إقامة الدليل على إبطال التحليل/17

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


- مسألة: في التوسل بالنبي هل يجوز أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، أما التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته والصلاة والسلام عليه وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك، مما هو من أفعاله، وأفعال العباد المأمور بها في حقه، فهو مشروع باتفاق المسلمين، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون به في حياته، وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه كما كانوا يتوسلون به، وأما قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك به، فللعلماء فيه قولان، كما لهم في الحلف به قولان، وجمهور الأئمة: كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة على أنه لا يسوغ الحلف به، كما لا يسوغ الحلف بغيره من الأنبياء والملائكة، ولا تنعقد اليمين بذلك باتفاق العلماء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى تنعقد اليمين به خاصة دون غيره، ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي صاحبه إنه يتوسل بالنبي في دعائه، ولكن غير أحمد قال: إن هذا إقسام على الله به، ولا يقسم على الله بمخلوق، وأحمد في إحدى الروايتين قد جوز القسم به، فلذلك جوز التوسل به، ولكن الرواية الأخرى عنه هي قول جمهور العلماء أنه لا يقسم به، فلا يقسم على الله به كسائر الملائكة والأنبياء، فإنا لا نعلم أحدا من السلف والأئمة قال إنه يقسم على الله، كما لم يقولوا إنه يقسم بهم مطلقا، ولهذا أفتى أبو محمد بن عبد السلام أنه لا يقسم على الله بأحد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، لكن ذكر له أنه روي عن النبي حديث في الإقسام به، فقال: إن صح الحديث كان خاصا به، والحديث المذكور لا يدل على الإقسام به، وقد قال النبي : { من كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت } "، وقال: { من حلف بغير الله فقد أشرك } "، والدعاء عبادة، والعبادة مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، والله أعلم .

وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلام تظهر بالكلام في المقام الثاني وهو قول القائل كائنا من كان: " الرضا أن لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار "، وتقدم قبل ذلك مقدمة تبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الاشتباه والاضطراب، وذلك أن قوما كثيرا من الناس من المتفقهة، والمتصوفة، والمتكلمة وغيرهم، ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق، من أكل، وشرب، ونكاح، ولباس، وسماع أصوات طيبة، وشم روائح طيبة، ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيما غير ذلك، ثم صاروا ضربين: ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم، كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم، ومنهم من أقر بالرؤية إما الرؤية التي أخبر بها النبي كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وإما برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم، أو جعلها بحاسة سادسة، ونحو ذلك من الأقوال التي ذهب إليها ضرار بن عمرو، وطوائف من أهل الكلام المنتسبين إلى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية، وإن كان ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية، والنزاع بينهم لفظي، ونزاعهم مع أهل السنة معنوي، ولهذا كان بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلاء، والمقصود هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه، قالوا: لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم، كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية، وكما ذكره أبو الوفا بن عقيل في بعض كتبه، ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجلا يقول: أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال: يا هذا هب أن له وجها، أله وجه يتلذذ بالنظر إليه، وذكر أبو المعالي أن الله يخلق لهم نعيما ببعض المخلوقات مقارنا للرؤية، فأما النعيم بنفس الرؤية فأنكره، وجعل هذا من أسرار التوحيد، وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم، وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها ومشايخ الطريق، كما في الحديث الذي في النسائي وغيره، عن النبي : { اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضا، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين }، وفي صحيح مسلم وغيره، عن صهيب، عن النبي قال: { إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار، قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه }، وكلما كان الشيء أحب، كانت اللذة بنيله أعظم، وهذا متفق عليه بين السلف والأئمة ومشايخ الطريق، كما روي عن الحسن البصري أنه قال: " لو علم العابدون بأنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في الدنيا شوقا إليه "، وكلامهم في ذلك كثير، ثم هؤلاء الذين وافقوا السلف والأئمة والمشايخ على التنعم بالنظر إلى الله تعالى، تنازعوا في مسألة المحبة التي هي أصل ذلك، فذهب طوائف من الفقهاء إلى أن الله لا يحب نفسه، وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته، وقالوا: هو أيضا لا يحب عباده المؤمنين، وإنما محبته إرادته للإحسان إليهم وولايتهم، ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر السنة من أهل الكلام، حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي الجويني، وأمثال هؤلاء، وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال، فإن أول من أنكر المحبة في الإسلام: الجعد بن درهم أستاذ الجهم بن صفوان، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: " أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم "، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، ثم نزل فذبحه، والذي دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشايخ الطريق، أن الله يحب ويحب، ولهذا وافقهم على ذلك من تصوف من أهل الكلام، كأبي القاسم القشيري، وأبي حامد الغزالي، وأمثالهما، ونصر ذلك أبو حامد في الإحياء وغيره، وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في الرسالة على طريق الصوفية، كما في كتاب أبي طالب المسمى " بقوت القلوب "، وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية، استند في ذلك لما وجده من كتب الفلاسفة من إثبات نحو ذلك حيث قالوا: يعشق ويعشق، وقد بسط الكلام على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه، وقد قال تعالى: { يحبهم ويحبونه }، وقال تعالى: { والذين آمنوا أشد حبا لله }، وقال: { أحب إليكم من الله ورسوله }، وفي الصحيحين: عن النبي أنه قال: { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار }، والمقصود هنا أن هؤلاء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم الذين ينكرون حقيقة المحبة، يلزمهم أن ينكروا التلذذ بالنظر إليه، ولهذا ليس في الحقيقة عندهم إلا التنعم بالأكل والشرب ونحو ذلك، وهذا القول باطل بالكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة ومشايخها، فهذا أحد الحزبين الغالطين، والحزب الثاني: طوائف من المتصوفة، والمتفقرة، والمتبتلة وافقوا هؤلاء على أن المحبة ليست إلا هذه الأمور التي يتنعم فيها المخلوق، ولكن وافقوا السلف والأئمة على إثبات رؤية الله، والتنعم بالنظر إليه، وأضافوا من ذلك، وجعلوا يطلبون هذا النعيم وتسمو إليه همتهم، ويخافون فوته، وصار أحدهم يقول: " ما عبدتك شوقا إلى جنتك أو خوفا من نارك، ولكن لأنظر إليك وإجلالا لك "، وأمثال هذه الكلمات مقصودهم بذلك هو أعلى من الأكل والشرب، والتمتع بالمخلوق، لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة، وقد يغلطون أيضا في ظنهم أنهم يعبدون الله بلا حظ ولا إرادة، وأن كل ما يطلب منه فهو حظ النفس، وتوهموا أن البشر يعمل بلا إرادة ولا مطلوب ولا محبوب، ومن سوء معرفة بحقيقة الإيمان والدين والآخرة، وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تنفيه عن نفسه، حتى لا يشعر بنفسه وإرادتها، فيظن أنه يفعل لغير مراده، والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه، وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات، يكون لأحدهم وجد صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين كلامه، فيقع في كلامه غلط وسوء أدب، مع صحة مقصوده، وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده، فهؤلاء الذين قالوا مثل هذا الكلام إذا عنوا به طلب رؤية الله تعالى أصابوا في ذلك، لكن أخطئوا من جهة أنهم جعلوا ذلك خارجا عن الجنة فأسقطوا حرمة اسم الجنة، ولزم من ذلك أمور منكرة، نظير ما ذكره عن الشبلي رحمه الله أنه سمع قارئا يقرأ: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة }، فصرخ، وقال: أين مريد الله، فيحمد منه كونه أراد الله، ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الآخرة ما أرادوا الله، وهذه الآية في أصحاب النبي الذين كانوا معه بأحد وهم أفضل الخلق، فإن لم يريدوا الله، أفيريد الله من هو دونهم كالشبلي وأمثاله ؟ ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشايخ أنه سئل مرة عن قوله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون }، قال: فإذا كان الأنفس والأموال في ثمن الجنة، فالرؤية بم تنال ؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال، والواجب أن يعلم أن كل ما أعده الله للأولياء من نعيم بالنظر إليه، وما سوى ذلك هو في الجنة، كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار، وقد قال تعالى: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون }، وفي الحديث الصحيح عن النبي : { يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ، بله ما أطلعتهم عليه }، وإذا علم أن جميع ذلك داخل في الجنة، فالناس في الجنة على درجات متفاوتة، كما قال: { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا }، وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غير ذلك من مطالب الآخرة هو في الجنة .

وسئل قدس الله روحه، عن رجل رأى الهلال وحده، وتحقق الرؤية: فهل له أن يفطر وحده ؟ أو يصوم وحده ؟ أو مع جمهور الناس ؟ فأجاب: الحمد لله، إذا رأى هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده، فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه ؟ أو يفطر برؤية نفسه ؟ أم لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس ؟ عليه ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد: أحدها: أن عليه أن يصوم، وأن يفطر سرا، وهو مذهب الشافعي، والثاني: يصوم ولا يفطر إلا مع الناس، وهو المشهور من مذهب أحمد، ومالك، وأبي حنيفة، والثالث: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال: لقول النبي : { صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون } "، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب، ورواه أبو داود، وابن ماجه، وذكر الفطر والأضحى فقط ورواه الترمذي من حديث عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة أن النبي قال: { الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون } "، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، قال: وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة، وعظم الناس ورواه أبو داود بإسناد آخر: فقال حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد من حديث أيوب، عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة، ذكر النبي فيه فقال: { وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف } "، ولأنه لو رأى هلال النحر لما اشتهر، والهلال اسم استهل به، فإن الله جعل الهلال مواقيت للناس والحج، وهذا إنما يكون إذا استهل به الناس، والشهر بين، وإن لم يكن هلالا ولا شهرا، وأصل هذه المسألة أن الله سبحانه وتعالى علق أحكاما شرعية بمسمى الهلال، والشهر: كالصوم والفطر والنحر، فقال تعالى: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج }، فبين سبحانه أن الأهلة مواقيت للناس والحج، قال تعالى: { كتب عليكم الصيام } - إلى قوله - { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس }، أنه أوجب صوم شهر رمضان، وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء ؟ وإن لم يعلم به الناس ؟ وبه يدخل ؟ الشهر، أو الهلال اسم لما يستهل به الناس، والشهر لما اشتهر بينهم ؟ على قولين: فمن قال بالأول يقول: من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم، ودخل شهر رمضان في حقه، وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان، وإن لم يعلم غيره، ويقول من لم يره إذا تبين له أنه كان طالعا قضى الصوم، وهذا هو القياس في شهر الفطر، وفي شهر النحر، لكن شهر النحر ما علمت أن أحدا قال من رآه يقف وحده، دون سائر الحاج، وأنه ينحر في اليوم الثاني، ويرمي جمرة العقبة، ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر: فالأكثرون ألحقوه بالنحر، وقالوا لا يفطر إلا مع المسلمين ; وآخرون قالوا بل الفطر كالصوم، ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يوما، وتناقض هذه الأقوال يدل على أن الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة، وحينئذ فشرط كونه هلالا وشهرا شهرته بين الناس، واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة، ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد، لكون شهادتهم مردودة، أو لكونهم لم يشهدوا به، كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين، فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين، وهذا معنى قوله: { صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون } "، ولهذا قال أحمد في روايته: يصوم مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم، قال أحمد: يد الله على الجماعة، وعلى هذا تفترق أحكام الشهر: هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم ؟ أو ليس شهرا في حقهم كلهم ؟ يبين ذلك قوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }، فإنما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس، حتى يتصور شهوده، والغيبة عنه، وقول النبي : { إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وصوموا من الوضح إلى الوضح } "، ونحو ذلك خطاب للجماعة، لكن من كان في مكان ليس فيه غيره، إذا رآه صامه، فإنه ليس هناك غيره، وعلى هذا فلو أفطر ثم تبين أنه رئي في مكان آخر أو ثبت نصف النهار، لم يجب عليه القضاء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، فإنه إنما صار شهرا في حقهم من حين ظهر، واشتهر، ومن حينئذ وجب الإمساك كأهل عاشوراء: الذين أمروا بالصوم في أثناء اليوم، ولم يؤمروا بالقضاء على الصحيح، وحديث القضاء ضعيف، والله أعلم .

