ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء االثاني/فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملـهم أيضا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام المؤلف ابن حزم
فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملـهم أيضاً


فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملـهم أيضاً وبيان السبب في الاختلاف الواقع بين سلفنا من الأئمة في صدر هذه الأمة والرد على من ذم الإكثار من رواية الحديث

ذهب أصحاب مالك : إلى أنه لا يجوز العمل بالخبر حتى يصحبه العمل.

  • قال علي : وهذا من أفسد قول وأشده سقوطاً، فأول ذلك أن هذا العمل الذي يذكرون، قد سألـهم من سلف من الحنفيين، والشافعيين، وأصحاب الحديث من أصحابنا، منذ مائتي عام ونيف وأربعين عاماً، عمل من هو هذا العمل الذي يذكرون ؟

فما عرفوا عمل من يريدون، ولا عجب أعجب من جهل قوم بمعنى قولـهم، وشرح كلامهم.

وسنبين هذا بعد صدر من كلامنا في هذا الفصل إن شاء اللـه تعالى، وباللـه التوفيق.

ويقال لمن قال: لا أقبل الخبر حتى يصحبه العمل، أللعمل أول أم لا أول لـه ؟

فإن قال: لا أول لـه، جاهر بالكذب ولحق بالدهرية، وإن قال: لـه أول.

قيل لـه، وباللـه تعالى التوفيق : يجب على قولك أن ذلك العمل الأول باطل لا يجوز اتباعه، لأنه ابتدىء فيه بعمل بخبر لم يعمل به قبل ذلك، والخبر لا يجوز اتباعه حتى يعمل به، فهذا العمل قد وقع قبل أن يعمل بالخبر فهو باطل على حكمكم الفاسد المؤدي إلى الـهذيان، وإلى ألا يصح عمل بخبر أبداً، وكفى سقوطاً بقول «أدَّى» إلى ما لا يعقل، وكثير مما يقتحمون مثل هذا، كقولـهم في معنى قول رسول اللـه  : «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقا» وكقولـهم في أن الركعة الثانية من صلاة من يقضي صلاة أدرك منها ركعة مع الإمام، هي قبل الأولى، والثالثة قبل الثانية، وهذا كما ترى لا يعقل، وحسبنا اللـه ونعم الوكيل.

وإذا كان ما ذكروا من أنه لا يجوز أن يعمل بخبر حتى يعمل به قبل هذا العمل، وكان الخبر قد وجد وقتاً من الدهر قبل أن يعمل لـه، فلا يجوز أن يصح العمل بخبر أبداً، وإذا كان ذلك فكل عمل بخبر من الأخبار فهو باطل، والباطل لا يصحح الحق، ولا يحقق الباطل، ولا يثبت به شيء.

ويقال لـهم أيضاً: أرأيتم الخبر المسند الصحيح قبل أن يعمل به، أحق هو أم باطل ؟

ولا بد من أحد هذين !

فإن قالوا: حق، فسواء عمل به أو لم يعمل به، ولولا يزيد الحق درجة في أنه حق أن يعمل به،؛ ولا يبطلـه أن يترك العمل به، أن أهل الأرض كلـهم أصفقوا على معصية محمد ما كان ذلك مسقطاً لوجوب طاعته، وقد فعلوا ذلك في أول مبعثه ، فما كان ذلك مبطلاً لصحة قولـه ، ولو آمن به جميع أهل الأرض وأطاعوه، ما زاد قولـه منزلة في الصحة على ما كان عليه قبل أن يقبله أو يعمل به أحد من الناس ، ونفسه ضر تارك العمل بالحق، ولم يضر الحق شيئاً، وكذلك لو أصفق أهل الأرض كلهم على نبوة مسيلمة لعنه الله ما حققها ذلك، وإذا أجمعوا على الكفر به ما زاد ذلك في قوله في البطلان على ما كان عليه حين نطقه به.

وإن قالوا: الخبر باطل قبل العمل به؛ فالباطل لا يحققه العمل له، ولا يزيد الله بالعمل بالباطل إلا ضلالاً وخزياً، فثبت بالبرهان الضروري أن لا معنى للعمل، ولا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يعبأ به، وقد أصفق أهل الأرض كلهم على العمل بشرائع الكفر قبل مبعث محمد فما صححها ذلك.

  • قال علي : وهذه لفظة قذفها الشيطان في قلوبهم، وطرحها على ألسنتهم، وأيّد ذلك الجهل والعصبية المردية، وبالله نستعيذ من البلاء وإياه نستعين على إدراك الصواب، وبالله تعالى التوفيق.

ثم نقول لهم: متى أثبت الله العمل بالخبر الصحيح، أقبل أن يعمل به، أم بعد أن يعمل به ؟

فإن قالوا: قبل أن يعمل به، فهو قولنا .

وإن قالوا: بعد أن يعمل به، لزمهم أن العاملين به هم الذين شرعوا تلك الشريعة، وهذا كفر من قائله .

ولم يبق لهم إلا أن يقولوا: لما ترك العمل بالخبر علمنا أنه منسوخ وهذا هو باب الإلهام الذي ادعته الروافض لأنفسها لأنه قول بلا برهان.

  • قال علي : وإنما هذا كله بعد أن يعرفوا عمل من يريدون، وأما وهم لا يدرون عمل من يعنون، فلسنا نحتاج أن نبلغ معهم ههنا، وقد حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، ثنا أحمد بن خالد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال، عن يزيد بن إبراهيم التستري، ثنا زريق وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز على أيلة قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في عبد آبق سرق، وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد الآبق إذا سرق قال: فكتب إليَّ : كتبت إليَّ في عبد آبق سرق، وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق، وإن الله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } : الآية، فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه به.

وبه إلى حجاج بن المنهال، ثنا الربيع بن صبيح قال: سألت نافعاً مولى ابن عمر، أو سأله رجل وأنا شاهد على الرهن والقبيل في السلف والورق والطعام إلى أجل مسمى ؟ قال: لا أرى بذلك بأساً.

فقلت له: إن الحسن يكرهه، قال: لولا أنكم تزعمون أن الحسن يكرهه ما رأيت به بأساً، فأما إذا كرهه الحسن فهو أعلم به، فهذا عمر بن عبد العزيز لم يبال بعمل أهل الحجاز إذ وجد القرآن بخلاف، وهذا نافع مولى ابن عمر من كبار فقهاء أهل المدينة توقف في فتياه إذ خالفه الحسن وهو عراقي .

ثم نسألهم فنقول لهم: عمل من تريدون ؟ أعمل أمة محمد كلهم، أم عمل عصر دون عصر ؟ أم عمل محمد ؟ أم عمل أبي بكر ؟ أم عمل عمر ؟ أم عمل عثمان ؟ ولم يكن في المدينة إمام غير هؤلاء أم عمل صاحب من سكان المدينة بعينه ؟ أم عمل جميع فقهاء المدينة ؟ أم عمل بعضهم ؟ ولا سبيل إلى وجه غير ما ذكرنا.

فإن قالوا: عمل أمة محمد كلها بان كذبهم، لأن الخلاف بين الأمة أشهر من ذلك، وهم دأباً إنما يتكلمون على من يخالفهم، فإن كانت الأمة مجمعة على قولهم فمع من يتكلمون إذاً، وإن قالوا عصراً ما دون سائر الأعصار، بان كذبهم أيضاً إذ كل عصر فالاختلاف بين فقهائه موجود منقول مشهور، ولا سبيل إلى وجود مسألة اتفق عليها أهل عصر مَّا، ولم يكن تقدم فيها خلاف قبلهم، ثم اختلف فيها الناس. هذا ما لا يوجد أبداً.

