ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء االثاني/فصل في زيادة العدل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


  • قال علي : وإذا روى العدل زيادة على ما روى غيره فسواء انفرد بها أو شاركه فيها غيره مثله أو دونه أو فوقه، فالأخذ بتلك الزيادة فرض، ومن خالفنا في ذلك فإنه يتناقض أقبح تناقض، فيأخذ بحديث رواه واحد ويضيفه إلى ظاهر القرآن الذي نقله أهل الدنيا كلهم، أو يخصه به وهم بلا شك أكثر من رواة الخبر الذي زاد عليهم آخر حكماً لم يروه غيره، وفي هذا التناقض من القبح ما لا يستجيزه ذوقهم وذو ورع، وذلك كتركهم قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } لحديث انفردت به عائشة رضي الله عنها ولم يشاركها فيه أحد.

وهو: لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً، ويترك قوله تعالى في الآيات التي ذكر فيها المحرمات من النساء.

ثم قال تعالى بعد ذكر من ذكر: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }

فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها، وليس ذلك مذكوراً في آية التحريم، بل فيها إحلال كل ما لم يذكر في الآية، فتركوا ذلك لحديث انفرد به أبو هريرة وأبو سعيد وحدهما.

وليس ذلك إجماعاً، فإن عثمان البتي يبيح الجمع بين المرأة وعمتها، ثم يعترضون على حكم رواه عدل بأن عدلاً آخر لم يروِ تلك الزيادة، وأن فلاناً انفرد بها.

  • قال علي : وهذا جهل شديد، وقد ترك أصحاب أبي حنيفة الزيادة التي روى مالك في حديث زكاة الفطر وهي: «من المسلمين» فقالوا: انفرد بها مالك.

وترك أصحاب مالك الاستسعاء الذي رواه سعيد بن أبي عروبة، وقالوا: انفرد بها سعيد فكلا الطائفتين عابت ما فعلت، وأنكرت ما أتت به، مع أنه قد شورك من ذكرنا هاتين الزيادتين ولو انفردا بها ما ضر ذلك شيئاً.

ولا فرق بين أن يروي العدل الراوي العدل حديثاً، فلا يرويه أحد غيره، أو يرويه غيره مرسلاً، أو يرويه ضعفاء، وبين أن يروي الراوي العدل لفظة زائدة لم يروّها غيره من رواة الحديث، وكل ذلك سواء واجب قبوله بالبرهان الذي قدمناه في وجوب قبول خبر الواحد العدل الحافظ، وهذه الزيادة وهذا الإسناد هما خبر واحد عدل حافظ، ففرض قبولهما، ولا نبالي روى مثل ذلك غيرهما أو لم يروه سواهما، ومن خالفنا فقد دخل في باب ترك قبول الخبر الواحد ولحق بمن أتى ذلك من المعتزلة وتناقض في مذهبه، وانفراد العدل باللفظة كانفراده بالحديث كله، ولا فرق.

  • قال علي : فإن كانت اللفظة الزائدة ناقصة من المعنى، فالحكم للمعنى الزائد لا للفظة الزيادة، لأن زيادة المعنى هو العموم، وهو الزيادة حينئذ على الحقيقة وهو الحكم الزائد والشرع الوارد والأمر الحادث، ولأن النبي إنما بعث شارعاً ومحلالاً ومحرماً، وهكذا قال ابن عباس إذ ذكر عنده الضب.

فإذا روى العدل لفظة لها حكم زائد لم يروها غيره، أو رواها غيره، أو روى العدل عموماً فيه حكم زائد، وروى آخرون لفظة فيها إسقاط ذلك الحكم، فالفرض أن يؤخذ بالحكم الزائد أبداً، لأنه شريعة واردة قد تيقنا لزومها لنا، وأننا مأمورون بها ولم نتيقن نسخها ولا سقوطها، ولا يجوز ترك يقين لظن. فمن ادعى تلك الشريعة التي قد صح أمر الله عز وجل لنا بها قد سقطت عنا، وأن الحكم قد رجع إلى ما كنا عليه قبل ورود تلك الشريعة، فهو مفترٍ على الله عز وجل إلا أن يأتي ببرهان من نص أو إجماع على دعواه، ولا يحل لمسلم يخاف الله عز وجل أن يترك يقيناً لما لعله ليس كما يظن .

