إقامة الدليل على إبطال التحليل/20

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


-مسألة: في امرأة بانت فتزوجت بعد شهر ونصف بحيضة واحدة ؟

الجواب: تفارق هذا الثاني، وتتم عدة الأول بحيضتين، ثم بعد ذلك تعتد من وطء الثاني بثلاث حيضات، ثم بعد ذلك يتزوجها بعقد جديد . وأما الحديث المذكور في قبض روح المؤمن وأنه يصعد بها إلى السماء التي فيها الله، فهذا حديث معروف جيد الإسناد، وقوله " فيها الله " بمنزلة قوله تعالى {: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير }، وبمنزلة ما ثبت في الصحيح { أن النبي قال لجارية معاوية بن الحكم: أين الله ؟ قالت: في السماء، قال من أنا ؟ قالت أنت رسول الله، قال أعتقها فإنها مؤمنة }: وليس المراد بذلك أن السماء تحصر الرب وتحويه كما تحوي الشمس والقمر وغيرهما، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا يعتقده عاقل فقد قال سبحانه وتعالى: { وسع كرسيه السماوات والأرض } والسموات في الكرسي كحلقة ملقاة في أرض فلاة، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، والرب سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وقال تعالى: { ولأصلبنكم في جذوع النخل } وقال: { فسيحوا في الأرض }، وقال: { يتيهون في الأرض } وليس المراد أنهم في جوف النخل، وجوف الأرض، بل معنى ذلك أنه فوق السموات وعليها بائن من المخلوقات كما أخبر في كتابه عن نفسه أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وقال: { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي }، وقال تعالى: { تعرج الملائكة والروح إليه }، وقال: { بل رفعه الله إليه }، وأمثال ذلك في الكتاب والسنة، وجواب هذه المسألة مبسوط في غير هذا الموضع .

فصل: والتسمية على الذبيحة مشروعة، لكن قيل: هي مستحبة، كقول الشافعي وقيل: واجبة مع العمد، وتسقط مع السهو، كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه، وقيل: تجب مطلقا فلا تؤكل الذبيحة بدونها، سواء تركها عمدا أو سهوا كالرواية الأخرى عن أحمد، اختارها أبو الخطاب وغيره، وهو قول غير واحد من السلف، وهذا أظهر الأقوال، فإن الكتاب والسنة قد علق الحل بذكر اسم الله في غير موضع، كقوله: { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه }، وقوله: { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه }، { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه }، وفي الصحيحين أنه قال: { ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا }، وفي الصحيح أنه قال لعدي: { إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فقتل فكل، وإن خالط كلبك كلاب أخر، فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره }، وثبت في الصحيح { أن الجن سألوه الزاد لهم ولدوابهم، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن }، فهو لم يبح للجن المؤمنين إلا ما ذكر اسم الله عليه، فكيف بالإنس، ولكن إذا وجد الإنسان لحما قد ذبحه غيره جاز له أن يأكل منه، ويذكر اسم الله عليه، لحمل أمر الناس على الصحة والسلامة، كما ثبت في الصحيح أن { قوما قالوا: يا رسول الله إن ناسا حديثي عهد بالإسلام يأتونا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا، فقال: سموا أنتم وكلوا } . فكذا دعواه الإنفاق فإن العادة هناك أقوى ولو أنفق الزوج على الزوجة وكساها مدة ثم ادعى الولي عدم إذنه وأنها تحت حجره لم يسمع قوله إذا كان الزوج قد تسلمها التسليم الشرعي باتفاق أئمة العلماء وخالف فيه شذوذ من الناس وإقرار الولي لها عنده مع حاجتها إلى النفقة والكسوة إذن عرفي ذكر أصحابنا من الصور المسقطة لنفقة الزوجة صوم النذر الذي في الذمة والصوم للكفارة وقضاء رمضان قبل ضيق وقته إذا لم يكن ذلك في إذنه، قال أبو العباس: قضاء النذر والكفارة عندنا على الفور فهو كالمعين، وصوم القضاء يشبه الصلاة في أول الوقت ثم ينبغي في جميع صور الصوم أن تسقط نفقة النهار فقط فإن مثل هذا تنشز يوما وتجيء يوما فإنه لا يمكن أن يقال في هذا كما قيل في الإجارة إن منع تسليم بعض المنفعة يسقط الجميع إذ ما مضى من النفقة لا يسقط ولو أطاعت في المستقبل استحقت والزوجة المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها ولا سكنى إلا إذا كانت حاملا فروايتان وإذا لم توجب النفقة في التركة فإنه ينبغي أن تجب لها النفقة في مال الحمل أو في مال من تجب عليه النفقة إذا قلنا تجب للحمل كما تجب أجرة الرضاع، وقال أبو العباس: في موضع آخر النفقة والسكنى تجب للمتوفى عنها في عدتها ويشترط فيها مقامها في بيت الزوج فإن خرجت فلا جناح إذا كان أصلح لها، والمطلقة البائن الحامل يجب لها النفقة من أجل الحمل وللحمل وهو مذهب مالك وأحد القولين في مذهب أحمد، والشافعي، وإذا تزوجت المرأة ولها ولد فغضب الولد، وذهبت به إلى بلد آخر فليس لها أن تطالب الأب بنفقة الولد . وإذا عفا أولياء المقتول عن القاتل بشرط ألا يقيم في هذا البلد ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازما بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول العلماء وبالدم في قول آخر، وسواء قيل هذا الشرط صحيح أم فاسد يفسد به العقد أم لا، ولا يصح العفو في قتل الغفلة لتعذر الاحتراز منه كالقتل في المحاربة وولاية القصاص والعفو عنه ليست عامة لجميع الورثة بل تختص بالعصبة وهو مذهب مالك، وتخرج رواية عن أحمد وكما قد يفرق بعض أصحابنا وغيرهم بين المستحل بناء على عدم التحريم، فيقولون: إن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه الناسخ، ويثبتون حكم التحريم والإيجاب المبتدأ في حقه قبل بلوغ الخطاب، ولأصحابنا وغيرهم في هذا الأصل ثلاثة أقوال، أحدهما: لا يثبت حكم تحريم ولا إيجاب لا مبتدأ ولا ناسخ إلا في حق من قامت عليه الحجة في ذلك الحكم، والثاني: يثبت حكمها قبل العلم والتمكين منه لا بمعنى التأثيم لكن معنى الاستدراك إما بإعادة أو نزع ملك، والثالث: يثبت المبتدأ ولا يثبت الناسخ، وليس كلامنا هنا في هذه المسألة وإنما الكلام في أن عدم الإثم في هذه الأقسام الثلاثة نوعا وشخصا في الأحكام المعينة شخصا مثل استحلال هذا الفرج وهذا المال ببيع أو نكاح مع الانتفاء في الباطن فقط، هل لقيام الإباحة الشرعية ظاهرا أو لعدم التحريم الشرعي ظاهرا، فإن بين ثبوت التحريم وثبوت التحليل الشرعيين منزلة العفو، وهو في كل فعل لا تكليف فيه أصلا، قال الله تعالى { عفا الله عنها }، وقال النبي ، { إن من أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته } وعنه { الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفي عنه }، ويفرق بين النوع الذي لم يعلم ناسخه وبين الشخص الذي اعتقد اندراجه في القسم الجائز، فإن من علم أن الله أمر باستقبال بيت المقدس فهو على بصيرة في نفس هذا الحكم حتى يأتي الناسخ ولم يكن منه خطأ أصلا لا معذور هو فيه ولا غير معذور هو فيه، وأما من اعتقد أن هذا البائع صادق أو أن هذه المرأة خلية فهذا اعتقاده في أمر عيني، وهو مخطئ في هذا الاعتقاد، ولا يمكن أن يقال إن الله أباح هذا الاعتقاد المعين والعمل به، بل يقال إن الله ما حرم عليه العمل بهذا الاعتقاد المعين، ولهذا فرق الإمام أحمد في رواية ابن الحكم بين من عمل بنص قد جاء فيه نص آخر فمنع أن يسمى مخطئا، ومن عمل باجتهاد فقال فيه لا يدري أصاب الحق أم أخطأ، إذا كان متبع النص قد علم أن الله أمره باتباع هذا النص المعين، ومتبع الاجتهاد لم يعلم أن الله أمره باتباع هذا الاجتهاد المعين ويظهر هذا على دقته بمثال مشهود وهو صلاة من اعتقد أنه على طهارة، فإن من الناس المتكلمين وغيرهم من يقول هو مأمور بالصلاة في هذه الحال، ومن الفقهاء من يقول هذه الصلاة ليست مأمورا بها، ولكن هو اعتقد أنه مأمور بها ولم يعتقد أنه ترك المأمور به ولم يفعله وهذا أصح، ولو أدى ما أمر به كما أمره لم يؤمر بالقضاء، والله سبحانه لم يقل له إذا اعتقدت أنك على طهارة فصل، وإنما قال { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } وقال النبي { لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ }، وقال { لا يقبل الله صلاة بغير طهور }، ولكن لم يكلفه أن يكون في نفس الأمر على طهارة، فإن هذا يشق بل إذا اعتقد أنه على طهارة فإنه لا ينهاه أن يصلي بذلك، فإن استمر به هذا الخطأ غفر له ; لأنه أتى بالمأمور به لكن ; لأنه لم يتعهد ترك المأمور به بل قصد فعله وفعل ما اعتقده مجزيا فإنه ليس بدون من نسي الصلاة واستمر به النسيان، ومن اعتقد فيما يفعله أنه هو المأمور به ولم يكن كذلك لم نقل: إنه مأمور بفعله لكن هذا المعين نقول لم ينه عن الإتيان به أي لم ينه عنه بمثل الأمر بفعل هذا المعين فإن التعيينات الواقعة في الفعل الممثل به لا يشترط أن يكون مأمورا بها، بل يشترط أن لا يكون منهيا عنها، والأمر إنما وقع بحقيقة مطلقة بمنزلة من له عند رجل دراهم فوفاه ما يعتقد جيدة فظهرت رديئة، فإن المستحق نقد مطلق وكونه هذا النقد أو هذا النقد تعيينات، يتأدى بها الواجب لا أن نفس ذلك التعيين واجب فالواجب تأدية ذلك المطلق، والتعيينات غير منهى عن شيء منها، فإذا قضاه دراهم فعل فيها الواجب الذي هو المطلق، واقترن به تعيين لم ينه عنه فلا يضره، كذلك المصلي أمر أن يصلي بطهارة، فهذه الصلاة المعينة لم يؤمر بعينها، بل لم ينه عن عينها وفي عينها المطلق المأمور به، فاقترن ما أمر به بما لم ينه عنه، وإذا اعتقد أنه على طهارة فالشارع لا ينهاه عن أن يؤدي الفرض بهذا الاعتقاد لا أنه يأمره أن يؤديه بهذا الاعتقاد، فإنه لو أداها بطهارة غير هذه جاز، فإذا أداه ثم تبين أنه كان محدثا لم يجزه ; لأن ذلك المعين لم يتضمن المأمور به، ولا تضمن أيضا المنهي عنه، فتدبر هذا المقام فإنه كثيرا ما يجول في الشريعة وغيرها أصولا وفروعا، ومن لم يحكمه بلغت به الشبهات الكلامية التي لم يصحبها نور الهداية، إلا أن يلجأ إلى ركن الاتباع الصرف، غير جائل في أختيه وهو لعمر الله الركن الشديد والعروة الوثقى، لكن { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }، ومن حققه انجلت عنه الشبهات التي عدها قاطعة من خالف السابقين في تعميم التصويب لكل مجتهد ورد أحكام الله تعالى إلى ظنون المستدلين، واعتقادات المخلوقين، وأشكل من هذا إذا أوجب فعل ذلك المعين لاندراجه في قضية نوعية، لا لنفس بعينه كالحاكم إذا شهد عنده شاهدان، يعتقد عدلهما فيقول الكلامي الظاهري الزاعم التحقيق، الحاكم مأمور بأن يقبل شهادة هذين سواء كانا في نفس الأمر صادقين أو كاذبين، وإذا فعل هذا فهو فاعل لحكم الله، وإن أسلم المال إلى غير مستحقه في الباطن، وهذا غلط، فهل رأيت الله يأمر بالخطإ هذا لا يكون من العليم الحكيم، لكنه لا ينهى عن الخطإ ; لأن تكليف العبد اجتناب الخطإ يشق على الخلق، { وما جعل عليكم في الدين من حرج }، بل قد يعجز الخلق عن اجتناب الخطإ فعفا عن الخطإ كما نطق به في كتابه في الدعاء الذي دعا به الرسول والمؤمنون "، وثبت عن رسول الله أنه أخبر عن ربه أنه قال قد فعلت وهو قوله: { لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا }، فإنه إنما رفع المؤاخذة بالخطإ، وذلك أن الله إنما أمر الحاكم أن يحكم بشهادة العدل المرضي، كما جاء به الكتاب والسنة، فإذا اعتقد أن هذا المعين عدل لم ينهه أن يحكم بعينه، فيجتمع الأمر بالحكم بكل عدل، وعدم النهي عن هذا المعين فيحكم به بناء على القدر المشترك المأمور به، لا على التعيين الذي لم ينه عنه فإن تبين أنه ليس بعدل تبين أنه ما فعل المأمور به، وكان معذورا في أنه ما فعله فهو لا يؤاخذه ويثيبه ثواب من اجتهد في فعل المأمور به، لا ثواب من فعل المأمور به، ولهذا ينقض حكمه ويوجب عليه الضمان، ولو أتى بما أمر به كما أمر به لم يكن نقضا ولا ضمانا، يوضح هذا: أن اعتقاده أن هذا عدل هو طريق يؤدي به المأمور به لا يمكنه غيره، بمنزلة من له عليه دين وليس عنده إلا مال في كيس، فأداه وقد وجب أداء عينه لا لوجوب عينه لكن لأنه لا يتمكن من أداء الواجب إلا به فإذا تبين زيفا، تبين أنه لم يكن طريقا لأداء الواجب، كذلك اعتقاد الحاكم والمفتي وغيرهما ليس هو المأمور به، ولا داخلا في نوع المأمور به إذا كان خطأ، فإن الله ما أمره أن يعمل بعين هذا الاعتقاد بل أمره أن يقبل شهادة العدل، ولا طريق له في أداء هذا الأمر إلا باعتقاده، فلم ينهه عن العمل بالاعتقاد الذي يؤدي به المأمور به، كما لا ينهى القاضي عن أداء ما في الكيس، وحقيقة الأمر أن المأمور به مطلق ليس فيه نقص، كما في الدين المطلق، فإن دين الله بمنزلة دين العبد، والديون الثابتة في الذمم لا تثبت إلا مطلقة، لكنها إذا أديت فلا تؤدى إلا معينة مشخصة، فإن معتق الرقبة لا يعتق إلا رقبة معينة، وكذلك المصلي لا يؤدي إلا صلاة معينة، وهو ممتثل بذلك المعين ما لم يشتمل على منهي عنه، وقد يقال للمعين هذا هو الفرض، ويقال للمال الموفى هذا حقك الذي كان علي لما بين الصور المعقولة والحقيقة الموجدة من الاتحاد والمطابقة . اختلاف المعتزلة في أن الباري متكلم فقال: اختلفت المعتزلة في ذلك فمنهم من أثبت الباري متكلما، ومنهم من امتنع أن يثبت الباري متكلما ولو أثبته متكلما لأثبته منفصلا، والقائل لهذا الإسكافي، وعباد بن سليمان، قلت: وأما نقل أبي الحسين البصري اتفاق المسلمين على أن الباري متكلم، ونقل من أخذ ذلك عنه كالرازي وغيره، فليس بمستقيم، فإن أبا الحسين كان يأخذ ما يذكره مشايخه البصريون وما نقلوه، وهؤلاء يوافقون المسلمين على إطلاق القول بأن الله متكلم، فيوافقون أهل الإيمان في اللفظ وهم في المعنى قائلون بقول من نفى ذلك، فإذا ذكر الإجماع على هذا الإطلاق ظن المستمع لذلك أن النزاع في تغيير اللفظ كالنزاع في تغيير بعض آيات القرآن، وليس كذلك بل النفاة حقيقة قولهم نفي أن يكون الله متكلما كما يصرح بذلك من يصرح منهم، ولكن وافقوا المسلمين على إطلاق اللفظ نفاقا من زنادقتهم وجهلا من سائرهم، وهذا الذي بينه الإمام أحمد هو محض السنة وصريحها الذي كان عليه أئمتها وقد خلصه تخليصا لا يعرف قدره إلا خواص الأمة الذين يعرفون مزال أقدام الأذكياء الفضلاء في هذه المهمة الغبراء، حتى كثر بين الفرق من الخصومات والأهواء وسائر الناس يقولون بذلك من وجه دون وجه، قال الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة: قرأت في كتاب شاكر عن أبي زرعة، قال: إن الذي عندنا أن القوم لم يزالوا يعبدون خالقا كاملا لصفاته ومن زعم أن الله كان ولا علم ثم خلق علما فعلم بخلقه، أو لم يكن متكلما فخلق كلاما ثم تكلم به، أو لم يكن سميعا بصيرا ثم خلق سمعا وبصرا: فقد نسبه إلى النقص، وقائل هذا كافر، لم يزل الله كاملا بصفاته لم تحدث فيه صفة، ولا تزول عنه صفة قبل أن يخلق الخلق وبعد ما خلق الخلق كاملا بصفاته، فمن وجه أن الرب تبارك وتعالى يتكلم كيف يتكلم بشفتين ولسان ولهوات، فهذه السماوات والأرض قال لهما: { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } أفهاهنا شفتان ولسان ولهوات، قلت: أبو زرعة الرازي كان يشبه بأحمد بن حنبل في حفظه وفقهه ودينه ومعرفته وأحمد كان عظيم الثناء عليه، داعيا له، وهذا المعنى الذي ذكره هو في كلام الإمام أحمد في مواضع، كما ذكره الخلال في كتاب السنة عن حنبل، وقد ذكره حنبل في كتبه مثل كتاب السنة والمحنة لحنبل .

الوجه الثالث والثلاثون: أن يقال لهم إذا جاء أن تجعلوا هذه الحقائق المختلفة حقيقة واحدة سواء قلتم بثبوت الحال أو نفيه وأن كونها أمرا ونهيا وخبرا وأمرا بكذا ونهيا عن كذا إنما هي أمور نسبية لها كتسمية المعنى الذي في النفس عربيا وعجميا، ولهذا تنازع ابن كلاب والأشعري في هذه التسمية بالأمر والنهي والخطاب، هل هي حادثة عند حدوث المخاطب كما يقوله ابن كلاب، أو قديمة كما يقوله الأشعري، فيقال لكم هذا بعينه يقال لهم في الصفات من العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، فهلا جعلتم هذه الصفات حقيقة واحدة، وهذه الخصائص عوارض نسبية لها، بل جعل السمع والبصر بمعنى علم خاص أقرب إلى المعقول من جعل حقيقة معنى كل خبر حقيقة معنى كل أمر، وحقائق معاني الأخبار شيء واحد، وهم قد ذكروا هذه المسألة فقال الرازي: الفصل الثاني: في أنه لا يجوز أن يكون الله موصوفا بصفة واحدة تفيد فائدة الصفات المختلفة السبعة، قال: اعلم أن فساد ذلك على القول بنفي الحال معلوم بالضرورة على ما قررناه يعني على ما قرره في مسألة الكلام أنه يمتنع أن يكون الطلب هو الخبر قال وأما على القول بالحال، فالقاضي أبو بكر عول في إبطال هذا الاجتماع على الإجماع وهو أن القائل قائلان منهم من أثبتها ومنهم من نفاها وكل من أثبتها قال إنها صفات متعددة، فالقول بأنها صفة واحدة يكون خرقا للإجماع، قلت وهذه الحجة إن كانت صحيحة فلا يمكن طردها في الكلام فإنه لا إجماع على أنه معنى واحد، الوجه الرابع والثلاثون: إن هؤلاء يجعلون حقيقة معنى ما أخبر الله به عن نفسه هو حقيقة معنى ما أخبر الله به عن الجن والجحيم ومن المعلوم أن معاني الكلام تتبع الحقائق الخارجة وتطابقها فمعنى الخبر عن الملائكة والجن يطابق ذلك ومعنى الخبر عن الجن والنار يطابق ذلك فإذا كان معنى هذا الخبر هو حقيقة معنى هذا الخبر وكلاهما مطابق لمخبره لزم أن يكون هذا المخبر هو هذا المخبر فيلزم أن تكون الحقائق الموجودة كلها شيئا واحدا فتكون الجنة هو النار والملائكة هم الشياطين والموجود هو المعدوم والثبوت هو الانتفاء، وفي ذلك من اجتماع النقيضين ما لا يحصى، وهذا لازم لقولهم لا محيد عنه فإن الخبر الصادق الحكم الذهني والحكم الذهني يطابق الحقيقة الموجودة، وكل أخبار الله صادقة فإذا كانت جميعها حقيقة واحدة ليس فيها تغاير أصلا وذلك هو الحكم الذهني لزم أن تكون هذه الحقيقة مطابقة للوجود الخارج بخلاف الخبر الكذب فإنه لا يجب مطابقته للوجود الخارجي والحكم الواحد الذهني الذي لا تغاير فيه بوجه من الوجوه إذا طابق المحكوم به لزم أن يكون المحكوم به كذلك وإلا لم يكن مطابقا، وكذلك فإن الله أمر بالإيمان والصلاة والزكاة ونهى عن الكفر والكذب والظلم، فإذا كان حقيقة الأمر هي حقيقة النهي، إنما لها نسبة إلى الأفعال فقط لم يكن فرق بين المأمور به والمنهي عنه، بل إذا قيل إن المنهي عنه مأمور به والمأمور به منهي عنه لم يمتنع ذلك إذ كانت الحقيقة واحدة، وإنما اختلف التعلق والتعلق ليس له حقيقة يمنع الاختلاف بل يمكن فرض تعلقه أمرا كتعلقه نهيا مع أن الحقيقة باقية فيمكن على هذا تقدير المأمور به منهيا عنه وبالعكس، ولم يتغير شيء من الحقائق .

الوجه الرابع والعشرون: إن ما ذكروه في إثبات أن معنى الأمر والخبر ليس هو العلم ولا الإرادة وما يتبع ذلك من ضرب المثل بأمر الامتحان وخبر الكاذب، يقال في ذلك لا ريب أن الكاذب المخبر يقدر في نفسه الشيء على خلاف ما هو به ويخبر به بلسانه، لكن ذلك المقدر هو تقدير العلم، فإن الخبر الصدق الذي يعلم صاحبه أنه صدق لما كان معناه العلم المطابق للخارج، فالمخبر الكاذب الذي يعلم أنه كاذب قدر في نفسه تقديرا مضاهيا للعلم فإن تقدير الموجود معدوما والمعدوم موجودا في الأذهان واللسان أكثر من أن يحصر فمعنى خبره هو علم مقدر لا علم محقق، لأن مخبر الخبر في الخارج له وجود مقدر لا وجود محقق، والمقدر ليس بمحقق لا في الذهن ولا في الخارج، لكن لما قدر هو أنه عالم قدر أيضا وجود المخبر في الخارج، والمستمع لما اعتقد صدقه وحسبانه صادق، وأن لما قاله حقيقة لم يظنه مقدرا بل حسبه محققا، وكل اعتقاد فاسد تقديرات ذهنية لا حقيقة لها في الخارج، وهي أخبار واعتقادات وإن لم تكن علوما، لكن هي في الصورة من جنس المحقق كما أن لفظ الكاذب من جنس لفظ الصادق وخطه من جنس خطه فهما متشابهان في الدلالة خطا ولفظا وعقدا، فكذلك أمر الممتحن هو في الحقيقة ليس بطالب ولا مريد أصلا بل هو مقدر لكونه طالبا مريدا لأنه يظهر بتقدير ذلك من طاعة المأمور وامتثاله ما يظهر بتحقيقه ثم إظهار ذلك هو من باب المعاريض، قد يجوز ذلك وقد لا يجوز، مثل أن يفهم المتكلم للمستمع معنى لم يرده المتكلم واللفظ قد يدل عليه بوجه ولا يدل عليه بوجه فمعناه في نفسه هو الذي لا يفهمه المستمع ومفهوم المستمع شيء آخر وكذلك الممتحن مدلول الصيغة في نفسه طلب مقدر وإرادة مقدرة وبالنسبة إلى المستمع طلب محقق وإرادة محققة إذا لم يعلم باطن الأمر، وكذلك مدلول الصيغة عند الكذاب هو ما اختلقه والاختلاق هو التقدير وهو ما قدره في ذهنه مما ليس له حقيقة وعند المستمع هو ما يجب أن يعنى باللفظ من المعاني المحققة، الوجه الخامس والعشرون: أن يقال لهم أنتم قررتم في أصول الفقه أن اللفظ المشهور الذي تتداوله الخاصة والعامة لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى دقيق لا يدركه إلا خواص الناس، وهذا حق وذلك لأن تكلم الناس باللفظ الذي له معنى يدل على اشتراكهم في فهم ذلك المعنى خطابا وسماعا فإذا كان ذلك المعنى لا يفهمه إلا بعض الناس بدقيق الفكرة امتنع أن يكون ذلك المعنى هو المراد بذلك اللفظ لأن معنى ذلك اللفظ يعرفه العامة والخاصة بدون فكرة دقيقة وقد مثلوا ذلك بلفظ الحركة هل هو اسم لكون الجسم متحركا أو لمعنى يوجب كونه متحركا، وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن أظهر الأسماء ومسمياتها هو اسم القول والكلام والنطق وما يتفرع من ذلك كالأمر والنهي والخبر والاستخبار إذ أظهر صفات الإنسان هو النطق كما قال تعالى: { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } والألفاظ الدالة على هذه المعاني من أشهر الألفاظ ومعانيها من أظهر المعاني في قلوب العامة والخاصة والمعنى الذي يقولون إنه هو الكلام إما أن يكون باطلا لا حقيقة له وراء العلم والإرادة واللفظ الدال عليهما أو يكون له حقيقة فإن لم تكن له حقيقة بطل قولكم بالكلية وإن كانت له حقيقة فلا ريب أنها حقيقة مشتبهة متنازع فيها نزاعا عظيما وأكثر طوائف أهل القبلة وغيرهم لا يعرفونها ولا يقرون بها وإذا أثبتموها إنما تثبتونها بأدلة خفية بل قد يعترفون أن معرفة هذه الحقيقة في الشاهد غير ممكن ولكن يدعون ثبوتها في الغائب وإذا كان كذلك فمن امتنع أن يكون ذلك هو المراد من لفظ الكلام والقول والأمر والنهي الذي لفظه ومعناه من أشهر المعارف عند العامة والخاصة فعلم أن الذي قلتموه باطل بلا ريب .

(كتاب الطهارة ) قال شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علم العلماء الأعلام، خاتمة الحفاظ والمجتهدين: تقي الدين أبو العباس الإمام أحمد بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي، نفع الله بعلومه جميع المسلمين آمين، - مسألة: في قوله: : { نية المرء أبلغ من عمله } الجواب: هذا الكلام قاله غير واحد، وبعضهم يذكره مرفوعا، وبيانه من وجوه، أحدها: أن النية المجردة من العمل يثاب عليها، والعمل المجرد عن النية لا يثاب عليه، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة، واتفاق الأئمة: أن من عمل الأعمال الصالحة بغير إخلاص لله لم يقبل منه ذلك، وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه: عن النبي أنه قال: { من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة }، الثاني: أن من نوى الخير وعمل منه مقدوره، وعجز عن إكماله: كان له أجر عامل كما في الصحيحين عن النبي أنه قال: { إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بالمدينة ؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر }، وقد صحح الترمذي حديث أبي كبشة الأنماري، { عن النبي أنه ذكر أربعة رجال: رجل آتاه الله مالا وعلما وهو يعمل فيه بطاعة الله، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، قال: فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يعمل فيه بمعصية الله، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، قال: فهما في الوزر سواء }، وفي الصحيحين: عن النبي أنه قال: { من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء }، وفي الصحيحين عنه أنه قال: { إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم } وشواهد هذا كثيرة، الثالث: أن القلب ملك البدن، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده، والنية عمل الملك بخلاف الأعمال الظاهرة فإنها عمل الجنود .

