن عثمان وعليّاً وعبد الله بن جعفر ــــ بحضرة الصحابة ــــ جلدوا في الخمر أربعين بعد موت عمر. كما حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا يحيى بن حماد، ثنا عبد العزيز بن المختار، ثنا عبد الله بن الفيروز الداناج ــــ مولى ابن عامر ــــ ثنا حصين بن المنذر أبو ساسان قال: شهدت عثمان أتى الوليد يشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، والثاني أنه قاءها، قال عثمان: يا عليّ قم فاجلده، فقال عليّ يا حسن قم فاجلده، فقال الحسن: ولِّ حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه، فقال عليّ: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده، وعليّ يعد حتى بلغ أربعين فقال: أمسك، جلد رسول الله أربعين، وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكلّ سنة.

فإن كان ضرب الثمانين إجماعاً، فعثمان وعليّ وأبي جعفر والحسن ومن حضرهم خالفوا الإجماع، ومخالف الإجماع عندهم كافر. فانظروا فيما تقحمهم آراؤهم. وحاشا للأئمة الصحابة رضي الله عنهم من الكفر، ومن مخالفة الحق، ومن إحداث شرع لم يأذن به الله تعالى. فإن قيل: فما معنى قول علي: وكلٌّ سنة. قلباً. صدق لأن التعزير سنة، فإن قيل: إن التعزير عندكم لا يتجاوز عشر جلدات. قلنا يمكن أن يجلده عمر لكل كأس عشر جلدات تعزيراً، فهذا جائز، وقد تعلل في هذا الخبر بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه في نصر ضلاله، فإن ذكر ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني، حدثنا أبو إسحاق البلخي، ثنا الفربري، ثنا عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا خالد بن الحارث، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي حصين أنه حدث قال: سمعت ابن سعد النخعي قال: سمعت علي بن أبي طالب قال: ما كنت لأقيم حدّاً على أحد فيموت فأحد نفسي إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله لم يسنه. قال أبو محمد: فاعجبوا لعمى هذا الإنسان، يعلل حديثاً صحيحاً لا مغمز فيه، بحديث مملوء عللاً أولها: أن راويه مختلف فيه، مرة عمير بن سعيد، ومرة عمير بن سعد، ومرة نخعي، ومرة حنفي. ثم الطامة الكبرى كيف يجعل هذا المفتون حجة شيئاً يخبر علي عن نفسه أنه يجد في نفسه ما لا يجد من سائر الحدود، فإن كان حقّاً وسنة، فلم يجد في نفسه أذًى حتى يؤدي ديته إن مات من ذلك الجلد، وهلا وجد في نفسه ممن مات في سائر الحدود، وفي هذا كفاية، ثم معاذ الله أن يثبت علي في الدين ما لم يسنه عليه السلام، ثم لو صحّ لكان وجهه بيناً، وهو أنه إنما يجد في الأربعين الزائدة التي جلدوها تعزيراً. ثم نقول لهم: لو ادعى عليكم ههنا خلاف الإجماع: لصدق مدعي ذلك عليكم، لأنكم تقرون أن عمر أول من جلد في الخمر ثمانين، وقد كان استقر الإجماع قبله على أربعين، فقد أقررتم على أنفسكم بخلاف الإجماع، ونسبتم عمر إلى خلاف الإجماع، وقد أعاذه الله تعالى من ذلك، وأما أنتم فأنتم أعلم بأنفسكم، وإقراركم على أنفسكم لازم لكم، فإن لجأتم إلى مراعة انقراض العصر لزمكم مثله في جلد عثمان وعلي في الخمر أربعين بعدهم ولا فرق.

وأما أمهات الأولاد فكذبه في ذلك أفحش من كل كذب. لأن عبد الله بن الربيع قال: ثنا محمد بن إسحاق بن السليم، ثنا ابن الأعرابي، ثنا أبو داود السجستاني، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله وأبي بكر، فلما كان عمر نهانا فانتهينا، فهذا عمل الناس أيام رسول الله وأيام أبي بكر.

أنبأنا محمد بن سعيد بن ثابت، أنبأنا أحمد بن عون الله، أنبأنا قاسم بن أصبغ أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني، أنبأنا محمد بن بشار، أنبأنا محمد بن جعفر ــــ غندر ــــ أنبأنا محمد بن سعيد بن الحكم بن عتيبة، عن زيد بن وهب. قال: انطلقت أنا ورجل إلى عبد الله بن مسعود نسأله عن أم الولد، فإذا هو يصلي ورجلان قد اكتنفاه، فلما صلى سألاه فقال لأحدهما: من أقرأك قال اقرأنيها أبو عبدة أو أبو الحكم المزني. وقال الآخر: أقرأنيها عمر بن الخطاب، فبكى ابن مسعود حتى بلّ الحصى بدموعه وقال: اقرأ كما أقرأك عمر، فإنه كان للإسلام حصناً حصيناً يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر انثلم الحصن فخرج الناس من الإسلام وقال: وسألته عن أم الولد فقال: تعتق من نصيب ولدها. نا حمام، نا ابن مفرج، نا ابن الأعرابي، نا الدبري، نا عبد الرزاق، نا سفيان بن عيينة، عن الأعمش عن زيد بن وهب. قال: مات رجل منا وترك أم ولد، فأراد الوليد بن عقبة بيعها في دينه، فأتينا ابن مسعود فوجدناه يصلي، فانتظرناه حتى فرغ من صلاته فذكرنا ذلك له، فقال: إن كنتم لا بد فاجعلوها في نصيب ولدها. وبه إلى عبد الرزاق، عن ابن جريج أنه حدثه قال: أخبرنا عطاء بن أبي رباح، أن ابن الزبير أقام أم حبي أم ولد محمد بن صهيب في مال ابنها وجعلها من نصيبه ويسمى ابنها خالداً. قال عطاء وقال عباس: لا تعتق أم الولد حتى يلفظ سيدها بعتقها.

نا أحمد بن محمد الطلمنكي، نا محمد بن أحمد بن مفرج، نا إبراهيم بن أحمد بن فراس، نا محمد بن علي بن زيد، نا سعيد بن منصور، نا هشيم أخبرنا مغيرة بن مقسم، عن الشعبي، عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب أعتقا أمهات الأولاد قال علي بن أبي طالب: فقضى بذلك عمر حتى أصيب، ثم قضى بذلك عثمان حتى أصيب، فلما وليت رأيت أن أرقهن. قال أبو محمد: وهذا قول زيد بن ثابت وغيره، فيقال لهؤلاء الذين قد أعمى الله تعالى أبصارهم أتقرون أن عمر هو أول من منع من بيعهن فمن قولهم: نعم، ويدعونه إجماعاً من كل من معه من الصحابة رضي الله عنهم، فيقال لهم: قد أقررتم أن عمر قد خالف الإجماع بهذا الفعل، إذا قلتم إن المسلمين كانوا على بيعهن حتى نهاهم عمر، فهل في خلاف الإجماع أكثر من هذا، أو كذبتم إذ قلتم إن عمر أول من حرم بيعهم لا بد من إحداهما.

وقد أعاذ الله عمر من خلاف الإجماع، وأما أنتم فأعلم بأنفسكم، وإقراركم بذلك على أنفسكم لازم لكم، ثم لو صحّ لكم أن عمر رضي الله عنه وكل من أجمعوا على ذلك فصار إجماعاً للزمكم أن ابن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، خالفوا الإجماع وخلاف الإجماع عندكم كفر، فانظروا أي مضايق تقتحمون ومن أي أحواف تتساقطون؟ ولا بد من هذا أو من كذبكم في دعوى الإجماع على حكم عمر بذلك لا مخرج من أحدهما. وأما نحن فدعوى الإجماع عندنا في مثل هذا إفك وكذب، وجرأة على التجليح بالكذب على جميع أهل الإسلام، ولا ينكر الوهم ــــ بالاجتهاد، والخطأ مع قصد إلى طلب الحق والخير ــــ على أحد بعد رسول الله ، ولا نقول في شيء من الدين إلا بنص قرآن أو سنة ثابتة عن رسول الله ، ولا نبالي من خالف في ذلك، ولا نتكثر بمن ولولا، وما، نا أحمد بن قاسم قال: نا أبو قاسم بن محمد بن قاسم، نا جدي قاسم بن أصبغ، نا مصعب بن محمد، نا عبيد الله بن عمر الرقي، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما ولدت مارية إبراهيم قال النبي : «أَعتَقَها وَلَدُها» مع دلائل من نصوص أخرى ثابتة قد ذكرناها في كتاب الإيصال. ما قلنا إلا ببيع أمهات الأولاد، لكن السنة الثابتة لا يحل خلافها، وما نبالي خلاف ابن عباس لروايته، فقد يخالفها متأولاً أنه خصوص، أو قد ينسى ما روي وما كلفنا الله تعالى قط أن نراعي أقوال القائلين، إنما أمرنا بقبول رواية النافرين ليتفقهوا في الدين المنذرين لمن خلفهم المؤمنين مما بلغهم وصح عنهم عن رسول الله . وبالله تعالى التوفيق. وأما دعواهم أن عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عز وجل فعظيمة من عظائم الإفك والكذب، ويعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الإسلام. ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان رضي الله عنه أقل من هذا، مما لا نكره فيه أصلاً، فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة، ومعاذ الله من ذلك، وسواء عند كل ذي عقل إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى، أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى، ولا فرق، وتالله إن من أجاز هذا غافلاً ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك وأصر، فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه، لأنه تكذيب لله تعالى في قوله الصادق لنا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وفي قوله الصادق: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذي أنزله الله تعالى عليه وجمعه.

فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى، وهذه ردة صحيحة لا مرية فيها، وما رامت غلاة الروافض وأهل الإلحاد الكائدون للإسلام إلا بعض هذا. وهذه الآية تبين ضرورة أن جميع القرآن كما هو من ترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره، حتى جمع كما هو، فإنه من فعل الله عز وجل وتوليه جمعه، أوحى به إلى نبيه عليه السلام، وبيّنه عليه السلام للناس، فلا يسع أحداً تقديم مؤخر من ذلك، ولا تأخير مقدم أصلاً. ونحن نبين فعل عثمان رضي الله عنه ذلك بياناً لا يخفى على مؤمن، ولا على كافر، وهو أنه رضي الله عنه علم أن الوهم لا يعزى منه بشر، وأن في الناس منافقين يظهرون الإسلام ويكنون الكفر، هذا أمر يعلم وجوده في العالم ضرورة، فجمع من حضره من الصحابة رضي الله عنهم على نسخ مصاحف مصححة كسائر مصاحف المسلمين ولا فرق. إلا أنها نسخت بحضرة الجماعة فقط. ثم بعث إلى كل مصر مصحفاً يكون عندهم، فإن وهم واهم في نسخ مصحف، وتعمد ملحد تبديل كلمة في المصحف، أو في القراءة، رجع إلى المصحف المشهور المتفق على نقله ونسخه.

فعلم أن الذي فيه هو الحق، وكيف كان يقدر عثمان على ما ظنه أهل الجهل؟ والإسلام قد انتشر من خراسان إلى برقة، ومن اليمن إلى أذربيجان، وعند المسلمين أزيد من مائة ألف مصحف، وليست قرية ولا حِلَّة ولا مدينة إلا والمعلمون للقرآن موجودون فيها، يعلمونه من تعلمه، من صبي أو امرأة، ويؤمهم به في الصلوات في المساجد. وقد حدثني يونس بن عبد الله بن مغيث قال: أدركت بقرطبة مقرئاً يعرف بالقرشي، أحد مقرئين ثلاثة للعامة كانوا فيها، وكان هذا القرشي لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوماً في سورة ق: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } فرده عليه القرشي تحيد التنوين، فراجعه القارىء وكان يحسن النحو، فلج المقرىء وثبت على التنوين وانتشر ذلك الخبر إلى أن بلغ إلى يحيى بن مجاهد الفزاري الألبيري، وكان منقطع القرين في الزهد والخير والعقل، وكان صديقاً لهذا المقرىء، فمضى إليه فدخل عليه، وسلم عليه وسأله عن حاله. ثم قال له: إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء فأردت تجديد ذلك عليك، فسارع المقرىء إلى ذلك، فقال له الفزاري: أريد أن أبتدىء بالمفصل، فهو الذي يتردد في الصلوات فقال له المقرىء: ما شئت، فبدأ عليه من أول المفصل، فلما بلغ سورة ق، وبلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين، فقال له يحيى بن مجاهد: لا تفعل ما هي إلا غير منوتة بلا شك، فلج المقرىء. فلما رأى يحيى بن مجاهد لجاجه قال له: يا أخي إنه لم يحملني على القراءة عليك إلا لترجع إلى الحق في لطف، وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو، فإن الأفعال لا يدخلها تنوين البتة، فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا، فقال يحيى بن مجاهد بيني وبينك المصاحف، فبعثوا فأحضرت جملة من مصاحف الجيران، فوجدوها مشكولة بلا تنوين، فرجع المقرىء إلى الحق.

وحدثني حمام بن أحمد بن حمام قال: حدثني عبد الله بن محمد بن علي، عن اللخمي الباجي قال: نا محمد بن لبانة قال: أدركت محمد بن يوسف بن مطروح الأعرج يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة، وكان عديم الورع، بعيداً عن الصلاح، قال: فخطبنا يوم الجمعة فتلا في خطبته: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } فقرأها بنونين «عننتم» . قال : فلما انصرف أتيناه وكنا نأخذ عنه رأي مالك، فذكرنا له قراءته للآية وأنكرناها، فقال: نعم، هكذا أقرأناها، وهكذا هي، فلج فحاكمناه إلى المصحف فقام ليخرج المصحف ففتحه في بيته وتأمله، فلما وجد الآية بخلاف ما قرأها عليه أنف الفاسق من رجوعه إلى الحق فأخذ القلم وألحق ضرساً زائداً؟ قال محمد بن عمر: فوالله لقد خرج إلينا والنون لم يتم بعد جفوف مدادها. قال أبو محمد: فالأول واهم مغفل، والثاني فاسق خبيث، فلولا كثرة المصاحف بأيدي الناس لتشكك كثير من الناس في مثل هذا إذا شاهدوه ممن يظنون به خيراً أو علماً، ولخفي الخطأ والتعمد. فمثل هذا تخويف عثمان رضي الله عنه، ولقد عظمت منفعة فعله ذلك، أحسن الله جزاءه. وأما الأحرف السبعة، فباقية كما كانت إلى يوم القيامة، مثبوتة في القراءات المشهورة من المشرق إلى المغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، فما بين ذلك، لأنها من الذكر المنزل الذي تكفل الله تعالى بحفظه، وضمان الله تعالى لا يخيس أصلاً، وكفالته تعالى لا يمكن أن تضيع.

ومن البرهان على كذب أهل الجهل وأهل الإفك على عثمان رضي الله عنه في هذا أنبأناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني، نا إبراهيم بن أحمد البلخي، نا الفربري، نا البخاري نا أمية ــــ هو ابن بسطام ــــ نا يزيد بن ربيع عن حبيب بن الشهيد عن ابن مليكة عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } قال قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي: لا أغير شيئاً منه من مكانه.

وبه إلى البخاري، نا موسى بن إسماعيل، نا إبراهيم، حدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق.

فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أم المؤمنين، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بهما إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. فهذان الخبران عن عثمان، إذا جمعا صححا قولنا وهو: أنه لم يحل شيئاً من القرآن عن مكانه الذي أنزله الله تعالى عليه، وأنه أحرق ما سوى ذلك مما وهم فيه واهم، أو تعمد تبديله متعمد. نا عبد الله بن الربيع التميمي، نا عمر بن عبد الملك الخولاني، نا أبو سعيد الأعرابي العزي، نا سليمان بن الأشعث، نا محمد بن المثنى، نا محمد بن جعفر، نا شعبة عن الحكم عن مجاهد، عن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعب أن النبي كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: «إنَّ الله يأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ عَلَى حَرْفٍ. فَقَالَ: أَسْأَلُ الله مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، إِنَّ أُمَّتي لا تُطِيقُ على ذَلِكَ» ، ثم أتاه الثانية فذكر نحو هذا حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: «إِنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» قرؤوا عليه فقد أصابوا.

وبه إلى سليمان بن الأشعث، نا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لففته بردائه فجئت به رسول الله فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال له رسول الله : «اقْرَأ القِرَاءةَ الَّتِي سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ» ، فقال رسول الله : «هكذا أنزلت» ، ثم قال لي: «اقرأ» فقرأت، فقال: هكذا نزلت، ثم قال : «إِنَّ القُرْآنَ نَزَلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرؤُوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» . قال أبو محمد: فحرام على كل أحد أن يظن أن شيئاً أخبر رسول الله أن أمته لا تطيق ذلك، أتى عثمان فحمل الناس عليه فأطاقوه، ومن أجاز هذا فقد كذب رسول الله في قوله لله تعالى: إن أمته لا تطيق ذلك ولم ينكر الله تعالى عليه ذلك، ولا جبريل عليه السلام وقال هؤلاء المجرمون إنهم يطيقون ذلك، وقد أطاقوه فيا لله ويا للمسلمين أليس هذا اعتراضاً مجرداً على الله عز وجل مع التكذيب لرسوله ؟ فهل الكفر إلا هذا؟ نعوذ بالله العظيم أن يمر بأوهامنا فكيف أن نعتقده. وأيضاً فإن الله تعالى آتانا تلك الأحرف فضيلة لنا، فيقول من لا يحصل ما يقول: إن تلك الفضيلة بطلت فالبلية إذاً قد نزلت، حاشا لله من هذا.

قال أبو محمد: ولقد وقفت على هذا مكي بن أبي طالب المقرىء رحمه الله، فمرة سلك هذه السبيل الفاسدة فلما وقفته على ما فيها رجع، ومرة قال بالحق في ذلك كما تقول، ومرة قال لي: ما كان من الأحرف السبعة موافقاً لخط المصحف فهو باق، وما كان منها مخالفاً لخط المصحف فقد رفع، فقلت له: إن البلية التي فررت منها في رفع السبعة الأحرف باقية بحسبها، في إجازتك رفع حركة واحدة من حركات جميع الأحرف السبعة أكثر من ذلك، فمن أين وجب أن يراعى خط المصحف، وليس هو من تعليم رسول الله لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب واتباع عمل من دونه من غير توقيف منه عليه السلام لا حجة فيه، ولا يجب قبوله، وقد صححت القراءة من طريق أبي عمرو بن العلاء التميمي مسنده إلى رسول الله : {إنَّ هَذان لَسَاحِرَانِ} وهو خلاف خط المصحف وما أنكرها مسلم قط فاضطرب وتلجلج. قال أبو محمد: وقد قال بعض من خالفنا في هذا: إن الذين كانوا على عهد رسول الله كانوا عرباً، يصعب على كل طائفة منهم القراءة بلغة غيرهم، فلذلك فسح لهم في القراءة على أحرف شتى من بعدهم كذلك، فقلنا: كذب هؤلاء مرتين، إحداهما على الله تعالى، والثانية على جميع الناس، كذباً مفضوحاً جهاراً لا يخفى على أحد. أما كذبهم على الله عز وجل فإخبارهم بأنه تعالى إنما جعله يقرأ على أحرف شتى لأجل صعوبة انتقال القبيلة إلى لغة غيرها، فمن أخبرهم بها عن الله تعالى أنه من أجل ذلك حكم بما صحّ أنه تعالى حكم به، وهل يستجيز مثل هذا ذو دين أو مسكة عقل؟ وهل يعلم مراد الله تعالى في ذلك إلا بخبر وارد من عنده عز وجل؟ اللهم عياذك من مثل هذا الترامي من حالق إلى المهالك.

ومن أخبر عن مراد غيره بغير أن يطلعه ذلك المخبر عنه على ما في نفسه، فهو كاذب بلا شك، والكذب على الله تعالى أشد من الكذب على خلقه. وأما كذبهم على الناس، فبالمشاهدة يدري كل أحد صعوبة القراءة على الأعجمي المسلم ــــ من الترك والفُرس والروم والنبط والقبط والبربر والديلم والأكراد وسائر قبائل العجم ــــ بلغة العرب التي بها نزل القرآن، أشد مراماً من صعوبة قراءة اليماني على لغة المضري والربعي على لغة القرشي بلا شك، وأن تعلم العربي للغة قبيلة من العرب ــــ غير قبيلته ــــ أمكن وأسهل من تعلم الأعجمي للعربية بلا شك، والأمر الآن أشد مما كان حينئذ أضعافاً مضاعفة، فالحاجة إلى بقاء الأحرف الآن، أشد منها حينئذ، على قول المستسهلين للكذب، في عللهم التي يستخرجونها نصراً لضلالهم، ولتقليدهم من غلط قاصد إلى خلاف الحق ولاتباعهم، وله عالم قد حدروا عنها، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. وبرهان كذبهم في دعواهم المذكورة أنه لو كان ما قالوه حقّاً، لم يكن لاقتضاء نزوله على سبعة أحرف معنى: بل كان الحكم أن تطلق كل قبيلة على لغتها، وبرهان آخر على كذبهم في ذلك أيضاً أن المختلفين في الخبر المذكور الذي أوردناه آنفاً أنهما قرآ سورة الفرقان بحرفين مختلفين كانا جميعاً بني عم قرشيين من قريش البطاح من قبيلة واحدة جاران ساكنان في مدينة واحدة، وهي مكة، لغتهما واحدة وهما عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قريظ بن رزاح بن عدي بن كعب، وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب، ويجتمعان جميعاً في كعب بن لؤي بين كل واحد منهما وبين كعب بن لؤي ثمانية آباء فقط فظهر كذب من ادعى أن اختلاف الأحرف إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب وأبى ربك إلا أن يحق الحق، ويبطل الباطل، ويظهر كذب الكاذب، ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ. قال أبو محمد: وقال آخرون منهم: الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها إنما هي وعد ووعيد وحكم، وزادوا من هذا التقسيم حتى بلغوا سبعة معان. قال أبو محمد: المقلدون كالغرقى، فأي شيء وجدوه تعلقوا به. قال أبو محمد: وكذب هذا القول أظهر من الشمس، لأن خبر أبيّ الذي ذكرنا وخبر عمر الذي أوردناه ــــ شاهدان بكذبه، مخبران بأن الأحرف إنما هي اختلاف ألفاظ القراءات لا تغير القرآن، ولا يجوز أن يقال في هذه الأقسام التي ذكرنا أيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا، وأيضاً فإنهم ليسوا في تقسيمهم هذا بأولى من آخر اقتصر على مبادىء الكلام الأول، فجعل القرآن ثلاثة أقسام فقط: خبراً، وتقديراً، وأمراً بشرع، وجعل الوعد والوعيد تحت قسم الخبر، ولا هم أيضاً بأولى من آخر قسم الأنواع التي في اشخاص المعاني، فجعل القرآن أقساماً كثيرة أكثر من عشرة فقال: فرض وندب ومباح ومكروه وحرام ووعد ووعيد، والخبر عن الأمم السالفة، وخبر عما يأتي من القيامة والحساب، وذكر الله تعالى وأسمائه، وذكر النبوة، ونحو هذا، فظهر فساد هذا، وأيضاً فإن هذه الأقسام التي ذكروا هي في قراءة عمر، كما هي في قراءة هشام بن حكيم ولا فرق، فهذا بيان زائد في كذب هذا التقسيم.

قال أبو محمد: فإن ذكر ذاكر الرواية الثابتة بقراءات منكرة صححت عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، مثل ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ومثل ما صحّ عن عمر رضي الله عنه، من قراءة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ } ، ومن أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعد المعوذتين من القرآن، وأن أبياً رضي الله عنه كان يعد القنوت من القرآن ونحو هذا. قلنا: كل ذلك موقوف على من روى عنه شيء ليس منه عن النبي البتة، ونحن لا ننكر على من دون رسول الله الخطأ، فقد هتفنا به هتفاً، ولا حجة فيما روي عن أحد دونه عليه السلام، ولم يكلفنا الله تعالى الطاعة له ولا أمرنا بالعمل به، ولا تكفل بحفظه، فالخطأ فيه واقع فيما يكون من الصاحب فمن دونه ممن روى عن الصاحب والتابع، ولا معارضة لنا بشيء من ذلك، وبالله تعالى التوفيق. وإنما تلزم هذه المعارضة، من يقول بتقليد الصاحب على ما صحّ عن رسول الله وعلى القرآن، فهم الذين يلزمهم التخلص من هذه المذلة، وأما نحن فلا، والحمد لله رب العالمين، إلا خبراً واحداً وهو الذي رويناه من طريق النخعي والشعبي، كلاهما عن علقمة بن مسعود، وأبي الدرداء، كلاهما عن رسول الله أنه أقرأهما: {وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى } . قال أبو محمد: وهذا خبر صحيح مسند عن النبي .

قال أبو محمد: إلا أنهما قراءة منسوخة لأن قراءة عاصم المشهورة المأثورة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن النبي ، وقراءة ابن عامر مسندة إلى أبي الدرداء عن رسول الله : فيهما جميعاً: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى } فهي زيادة لا يجوز تركها، وأنبأنا يونس بن عبد الله بن مغيث القاضي قال: حدثنا يحيى بن مالك بن عابد الطرطوشي، أخبرنا الحسن بن أحمد بن أبي خليفة، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، نا إبراهيم بن أبي داود، نا حفص بن عمر الحوضي، نا أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: اختلفوا في القراءات على عهد عثمان بن عفان، حتى اقتتل الغلمان والمعلمون، فبلغ ذلك عثمان فقال: عندي تكذبون به وتختلفون فيه، فما تأبى عني كان أشد تكذيباً وأكثر لحناً، يا صحابة محمد: اجتمعوا فاكتبوا للناس، قال: فكتبوا قال: فحدثني أنهم كانوا إذا تراودوا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله فلاناً، فيرسل إليه وهو على ثلاثة من المدينة فيقول: كيف أقرأك رسول الله ؟ فيقول: كذا وكذا فيكتبونها، وقد تركوا لها مكاناً. قال أبو محمد: فهذه صفة عمل عثمان رضي الله عنه، بحضرة الصحابة رضي الله عنهم في نسخ المصاحف، وحرق ما حرق منها مما غيّر عمداً وخطأ، ومن العجب أن جمهرة من المعارضين لنا، وهم المالكيون، قد صح عن صاحبهم ما ناه المهلب بن أبي صفرة الأسدي التميمي، قال ابن مناس: نا ابن مسرور، نا يحيى، نا يونس بن عبد الأعلى، نا ابن وهب، حدثني ابن أنس قال: أقرأ عبد الله بن مسعود رجلاً: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ } فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال له ابن مسعود: طعام الفاجر. قال ابن وهب: قلت لمالك: أترى أن يقرأ كذلك؟ قال: نعم أرى ذلك واسعاً فقيل لمالك: أفترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله؟ قال مالك: ذلك جائز، قال رسول الله : «أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَؤُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرُ» مثل: تعلمون يعلمون، قال مالك: لا أرى في اختلافهم في مثل هذا بأساً، ولقد كان الناس ولهم مصاحف، والستة الذين أوصى لهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف. قال أبو محمد: فكيف يقولون مثل هذا؟ أيجيزون القراءة هكذا فلعمري لقد هلكوا وأهلكوا، وأطلقوا كل بائقة في القرآن أو يمنعون من هذا، فيخالفون صاحبهم في أعظم الأشياء وهذا إسناد عنه في غاية الصحة وهو مما أخطأ فيه مالك مما لم يتدبره، لكن قاصداً إلى الخير، ولو أن أمراً ثبت على هذا وجازه بعد التنبيه له على ما فيه، وقيام حجة الله تعالى عليه في ورود القرآن بخلاف هذا لكان كافراً، ونعوذ بالله من الضلال.

قال أبو محمد: فبطل ما قالوه في الإجماع بأوضع بيان والحمد لله رب العالمين.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع

في أقل الجمع | في الاستثناء | في الكناية بالضمير | في الإشارة | في المجاز والتشبيه | فصل في التشبيه | في أفعال رسول الله | الكلام في النسخ | فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها | فصل في قول الله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ | فصل في اختلاف الناس على النسخ | فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ | فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه | فصل هل يجوز نسخ الناسخ ؟ | فصل في مناقل النسخ | فصل في آية ينسخ بعضها، ما حكم سائرها ؟ | فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب | فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف | فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل | فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي | فصل في النسخ بالإجماع | فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس | في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام | في الإجماع، وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع | فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع | فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو | فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما | فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان | فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة | فصل فيمن قال: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع | فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافاً | فصل في قول من قال: قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل | فصل في إبطال قول من قال: الإجماع هو إجماع أهل المدينة | فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة | إن قول الواحد من الصحابة إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع | فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة | فصل في معنًى نسبوه إلى الإجماع | فصل واختلفوا: هل يدخل أهل الأهواء أم لا ؟