  • قال علي : ونمثل من ذلك مثالاً فنقول : روى بعض العدول عن رسول الله النهي عن آنية الفضة هكذا مجملاً، وروى بعضهم النهي عن الشرب في آنية الفضة، فكانت هذه اللفظة يعني الشرب ناقصة عن معنى الحديث الآخر الذي فيه إجمال النهي عن آنية الفضة نقصاناً عظيماً، ومبيحة لعظائم في عموم ذلك الحديث إيجاب تحريمها من الأكل فيها، والاغتسال فيها، والوضوء فيها، فهذه اللفظة وإن كانت زائدة في الصوت والخط فهي ناقصة من المعنى، والحديث الآخر وإن كان ناقص اللفظ فهو زائد في الحكم والمعاني، فهو الذي لا يجب الأخذ به، لأن الحديث المذكور فيه الشرب هو بعض ما في الحديث الآخر.

وهذا نحو ما قلنا في الحديثين في زكاة الغنم اللذين ذكر في أحدهما السائمة ولم يذكر في الآخر، فوجب الأخذ بالعام للسائمة وغيرها لأن من أخذ بالحديث العام كان آخذاً بالخاص أيضاً، لأنه إذا اجتنب آنية الفضة جملة كان قد اجتنب الشرب في جملة ما اجتنب أيضاً، وإذا زكى الغنم كلها كان زكى السائمة أيضاً.

فكان آخذاً بكلا الأمرين، وغير عاصٍ لشيء من النصين، وكان من آخذ بالحديث الأخص وحده عاصياً للحديث الآخر، تاركاً له بلا دليل، إلا التحكم والدعوى بغير علم، لأنه إذا زكى السائمة وحدها، فقد ترك زكاة غير السائمة، وخالف ما أوجبه الحديث الآخر، وكان إذا اجتنب الشرب في آنية الفضة وحدها كان قد عصى ما في النص الآخر والاستباح ما حرم الله تعالى فيه، وذلك لا يحل، لأنه ليس أحد النصين أولى بالطاعة من الآخر، وليس أحدهما نافياً للآخر ولا مبطلاً له.

ومن ذلك أيضاً ما روي أن رسول الله عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج منها، فكان هذا عاماً لكل ما يخرج منها زرعاً أو خضراً أو ثماراً، وروى بعضهم هذا الحديث بعينه فقال: من ثمر النخل، فمن أخذ بالمساقاة في ثمر النخل خاصة وحظر ما سوى ذلك كان مخالفاً لفعل رسول الله المنقول في لفظ العموم، وليس قول من قال في ثمر النخل بمبطل أن يكون ساقاهم وعاملهم وزارعهم أيضاً في غير ثمر النخل، ولكن هذا الراوي ذكر بعض ما عوملوا عليه وسكت عن بعض ، وعمّ غيره كل ما وقعت فيه المعاملة، وكان هذا الحديث ناسخاً لحديث النهي عن المزارعة بيقين.

لأنه آخر فعله بلا شك الذي ثبت عليه إلى أن مات، وحديث النهي عن المزارعة كان قبله بلا شك، فلذلك قطعنا أنه منسوخ ولولا هذا البيان ما استجزنا ذلك.

  • قال علي : ومن هذا الباب أن يشهد عدلان أن زيداً طلق امرأته، وقال سائر من حضر المجلس وهم عدول. لم يطلقها البتة، فلا نعلم خلافاً في وجوب الحكم عليه بالطلاق. وإنفاذ شهادة من شهد به، لأن عندهما علماً زائداً شهدا به لم يكن عند سائر من حضر المجلس، وهذا نفسه هو قبول زيادة العدل ولا فرق، وإن انفرد بها، وإنها كسائر نقله، وليس جهل من جهل حجة على علم من علم، ولا سكوت عدل مبطلاً لكلام عدل آخر، ولا فرق بين أن ينفرد بالحديث كله وبين أن ينفرد بلفظة منه أو بحكم زائد فيه.