مسألة: في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله فيما يروى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر لكم ذنوبكم جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك عندي إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم: أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله عز وجل، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه } ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أما قوله تعالى { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي }، ففيه مسألتان كبيرتان، كل منهما ذات شعب وفروع، إحداهما: في الظلم الذي حرمه الله على نفسه، ونفاه عن نفسه، بقوله: { وما ظلمناهم }، وقوله: { ولا يظلم ربك أحدا }، وقوله: { وما ربك بظلام للعبيد }، وقوله: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها }، وقوله: { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا }، ونفى إرادته بقوله: { وما الله يريد ظلما للعالمين }، وقوله: { وما الله يريد ظلما للعباد }، ونفى خوف العباد له بقوله: { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما }، فإن الناس تنازعوا في معنى هذا الظلم تنازعا صاروا فيه بين طرفين متباعدين، ووسط بينهما، وخيار الأمور أوساطها، وذلك بسبب البحث في القدر ومجامعته للشرع، إذ الخوض في ذلك بغير علم تام أوجب ضلال عامة الأمم، ولهذا نهى النبي أصحابه عن التنازع فيه، فذهب المكذبون بالقدر القائلون بأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يرد أن يكون إلا ما أمر بأن يكون، وغلاتهم المكذبون بتقدم علم الله وكتابه بما سيكون من أفعال العباد من المعتزلة وغيرهم، إلا أن الظلم منه هو نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه ومثلوه في الأفعال بأفعال العباد، حتى كانوا هم ممثلة الأفعال، وضربوا لله الأمثال، ولم يجعلوا له المثل الأعلى، بل أوجبوا عليه وحرموا ما رأوا أنه يجب على العباد ويحرم بقياسه على العباد، وإثبات الحكم في الأصل بالرأي، وقالوا عن هذا: إذا أمر العبد، ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالما له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالا، كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضل مهتديا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد، وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالما، إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلما، وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك، ومن لم يقم، وإن كان ذلك الاستحقاق خلقه لحكمة أخرى عامة أو خاصة، وهذا الموضع زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، فعارض هؤلاء آخرون من أهل الكلام المثبتين للقدر، فقالوا: ليس للظلم منه حقيقة يمكن وجودها، بل هو من الأمور الممتنعة لذاتها، فلا يجوز أن يكون مقدورا، ولا يقال إنه هو تارك له باختياره ومشيئته، وإنما هو من باب الجمع بين الضدين، وجعل الجسم الواحد في مكانين، وقلب القديم محدثا، والمحدث قديما، وإلا فمهما قدر في الذهن وكان وجوده ممكنا والله قادر عليه فليس بظلم منه، سواء فعله أو لم يفعله، وتلقى هذا القول عن هؤلاء طوائف من أهل الإثبات من الفقهاء، وأهل الحديث من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ومن شراح الحديث ونحوهم، وفسروا هذا الحديث بما ينبني على هذا القول، وربما تعلقوا بظاهر من أقوال مأثورة، كما رويناه عن إياس بن معاوية، أنه قال: ما ناظرت بعقلي كله أحدا إلا القدرية، قلت لهم: ما الظلم ؟ قالوا أن تأخذ ما ليس لك، أو أن تتصرف فيما ليس لك، قلت: فلله كل شيء، وليس هذا من إياس إلا ليبين أن التصرفات الواقعة هي في ملكه، فلا يكون ظلما بموجب حدهم، وهذا مما لا نزاع بين أهل الإثبات فيه، فإنهم متفقون مع أهل الإيمان بالقدر على أن كل ما فعله الله هو عدل. وفي حديث الكرب الذي رواه الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله : { ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا، قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهن ؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن }، فقد بين أن كل قضائه في عبده عدل، ولهذا يقال: كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، ويقال: أطعتك بفضلك والمنة لك، وعصيتك بعلمك أو بعدلك والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي، وهذه المناظرة من إياس، كما قاله ربيعة بن أبي عبد الرحمن لغيلان، حين قال له غيلان نشدتك الله، أترى الله يحب أن يعصى ؟ فقال: نشدتك الله، أترى يعصى قسرا يعني قهرا فكأنما ألقمه حجرا، فإن قوله: يحب أن يعصى، لفظ فيه إجمال، وقد لا يتأتى في المناظرة تفسير المجملات خوفا من لدد الخصم، فيؤتى بالواضحات، فقال: أفتراه يعصى قسرا ؟ فإن هذا إلزام له بالعجز الذي لازم للقدرية ولمن هو شر منهم، من الدهرية الفلاسفة وغيرهم، وكذلك إياس رأى أن هذا الجواب المطابق لحدهم خاصم لهم، ولم يدخل معهم في التفصيل الذي يطول، وبالجملة فقوله - تعالى -: { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما }، قال أهل التفسير من السلف: " لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه سيئات غيره، ولا يهضم فينقص من حسناته "، ولا يجوز أن يكون هذا الظلم هو شيء ممتنع غير مقدور عليه، فيكون التقدير لا يخاف ما هو ممتنع لذاته، خارج عن الممكنات والمقدورات، فإن مثل هذا إذا لم يكن وجوده ممكنا حتى يقولوا إنه غير مقدور، ولو أراده، كخلق المثل له، فكيف يعقل وجوده، فضلا أن يتصور خوف حتى ينفي خوفه، ثم أي فائدة في نفي خوف هذا، قد علم من سياق الكلام أن المقصود بيان أن هذا للعامل المحسن لا يجزى على إحسانه بالظلم والهضم، فعلم أن الظلم والهضم المنفي يتعلق بالجزاء، كما ذكره أهل التفسير، وأن الله لا يجزيه إلا بعمله، ولهذا كان الصواب الذي دلت عليه النصوص أن الله لا يعذب في الآخرة إلا من أذنب، كما قال: { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين }، فلو دخلها أحد من غير أتباعه لم تمتلئ منهم، ولهذا ثبت في الصحيحين، في حديث: { تحاج الجنة والنار }، من حديث أبي هريرة وأنس: { أن النار تمتلئ ممن كان ألقي فيها حتى ينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط بعد قولها: هل من مزيد، وأما الجنة فيبقى فيها فضل عمن يدخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها خلقا آخر }، ولهذا كان الصواب الذي عليه الأئمة فيمن لم يكلف في الدنيا من أطفال المشركين ونحوهم ما صح به الحديث، وهو أن الله أعلم بما كانوا عاملين، فلا نحكم لكل منهم بالجنة، ولا لكل منهم بالنار، بل هم ينقسمون بحسب ما يظهر من العلم، فهم إذا كلفوا يوم القيامة في العرصات كما جاءت بذلك الآثار .

وأما الوجه الثالث: فمداره على الفصل بينه وبين غيره من الطاهرات، فإن فصل بنوع الاستقذار بطل بجميع المستقذرات، التي ربما كانت أشد استقذارا منه، وإن فصل بقدر خاص فلا بد من توقيته، وقد مضى تقرير هذا، وأما الجواب العام فمن أوجه ثلاثة، أحدها: أن هذا قياس، في مقابلة الآثار المنصوصة، وهو قياس فاسد الوضع، " من جمع بين ما فرقت السنة بينه فقد ضاهى قول الذين قالوا: { إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا }، ولذلك طهرت السنة هذا، ونجست هذا، الثاني: أن هذا قياس في باب لم تظهر أسبابه وأنواطه، ولم يتبين مأخذه، وما بل الناس فيه على قسمين: إما قائل يقول: هذا استعباد محض، وابتلاء صرف، فلا قياس، ولا إلحاق، ولا اجتماع، ولا افتراق، وإما قائل يقول: دقت علينا علله وأسبابه، وخفيت علينا مسالكه ومذاهبه، وقد بعث الله إلينا رسولا يزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، بعثه إلينا ونحن لا نعلم شيئا، فإنما نصنع ما رأيناه يصنع، والسنة لا تضرب لها الأمثال، والتعارض بآراء الرجال، والدين ليس بالرأي، ويجب أن يتهم الرأي على الدين، والقياس في مثل هذا الباب ممتنع باتفاق أولي الألباب، الثالث: أن يقال: هذا كله مداره على التسوية بين بول ما يؤكل لحمه، وبول ما لا يؤكل لحمه، وهو جمع بين شيئين مفترقين، فإن ريح المحرم خبيثه، وأما ريح المباح فمنه ما قد يستطاب، مثل أرواث الظباء وغيرها، وما لم يستطب منه فليس ريحه كريح غيره، وكذلك خلقه غالبا فإنه يشمل على أشياء من المباح، وهذا لأن الكلام في حقيقة المسألة، وسنعود إليه إن شاء الله في آخرها، الدليل الثاني: الحديث المستفيض، أخرجه أصحاب الصحيح وغيرهم: حديث أنس بن مالك: " { أن ناسا من عكل أو عرينة قدموا المدينة، فاجتووها، فأمر لهم النبي بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله واستاقوا الذود } " - وذكر الحديث، فوجه الحجة أنه أذن لهم في شرب الأبوال، ولا بد أن يصيب أفواههم، وأيديهم، وثيابهم، وآنيتهم، فإذا كان نجسة وجب تطهير أفواههم، وأيديهم، وثيابهم للصلاة، وتطهير آنيتهم، فيجب بيان ذلك لهم ; لأن تأخير البيان عن وقت الاحتياج إليه لا يجوز، ولم يبين لهم النبي أنه يجب عليهم إماطة ما

أصابهم منه، فدل على أنه غير نجس، ومن البين أن لو كانت أبوال الإبل كأبوال الناس لأوشك أن يشتد تغليظه في ذلك، ومن قال إنهم كانوا يعلمون أنها نجسة، وأنهم كانوا يعلمون وجوب التطهير من النجاسات فقد أبعد غاية الإبعاد، وأتى بشيء قد يستيقن بطلانه لوجوه، أحدها: أن الشريعة أول ما شرعت كانت أخفى، وبعد انتشار الإسلام، وتناقل العلم، وإفشائه صارت أبدى وأظهر، وإذا كنا إلى اليوم لم يستبن لنا نجاستها، بل أكثر الناس على طهارتها، وعامة التابعين عليه، بل قد قال أبو طالب وغيره: إن السلف ما كانوا ينجسونها ولا يتقونها، وقال أبو بكر بن المنذر: وعليه اعتماد أكثر المتأخرين في نقل الإجماع، والخلاف، وقد ذكر طهارة الأبوال عن عامة السلف، ثم قال: قال الشافعي: الأبوال كلها نجس، قال: ولا نعلم أحدا قال قبل الشافعي إن أبوال الأنعام وأبعارها نجس، قلت: وقد نقل عن ابن عمر أنه سئل عن بول الناقة، فقال: اغسل ما أصابك منه، وعن الزهري فيما يصيب الراعي من أبوال الإبل قال: ينضح، وعن حماد بن أبي سليمان في بول الشاة والبعير: يغسل، ومذهب أبي حنيفة نجاسة ذلك على تفصيل لهم فيه، فلعل الذي أراده ابن المنذر القول بوجوب اجتناب قليل البول، والروث وكثيره، فإن هذا لم يبلغنا عن أحد من السلف، ولعل ابن عمر أمر بغسله كما يغسل الثوب من المخاط، والبصاق والمني، ونحو ذلك، وقد ثبت عن أبي موسى الأشعري: أنه صلى على مكان فيه روث الدواب، والصحراء أمامه، وقال: ههنا وههنا سواء، وعن أنس بن مالك: لا بأس ببول كل ذي كرش، ولست أعرف عن أحد من الصحابة القول بنجاستها، بل القول بطهارتها إلا ما ذكر عن ابن عمر إن كان أراد النجاسة، فمن أين يكون ذلك معلوما لأولئك ؟، وثانيها: أنه لو كان نجسا، فوجوب التطهر من النجاسة ليس من الأمور البينة، قد أنكره في الثياب طائفة من التابعين وغيرهم، فمن أين يعلمه أولئك ؟ وثالثها: أن هذا لو كان مستفيضا بين ظهراني الصحابة لم يجب أن يعلمه أولئك ; لأنهم حديثو العهد بالجاهلية والكفر ; فقد كانوا يجهلون أصناف الصلوات، وأعدادها، وأوقاتها، وكذلك غيرها من الشرائع الظاهرة، فجهلهم بشرط خفي في أمر خفي أولى وأحرى، لا سيما، والقوم لم يتفقهوا في الدين أدنى تفقه، ولذلك ارتدوا، ولم يخالطوا أهل العلم والحكمة، بل حين أسلموا وأصابهم الاستيخام أمرهم بالبداوة، فيا ليت شعري، من أين لهم العلم بهذا الأمر الخفي ؟ ورابعها: أن النبي لم يكن في تعليمه وإرشاده واكلا للتعليم إلى غيره، بل يبين لكل واحد ما يحتاج إليه، وذلك معلوم لمن أحسن المعرفة بالسنن الماضية، وخامسها: أنه ليس العلم بنجاسة هذه الأرواث، أبين من العلم بنجاسة بول الإنسان، الذي قد علمه العذارى في حجالهن وخدورهن، ثم قد حذر منه للمهاجرين والأنصار الذين أوتوا العلم والإيمان، فصار الأعراب الجفاة أعلم بالأمور الخفية من المهاجرين والأنصار بالأمور الظاهرة، فهذا كما ترى،

وسادسها: أنه فرق بين الأبوال، والألبان، وأخرجهما مخرجا واحدا، والقرآن بين الشيئين إن لم يوجب استواءهما فلا بد أن يورث شبهة، فلو لم يكن البيان واجبا لكانت المقارنة بينه وبين الطاهر موجبة للتمييز بينهما إن كان التمييز حقا، ومن الحديث دلالة أخرى فيها تنازع، وهو: أنه أباح لهم شربها، ولو كانت محرمة نجسة لم يبح لهم شربها، ولست أعلم مخالفا في جواز التداوي بأبوال الإبل كما جاءت السنة، لكن اختلفوا في تخريج مناطه، فقيل: هو أنها مباحة على الإطلاق للتداوي وغير التداوي، وقيل: بل هي محرمة وإنما أباحها للتداوي وقيل: هي مع ذلك نجسة، والاستدلال بهذا الوجه يحتاج إلى ركن آخر، وهو أن التداوي بالمحرمات النجسة محرم والدليل عليه من وجوه، أحدها: أن الأدلة الدالة على التحريم مثل قوله: { حرمت عليكم الميتة }، و " { كل ذي ناب من السباع حرام } "، و { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس }، عامة في حال التداوي وغير التداوي، فمن فرق بينهما فقد فرق بين ما جمع الله بينه، وخص العموم، وذلك غير جائز، فإن قيل: فقد أباحها للضرورة والمتداوي مضطر، فتباح له، أو أنا نقيس إباحتها للمريض على إباحتها للجائع، بجامع الحاجة إليها، يؤيد ذلك أن المرض يسقط الفرائض من القيام في الصلاة والصيام في شهر رمضان، والانتقال من الطهارة بالماء إلى الطهارة بالصعيد، فكذلك يبيح المحارم، لأن الفرائض والمحارم من واد واحد، يؤيد ذلك أن المحرمات من الحلية واللباس، مثل: الذهب، والحرير قد جاءت السنة بإباحة اتخاذ الأنف من الذهب، وربط الأسنان به، { ورخص للزبير، وعبد الرحمن في لباس الحرير من حكة كانت بهما }، فدلت هذه الأصول الكثيرة على إباحة المحظورات حين الاحتياج والافتقار إليها، قلت: أما إباحتها للضرورة فحق، وليس التداوي بضرورة لوجوه أحدها: أن كثيرا من المرضى، أو أكثر المرضى يشفون بلا تداو، لا سيما في أهل الوبر والقرى، والساكنين في نواحي الأرض يشفيهم الله بما خلق فيهم من القوى المطبوعة في أبدانهم، الرافعة للمرض، وفيما ييسره لهم من نوع حركة وعمل أو دعوة مستجابة أو رقية نافعة، أو قوة للقلب، وحسن التوكل، إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة غير الدواء، وأما الأكل فهو ضروري، ولم يجعل الله أبدان الحيوان تقوم إلا بالغذاء، فلو لم يكن لمات، فثبت بهذا أن التداوي ليس من الضرورة في شيء، وثانيها: أن الأكل عند الضرورة واجب، قال مسروق: من اضطر إلى الميتة، فلم يأكل، فمات دخل النار والتداوي غير واجب " { ومن نازع فيه خصمته السنة في المرأة السوداء التي خيرها النبي بين الصبر على البلاء، ودخول الجنة وبين الدعاء بالعافية، فاختارت البلاء والجنة }، ولو كان رفع المرض واجبا لم يكن للتخيير موضع، كدفع الجوع، وفي دعائه لأبي بالحمى، وفي اختياره الحمى لأهل قباء، وفي دعائه بفناء أمته بالطعن والطاعون، وفي نهيه عن الفرار من الطاعون، وخصمه حال أنبياء الله المبتلين الصابرين على البلاء، حين لم يتعاطوا الأسباب الدافعة له، مثل أيوب عليه السلام وغيره، وخصمه حال السلف الصالح، فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين قالوا له: ألا ندعو لك الطبيب، قال: قد رآني، قالوا: فما قال لك ؟ قال: إني فعال لما أريد، ومثل هذا ونحوه يروى عن الربيع بن خيثم المخبت المنيب، الذي هو أفضل الكوفيين أو كأفضلهم، وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الهادي المهدي، وخلق كثير لا يحصون عددا، ولست أعلم سالفا أوجب التداوي، وإنما كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضل تركه تفضلا، واختيارا لما اختار الله، ورضى به، وتسليما له، وهذا المنصوص عن أحمد، وإن كان من أصحابه من يوجبه، ومنهم من يستحبه، ويرجحه كطريقة كثير من السلف، استمساكا لما خلقه الله من الأسباب، وجعله من سننه في عباده، وثالثها: أن الدواء لا يستيقن، بل وفي كثير من الأمراض لا يظن دفعه للمرض، إذ لو اطرد ذلك لم يمت أحد، بخلاف دفع الطعام للمسغبة والمجاعة، فإنه مستيقن بحكم سنة الله في عباده وخلقه، ورابعها: أن المرض يكون له أدوية شتى، فإذا لم يندفع بالمحرم انتقل إلى المحلل، ومحال أن لا يكون له في الحلال شفاء، أو دواء، والذي أنزل الداء أنزل لكل داء دواء إلا الموت، ولا يجوز أن تكون أدوية الأدواء في القسم المحرم، وهو سبحانه الرءوف الرحيم، وإلى هذا الإشارة بالحديث المروي: " { إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها } "، بخلاف المسغبة، فإنها وإن اندفعت بأي طعام، اتفق إلا أن الخبيث إنما يباح عند فقد غيره، فإن صورت مثل هذا في الدواء، فتلك صورة نادرة ; لأن المرض أندر من الجوع بكثير، وتعين الدواء المعين وعدم غيره نادر، فلا ينتقض هذا، على أن في الأوجه السالفة غنى، وخامسها: وفيه فقه الباب: أن الله تعالى جعل خلقه مفتقرين إلى الطعام والغذاء، لا تندفع مجاعتهم ومسغبتهم إلا بنوع الطعام وصنفه، فقد هدانا وعلمنا النوع الكاشف للمسغبة المزيل للمخمصة، وأما المرض فإنه يزيله بأنواع كثيرة من الأسباب: ظاهرة وباطنة، روحانية وجسمانية، فلم يتعين الدواء مزيلا ثم الدواء بنوعه لم يتعين لنوع من أنواع الأجسام في إزالة الداء المعين، ثم ذلك النوع المعين يخفى على أكثر الناس بل على عامتهم دركه، ومعرفته الخاصة المزاولون منهم هذا الفن أولو الأفهام والعقول يكون الرجل منهم قد أفنى كثيرا من عمره في معرفته ذلك، ثم يخفى عليه نوع المرض وحقيقته، ويخفى عليه دواؤه وشفاؤه، ففارقت الأسباب المزيلة للمرض، الأسباب المزيلة للمخمصة في هذه الحقائق البينة وغيرها، فكذلك افترقت أحكامها كما ذكرنا، وبهذا ظهر الجواب عن الأقيسة المذكورة، والقول الجامع فيما يسقط ويباح للحاجة والضرورة ما حضرني الآن، أما سقوط ما يسقط من القيام والصيام والاغتسال فلأن منفعة ذلك مستيقنة بخلاف التداوي، وأيضا: فإن ترك المأمور به أيسر من فعل المنهي عنه، قال النبي : " { إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } "، فانظر كيف أوجب الاجتناب عن كل منهي عنه، وفرق في المأمور به بين المستطاع وغيره وهذا يكاد يكون دليلا مستقلا في المسألة، وأيضا: فإن الواجبات من القيام والجمعة والحج تسقط بأنواع من المشقة التي لا تصلح لاستباحة شيء من المحظورات، وهذا بين بالتأمل، وأما الحلية: فإنما أبيح الذهب للأنف وربط الأسنان ; لأنه اضطرار، وهو يسد الحاجة يقينا كالأكل في المخمصة، أما لبس الحرير: للحكة والجرب إن سلم ذلك فإن الحرير والذهب ليسا محرمين على الإطلاق، فإنهما قد أبيح لأحد صنفي المكلفين، وأبيح للصنف الآخر بعضهما، وأبيح التجارة فيهما، وإهداؤهما للمشركين، فعلم أنهما أبيحا لمطلق الحاجة، والحاجة إلى التداوي أقوى من الحاجة إلى تزين النساء بخلاف المحرمات من النجاسات، وأبيح أيضا لحصول المصلحة بذلك في غالب الأمر، ثم الفرق بين الحرير والطعام: أن باب الطعام يخالف باب اللباس ; لأن تأثير الطعام في الأبدان أشد من تأثير اللباس على ما قد مضى، فالمحرم من الطعام لا يباح إلا للضرورة التي هي المسغبة والمخمصة، والمحرم من اللباس يباح للضرورة وللحاجة أيضا، هكذا جاءت السنة، ولا جمع بين ما فرق الله بينه، والفرق بين الضرورات والحاجات معلوم في كثير من الشرعيات، وقد حصل الجواب عن كل ما يعارض به في هذه المسألة، الوجه الثاني: أخرج مسلم في صحيحه: أن رسول الله سئل عن الخمر، أيتداوى بها ؟ فقال: { إنها داء وليست بدواء } "، فهذا نص في المنع من التداوي بالخمر ردا على من أباحه، وسائر المحرمات، مثلها قياسا، خلافا لمن فرق بينهما، فإن قياس المحرم من الطعام أشبه من الغراب بالغراب، بل الخمر قد كانت مباحة في بعض أيام الإسلام، وقد أباح بعض المسلمين من نوعها الشرب دون الإسكار، والميتة، والدم بخلاف ذلك، فإن قيل: الخمر قد أخبر النبي أنها داء وليست بدواء، فلا يجوز أن يقال: هي دواء بخلاف غيرها، وأيضا ففي إباحة التداوي بها إجازة اصطناعها، واعتصارها، وذلك داع إلى شربها، ولذلك اختصت بالحد فيها دون غيرها من المطاعم الخبيثة ; لقوة محبة الأنفس لها، فأقول: أما قولك: لا يجوز أن يقال هي دواء، فهو حق، وكذلك القول في سائر المحرمات، على ما دل عليه الحديث الصحيح: " { إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام } "، ثم ماذا تريد بهذا، أتريد أن الله لم يخلق فيها قوة طبيعية من السخونة وغيرها ؟ جرت العادة في الكفار والفساق أنه يندفع فيها بعض الأدواء الباردة، كسائر القوى والطبائع التي أودعها جميع الأدوية من الأجسام، أم تريد شيئا آخر، فإن أردت الأول فهو باطل بالقضايا المجربة التي تواطأت عليها الأمم، وجرت عند كثير من الناس مجرى الضروريات، بل هو رد لما يشاهد ويعاين، بل قد قيل إنه رد القرآن، لقوله تعالى: { فيهما إثم كبير ومنافع للناس }، ولعل هذا في الخمر أظهر من جميع المقالات المعلومة من طيب الأبدان، وإن أردت أن النبي أخبر أنها داء النفوس، والقلوب، والعقول، وهي أم الخبائث والنفس، والقلب هو الملك المطلوب صلاحه وكماله، وإنما البدن آلة له، وهو تابع له، مطيع له طاعة الملائكة ربها، فإذا صلح القلب صلح البدن كله، وإذا فسد [ القلب فسد ] البدن كله، فالخمر هي داء، ومرض للقلب، مفسد له، مضعضع لأفضل خواصه الذي هو العقل والعلم، وإذا فسد القلب فسد البدن كله، كما جاءت به السنة، فتصير داء للبدن من هذا الوجه بواسطة كونها داء للقلب، وكذلك جميع الأموال المغصوبة والمسروقة، فإنه ربما صلح عليها البدن، ونبت، وسمن، لكن يفسد عليها القلب فيفسد البدن بفساده، وأما المصلحة التي فيها، فإنها منفعة للبدن فقط، ونفعها متاع قليل، فهي وإن أصلحت شيئا يسيرا فهي في جنب ما تفسده كلا إصلاح، وهذا بعينه معنى قوله تعالى: { فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }، فهذا لعمري شأن جميع المحرمات، فإن فيها من القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب ثم البدن في الدنيا والآخرة ما يربي على ما فيها من منفعة قليلة، تكون في البدن وحده في الدنيا خاصة، على أنا وإن لم نعلم جهة المفسدة في المحرمات، فإنا نقطع أن فيها من المفاسد ما يربي على ما نظنه من المصالح، فافهم هذا، فإن به يظهر فقه المسألة وسرها، وأما إقضاؤه إلى اعتصارها فليس بشيء ; لأنه يمكن أخذها من أهل الكتاب، على أنه يحرم اعتصارها، وإنما القول إذا كانت موجودة أن هذا منتقض بإطفاء الحرق بها، ودفع الغصة إذا لم يوجد غيرها، وأما اختصاصها بالحد، فإن الحسن البصري يوجب الحد في الميتة أيضا، والدم، ولحم الخنزير، لكن الفرق أن في النفوس داعيا طبيعيا، وباعثا إراديا إلى الخمر، فنصب رادع شرعي وزاجر دنيوي أيضا ليتقابلا، ويكون مدعاة إلى قلة شربها وليس كذلك غيرها مما ليس في النفوس إليه كثير ميل، ولا عظيم طلب، الوجه الثالث: ما روى حسان بن مخارق قال: قالت أم سلمة: { اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز، فدخل النبي وهو يغلي، فقال: ما هذا ؟ فقلت إن بنتي اشتكت فنبذنا لها هذا، فقال: إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام } "، رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه، وفي رواية: " { إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم } " وصححه بعض الحفاظ، وهذا الحديث نص في المسألة، الوجه الرابع: ما رواه أبو داود في السنن: أن رجلا وصف له ضفدع يجعلها في دواء، فنهى النبي عن قتل الضفدع وقال: " { إن نقنقتها تسبيح } "، فهذا حيوان محرم، ولم يبح للتداوي، وهو نص في المسألة، ولعل تحريم الضفدع أخف من تحريم الخبائث غيرها، فإنه أكثر ما قيل فيها إن نقنقتها تسبيح، فما ظنك بالخنزير، والميتة، وغير ذلك، وهذا كله بين لك استخفافه بطلب الطب، واقتضائه وإجرائه مجرى الرفق بالمريض، وتطييب قلبه، ولهذا قال الصادق المصدوق لرجل قال له: أنا طبيب قال: " { أنت رفيق، والله الطبيب } "، الوجه الخامس: ما روي أيضا في سننه: { أن النبي نهى عن الدواء الخبيث } " وهو نص جامع مانع، وهو صورة الفتوى في المسألة، الوجه السادس: الحديث المرفوع: { ما أبالي ما أتيت أو ما ركبت - إذا شربت ترياقا، أو نطقت تميمة، أو قلت الشعر من نفسي } "، مع ما روي من كراهة من كره الترياق من السلف، إلى أنه لم يقابل ذلك نص عام ولا خاص يبلغ ذروة المطلب، وسنام المقصد في هذا الموضع، ولولا أني كتبت هذا من حفظي لاستقصيت القول على وجه يحيط بما دق وجل، والله الهادي إلى سواء السبيل، الدليل الثالث: وهو في الحقيقة رابع: الحديث الصحيح الذي خرجه مسلم وغيره، من حديث جابر بن سمرة، وغيره: أن رسول الله سئل عن الصلاة في مرابض الغنم ؟ فقال: { صلوا فيها فإنها بركة } وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: { لا تصلوا فيها فإنها خلقت من الشياطين } "، ووجه الحجة من وجهين، أحدهما: أنه أطلق الإذن بالصلاة ولم يشترط حائلا يقي من ملامستها، والموضع موضع حاجة إلى البيان، فلو احتاج لبينه، وقد مضى تقرير هذا، وهذا شبيه بقول الشافعي: ترك الاستفصال، في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، فإنه ترك استفصال السائل أهناك حائل يحول بينك وبين أبعارها ؟ مع ظهور الاحتمال، ليس مع قيامه فقط، وأطلق الإذن، بل هذا أوكد من ذلك ; لأن الحاجة هنا إلى البيان أمس وأوكد، والوجه الثاني: أنها لو كانت نجسة كأرواث الآدميين، لكانت الصلاة فيها إما محرمة كالحشوش والكنف، أو مكروهة كراهية شديدة ; لأنها مظنة الأخباث والأنجاس، فإما أن يستحب الصلاة فيها ويسميها بركة، ويكون شأنها شأن الحشوش أو قريبا من ذلك، فهو جمع بين المتنافيين المتضادين، وحاشا الرسول من ذلك، ويؤيد هذا ما روي: أن أبا موسى صلى في مبارك الغنم، وأشار إلى البرية وقال: ههنا وثم سواء، وهو الصاحب الفقيه، العالم بالتنزيل، الفاهم للتأويل، سوى بين محل الإبعار وبين ما خلا عنها، فكيف يجامع هذا القول بنجاستها ؟ وأما نهيه عن الصلاة في مبارك الإبل، فليست اختصت به دون البقر والغنم، والظباء والخيل، إذ لو كان السبب نجاسة البول، لكان تفريقا بين المتماثلين، وهو ممتنع يقينا .

-مسألة: في امرأة فارقت زوجها وخطبها رجل في عدتها وهو ينفق عليها فهل يجوز ذلك أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة، ولو كانت في عدة وفاة باتفاق المسلمين، فكيف إذا كانت في عدة الطلاق، ومن فعل ذلك يستحق العقوبة التي تردعه وأمثاله عن ذلك، فيعاقب الخاطب والمخطوبة جميعا، ويزجر عن التزويج بهما معاقبة له بنقيض قصده والله أعلم .

-مسألة: في رجل تزوج امرأة وأقامت في صحبته خمسة عشر يوما ثم طلقها الطلاق البائن، وتزوجت بعده بزوج آخر بعد إخبارها بانقضاء العدة من الأول، ثم طلقها الزوج الثاني بعد مدة ست سنين، وجاءت بابنة وادعت أنها من الزوج الأول فهل يصح دعواها، ويلزم الزوج الأول ولم يثبت أنها ولدت البنت، وهذا الزوج والمرأة مقيمان ببلد واحد، وليس لها مانع من دعوى النساء، ولا طالبته بنفقة ولا فرض ؟ الجواب: الحمد لله، لا يلحق هذا الولد الذي هو البنت مجرد دعواها والحال هذه باتفاق الأئمة، بل لو ادعت أنها ولدته في حال يلحق به نسبه إذا ولدته وكانت مطلقة وأنكر هو أن تكون ولدته لم تقبل في دعوى الولادة بلا نزاع حتى تقيم بذلك بينة، ويكفي امرأة واحدة عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعند مالك وأحمد في الرواية الأخرى لا بد من امرأتين، وأما الشافعي فيحتاج عنده إلى أربع نسوة، ويكفي يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته، وأما إن كانت الزوجية قائمة ففيها قولان في مذهب أحمد، أحدهما لا يقبل قولها كمذهب الشافعي والثاني يقبل كمذهب مالك، وأما إذا انقضت عدتها ومضى لها أكثر الحمل ثم ادعت وجود حمل من الزوج المطلق، فهذه لا يقبل قولها بلا نزاع، بل لو أخبرت بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا ولدون مدة الحمل، فهل يلحقه، على قولين مشهورين لأهل العلم، ومذهب أبي حنيفة وأحمد أنه لا يلحقه، وهذا النزاع إذا لم تتزوج، فأما إذا تزوجت بعد إخبارها بانقضاء عدتها ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، فإن هذا لا يلحق نسبه بالأول قولا واحدا، فإذا عرفت مذهب الأئمة في هذين الأصلين، فكيف يلحقه نسبه بدعواها بعد ست سنين ولو قالت ولدته ذلك الزمن قبل أن يطلقني لم يقبل قولها أيضا، بل القول قوله مع يمينه أنها لم تلدها على فراشه، ولو قالت هي وضعت هذا الحمل قبل أن أتزوج بالثاني، وأنكر الزوج الأول ذلك، فالقول قوله أيضا أنها لم تضعها قبل تزوجها بالثاني، لا سيما مع تأخر دعواها إلى أن تزوجت الثاني فإن هذا مما يدل على كذبها في دعواها، لا سيما على أصل مالك في تأخر الدعوى الممكنة بغير عذر في مسائل الحور ونحوها .

فصل وأما قول السائل: لم كانت موجبة لكشف الضر ؟ فذلك لأن الضر لا يكشفه إلا الله، كما قال تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله } والذنوب سبب للضر، والاستغفار يزيل أسبابه كما قال تعالى: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } فأخبر أنه سبحانه لا يعذب مستغفرا، وفي الحديث: { من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب } وقال تعالى: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير }، فقوله: { إني كنت من الظالمين } اعتراف بالذنب وهو استغفار، فإن هذا الاعتراف متضمن طلب المغفرة، وقوله: { لا إله إلا أنت } تحقيق لتوحيد الإلهية، فإن الخير لا موجب له إلا مشيئة الله، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والمعوق له من العبد هو ذنوبه، وما كان خارجا عن قدرة العبد فهو من الله، وإن كانت أفعال العباد بقدر الله تعالى، لكن الله جعل فعل المأمور وترك المحظور سببا للنجاة، والسعادة، فشهادة التوحيد تفتح باب الخير، والاستغفار من الذنوب يغلق باب الشر، ولهذا ينبغي للعبد أن لا يعلق رجاءه إلا بالله ولا يخاف من الله أن يظلمه ; فإن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ; بل يخاف أن يجزيه بذنوبه، وهذا معنى ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، وفي الحديث المرفوع: إلى النبي { أنه دخل على مريض فقال: كيف تجدك ؟ فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال: ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف }، فالرجاء ينبغي أن يتعلق بالله، ولا يتعلق بمخلوق ولا بقوة العبد ولا عمله، فإن تعليق الرجاء بغير الله إشراك، وإن كان الله قد جعل لها أسبابا فالسبب لا يستقل بنفسه، بل لا بد له من معاون، ولا بد أن يمنع المعارض المعوق له وهو لا يحصل ويبقى إلا بمشيئة الله تعالى، ولهذا قيل: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ولهذا قال الله تعالى: { فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب } فأمر بأن تكون الرغبة إليه وحده، وقال: { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } فالقلب لا يتوكل إلا على من يرجوه، فمن رجا قوته أو عمله أو علمه أو أو صديقه أو قرابته أو شيخه أو ملكه أو ماله غير ناظر إلى الله كان فيه نوع توكل على ذلك السبب، وما رجا أحد مخلوقا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه فإنه مشرك: { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق }، وكذلك المشرك يخاف المخلوقين، ويرجوهم، فيحصل له رعب كما قال تعالى: { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } والخالص من الشرك يحصل له الأمن كما قال تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } وقد فسر النبي الظلم هنا بالشرك، ففي الصحيح: { عن ابن مسعود أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي وقالوا: أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي : إنما هذا الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: { إن الشرك لظلم عظيم } } وقال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } وقال تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }، ولهذا يذكر الله الأسباب، ويأمر بأن لا يعتمد عليها، ولا يرجى إلا الله، قال تعالى لما أنزل الملائكة: { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } وقال: { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون }، وقد قدمنا أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وكلاهما لا يصلح إلا لله، فمن جعل مع الله إلها آخر قعد مذموما مخذولا، والراجي سائل طالب فلا يصلح أن يرجو إلا الله، ولا يسأل غيره ; ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح: { ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك }، فالمشرف الذي يستشرف بقلبه، والسائل الذي يسأل بلسانه، وفي الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري { قال: أصابتنا فاقة فجئت رسول الله لأسأله فوجدته يخطب الناس وهو يقول: أيها الناس والله، مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم، وإنه من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر }، " والاستغناء " أن لا يرجو بقلبه أحدا فيستشرف إليه، " والاستعفاف " أن لا يسأل بلسانه أحدا، ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن التوكل فقال: قطع الاستشراف إلى الخلق ; أي لا يكون في قلبك أن أحدا يأتيك بشيء فقيل له: فما الحجة في ذلك ؟ فقال: قول الخليل لما قال له جبرائيل هل لك من حاجة ؟ فقال: " أما إليك فلا "، فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه ودفع ما يضره لا يوجه قلبه إلا إلى الله ; فلهذا قال المكروب: { لا إله إلا أنت }، ومثل هذا ما في الصحيحين: عن ابن عباس أن { النبي كان يقول: عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم } فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد، وتأله العبد ربه، وتعلق رجائه به وحده لا شريك له، وهي لفظ خبر يتضمن الطلب، والناس وإن كانوا يقولون بألسنتهم: لا إله إلا الله، فقول العبد لها مخلصا من قلبه له حقيقة أخرى، وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة الله، قال تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه، أي جعل معبوده هو ما يهواه، وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه فهم يتخذون أندادا من دون الله يحبونهم كحب الله، ولهذا قال الخليل: { لا أحب الآفلين }، فإن قومه لم يكونوا منكرين للصانع، ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافعا له كالشمس والقمر والكواكب، والخليل بين أن الآفل يغيب عن عابده وتحجبه عنه الحواجب فلا يرى عابده ولا يسمع كلامه ولا يعلم ولا ينفعه ولا يضره بسبب ولا غيره فأي وجه لعبادة من يأفل ؟، وكلما حقق العبد الإخلاص في قول: لا إله إلا الله خرج من قلبه تأله ما يهواه، وتصرف عنه المعاصي والذنوب، كما قال تعالى: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }، فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد الله المخلصين، وهؤلاء هم الذين قال فيهم: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقال الشيطان: { فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين }، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي أنه قال: { من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه حرمه الله على النار }، فإن الإخلاص ينفي أسباب دخول النار ; فمن دخل النار من القائلين لا إله إلا الله لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار ; بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار، والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ; ولهذا كان العبد مأمورا في كل صلاة أن يقول: { إياك نعبد وإياك نستعين }، والشيطان يأمر بالشرك والنفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله، إما خوفا منه، وإما رجاء له، فلا يزال العبد مفتقرا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك، وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي أنه قال: { يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يستغفرون ; لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا }، فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من الله له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه، فصار فيه شرك منعه من الاستغفار وأما من حقق التوحيد والاستغفار فلا بد أن يرفع عنه الشر ; فلهذا قال ذو النون: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }، ولهذا يقرن الله بين التوحيد والاستغفار في غير موضع، كقوله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وقوله: { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } وقوله: { وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } إلى قوله: { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } وقوله: { فاستقيموا إليه واستغفروه } . قال فصل في الأسماء والأحكام، اعلموا أن غرضنا من هذا الفصل يستدعي ذكر حقيقة الإيمان وهذا مما تباينت فيه مذاهب الإسلاميين فذهب الخوارج إلى أن الإيمان هو الطاعة ومال إلى ذلك كثير من المعتزلة واختلفت مذاهبهم في تسمية النوافل إيمانا، وصار أصحاب الحديث إلى أن الإيمان معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان، وذهب بعض القدماء إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار بها وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فحسب ومضمر الكفر إذا أظهر الإيمان مؤمن حقا عندهم غير أنه يستوجب الخلود في النار ولو أضمر الإيمان ولم يتيقن منه إظهاره فهو ليس بمؤمن وله الخلود في الجنة، قال والمرضي عندنا أن حقيقة الإيمان التصديق بالله فالمؤمن بالله من صدقه ثم التصديق على الحقيقة كلام النفس ولا يثبت كلام النفس كذلك إلا مع العلم فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد، والدليل على أن الإيمان هو التصديق صريح اللغة وأصل العربية وهو لا ينكر فيحتاج إلى إثباته ومن التنزيل: { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } معناه ما أنت بمصدق لنا ثم الغرض من هذا الفصل أن من خالف أهل الحق لم يصف الفاسق بكونه مؤمنا فقد صرح بأن كلام النفس لا يثبت إلا مع العلم وأنه إنما يثبت على حسب الاعتقاد وهذا تصريح بأنه لا يكون مع عدم العلم ولا يكون على خلاف المعتقد وهذا يناقض ما أثبتوا به كلام النفس وادعوا أنه مغاير للعلم، وقال صاحبه أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح الإرشاد بعد أن ذكر شرح قول الخوارج والمعتزلة والكرامية، قال وأما مذاهب أصحابنا فصار أهل التحقيق من أصحاب الحديث والنظار منهم إلى أن الإيمان هو التصديق وبه قال شيخنا أبو الحسن واختلف جوابه في معنى التصديق فقال مرة هو المعرفة بوجوده وقدمه وإلهيته وقال مرة التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة ولا يوجد دونها وهذا مما ارتضاه القاضي فإن الصدق والكذب والتصديق والتكذيب بالأقوال أجدر فالتصديق إذا قول في النفس ويعبر عنه باللسان فتوصف العبارة بأنها تصديق لأنها عبارة عن التصديق هذا ما حكاه شيخنا الإمام، قلت: فقد ذكر عن أبي الحسن الأشعري قولين: أحدهما: إن التصديق هو المعرفة وهذا قول جهم، والثاني: إن التصديق قول في النفس يتضمن المعرفة وهو اختيار ابن الباقلاني وابن الجويني وهؤلاء قد صرحوا بأنه يتضمن المعرفة ولا ينتصر أن يقوم في النفس تصديق مخالف لمعرفة كما ذكروه ولو جاز أن يصدق بنفسه بخلاف علمه واعتقاده لانتقض أصلهم في الإيمان إذا كان التصديق لا ينافي اعتقاد خلاف ما صدق به فلا يجب أن يكون مؤمنا بمجرد تصديق النفس على هذا التقدير وكل من القولين ينقض ما استدل به على أن التصديق غير العلم، قال النيسابوري وحكى الإمام أبو القاسم الإسفراييني اختلافا عن أصحاب أبي الحسن في التصديق ثم قال والصحيح من الأقاويل في معنى التصديق ما يوافق اللغة لأن التكليف بالإيمان ورد بما يوافق اللغة والإيمان بالله ورسوله على موافقة اللغة هو العلم بأن الله ورسوله صادقان في جميع ما أخبرا به والإيمان في اللغة مطلقا هو اعتقاد صدق المخبر في خبره إلا أن الشرع جعل هذا التصديق علما ولا يكفي أن يكون اعتقادا من غير أن يكون علما لأن من صدق الكاذب واعتقد صدقه فقد آمن به ولهذا قال في صفة اليهود: { يؤمنون بالجبت والطاغوت } يعني يعتقدون صدقهما، قلت ليس الغرض هنا ذكر تناقضهم في مسمى الإيمان وفي التصديق هل هو التصديق بوجود الله وقدمه وإلهيته كما قاله الأشعري أو هو تصديق فيما أخبر به كما ذكره غيره، أو التناقض كما في كلام صاحب الإرشاد حيث قال: الإيمان هو التصديق بالله فالمؤمن بالله من صدقه فجعل التصديق بوجوده هو تصديقه في خبره مع تباين الحقيقتين فإنه فرق بين التصديق بوجود الشيء وتصديقه ولهذا يفرق القرآن بين الإيمان بالله ورسوله وبين الإيمان للرسول إذ الأول هو الإقرار بذلك والثاني هو الإقرار له كما في قوله: { وما أنت بمؤمن لنا }، وفي قوله: { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين }، وفي قوله: { لن نؤمن لكم }، وقد قال: { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته }، فميز الإيمان به من الإيمان بكلماته وكذلك قوله { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } الآية وقوله { كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } فليس الغرض أنهم لم يهتدوا لمثل هذا في مثل هذا الأصلي الذي لم يعرفوا فيه لا الإيمان ولا القرآن وهما نور الله الذي بعث به رسوله كما قال تعالى: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور }، وإنما الغرض أن التصديق قد صرح هؤلاء بأنه هو العلم أو هو الاعتقاد إذا لم يكن علما وأنهم مضطرون إلى أن يقولوا ذلك وهو أبلغ من قول بعضهم أنه مستلزم للعلم في تمام ما ذكره عن أبي القاسم الإسفراييني، وقال حكى الإمام أبو بكر بن فورك عن أبي الحسن أنه قال الإيمان هو اعتقاد صدق المخبر فيما يخبر به ثم من الاعتقاد ما هو علم ومنه ما ليس بعلم فالإيمان بالله هو اعتقاد صدقه إنما يصح إذا كان عالما بصدقه في إخباره وإنما يكون كذلك إذا كان عالما بأنه متكلم والعلم بأنه متكلم بعد العلم بأنه حي والعلم بأنه حي بعد العلم بأنه فاعل وبعد العلم بالفعل وكون العالم فعلا له وذلك يتضمن العلم بكونه قادرا وعالما وله علم ومريدا وله إرادة وسائر ما لا يصح العلم بالله تعالى إلا بعد العلم به من شرائط الإيمان، قال ثم السمع قد ورد بضم شرائط أخر إليه وهو أن لا يقترن به ما يدل على كفر من يأتيه فعلا وتركا وهو أن الشرع أمره بترك السجود والعبادة للصنم فلو أتى به دل على كفره وكذلك لو قتل نبيا أو استخف به دل على كفره وكذلك لو ترك تعظيم المصحف والكعبة دل على كفره وكذلك لو خالف إجماع الخاص والعام في شيء أجمعوا عليه دل خلافه إياهم على كفره فأي واحد مما استدللنا به على كفره مما منع الشرع أن يقرنه بالإيمان إذا وجب ضمه إلى الإيمان لو وجد، دلنا ذلك على أن التصديق الذي هو الإيمان مفقود من قلبه، فكذلك كل ما كفرنا به المخالف من طريق التأويل فإنما كفرناه به لدلالته على فقد ما هو إيمان من قلبه لاستحالة أن يقضي السمع بكفر من معه الإيمان، والتصديق بقلبه، قال ومن أصحابنا من قال بالموافاة فيشترط في الإيمان الحقيقي أن يوافي ربه به ويختم عليه ومنهم من لم يجعل ذلك شرطا فيه في الحال وهل يشترط في الإيمان الإقرار اختلفوا فيه بعد أن لم يختلفوا في أن ترك العناد شرط وهو أن يعتقد أنه متى طولب بالإقرار فأتى به أما قبل أن يطالب به، منهم من قال لا بد من الإتيان به حتى يكون مؤمنا وهذا القائل يقول التصديق هو المعرفة والإقرار جميعا وهذا قول الحسين بن الفضل البجلي وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ويقرب من هذا ما كان يقوله الإمام أبو محمد عبد الله بن سعيد القطان من متقدمي أصحابنا ونحن نقول من أتى التصديق بالقلب واللسان فهو المؤمن باطنا وظاهرا ومن صدق بقلبه وامتنع من الإقرار فهو معاند كافر يكفر كفر عناد ومن أقر بلسانه وجحد بقلبه فهو كافر عند الله وعند نفسه ويجري عليه أحكام الإيمان لما أظهر من علامات الإيمان، ومن أصحابنا من جعل المعارف مجموعة تصديقا واحدا وهو المعرفة بالله وصفاته ورسوله وأن دين الإسلام حق: قال وهذه الجملة تصديق واحد ثم قال هذا ما ذكره أبو القاسم الإسفراييني، قلت ليس المقصود هنا بيان ما ذكروه من قول الجهمية والمرجئة في الإيمان وما في ذلك من التناقض حيث جعله التصديق الذي في القلب ثم سلبه عمن ترك النطق عنادا وأن عنده كل ما سمي كفرا فلأنه مستلزم لعدم هذا التصديق لكن دلالته على العدم تعلم تارة بالعقل وتارة بالشرع لأن ما يقوم بالقلب من الاستكبار على الله والبغض له ولرسله ونحو ذلك يكون هو في نفسه كفرا وما ذكروه من التصديق الخاص الذي وصفوه وهو تصديق بأصول الكلام الذي وضعوه وإنما الغرض أنهم يجعلون التصديق هو نفس المعرفة كما في كلام هذا وغيره وكما ذكروه عن أبي الحسن وغايتهم إذا لم يجعلوه مستلزما للمعرفة أن يجعلوه مستلزما لها، قال النيسابوري وقال الأستاذ أبو إسحاق في المختصر، الإيمان في اللغة والشريعة التصديق، ولا يتحقق ذلك إلا بالمعرفة والإقرار، وتقوم الإشارة والانقياد مقام العبارة، قال وتحقيق المعرفة تحصيل ما قدمناه من المسائل في هذا الكتاب وتحقيقه قال النيسابوري أراد بالكتاب هو المختصر وأشار بما قدمه فيه إلى جملة ما قدمه من قواعد العقائد، قال: وقال في هذا الكتاب الإيمان هو المعرفة، واعتقاد الإقرار عند الحاجة أو ما يقوم مقام الإقرار في كتاب الأسماء والصفات واتفقوا على أن ما يستحق به المكلف اسم الإيمان في الشريعة أوصاف كثيرة وعقائد مختلفة، وإن اختلفوا فيها على تفصيل ذكرناه واختلفوا في إضافة ما لا يدخل في جملة التصديق إليه لصحة الاسم فمنها ترك قتل الرسول وترك تعظيمه وترك تعظيم الأصنام فهذا من التروك ومن الأفعال نصرة الرسول والذب عنه فقالوا إن جميعه مضاف إلى التصديق شرعا، وقال آخرون إنه من الكبائر لا يخرج المرء بالمخالفة فيه عن الإيمان، قال النيسابوري هذه جملة كلام مشايخنا في ذلك قال وذهب أهل الأثر إلى أن الإيمان جميع الطاعات فرضها ونفلها وعبروا عنه بأنه إتيان ما أمر الله به فرضا ونفلا والانتهاء عما نهى عنه تحريما وإذنا وبهذا كان يقول أبو علي الثقفي، ومن متقدمي أصحابنا أبو عباس القلانسي، وقد مال إلى هذا المذهب أبو عبد الله بن مجاهد وهو قول مالك بن أنس ومعظم أئمة السلف وكانوا يقولون الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان: قلت وذكر الكلام إلى آخره مما ليس هذا موضعه فإنه ليس الغرض هنا ذكر أقوال السلف والأئمة واعتراف هؤلاء بما اجترءوا عليه من مخالفة السلف والأئمة وأهل الحديث في الإيمان مع علمهم بذلك لما عنت لهم من شبهة الجهمية المرجئة وإنما الغرض بيان ما ذكره الإسفراييني من أن التصديق لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار وإن كان أراد المعرفة كما قرره هو من قواعده ولم يحل ذلك على ما جاء به الرسول من أصول الإيمان فإذا كان التصديق لا يتحقق بالمعرفة إلا بالإقرار أيضا باللسان كان هذا من كلامهم دليلا على امتناع وجود التصديق بالقلب وتحققه إلا مع الإقرار باللسان وهذا يناقض قولهم أن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس فهذه مناقضة ثابتة فإن التصديق الذي في القلب إن تحقق بدون لفظ يظل هذا وإن لم يتحقق إلا بلفظ أو ما يقوم مقامه يظل ذاك، فهذا كلامهم وهو يقتضي أنهم لم يكتفوا بأن جعلوا العلم ينافي الكذب النفساني حتى جعلوه يوجب الصدق النفساني فيمتنع وجود العلم بدون الصدق فصار هذا مطلا لما أثبتوا به الخبر النفساني من أنه يمكن ثبوته بدون العلم وعلى خلاف العلم وهو الكذب وهم كما احتجوا بالعلم على انتفاء الكذب النفساني وثبوت الصدق النفساني فقد احتجوا به أيضا على أصل ثبوت الكلام النفساني، قال أبو القاسم النيسابوري، ومما ذكره الأستاذ أبو إسحاق يعني في إثبات كلام الله النفساني الذي أثبتوه أن قال: الأحكام لا ترجع إلى صفات الأفعال ولا إلى أنفسها، وإنما ترجع إلى قول الله، وهذا من أدل الدليل على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد، فورود التكليف على العباد دليل على كلام الله، وجواز إرسال الرسل وورود التكليف دال على علمه، وعلمه دال على ثبوت الكلام الصدق أو لا، إذ العالم بالشيء لا يخلو عن نطق النفس بما يعلمه وذلك هو التدبير والخبر، وربما يعبر عن هذا بأنه لو لم يكن القديم سبحانه متكلما لاستحال منه التعريف والتنبيه على التكليف لأن طرق التعريف معلومة، وذلك كالكتابة والعبارة والإشارة، وشيء من هذا لا يقع به التعريف دون أن يكون ترجمة عن الكلام القائم بالنفس ومن لا كلام له استحال أن ينبه غيره على المعنى الذي يستند إلى الكلام، قال: ومما يدل على ثبوت الكلام لله آيات الرسل عليهم السلام فإنها كانت أدلة ولا تدل على الصدق لأنفسها وإنما كانت دالة من حيث كانت لإزالة منزلة قوله لمدعي الرسالة صدقت والتصديق من قبل الأقوال ولا يكون المصدق مصدقا لغيره بفعله التصديق وإنما يكون مصدقا له لقيام التصديق بذاته بأمر الله منهيا بنهيه، قلت: أما استدلالهم على ثبوت كلام الله بالتكليف والأحكام، فهذا من باب الاستدلال على الشيء بنفسه، بل من باب الاستدلال على الشيء بما هو أخفى منه مع الاستغناء عنه، فإنه إذا كان التكليف والأحكام إنما تثبت بالرسل، فالرسل كلهم مطبقون على تبليغ كلام الله ورسالته وأن الله يقول وقال ويتكلم، ومن المعلوم أن نطق الرسل بإثبات كلام الله وقوله أكثر وأشهر وأظهر من نطقهم بلفظ تكليف وأحكام، فإذا كان هذا الدليل لا يثبت إلا بعد الإيمان بالرسل وبما أخبروا به، فإخبارهم بكلام الله وقوله لا يحتاج فيه إلى دليل، ولهذا عدل غير هؤلاء عن هذا الدليل الغث واحتجوا على ثبوت كلام الله بمجرد قول المرسلين، وقوله الأحكام من أدل الدليل على ثبوت الأمر والنهي، يقال له فهل الأحكام عندك شيء غير الأمر والنهي حتى يستدل بأحدهما على الآخر، أم اسم الأحكام هل هو أظهر في كلام الرسل والمؤمنين بهم من اسم الأمر والنهي، وأعجب من ذلك قوله فورود التكليف على العباد دليل على كلام الله وجواز إرسال الرسل فإن التكليف إذا كان عنده لم يثبت إلا بالرسل، كان العلم بجواز إرسال الرسل سابقا على العلم بالتكليف، فكيف يستدل بما يتأخر علمه على ما يتقدم علمه، ومن حق الدليل أن يكون العلم به قبل العلم بالمدلول حيث جعل دليلا على العلم به، ولو قدر أنه ممن يسوغ التكليف العقلي فذاك عند القائلين به يرجع إلى صفات تقوم بالأفعال فلا يفتقر إلى ثبوت الكلام، وليس المقصود بيان هذا وإنما المقصود قولهم: ورود التكليف دال على علمه، وعلمه دال على ثبوت المصدق، إذ العالم بالشيء لا يخلو عن نطق النفس بما يعلمه، وذلك هو التدبير والخبر، فقد جعلوا العلم مستلزما للكلام بنوعيه الخبر والصدق والتدبير الذي هو الطلب، وهذا إلى التحقيق أقرب من غيره، فإذا كان الأمر كذلك كيف يتصور اجتماع العلم والكذب النفساني، فإن قيل لا ريب أن هذا تناقض منهم في الشيء الواحد المعين بإثباته تارة وجعله كلاما محققا ونفيه أخرى ونفي تسميته كلاما محققا إذا قدر وجوده، لكن التناقض يدل على بطلان أحد القولين المتناقضين غير معين فقد يكون الباطل ما ادعوه من استلزام العلم للصدق النفساني ومنافاته للكذب دون ما ذكروه من إمكان اجتماعهما وعدم استلزامه للصدق، ثم قال أبو عبد الله وأي أمر أبين من هذا، وأي كفر أكفر من هذا إذا زعموا أن القرآن مخلوق، فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة، وأن علم الله مخلوق ولكن الناس يتهاونون بهذا ويقولون إنما يقولون القرآن مخلوق فيتهاونون به ويظنون أنه هين ولا يدرون ما فيه من الكفر، قال وأنا أكره أن أبوح بها لكل أحد وهم يسألونني فأقول إني أكره الكلام في هذا، فيبلغني أنهم يدعون علي أني أمسك قال الأثرم فقلت لأبي عبد الله فمن قال إن القرآن مخلوق وقال لا قول إن أسماء الله مخلوقة ولا علمه لم يرد على هذا أقول هو كافر ؟ فقال: هكذا هو عندنا، قال أبو عبد الله: أنحن نحتاج أن نشك في هذا القرآن، عندنا فيه أسماء الله، وهو من علم الله، فمن قال مخلوق فهو عندنا كافر، ثم قال أبو عبد الله: بلغني أن أبا خالد وموسى بن منصور وغيرهما يجلسون في ذلك الجانب فيعيبون قولنا ويدعون أن هذا القول أن لا يقال مخلوق ولا غير مخلوق، ويعيبون من يكفر ويقولون إنا نقول بقول الخوارج، ثم تبسم أبو عبيد الله كالمغتاظ ثم قال أبو عبد الله لعباس وذاك السجستاني الذي عندكم بالبصرة ذاك الخبيث بلغني أنه قد وضع في هذا أيضا، يقول لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق، ذاك خبيث ذاك الأحول فقال العباس: كان يقول مرة بقول جهم ثم صار إلى أن يقول بهذا القول، فقال أبو عبد الله: ما بلغني أنه كان يقول جهم إلا الساعة، فقول الإمام أحمد إذا زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة وأن علم الله مخلوق، يبين أن العلم الذي تضمنه القرآن داخل في مسمى القرآن، وقد نبهنا فيما تقدم على أن كل كلام حق فإن العلم أصل معناه، فإن كان قد ينضم إلى العلم معنى الحب والبغض، وذلك أن الكلام خبر أو طلب أما الخبر الحق فإن معناه علم بلا ريب، وأما الإنشاء كالأمر والنهي فإنه مسبوق بتصور المأمور والمأمور به وغير ذاك فالعلم أيضا أصله واسم القرآن والكلام يتضمن هذا كله فقول القائل القرآن مخلوق يتضمن أن علم الله مخلوق، وكذلك أسماء الله هي في القرآن فمن قال هو مخلوق والمخلوق هو الصوت القائم ببعض الأجسام يكون ذلك الجسم هو الذي سمى الله بتلك الأسماء ولم يكن قبل ذلك الجسم وصوته لله اسم بل يكون ذلك الاسم قد نحله إياه ذلك الجسم، ولهذا روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سأله سائل عن قوله: وكان الله غفورا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا، فكأنه كان ثم مضى فقال ابن عباس: وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه ذلك وذلك قوله أني لم أزل كذلك، هذا لفظ البخاري وهو رواه مختصرا ولفظ البوشنجي محمد بن إبراهيم الإمام عن شيخ البخاري الذي رواه من جهته البرقاني في صحيحه: فإن الله سمى نفسه ذلك ولم ينحله غيره فذلك قوله وكان الله أي لم يزل كذلك هكذا رواه البيهقي عن البرقاني، وذكر الحميدي لفظه فإن الله جعل نفسه ذلك وسمى نفسه وجعل نفسه ذلك ولم ينحله أحدا غيره، وكان الله أي لم يزل كذلك، ولفظ يعقوب بن سفيان عن يوسف بن عدي شيخ البخاري: فإن الله سمى نفسه ذلك ولم يجعله غيره وكان الله أي لم يزل كذلك، فقد أخبر ابن عباس: أن معنى القرآن إن الله سمى نفسه بهذه الأسماء لم ينحله ذلك غيره، وقوله وكان الله يقول إني لم أزل كذلك ومن المعلوم أن، الذي قاله ابن عباس هو مدلول الآيات ففي هذا دلالة على فساد قول الجهمية من وجوه: أحدها: إنه إذا كان عزيزا حكيما ولم يزل عزيزا حكيما، والحكمة تتضمن كلامه ومشيئته كما أن الرحمة تتضمن مشيئته، دل على أنه لم يزل متكلما مريدا، وقوله غفورا أبلغ فإنه إذا كان لم يزل غفورا فأولى أنه لم يزل متكلما، وعند الجهمية: بل لم يكن متكلما ولا رحيما ولا غفورا إذ هذا لا يكون إلا بخلق أمور منفصلة عنه فحينئذ كان كذلك، الثاني: قول ابن عباس فإن الله سمى نفسه ذلك يقتضي أنه هو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء لا أن المخلوق هو الذي سماه بها، ومن قال إنها مخلوقة في جسم لزمه أن يكون ذلك الجسم هو الذي سماه بها، الثالث: قوله ولم ينحله ذلك غيره وفي اللفظ الآخر ولم يجعله ذلك غيره وهذا يبين بجعله ذلك في رواية أي هو الذي حكم بنفسه بذلك لا غيره، ومن جعله مخلوقا لزمه أن يكون الغير هو الذي جعله كذلك ونحله ذلك، الرابع: إن ابن عباس ذكر ذلك في بيان معنى قوله وكان الله غفورا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا ليبين حكمة الإتيان بلفظ كان في مثل هذا، فأخبر في ذلك أنه هو الذي سمى نفسه ذلك ولم ينحله ذلك غيره، ووجه مناسبة هذا الجواب أنه إذا نحل ذلك غيره كان ذلك مخلوقا بخلق ذلك الغير فلا يخبر عنه بأنه كان كذلك، وأما إذا كان هو الذي سمى به نفسه ناسب أن يقال إنه كان كذلك وما زال كذلك لأنه هو لم يزل سبحانه وتعالى، وهذا التفريق إنما يصح إذا كان غير مخلوق ليصح أن يقال لما كان هو المسمي لنفسه بذلك كان لم يزل كذلك، فذكر الإمام أحمد أن قول القائل القرآن مخلوق يتضمن القول بأن علم الله مخلوق وأن أسماءه مخلوقة لأن ظهور عدم خلق هذين للناس أبين من ظهور عدم القول بفساد إطلاق القول بخلق هذين ولو كان القرآن اسما لمجرد الحروف والأصوات لم يصح ما ذكره الإمام أحمد من الحجة، فإن خلق الحروف وحدها لا تستلزم خلق العلم، وهكذا القائلون بخلق القرآن إنما يقولون بخلق الحروف والأصوات في بعض الأجسام لأن هذا هو عندهم القرآن ليس للعلم عندهم دخل في مسمى القرآن، ولهذا لما قال له الأثرم فمن قال القرآن مخلوق وقال لا أقول إن أسماء الله مخلوقة ولا علمه لم يزد على هذا أقول هو كافر، فقال هكذا هو عندنا ثم استفهم استفهام المنكر فقال أنحن نحتاج أن نشك في هذا القرآن عندنا فيه أسماء الله وهو من علم الله، فمن قال مخلوق فهو عندنا كافر فأجاب أحمد بأنهم وإن لم يقولوا بخلق أسمائه وعلمه، فقولهم يتضمن ذلك ونحن لا نشك في ذلك حتى نقف فيه فإن ذلك يتضمن خلق أسمائه وعلمه، ولم يقبل أحمد قولهم القرآن مخلوق وإن لم يدخلوا فيه أسماء الله وعلمه لأن دخول ذلك فيه لا ريب فيه كما أنهم لما قالوا القرآن مخلوق خلقه الله في جسم لكن هو المتكلم به لا ذلك الجسم لم يقبل ذلك منهم، لأنه من المعلوم أنه إنما يكون كلام ذلك الجسم لا كلام الله، كإنطاق جوارح العبد وغيرها فإنه يفرق بين نطقه وبين إنطاقه لغيره من الأجسام، وقال أحمد فيه أسماء الله وهو من علم الله، ولم يقل فيه علم الله لأن كون أسماء الله في القرآن يعلمه كل أحد ولا يمكن أحد أن ينازع فيه، وأما اشتمال القرآن على العلم فهذا ينازع فيه من يقول إن القرآن هو مجرد الحروف والأصوات فإن هؤلاء لا يجعلون القرآن فيه علم الله بل والذين يقولون الكلام معنى قائم بالذات والخبر والطلب وأن معنى الخبر ليس هو العلم ومعنى الطلب لا يتضمن الإرادة، ينازعون في أن مسمى القرآن يدخل فيه العلم، فذكر الإمام أحمد ما يستدل به على أن علم الله في القرآن وهو قوله فإن القرآن من علم الله لأن الله أخبر بذلك، فذكر أحمد لفظ القرآن الذي يدل على موارد النزاع فإن قوله القرآن من علم الله مطابق لقوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير }، ولقوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } ولقوله: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } الآية ولقوله: { وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق } ومعلوم أن المراد بالذي جاءك من العلم في هذه الآيات إنما هو ما جاءه من القرآن كما يدل عليه سياق الآيات، فدل ذلك على أن مجيء القرآن إليه مجيء ما جاءه من علم الله إليه، وذلك دليل على أن من علم الله ما في القرآن، ثم قد يقال هذا الكلام فيه علم عظيم، وقد يقال هذا الكلام علم عظيم، فأطلق أحمد على القرآن أنه من علم الله لأن الكلام الذي فيه علم هو نفسه يسمى علما وذلك هو من علم الله كما قال: { من بعد ما جاءك من العلم } ففيه من علم الله ما شاءه سبحانه لا جميع علمه، ومثل هذا كثير في كلام الإمام أحمد كما رواه الخلال عن أبي الحارث قال: سمعت أبا عبد الله يقول القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر لأنه يزعم أن علم الله مخلوق وأنه لم يكن له علم حتى خلقه، وكما روي عن محمد بن إبراهيم الهاشمي قال: دخلت على أحمد بن حنبل أنا وأبي فقال له أبي يا أبا عبد الله: ما تقول في القرآن قال القرآن من علم الله، ومن قال إن من علم الله شيئا مخلوقا فقد كفر، ذكر ذلك لأن من الجهمية من يقول علم الله بعضه مخلوق وبعضه غير مخلوق، وقد يقول إن الله وإن جعل القرآن من علمه فبعض ذلك مخلوق، كما روى الخلال عن الميموني أنه سأل أبا عبد الله قال: قلت من قال كان الله ولا علم ؟ فتغير وجهه تغيرا شديدا وأكبر غيظه ثم قال لي: كافر، وقال لي في كل يوم أزداد في القوم بصيرة، قال: وقال أبو عبد الله علمت أن بشرا المريسي كان يقول العلم علمان فعلم مخلوق وعلم ليس بمخلوق فهذا أي شيء يكون هذا ؟ قلت يا أبا عبد الله كيف يكون إذا قال لا أدري أيكون علمه كله بعضه مخلوق وبعضه ليس بمخلوق لا أدري كيف ذا بشر كذا كان يقول وتعجب أبو عبد الله تعجبا شديدا وروي عن المروزي قال قال أبو عبد الله قلت لابن الحجام - يعني يوم المحنة - ما تقول في علم الله ؟ فقال: مخلوق فنظر ابن رباح إلى ابن الحجام نظرا منكرا عليه لما أسرع، فقلت لابن رباح أي شيء تقول أنت فلم يرض ما قال ابن الحجام فقلت له كفرت قال أبو عبد الله يقول: إن الله كان لا علم له فهذا الكفر بالله، وقد كان المريسي يقول إن علم الله وكلامه مخلوق وهذا الكفر بالله، وعن عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كفر لأن القرآن من علم الله وفيه أسماء الله، قال الله تعالى: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم }، وعن المروذي سمعت أبا عبد الله يقول القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر بالله واليوم الآخر والحجة { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } الآية وقال: { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } وقال { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير } وقال { ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق } والذي جاء به النبي والقرآن وهو العلم الذي جاءه والعلم غير مخلوق والقرآن من العلم وهو كلام الله، وقال: { الرحمن علم القرآن خلق الإنسان } وقال: { ألا له الخلق والأمر }، فأخبر أن الخلق خلق والخلق غير الأمر وأن الأمر غير الخلق وهو كلامه وأن الله عز وجل لم يخل من العلم وقال: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }، والذكر هو القرآن وأن الله لم يخل منهما ولم يزل الله متكلما عالما، وقال في موضع آخر: إن الله لم يخل من العلم والكلام وليسا من الخلق لأنه لم يخل منهما، فالقرآن من علم الله وعن الحسن بن ثواب أنه قال لأبي عبد الله من أين أكفرتهم ؟ قال: قرأت في كتاب الله غير موضع: { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } فذكر الكلام قال ابن ثواب ذاكرت ابن الدورقي فذهب إلى أحمد ثم جاء فقال لي سألته فقال لي كما قال لك إلا أنه قد زادني أنزله بعمله، ثم قال لي أحمد إنما أرادوا الإبطال، وقد فسر طائفة منهم ابن حزم كلام أحمد بأنه أراد بلفظ القرآن المعنى فقط، وأن معنى القرآن يعود إلى العلم فهو من علم الله ولم يرد بالقرآن الحروف والمعاني فمن جعل القرآن كله ليس له معنى إلا العلم فقد كذب، وأما من قال عن هذه الآيات التي احتج بها أحمد أن معناها العلم لأنها كلها من باب الخبر ومعنى الخبر العلم فهذا أقرب من الأول، وهذا إذا صح يقتضي أنه قد يراد بالكلام المعنى تارة كما يراد به الحروف أخرى، فأما أن يكون أحمد يقول إن الله لا يتكلم بالحروف فهذا خلاف نصوصه الصريحة عنه لكن قد يقال القرآن الذي هو قديم لا يتعلق بمشيئته هو المعنى الذي سماه الله علما وذلك هو الذي يكفر من قال بحدوثه، قال الخلال في كتاب السنة ردا على الجهمية الضلال: إن الله لا يتكلم بصوت، وروى عن يعقوب بن بختان أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لا يتكلم بصوت، قال بلى تكلم بصوت وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها لكل حديث وجه يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: " إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجودا حتى إذا فزع عن قلوبهم، قال سكن عن قلوبهم - نادى أهل السماء ماذا قال ربكم قالوا الحق "، قال كذا وكذا، وكذلك ذكر عبد الله في كتاب السنة، وذكره عنه الخلال قال سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت فقال أبي بل تكلم الله تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت، وقال أبي حديث ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر سلسلة على الصفوان قال أبي والجهمية تنكره وقال أبي هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر، إنما نروي هذه الأحاديث كما جاءت، وروى المروذي عن أحمد حديث ابن مسعود قال المروذي سمعت أبا عبد الله وقيل له إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام، أي حقا جهمي عدو الله من موسى بن عقبة يا ضالا مضلا من ذب عن موسى بن عقبة من كان من الناس يجانب أشد المجانبة وأبو عبد الله سأل حتى انتهى إلى آخر كلام عبد الوهاب، فتبسم أبو عبد الله وقال: ما أحسن ما تكلم عافاه الله، ولم ينكر منه شيئا، وقال الإمام أبو عبد الله البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق الأفعال ويذكر عن النبي : { أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب فليس هذا لغير الله عز وجل }، قال البخاري: وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال: لا تجعلوا لله ندا فليس لصفة الله ند ولا مثل ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين، حدثنا به داود بن شبيب حدثنا همام أخبرنا القاسم بن عبد الواحد حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل، أن جابر بن عبد الله حدثهم أنه سمع عبد الله بن أنيس يقول، سمعت النبي - - يقول { يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة واحد من أهل النار يطلبه بمظلمة } وهذا قد استشهد به في صحيحه وقال حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - -: { يقول الله يوم القيامة، يا آدم فيقول لبيك ربنا وسعديك: فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار، قال يا رب ما بعث النار قال من كل ألف، أراه قال تسعمائة وتسعة وتسعين فحينئذ تضع الحامل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد }، وهذا الحديث رواه في صحيحه وقال حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش الضحى عن مسروق قال: من كان يحدثنا بهذه الآية لولا ابن مسعود سألناه { حتى إذا فزع عن قلوبهم } قال سمع أهل السموات صلصلة مثل صلصلة السلسلة على الصفوان فيخرون حتى إذا فزع عن قلوبهم سكن الصوت عرفوا أنه الوحي ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق، وقال حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي، حدثنا الأعمش حدثنا مسلم عن مسروق عن عبد الله بهذا وقال حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو سمعت أبا هريرة يقول إن نبي الله - - قال: { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على الصفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير }: قال وقال الحكم بن أبان حدثني عكرمة عن ابن عباس: إذا قضى الله أمرا تكلم رجفت السموات والأرض والجبال وخرت الملائكة كلهم سجدا، حدثنا عمرو بن زرارة حدثنا زياد عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب عن عبد الله بن عباس عن نفر من الأنصار أن رسول الله قال لهم { ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به، قال كنا يا رسول الله نقول حين رأيناها يرمى بها مات ملك ولد مولود مات مولود، فقال رسول الله : ليس ذلك كذلك، ولكن الله إذا قضى في حقه أمرا يسمعه أهل العرش فيسبحون فيسبح من تحتهم بتسبيحهم فيسبح من تحت ذلك فلم يزل التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا حتى يقول بعضهم لبعض لم سبحتم ؟ فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا بتسبيحهم، فيقولون أفلا تسألون من فوقكم مم سبحوا، فيسألونهم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا الأمر الذي كان فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثون به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم منهم واختلاف، ثم يأتون به إلى الكهان من أهل الأرض فيحدثونهم فيخطئون ويصيبون فتحدث بهم الكهان، ثم إن الله حجب الشياطين عن السماء بهذه النجوم وانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة }، قال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه ( نهاية العقول في دراية الأصول ) الذي زعم أنه أورد فيه من الدقائق ما لا يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين والموافقين . الوجه الثالث: أن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسائل الاجتهاد كما قد بيناه وبينا إجماع الصحابة على المنع منها بكلام غليظ يخرجها من مسائل الاجتهاد، واتفاق السلف على أنها بدعة محدثة، وكل بدعة تخالف السنة وآثار الصحابة فإنها ضلالة، وهذا منصوص الإمام أحمد وغيره، وحينئذ فلا يجوز تقليد من يفتي بها ويجب نقض حكمه، ولا يجوز الدلالة لأحد من المقلدين على من يفتي بها مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد، وقد نص أحمد على هذه المسائل في مثل هذا، وإن كنا نعذر من اجتهد من المتقدمين في بعضها، وهذا كما أن أعيان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ ونحوها بل عند فقهاء الحديث أن من شرب النبيذ المختلف فيه حد، وإن كان متأولا واختلفوا في رد شهادته فردها مالك دون الشافعي وعن الإمام أحمد روايتان، مع أن الذين قالوا بالمتعة والصرف معهم فيهما سنة صحيحة، لكن سنة المتعة منسوخة، وحديث الصرف يفسره سائر الأحاديث، فكيف بالحيل التي ليس لها أصل من سنة ولا أثر أصلا بل السنن والآثار تخالفها، وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار، إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة، أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة، أو إجماع وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة، وإن كان قد اتبع بعض العلماء، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ ينكر على من عمل بها مجتهدا، أو مقلدا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس - والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا، مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسوغ له - إذا عدم ذلك فيها - الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة، أو لخفاء الأدلة فيها وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها، مثل كون الحامل المتوفى عنها تعتد بوضع الحمل، وأن الجماع المجرد عن إنزال يوجب الغسل، وأن ربا الفضل والمتعة حرام، وأن النبيذ حرام، وأن السنة في الركوع الأخذ بالركب، وأن دية الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم ربع دينار، وأن البائع أحق بسلعته إذا أفلس المشتري، وأن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن التيمم يكفي فيه ضربة واحدة إلى الكوعين، وأن المسح على الخفين جائز حضرا وسفرا إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى، وبالجملة من بلغه ما في هذا الباب من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها فليس له عند الله عذر بتقليد من ينهاه عن تقليده، ونقول لا يحل لك أن تقول ما قلت حتى تعلم من أين قلت، أو تقول إذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي ولو لم يكن في الباب أحاديث، فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن نبي الله لم يكن ممن يعلم هذه الحيل ويفتي بها هو ولا أصحابه، وأنها لا تليق بدين الله أصلا، وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل أكثر من معرفة حقيقة الدين، الوجه الرابع: إنا لو فرضنا أن الحيل من مسائل الاجتهاد - كما يختاره في بعضها طائفة من أصحابنا وغيرهم - فإنا إنما بينا الأدلة الدالة على تحريمها كما في سائر مسائل الاجتهاد، فأما جواز تقليد من يخالف فيها ويسوغ الخلاف فيها وغير ذلك فليس هذا من مواضع الكلام فيه، وليس الكلام في هذا مما يختص هذا الضرب من المسائل، فلا يحتاج إلى هذا التقرير أن يجيب عن السؤال بالكلية، وحينئذ فمن وضح له الحق وجب عليه اتباعه، ومن لم يتضح له الحق فحكمه حكم أمثاله في مثل هذه المسائل، الوجه الخامس: أن المتأخرين أحدثوا حيلا لم يصح القول بها عن واحد من الأئمة ونسبوها إلى مذهب الشافعي، أو غيره، وهم مخطئون في نسبها لا إليه على الوجه الذي يدعونه خطأ بينا يعرفه من عرف نصوص كلام الشافعي وغيره، فإن الشافعي رضي الله عنه ليس معروفا بأن يفعل الحيل ولا يدل عليها ولا يشير على مسلم أن يسلكها ولا يأمر بها من استنصحه، بل هو يكرهها وينهى عنها بعضها كراهة تحريم وبعضها كراهة تنزيه، وكثير من الحيل أو أكثر الحيل المضافة إلى مذهبه من تصرفات بعض المتأخرين من أصحابه تلقوها عن المشرقيين، نعم الشافعي رضي الله عنه يجري العقود على ظاهر الأمر بها من غير سؤال المعاقد عن مقصوده، كما يجري أمر من ظهرت زندقته، ثم أظهر التوبة على ظاهر قبول التوبة منه من غير استدلال على باطنه، وكما يجري كنايات القذف وكنايات الطلاق على ما يقول المتكلم إنه مقصوده من غير اعتبار بدلالة الحال، وربما أخذ من كلامه عدم تأثير العقد في الظاهر بما يسبقه من المواطأة وعدم فساده بما يقارنه من النيات على خلافه عنه في هذين الأصلين، أما إن الشافعي رضي الله عنه، أو من هو دونه يأمر الناس بالكذب والخداع بما لا حقيقة له، وبشيء يتيقن بأن باطنه خلاف ظاهره فما ينبغي أن يحكى هذا عن مثل هؤلاء، فإن هذا ليس في كتبهم، وإنما غايته أن يؤخذ من قاعدتهم، فرب قاعدة لو علم صاحبها ما تفضي إليه لم يقلها، فمن رعاية حق الأئمة أن لا يحكى هذا عنهم - ولو روي عنهم - لفرط قبحه، ولهذا كان الإمام أحمد رضي الله عنه يكره أن يحكي عن الكوفيين والمدنيين والمكيين المسائل المستقبحة، مثل مسألة النبيذ، والصرف، والمتعة، وفحاش النساء، إذا حكيت لمن يخاف أن يقلدهم فيها، أو ينتقصهم بسببها، وفرق بين أن آمر بشيء، أو أفعله، وبين أن أقبل من غيري ظاهره، وقد كان بين الأئمة من أصحاب الشافعي من ينكرون على من يحكى عنه الإفتاء بالحيل، مثل ما قاله الإمام ابن عبد الله ابن بطة سألت أبا بكر الآجري - وأنا وهو في منزله في مكة - عن هذا الخلع الذي يفتى به الناس - وهو أن يحلف رجل أن لا يفعل شيئا لا بد له من فعله، فيقال له: اخلع زوجتك، وافعل ما حلفت عليه، ثم راجعها -، واليمين بالطلاق ثلاثا، وقلت: إن قوما يفتون الرجل الذي يحلف بأيمان البيع ويحنث أن لا شيء عليه، ويذكرون أن الشافعي لم ير على من حلف بيمين البيعة شيئا، فجعل أبو بكر يعجب سؤالي عن هاتين المسألتين في وقت واحد، ثم قال لي: اعلم منذ كتبت العلم وجلست للكلام فيه، والفتوى ما أفتيت في هاتين المسألتين بحرف ولقد سألت أبا عبد الله الزبيري الضرير عن هاتين المسألتين، كما سألتني عن التعجب ممن يقدم على الفتوى فيهما، فأجابني بجواب كتبته عنه، ثم قام فأخرج لي كتاب أحكام الرجعة والنشوز من كتاب الشافعي، وإذا مكتوب على ظهره بخط أبي بكر سألت أبا عبد الله الزبيري فقلت له الرجل يحلف بالطلاق ثلاثا أن لا يفعل شيئا، ثم يريد أن يفعله، وقلت له: إن أصحاب الشافعي يفتون فيها بالخلع ; يخالع ثم يفعل فقال الزبيري ما أعرف هذا من قول الشافعي، ولما بلغني أن له في هذا قولا معروفا، ولا أرى من يذكر هذا عنه إلا محيلا، وقلت له الرجل يحلف بأيمان البيعة، فيحنث ويبلغني أن قوما يفتونهم أن لا شيء عليه، أو كفارة يمين، فجعل الزبيري يتعجب من هذا، وقال: أما هذا فما بلغني عن عالم ولا بلغني فيه قول ولا فتوى، ولا سمعت أن أحدا أفتى في هذه المسألة بشيء قط، قلت للزبيري ولا عندك فيها جواب، فقال: إن ألزم الحالف نفسه جميع ما في يمين البيعة، وإلا فلا أقول غير هذا - قال الإمام أبو عبد الله ابن بطة، فكتبت هذا الكلام من ظهر كتاب أبي بكر وقرأته عليه، ثم قلت له: فأنت إيش تقول يا أبا بكر ؟ فقال: هكذا أقول، وإلا فالسكوت عن الجواب أسلم لمن أراد السلامة إن شاء الله تعالى، ذكر هذا الإمام ابن عبد الله ابن بطة في جزء صنفه في الرد على من يفتي بخلع اليمين وذكر الآثار فيه عن السلف بالرد له وأنه محدث في الإسلام: وأبو عبد الله الزبيري أحد الأئمة الأعلام من قدماء أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإذا كان هذا في خلع اليمين فكيف أن يهبه شيئا ليقفه عليه وأمثالها، والطريق الثاني: أن يتقلد قول من يصحح وقف الإنسان على نفسه كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وقول أبي يوسف وغيرهما، وهو متوجه، فإن حجة المانع امتناع كون الإنسان معطيا من نفسه لنفسه، وهذا لم يصح أن يبيع نفسه ولا يهب نفسه، فيقال الواقف شبيه العتق والتحرير من حيث إنه يمتنع نقل الملك في رقبته، وأشبه شيء به أم الولد، وهذا مأخذ من يقول: إن رقبة الوقف ينتقل ملكها إلى الله سبحانه، ولهذا قال من قال: إنه لا يفتقر إلى قبول، وإذا كان مثل التحرير لم يكن مملكا لنفسه، بل يكون مخرجا للملك عن نفسه ومانعا لنفسه من التصرف في رقبته مع الانتفاع بالمنفعة فيشبه الاستيلاء، ولو قيل: إن رقبة الوقف تنتقل إلى الموقوف عليه فإنه ينقل إلى جميع الموقوف عليهم بطنا بعد بطن يتلقونه من الواقف - والطبقة الأولى أحد الموقوف عليهم - وإذا اشترى أحد الشريكين لنفسه من مال الشركة، أو باع جاز على المختار لاختلاف حكم الملكين، فلأن يجوز أن ينتقل ملكه المختص إلى طبقات موقوف عليها - هو أحدهما - أولى ; لأنه في كلا الموضعين نقل ملكه المختص إلى ملك مشترك له فيه نصيب، ثم له في الشركة الملك الثاني من جنس الأول فإنه يملك التصرف في الرقبة، وفي الوقف ليس من جنسه فيكون الجواز فيه أولى، يؤيد هذا: أنه إذا وقف على جهة عامة جاز له أن يكون كواحد من أهل تلك الجهة كوقف عثمان رضي الله عنه بئر رومة وجعله دلوه كدلاء المسلمين، وكصلاة المرء في مسجد وقفه، ودفنه في مقبرة سبلها، إلى غير ذلك من الصور، فإذا جاز للواقف أن يكون موقوفا عليه في الجهة العامة، جاز مثله في الجهة الخاصة المحصورة، لاتفاقهما في المعنى، بل الجواز هنا أولى من حيث إنه موقوف عليه بالتعيين، وهناك دخل في الوقف بشمول الاسم له، وليس الغرض هنا تقرير هذه المسألة ولا غيرها، وإنما الغرض التنبيه على أنه قد أحدث الناس، حيلا وخدعا أكثر مما أنكره السلف على من أفتى بالحيل من أهل الرأي مع أن الله سبحانه قد أغناهم عنها بسلوك طريق إما جائز لا ريب فيه، أو مختلف فيه اختلافا يسوغ معه الأخذ بأحد القولين اجتهادا، أو تقليدا وهذا خير عند من فقه عن الله سبحانه أمره ونهيه من المخادعات التي مضمونها الاستهزاء بآيات الله تعالى والتلاعب بحدوده .