ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال أبو محمد: ثم اختلف الناس في وجوه من الإجماع، لا علينا أن نذكرها إن شاء الله تعالى، وإن كنا قد بيّنا آنفاً أنه لا حاجة بأحد إلى طلب إجماع أو اختلاف، وإنما الفرض على الجميع، والذي يحتاج إليه الكل، فهو معرفة أحكام القرآن، وما ثبت عن رسول الله فقط، كما بيَّنا أن أهل العلم مالوا إلى معرفة الإجماع، ليعظموا خلاف من خالفه، ويزجروه عن خلافه فقط، وكذلك مالوا إلى معرفة اختلاف الناس، لتكذيب من لا يبالي بادعاء الإجماع ـــــ جرأة على الكذب، حيث الاختلاف موجود ـــــ فيردعونه بإيراده عن اللجاج في كذبه فقط، وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد: فقالت طائفة: الإجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط، وأما إجماع من بعدهم فليس إجماعاً، وقالت طائفة: إجماع أهل كل عصر إجماع صحيح، ثم اختلف هؤلاء، فقالت طائفة منهم: إذا صحّ إجماع كل عصر ما فهو إجماع صحيح، وليس لهم ولا لأحد بعد أن يقول بخلافه. وقالت طائفة منهم أخرى: بل يجب مراعاة ذلك العصر، فإن انقرضوا كلهم ولم يحدثوا ولا أحد منهم خلافاً لما أجمعوا عليه، فهو إجماع قد انعقد لا يجوز لأحد خلافه، وإن رجع أحد منهم عما أجمع مع أصحابه فله ذلك، ولا يكون ذلك إجماعاً. وقالت طائفة: إذا اختلف أهل عصر في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف، ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبداً. وقالت طائفة: بل إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما، ثم أجمع أهل العصر الذي بعدهم على بعض قول أهل العصر الماضي، فهو إجماع صحيح لا يسع أحداً خلافه أبداً، وقالت طائفة: إذا اختلف أهل العصر على عشرة أقوال مثلاً أو أقل أو أكثر فهو اختلاف فيما اختلفوا فيه، وهو إجماع صحيح على ترك ما لم يقولوا به من الأقوال، فلا يسع أحداً الخروج على تلك الأقوال كلها، له أن يتخير منها ما أداه إليه اجتهاده.

وقالت طائفة: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع صحيح لا يجوز خلافه لأحد، وقالت طائفة: ليس إجماعاً، وقالت طائفة: إذا اتفق الجمهور على قول خالفهم واحد من العلماء فلا يلتفت إلى ذلك الواحد، وقول الجمهور هو إجماع صحيح، وهذا قول محمد بن جرير الطبري. وقالت طائفة: ليس هذا إجماعاً. وقالت طائفة: قول الجمهور والأكثر إجماع، وإن خالفهم من هو أقل عدداً منهم، وقالت طائفة ليس هذا إجماعاً. وقالت طائفة: إجماع كل أهل المدينة هو الإجماع، وهذا قول المالكيين ثم اختلفوا، فقال ابن بكير منهم وطائفة معه: سواء كان عن رأي أو قياس أو نقلاً، وقال محمد بن صالح الأبهري منهم وطائفة معه: إنما ذلك فيما كان نقلاً فقط. وقالت طائفة: إجماع أهل الكوفة، وهذا قول بعض الحنفيين. وقالت طائفة: إذا جاء القول عن الصاحب الواحد أو أكثر من واحد من الصحابة ولم يعرف له مخالف منهم، فهو إجماع، وإن خالفه من بعد الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول بعض الشافعيين وجمهور الحنفيين والمالكيين. وقال بعض الشافعيين: إنما يكون إجماعاً إذا اشتهر ذلك القول فيهم وانتشر، ولم يعرف له منهم مخالف، وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر فليس إجماعاً، بل خلافه جائز. ثم ههنا أقوال هي داخلة في باب الهوس إن سلم أصحابها من القصد إلى التلاعب بالدين، كقول بعض الحنفيين: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد، وأن اختيارات الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود بن علي وسائر العلماء ــــــ شذوذ خرق الإجماع. وكقول بكر بن العلاء القشيري المالكي: إن بعد سنة مائتين قد استقر الأمر، وليس لأحد أن يختار، وكقول إنسان ذكره أبو ثور في رسالة ورد عليه وكان قوله: إنه ليس لأحد أن يخرج عن اختيارات الأوزاعي وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح.

قال أبو محمد: أصناف الحمق أكثر من أصناف التمر، ويكفي في بطلان كل قول من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ثابتة عن رسول الله قول الله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فصح أنه لا برهان في الدين إلا ما حدّه الله تعالى، وأن حدود الله ليست إلا في كلامه، وبيان رسول الله فقط وأن من لم يأت في قوله في الدين ببرهان ــــــ من القرآن وأن حكم مستند ثابت إلى رسول الله ـــــــ فليس من الصادقين، بل هو كاذب آفك ضالٍ مضل، وبالله تعالى التوفيق، إلا أنه لا بد ـــــ بحول الله تعالى ــــــ من بيان شبه هذه الأقوال الفاسدة، التي قد عظم خطأ أهلها وكثر اتباعها، لعل الله تعالى يهدي بهداه لنا أحداً ـــــ فيكون خيراً لنا من حمر النعم، كما قال رسول الله ــــــ وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل. واعلموا أن جميع هذه الفرق متفقة على أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح، وقائلون بأن كل ما اشتهر فيهم رضي الله عنهم، ولم يقع منهم نكير له، فهو إجماع صحيح، فاعلموا أن إجماع هذه الفرق على ما ذكرنا، حاكم لنا عليهم، وموجب لنا أننا المتبعون للإجماع، وأن مخالفينا كلهم مخالفون للإجماع بإقرارهم، والحمد لله رب العالمين، كما نذكر في الباب المتصل بهذا إن شاء الله تعالى.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع

في أقل الجمع | في الاستثناء | في الكناية بالضمير | في الإشارة | في المجاز والتشبيه | فصل في التشبيه | في أفعال رسول الله | الكلام في النسخ | فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها | فصل في قول الله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ | فصل في اختلاف الناس على النسخ | فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ | فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه | فصل هل يجوز نسخ الناسخ ؟ | فصل في مناقل النسخ | فصل في آية ينسخ بعضها، ما حكم سائرها ؟ | فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب | فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف | فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل | فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي | فصل في النسخ بالإجماع | فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس | في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام | في الإجماع، وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع | فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع | فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو | فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما | فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان | فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة | فصل فيمن قال: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع | فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافاً | فصل في قول من قال: قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل | فصل في إبطال قول من قال: الإجماع هو إجماع أهل المدينة | فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة | إن قول الواحد من الصحابة إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع | فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة | فصل في معنًى نسبوه إلى الإجماع | فصل واختلفوا: هل يدخل أهل الأهواء أم لا ؟