وقد وافقنا من يخاصم في هذا المعنى على قبول ما انفرد به العدل من الأخبار، وخالفونا في قبول الزيادة بلا دليل إلا التحكم بالدعوى فقط، إلا أن بعضهم رام أن يحتج فأضحك من نفسه، وذلك أنه قال: قد وافقناكم على قبول الخبر إذا سلم من الزيادة انفرد بها بعض الرواة، ومن إرسال غير هذا الراوي له، ومن مخالفة من هو أعدل منه وأحفظ في لفظه، وخالفناكم في قبوله إذا كان فيه شيء من هذه المعاني.

  • قال علي : فيقال له وبالله تعالى التوفيق: هذا يشبه تمويه اليهود، إذ يقولون قد وافقناكم على قبول نبوة موسى ، ووجوب شريعته، وترك العمل في السبت، وأن ذلك كله قد أمر به الله تعالى، وخالفناكم في قبول نبوة محمد ، ووجوب شريعته.
  • قال علي : وهذا احتجاج من لا حجة له، وتمويه ضعيف، وذلك أننا لم نقبل نبوة موسى لأجل موافقتهم لنا عليهم، ولا نبالي وافقونا عليها أم خالفونا، كما لم نبال بتكذيب المجوس والمنانية والصابئين لنبوة موسى عليه السلام وإنما أخذنا بقبول نبوته عليه السلام لقيام البراهين على صحتها، وبمثل تلك البراهين نفسها وجب قبول نبوة محمد ولا فرق، والحق إذا ثبت برهانه فلا معنى لقبول من قبله، ولا يزيده ذلك صحة، ولا معنى لمخالفة من خالفه، ولا يضره ذلك شيئاً ونفسه ضر المخالف ولم يضر الحق.

وكذلك الشيء إذا لم يقم على صحته برهان، فلا معنى لقبول من قبله ولا يصححه ذلك، وكذلك قبول خبر الواحد لم نأخذ به، لأن الحنفيين والمالكيين وافقونا على قبوله، وما نبالي وافقونا أم خالفونا، كما لم نبال بخلافهم لنا في القياس والتقليد، وكما لم نبال بخلاف من خالفنا من المعتزلة وغيرهم في قبول خبر الواحد، وإنما أخذنا بقبول خبر الواحد لقيام البرهان على وجوب القول به.

وبتلك الدلائل والبراهين بأعيانها، وجب اطراح العلل التي راموا بها الأخذ بالزيادة، وبما أرسله عدل وأسنده عدل، وما خولف فيه راويه، وبذلك البرهان نفسه وجب قبول الزيادة وإن انفرد بها العدل وتصحيح ما أسنده العدل وإن أرسله غيره، وسواء كان أعدل منه أو أحفظ أو مثله أو دونه، وصح أن ما خالف هذا الحكم هذيان لا معنى له، وإنما يلزم الاحتجاج بما موهوا به غير موضعه، ففي حكم لم نراع فيه غير الإجماع المتيقن به إذا ثبت، وفيما لولا الإجماع المذكور لم نقل به، مما قد أمرنا باتباع الإجماع المتيقن المقطوع به فيه مما لم يأت فيه نص محفوظ اللفظ، وإن كان أصل ذلك الإجماع لا يمكن البتة أن يكون إلا عن نص، وذلك مثل المسائل التي وجدنا فيها خلافاً من واحد فما فوقه لم نقل بها ولا برهان عندنا فيها إلا الإجماع وحده، وذلك مثل القراض الذي لولا الإجماع على جوازه لاتصال نقل الأعصار به عصراً بعد عصر بأنه كان القراض في الجاهلية مشهوراً، وأن النبي أقره ولم ينه عنه، وهو يعلمه فاشياً في قريش، وكانوا أهل تجارة ولا عيش لهم إلا منها لم نجزه، ولو وجدنا واحداً من العلماء يقول بإبطاله لوافقناه ولقلنا بقوله، إذ لا نص في إباحته، ولأنه شرط لم يأت به نص، وكل شرط هذه صفته فإن لم يتفق على صحته فهو باطل بقوله  : «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ في كِتَابِ الله تَعَالى فَهُوَ بَاطِلٌ»

فما كان من هذا النوع فإنا نراعي في مسائله الإجماع، فما أجمعوا عليه منها قلنا به.

وما اختلف فيه أسقطناه بالبتة، لأنه قد بطل الإجماع فيه، والإجماع هو برهان صحته الذي لا برهان لصحته سواه، وما بطل برهان صحته فقد بطل القول به، وأما ما قام برهان على صحته من غير الإجماع.

فلا ينبغي أن يلتفت من وافق عليه، ولا من خالف، ولا يتكثر بمن وافق فيه كائناً من كان، ولا يستوحش ممن خالف فيه كائناً من كان.

ولو كان ما ذكر هذا المغفل حجة لساغ للحنيفي أن يقول: قد وافقتموني على وجوب قطع يد من سرق ما يساوي عشرة دراهم، وخالفتكم في قطع من سرق أقل من ذلك، فلا يلزمني إلا ما اتفقنا عليه، لا ما اختلفنا فيه.

ولساغ له أن يقول: قد وافقتموني على أن القصر يكون من ثلاثة أيام فصاعداً، واختلفنا في أقل، فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه.

ولساغ له أن يقول: قد وافقتموني على أن الصداق يكون عشرة دراهم، وخالفتكم في أقل من ذلك، فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه، لا ما اختلفنا فيه.

ولساغ للمالكي أن يقول: قد وافقتموني على أن المغتسل إذا تدلك تمّ غسله، وخالفتكم فيه إذا لم يتدلك، فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه دون مما اختلفنا فيه ووافقتموني على أن من وقف بعرفة ليلاً أن وقوفه صحيح، وخالفتكم فيمن وقف نهاراً ودفع قبل غروب الشمس، فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه.

ولساغ له أن يقول: قد وافقتكم على أن الصوم إذا سلم من الأكل بالنسيان تام، وخالفتكم في تمامه إذا وقع فيه أكل بنسيان، فلا يتم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه.

ولساغ للشافعي أن يقول لهما: قد وافقتماني على أن من قرأ؛{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } في صلاته أنها تامة، وخالفتكم في تمام صلاة من لم يقرأها، ووافقتماني على تمام صلاة من صلى على رسول الله في آخر تشهده، وخالفتكم في تمام صلاة من لم يصل عليه ، ووافقتماني في جواز صيام من بيَّته كل ليلة، وخالفتكم في صيام من لم يبيته، فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه.

وللزمهم أن يكتفوا منا بأن نقول لهم: قد وافقتمونا على قبول النصوص والإجماع، وخالفناكم في القول بالقياس فلا يلزم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه، ومثل هذا كثير جداً، يقوم منه عشرات ألوف من المسائل، فلما لم يكن كل ما ذكرنا حجة، لأنه كلام موضوع في غير موضعه، سقط شغب من قال: قد اتفقنا عن قبول الخبر إذا عري من زيادة أو مخالفة، واختلفا في قبول الزيادة وبحكم العقل ندري أن كل من رضي لنفسه على خصمه بما لا يرضى على نفسه لخصمه، فجاهل أو مجنون أو وقاح لا بد له من أحد هذه الوجوه، وهي كلها خطط خسف، ونعوذ بالله العظيم منها، اللهم إلا أن يكون خصمه رضي بحكم ما فله أن يلزمه حينئذ إياه، وإن لم يلزمه هو، وبالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني

فصل في المرسل | فصل في أقسام السنن | فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك | فصل في حكم العدل | تتمة فصل في حكم العدل | فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقناً | فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح | فصل ليس كل قول الصحابي إسناداً | فصل في قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي | فصل ليس كل من أدرك النبي ورآه صحابياً | فصل في حكم الخبر عن النبي | فصل في زيادة العدل | فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملـهم أيضاً | فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة | فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن | فصل في صفة الرواية | فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالواهذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان