إحياء علوم الدين/كتاب الحلال والحرام/الباب السابع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الباب السابع

في مسائل متفرقة يكثر مسيس الحاجة إليها


وقد سئل عنها في الفتاوي

مسألة: سئل عن خادم الصوفية يخرج إلى السوق ويجمع طعاماً أو نقداً ويشتري به طعاماً فمن الذي يحل له أن يأكل منه? وهل يختص بالصوفية أم لا? فقلت: أما الصوفية فلا شبهة في حقهم إذا أكلوه وأما غيرهم فيحل لهم إذا أكلوه برضا الخادم ولكن لا يخلو عن شبهة، أما الحل فلأن ما يعطى خادم الصوفية إنما يعطى بسبب الصوفية ولكن هو المعطى لا الصوفية فهو كالرجل المعيل يعطى بسبب عياله لأنه متكفل بهم وما يأخذه يقع ملكاً له للعيال وله أن يطعم غير العيال إذ يبعد أن يقال لم يخرج عن ملك المعطي ولا يتسلط الخادم على الشراء به والتصرف فيه? لأن ذلك مصير إلى أن المعاطاة لا تكفي وهو ضعيف، ثم لا صائر إليه الصدقات والهدايا، ويبعد أن يقال زال الملك إلى الصوفية الحاضرين الذين هم وقت سؤاله في الخانقاه إذ لا خلاف أن له ن يطعم منه من يقدم بعدهم ولو ماتوا كلهم أو واحد منهم لا يجب صرف نصيبه إلى وارثه، ولا يمكن أن يقال إنه وقع لجهة التصرف ولا يتعين له مستحق لأن إزالة الملك إلى الجهة لا توجب تسليط الآحاد على التصرف فإن الداخلين فيه لا ينحصرون بل يدخل فيه من يولد إلى يوم القيامة، وإنما يتصرف فيه الولاة،والخادم لا يجوز له أن ينتصب نائباً عن الجهة فلا وجه إلا أن يقال هو ملكه وإنما يطعم الصوفية بوفاء شرط التصوف والمروءة فإن منعهم عنه منعوه عن أن يظهر نفسه في معرض التكفل بهم حتى ينقطع وقفه لما ينقطع عمن مات عياله.

مسألة: سئل عن مال أوصى به للصوفية فمن الذي يجوز أن يصرف إليه? فقلت: التصوف أمر باطن لا يطلع عليه ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته بل بأمور ظاهرة يعول عليها أهل العرف في إطلاق اسم الصوفي، والضابط الكلي أن كل من هو بصفة إذا نزل في خانقاه الصوفية لم يكن نزوله فيها واختلاطه بهم منكراً عندهم فهو داخل في غمارهم. والتفصيل أن يلاحظ فيه خمس صفات الصلاح والفقر وزي الصوفية وأن لا يكون مشتغلاً بحرفة وأن يكون مخالطاً لهم بطريق المساكنة في الخانقاه. ثم بعض هذا الصفات مما يوجب زوالها زوال الاسم وبعضها ينجبر بالبعض فالفسق يمنع هذا الاستحقاق لأن الصوفي بالجملة عبارة عن رجل من أهل الصلاح بصفة مخصوصة، فالذي يظهر فسقه وإن كان على زيهم لا يستحق ما أوصى به للصوفية ولسنا نعتبر فيه الصغائر. وأما الحرفة والاشتغال بالكسب فإنه يمنع هذا الاستحقاق فالدهقان والعامل والتاجر والصانع في حانوته أو داره والأجير الذي يخدم بأجرة كل هؤلاء لا يستحقون ما أوصى به الصوفية ولا ينجبر هذا بالزي والمخالطة، فأما الوراقة والخياطة وما يقرب منهما مما يليق بالصوفية تعاطيها، فإذا تعاطاها لا في حانوت ولا على جهة اكتساب وحرفة فذلك لا يمنع الاستحقاق وكان ذلك ينجبر بمساكنته إياهم مع بقية الصفات، وأما القدرة على الحرف من غير مباشرة لا تمنع، وأما الوعظ والتدريس فلا ينافى اسم التصوف إذا وجدت بقية الخصال من الزي والمساكنة والفقر إذ لا يتناقض أن يقال صوفي مقرئ وصوفي واعظ وصوفي عالم أو مدرس، ويتناقض أن يقال صوفي دهقان وصوفي تاجر وصوفي عامل، وأما الفقر فإن زال بغنى مفرط ينسب الرجل إلى الثروة الظاهرة فلا يجوز معه أخذ وصية الصوفية، وإن كان له مال ولا يفي دخله بخرجه لم يبطل حقه،وكذا إذا كان له مال قاصر عن وجوب الزكاة وإن لم يكن خرج وهذه أمور لا دليل لها إلا العادات. وأما المخالطة لهم ومساكنتهم فلها أثر ولكن من لا يخالطهم وهو في داره أو في مسجد على زيهم ومتخلق بأخلاقهم فهو شريك في سهمهم وكأن ترك المخالطة يجبرها ملازمة الزي فإن لم يكن على زيهم ووجد فيه بقية الصفات فلا يستحق إلا إذا كان مساكناً لهم في الرباط فينسحب عليه حكمهم بالتبعية. فالمخالطة والزي ينوب كل واحد منهما عن الآخر. والفقيه الذي ليس على زيهم هذا حكمه فإن كان خارجاً لم يعد صوفياً وإن كان ساكناً معهم ووجدت بقية الصفات لم يبعد أن ينسحب بالتبعية عليه حكمهم. وأما لبس المرقعة من يد شيخ من مشايخهم فلا يشترط ذلك في الاستحقاق، وعدمه لا يضره مع وجود الشرائط المذكورة. وأما المتأهل المتردد بين الرباط والمسكن فلا يخرج بذلك عن جملتهم.

مسألة: ما وقف على رباط الصوفية وسكانه فالأمر فيه أوسع مما أوصى لهم به لأن معنى الوقوف الصرف إلى مصالحهم، فلغير الصوفي أن يأكل معهم برضاهم على مائدتهم مرة أو مرتين فإن أمر الأطعمة مبناه على التسامح حتى جاز الانفراد بها في الغنائم المشتركة وللقوال أن يأكل معهم في دعوتهم من ذلك الوقف وكان ذلك من مصالح معايشهم، وما أوصى به للصوفية لا يجوز أن يصرف إلى قوال الصوفية بخلاف الوقف، وكذلك من أحضروه من العمال والتجار والقضاة والفقهاء ممن لهم غرض في استمالة قلوبهم يحل لهم الأكل برضاهم، فإن الواقف لا يقف إلا معتقداً فيه ما جرت به عادات الصوفية فينزل على العرف ولكن ليس هذا على الدوام، فلا يجوز لمن ليس صوفياً أن يسكن معهم على الدوام ويأكل وإن رضوا به إذ ليس لهم تغيير شرط الواقف بمشارة غير جنسهم. وأما الفقيه إذا كان على زيهم وأخلاقهم فله النزول عليهم، وكونه فقيهاً لا ينافي كونه صوفياً، والجهل ليس بشرط في التصوف عند من يعرف التصوف، ولا يلتفت إلى خرافات بعض الحمقى بقولهم: إن العلم حجاب فإن الجهل هو الحجاب. وقد ذكرنا تأويل هذه الكلمة في كتاب العلم، وأن الحجاب هو العلم المذموم دمن المحمود، وذكرنا المحمود والمذموم وشرحهما. وأما الفقيه إذا لم يكن على زيهم وأخلاقهم فلهم منعه من النزول عليهم فإن رضوا بنزوله فيحل له الأكل معهم بطريق التبعية فكان عدم الزي تجبره المساكنة ولكن برضا أهل الزي، وهذه أمور تشهد لها العادات ومنها أمور متقابلة لا يخفى أطرافها في النفي والإثبات ومتشابه أوساطها فمن احترز في مواضع الاشتباه فقد استبرأ لدينه كما نبهنا عليه في أبواب الشبهات.

مسألة: سئل عن الفرق بين الرشوة والهدية مع أن كل واحد منهما يصدر عن الرضا ولا يخلو عن غرض وقد حرمت إحداهما دون الأخرى. فقلت: باذل المال لا يبذله قط إلا لغرض، ولكن الغرض إما آجل كالثواب وإما عاجل، والعاجل إما مال وإما فعل وإعانة على مقصود معين وإما تقرب إلى قلب المهدي إليه بطلب محبته إما للمحبة في عينها وإما للتوصل بالمحبة إلى غرض وراءها فالأقسام الحاصلة من هذه خمسة: الأول: ما غرضه الثواب في الآخرة وذلك إما أن يكون لكون المصروف إليه محتاجاً أو عالماً أو منتسباً بنسب ديني أو صالحاً في نفسه متديناً. فما علم الآخذ أنه يعطاه لحاجته لا يحل له أخذه إن لم يكن محتاجاً، وما علم أنه يعطاه لشرف نسبه لا يحل له أنه كاذب في دعوى النسب، وما يعطى لعلمه فلا يحل له أن يأخذه إلا أن يكون في العلم كما يعتقده المعطي، فإن كان خيل إليه كمالاً في العلم حتى بعثه بذلك على التقرب ولم يكن كاملاً لم يحل له، وما يعطى لدينه وصلاحه لا يحل له أن يأخذه إن كان فاسقاً في الباطن فسقاً لو علمه المعطي ما أعطاه، وقلما يكون الصالح بحيث لو انكشف باطنه لبقيت القلوب مائلة إليه وإنما ستر الله الجميل هو الذي يحبب الخلق إلى الخلق. وكان المتورعون يوكلون في الشراء من لا يعرف أنه وكيلهم حتى لا يتسامحوا في المبيع خيفة من أن يكون ذلك أكلاً بالدين فإن ذلك مخطر والتقي خفي لا كالعلم والنسب والفقر فينبغي أن يجتنب الأخذ بالدين ما أمكن.

القسم الثاني: ما يقصد به العاجل غرض معين كالفقير يهدي إلى الغني طمعاً في خلعته فهذه هبة بشرط الثواب لا يخفى حكمها وإنما تحل عند الوفاء بالثواب المطموع فيه وعند وجود شروط العقود.

الثالث: أن يكون المراد إعانة بفعل معين كالمحتاج إلى السلطان يهدي إلى وكيل السلطان وخاصته ومن له مكانة عنده فهذه هدية بشرط ثواب يعرف بقرينة الحال، فلينظر في ذلك العمل الذي هو الثواب فإن كان حراماً كالسعي في تنجيز إدرار حرام أو ظلم إنسان أو غيره حرم الأخذ، وإن كان واجباً كدفع ظلم متعين على كل من يقدر عليهأو شهادة متعينة فيحرم عليه ما يأخذه وهي الرشوة التي لا يشك في تحريمها، وإن كان مباحاً لا واجباً ولا حراماً وكان فيه تعب بحيث لو عرف لجاز الاستئجار عليه فما يأخذه حلال مهما وفى بالغرض، وهو جار مجرى الجعالة كقوله: أوصل هذه القصة إلى يد فلان أو يد السلطان ولك دينار وكان بحيث يحتاج إلى يعب وعمل متقوم، أو قال اقترح على فلان أن يعينني في غرض كذا أو ينعم علي بكذا وافتقر في تنجيز غرضه إلى كلام طويل، فذلك جعل كما يأخذه الوكيل بالخصومة بين يدي القاضي فليس بحرام إذا كان لا يسعى في حرام، وإن كان مقصوده يحصل بكلمة لا تعب فيها ولكن تلك الكلمة من ذي الجاه أو تلك الفعلة من ذي الجاه يفيد كقوله للبواب لا تغلق دونه باب السلطان أو كوضعه قصة بين يدي السلطان فقط، فهذا حرام لأنه عوض عن الجاه، ولم يثبت في الشرع جواز ذلك بل ثبت ما يدل على النهي عنه. كما سيأتي في هدايا الملوك. وإذا كان لا يجوز العوض عن إسقاط الشفعة والرد بالعيب ودخول الأغصان في هواء الملك وجملة من الأغراض مع كونها مقصودة فكيف يؤخذ عن الجاه? ويقرب من هذا أخذ الطبيب العوض على كلمة واحدة ينبه بها على دواء ينفرد بمعرفته كواحد ينفرد بالعلم بنبت يقلع البواسير أو غيره فلا يذكره إلا بعوض فإن عمله بالتلفظ به غير متقوم كحبة من سمسم فلا يجوز أخذ العوض عليه ولا على علمه، إذ ليس ينتقل علمه على غيره وإنما يحصل لغيره مثل علمه ويبقى هو عالماً به، ودون هذا: الحاذق في الصناعة كالصيقلي مثلاً الذي يزيل اعوجاج السيف أو المرآة بدقة واحدة لحسن معرفته بموضع الخلل، ولحذقه بإصابته فقد يزيد بدقة واحدة مال كثير في قيمة السيف والمرآة فهذا لا أرى بأساً بأخذ الأجرة عليه، لأن مثل هذه الصناعات يتعب الرجل في تعلمها ليكتسب ويخفف عن نفسه كثرة العمل.

الرابع: ما يقصد به المحبة وجلبها من قبل المهدي إليه لا لغرض معين ولكن طلباً للاستئناس وتأكيداً للصحبة وتودداً إلى القلوب فذلك مقصود للعقلاء ومندوب إليه في الشرع. قال : "تهادوا تحابوا"، وعلى الجملة فلا يقصد الإنسان في الغالب أيضاً محبة غيره لعين المحبة بل لفائدة في محبته ولكن إذا لم تتعين تلك الفائدة ولم يتمثل في نفسه غرض معين يبعثه في الحال أو المآل سمي ذلك هدية وحل أخذها.

الخامس: أن يطلب التقرب إلى قلبه وتحصيل محبته لا للأنس به من حيث إنه أنس فقط بل ليتوصل بجاهه إلى أغراض له ينحصر جنسها وإن لم ينحصر عينها وكان لولا جاهه وحشمته لكان لا يهدي إليه، فإن كان جاهه لأجل علم أو نسب فلأمر فيه أخف وأخذه مكروه فإن فيه مشابهة الرشوة ولكنها هدية في ظاهرها، فإن كان جاهه بولاية تولاها من قضاء أو عمل أو ولاية صدقة أو جباية مال أو غيره من الأعمال السلطانية حتى ولاية الأوقاف مثلاً، وكان لولا تلك الولاية لكان لا يهدي إليه فهذه رشوة عرضت في معرض الهدية إذ القصد بها في الحال طلب التقرب واكتساب المحبة ولكن الأمر ينحصر في جنسه إذ ما يمكن التوصل إليه بالآيات لا يخفى وآية أنه لا يبغي المحبة أنه لو ولى في الحال غيره لسلم المال إلى ذلك الغير، فهذا مما اتفقوا على أن الكراهة فيه شديدة واختلفوا في كونه حراماً، والمعنى فيه متعارضاً فإنه دائر بين الهدية المحضة وبين الرشوة المبذولة في مقابلة جاه في غرض معين، وإذا تعارضت المشابهة القياسية وعضدت الأخبار والآثار أحمدهما تعين الميل إليه، وقد دلت الأخبار على تشديد الأمر في ذلك قال : "يأتي على الناس زمان يستحل فيه السحت بالهدية والقتل بالموعظة يقتل البريء لتوعظ به العامة"، وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن السحت فقال: يقضي الرجل الحاجة فتهدى له الهدية ولعله أراد قضاء الحاجة بكلمة لا تعب فيها أو تبرع بها لا على قصد أجرة، فلا يجوز أن يأخذ بعده شيئاً في معرض العوض، شفع مسروق شفاعة فأهدى إليه المشفوع له جارية فغضب وردها وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ولا أتكلم فيما بقي منها. وسئل طاوس عن هدايا السلطان فقال: سحت. وأخذ عمر رضي الله عنه ربح مال القراض الذي أخذه ولداه من بيت المال وقال: إنما أعطيتما لمكانكما مني إذ علم أنهما أعطيا لأجل جاه الولاية. وأهدت امرأة أبي عبيدة بن الجراح إلى خاتون ملكة الروم خلوقاً فكافأتها بجوهر فأخذه عمر رضي الله عنه فباعه وأعطاها ثمن خلوقها ورد باقيه إلى بيت مال المسلمين. وقال جابر وأبو هريرة رضي الله عنهما: هدايا الملوك غلول. ولم رد عمر بن عبد العزيز الهدية قيل له: "كان رسول الله يقبل الهدية فقال: كان ذلك له هدية وهو لنا رشوة" أي كان يتقرب إليه لنبوته لا لولايته ونحن إنما نعطى الولاية. وأعظم من ذلك كله ما روى أبو حميد الساعدي "أن رسول الله بعث والياً على صدقات الأزد فلما جاء إلى رسول الله أمسك بعض ما معه وقال: هذا لكم وهذا لي هدية، فقال عليه السلام: "ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً"، ثم قال: "مالي أستعمل الرجل منكم فيقول: هذا لكم وهذا لي هدية ألا أجلس في بيت أمه ليهدى له والذي نفسي بيده لا يأخذ منكم أحد شيئاً بغير حقه إلا أتى الله يحمله فلا يأتين أحدكم يوم القيامة ببعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر"، ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال: "اللهم هل بلغت". وإذا ثبتت هذه التشديدات فالقاضي والولي ينبغي أن يقدر نفسه في بيت أمه وأبيه فما بعد العزل وهو في بيت أمه يجوز له أن يأخذه في ولايته، وما يعلم أنه، إنما يعطاه لولايته فحرام أخذه، وما أشكل عليه في هدايا أصدقائه أنهم هل كانوا يعطونه لو كان معزولاً? فهو شبهة فليجتنبه.