- مسألة: في رجل اعتقد مسألة الدور المسندة لابن سريج، ثم حلف بالطلاق على شيء لا يفعله ثم فعله، ثم رجع عن المسألة وراجع زوجته، ثم بعد ذلك حلف على شيء بالطلاق الثلاث أن لا يفعله، ثم بعد ذلك قال لزوجته: أنت طالق: فهل يقع عليه الطلاق الثلاث ؟ أم يستعمل المسألة الأولى: المشار إليها ؟ الجواب: المسألة السريجية باطلة في الإسلام، محدثة، لم يفت بها أحد من الصحابة والتابعين ولا تابعيهم ; وإنما ذكرها طائفة من الفقهاء بعد المائة الثالثة، وأنكر ذلك عليهم جمهور فقهاء المسلمين، وهو الصواب ; فإن ما قاله أولئك يظهر فساده من وجوه، منها أنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله أباح الطلاق كما أباح النكاح، وأن دين المسلمين مخالف لدين النصارى الذي لا يبيحون الطلاق، فلو كان في دين المسلمين ما يمتنع معه الطلاق لصار دين المسلمين مثل دين النصارى، وشبهة هؤلاء أنهم قالوا: إذا قال لامرأته: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم طلقها بعد ذلك طلاقا منجزا: لزم أن يقع المعلق، ولو وقع المعلق يقع المنجز، فكان وقوعه يستلزم عدم وقوعه: فلا يقع ; وهذا خطأ ; فإن قولهم: لو وقع المنجز لوقع المعلق، إنما يصح لو كان التعليق صحيحا ; فأما إذا كان التعليق باطلا لا يلزم وقوع التعليق، والتعليق باطل، لأن مضمونه وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث باطل في دين المسلمين، ومضمونه أيضا إذا وقع عليك طلاقي لم يقع عليك طلاقي، وهذا جمع بين النقيضين ; فإنه إذا لم يقع الشرط لم يقع الجزاء، وإذا وقع الشرط لزم الوقوع، فلو قيل: لا يقع مع ذلك، لزم أن يقع ولا يقع، وهذا جمع بين النقيضين، وأيضا فالطلاق إذا وقع لم يرتفع بعد وقوعه، فلما كان كلام المطلق يتضمن محالا في الشريعة - وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث - ومحالا في العقل، وهو الجمع بين وقوع الطلاق وعدم وقوعه: كان القائل بالتسريج مخالفا للعقل والدين ; لكن إذا اعتقد الحالف صحة هذا اليمين باجتهاد أو تقليد، وطلق بعد ذلك معتقدا أنه لا يقع به الطلاق: لم يقع به الطلاق ; لأنه لم يقصد التكلم بما يعتقده طلاقا ; فصار كما لو تكلم العجمي بلفظ الطلاق وهو لا يفهمه ; بل وكذلك لو خاطب من يظنها أجنبية بالطلاق فتبين أنها امرأته ; فإنه لا يقع به على الصحيح، ولو تبين له فساد التسريج بعد ذلك ، وأنه يقع المنجز لم يكن ظهور الحق له فيما بعد موجبا لوقوع الطلاق عليه، وكذلك إن احتاط فراجع امرأته خوفا أن يكون الطلاق وقع به، أو معتقدا وقوع الطلاق به لم يقع، ولو أقر بعد ما تبين له فساد التسريج أن الطلاق وقع لم يقع بهذا الإقرار شيء، ولو اعتقد وقوع الطلاق فراجع امرأته، ثم فعل المحلوف عليه معتقدا أنه قد حنث فيه مرة فلا يحنث فيه مرة ثانية: لم يقع به: فهذا الفعل شيء واليمين التي حلف بها أنه لا يفعل ذلك الشيء باقية، فإن كان سبب اليمين باقيا فهي باقية، وإن زال سبب اليمين فله فعل المحلوف عليه ; بناء على ذلك، ولم يحنث، وكذلك لو تزوجها ثم فعل المحلوف عليه معتقدا أن البينونة حصلت وانقطع حكم اليمين الأولى لم يحنث ; لاعتقاده زوال اليمين، كما لا يحنث الجاهل بأن ما فعله هو المحلوف عليه في أصح قولي العلماء، وأما قوله لزوجته بعد ذلك: أنت طالق، فإنه تقع هذه الطلقة، وإذا اعتقد أنه بهذه الطلقة قد كملت ثلاثا، وأقر أنه طلقها ثلاثا، لم يقع بهذا الاعتقاد شيء، ولا بهذا الإقرار .

- مسألة: في رجل كان له زوجة وطلقها ثلاثا، وله منها بنت ترضع وقد ألزموه بنفقة العدة، فكم تكون مدة العدة التي لا تحيض فيها لأجل الرضاعة ؟ الجواب: الحمد لله، أما جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد فعندهم لا نفقة للمعتدة البائن المطلقة ثلاثا، وأما أبو حنيفة فيوجب لها النفقة ما دامت في العدة، وإذا كانت ممن تحيض فلا تزال في العدة حتى تحيض ثلاث حيض، والمرضع يتأخر حيضها في الغالب، وأما أجر الرضاع فلها ذلك باتفاق العلماء، كما قال تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ولا تجب النفقة إلا على الموسر فأما المعسر فلا نفقة عليه .

-مسألة: في رجل تزوج امرأة من مدة ثلاث سنين، ورزق منها ولدا له من العمر سنتان، وذكرت أنها لما تزوجت لم تحض إلا حيضتين، وصدقها الزوج، وكان قد طلقها ثانيا على هذا العقد المذكور: فهل يجوز الطلاق على هذا العقد المفسوخ ؟ الجواب: إن صدقها الزوج في كونها تزوجت قبل الحيضة الثالثة فالنكاح باطل، وعليه أن يفارقها، وعليها أن تكمل عدة الأول، ثم تعتد من وطء الثاني، فإن كانت حاضت الثالثة قبل أن يطأها الثاني فقد انقضت عدة الأول ; ثم إذا فارقها الثاني اعتدت له ثلاث حيض، ثم تزوج من شاءت بنكاح جديد، وولده ولد حلال يلحقه نسبه ; وإن كان قد ولد بوطء في عقد فاسد لا يعلم فساده .

-مسألة: في رجل طلق زوجته ثلاثا وألزمها بوفاء العدة في مكانها، فخرجت منه قبل أن توفي العدة وطلبها الزوج ما وجدها، فهل لها نفقة العدة ؟ الجواب: لا نفقة لها وليس لها أن تطالب بنفقة الماضي في مثل هذه العدة في المذاهب الأربعة، والله أعلم .

-مسألة: في امرأة كانت تحيض وهي بكر، فلما تزوجت ولدت ستة أولاد ولم تحض بعد ذلك، ووقعت الفرقة من زوجها وهي مرضع، وأقامت عند أهلها نصف سنة ولم تحض، وجاء رجل يتزوجها غير الزوج الأول، فحضروا عند قاض من القضاة، فسألها عن الحيض ؟ فقالت: لي مدة سنين ما حضت فقال القاضي: ما يحل لك عندي زواج، فزوجها حاكم آخر ولم يسألها عن الحيض، فبلغ خبرها إلى قاض آخر، فاستحضر الزوج والزوجة، فضرب الرجل مائة جلدة، وقال: زنيت، وطلق عليه، ولم يذكر الزوج الطلاق فهل يقع به طلاق ؟ الجواب: إن كان قد ارتفع حيضها بمرض أو رضاع فإنها تتربص حتى يزول العارض وتحيض باتفاق العلماء ; وإن كان ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فهذه في أصح قولي العلماء على ما قال عمر: تمكث سنة، ثم تزوج، وهو مذهب أحمد المعروف في مذهبه، وقول للشافعي: وإن كانت " في القسم الأول " فنكاحها باطل، والذي فرق بينهما أصاب في ذلك، وأصاب في تأديب من فعل ذلك، وإن كانت من " القسم الثاني " قد زوجها حاكم لم يكن لغيره من الحكام أن يفرق بينهما، ولم يقع بها طلاق، فإن فعل الحاكم لمثل ذلك يجوز في أصح الوجهين .

-مسألة: في رجل طلق زوجته ثلاثا وأوفت العدة عنده وخرجت بعد وفاء العدة تزوجت وطلقت في يومها، ولم يعلم مطلقها إلا ثاني يوم، فهل يجوز له أن يتفق معهما إذا أوفت عدتها أن يراجعها ؟ الجواب: ليس له في زمن العدة من غيره أن يخطبها ولا ينفق عليها ليتزوجها وإذا كان الطلاق رجعيا لم يجز له التعريض أيضا، وإن كان بائنا ففي جواز التعريض نزاع، هذا إذا كانت قد تزوجت بنكاح رغبة، وأما إن كانت قد تزوجت بنكاح محلل، فقد { لعن رسول الله المحلل والمحلل له } .

-مسألة: في مرضع استبطأت الحيض، فتداوت لمجيء الحيض، فحاضت ثلاث حيض وكانت مطلقة: فهل تنقضي عدتها ; أم لا ؟ الجواب: نعم إذا أتى الحيض المعروف لذلك اعتدت به، كما أنها لو شربت دواء قطع الحيض أو باعد بينه: كان ذلك طهرا، وكما لو جاعت أو تعبت ; أو أتت غير ذلك من الأسباب التي تسخن طبعها وتثير الدم فحاضت بذلك، والله أعلم .

-مسألة: في رجل طلق زوجته ثلاثا وانقضت عدتها فمنعها أن تتزوج إلا بمن يختار هو وتوعدها على مخالفته، فما يجب عليه ؟ الجواب: ليس له ذلك، بل هو بذلك عاص آثم معتد ظالم، والمرأة إذا تزوجت بكفء لم يكن لوليها الاعتراض عليها بقول أو فعل بل يزوجها به فكيف مطلقها ؟ وإن اعتدى عليها بقول أو عمل عوقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله من المعتدين عن مثل هذا .

-مسألة: في رجل طلق زوجته ثلاثا ثم أوفت العدة ثم تزوجت بزوج ثان، وهو المستحل، فهل الاستحلال يجوز بحكم ما جرى لرفاعة مع زوجته في أيام النبي أم لا ؟ ثم إنها أتت لبيت الزوج الأول طالبة لبعض حقها فغلبها على نفسها، ثم أنها قعدت أياما وخافت فادعت أنها حاضت لكي يردها الزوج الأول، فراجعها إلى عصمته بعقد شرعي، وأقام معها أياما فظهر عليها الحمل وعلم أنها كانت كاذبة في الحيض، فاعتزلها إلى أن تهتدي بحكم الشرع الشريف ؟ الجواب: أما إذا تزوجها زوج ليحلها لزوجها المطلق، فهذا المحلل، وقد صح عن النبي أنه قال: { لعن الله المحلل والمحلل له }، وأما حديث رفاعة فذاك كان قد تزوجها نكاحا ثابتا، لم يكن قد تزوجها ليحلها للمطلق، وإذا تزوجت بالمحلل، ثم طلقها، فعليها العدة باتفاق العلماء، إذ غايتها أن تكون موطوءة في نكاح فاسد، فعليها العدة منه، وما كان يحل للأول وطؤها وإذا وطئها فهو زان عاهر، ونكاحها بالأول قبل أن تحيض ثلاثا باطل باتفاق الأئمة، وعليه أن يعتزلها فإذا جاءت بولد لحق بالمحلل، فإنه هو الذي وطئها في نكاح فاسد . ولا يلحق الولد بالواطئ في النكاح الأول، لأن عدته انقضت وتزوجت بعد ذلك لمن وطئها، وهذا يقطع حكم الفراش بلا نزاع بين الأئمة ; ولا يلحق بوطئه زنا لأن النبي قال: { الولد للفراش وللعاهر الحجر }، لكن إن علم المحلل أن الولد ليس منه بل من هذا العاهر فعليه أن ينفيه باللعان فيلاعنها لعانا ينقطع فيه نسب الولد، ويلحق نسب الولد بأمه ولا يلحق بالعاهر بحال .

مسألة: في أمة متزوجة وسافر زوجها وباعها سيدها، وشرط أن لها زوجا فقعدت عند الذي اشتراها أياما، فأدركه الموت فأعتقها، فتزوجت ولم يعلم أن لها زوجا، فلما جاء زوجها الأول من السفر أعطى سيدها الذي باعها الكتاب لزوجها الذي جاء من السفر، الكتاب بعقد صحيح شرعي، فهل يصح العقد بكتاب الأول أو الثاني ؟ الجواب: إن كان تزوجها نكاحا شرعيا، إما على قول أبي حنيفة بصحة نكاح الحر بالأمة، وإما على قول مالك والشافعي وأحمد بأن يكون عادما الطول خائفا من العنت نكاحه لا يبطل بعتقها، بل هي زوجته بعد العتق، لكن عند أبي حنيفة في رواية لها الفسخ، فلها أن تفسخ النكاح، فإذا قضت عدته تزوجت بغيره، إن شاءت، وعند مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه لا خيار لها بل هي زوجته، ومتى تزوجت قبل أن ينفسخ النكاح، فنكاحها باطل باتفاق الأئمة، وأما إن كان نكاحها الأول فاسدا فإنه يفرق بينهما، وتتزوج من شاءت بعد انقضاء العدة .

-مسألة: في امرأة أبرأت زوجها من جميع صداقها، ثم بعد ذلك أشهد الزوج على نفسه أنه طلق زوجته المذكورة على البراءة، وكانت البراءة تقدمت على ذلك، فهل يصح الطلاق ؟ وإذا وقع يقع رجعيا أم لا ؟ الجواب: إن كانا قد تواطأ على أن توهبه الصداق وتبريه على أن يطلقها فأبرأته ثم طلقها كان ذلك طلاقا بائنا، وكذلك لو قال لها: أبرئيني وأنا أطلقك أو إن أبرأتني طلقتك ونحو ذلك من عبارات الخاصة والعامة التي يفهم منها أنه سأل الإبراء على أن يطلقها أو أنها أبرأته على أن يطلقها، وأما إن كانت برأته براءة لا تتعلق بالطلاق ثم طلقها بعد ذلك، فالطلاق رجعي، ولكن هل لها أن ترجع في الإبراء إذا كان يمكن لكون مثل هذا الإبراء لا يصدر في العادة إلا لأن يمسكها أو خوفا من أن يطلقها أو يتزوج عليها أو نحو ذلك، فيه قولان هما روايتان عن أحمد، وأما إذا كانت قد طابت نفسها بالإبراء مطلقا وهو أن يكون ابتداء منها لا بسبب منه ولا عوض فهنا لا ترجع فيه بلا ريب، والله أعلم .

مسألة: في رجل تزوج عند قوم مدة سنة، ثم جرى بينهم كلام، فادعوا عليه بكسوة سنة، فأخذوها منه، ثم ادعوا عليه بالنفقة، وقالوا: هي تحت الحجر ; وما أذنا لك أن تنفق عليها: فهل يجوز ذلك ؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، إذا كان الزوج تسلمها التسليم الشرعي وهو أو أبوه أو نحوهما يطعمها كما جرت به العادة: لم يكن للأب ولا لها أن تدعي بالنفقة ; فإن هذا هو الإنفاق بالمعروف الذي كان على عهد رسول الله وأصحابه وسائر المسلمين في كل عصر ومصر، وكذلك نص على ذلك أئمة العلماء ; بل من كلف الزوج أن يسلم إلى أبيها دراهم ليشتري لها بها ما يطعمها في كل يوم فقد خرج عن سنة رسول الله والمسلمين ; وإن [ كان ] هذا قد قاله بعض الناس، فكيف إذا كان قد أنفق عليها بإقرار الأب لها بذلك ; وتسليمها إليهم ; مع أنه لا بد لها من الأكل ; ثم أراد أن يطلب النفقة ; ولا يعتد بما أنفقوا عليها ; فإن هذا باطل في الشريعة لا تحتمله أصلا، ومن توهم ذلك معتقدا أن النفقة حق لها كالدين، فلا بد أن يقبضه الولي، وهو لم يأذن فيه: كان مخطئا من وجوه، منها: أن المقصود بالنفقة إطعامها ; لا حفظ المال لها، الثاني: أن قبض الولي لها ليس فيه فائدة، الثالث: أن ذلك لا يحتاج إلى إذنه ; فإنه واجب لها بالشرع، والشارع أوجب الإنفاق عليها، فلو نهى الولي عن ذلك لم يلتفت إليه، الرابع: إقراره لها مع حاجته إلى النفقة إذن عرفي ولا يقال، إنه لم يأمن الزوج على النفقة ; لوجهين: إحداهما: أن الائتمان بها حصل بالشرع، كما أوتمن الزوج على بدنها، والقسم لها، وغير ذلك من حقوقها ; فإن الرجال قوامون على النساء، والنساء عوان عند الرجال، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، الثاني: أن الائتمان العرفي كاللفظي، والله أعلم .

-مسألة: فيمن قال من تبع هذه الفتيا وعمل بها فولده بعد ذلك ولد زنا، فإنه في غاية الجهل والضلال، والمشاقة لله ولرسوله، فإن المسلمين متفقون على أن كل نكاح اعتقد الزوج أنه نكاح سائغ إذا وطئ فيه فإنه يلحقه فيه ولده ويتوارثان باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا في نفس الأمر باتفاق المسلمين، سواء كان الناكح كافرا أو مسلما، واليهودي إذا تزوج بنت أخيه كان ولده منها يلحقه بنسبه ويرثه باتفاق المسلمين، وإن كان ذلك النكاح باطلا، باتفاق المسلمين، ومن استحله كان كافرا تجب استتابته، وكذلك المسلم الجاهل لو تزوج امرأته في عدتها كما يفعل جهال الأعراب ووطئها يعتقدها زوجة كان ولده منها يلحقه بنسبه ويرثه باتفاق المسلمين، ومثل هذا كثير، فإن ثبوت النسب لا يفتقر إلى صحة النكاح في نفس الأمر، بل الولد للفراش كما قال النبي { الولد للفراش، وللعاهر الحجر } فمن طلق امرأته ثلاثا ووطئها، يعتقد أنه لم يقع بها الطلاق إما لجهله، وإما لمفت مخطئ قلده الزوج، وإما لغير ذلك، فإنه يلحقه النسب ويتوارثان بالاتفاق، بل ولا تحسب العدة إلا من حين ترك وطأها، فإنه كان يطؤها معتقدا أنها زوجته فهي فراش له، فلا تعتد له حتى يزول الفراش، ومتى نكح امرأة نكاحا فاسدا، متفقا على فساده أو مختلفا في فساده لو ملكها ملكا فاسدا متفقا على فساده أو مختلفا في فساده، ووطئها يعتقدها زوجته الحرة أو أمته المملوكة، فإن ولده منها يلحقه نسبه ويتوارثان باتفاق المسلمين، والولد يكون أيضا حرا وإن كانت الموطوءة مملوكة للغير في نفس الأمر، ووطئت بدون إذن سيدها، لكن لما كان الواطئ مغرورا زوج بها وقيل له هي حرة، أو بيعت منه فاشتراها يعتقدها ملكا للبائع فإنما وطئ من يعتقدها زوجته الحرة أو أمته المملوكة، فولده منها حر لأجل اعتقاده، وإن كان اعتقاده مخطئا، وبهذا قضى الخلفاء الراشدون، واتفق عليه أئمة المسلمين، فهؤلاء الذين وطئوا أو جاءهم أولاد لو كانوا قد وطئوا في نكاح فاسد متفق على فساده، وكان الطلاق وقع بهم باتفاق المسلمين، وهم وطئوا يعتقدون أن النكاح باق، لأجل فتيا من أفتاهم أو لغير ذلك كان نسب الأولاد بهم لاحقا، ولم يكونوا أولاد زنا، بل يتوارثون باتفاق المسلمين، هذا في المجمع على فساده، فكيف في المختلف في فساده، وإن كان القول الذي وطئ به ضعيفا، كمن وطئ في نكاح المتعة، أو نكاح المرأة نفسها بلا ولي ولا شهود، فإن هذا إذا وطئ فيه يعتقده نكاحا لحقه فيه النسب ; فكيف بنكاح مختلف فيه، وقد ظهرت حجة القول بصحته بالكتاب والسنة والقياس، وظهر ضعف القول الذي يناقضه، وعجز أهله عن نصرته بعد البحث التام لانتفاء الحجة الشرعية، فمن قال إن هذا النكاح أو مثله يكون الولد فيه ولد زنا لا يلحقه نسبه ولا يتوارث هو وأبوه الواطئ فإنه مخالف لإجماع المسلمين، منسلخ من ربقة الدين، فإن كان جاهلا عرف وبين له أن رسول الله وخلفاءه الراشدين وسائر أئمة الدين ألحقوا أولاد الجاهلية بآبائهم وإن كانت محرمة بالإجماع، ولم يشترطوا في لحوق النسب أن يكون النكاح جائزا في شرع المسلمين فإن أصر على مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتباع غير سبيل المؤمنين فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فقد ظهر أن من أنكر الفتيا بأنه لا يقع الطلاق، وادعى الإجماع على وقوعه وقال إن الولد ولد زنا، هو مخالف لإجماع المسلمين، مخالف لكتاب الله وسنة رسول رب العالمين، وأن المفتي بذلك أو القاضي به فعل ما يسوغ بإجماع المسلمين، وليس لأحد المنع من الفتيا بقوله أو القضاء بذلك، ولا الحكم بالمنع من ذلك باتفاق المسلمين، والأحكام المخالفة للإجماع باطلة بإجماع المسلمين والله أعلم .

مسألة: في رجل تزوج بامرأة ودخل بها وهو مستمر [ في ] النفقة وهي ناشز، ثم إن ولدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج فماذا يجب عليهما ؟ الجواب: الحمد لله، إذا سافر بها بغير إذن الزوج فإنه يعزر على ذلك، وتعزر الزوجة إذا كان التخلف يمكنها، ولا نفقة لها من حين سافرت، والله أعلم .

-مسألة: في رجل تزوج بامرأة ودخل بها، وهو مستمر النفقة، وهي ناشز، ثم إن والدها أخذها وسافر من غير إذن الزوج: فما يجب عليهما ؟ الجواب: الحمد لله، إذا سافر بها بغير إذن الزوج فإنه يعزر على ذلك، وتعزر الزوجة إذا كان التخلف يمكنها، ولا نفقة لها من حين سافرت، والله أعلم، .

- مسألة: في رجل ماتت زوجته، وخلفت له ثلاث بنات: فأعطاهم لحميه وحماته وقال: روحوا بهم إلى بلدكم، حتى أجيء إليهم ; فغاب عنهم ثلاث سنين فهل على والدهم نفقتهم وكسوتهم في هذه المدة أم لا ؟، الجواب: ما أنفقوه عليهم بالمعروف بنية الرجوع به على والدهم فلهم الرجوع به عليه، إذا كان ممن تلزمه نفقتهم، والله أعلم .

- مسألة: في رجل رأى رجلا قتل ثلاثة من المسلمين في شهر رمضان، ولحس السيف بفمه، وأن ولي الأمر لم يقدر عليه ليقيم عليه الحد، وأن الذي رآه قد وجده في مكان لم يقدر على مسكه: فهل له أن يقتل القاتل المذكور بغير حق ؟ وإذا قتله هل يؤجر على ذلك أو يطالب بدمه ؟

الجواب: إن كان قاطع طريق قتلهم لأخذ أموالهم وجب قتله، ولا يجوز العفو عنه، وإن كان قتلهم لغرض خاص مثل خصومة بينهم، أو عداوة: فأمره إلى ورثة القتيل: إن أحبوا قتله قتلوه، وإن أحبوا عفوا عنه، وإن أحبوا أخذوا الدية فلا يجوز قتله إلا بإذن الورثة الآخرين، وأما إن كان قاطع طريق: فقيل: بإذن الإمام ; فمن علم أن الإمام أذن في قتله بدلائل الحال جاز أن يقتله على ذلك، وذلك مثل أن يعرف أن ولاة الأمور يطلبونه ليقتلوه، وأن قتله واجب في الشرع: فهذا يعرف أنهم آذنون في قتله ; وإذا وجب قتله كان قاتله مأجورا في ذلك .

- مسألة: في رجلين قبض أحدهما لواحد، والآخر ضربه فشلت يده ؟ الجواب: الحمد لله، هذا فيه نزاع، والأظهر أنه يجب على الاثنين القود إن وجب، وإلا فالدية عليهما، والله أعلم .

مسألة: في قوله تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها } إلى قوله: { واعلموا أن الله بما تعملون بصير }، مع قوله: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } إلى قوله: { سيجعل الله بعد عسر يسرا }، في ذلك أنواع من الأحكام بعضها مجمع عليه، وبعضها متنازع فيه، وإذا تدبرت كتاب الله تبين أنه يفصل النزاع بين من يحسن الرد إليه، وأن من لم يهتد إلى ذلك ; فهو إما لعدم استطاعته، فيعذر، أو لتفريطه فيلام، وقوله تعالى: { حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } يدل على أن هذا تمام الرضاعة، وما بعد ذلك فهو غذاء من الأغذية، وبهذا يستدل من يقول: الرضاع بعد الحولين بمنزلة رضاع الكبير، وقوله: { حولين كاملين } يدل على أن لفظ " الحولين " يقع على حول وبعض آخر، وهذا معروف في كلامهم، يقال: لفلان عشرون عاما إذا أكمل ذلك، قال الفراء والزجاج وغيرهما: لما جاز أن يقول: " حولين " ويريد أقل منهما، كما قال تعالى: { فمن تعجل في يومين }، ومعلوم أنه يتعجل في يوم وبعض آخر ; وتقول: لم أر فلانا يومين، وإنما تريد يوما وبعض آخر، قال: { كاملين } ليبين أنه لا يجوز أن ينقص منهما، وهذا بمنزلة قوله تعالى: { تلك عشرة كاملة }، فإن لفظ " العشرة " يقع على تسعة وبعض العاشر، فيقال: أقمت عشرة أيام، وإن لم يكملها، فقوله هناك { كاملة } بمنزلة قوله هنا { كاملين }، وفي الصحيحين: عن النبي أنه: قال { الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفورا طيبة به نفسه أحد المتصدقين }، فالكامل الذي لم ينقص منه شيء ; إذ الكمال ضد النقصان، وأما الموفر " فقد قال: أجرهم موفرا، يقال: الموفر، للزائد ; ويقال: لم يكلم، أي يجرح، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في " كتاب الزهد " { عن وهب بن منبه: أن الله تعالى قال لموسى: وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا ; لم تكلمه الدنيا ولم تكلمه نطعة الهوى }، وكان هذا تغيير الصفة، وذاك نقصان القدر، وذكر " أبو الفرج " هل هو عام في جميع الوالدات ؟ أو يختص بالمطلقات ؟ على قولين، والخصوص قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل، في آخرين، والعموم قول أبي سليمان الدمشقي والقاضي أبي يعلى في آخرين، قال القاضي: ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة، قلت: الآية حجة عليهم ; فإنها أوجبت للمرضعات رزقهن وكسوتهن بالمعروف ; لا زيادة على ذلك، وهو يقول: تؤجر نفسها بأجرة غير النفقة، والآية لا تدل على هذا ; بل إذا كانت الآية عامة دلت على أنها ترضع ولدها مع إنفاق الزوج عليها، كما لو كانت حاملا فإنه ينفق عليها وتدخل نفقة الولد في نفقة الزوجية ; لأن الولد يتغذى بغذاء أمه، وكذلك في حال الرضاع فإن نفقة الحمل هي نفقة المرتضع، وعلى هذا فلا منافاة بين القولين ; فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع، كما ذكر في " سورة الطلاق " وهذا مختص بالمطلقة، وقوله تعالى: { حولين كاملين } قد علم أن مبدأ الحول من حين الولادة والكمال إلى نظير ذلك، فإذا كان من عاشر المحرم كان الكمال في عاشر المحرم في مثل تلك الساعة ; فإن الحول المطلق هو اثنا عشر شهرا من الشهر الهلالي، كما قال تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } وهكذا ما ذكره من العدة أربعة أشهر وعشرا، أولها من حين الموت وآخرها إذا مضت عشر بعد نظيره ; فإذا كان في منتصف المحرم فآخرها خامس عشر المحرم، وكذلك الأجل المسمى في البيوع وسائر ما يؤجل بالشرع وبالشرط، وللفقهاء هنا قولان آخران ضعيفان: أحدهما: قول من يقول: إذا كان في أثناء الشهر كان جميع الشهور بالعدد، فيكون الحولان ثلثمائة وستين، وعلى هذا القول تزيد المدة اثني عشر يوما، وهو غلط بين، والقول الثاني: قول من يقول: منها واحد بالعدد، وسائرها بالأهلة، وهذا أقرب ; لكن فيه غلط ; فإنه على هذا إذا كان المبدأ عاشر المحرم وقد نقص المحرم كان تمامه تاسعه، فيكون التكميل أحد عشر، فيكون المنتهى حادي عشر المحرم، وهو غلط أيضا، وظاهر القرآن يدل على أن على الأم إرضاعه لأن قوله: { يرضعن } خبر في معنى الأمر، وهي مسألة نزاع ; ولهذا تأولها من ذهب إلى القول الآخر، قال القاضي أبو يعلى: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء ; لأن عليهم الاسترضاع ; لا على الوالدات ; بدليل قوله: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } وقوله: { فآتوهن أجورهن } فلو كان متحتما على الوالدة لم يكن عليه الأجرة، فيقال: بل القرآن دل على أن للابن على الأم الفعل، وعلى الأب النفقة ولو لم يوجد غيرها تعين عليها، وهي تستحق الأجرة، والأجنبية تستحق الأجرة ولو لم يوجد غيرها، وقوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } دليل على أنه لا يجوز أن يريد إتمام الرضاع ويجوز الفطام قبل ذلك إذا كان مصلحة، وقد بين ذلك بقوله تعالى: { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما }، وذلك يدل على أنه لا يفصل إلا برضى الأبوين، فلو أراد أحدهما الإتمام والآخر الفصال قبل ذلك كان الأمر لمن أراد الإتمام ; لأنه قال تعالى: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن }، وقوله تعالى: { يرضعن } صيغة خبر، ومعناه الأمر، والتقدير والوالدة مأمورة بإرضاعه حولين كاملين إذا أريد إتمام الرضاعة ; فإذا أرادت الإتمام كانت مأمورة بذلك، وكان على الأب رزقها وكسوتها، وإن أراد الأب الإتمام كان له ذلك ; فإنه لم يبح الفصال إلا بتراضيهما جميعا، يدل على ذلك قوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة }، ولفظة { من } إما أن يقال: هو عام يتناول هذا وهذا ويدخل فيه الذكر والأنثى، فمن أراد الإتمام أرضعن له .

وإما أن يقال: قوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } إنما هو المولود له وهو المرضع له، فالأم تلد له وترضع له، كما قال تعالى: { فإن أرضعن لكم }، والأم كالأجير مع المستأجر، فإن أراد الأب الإتمام أرضعن له، وإن أراد أن لا يتم [ فله ذلك ] وعلى هذا التقدير فمنطوق الآية أمرهن بإرضاعه عند إرادة الأب، ومفهومها أيضا جواز الفصل بتراضيهما، يبقى إذا أرادت الأم دون الأب مسكوتا عنه ; لكن مفهوم قوله تعالى: { عن تراض } أنه لا يجوز، كما ذكر ذلك مجاهد وغيره ; ولكن تناوله قوله تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }، فإنها إذا أرضعت تمام الحول فله أرضعت، وكفته بذلك مؤنة الطفل، فلولا رضاعها لاحتاج إلى أن يطعمه شيئا آخر، ففي هذه الآية بين أن على الأم الإتمام إذا أراد الأب، وفي تلك بين أن على الأب الأجر إذا أبت المرأة قال مجاهد: " التشاور " فيما دون الحولين: إن أرادت أن تفطم وأبى فليس لها، وإن أراد هو ولم ترد فليس له ذلك حتى يقع ذلك على تراض منهما وتشاور، يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما ولا رضيعهما، وقوله تعالى: { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف }، قال إذا أسلمتم أيها الآباء إلى أمهات الأولاد أجر ما أرضعن قبل امتناعهن ; روي عن مجاهد والسدي وقيل: إذا أسلمتم إلى الظئر أجرها: بالمعروف، روي عن سعيد بن جبير ومقاتل، وقرأ ابن كثير: { أتيتم } بالقصر، وقوله تعالى: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ولم يقل: وعلى الوالد كما قال والوالدات لأن المرأة هي التي تلده، وأما الأب فلم يلده ; بل هو مولود له لكن إذا قرن بينهما قيل: { وبالوالدين إحسانا } فأما مع الإفراد فليس في القرآن تسميته والدا، بل أبا، وفيه بيان أن الولد ولد للأب ; لا للأم ; ولهذا كان عليه نفقته حملا وأجرة رضاعه، وهذا يوافق قوله تعالى: { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور }، فجعله موهوبا للأب، وجعل بيته في قوله: { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } وإذا كان الأب هو المنفق عليه جنينا ورضيعا، والمرأة وعاء: فالولد زرع للأب قال تعالى: { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم }، فالمرأة هي الأرض المزروعة، والزرع فيها للأب، وقد { نهى النبي أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره }، يريد به النهي عن وطء الحبالى، فإن ماء الواطئ يزيد في الحمل كما يزيد الماء في الزرع، وفي الحديث الآخر الصحيح: { لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه من قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له، وكيف يستعبده وهو لا يحل له ؟ }، وإذا كان الولد للأب وهو زرعه كان هذا مطابقا لقوله : { أنت ومالك لأبيك }، وقوله : { إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه } فقد حصل الولد من كسبه، كما دلت عليه هذه الآية ; فإن الزرع الذي في الأرض كسب المزدرع له الذي بذره وسقاه وأعطى أجرة الأرض، فإن الرجل أعطى المرأة مهرها، وهو أجر الوطء، كما قال تعالى: { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن }، وهو مطابق لقوله تعالى: { ما أغنى عنه ماله وما كسب }، وقد فسر { ما كسب } بالولد، فالأم هي الحرث وهي الأرض التي فيها زرع، والأب استأجرها بالمهر كما يستأجر الأرض، وأنفق على الزرع بإنفاقه لما كانت حاملا، ثم أنفق على الرضيع، كما ينفق المستأجر على الزرع والثمر إذا كان مستورا وإذا برز ; فالزرع هو الولد، وهو من كسبه، وهذا يدل على أن للأب أن يأخذ من ماله ما لا يضر به ; كما جاءت به السنة، وإن ماله للأب مباح، وإن كان ملكا للابن فهو مباح للأب أن يملكه وإلا بقي للابن ; فإذا مات ولم يتملكه ورث عن الابن، وللأب أيضا أن يستخدم الولد ما لم يضر به، وفي هذا وجوب طاعة الأب على الابن إذا كان العمل مباحا لا يضر بالابن ; فإنه لو استخدم عبده في معصية أو اعتدى عليه لم يجز فالابن أولى، ونفع الابن له إذا لم يأخذه الأب ; بخلاف نفع المملوك فإنه لمالكه، كما أن ماله لو مات لمالكه لا لوارثه، ودل ما ذكره على أنه لا يجوز للرجل أن يطأ حاملا من غيره، وأنه إذا وطئها كان كسقي الزرع يزيد فيه وينميه ويبقى له شركة في الولد، فيحرم عليه استعباد هذا الولد، فلو ملك أمة حاملا من غيره ووطئها حرم استعباد هذا الولد ; لأنه سقاه ; ولقوله : { كيف يستعبده وهو لا يحل له }، " وكيف يورثه " أي يجعله موروثا منه " وهو لا يحل له "، ومن ظن أن المراد: كيف يجعله وارثا، فقد غلط ; لأن تلك المرأة كانت أمة للواطئ، والعبد لا يجعل وارثا، إنما يجعل موروثا، فأما إذا استبرئت المرأة علم أنه لا زرع هناك، ولو كانت بكرا أو عند من لا يطؤها ففيه نزاع، والأظهر جواز الوطء ; لأنه لا زرع هناك، وظهور براءة الرحم هنا أقوى من براءتها من الاستبراء بحيضة ; فإن الحامل قد يخرج منها من الدم مثل دم الحيض ; وإن كان نادرا، وقد تنازع العلماء هل هو حيض أو لا ؟ فالاستبراء ليس دليلا قاطعا على براءة الرحم ; بل دليل ظاهر، والبكارة وكونها كانت مملوكة لصبي أو امرأة أدل على البراءة وإن كان البائع صادقا وأخبره أنه استبرأها حصل المقصود، واستبراء الصغيرة التي لم تحض والعجوز والآيسة في غاية البعد، ولهذا اضطرب القائلون هل تستبرأ بشهر ؟ أو شهر ونصف ؟ أو شهرين ؟ أو ثلاثة أشهر ؟ وكلها أقوال ضعيفة، وابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يستبرئ البكر، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، والنبي لم يأمر بالاستبراء إلا في المسبيات، كما قال في سبايا أوطاس: { لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة } لم يأمر كل من ورث أمة أو اشتراها أن يستبرئها مع وجود ذلك في زمنه، فعلم أنه أمر بالاستبراء عند الجهل بالحال ; لإمكان أن تكون حاملا، وكذلك من ملكت وكان سيدها يطؤها ولم يستبرئها ; لكن النبي لم يذكر مثل هذا ; إذ لم يكن المسلمون يفعلون مثل هذا ; لا يرضى لنفسه أحد أن يبيع أمته الحامل منه ; بل لا يبيعها إذا وطئها حتى يستبرئها، فلا يحتاج المشتري إلى استبراء ثان، ولهذا لم ينه عن وطء الحبالى من [ السادات ] إذا ملكت ببيع أو هبة ; لأن هذا لم يكن يقع ; بل هذه دخلت في نهيه : { أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره }، وقوله تعالى: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف }، وقال تعالى في تلك الآية: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } يدل على أن هذا الأجر هو رزقهن وكسوتهن بالمعروف إذا لم يكن بينهما مسمى يرجعان إليه، " وأجرة المثل " إنما تقدر بالمسمى إذا كان هناك مسمى يرجعان إليه، كما في البيع والإجارة لما كان السلعة هي أو مثلها بثمن مسمى وجب ثمن المثل إذا أخذت بغير اختياره، وكما قال: النبي : { من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد } فهناك أقيم العبد ; لأنه ومثله يباع في السوق، فتعرف القيمة التي هي السعر في ذلك الوقت، وكذلك الأجير والصانع كما نهى النبي في الحديث الصحيح لعلي: { أن يعطي الجازر من البدن شيئا وقال: نحن نعطيه من عندنا }، فإن الذبح وقسمة اللحم على المهدي ; فعليه أجرة الجازر الذي فعل ذلك، وهو يستحق نظير ما يستحقه مثله إذا عمل ذلك ; لأن الجزارة معروفة، ولها عادة معروفة، وكذلك سائر الصناعات: كالحياكة، والخياطة، والبناء، وقد كان من الناس من يخيط بالأجرة على عهده فيستحق هذا الخياط ما يستحقه نظراؤه، وكذلك أجير الخدمة يستحق ما يستحقه نظيره ; لأن ذلك عادة معروفة عند الناس، وأما " الأم المرضعة " فهي نظير سائر الأمهات المرضعات بعد الطلاق وليس لهن عادة مقدرة إلا اعتبار حال الرضاع بما ذكر، وهي إذا كانت حاملا منه وهي مطلقة استحقت نفقتها وكسوتها بالمعروف، وهي في الحقيقة نفقة على الحمل، وهذا أظهر قولي العلماء، كما قال تعالى: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن }، وللعلماء هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن هذه النفقة نفقة زوجة معتدة، ولا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا، وهذا قول من يوجب النفقة للبائن كما يوجبها للرجعية، كقول طائفة من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره ; ويروى عن عمر وابن مسعود ; ولكن على هذا القول ليس لكونها حاملا تأثير، فإنهم ينفقون عليها حتى تنقضي العدة ; سواء كانت حاملا أو حائلا، القول الثاني: أنه ينفق عليها نفقة زوجة ; لأجل الحمل ; كأحد قولي الشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا قول متناقض ; فإنه إن كان نفقة زوجة فقد وجب لكونها زوجة ; لا لأجل الولد، وإن كان لأجل الولد فنفقة الولد تجب مع غير الزوجة، كما يجب عليه أن ينفق على سريته الحامل إذا أعتقها، وهؤلاء يقولون: هل وجبت النفقة للحمل ؟ أو لها من أجل الحمل ؟ على قولين، فإن أرادوا لها من أجل الحمل، أي لهذه الحامل من أجل حملها فلا فرق، وإن أرادوا - وهو مرادهم - أنه يجب لها نفقة زوجة من أجل الحمل: فهذا تناقض، فإن نفقة الزوجة تجب وإن لم يكن حمل، ونفقة الحمل تجب وإن لم تكن زوجة، والقول الثالث: وهو الصحيح: أن النفقة تجب للحمل ; ولها من أجل الحمل ; لكونها حاملا بولده ; فهي نفقة عليه، لكونه أباه، لا عليها لكونها زوجة، وهذا قول مالك، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد ; والقرآن يدل على هذا ; فإنه قال تعالى: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن }، ثم قال تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }، وقال هنا: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف }، فجعل أجر الإرضاع على من وجبت عليه نفقة الحامل ; ومعلوم أن أجر الإرضاع يجب على الأب لكونه أبا، فكذلك نفقة الحامل ; ولأن نفقة الحامل ورزقها وكسوتها بالمعروف ; وقد جعل أجر المرضعة كذلك ; ولأنه قال: { وعلى الوارث مثل ذلك } أي وارث الطفل، فأوجب عليه ما يجب على الأب، وهذا كله يبين أن نفقة الحمل والرضاع من " باب نفقة الأب على ابنه " ; لا من " باب نفقة الزوج على زوجته "، وعلى هذا فلو لم تكن زوجة بل كانت حاملا بوطء شبهة يلحقه نسبه أو كانت حاملا منه وقد أعتقها وجب عليه نفقة الحمل، كما يجب عليه نفقة الإرضاع ; ولو كان الحمل لغيره، كمن وطئ أمة غيره بنكاح أو شبهة أو إرث فالولد هنا لسيد الأمة، فليس على الواطئ شيء وإن كان زوجا، ولو تزوج عبد حرة فحملت منه فالنسب ههنا لاحق ; لكن الولد حر ; والولد الحر لا تجب نفقته على أبيه العبد ; ولا أجرة رضاعه ; فإن العبد ليس له مال ينفق منه على ولده، وسيده لا حق له في ولده ; فإن ولده: إما حر، وإما مملوك لسيد الأمة، نعم، لو كانت الحامل أمة والولد حر مثل المغرور الذي اشترى أمة فظهر أنها مستحقة لغير البائع، أو تزوج حرة فظهر أنها أمة ; فهنا الولد حر، وإن كانت أمة مملوكة لغير الواطئ ; لأنه إنما وطئ من يعتقدها مملوكة له أو زوجة حرة، وبهذا قضت الصحابة لسيد الأمة بشراء الولد وهو نظيره فهنا الآن ينفق على الحامل كما ينفق على المرضعة له، والله سبحانه وتعالى أعلم .

فصل والذين جوزوا المزارعة، منهم من اشترط أن يكون البذر من المالك، وقالوا: هذه هي المزارعة، فأما إن كان البذر من العامل لم يجز، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، وأصحاب مالك، والشافعي، حيث يجوزون المزارعة، وحجة هؤلاء قياسها على المضاربة، وبذلك احتج أحمد أيضا، قال الكرماني: قيل لأبي عبد الله: رجل دفع أرضه إلى الإكراء على الثلث أو الربع، قال: لا بأس بذلك إذا كان البذر من رب الأرض، والبقر والعمل والحديد من الأكار، فذهب فيه مذهب المضاربة، ووجه ذلك أن البذر هو أصل الزرع، كما أن المال هو أصل الربح، فلا بد أن يكون البذر ممن له الأصل ليكون من أحدهما العمل ومن الآخر الأصل، والرواية الثانية: لا يشترط ذلك، بل يجوز أن يكون البذر من العامل، وقد نقل عنه جماهير أصحابه أكثر من عشرين نصا أنه يجوز أن يكري أرضه بالثلث أو الربع ; كما عامل النبي أهل خيبر، فقالت طائفة من أصحابه، كالقاضي أبي يعلى: إذا دفع أرضه لمن يعمل عليها ببذره بجزء من الزرع للمالك فإن كان على وجه الإجارة جاز، وإن كان على وجه المزارعة لم يجز، وجعلوا هذا التفريق تقريرا لنصوصه ; لأنهم رأوا عامة نصوصه صرائح كثيرة جدا في جواز كراء الأرض بجزء من الخارج منها، ورأوا أن ما هو ظاهر مذهبه عنده من أنه لا يجوز في المزارعة أن يكون البذر من المالك، كالمضاربة، ففرقوا بين باب المزارعة والمضاربة، وباب الإجارة وقال آخرون، منهم أبو الخطاب معنى قوله في رواية الجماعة يجوز كراء الأرض ببعض ما يخرج منها أراد به المزارعة والعمل من الأكار، قال أبو الخطاب: ومتبعوه فعلى هذه الرواية إذا كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج منها، وإن كان من صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل بما شرط له، فقالوا فعلى هذا ما يأخذه صاحب البذر يستحقه ببذره، وما يأخذه من الأجرة يأخذه بالشرط، وما قاله هؤلاء من أن نصه على المكاراة ببعض الخارج هو المزارعة على أن يبذر الأكار هو الصحيح، ولا يحتمل الفقه إلا هذا، أو أن يكون نصه على جواز المؤاجرة المذكورة يقتضي جواز المزارعة بطريق الأولى وجواز هذه المعاملة مطلقا هو الصواب الذي لا يتوجه غيره أثرا ونظرا وهو ظاهر نصوص أحمد المتواترة عنه، واختيار طائفة من أصحابه، والقول الأول: قول من اشترط أن يبذر رب الأرض، أو فرق بين أن تكون إجارة أو مزارعة هو في الضعف نظير من سوى الإجارة الخاصة والمزارعة أو أضعف، أما بيان نص أحمد فهو أنه إنما جوز المؤاجرة ببعض الزرع، استدلالا بقصة معاملة النبي لأهل خيبر، ومعاملته لهم إنما كانت مزارعة، ولم تكن بلفظ لم ينقل ويمنع فعله باللفظ المشهور، وأيضا فقد ثبت في الصحيح أن النبي شارط أهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم كما تقدم، ولم يدفع النبي بذرا، فإذا كانت المعاملة التي فعلها النبي إنما كانوا يبذرون فيها من أموالهم، فكيف يجوز أن يحتج بها أحمد على المزارعة، ثم يقيس عليها إذا كانت بلفظ الإجارة، ثم يمنع الأصل الذي احتج به من المزارعة التي بذر فيها العامل، والنبي قد قال، لليهود: { نقركم فيها ما أقركم }، لم يشترط مدة معلومة حتى قال: كانت إجارة لازمة، لكن أحمد حيث قال في إحدى الروايتين إنه يشترط كون البذر من الملك، فإنما قاله متابعة لمن أوجبه قياسا على المضاربة وإذا أفتى العالم بقول الحجة ولها معارض راجح لم يستحضرها حينئذ ذلك المعارض الراجح، ثم لما أفتى بجواز المؤاجرة بثلث الزرع استدلالا بمزارعة خيبر، فلا بد أن يكون في خيبر كان البذر عنده من العامل، وإلا لم يصح الاستدلال، فإن فرضنا أن أحمد فرق بين المؤاجرة بجزء من الخارج وبين المزارعة ببذر العامل، كما فرق طائفة من أصحابه، فمستند هذا الفرق ليس مأخذا شرعيا، فإن أحمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات، كما يراه طائفة من أصحابه الذين يجوزون هذه المعاملة بلفظ الإجارة ويمنعونها بلفظ المزارعة، وكذلك يجوزون بيع ما في الذمة بيعا حلالا بلفظ البيع، ويمنعونه بلفظ السلم ; لأنه يصير سلما حالا، ونصوص أحمد وأصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه في مسألة مبيع العقود، فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا يحمل على الألفاظ، كما يشهد به أجوبته في الأيمان والنذور والوصايا وغير ذلك من التصرفات، وإن كان هو قد فرق بينهما كما فرقت طائفة من أصحابه فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة، كالرواية المانعة من الأمرين، أما الدليل: على جواز ذلك: فالسنة، والإجماع، والقياس، أما السنة: فما تقدم من معاملة النبي لأهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم، وما دفع إليهم بذرا، وكما عامل المهاجرون الأنصار على أن البذر من عنده، قال حرب الكرماني: حدثنا محمد بن نصر، حدثنا حسان بن إبراهيم، عن حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن حكيم، أن عمر بن الخطاب استعمل يعلى بن أمية فأعطاه العنب والنخل على أن لعمر الثلثان ولهم الثلث، وأعطاه البياض إن كان البقر والبذر والحديد من عند عمر فلعمر الثلثان ولهم الثلث، وإن كان منهم فلعمر الشطر ولهم الشطر، فهذا عمر رضي الله عنه ويعلى بن أمية عامله صاحب رسول الله قد عمل خلافه بتجويز كلا الأمرين، أن يكون البذر من رب الأرض وأن يكون من العامل، وقال حرب: حدثنا أبو معمر حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن الحارث بن حضير عن صخر بن الوليد، عن عمر بن خليع المحاربي، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب، فقال: إن فلانا أخذ أرضا فعمل فيها وفعل فيها، فدعاه علي، فقال: ما هذه الأرض التي أخذت، قال: أرض أخذتها أكري أنهارها، وأعمرها، وأزرعها، فما أخرج الله من شيء فلي النصف وله النصف، فقال: لا بأس بهذا، فظاهره أن البذر من عنده ولم ينهه عن غير ذلك، ويكفي إطلاق سؤاله وإطلاق علي الجواب، وأما القياس: فقد قدمنا أن هذه المعاملة نوع من الشركة ليست من الإجارة الخاصة وإن جعلت إجارة ; فهي من الإجارة العامة التي يدخل فيها الجعالة والسبق والرمي على التقديرين، فيجوز أن يكون البذر منهما، وذلك أن البذر في المزارعة ليس من الأصول التي يرجع إلى ربها كالثمن في المضاربة، بل البذر يتلف كما تتلف المنافع، وإنما يرجع الأرض أو بدن الأرض والعامل، فلو كان البذر مثل رأس المال، لكان الواجب أن يرجع مثله إلى مخرجه ثم يقتسمان وليس الأمر كذلك بل يشتركان في جميع الزرع، فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها وهوائهم وبدن العامل والبقر، وأكثر الحرث والبذر يذهب كما تذهب المنافع وكما يذهب أجزاء من الماء والهواء والتراب فيستحيل زرعا، والله سبحانه يخلق الزرع من نفس الحب والتراب والماء والهواء، كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين، بل ما يستحيل في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب، والحب يستحيل فلا يبقى، بل يخلقه الله ويحيله كما يحيل أجزاء من الهواء والماء، وكما يحيل المني وسائر مخلوقاته من الحيوان والمعدن والنبات، ولما وقع ما وقع من رأي كثير من الفقهاء اعتقدوا أن الحب والنوى في الزرع والشجر هو الأصل، والباقي تبع حتى قضوا في مواضع بأن يكون الزرع والشجر لرب النوى والحب، مع قلة قيمته ولرب الأرض أجرة أرضه، والنبي إنما قضى بضد هذا حيث قال: { من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته }، فأخذ أحمد وغيره من فقهاء الحديث بهذا الحديث، وبعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس وأنه من صور الاستحسان، وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم، وهو أن الزرع تبع للبذر والشجر تبع للنوى، وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة، فإن إلقاء الحب في الأرض يعادله إلقاء المني في الرحم سواء، ولهذا سمى الله النساء حرثا في قوله: { نساؤكم حرث لكم } كما سمى الأرض المزروعة حرثا، والمغلب في ملك الحيوان إنما هو جانب الأم، ولهذا يتبع الولد الآدمي أمه في الحرية والرق دون أبيه، ويكون جنين البهيمة لمالك الأم دون العجل الذي نهى عن عسبه، وذلك ; لأن الأجزاء التي استمدها من الأم أضعاف الأجزاء التي استمدها من الأب، وإنما للأب حق الابتداء فقط، ولا ريب أنه مخلوق منهما جميعا، وكذلك الحب والنوى، فإن الأجزاء التي خلق منها الشجر والزرع أكثرها من التراب والماء والهواء، وقد يؤثر ذلك في الأرض فيضعف بالزرع فيها، لكن لما كانت هذه الأجزاء تستخلف دائما فإن الله سبحانه لا يزال يمد الأرض بالماء وبالهواء وبالتراب، إما مستحيلا من غيره وإما بالموجود، ولا يؤثر في الأرض بعض الأجزاء الترابية شيئا إما للخلف بالاستحالة وإما للكثرة، ولهذا صار يظهر أن أجزاء الأرض في معنى المنافع بخلاف الحب والنوى الملقى فيها، فإنه عين ذاهبة متخلفة ولا يعوض عنها، لكن هذا القدر لا يوجب أن يكون البذر هو الأصل فقط، فإن العامل هو وبقره لا بد له مدة العمل من قوت وعلف يذهب أيضا ورب الأرض لا يحتاج إلى مثل ذلك، ولذلك اتفقوا على أن البذر لا يرجع إلى ربه كما يرجع في القراض، ولو جرى عندهم مجرى الأصول لرجع، فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة أشياء أصول باقية، وهي: الأرض، وبدن العامل، والبقر، والحديد، ومنافع فانية، وأجزاء فانية أيضا، وهي البذر، وبعض أجزاء الأرض، وبعض أجزاء العامل وبقره، فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء، فتكون الخيرة إليهما فيمن يبدل هذه الأجزاء ويشتركان على أي وجه شاء ما لم يفض إلى بعض ما نهى عنه النبي من أنواع الغرر أو الربا وأكل المال بالباطل، ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة، مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليهما والأجرة بينهما، فصل وهذا الذي ذكرناه من الإشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه ذلك يجمع النشر في هذه الأبواب، فإنك تجد كثيرا ممن تكلم في هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه من ألفاظ يظنها عامة أو مطلقة أو يضرب من القياس المعنوي أو الشبهي، فرضي الله عن أحمد حيث يقول ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين المجمل والقياس، ثم هذا التمسك يفضي إلى ما يمكن اتباعه ألبتة، وهذا الباب بيع الديون دين السلم وغيره وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك، لولا أن الغرض ذكر قواعد كلية تجمع أبوابا لذكرنا أنواعا من هذا .

القاعدة الثالثة في العقود والشروط فيها فيما يحل منها ويحرم وما يصح منها ويفسد ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا، والذي يمكن ضبطه منها قولان: أحدهما: أن يقال الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك، الحظر، إلا ما ورد الشرع بإجازته، فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تبنى على هذا، وكثير من أصول الشافعي، وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد، فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد به أثر، ولا قياس كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون ما خالف مقتضى العقد فهو باطل، أما أهل الظاهر فلم يصححوا، لا عقدا، ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع، وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه، واستصحبوا الحكم الذي قبله، وطردوا ذلك طردا جاريا، لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم، وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه لا يصحح في العقود شرطا يخالف مقتضاها المطلق، وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه، ولهذا له أن يشرط في البيع خيارا ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال، ولهذا منع بيع العين المؤجرة، وإذا ابتاع شجرا عليه ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته، وإنما جوز الإجارة المؤخرة ; لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة، أو عتق العبد المبيع، أو الانتفاع به، أو يشرط المشتري بقاء الثمر على الشجر، وسائر الشروط التي يبطلها غيره، ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا ; لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ، لهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار ونحوهما، ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاث للأثر، وهو عنده موضع استحسان، والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثنى مواضع الدليل الخاص، فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع حتى منع الإجارة المؤخرة ; لأن موجبها، وهو القبض لا يلي العقد، ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق لما فيه من السنة والمعنى، ولكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤخرة على الصحيح في مذهبه، وكبيع الشجر مع استبقاء الثمرة المستحقة البقاء ونحو ذلك فلو أراد رجل أن يعير أمته للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة، فإنه جائز، وكذلك الولاء، نهى النبي عن بيع الولاء وعن هبته، وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد، وقال : { من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا } أبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره، أو انتساب المعتق إلى غير مولاه، فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط ما كان حراما، وأما ما كان مباحا بدون الشرط فالشرط وجبه كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والرهن وتأخير الاستيفاء، فإن الرجل له أن يعطي المرأة وله أن يتبرع بالرهن وبالاستيفاء ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجبا وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه ; لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط، فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حراما وحلالا مطلقا فالشرط لا يغيره، وأما ما أباحه الله قد حرم ما أحله الله، وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ولم يحرمه مطلقا، لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب، فلا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر رضي الله عنه مقاطع الحقوق عند الشروط، وأما الاعتبار فمن وجوه: أحدها: أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية، والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم، كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم، وقوله تعالى: { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } عام في الأعيان والأفعال، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة ; لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين إن شاء الله تعالى معنى حديث عائشة ، ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض، ولا يجوز اشتراطها دارها، أو بلدها، أو أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه، وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار، وانفساخه بالشروط التي تنافيه، وكاشتراط الأجل والطلاق وكنكاح الشغار بخلاف فساد المهر ونحوه، وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي، كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة أن لا ينقلها، وأن لا يزاحمها بغيرها، وذلك من المصالح فيقولون: كل شرط ينافي مقتضى العقد، فهو باطل، إلا إذا كان فيه مصلحة للعاقد، وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثني، كما قد يوافق هو أبا حنيفة ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض، وهؤلاء الفرق الثلاثة يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة رضي الله عنهم، ولما قد يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر ويتوسعون في الشروط أكثر منهم، وعمدة هؤلاء قصة بريرة المشهورة، وهو ما أخرجاه في الصحيحين ; عن عائشة قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقالت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم: فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله جالس، فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم، فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي فقال: { خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق }، وفي رواية للبخاري: { اشتريها فاعتقيها وليشترطوا ما شاءوا }، فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها، فقال النبي : { الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط }، وفي رواية لمسلم: { شرط الله أحق وأوثق }، وفي الصحيحين، عن عبد الله بن عمر، أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية فتعتقها، فقال أهلها: نبيعها على أن ولاءها لنا، فذكرت ذلك لرسول الله فقال: { لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق }، وفي مسلم عن أبي هريرة قال: أرادت عائشة أم المؤمنين أن تشتري جارية تعتقها، فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء، فذكرت ذلك لرسول الله فقال: { لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق }، ولهم من هذا الحديث حجتان: إحداهما: قوله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، فكل شرط ليس في القرآن، ولا في الحديث، ولا في الإجماع فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع، ومن قال بالقياس وهم الجمهور قالوا إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله فهو في كتاب الله، والحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي مقتضى العقد على اشتراط الولاء ; لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد، وذلك ; لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع، فإذا إرادة تغييرها تغيير لما أوجبه الشرع بمنزلة تغيير العبادات، وهذا نكتة القاعدة، وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع، ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد القولين، لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها، فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر متابعة لعبد الله بن عمر، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج، ويقول أليس حسبكم سنة نبيكم، وقد استدلوا على هذا الأصل، بقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم }، وقوله: { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه }، { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون }، قالوا: فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله وزيادة في الدين، وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا ذلك منسوخ، كما قاله بعضهم في شروط النبي مع المشركين عام الحديبية، أو قالوا هذا عام أو مطلق فيخص بالشروط التي في كتاب الله، واحتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وشريك أن النبي نهى عن بيع وشرط ، وقد ذكره جماعات من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء، وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه، وإذا تبين أن لليمين صيغتين صيغة القسم وصيغة الجزاء فالمقسوم عليه في صيغة القسم مؤخر في صيغة الجزاء، والمؤخر في صيغة الجزاء مقدم في صيغة القسم والشرط المثبت في صيغة الجزاء منفي في صيغة القسم، فإنه إذا قال الطلاق يلزمني لا أفعل كذا فقد حلف بالطلاق، أن لا يفعل، فالطلاق مقدم مثبت والفعل مؤخر منفي فلو حلف بصيغة الجزاء قال إن فعلت كذا فامرأتي طالق، وكان يقدم الفعل مثبتا ويؤخر الطلاق منفيا، كما أنه في القسم قدم الحكم وأخر الفعل وبهذه القاعدة تنحل مسائل من مسائل الأيمان فأما صيغة الجزاء فهي جملة فعلية في الأصل، فإن أدوات الشرط لا يتصل بها في الأصل إلا الفعل وأما صيغة القسم فتكون فعلية كقوله أحلف بالله أو تالله أو والله ونحو ذلك، وتكون اسمية كقوله لعمر الله لأفعلن والحيلة علي حرام لأفعلن، ثم هذا التقسيم ليس من خصائص الأيمان التي بين العبد وبين الله، بل غير ذلك من العقود التي تكون بين الآدميين تارة تكون بصيغة التعليق الذي هو الشرط والجزاء كقوله في الجعالة من رد عبدي الآبق فله كذا، وقوله في السبق من سبق فله كذا، وتارة بصيغة التنجيز إما صيغة خبر كقوله بعت وزوجت وإما صيغة طلب كقوله بعني واخلعني . وأما إذا لم يكن المشروط مما حرمه الله فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال كتاب الله أحق وشرط الله أوثق، فيكون المعنى من اشترط أمرا ليس في حكم الله أو في كتابه بواسطة أو بغير واسطة فهو باطل ; لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط حتى يصح اشتراطه، ويجب بالشرط، ولما لم يكن في كتاب الله أن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط وهو ثبوت الولاء لغير المعتق شرطا ليس في كتاب الله، فانظر إلى المشروط إن كان فعلا أو حكما فإن كان الله قد أباحه جاز اشتراطه ووجب، وإن كان الله تعالى لم يبحه لم يجز اشتراطه، فإذا اشترط الرجل أن لا يسافر بزوجته فهذا المشروط في كتاب الله ; لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها، فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله، فمضمون الحديث أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة، أو يقال ليس في كتاب الله أي ليس في كتاب الله نفيه، كما يقال { سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم } أي تعرفوا خلافه أو لا يعرف كثير منكم، ثم يقول لم يرد النبي أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعنى أنه لا يلزم بها شيء، لا إيجاب ولا تحريم، فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام، فإن الله حرم عقد الظهار وسماه منكرا من القول وزورا، ثم إنه أوجب به على من عاد الكفارة ومن لم يعد جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء وترك العقد، وكذلك النذر، فإن النبي نهى عن النذر كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وقال: { إنه لا يأت بخير }، ثم أوجب الوفاء إذا كان طاعة في قوله : { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه }، فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم، نعم، لا يكون سببا لإباحة، كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر، وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم، ونحو ذلك، لم يستفد المنهي بفعله لما نهي عن الاستباحة ; لأن النهي عن معصية، والأصل في المعاصي أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته، والإباحة من نعمة الله ورحمته، وإن كانت قد تكون سببا للآلاء ولفتح أبواب الدنيا، لكن ذاك قدر ليس بشرع بل قد يكون سببا لعقوبة الله تعالى، والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة، كما قال تعالى: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }، وإن كان قد يكون رحمة أيضا، كما جاءت شريعتنا الحنيفية، والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص فهو عقد حرام، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه، وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم، وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية، إن كان النبي أراد أن الشروط التي لم يبحها الله، وإن كان لم يحرمها باطلة، فنقول قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما، والمقصود هو وجوب الوفاء بها على هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة، فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة، وذلك ; لأن قوله " ليس في كتاب الله " إنما يشتمل ما ليس في كتاب لا بعمومه ولا بخصوصه، وإنما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله على ; لأن قولنا هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم، وعلى هذا معنى قوله تعالى: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء }، وقوله: { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء }، وقوله: { ما فرطنا في الكتاب من شيء }، على قول من جعل الكتاب هو القرآن وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ فلا يخفى هذا، يدل على ذلك أن الشرط الذي ثبت جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله، وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين، فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار ; لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل، فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما، فشرط الولاء داخل في العموم، فيقال العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص، فإن الخاص يفسر العام، وهذا المشروط قد نفاه النبي بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته، وقوله: { من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين }، ودل الكتاب على ذلك بقوله: { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه }، إلى قوله: { وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } فأوجب علينا الدعاء لأبيه الذي ولده دون الذي تبناه وحرم التبني، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعي أخا في الدين ومولى كما قال النبي لزيد بن حارثة أنت أخونا ومولانا، وقال : { إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس }، فجعل سبحانه الولاء نظير النسب وبين سبب الولاء في قوله تعالى: { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك }، فبين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد، فإذا كان حرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق ; لأنه في معناه .

وقال الأثرم: حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا عمران، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى، أن امرأة سألت ابن عباس أن امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته، فقال ابن عباس: في غضب أم في رضى ؟ قالوا: في غضب، قال: إن الله تبارك وتعالى لا يتقرب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها، قال: وحدثني ابن الطباع، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن العلاء بن المسيب، عن يعلى بن النعمان، عن عكرمة، عن ابن عباس، سئل عن رجل جعل ماله في المساكين فقال: أمسك عليك مالك، وأنفقه على عيالك، واقض به دينك، وكفر عن يمينك، وروى الأثرم عن أحمد حدثنا عبد الرزاق بن جريج سئل عطاء عن رجل قال علي ألف بدنة، قال يمين، وعن رجل قال علي ألف حجة قال يمين، وعن رجل قال مالي في المساكين قال يمين .

وقال حرب الكرماني: حدثنا المسيب بن واضح، حدثنا يوسف بن أبي الشعر، عن الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح سألت ابن عباس عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله الحرام، قال: إنما المشي على من نواه فأما من حلف في الغضب فعليه كفارة يمين، وأيضا فإن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه، وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله، وإنما مقصوده الحض على فعل أو المنع منه، وهذا معنى اليمين، فإن الحالف يقصد الحض على فعل أو المنع منه ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة فلا تجزئه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى ; لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك أيمانه بالله حيث لم يف بعهده، وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم، ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي، فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضى الحنث في التوحيد فساده ونحو ذلك، وخيره فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى وأيضا فإنا نقول إن موجب صيغة القسم مثل موجب صيغة التعليق والنذر نوع من اليمين، وكل نذر فهو يمين نقول الناذر لله على أن أفعل بمنزلة قوله احلف بالله لأفعلن، موجب هذين القولين التزام الفعل معلقا بالله، والدليل على هذا قول النبي: { النذر والحلف } فقوله: إن فعلت كذا فعلي الحج لله بمنزلة قوله إن فعلت كذا فوالله لأحجن، وطرد هذا أنه إذا حلف ليفعلن برا لزمه فعله، ولم يكن له أن يكفر، فإن حلفه ليفعلنه نذر لفعله، وكذلك طرد هذا أنه إذا نذر ليفعلن معصية أو مباحا فقد حلف على فعلها بمنزلة ما لو قال: والله لأفعلن كذا ولو حلف بالله ليفعلن معصية أو مباحا لزمته كفارة يمين، فكذلك لو قال لله علي أن أفعل كذا، ومن الفقهاء من أصحابنا، وغيرهم من يفرق بين الناس . فمعلوم أن من حلف بصفاته كالحلف به، كما لو قال: وعزة الله تعالى، أو لعمر الله، أو والقرآن العظيم، فإنه قد ثبت جواز الحلف بالصفات ونحوها عن النبي والصحابة، ولأن الحلف بصفاته كالاستعاذة بها، وإن كانت الاستعاذة لا تكون إلا بالله، في مثل قول النبي: { أعوذ بوجهك }، و { أعوذ بكلمات الله التامات }، و { أعوذ برضاك من سخطك } ونحو ذلك، وهذا أمر متقرر عند العلماء، وإذا كان كذلك فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو الحلف بصفات الله، فإنه إذا قال إن فعلت كذا فعلي الحج فقد حلف بإيجاب الحج عليه، وإيجاب الحج عليه حكم من أحكام الله تعالى وهو من صفاته، وكذلك لو قال: فعلي تحرير رقبة وإذ قال: فامرأتي طالق، وعبدي حر، فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه، والتحريم من صفات الله، كما أن الإيجاب من صفات الله تعالى، وقد جعل الله ذلك من آياته في قوله: { ولا تتخذوا آيات الله هزوا }، فجعل صدوره في النكاح والطلاق والخلع من آياته، لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم فقد عقد اليمين لله كما يعقد النذر لله، فإن قوله علي الحج والصوم عقد لله، ولكن إذا كان حالفا فهو لم يقصد العقد لله بل قصد الحلف به، فإذا حنث ولم يوف به فقد ترك ما عقد لله، كما أنه إذا فعل المحلوف فقد ترك ما عقده بالله، يوضح ذلك: أنه إذا حلف بالله أو بغير الله مما يعظمه بالحلف فإنما حلف به ليعقد به المحلف عليه، ويربطه منه ; لأنه يعظمه في قلبه إذا ربط به شيئا لم يجده، فإذا حل ما ربطه به فقد انتقصت عظمته من قلبه، وقطع السبب الذي بينه وبينه، وكما قال بعضهم اليمين العقد على نفسه لحق من له حق، ولهذا إذا كانت اليمين غموسا كانت من الكبائر الموجبة للنار، كما قال تعالى: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } }، وذكرها النبي في عد الكبائر، وذلك أنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقدا به فقد نقص الصلة التي بينه وبين ربه، بمنزلة من أخبر عن الله بما هو منزه عنه، أو تبرأ من الله، بخلاف ما إذا حلف على المستقبل فإنه عقد بالله فعلا قاصدا لعقده على وجه التعظيم لله، لكن الله أباح له حل هذا العقد الذي عقده، كما يبيح له ترك بعض الواجبات لحاجة، أو يزيل عنه وجوبها، ولهذا قال أكثر أهل العلم: إذا قال هو يهودي أو نصراني إن لم يفعل ذلك فهي يمين، بمنزلة قوله والله لأفعلن ; لأنه ربط عدم الفعل بكفره الذي هو براءته من الله، فيكون قد ربط الفعل بإيمانه بالله، وهذا هو حقيقة الحلف بالله، فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب والتحريم أدنى حالا من ربطه بالله، يوضح ذلك: أنه إذا عقد اليمين بالله فهو عقد لها بإيمانه بالله، وهو ما في قلبه من حلال الله وإكرامه الذي هو حد الله، ومثله الأعلى في السماوات والأرض، كما أنه إذا سبح لله وذكره فهو مسبح لله وذاكرا له بقدر ما في قلبه من معرفته وعبادته، ولذلك جاء التسبيح تارة لاسم الله كما في قوله: { سبح اسم ربك الأعلى }، وتارة كما في قوله: { وسبحوه بكرة وأصيلا } وكذلك الذكر كما في قوله: { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا }، مع قوله: { اذكروا الله ذكرا كثيرا }، فحيث عظم العبد ربه بتسبيح اسمه أو الحلف به أو الاستعاذة به فهو مسبح له بتوسط المثل الأعلى الذي في قلبه من معرفته وعبادته وعظمته ومحبته، علما وفضلا وإجلالا وإكراما، وحكم الإيمان والكفر إنما يعود إلى ما كسبه قلبه من ذلك ; كما قال سبحانه: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }، وكما في موضع آخر: { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان }، فلو اعتبر الشارع ما في لفظة القسم من انعقاده بالأيمان وارتباطه به دون قصد الحلف ; لكان موجبه أنه إذا حنث بغير أيمانه وتزول حقيقته، كما قال { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن }، وكما أنه إذا حلف على ذلك يمينا فاجرة كانت من الكبائر ; وإذا اشترى بها مالا معصوما فلا خلاق له في الآخرة، ولا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم، لكن الشارع علم أن الحالف بها ليفعلن أو لا يفعلن، ليس غرضه الاستخفاف بحرمة اسم الله والتعلق به لغرض الحالف اليمين الغموس، فشرع له الكفارة، وحل هذا العقد وأسقطها عن لغو اليمين ; لأنه لم يعقد قلبه شيئا من الجناية على إيمانه، فلا حاجة إلى الكفارة، وإذا ظهر أن موجب لفظ اليمين انعقاد الفعل بهذا اليمين الذي هو إيمانه بالله، فإذا عدم الفعل كان مقتضى لفظه عدم إيمانه هذا لولا ما شرع الله من الكفارة، كما أن مقتضى قوله: إن فعلت كذا أوجب علي كذا أنه عند الفعل يجب ذلك الفعل لولا ما شرع الله من الكفارة .

يوضح ذلك: أن النبي قال: { من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال } أخرجاه في الصحيحين، فجعل اليمين الغموس في قوله ويهودي أو نصراني إن فعل كذا كالغموس في قوله والله ما فعلت كذا، إذ هو في كلا الأمرين قد قطع عهده من الله، حيث علق الأيمان بأمر معدوم، والكفر بأمر موجود، بخلاف اليمين على المستقبل، وطرد هذا المعنى أن اليمين الغموس إذا كانت في النذر الطلاق أو العتاق وقع المعلق به، ولم ترفعه الكفارة، كما يقع الكفر بذلك في أحد قولي العلماء، وبهذا يحصل الجواب عن قولهم المراد به اليمين المشروعة، وأيضا قوله سبحانه وتعالى: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم }، فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين على أن معناها أنكم لا تجعلوا الله مانعا لكم إذا حلفتم به من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، بأن يحلف الرجل أن يفعل معروفا مستحبا أو واجبا أو ليفعل مكروها أو حراما ونحوه، فإذا قيل له افعل ذلك أو لا تفعل هذا قال قد حلفت بالله، فيجعل الله عرضة ليمينه، فإذا كان قد نهى عباده أن يجعلوا نفسه مانعا لهم في الحلف من البر والتقوى، والحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا في عموم الحلف به وجب أن لا يكون مانعا من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه إذا نهى عن أن يكون هو سبحانه عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي فغيره أولى، أن نكون منهيين عن جعله عرضة لأيماننا، وإذا تبين أننا منهيون عن أن نجعل شيئا من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي ونصلح بين الناس، فمعلوم أن ذلك إنما هو لما في البر والتقوى والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به .

فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس أو ليقطعن رحمه أو ليمنعن الواجب عليه من أداء أمانة ونحوها، فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس أكثر مما يجعل الله عرضة ليمينه، ثم إن وفى يمينه كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه، وإن طلق امرأته ففي الطلاق أيضا من ضرر الدين والدنيا ما لا خفاء فيه، أما الدين فإنه مكروه باتفاق الأمة مع استقامة حال الزوجين، إما كراهة تنزيه أو كراهة تحريم، فكيف إذا كانا في غاية الاتصال وبينهما من الأولاد والعشيرة ما يكون في طلاقهما من ضرر الدين أمر عظيم، وكذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع بحيث لو خير أحدهما بين أن يخرج من ماله ووطنه وبين الطلاق لاختار فراق ماله ووطنه على الطلاق، وقد قرن الله فراق الوطن بقتل النفس ولهذا قال الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه متابعة لعطاء أنها إذا أحرمت بالحج فحلف عليها زوجها بالطلاق أنها لا تحج صارت محصرة وجاز لها التحلل لما عليها في ذلك من الضرر الزائد على ضرر الإحصار بالعدو أو القريب منه، وهذا ظاهر فيما إذا قال إن فعلت كذا فعلي أن أطلقك أو أعتق عبيدي، فإن هذا في نذر اللجاج والغضب بالاتفاق كما لو قال والله لأطلقنك أو لأعتق عبيدي، وإنما الفرق بين وجود العتق ووجوبه هو الذي اعتمده، المفرقون، وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى، وأيضا فإن الله قال: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم }، وذلك يقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله إلا والله غفور لفاعله رحيم به، وأنه لا علة تقتضي ثبوت ذلك التحريم ; لأن قوله لأي شيء استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك والله غفور رحيم، فلو كان الحالف بالنذور والعتاق والطلاق أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له، لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال، ولا يبقى موجب المغفرة والرحمة على هذا الفاعل، وأيضا قوله سبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } إلى قوله: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم }، والحجة منها كالحجة من الأولى، وأقوى علم، فإنه لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم وهذا لتحريمها بالأيمان من الطلاق وغيرها، ثم بين وجه المخرج من ذلك بقوله: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } أي فكفارة تعقيدكم أو عقدكم الأيمان وهذا عام، ثم قال: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم }، وهذا عام كعموم قوله: { واحفظوا أيمانكم }، مما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم قوله: " من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك " فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله وإنما لم يدخل مالك وأحمد وغيرهما تنجيزا بالطلاق موافقة لابن عباس، ; لأن إيقاع الطلاق ليس بحلف، وإنما الحلف المنعقد ما تضمن محلوفا به ومحلوفا عليه إما بصيغة القسم وإما بصيغة الجزاء، وما كان في معنى ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى، وهذه الأدلة تنبيه على أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهم في مسألة نذر اللجاج والغضب، فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذا الآية وجعلوا، قوله: { تحلة أيمانكم }، كفارة أيمانكم عاما في اليمين بالله واليمين بالنذر، ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما سواء، فإن قيل المراد في الآية اليمين بالله فقط فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين، ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام والإضافة في قوله { عقدتم الأيمان } و { تحلة أيمانكم } منصرفا إلى اليمين المعهودة عليهم وهي اليمين بالله، وحينئذ فلا يعلم اللفظ إلا المعروف عندهم والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم، ولو كان اللفظ عاما فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة كاليمين بالمخلوقات، فلا يدخل الحلف بالطلاق ونحوه ; لأنه ليس من اليمين المشروعة، لقوله { من كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت }، وهذا سؤال، من يقول كل يمين غير مشروعة فلا كفارة لها ولا حنث، فيقال: لفظ اليمين شمل هذا كله بدليل استعمال النبي والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله، كقوله: { النذر حلف }، وقول الصحابة لمن حلف بالهدي بالعتق كفر يمينك، وكذلك فهمه الصحابة من كلام النبي كما سنذكره، ولإدخال العلماء كذلك في قوله: { من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك } ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال: { لم تحرم ما أحل الله لك }، ثم قال: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين، كما استدل به ابن عباس وغيره، وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية، وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يمينا بالله، ولهذا أفتى جمهور الصحابة كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم أن تحريم الحلال يمين مكفرة إما كفارة كبرى كالظهار وإما كفارة صغرى كاليمين بالله، وما زال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا، وأيضا فإن قوله: { لم تحرم ما أحل الله لك }، إما أن يراد به لم تحرم بلفظ الحرام، وإما لم تحرمه باليمين بالله تعالى ونحوها، وإما لم تحرمه مطلقا، فإن أريد الأول والثالث، فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله، ثم فيعم، وإن أريد به تحريمه بالحلف بالله فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال، ومعلوم أن اليمين بالله لم يوجب الحرمة الشرعية، لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيا لا شرعيا، فكل يوجب امتناعه من الفعل فقد حرمت عليه الفعل، فيدخل في قوله: { لم تحرم ما أحل الله لك }، وحينئذ فقوله: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، لا بد أن يعم كل يمين حرمت الحلال، لأن هذا حكم ذلك الفعل، فلا بد أن يطابق صوره ; لأن تحريم الحلال هو سبب قوله: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، وسبب الجواب إذا كان عاما كان الجواب عاما لئلا يكون جوابا عن البعض دون البعض مع قيام السبب المقتضي للتعميم، وهذا التقدير في قوله: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } إلى قوله: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وأيضا فإن الصحابة فهمت العموم، وكذلك العلماء عامتهم حملوا الآية على اليمين بالله وغيرها، وأيضا فنقول على الرأس سلمنا أن اليمين المذكورة في الآية المراد بها اليمين بالله تعالى، وأن ما سوى اليمين بالله تعالى لا يلزم بها حكم،

فصل موجب نذر اللجاج والغضب عندنا أحد شيئين على المشهور، إما التكفير وإما فعل المعلق، ولا ريب أن موجب اللفظ في مثل قوله إن فعلت كذا فعلي صلاة ركعتين أو صدقة ألف أو فعلي الحج أو صوم شهر هو الوجوب عند الفعل، فهو مخير بين هذا الوجوب وبين وجوب الكفارة، فإذا لم يلتزم الوجوب المعلق ثبت وجوب الكفارة، فاللازم له أحد الوجهين كل منهما ثابت بتقدير عدم الآخر، كما في الواجب المخير وكذلك إن قال إن فعلت كذا فعلي عتق هذا العبد أو تطليق هذه المرأة أو علي أن أتصدق أو أهدي فإن ذلك يوجب استحقاق العبد للإعتاق والمال للتصدق والبدنة للهدي، ولو أنه نجز ذلك فقال هذا المال صدقة وهذه البدنة هدي وعلي عتق هذا العبد، فهل يخرج عن ملكه بذلك أو يستحق الإخراج، فيه خلاف، وهو يشبه قوله هذا وقف، فأما إذا قال هذا العبد حر وهذه المرأة طالق فهو إسقاط بمنزلة قوله ذمة فلان بريئة من كذا أو من دم فلان، أو من قذفي، فإن إسقاط حق الدم والمال والغرض من باب إسقاط حق الملك بملك البضع وملك اليمين، فإن قال إن فعلت فعلي الطلاق أو فعلي العتق أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار، وقلنا إن موجبه أحد الأمرين فإنه يكون مخيرا بين وقوع ذلك وبين وجوب الكفارة، كما لو قال: فهذا المال صدقة أو هذه البدنة هدي، ونظير ذلك ما لو قال: إذا طلعت الشمس فعبيدي أحرار أو نسائي طوالق، وقلنا التخيير إليه فإنه إذا اختار أحدهما كان ذلك بمنزلة اختياره أحد الأمرين من الوقوع أو وجوب الكفارة، ومثال ذلك أيضا إذا أسلم وتحته أكثر من أربع أو أختان فاختار إحداهما فهذه المواضع التي تكون الفرقة أحد اللازمين، إما فرقة معين أو نوع الفرقة لا يحتاج إنشاء طلاق لكن لا يتعين الطلاق إلا بما يوجب تعيينه كما في النظائر المذكورة، ثم إذا اختار الطلاق فهل يقع من حين الاختيار أو من حين الحنث يخرج على نظير ذلك ؟ فلو قال في جنس مسائل نذر اللجاج والغضب اخترت التكفير، أو اخترت فعل المنذور، هل يعين بالقول أو لا يتعين إلا بالفعل ؟ إن كان التخيير بين الوجوبين تعين بالقول كما في التخيير بين الإنشاء وبين الطلاق والعتق وإن كان بين الفعلين لم يتعين إلا بالفعل، كالتخيير بين خصال الكفارة وإن كان بين الفعل والحكم كما في قوله إن فعلت كذا فعبدي حر، أو امرأتي طالق، أو دمي هدر، أو مالي صدقة، أو بدنتي هدي، تعين الحكم بالقول ولم يتعين الفعل إلا بالفعل .

المسائل التي انفرد بها شيخ الإسلام ابن تيمية عن الأئمة الأربعة أو اتبع فيها بعض مذاهبهم القول بقصر الصلاة: تقصر الصلاة في كل ما يسمى سفرا طويلا كان أو قصيرا كما هو مذهب الظاهرية، وقول بعض الصحابة .

وقال إسماعيل بن أمية، وأيوب بن موسى، وهما مكيان: فقد فرق بين الحلف بالطلاق والعتق، والحلف بالنذر وبأنهما لا يكفران، واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه عارض ما روي من الكفارة عن ابن عمر وحفصة وزينب، مع انفراد التيمي بهذه الزيادة، وقال صالح بن أحمد قال أبي وإذا قال جاريتي حرة إن لم أصنع كذا وكذا قال: قال ابن عمر، وابن عباس: يعتق، وإذا قال بل مالي في المساكين فيه كفارة، فإن ذا لا يشبه ذا ألا ترى أن ابن عمر فرق بينهما العتق والطلاق لا يكفران، وأصحاب أبي حنيفة يقولون إذا قال الرجل مالي في المساكين أنه يتصدق به على المساكين، وإذا قال مالي على فلان صدقة، وفرقوا بين قوله إن فعلت كذا فمالي صدقة، أو فعلي الحج، وبين قوله فامرأتي طالق أو فعبدي حر، بأنه هناك موجب القول وجوب الصدقة والحج لا وجود الصدقة والحج، فإذا اقتضى الشرط وجوب ذلك كانت الكفارة بدلا عن هذا الواجب كما يكون بدلا عن غيره من الواجبات، كما كانت في أول الإسلام بدلا عن الصوم الواجب، وبقيت بدلا عن الصوم على العاجز عنه، وكما يكون بدلا عن الصوم الواجب في ذمة الميت، فإن الواجب إذا كان في الذمة أمكن أن يخير بين أدائه وبين أداء غيره، وأما العتق والطلاق فإن موجب الكلام وجودهما، فإذا وجد الشرط وجد العتق والطلاق، وإذا وقعا لم يرتفعا بعد وقوعهما ; لأنهما لا يقبلان الفسخ، بخلاف ما لو قال: إن فعلت كذا فوالله علي أن أعتق فإنه هنا لم يعلق العتق، وإنما علق وجوبه بالشرط، فيخير بين فعل هذا الإعتاق الذي أوجبه على نفسه وبين الكفارة التي هي بدل عنه، ولهذا لو قال: إذا مت فعبدي حر عتق بموته من غير حاجة إلى الإعتاق، ولم يلزمه فسخ هذا التدبير عند الجمهور إلا قولا للشافعي ورواية عن أحمد، وفي بيعه الخلاف المشهور، ولو وصى بعتقه فقال: إذا مت فأعتقوه، كان له الرجوع في ذلك كسائر الوصايا، وكان له بيعه هنا وإن لم يجز بيع المدبر، وذكر أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة في تاريخه، أن المهدي لما روى ما أجمع عليه رأي أهل بيته من العهد إلى أنه وزع عيسى بن موسى الذي كان ولي العهد عزمه على خلع عيسى، ودعاهم إلى البيعة لموسى فامتنع عيسى من الخلع، وزعم أن عليه أيمانا تخرجه من أملاكه، ويطلق نساءه، فأحضر له المهدي ابن غلامة ومسلم بن خالد، وجماعة من الفقهاء، فأفتوه بما يخرجه عن يمينه، واعتاض عما لزمه في يمينه بمال كثير ذكره، ولم يزل إلى أن خلع وبويع للمهدي ولموسى الهادي بعده، وأما أبو ثور قال في العتق على وجه اليمين يجزئه كفارة يمين كنذر اللجاج والغضب لأجل ما تقدم من حديث ليلى بنت العجماء التي أفتاها عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله في قولها إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل لي محرر، وهذه القصة هي مما اعتمدها الفقهاء المستدلون في مسألة نذر اللجاج والغضب، لكن توقف أحمد وأبو عبيد عن العتق فيها لما ذكرته من الفرق، وعارض أحمد ذلك، وأما الطلاق فلم يبلغ أبا ثور فيه أثر فتوقف عنه، مع أن القياس عنده مساواته للعتق، لكن خاف أن يكون مخالفا للإجماع، والصواب أن الخلاف في الجميع الطلاق وغيره لما سنذكره، ولو لم ينقل في الطلاق نفسه خلاف معين لكان فتيا من أفتى من الصحابة في الحلف بالعتاق بكفارة يمين من باب التنبيه على الحلف بالطلاق، فإنه إذا كان نذر العتق الذي هو قربة لما خرج مخرج اليمين أجزأت فيه الكفارة، فالحلف بالطلاق الذي ليس بقربة إما أن تجزي فيه الكفارة أو لا يجب فيه شيء قول على قول من يقول نذر غير الطاعة لا شيء فيه، ويكون قوله: إن فعلت كذا فأنت طالق بمنزلة قوله: فعلي أن أطلقك، كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم، قوله: فعبيدي أحرار بمنزلة قوله فعلي أن أعتقهم، على أني إلى الساعة لم يبلغني عن أحد من الصحابة كلام في الحلف بالطلاق، وذلك والله أعلم ; لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث في زمانهم، وإنما ابتدعه الناس في زمن التابعين ومن بعدهم، فاختلف فيه التابعون ومن بعدهم، فأحد القولين إنه يقع به كما تقدم، والقول الثاني إنه لا يلزم الوقوع، ذكر عبد الرزاق عن طاوس عن أبيه أنه كان يقول الحلف بالطلاق ليس شيئا، قلت: أكان يراه يمينا، قال لا أدري فقد أخبر ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يراه موقعا للطلاق، وتوقف في كونه يمينا يوجب الكفارة ; لأنه من باب نذر ما لا قربة فيه، وفي كون مثل هذا يمينا خلاف مشهور، وهذا قول أهل الظاهر، وكذا أبي محمد بن حزم لكن بناء على أنه لا يقع طلاق معلق ولا عتق معلق، واختلفوا في المؤجل وهو بناء على ما تقدم من أن العقود لا يصح منها إلا ما دل نص أو إجماع على وجوبه أو جوازه، وهو مبني على ثلاث مقدمات يخالفون فيها: أحدها: كون الأصل تحريم العقود، الثاني: أنه لا يباح ما كان في معنى النصوص، الثالث: أن الطلاق المؤجل والمعلق لم يتدرج في عموم النصوص، وأما المأخذ المتقدم من كون هذا كنذر اللجاج والغضب، فهذا قياس قول الذين جوزوا التكفير في نذر اللجاج والغضب، وفرقوا بين نذر التبرر ونذر الغضب، فإن هذا الفرق يوجب الفرق بين المعلق الذي يقصد وقوعه عند الشرط، وبين المعلق المحلوف به الذي يقصد عدم وقوعه، إلا أن يصح الفرق المذكور بين كون المعلق هو الوجود أو الوجوب وسنتكلم عليه، وقد ذكرنا هذا القول يخرج من أصول أحمد على مواضع قد ذكرناها، وكذلك هو أيضا لازم لمن قال في نذر اللجاج والغضب بكفارة كما هو ظاهر مذهب، الشافعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة التي اختارها أكثر متأخري أصحابه، وإحدى الروايتين عن ابن القاسم التي اختارها كثير من متأخري المالكية، فإن التسوية بين الحلف بالنذر والعتق هو المتوجه، ولهذا كان هذا من أقوى حجج القائلين بوجوب الوفاء في الحلف بالنذر، فإنهم قاسوه على الحلف بالطلاق والعتاق، واعتقده بعض المالكية مجمعا عليه، وأيضا إذا حلف بصيغة القسم كقوله عبيدي أحرار لأفعلن أو نسائي طوالق لأفعلن، فهو بمنزلة قوله مالي صدقة لأفعلن وعلي الحج لأفعلن والذي يوضح التسوية أن الشافعي إنما اعتمد في الطلاق المعلق على فدية الخلع، قاله في البويطي وهو كتاب متحرى، من أجود كلامه، وذلك أن الفقهاء يسمون الطلاق المعلق بسبب طلاقا بصفة، ويسمون ذلك الشرط صفة، ويقولون إذا وجدت الصفة في زمان البينونة وإذا لم توجد الصفة ونحو ذلك، وهذا التشبيه لها وجهان: أحدهما: أن هذا الطلاق موصوف بصفة ليس طلاقا مجردا عن صفة، فإنه إذا قال أنت طالق في أول السنة، وإذا ظهرت فقد وصف الطلاق بالزمان الخاص فإن الظرف صفة للمظروف، وكذلك إذا قال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق فقد وصفه بعوضه، والثاني: أن نحاة الكوفة يسمون حروف الجر ونحوها حروف الصفات، فلما كان هذا فلما كان معلقا بالحروف التي قد تسمى حروف الصفات سمي طلاقا بصفة كما لو قال أنت طالق بألف، والوجه الأول، هو الأصل، فإن هذا يعود إليه، إذ النحاة إذ سموا حروف الجر حروف الصفات ; لأن الجار والمجرور يصير في المعنى صفة لما تعلق به، فإذا كان الشافعي وغيره إنما اعتمدوا في الطلاق الموصوف على الطلاق المذكور في القرآن وقاسوا كل طلاق بصفة عليه صار هذا، كما أن النذر المعلق بشرط مذكور في قوله تعالى: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين }، ومعلوم أن النذر المعلق بشرط هو نذر بصفة، فقد فرقوا بين النذر المقصود شرطه وبين النذر المقصود عدم شرطه الذي خرج مخرج اليمين، فلذلك يفرق بين الطلاق المقصود وصفه كالخلع حيث المقصود فيه العوض والطلاق المحلوف به الذي يقصد عدمه وعدم شرطه فإنه إنما يقاس بما في الكتاب والسنة وما أشبهه، ومعلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة وبين الصفة المحلوف عليها التي يقصد عدمها، كما فرق بينهما في النذر سواء، والدليل على هذا القول الكتاب، والسنة، والأثر، والاعتبار، أما الكتاب: فقوله سبحانه: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم }، فوجه الدلالة أن الله قال: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، وهذا نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون، إن الله قد فرض لها تحلة وذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي ، مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى، فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلة لكان مخالفا للآية، كيف وهذا عام لم تخص فيه صورة واحدة لا بنص ولا بإجماع، بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي، فإن اليمين معقود يوجب منع المكلف من الفعل، فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة، وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب،

قاعدة فيما يشترط الناس في الوقف فإن فيها ما فيه عوض دنيوي وأخروي وما ليس كذلك، وفي بعضها تشديد على الموقوف عليه فنقول الأعمال المشروطة في الوقف على الأمور الدينية مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين والمشتغلين بالعلم من القرآن والحديث والفقه ونحو ذلك، أو بالعبادات أو بالجهاد في سبيل الله، تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: عمل يتقرب به إلى الله تعالى وهو الواجبات المستحبات التي رغب رسول الله فيها، وحض على تحصيلها فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به، ويقف استحقاق الوقف على جهة حصوله في الجملة، والثاني: عمل نهى النبي عنه، نهي تحريم أو نهي تنزيه، فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء لما قد استفاض، عن النبي، أنه خطب على منبره، فقال: { ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق }، وهذا الحديث وإن خرج بسبب شرط الولاء لغير المعتق، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند عامة العلماء، وهو مجمع عليه في هذا الحديث، وكذا ما كان من الشروط مستلزما وجود ما نهى عنه الشارع فهو بمنزلة ما نهى عنه، وما علم أنه نهى عنه ببعض الأدلة الشرعية فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهي عنه، لكن قد اختلف العلماء في بعض الأعمال هل هو من باب المنهي عنه فيختلف اجتهادهم في ذلك الشرط بناء على هذا، وهذا أمر لا بد منه في الأمة، ومن هذا الباب أن يكون العمل المشترط ليس محرما في نفسه لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به، ومثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته، وهذا مكروه في الشريعة مما أحدثه الناس، أو يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة، أو بعض الأقوال المحرمة، أو يشترط على الإمام أو المؤذن ترك بعض سنن الصلاة أو الأذان، أو فعل بعض بدعهما مثل أن يشترط على الإمام أن يقرأ في الفجر بقصار المفصل، أو أن يصل الأذان بذكر غير مشروع، أو أن يقيم صلاة العيد في المدرسة أو المسجد مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم، ومن هذا الباب أن يشترط عليهم أن يصلوا وحدانا، ومما يلحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزما ترك ما ندب إليه الشارع، مثل أن يشترط على أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم، فإن هذا دعاء إلى ترك الفرض على الوجه الذي هو أحب إلى الله ورسوله فلا يلتفت إلى مثل هذا، بل الصلاة في المسجد الأعظم هو الأفضل، بل الواجب هدم مساجد الضرائر، مما ليس هذا موضع تفصيله، ومن هذا الباب اشتراط الإيقاد على القبور، إيقاد الشمع أو الدهن ونحو ذلك، فإن { النبي قال لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج }، وبناء المسجد أو إسراج المصابيح على القبور مما لم أعلم فيه خلافا أنه معصية لله ورسوله، وتفاصيل هذه الشروط يطول جدا وإنما نذكر هاهنا جماع الشروط، القسم الثالث: عمل ليس بمكروه في الشرع ولا مستحب، بل هو مباح مستوي الطرفين، فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به، والجمهور من العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أن شرطه باطل، فلا يصح عندهم أن يشرط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى، وذلك لأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما فيه منفعة في الدين أو الدنيا، فما دام الإنسان حيا فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة، لأنه ينتفع بذلك، فأما الميت فما بقي بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو أعان عليه أو أهدى إليه ونحو ذلك، فأما الأعمال التي ليست طاعة لله ورسوله فلا ينتفع بها الميت بحال، فإذا اشترط الموصي أو الواقف عملا أو صفة لا ثواب فيها كان السعي في تحصيلها سعيا فيما لا ينتفع به في دنياه ولا في آخرته، ومثل هذا لا يجوز، وهذا إنما مقصده بالوقف التقرب، والله أعلم . والقول بأن سجود التلاوة لا يشترط لها وضوء كما يشترط للصلاة وهو مذهب ابن عمر واختاره البخاري أيضا .

-مسألة: فيمن وقف مدرسة بيت المقدس، وشرط على أهلها الصلوات الخمس فيها فهل يصح هذا الشرط ؟ وهل يجوز للمنزلين الصلوات الخمس في المسجد الأقصى دونها، ويتناولون ما قرر لهم ؟ أم لا يحل التناول إلا بفعل هذا الشرط، الجواب: ليس هذا شرطا صحيحا يقف الاستحقاق عليه، كما كان يفتي بذلك في هذه الصورة بعينها الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وغيره من العلماء ; لأدلة متعددة، وقد بسطناها في غير هذا الموضع مع ما في ذلك من أقوال العلماء، ويجوز للمنزلين أن يصلوا في المسجد الأقصى الصلوات الخمس، ولا يصلوها في المدرسة، ويستحقون مع ذلك ما قدر لهم، وذلك أفضل لهم من أن يصلوا في المدرسة، والامتناع من أداء الفرض في المسجد الأقصى، لأجل حل الجاري ورع فاسد، يمنع صاحبه الثواب العظيم في الصلاة في المسجد، والله أعلم .

والقول باستبراء المختلعة بحيضة، وكذلك الموطوءة بشبهة، والمطلقة آخر ثلاث تطليقات .