فإن قالوا: عمل رسول الله أريناهم أنهم أترك الناس لعمله بل لآخر عمله، فإنهم رووا: أن آخر عمله كان الإفطار في رمضان في السفر، والنهي عن صيامه، فقالوا هم: الصوم أفضل، وكان آخر عمله  : الصلاة بالناس جالساً وهم أصحاء، وراءه، إما جلوس على قولنا، وإما قيام على قول غيرنا.

فقالوا هم: صلاة من صلَّى كذلك باطل، ورووا في الموطأ أنه : كان إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده، فقالوا هم: طهور من تطهر كذلك باطل حتى يتدلك.

ورووا أنه كان يرفع يديه في الصلاة إذا ركع وإذا رفع، فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه صلَّى فقرأ بالطور في المغرب، وبالمرسلات، وكان ذلك في آخر عمره فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه كان إذا أمَّ الناس فأتم أمَّ القرآن قال آمين قالوا: ليس عليه العمل.

ورووا أنه سجد في: {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ }

فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا أنه : صلّى بالناس جالساً وهم جلوس وراءه فقالوا: صلاة من صلَّى كذلك باطل، وليس عليه العمل، ورووا أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه ابتدأ بالصلاة بالناس فأتى النبي فدخل فجلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه فأتم عليه الصلاة بالناس، فقالوا: ليس عليه العمل، ومن صلَّى هكذا بطلت صلاته، ومن البديع أن بعضهم قال: صلاته في غزوة تبوك خلف عبد الرحمن بن عوف ناسخة لهذا العمل.

  • قال علي : وهذا كلام لو قيل لقائله أسف ما شئت واجتهد ما قدر بأن يأتي بأكثر مما أتى به لوجهين:

أحدهما : أن صلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن بن عوف التي ادعوا أنها ناسخة كانت في تبوك، وصلاته إلى جنب أبي بكر التي ادعوا أنها منسوخة كانت قبل موته بخمس ليال فقط، وهي آخر صلاة صلاها رسول الله بالناس فكيف ينسخ أمر كان قبل موته بأشهر، أمراً كان قبل موته بخمس ليال ؟

أيفوه بهذا من له مسكة عقل، أو يحل لمن هذا مقدار علمه وعقله أن يتكلم في دين الله عز وجل ؟ وصدق رسول الله إذا يقول: «إِنَّ الله لا يَنْزِعُ العِلْمِ بَعْدَ إِذْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعاً، وَلكِنْ يَنَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ العُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيَضِلُّونَ ويُضِلُّون» .

  • قال علي : والوجه الثاني من سقوط كلام هذا الجاهل : أنه حتى لو كانت صلاته خلف عبد الرحمن بعد صلاته خلف أبي بكر، ما كان فيها نسخ لها، لأنه ليس في صلاته خلف عبد الرحمن نهي عما في صلاته خلف أبي بكر ولا مخالفة، بل هو حكم آخر، وعلم آخر، وفي الاحتجاج المذكور عبرة لمن اعتبر، ولهم مثله كثير.

ورووا أنه عليه السلام: جمع بين الظهر والعصر في غير خوف ولا سفر، فقال مالك: أرى ذلك كان من مطر.

فقالوا: ليس عليه العمل لا في مطر ولا في غيره، ورووا أنه أتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ونضحه ولم يغسله.

فقالوا: ليس عليه العمل، وهذا لا يطهر الثوب، ومن صلى بثوب هذا صفته صلى بنجس، فعلموا نبيهم ما لم يكن في علمه، وجعلوه مصليّاً بثوب نجس، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً، ورووا أنه صلى بالناس وهو يحمل أمامة بنت أبي العاص على عنقه، فقالوا: ليس عليه العمل، وهذا إسقاط للخشوع.

  • قال علي : هذا كلام من قاله منهم ناسباً لسقوط الخشوع إلى رسول الله فقد كفر، وارتد وحل دمه وماله، ولحق باليهود والنصارى، ومن نسب ذلك إلى المقتدي بالنبي ولم ينسبه إلى المقتدي به، فقد توقح ما شاء وسخف، وهما خطتا خسف لا بد من إحداهما.

وأظرف من كل ظريف، أنهم احتجوا بهذا الحديث نفسه في أن الصلاة لا تبطل على من صلاها وهو حامل نجاسة، فعصوا الحديث فيما ورد فيه، وجاهروا بالكذب في أن يستبيحوا به ما ليس فيه، ولهم مثله كثير، ورووا أنه كان يقرأ في صلاة العيد بسورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ }

فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه كان يُقبِّل في رمضان نهاراً فقالوا: نكره ذلك لشاب، وليس عليه العمل، ورووا أنه .

صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد.

فقالوا: ليس عليه العمل، وقال شيخ منهم كبير عندهم، صغير في الحقيقة هذا إدخال الجيف في المسجد، فنعقب عاقبة الله على نبيه ، ورووا أنه ، صلى على النجاشي وهو غائب، وأصحابه رضي الله عنهم خلفه صفوف، فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا أنه صلى على قبر، فقالوا: ليس عليه العمل، ثم احتجوا بهذا الحديث في إباحة الصلاة إلى القبور، فعصوا الله تعالى ورسوله في نهيهم عما جاء به العمل الصحيح، وافتروا في الحديث ما ليس فيه، وراموا بذلك إبطال نهي صحيح قد ثبت لا يحل خلافه، ورووا أنه أعطى القاتل السلب، وقضى بذلك، فقالوا: ليس عليه العمل إلا أن يرى الإمام ذلك، ورووا أنه أباح النكاح بخاتم حديد، فقالوا: ليس عليه العمل، وهذا نكاح لا يجوز، ولا بد من ربع دينار، تحكماً من آرائهم الفاسدة، وقياساً على ما تقطع فيه اليد عندهم، فهلا قاسوه على ما يستباح به الظهر من جرعة خمر لا تساوي فلساً، على أن إيلام الظهر أشبه باستباحة الفرج من قطع اليد باستباحة الفرج، لأن الفرج والظهر عضوان مستوران والظهر والفرج لا يقطعان، واليد تقطع وتبان فأحاط الخطأ بهم من كل وجه.

ورووا أنه أنكح رجلاً امرأة بسورة من القرآن، فقالوا: ليس عليه العمل.

وهذا لا يجوز.

ورووا أنه قضى في الجنين بغرةٍ عبد أو أمة، فقالوا: ليس عليه العمل، ولكن إن كان جنين حرة ففيه خمسون ديناراً، وإن كان جنين أمة ففيه عشر قيمة أمة، قياساً على بيضة النعامة يكسرها المحرم فأخطؤوا في خلافهم حكم الله تعالى ورسوله ، وأخطؤوا في شرعهم ما لم يأذن به الله تعالى، وتحكموا في القيمة بلا برهان ولا هدى من الله تعالى، وأخطؤوا في تفريقهم بين جنين الحرة وجنين الأمة بلا دليل، في قياس جنين الأمة على بيضة النعامة خطأ يضحك، في إيجابهم في بيضة النعامة عشر البدنة، وهم لا يرون الاشتراك في الهدي، وكل ذلك بلا دليل وبالله تعالى التوفيق.

وروي أن رسول الله ودى عبد الله بن سهل وهو حضري مدني مائة من الإبل فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يودي بالإبل إلا أهل البادية، وأما أهل الحاضرة فلا يودون إلا بالدنانير والدراهم، وتعلقوا في ذلك بعمر، وهم قد خالفوا عمر في هذا المكان نفسه، لأن عمر كما جعل على أهل الذهب الذهب وعلى أهل الفضة الفضة، وكذلك جعل على أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الغنم ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة فقالوا: ليس على فعل عمر العمل في البقر والغنم والحلل.

وإنما نفعل فعله في الذهب والورق والإبل خاصة.

ورووا أن رسول الله جعل القسامة في قتيل وجد بخيبر، فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يعجز أحد عن أن يلقي قتيلاً قتله في دور قوم آخرين، فخالفوا رسول الله ، وخالفوا عمل عمر في القسامة أيضاً.

واحتج إسماعيل في ذلك ببقرة بني إسرائيل، فأتى بحديث لم يأت به قرآن ولا خبر عن النبي ، وإنما هي خرافة في خرافات أهل الكتاب، ولو صح قولهم لكانت آية معجزة عظيمة، لا يقدرون على مثلها أبداً، وتلك الآية لم يكن فيها قسامة، فقد خالفوا عمل بني إسرائيل أيضاً وقالوا: إنما القسامة في دعوى المريض أن فلاناً قتله، وقد أبطل النبي أن يقبل قول أحد في ادعائه دم أحد أو ماله، فقبلوا دعواه في الدم ولم يتهموه؛ وأبطلوا دعاواه في المال واتهموه، وكفى بذكر هذا عن تكلف رد عليه، ورووا أنه رجم يهوديين زنيا.

فقالوا: ليس عليه العمل ولا يجوز رجمهم، وأتى بعضهم في ذلك بعظيمة تخرج عن الإسلام.

وذلك أن قال: إنما رجمهما رسول الله تنفيذاً لما في التوراة.

فجعلوه منفذاً لأحكام اليهود، وصانوا أنفسهم الدنية الساقطة عن ذلك، ويعيذ الله تعالى نبيه وخيرته من الإنس أن يحكم بغير ما أمره الله به؛ وقد أمره الله تعالى أن يقول: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } ، ورووا أنه قضى بالتغريب على الزاني غير المحصن فقالوا: لا نغرب العبد لأنه ضرر بسيده، ولم يراعوا في تغريب الحر الضرر بزوجته وولده وماله وأبويه، إن كان له أبوان.

ورووا أنه  : احتجم وهو محرم.

فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه تطيب لإحرامه قبل أن يحرم فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه تطيب لحله قبل أن يطوف بالبيت فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا أنه قضى بإبطال كل شرط ليس في كتاب الله عز وجل، فأجازوا أزيد من ألف شرط ليس منها واحد في كتاب الله.

منها من شرط لأهل دار الحرب النزول في دار الإسلام بأسرى المسلمين وسبايا المسلمات يطؤونهن ويردونهن إلى بلاد الكفر، ويستخدمونهم ويهبونهم ويبيعونهم، وهذا شرط لا يجيزه إلا إبليس ومن اتبعه.

ورووا أنه قسم خيبر.

فقالوا: ليس عليه العمل، وتركوا ذلك لإيقاف عمر الأرض مع إقرارهم بأنهم لا يعرفون كيف عمل عمر في ذلك، أفيكون أعجب من ترك عمل مشهور متيقن على النبي مع جميع أصحابه لعمل مجهول لا يدرون كيف وقع بإقرارهم من عمل عمر ؟ وقد خالفه في ذلك الزبير وبلال وغيرهما، ورووا أنه قضى بإيجاب الولاء لمن أعتق فقالوا: من أعتق سائبة فلا ولاء له.

  • قال علي : فهذا ما تركوا فيه عمل رسول الله من روايتهم في الموطأ خاصة، ولو تتبعنا ذلك من رواية غيرهم لبلغ أضعاف ما ذكرنا، وما خالفوا فيه أوامره من روايتهم ورواية غيرهم أضعاف ذلك، ولعل ذلك يتجاوز الألوف، فقد بطل كما ترى ما ادعوه من اتباع عمل النبي ، وثبت أنهم أترك خلق الله لعمل نبي الله ، ثم لآخر عمله ولعمل الأئمة بعده.

فإن قالوا : عمل أبي بكر.

قلنا لهم وبالله التوفيق: لم ترووا في الموطأ عن أبي بكر رضي الله عنه إلا عشر قضايا، خالفتموه منها في ثمان.

ورووا عنه أنه صلى بالبقرة ركعتين ووراءه المهاجرون والأنصار من أهل المدينة؛ فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا عنه أن قرأ في الثالثة من المغرب بعد أم القرآن: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } الآية.

فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا عنه أنه أمر أميراً له وجّهه إلى الشام ألا يقطع شجراً مثمراً، فقالوا: ليس عليه العمل وجائز قطع الشجرة المثمر في دار الحرب. ورووا أنه أمره ألا يعقر شاة ولا بعيراً إلا لمأكله.

فقالوا: ليس عليه العمل، وجائز عقرها في دار الحرب لغير مأكله، وهذا مما خالفوا فيه قضاء النبي وأبي بكر معاً لآرائهم.

ورووا أنه نهاه عن تخريب العامر فقالوا: ليس عليه العمل ولا بأس بتخريبه.

ورووا عنه أنه ابتدأ الصلاة بالناس فكبر، ثم أتى النبي فتخلل الصفوف فصفق الناس، فتأخر أبو بكر وتقدم النبي فأتم الصلاة بالناس.

فقالوا: هذه صلاة لا تجوز، وليس عليه العمل فخالفوا، كما ترى، عمل النبي وعمل أبي بكر وعمل جميع من حضر ذلك من المهاجرين والأنصار، وهم أهل العلم من أهل المدينة، برأي من آرائهم الفاسدة.

ورووا أنه أمر يهودية أن ترقي عائشة رضي الله عنها.

فقالوا: ليس عليه العمل، ونكره رقى أهل الكتاب.

هذا من روايتهم في الموطأ، وأما من رواية غيرهم فكثير.

ومما خالفوه أيضاً: سبيه نساء أهل الردة وصبيانهم، وعمله بذلك في المدينة مع المهاجرين والأنصار إلا من خالفه في ذلك منهم فقالوا: ليس عليه العمل.

فإن قالوا: عمل عمر، قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: رويتم عن عمر رضوان الله عليه أنه قرأ في صلاة الصبح بسورة الحج وسورة يوسف ووراءه أهل المدينة من الأنصار والمهاجرين.

فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا أنه سجد في الحج سجدتين فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا أنه سجد في سورة النجم سجدة.

فقالوا ليس عليه العمل، وهذا مما خالفوا فيه عمل النبي وعمر وجميع الصحابة، وادعوا في ذلك علماً خفي عنهم.

ورووا أنه نزل عن المنبر يوم الجمعة وهو يخطب، فسجد وسجد معه المهاجرون والأنصار، ثم رجع إلى خطبته.

فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا أمر أبياً وتميماً أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة في ليالي رمضان، فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا أن الناس كانوا يقومون أيام عمر بثلاث وعشرين ركعة في ليالي رمضان، فقالوا: ليس عليه العمل، فخالفوا قضاء عمر، وعمل أبي بن كعب، وتميم الداري، والمهاجرين والأنصار بالمدينة لدعوى زائغة وعمل مجهول، وقالوا: العمل في القيام على تسعة وثلاثين ركعة.

ورووا أنه صلى المغرب بالناس ومعه أهل المدينة والمهاجرون والأنصار فلم يقرأ فيها شيئاً، فأخبر بذلك فلم يعد الصلاة، ولا أمر بإعادتها، فقالوا: ليس عليه العمل، وقد بطلت صلاة من صلى هكذا.

ورووا أنه كتب إلى عماله أن يأخذوا من سائمة الغنم الزكاة، فقالوا: السائمة وغير السائمة سواء. ورووا أنه شرب لبناً فأعجبه.

فأخبر أنه من نعم الصدقة فتقيأه، فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا أنه كان يقرِّد بعيره في طين بالسقيا وهو محرم، فقالوا: ليس عليه العمل، فلا ندري أجعلوا القردان صيداً منهياً عنه في الإحرام، أم جعلوا على البعران إحراماً أم كيف وقع لهم هذا ؟.

ورووا عنه أنه قضى في الأرنب بعناق قالوا: ليس عليه العمل.

وقد وافقه على ذلك غيره من الصحابة رضوان الله عليهم، وافترض تعالى في جزاء الصيد ما حكم به ذوا عدل، ولا عدول أعدل من الصحابة، فقد خالفوا ههنا القرآن، وفعل الصحابة، وتركوا الحق بيقين.

ورووا أنه حكم في اليربوع بجَفْرَة، فقالوا ليس عليه العمل، وهذا كالذي قبله.

وروي أنه حلف لئن أتي بمسلم أمن مشركاً ثم قتله ليقتلن ذلك المسلم، فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يقتل مؤمن بكافر، فمرة يتركون الحديث لقول عمر، ويقولون عمر كان أعلم منا، ومرة يتركون قول عمر: ويقولون الحديث أحق أن يتبع، وفي هذا من التناقض ما فيه.

ثم رأوا من رأيهم أن يخالفوا الحديث المذكور الذي له تركوا قول عمر، فقال يقتل المؤمن بالكافر إذا قتله قتل غيلة.

ورووا عنه أنه جعل القراض مضموناً على عبد الله ابنه.

فقالوا: لا يجوز وليس عليه العمل، فتركوا عمل عمر وعبد الله بن عمر وقضاءه بحضرة المهاجرين والأنصار.

ورووا عنه أنه قضى فيمن تزوج امرأة فوجد بها جنوناً أو جذاماً أو برصاً فمسها، فلها صداقها كاملاً، ويرجع به الزوج على وليها، فقالوا: لا يغرم الولي شيئاً إلا أن يكون أباً أو أخاً، فأما إن كان من العشيرة فلا غرم عليه، لكن تغرم هي الصداق إلى ربع دينار.

ورووا عنه: أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق، فقالوا: إن طال نعم وإلا فلا.

ورووا عنه: أنه قضى بأنه لو تقدم في نكاح السر لرجم فيه، فقالوا: ليس عليه العمل ولا رجم فيه، هذا مع فسخهم نكاح السر وإبطالهم إياه وتحريمهم له.

ورووا عنه: أنه قضى في المتعة لو تقدم فيها لرجم، فقالوا: ليس عليه العمل ولا رجم فيها.

وقد قال بعضهم: إنما هذا من عمر وعيد لا حقيقة، فنسبوا إليه الكذب الذي قد نزهه الله عنه ولا غرو فقد قال ذلك بعضهم في قوله إذ همّ بحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة مثل ذلك.

وتلك التي تستكُّ منها المسامع

ورووا عنه أنه أشخص رجلاً قال لامرأته: حبلك على غاربك من العراق إلى مكة، واستحلفه عن نيته في ذلك.

قالوا: ليس عليه العمل، ولا يستجلب أحد من العراق إلى مكة لليمين، ولا ينوي أحد في ذلك، وهي ثلاث أبداً، فخالفوا قضاء عمر في موضعين من هذا الحديث خاصة.

ورووا عنه أنه قال: لا حكرة في سوقنا، فقالوا: لا بأس بالحكرة في السوق.

ورووا عنه أنه قضى بالمدينة بحضرة المهاجرين والأنصار على محمد بن مسلمة بأن يمر الضحاك بن خليفة في أرضه بخليج جلبه، ومحمد كاره لذلك. فقالوا: ليس عليه العمل.

ورروا عنه أنه قضى على جد عمرو بن يحيى المازني بأن يحول عبد الرحمن بن عوف خليجاً له في أرض ذلك المازني من مكان إلى مكان والمازني كاره، فخالفوا قضاء عمر وعبد الرحمن بن عوف بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة وقالوا: ليس عليه العمل، وقال ابن نافع صاحب مالك وقد ذكر ذلك الخبر فقال عليه العمل، فليت شعري عمل من هو هذا العمل المتجاذب الذي يدعيه قوم منهم، وينكره آخرون.

ورووا عنه: أنه أغرم حاطباً في ناقة لرجل من مزينة نحرها عبيد لحاطب فقطع أيديهم، وسأل عن ثمن الناقة فكان أربعمائة فأضعف القيمة على حاطب وأغرمه بمائتي درهم، وذلك بحضرة المهاجرين والأنصار من أهل المدينة فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا عنه أو عن عثمان أنه قضى في أمة غرت من نفسها.

فادعت أنها حرة فتزوجها رجل فولدت، فقضى عليه أن يفدي أولاده بمثلهم.

فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يقضى عليه بعبيد، لكن بالقيمة. ورووا عنه: أنه حكم في منبوذ وجده رجل، أن ولاءه للذي وجده، فقالوا: ليس عليه العمل، ولا ولاء للملتقط على اللقيط.

ورووا عنه: أنه قضى في هبة الثواب، أنه على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها فقال: ليس عليه العمل، وإن تغيرت الهبة عند الموهوب له بزيادة أو نقصان فلا رجوع للواهب فيها، وليس له إلا القيمة.

ورووا عنه: أنه كانت الإبل الضوال مهملات لا يعرض لها أحد في أيامه فقالوا: ليس عليه العمل، فخالفوا عمل عمر بحضرة المهاجرين والأنصار مع موافقة ذلك لأمر رسول الله .

فإن قالوا: عثمان رأى غير ذلك، أريناهم ما يخالفوا فيه عمل عثمان، وأيضاً فما الذي جعل عثمان أولى بأن يتبع من عمر ؟ لولا التخليط وفساد الرأي.

ورووا عنه: أن رجلاً من بني سعد بن ليث أجرى فرساً فوطأ أصبع رجل من جهينة فنزف الجهني فمات، فقال عمر للسعديين: أتحلفون بالله خمسين يميناً ما مات منها، فتحرجوا وأبوا، فقال للجهنيين: احلفوا أنتم لمات منها فأبوا، فقضى على السعديين بنصف الدية، فقالوا: ليس عليه العمل، ولكن يبدأ المدعون وقالوا: ليس العمل على إغرامه أولياء القاتل نصف الدية.

ومن العجب العجيب أن مالكاً الذي خالف هذا الحديث في ثلاثة مواضع أحدها تبدئة المدعى عليهم في اليمين، وثانيها إغرام المدعى عليهم بلا يمين من المدعين، وثالثها إغرامهم نصف الدية لا كلها، ثم احتج به بعد أوراق من كتابه في إغرام الراكب والقائد والسائق وجعل أصله في ذلك فعل عمر بالسعديين، وهو قد خالفه في الحديث نفسه كما ترى، فليت شعري ما الذي جعل ربع حكم عمر في هذا الحديث حجة يوقف عندها، وثلاثة أرباعه مطرحاً لا يعمل له ؟ فلولا البلاء لما كان يقلد هؤلاء القوم هذه الأقوال، ويتركون لها القرآن وكلام رسول الله .

ورووا عنه: أنه قضى في الترقوة بجمل.

فقالوا ليس عليه العمل، ورووا عنه أنه قضى في الضرس بجمل.

فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا عنه: أنه قضى في الضلع بجمل، فقالوا: ليس عليه العمل، ورووا عنه: أنه جلد عبداً زنى وغربه.

فقالوا: ليس عليه العمل ولا يغرب العبد، فخالفوا قضاء عمر وعمله بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة، ومعه سنة النبي لآرائهم الفاسدة.

ورووا عنه: أنه أمر ثابت بن الضحاك وكان قد التقط بعيراً، بأنه يعرفه ثلاثاً، ثم أمره بإرساله حيث وجده، فخالفوا قضاء عمر وعمل ثابت.

فهذا ما خالفوا فيه عمر من روايتهم في الموطأ خاصة، وأما من رواية غيرهم فأضعاف ذلك.

فإن قالوا: عمل عثمان قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: إنهم رووا عن عثمان أنه كان يصلي الجمعة ثم ينصرف وما للجدران ظل.

فقالوا: ليس عليه العمل ولا تجوز الصلاة إلا بعد الخطبة، ولا يبتدأ بالخطبة إلا بعد الأذان، ولا يبتدأ بالأذان إلا بعد الزوال، فإن زالت الشمس فقد حدث للجدران ظل.

ورووا عنه: أنه أذن على المنبر لأهل العالية في يوم عيد وافق يوم جمعة في أن يرجع منهم من أحب.

فقالوا: ليس عليه العمل، ولا نأخذ بإذن عثمان في ذلك، وهو قد قضى ذلك بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة.

ورووا عنه: أنه كان يغطي وجهه وهو محرم. فقالوا: ليس عليه العمل، ولا يغطي المحرم وجهه.

ورووا عنه: أنه كان يخاطب أصحاب الديون من الذهب والفضة فيقول على المنبر: هذا شهر زكاتكم.

فقالوا: ليس عليه العمل وليس للدنانير والدراهم شهر زكاة معروف.

ورووا عنه: أنه نهى عن القران والمتعة ورووا عن عمر مثل ذلك.

فقالوا: ليس عليه العمل ولا ينهى عن ذلك، فهلا فعلوا مثل ذلك في توريثه المطلقة ثلاثاً من زوجها إذا طلقها وهو مريض، وهلا تركوا تقليده هنالك بلا دليل كما تركوه ههنا، فكانوا يوقفون في ذلك.

ورووا عنه: أنه صلى بمنى أربع ركعات، فقالوا: ليس عليه العمل، وقالوا: القصر حق تلك الصلاة، واحتجوا في ذلك بفعل النبي وأبي بكر وعمر، وقد ذكرنا ما خالفوا فيه عمل كل من ذكرنا آنفاً، وما تركوا فيه عمر لعثمان، ورووا: أنه كان يكثر من قراءة يوسف في صلاة الصبح.

ورووا أيضاً نعني قراءتها عن عمر فقالوا: ليس عليه العمل.

ورووا عنه: من أصح طريق وأجلها، وهي رواية مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عثمان فذكر أنه رآه بالعرج وهو محرم ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه: كلوا، فقالوا: ولا تأكل أنت، فقال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي، فقالوا: ليس عليه العمل ولا يجوز أن يأكل محرم ما صيد من أجل محرم غيره، ومحا مالك قول عثمان هذا وكرهه كراهة شديدة، هذا نص الموطأ، فأين العمل إن لم يكن عمل النبي وأبي بكر وعمر وعثمان بحضرة المهاجرين والأنصار.

ورووا عنه، وعن عمر: النهي عن الحكرة. فقالوا: ليس عليه العمل ولا بأس بها.

  • قال علي : وكذلك خالفوا عمل عائشة رضي الله عنها، وابن عمر وسائر الصحابة بالمدينة، لا نحاشي منهم أحداً، وكذلك خالفوا سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسائر فقهاء المدينة، وأقرب ذلك خلافهم للزهري وربيعة في أشياء كثيرة جداً، منها أن الزهري كان يرى الزكاة في الخضر والتيمم إلى الآباط وغير ذلك.

وقد حدثنا عبد الله بن ربيع، ثنا عبد الله بن عثمان الأسدي، ثنا أحمد بن خالد، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا الحجاج بن المنهال، ثنا عبد الله بن عمر النميري، ثنا يونس بن يزيد الأبلي، سمعت الزهري قال: هذه نسخة كتاب رسول الله الذي كتب في الصدقة وهي عند آل عمر بن الخطاب، قال الزهري: اقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر، فوعيتها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر، حين أمر على المدينة، فأمر عماله بالعمل بها، وكتب بها إلى الوليد بن عبد الملك، فأمر الوليد عماله بالعمل بها، ثم لم يزل الخلفاء يأمرون بذلك، ثم أمر هشام بن محمد بن هانىء عامله فنسخها إلى كل عامل من عمال المسلمين، وأمرهم بالعمل بما فيها، ولا يتعدونه، وذكر باقي الحديث.

  • قال علي : فهذا عمل فاش كما ترى، وأصله صحيفة مرسلة غير مسندة كما ترى، ثم لم يفش العمل بها إلا بعد نحو ثمانين عاماً من موت النبي وقد عمل عمال عثمان قبل ذلك بغير ذلك، وعمال علي رضوان الله عليه بما جاءت به الرواية عن عليّ، وعمال ابن الزبير بغير ذلك، وعمال أبي بكر الصديق بغير ذلك، وعند آل حزم صحيفة أخرى فما الذي جعل عمل الوليد الظالم ومن بعده من لا يعتد به حاش عمر بن عبد العزيز وحده أولى من عمل ابن الزبير وعمل علي، وعمل عثمان، وعمل أبي بكر الصديق، وهذا تنازع يوجب الرد إلى القرآن، وما صح عن النبي بالأسانيد الصحيحة، وليس ذلك إلا في حديث أنس عن أبي بكر وحده، فقد صح تركهم لعمل كل من له عمل يمكن أن يراعى أو يقتدى به، وصح ما قلنا من أنهم لا يدرون عمل من يعنون بقولهم: ليس عليه العمل.

فإن قالوا عمل الأكثر، فقد أريناهم أنه لا أكثر من أهل عصر عمر وعثمان، ومن صلى معهم، ووافقهم على ما ترك هؤلاء من أعمال أولئك وأنهم قد تركوا عمل الأكثر.

وثبت بهذا ما ذكره بعض الرواة، ومن أنهم إنما يعنون عمل صاحب السوق في المدينة في عصر مالك، وهذا كما ترى، وقد جمع عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما اتفق عليه فقهاء المدينة السبعة خاصة، فلم يبلغ ذلك إلا أوراقاً يسيرة، هذا وعبد الرحمن من هو في الضعف والسقوط، ألا يحتج بروايته، وما جعل الله أولئك أولى بالقبول منهم من نظرائهم من أهل الكوفة، الذين هم أفضل منهم في ظاهر الأمر كعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وشريح القاضي، وعمرو بن ميمون، ومسروق، وأبي عبد الرحمن السلمي، وعبيدة السلماني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وعبد الرحمن بن يزيد الليثي، وسعيد بن جبير، ولا من نظرائهم من أهل البصرة كالحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وجابر بن زيد، ومسلم بن يسار، وأبي قلابة، وبكر بن عبد الله المزني، وزرارة بن أوفى، وحميد بن عبد الرحمن، وأيوب، وابن عون، ويونس بن عبيد، وسليمان التيمي، ولا من نظرائهم من أهل الشام كعمر بن عبد العزيز، وأبي إدريس الخولاني، وقبيصة بن ذؤيب، وجبير بن نفير، ورجاء بن حيوة، ولا من نظرائهم من أهل مكة، كطاوس، وعطاء، ومجاهد، وعمر بن دينار، وعبيد بن عمير، وابنه عبد الله، وعبد الله بن طاووس، ومذ مضى الصحابة الخلفاء رضوان اللـه عليهم فما ولي قضاء المدينة مثل شريح، ولا مثل محارب بن دثار، ولا مثل زرارة بن أوفى، ولا مثل الشعبي، ولا مثل أبي عبيدة بن عبد اللـه، ولا مثل عبد اللـه بن عتبة، أصلاً. ويقال لـهم أيضاً هل اختلف عمل أهل المدينة أو لم يختلف ؟ فإن قالوا: لم يختلف أكذبهم الموطأ وجميع الروايات، وإن قالوا: اختلف، قيل لـهم: فما الذي جعل اتباع عمل بعضهم أولى بالاتباع من عمل سائرهم ؟ وقد أبطل اللـه كل عمل عند الاختلاف حاشى الرد إلى كتاب اللـه، وكلام نبيه بقولـه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } فمن ردّ إلى غيرهما فقد عصى اللـه ورسولـه، وضل ضلالاً مبيناً لقولـه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } .

وهم ينسبون إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان اللـه عليهم بهذا الأصل الملعون أعظم الفرية، وأشد التضييع للإسلام، وقلة المبالاة به، وهذا لا يحل لمسلم أصلاً أن يظنه، فكيف أن يعتقده، ويدعو إليه، وذلك لأن عمر رضي اللـه عنه مصَّر البصرة والكوفة ومصر والشام، وأسكنها المسلمين، وولى عليهم الصحابة كسعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة، وأبي موسى الأشعري، وعتبة بن غزوان، وغيرهم وولى عثمان عليهم، ولاته أيضاً كذلك، كمعاوية وعمرو بن العاص، وقد ولّيا لعمر أيضاً مع عمار، وابن مسعود، وغيرهم ثم ولى علي البصرة عثمان بن حنيف، وعبد اللـه بن عباس، وولى مصر قيس بن سعد، أفترى عمر وعثمان وعلياً وعمالـهم المذكورين كتموا رعيتهم من أهل هذه الأمصار دين اللـه تعالى، والحكم في الإسلام والعمل بشرائعه ؟ وما يفعل هذا مسلم، بل الذي لا شك فيه أنهم كلـهم علموا رعيتهم كل ما يلزمهم كأهل المدينة ولا فرق.

ثم سكن علي الكوفة أفتراه رضي اللـه عنه كتم أهلـها شرائع الإسلام وواجبات الأحكام ؟

واللـه ما يظن هذا مسلم ولا ذمِّي مميز بالسير، فإذ لا شك في هذا فما بالمدينة سنَّة إلا وهي في سائر الأمصار كلـها ولا فرق، وأما مذ مضى هذا الصدر الكريم رضي اللـه عنهم فواللـه ما ولي المدينة ولا حكم فيها إلا فساق الناس، كعمرو بن سعيد، والحجاج بن يوسف، وطارق، وخالد بن عبد الله القسري، وعبد الرحمن بن الضحاك، وعثمان بن حيان المري، وكل عدو لله حاشى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز، فإنه كان كل واحد منهم فاضلاً، وليها أبو بكر أربعة أعوام، عامين قاضياً وعامين أميراً لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

فأي مزية لأهل المدينة على غيرهم في علم أو فضل أو رواية ؟ لو نصحوا أنفسهم وتركوا هذا التخليط الذي لا يسلم معه دين من غلبة الهوى ونصر الباطل، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.

وما أدرك مالك بالمدينة أعلى من نافع، وهو قليل الفتيا جداً، وربيعة وكان كثير الرأي قليل العلم بالحديث، وأبي الزناد وزيد بن أسلم، وكانا قليلي الفتيا، وأما الزهري فإنما كان بالشام، وما كتب عنه مالك إلا بمكة، وأما من القضاة فأبو بكر بن عمرو بن حزم، وابنه محمد، ويحيى بن سعيد الأنصاري، على أن أهل العراق يجاذبونه إياه، لأنه مات وهو قاض ببغداد، وأما سعد بن إبراهيم فكان ثقة إلا أن مالكاً لم يأخذ عنه.

ثم يقال لهم لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالأخبار أن مالكاً ولد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة بعد موت رسول الله بثلاث وثمانين سنة، وأنه بقي أزيد من ثلاثين سنة، وما اشتهر علمه، فأخبروني على أي مذهب كان الناس قبل مالك، وطول المدة التي ذكرنا، وهي نحو مائة عام وعشرين عاماً؟ كان فيها خيار أهل الأرض من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين رحمة الله عليهم، فإن قالوا: على مذهب مالك أكذبهم مالك في موطئه بما أورد فيه من الاختلاف القديم بين الصحابة والتابعين، وقد ذكرنا آنفاً من ذلك طرفاً صالحاً.

ويقال لهم أيضاً: إن كان الأمر كما تقولون فما الذي جعل نسبة هذا المذهب إلى مالك أولى من نسبته إلى أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو عائشة، أو ابن عمر، أو سعيد بن المسيب، أو سليمان بن يسار، أو عروة بن الزبير، أو ربيعة ؟ ولم خصصتم مالكاً وحده بأن تنسبوه إليه دون أن تنسبوه إلى من ذكرنا، وهم كانوا أفضل منه وأهيب في الصدور ؟

فإن قالوا: لأن مالكاً ثبت واختلف الناس، بان كذبهم بما أورده مالك في موطئه مما خالف فيه من كان قبلهم، وقيل لهم انفصلوا ممن عكس قولكم، فقال: بل الناس ثبتوا وانفرد مالك بمذهب أوجب أن ينسب إليه، وإنما تنسب المذاهب إلى محدثيها، لا إلى من اتبع غيره فيها.

وإن قالوا: كان الناس على اختلاف في مذاهبهم وتحير، قيل لـهم: فلا ترغبوا عما كان عليه السلف الصالح، فليس واللـه فيما حدث بعدهم شيء من الخير، يعني مما يكونوا عليه، ولا علمه ذلك الصدر فإن تكن الأمور بالدلائل، فالدلائل توضح أن ذلك الصدر كانوا على صواب في الاختيار والنظر، مختلفين في مذاهبهم متفقين على إبطال التقليد، متفقين على الأخذ بحديث النبي إذا بلغهم وصح طريقه.

وإن لم يكن الأمر بالتقليد ونعوذ باللـه من ذلك فتقليد عمر وعثمان وسائر من تقدم أولى من تقليد من أتى بعدهم، اللـهم إلا إذا كان العمل الذي يشيرون إليه من جنس ما حدثناه عبد اللـه بن يوسف بن نامي، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر، ثنا أحمد بن علي القلانسي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن حاتم، ثنا بهز، ثنا وهيب، ثنا موسى بن عقبة، عن عبد الواحد بن حمزة، عن عباد بن عبد اللـه بن الزبير يحدث عن عائشة أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص، أرسل أزواج النبي أن يمروا بجنازته فيصلين عليه، ففعلوا فوقف به على حُجَرِهن يصلين عليه، وأخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك.

وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد.

فبلغ ذلك عائشة رضي اللـه عنها فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لـهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد.

وما صلّى رسول اللـه على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد.

وبالسند المذكور إلى مسلم: ثنا محمد بن حاتم بن ميمون، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقاً بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فجاء إلي فأخبرني فقلت: هذا الأمر لا يصلح قال: قد بعته في السوق، فلم ينكر ذلك علي أحد، فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال: قدم النبي المدينة ونحن نبيع هذا البيع فقال: «ما كَانَ يَداً بِيَدٍ فَلا بَأْسَ بِهِ، وَمَا كَانَ نَسِيئةً فَهُوَ رِباً» وائت زيد بن أرقم فإنه كان أعظم تجارة مني، فأتيته فسألته فقال مثل ذلك.

وبالسند المذكور إلى مسلم: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، ثنا أبو أسامة، ثنا محمد بن عمرو، ثنا عمر بن مسلم بن عمار الليثي قال: كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلي فيه ناس، فقال بعض أهل الحمام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا وينهى عنه، فلقيت سعيد بن المسيب، فذكرت ذلك لـه، فقال: يا ابن أخي هذا حديث قد نسي وترك، حدثتني أم سلمة زوج النبي قالت: قال رسول اللـه ... فذكرت من كان لـه ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي، أو كلاماً هذا معناه.

  • قال علي : عمرو بن مسلم هذا هو ابن أكَيْمة الذي يروي عنه مالك وغيره.
  • قال علي : فإن كان عمل أهل المدينة الذين يحتجون به ويتركون له كلام رسول الله من هذا الباب الذي ذكرنا فنحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا العمل، ونحن متقربون إلى الله تعالى بعصيان هذا العمل ومضادته، ولا شك أنهم يريدون عمل الجمهور الذي وصفنا؛ من نحو إنكار عامة أهل المدينة على أزواج النبي المرور في المسجد، وبيع أهل سوق المدينة الورق بالورق، أو بالذهب نسيئة، ولا ينكر ذلك أحد منهم.

ومثل تركهم ونسيانهم أمر النبي في ألا يمس الشعر والظفر من أراد أن يضحي إذا أهل ذو الحجة بشهادة سعيد بن المسيب فقيه أهل المدينة عليهم بذلك، فإذا ما قد بينا أنهم لا يتعلقون بعمل النبي ولا بعمل أبي بكر وعمر وعثمان، ولا بعمل أحد بعينه من الصحابة رضوان الله عليهم، فلم يبق بأيديهم شيء إلا العمل الذي وصفنا، ونعوذ بالله من التعلق بمثل هذا العمل فهو الضلال المبين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وقد فشا الشكوى بالعمال، وتعديهم في المدينة في أيام الصحابة رضوان الله عليهم، كما حدثنا حمام بن أحمد قال: ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، ثنا أبو زيد المروزي، حدثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا قتيبة بن سعيد ثنا سفيان بن عيينة، عن محمد بن سوقة، عن منذر الثوري، عن محمد بن علي هو ابن الحنفية قال: جاء عليّاً ناسٌ فشكوا سعاة عثمان، فقال لي علي: اذهب بهذه الصحيفة إلى عثمان، فأخبره أنها صدقة رسول الله ، فمر سعاتك يعملون بها، فأتيته بها، فقال أغنها عنّا. فأتيت بها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فأخبرته، فقال: ضعها حيث أخذتها.

فقد صح كما ترى في بطلان قول من يدعي حجة بعمل أهل المدينة أو غيرهم، ووجب أن لا حجة إلا فيما صح عن النبي ، وقد أنكر عمر رضي الله عنه على حسان إنشاده الشعر في المسجد، فلما قال له: قد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك، وذكر له رسول الله سكت عمر ومضى، فهذا كله يبين أن لا حجة في قول أحد ولا في علمه بعد النبي ، فإن قالوا: مالك أتى متأخراً فتعقب. قيل لهم: فتقليد من أتى بعد مالك فتعقب عليه أولى، كالشافعي وأحمد بن حنبل وداود وغيرهم، إلى أن يبلغ الأمر إلينا، ثم إلى من بعدنا.

  • قال علي : والصحيح من ذلك أن أبا حنيفة ومالكاً رحمهما الله اجتهدا وكانا مما أمرا بالاجتهاد، إذ كل مسلم فَفَرْضٌ عليه أن يجتهد في دينه، وجرياً على طريق من سلف في ترك التقليد، فأجرا فيما أصابا فيه أجرين، وأجرا فيما أخطآ فيه أجراً واحداً، وسلما من الوزر في ذلك على كل حال. وهكذا حال كل عالم ومتعلم غيرهما، ممن كان قبلهما، وممن كان معهما، وممن أتى بعدهما أو يأتي، ولا فرق، فقلدهما من شاء الله عز وجل، ممن أخطأ وابتدع، وخالف أمر الله عز وجل، وسنّة النبي وإجماع المسلمين وما كان عليه القرون الصالحة وما توجبه دلائل العقل، واتبع هواه بغير آإعالى فضل وأضل.

وكذلك المقلدون للشافعي رحمه الله، إلا أن الشافعي رضي الله عنه أصل أصولاً الصواب فيها أكثر من الخطأ، فالمقلدون له أعذر في اتباعه فيما أصاب فيه، وهم ألوم وأقل عذراً في تقليدهم إياه فيما أخطأ فيه.

وأما أصحاب الظاهر فهم أبعد الناس من التقليد، فمن قلد أحداً مما يدعي أنه منهم فليس منهم، ولم يعصم أحد من الخطأ، وإنما يلام من اتبع قولاً لا حجة عنده به، وألوم من هذا من اتبع قولاً وضح البرهان على بطلانه فتمادى ولج في غيه، وبالله تعالى التوفيق.

وألوم من هذين وأعظم جرماً من يقيم على قول يقر أنه حرام، وهم المقلدون الذين يقلدون ويقرون أن التقليد حرام، ويتركون أوامر النبي ويقرون أنها صحاح وأنها حق، فمن أضل من هؤلاء؟ نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله الهدى والعصمة، فكل شيء بيده لا إله إلا هو.

  • قال أبو محمد : وقد قال بعضهم: قد صح ترك جماعات من الصحابة والتابعين لكثير مما بلغهم من حديث النبي ، فلا يخلو من أن يكونوا تركوه مستخفين به، وهذا كفر من فاعله.

أو يكونوا تركوه لفضل علم كان عندهم فهذا أولى أن يظن بهم.

  • قال علي : وهذا يبطل من وجوه، أحدها أنه قال قائل: لعل الحديث الذي تركه من تركه منهم فيه داخلة.

قيل له: ولعل الرواية التي رويت بأن فلاناً الصاحب ترك حديثاً كذا هي المدخولة، وما الذي جعل أن تكون الداخلة في رواة الحديث عن النبي أولى من أن تكون في النقلة الذين رووا ترك من تركها، وأيضاً فإن قوماً منهم تركوا بعض الحديث، وقوماً منهم أخذوا بذلك الحديث الذي ترك هؤلاء فلإن فرق بين من قال: لا بد من أنه كان عند من تركه علم من أجله تركه، وبين من قال: لا بد من أنه كان عند من عمل به علم من أجله عمل به، وكل دعوى عريت من برهان فهي ساقطة.

وقد قدمنا أنه لا يستوحش لمن ترك العمل بالحق، سواء تركه مخطئاً معذوراً أو تركه عاصياً موزوراً، ولا يتكثر بمن عمل به كائناً من كان، وسواء عمل به أو تركه وفرض على كل من سمعه أن يعمل به على كل حال.

وأيضاً فإن الأحاديث التي روي أنه تركها بعض من سلف، ليست في أكثر الأمر التي ترك هؤلاء المحتجون بترك من سلف لما تركوا منها، بل ترك هؤلاء ما أخذ به أولئك، وأخذ هؤلاء، بما تركه أولئك، فلا حجة لهم في ترك بعض ما سلف لما ترك من الحديث.

لأنهم أول مخالف لهم في ذلك، وأول مبطل لذلك الترك.

ولا أسوأ من احتجاج امرىء بما يبطل على من لا يحقق ذلك الاحتجاج بل يبطله كإبطال المحتج به له أو أشد.

وأيضاً فلو صح ما افتروه من أنه كان عند الصاحب التارك لبعض الحديث علم من أجله ترك ما ترك من الحديث، ونعوذ بالله العظيم من ذلك، ونعيذ كل من يظن به خيراً من مثل ما نسبوا إلى أفاضل هذه الأمة المقدسة لوجب أن يكون من فعل ذلك ملعوناً بلعنة الله عز وجل.

قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ }

فنحن نقول: لعن الله كل من كان عنده علم من الله تعالى ورسوله وكتمه عن الناس كائناً من كان.

ومن نسب هذا إلى الصحابة رضوان الله عليهم، فقد نسبهم إلى الإدخال في الدين وكيد الشريعة وهذا أشد ما يكون من الكفر.

وقد عارضت بنحو من هذا الكلام الليث بن حرفش العبدي في مجلس القاضي عبد الرحمن بن أحمد بن بشر رحمه الله، وفي حفل عظيم من فقهاء المالكيين، فما أحد منهم أجاب بكلمة معارضة، بل صمتوا كلهم، إلا قليل منهم أجابوني بالتصديق لقولي: وذلك أني قلت له: لقد نسبت إلى مالك رضي الله عنه ما لو صح عنه لكان أفسق الناس، وذلك أنك تصفه بأنه أبدى إلى الناس، المعلول والمتروك والمنسوخ من روايته، وكتمهم المستعمل والسالم والناسخ حتى مات ولم يبده إلى أحد، وهذه صفة من يقصد إفساد الإسلام والتدليس على أهله، وقد أعاذه الله من ذلك، بل كان عندنا أحد الأئمة الناصحين لهذه الملة، ولكنه أصاب وأخطأ، واجتهد فوفق وحرم، كسائر العلماء ولا فرق، أو كلاماً هذا معناه، وقد افترض الله تعالى التبليغ على كل عالم، وقد قال مخبراً: «إن من كتم علماً عنده فسئل عنه ألجم يوم القيام بلجام من نار» .

فإن قالوا : بل ما كان عنده عن النبي خبر يصح إلا وقد أبداه ورواه للناس، وبلغه كما يحق في علمه وروعه قلنا: صدقتم، وهذه صفته عندنا، ونحن على اتباع روايته ورواية غيره من العدول لأنه عدل، وقد أمرنا بقبول خبر العدل.

ونحن على رفض رأيه ورأي غيره لقيام البرهان على تحريم التقليد، وهو أول الناس ينهى عن تقليده، والعجب من دعواهم أنهم أخذوا بالآخر من فعله ، وأخذوا بالأول المنسوخ لذلك فما حضرنا ذكره مما تركوا فيه آخر فعله وأخذوا بالأول المنسوخ.

فإنهم لم يجيزوا أن يأتي الإمام المعهود، وقد بدأ خليفته على الصلاة بالصلاة، فدخل الإمام المعهود فيتم الصلاة ويبني سائر من خلفه على من كبروا في أول صلاتهم.

ويصير الإمام الذي ابتدأ الصلاة مأموماً، وهذه آخر صلاة صلاها رسول الله بالناس في مرضه الذي مات فيه، فأبطلوا هذه الصلاة.

وأجازوا أن يخرج الإمام من الصلاة لعذر أصابه ويستخلف من يتم بالناس صلاتهم، وهذا ما لم يأت فيه نص ولا إجماع، ولم يروا الصلاة خلف الإمام القاعد، والأصحاء وراءه قعود أو قيام، وهذه صفة آخر صلاة صلاها رسول الله ، وتعلقوا بحديث رواه الجعفي وهو كذاب عن الشعبي مرسلاً: «لا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِساً» وهي رواية كوفية.

وهم يردون الصحيح من رواية أهل الكوفة، ويتعلقون بهذه الرواية التي لا شك في كذبها من روايات أهل الكوفة.

وكرهوا التكبير بتكبير الإمام، وأبطلوا في نص روايتهم صلاة المذكور، وهذه صفة آخر صلاة صلاها أبو بكر خلف رسول الله بحضرة جميع المهاجرين والأنصار، إلا الأقل منهم، وتركوا إباحة الشرب لكل ما لا يسكر من المباحات في جميع الظروف وهو الناسخ، وأخذوا بالنهي عن الدباء والمزفت وهو منسوخ بالنص الجلي، وكان ذلك في أول الإسلام.

وتركوا ما في سورة براءة وهي آخر سورة نزلت على رسول الله من أنه لا تؤخذ جزية إلا من كتابي، وتركوا أيضاً ما فيها من قوله تعالى: { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } وتعلقوا بحديث تخيير من أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، لأنه لا يجوز أن يوجد أحد نكح أكثر من أربع نكاحاً جائزاً، لأن نكاح من نكح خامسة اليوم باطل حين عقده إياه، مفسوخ لا يجوز وإن جوزه الكفار لأن الله تعالى قد حرمه، وتحريم الله تعالى لاحق بهم لازم لهم. وتركوا النهي عن الصوم في السفر في رمضان، وهو الناسخ، وأخذوا بإباحة ذلك وهي منسوخة، وتركوا النهي عن الكلام مع الإمام في إصلاح الصلاة، وهو الناسخ، وتعلقوا بالمخصوص المنسوخ، وتركوا قراءة «والمرسلات» في المغرب، وهو من آخر فعله وتركوا تطيبه لحلِّه ولإحرامه قبل أن يطوف بالبيت، وهو آخر فعله عليه السلام، وتعلقوا بالمنسوخ المخصوص الذي كان في الحديبية قبل حجة الوداع.

وتركوا إيجابه السَّلَبَ للقاتل وكان في غزوة حنين وهو الناسخ وتعلقوا بما كان في غزوة مؤتة وهو منسوخ قبل حنين وتركوا ما في سورة براءة من ألا يهادن مشرك إلا على الإسلام ولا كتابي إلا على الصغار والجزية، وأخذوا بحديث أبي جندل، وهو منسوخ قبل براءة، ومثل هذا كثير.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني

فصل في المرسل | فصل في أقسام السنن | فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك | فصل في حكم العدل | تتمة فصل في حكم العدل | فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقناً | فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح | فصل ليس كل قول الصحابي إسناداً | فصل في قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي | فصل ليس كل من أدرك النبي ورآه صحابياً | فصل في حكم الخبر عن النبي | فصل في زيادة العدل | فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملـهم أيضاً | فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة | فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن | فصل في صفة الرواية | فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالواهذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان