إحياء علوم الدين/كتاب الحلال والحرام/الباب الخامس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الباب الخامس

في إدارات السلاطين وصلاتهم

وما يحل منها وما يحرم


اعلم أن من أخذ مالاً من سلطان فلا بد له من النظر في ثلاثة أمور: في مدخل ذلك إلى يد السلطان من أين هو? وفي صفته التي بها يستحق الأخذ. وفي المقدار الذي يأخذه هل يستحقه إذا أضيف إلى حاله وحال شركائه في الاستحقاق?.

النظر الأول: في جهات الدخل للسلطان: وكل ما يحل للسلطان سوى الإحياء وما يشترك فيه الرعية قسمان: مأخوذ من الكفار. وهو الغنيمة المأخوذة بالقهر. والفيء، وهو الذي حصل من مالهم في يده من غير قتال، والجزية وأموال المصالحة، وهي التي تؤخذ بالشروط والمعاقدة.

والقسم الثاني: المأخوذ من المسلمين فلا يحل منه إلا قسمان: المواريث وسائر الأموال الضائعة التي لا يتعين لها مالك، والأوقاف التي لا متولي لها. أما الصدقات فليست توجد في هذا الزمان. وما عدا ذلك من الخراج المضروب على المسلمين والمصادرات وأنواع الرشوة كلها حرام.

فإذا كتب لفقيه أو غيره إدرار أو صلة أو خلعة على جهة فلا يخلو من أحوال ثمانية: فإنه إما أن يكتب له ذلك على الجزية، أو على المواريث، أو على الأوقاف، أو على ملك أحياه السلطان، أو على عامل خراج المسلمين، أو على بياع من جملة التجار، أو على الخزانة.

فالأول: هو الجزية وأربعة أخماسها للمصالح وخمسها لجهات معينة. فما يكتب على الخمس من تلك الجهات أو على الأخماس الأربعة لما فيه مصلحة وروعي فيه الاحتياط في القدر فهو حلال، بشرط أن لا تكون الجزية إلا مضروبة على وجه شرعي ليس فيها زيادة على دينار أو على أربعة دنانير، فإنه أيضاً محل الاجتهاد وللسلطان أن يفعل ما هو في محل الاجتهاد، وبشرط أن يكون الذمي الذي تؤخذ الجزية منه مكتسباً من وجه لا يعلم تحريمه فلا يكون عامل السلطان ظالماً ولا بائع خمر ولا صبياً ولا امرأة، إذ لا جزية عليهما. فهذه أمور تراعى في كيفية ضرب الجزية ومقدارها وصفة من تصرف أليه ومقدار ما يصرف فيجب النظر في جميع ذلك.

الثاني: المواريث والأموال الضائعة فهي للمصالح والنظر أن الذي خلفه هل كان ماله كله حراماً أو أكثره أو أقله وقد سبق حكمه، فإن لم يكن حراماً بقي النظر في صفة من يصرف إليه بأن يكون في الصرف إليه مصلحة ثم في المقدار المصروف.

الثالث: الأوقاف، وكذا يجري النظر فيها كما يجري في الميراث مع زيادة امر وهو شرط الواقف حتى يكون المأخوذ موافقاً له في جميع شرائطه.

الرابع: ما أحياه السلطان، وهذا لا يعتبر فيه شرط إذ له أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء أي قدر شاء. وإنما النظر في أن الغالب أنه أحياه بإكراه الأجراء أو بأداء أجرتهم من حرام. فإن الإحياء يحصل بحفر القناة والأنهار وبناء الجدران وتسوية الأرض ولا يتولاه السلطان بنفسه. فإن كانوا مكرهين على الفعل لم يملكه السلطان وهو حرام وإن كانوا مستأجرين ثم قضيت أجورهم من الحرام، فهذا يورث شبهة قد نبهنا عليها في تعلق الكراهة بالأعواض.

الخامس: ما اشتراه السلطان في الذمة من أرض أو ثياب خلعة أو فرس أو غيره فهو ملكه وله أن يتصرف فيه، ولكنه سيقضي ثمنه من حرام وذلك يوجب التحريم تارة والشبهة أخرى. وقد سبق تفصيله.

السادس: أن يكتب على عامل خرج المسلمين أو من يجمع أموال القسمة والمصادرة وهو الحرام السحت الذي لا شبهة فيه، وهو أكثر الإدرارات في هذا الزمان إلا ما على أراضي العراق فإنها وقف عند الشافعي رحمه الله على مصالح المسلمين.

السابع: ما يكتب على بياع يعامل السلطان فإنه كان لا يعامل غيره فماله كمال خزانة السلطان. وإن كان يعامل غير السلاطين أكثر فما يعطيه قرض على السلطان وسيأخذ بدله من الخزانة فالخلل يتطرق إلى العوض. وقد سبق حكم الثمن الحرام.

الثامن: ما يكتب على الخزانة أو على عامل يجتمع عنده من الحلال والحرام فإن لم يعرف للسلطان دخل إلا من الحرام فهو سحت محض. وإن عرف يقيناً أن الخزانة تشتمل على مال حلال ومال حرام واحتمل ان يكون ما يسلم إليه بعينه من الحلال احتمالاً قريباً له وقع في النفس، واحتمل أن يكون من الحرام وهو الأغلب لأن أغلب أموال السلاطين حرام في هذه الأعصار والحلال في أيديهم معدوم أو عزيز فقد اختلف الناس في هذا فقال قوم: كل ما لا أتيقن أنه حرام فلي أن آخذه، وقال آخرون: لا يحل أن يأخذ ما لم يتحقق أنه حلال فلا تحل شبهة أصلاً. وكلاهما إسراف، والاعتدال ما قدمنا ذكره وهو الحكم بأن الأغلب إذا كان حراماً حرم وإن كان الأغلب حلالاً وفيه يقين حرام فهو موضع توقفنا فيه. كما سبق.

ولقد احتج من جوز اخذ أموال السلاطين إذا كان فيها حرام وحلال. مهما لم يتحقق أن عين المأخوذ حرام. بما روي عن جماعة من الصحابة أنهم أدركوا أيام الأئمة الظلمة وأخذوا الأموال: منهم أبو هريرة،وأبو سعيد الخدري، وزيد بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري وجرير بن عبد الله، وجابر، وأنس بن مالك، والمسور بن مخرمة. فأخذ أبو سعيد وأبو هريرة من مروان ويزيد بن عبد الملك. وأخذ بن عمر وابن عباس من الحجاج. وأخذ كثير من التابعين منهم كالشعبي وإبراهيم والحسن وابن أبي ليلى. وأخذ الشافعي من هارون الرشيد ألف دينار في دفعة. وأخذ مالك من الخلفاء أموالاً جمة، وقال علي رضي الله عنه: خذ ما يعطيك السلطان فإنما يعطيك من الحلال وما يأخذ من الحلال أكثر. وإنما ترك من ترك العطاء منهم تورعاً مخافة على دينه أن يحمل على ما لا يحل. ألا ترى قول أبي ذر للأحنف بن قيس: خذ العطاء ما كان نحلة فإذا كان أثمان دينكم فدعوه? وقال أبو هريرة رضي الله عنه:إذا أعطينا قبلنا وإذا منعنا لم نسأل. وعن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان إذا أعطاه معاوية سكت وإن منعه وقع فيه. وعن الشعبي عن مسروق: لا يزال العطاء بأهل العطاء حتى يدخلهم النار. أي يحمله ذلك على الحرام لا لأنه في نفسه حرام. وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن المختار كان يبعث إليه المال فيقبله ثم يقول: لا أسأل أحداً ولا أرد ما رزقني الله. وأهدى إليه ناقة فقبلها وكان يقال لها ناقة المختار، ولكن هذا يعارضه ما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يرد هدية أحد إلا هدية المختار، والإسناد في رده أثبت. وعن نافع أنه قال: بعث ابن معمر إلى ابن عمر بستين ألفاً فقسمها على الناس، ثم جاءه سائل فاستقرض له من بعض من أعطاه وأعطى السائل. ولما قدم الحسن بن علي رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه فقال: لأجيزك بجائزة لم أجزها أحداً قبلك من العرب ولا أجيزها أحداً بعدك من العرب، قال: فأعطاه أربعمائة ألف درهم فأخذها. وعن حبيب بن أبي ثابت قال: لقد رأيت جائزة المختار لابن عمر وابن عباس فقبلاها فقيل ما هي? قال: مال وكسوة. وعن الزبير بن عدي أنه قال: قال سليمان: إذا كان لك صديق عامل أو تاجر يقارف الربا فدعاك إلى طعام أو نحوه أو أعطاك شيئاً فاقبل فإن المهنأ لك وعليه الوزر. فإن ثبت هذا في المربي فالظالم في معناه. وعن جعفر عن أبيه أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا يقبلان جوائز معاوية. وقال حكيم بن جبير:مررنا على سعيد بن جبير وقد جعل عاملاً على أسفل الفرات فأرسل إلى العشارين أطعمونا مما عندكم فأرسلوا بطعام فأكل وأكلنا معه. وقال العلاء بن زهير الأزدي: أتى إبراهيم أبي. وهو عامل على حلوان. فأجازه فقبل وقال إبراهيم: لا بأس بجائزة العمال إن للعمال مؤنة ورزقاً. ويدخل بيت ماله الخبيث والطيب فما أعطاك فهو من طيب ماله. فقد أخذ هؤلاء كلهم جوائز السلاطين الظلمة وكلهم طعنوا على من أطاعهم في معصية الله تعالى. وزعمت هذه الفرقة أن ما ينقل من امتناع جماعة من السلف لا يدل على التحريم بل على الورع كالخلفاء الراشدين وأبي ذر وغيرهم من الزهاد فإنهم امتنعوا من الحلال المطلق زهداً ومن الحلال الذي يخاف إفضاؤه إلى محذور ورعاً وتقوى. فإقدام هؤلاء يدل على الجواز وامتناع أولئك لا يدل على التحريم. وما نقل عن سعيد بن المسيب أنه ترك عطاءه في بيت المال حتى اجتمع بضعة وثلاثين ألفاً، وما نقل عن الحسن من قوله لا أتوضأ من ماء صيرفي ولو ضاق وقت الصلاة لأني لا أدري أصل ماله، كل ذلك ورع لا ينكر، واتباعهم عليه أحسن من اتباعهم على الاتساع ولكن لا يحرم اتباعهم على الاتساع أيضاً. فهذه هي شبهة من يجوز أخذ مال السلطان الظلام.

والجواب، أن ما نقل من أخذ هؤلاء محصور قليل بالإضافة إلى ما نقل من ردهم وإنكارهم، وإن كان يتطرق إلى امتناعهم احتمال الورع فيتطرق إلى أخذ من أخذ ثلاثة احتمالات متفاوتة في الدرجة بتفاوتهم في الورع فإن للورع في حق السلاطين أربع درجات:

الدرجة الأولى: أن لا يأخذ من أموالهم شيئاً أصلاً كما فعله الورعون منهم، وكما كان يفعله الخلفاء الراشدون حتى أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقسم مال بيت المال يوماً فدخلت ابنة له وأخذت درهماً من المال فنهض عمر في طلبها حتى سقطت الملحفة من أحد منكبيه ودخلت الصبية إلى بيت أهلها تبكي وجعلت الدرهم في فيها فأدخل عمر إصبعه فأخرجه من فيها وطرحه على الخراج وقال: أيها الناس ليس لعمر ولا لآل عمر إلا ما للمسلمين قريبهم وبعيدهم. وكسح أبو موسى الأشعري بيت المال فوجد درهماً فمر بني لعمر رضي الله عنه فأعطاه إياه فرأى عمر ذلك في يد الغلام فسأله عنه فقال أعطانيه أبو موسى فقال: يا أبا موسى ما كان في أهل المدية بيت أهون عليك من آل عمر أردت أن لا يبقى من أمة محمد أحد إلا طلبنا بمظلمة، وردهم الدرهم إلى بيت المال. هذا مع أن المال كان حلالاً ولكن خاف أن لا يستحق هو ذلك القدر فكان يستبرئ لدينه ويقتصر على الأقل امتثالاً لقوله : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ولقوله: "ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه"، ولما سمعه من رسول الله من التشديدات في الأموال السلطانية حتى قال حين بعث عبادة بن الصامت إلى الصدقة: "اتق الله يا أبا الوليد لا تجئ يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك له رعاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثؤاج" فقال: يا رسول الله أهكذا يكون? قال: "نعم، والذي نفسي بيده إلا من رحم الله". قال: فوالذي بعثك بالحق لا أعمل على شيء أبداً،وقال : "إني لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي إنما أخاف عليكم أن تنافسوا" وإنما خاف التنافس في المال. ولذلك قال عمر رضي الله عنه في حديث طويل يذكر فيه مال بيت المال: إني لم أجد نفسي فيه إلا كالوا لي مال اليتيم؛ إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف. وروي أن ابناً لطاوس افتعل كتاباً عن لسانه إلى عمر بن عبد العزيز فأعطاه ثلاثمائة دينار؛ فباع طاوس ضيعة له وبعث من ثمنها إلى عمر بثلاثمائة دينار، هذا مع أن السلطان ليس مثل عمر بن عبد العزيز. فهذه الدرجة العليا في الورع.

الدرجة الثانية: هو أن يأخذ مال السلطان ولكن إنما يأخذ إذا علم أن ما يأخذه من جهة حلال فاشتمال يد السلطان على حرام آخر لا يضره وعلى هذا ينزل جميع ما نقل من الآثار أو أكثرها أو ما اختص منها بأكابر الصحابة والورعين منهم مثل ابن عمر فإنه كان من المبالغين في الورع فكيف يتوسع في مال السلطان، وقد كان من أشدهم إنكاراً عليهم وأشدهم ذماً لأموالهم? وذلك أنهم اجتمعوا عند ابن عامر. وهو في مرضه وأشفق على نفسه من ولايته وكونه مأخوذاً عند الله تعالى بها. فقالوا له: إنا لنرجو لك الخير، حفرت الآبار وسقيت الحاج وصنعت وصنعت وابن عمر ساكت، فقال: ماذا تقول يا ابن عمر? فقال: أقول ذلك إذا طاب المكسب وزكت النفقة وسترد فترى. وفي حديث آخر أنه قال: إن الخبيث لا يكفر الخبيث وإنك قد وليت البصرة ولا أحسبك إلا قد أصبت منها شراً. فقال له ابن عامر: ألا تدعو لي، فقال ابن عمر: سمعت رسول الله يقول: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" وقد وليت البصرة فهذا قوله فيما صرفه إلى الخيرات. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في أيام الحجاج: ما شبعت من الطعام، منذ انتبهت الدار إلى يومي هذا وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان له سويق في إناء مختوم يشرب منه فقيل: أتفعل هذا بالعراق مع كثرة طعامه? فقال: أما إني لا أختمه بخلابه ولكن أكره أن يجعل فيه ما ليس منه وأكره أن يدخل بطني غير طيب، فهذا هو المألوف منهم وكان ابن عمر لا يعجبه شيء إلا خرج عنه فطلب منه نافع بثلاثين ألفاً فقال: إني أخاف أن تفتني دراهم ابن عامر وكان هو الطالب اذهب فأنت حر. وقال أبو سعيد الخدري: ما منا أحد إلا وقد مالت به الدنيا إلا ابن عمر? فبهذا يتضح أنه لا يظن به وبمن كان في منصبه أنه أخذ مالاً يدري أنه حلال.

الدرجة الثالثة: أن يأخذ ما أخذه من السلطان ليتصدق به على الفقراء أو يفرقه على المستحقين، فإن ما لا يتعين مالكه هذا حكم الشرع فيه. فإذا كان السلطان إن لم يأخذ منه لم يفرقه واستعان به على ظلم فقد نقول أخذه منه وتفرقته أولى من تركه في يده، وهذا قد رآه بعض العلماء وسيأتي وجهه. وعلى هذا ينزل ما أخذه أكثرهم ولذلك قال ابن المبارك: إن الذين يأخذون الجوائز اليوم ويحتجون بابن عمر وعائشة ما يقتدون بهما? لأن ابن عمر فرق ما أخذ حتى استقرض في مجلسه بعد تفرقته ستين ألفاً، وعائشة فعلت مثل ذلك، وجابر بن زيد جاءه مال فتصدق به وقال: رأيت أن آخذه منهم وأتصدق أحب إلي من أن أدعها في أيديهم، وهكذا فعل الشافعي رحمه الله بما قبله من هارون الرشيد فإنه فرقه على قرب حتى لم يمسك لنفسه حبة واحدة.

الدرجة الرابعة: أن لا يتحقق انه حلال ولا يفرق بل يستبقي ولكن يأخذ من سلطان أكثر ماله حلال، وهكذا كان الخلفاء في زمان الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين بعد الخلفاء الراشدين ولم يكن أكثرهم مالهم حراماً. ويدل عليه تعليل علي رضي الله عنه حيث قال: فإن ما يأخذه من الحلال أكثر. فهذا مما قد جوزه جماعة من العلماء تعويلاً على الأكثر.

ونحن إنما توقفنا فيه في حق آحاد الناس، ومال السلطان أشبه بالخروج عن الحصر فلا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى جواز أخذ ما لم يعلم أنه حرام اعتماداً على الأغلب، وإنما منعناه إذا كان الأكثر حراماً فإذا فهمت هذه الدرجات تحققت أن ادرارات الظلمة في زماننا لا تجري مجرى ذلك وأنها تفارقه من وجهين قاطعين: أحدهما: أن أموال السلاطين في عصرنا حرام كلها أو أكثرها، وكيف لا والحلال هو الصدقات والفيء والغنيمة لا وجود لها وليس يدخل منها شيء في يد السلطان? ولم يبق إلا الجزية وأنها تؤخذ بأنواع من الظلم لا يحل أخذها به فإنهم يجاوزون حدود الشرع في المأخوذ والمأخوذ منه والوفاء له بالشرط، ثم إذا نسبت ذلك إلى ما ينصب إليهم من الخراج المضروب على المسلمين ومن المصادرات والرشا وصنوف الظلم لو يبلغ عشر معشار عشيره.

والوجه الثاني: أن الظلمة في العصر الأول لقرب عهدهم بزمان الخلفاء الراشدين كانوا مستشعرين من ظلمهم ومتشوفين إلى استمالة قلوب الصحابة والتابعين وحريصين على قبولهم عطاياهم وجوائزهم، وكانوا يبعثون إليهم من غير سؤال وإذلال بل كانوا يتقلدون المنة بقبولهم ويفرحون به، وكانوا يأخذون منهم ويفرقون ولا يطيعون السلاطين في أغراضهم ولا يغشون مجالسهم ولا يكثرون جمعهم ولا يحبون بقاءهم بل يدعون عليهم ويطلقون اللسان فيهم وينكرون المنكرات منهم عليهم، فما كان يحذر أن يصيبوا من دينهم بقدر ما أصابوا من دنياهم ولم يكن يأخذهم بأس، فأما الآن فلا تسمح نفوس السلاطين بعطية إلا لمن طمعوا في استخدامهم والتكثر بهم والاستعانة بهم على أغراضهم والتجمل بغشيان مجالسهم وتكليفهم المواظبة على الدعاء والثناء والتزكية والإطراء في حضورهم ومغيبهم. فلو لم يذل الآخذ نفسه بالسؤال أولاً، وبالتردد في الخدمة ثانياً وبالثناء والدعاء ثالثاً، وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعاً، وبتكثير جمعه في مجلسه وموكبه خامساً، وبإظهار الحب والموالاة والمناصرة له على أعدائه سادساً، وبالستر على ظلمه ومقابحه ومساوئ أعماله سابعاً، لم ينعم عليه بدرهم واحد ولو كان في فضل الشافعي رحمه الله مثلاً؛ فإذا لا يجوز أن يؤخذ منهم في هذا الزمان ما يعلم أنه حلال لإفضائه إلى هذه المعاني فكيف ما يعلم أنه حرام أو يشك فيه? فمن استجرأ على أموالهم وشبه نفسه بالصحابة والتابعين فقد قاس الملائكة بالحدادين. ففي أخذ الأموال منهم حاجة إلى مخالطتهم ومراعاتهم وخدمة عمالهم واحتمال الذل منهم والثناء عليهم والتردد إلى أبوابهم وكل ذلك معصية. على ما سنبين في الباب الذي يلي هذا. فإذا قد تبين مما تقدم مداخل أموالهم وما يحل منها وما لا يحل. فلو تصور أن يأخذ الإنسان منها ما يحل بقدر استحقاقه وهو جالس في بيته يساق إليه ذلك. لا يحتاج فيه إلى تفقد عامل وخدمته ولا إلى الثناء عليهم وتزكيتهم ولا إلى مساعدتهم. فلا يحرم الأخذ ولكن يكره لمعان سننبه عليها في الباب الذي يلي هذا.

النظر الثاني من هذا الباب: في قدر المأخوذ وصفة الآخذ:

ولنفرض المال من أموال المصالح كأربعة أخماس الفيء والمواريث فإن ما عداه مما قد تعين مستحقه إن كان من وقف أو صدقة أو خمس فيء أو خمس غنيمة، وما كان من ملك السطان مما أحياه أو اشتراه فله أن يعطي ما شاء لمن شاء. وإنما النظر في الأموال الضائعة ومال المصالح فلا يجوز صرفه إلا إلى من فيه مصلحة عامة أو هو محتاج إليه عاجز عن الكسب، فأما الغني الذي لا مصلحة فيه فلا يجوز صرف مال بيت المال إليه، هذا هو الصحيح وإن كان العلماء قد اختلفوا فيه. وفي كلام عمر رضي الله عنه ما يدل على أن لطل مسلم حقاً في بيت المال لكونه مسلماً مكثراً جمع الإسلام، ولكنه مع هذا ما كان يقسم المال على المسلمين كافة بل على مخصوصين بصفات. فإذا ثبت هذا فكل من يتولى أمراً يقوم به تتعدى مصلحته إلى المسلمين ولو اشتغل بالكسب لتعطل عليه ما هو فيه، فله في بيت المال حق الكفاية. ويدخل فيه العلماء كلهم؛ أعني العلوم التي تتعلق بمصالح الدين من علم الفقه والحديث والتفسير والقراءة حتى يدخل فيه المعلمون والمؤذنون. وطلبة هذه العلوم أيضاً يدخلون فيه، فإنهم إن لم يكفوا لم يتمكنوا من الطلب. ويدخل فيه العمال، وهم الذين ترتبط مصالح الدنيا بأعمالهم وهم الأجناد المرتزقة الذين يحرسون المملكة بالسيوف عن أهل العداوة وأهل البغي وأعداء الإسلام. ويدخل فيه الكتاب والحساب والوكلاء وكل من يحتاج إليه في ترتيب ديوان الخراج، أعني العمال على الأموال الحلال لا على الحرام، فإن هذا المال للمصالح. والمصلحة إما أن تتعلق بالدين أو بالدنيا فبالعلماء حراسة الدين وبالأجناد حراسة الدنيا. والدين والملك توأمان فلا يستغني أحدهما عن الآخر. والطبيب وإن كان لا يرتبط بعلمه أمر ديني ولكن يرتبط به صحة الجسد والدين يتبعه، فيجوز أن يكون له ولمن يجري مجراه في العلوم المحتاج إليها في مصلحة الأبدان أو مصلحة البلاد إدرار من هذه الأموال ليتفرغوا لمعالجة المسلمين، أعني من يعالج منهم بغير أجرة، وليس يشترط في هؤلاء الحاجة بل يجوز أن يعطوا مع الغنى. فإن الخلفاء الراشدين كانوا يعطوا المهاجرين والأنصار ولم يعرفوا بالحاجة. وليس يتقدر أيضاً بمقدار بل هو إلى اجتهاد الإمام وله أن يوسع ويغني وله أن يقتصر على الكفاية على ما يقتضيه الحال وسعة المال. فقد أخذ الحسن عليه السلام من معاوية في دفعة واحدة أربعمائة ألف درهم. وقد كان عمر رضي الله عنه يعطي لجماعة اثني عشر ألف درهم نقرة في السنة. وأثبتت عائشة رضي الله عنها في هذه الجريدة ولجماعة عشرة ألف ولجماعة ستة آلاف وهكذا. فهذا مال هؤلاء فيوزع عليهم حتى لا يبقى منه شيء. فإن خص واحداً منهم بمال كثير فلا بأس. وكذلك للسلطان أن يخص من هذا المال ذوي الخصائص بالخلع والجوائز فقد كان يفعل ذلك في السلف ولكن ينبغي أن يلتفت فيه إلى المصلحة. ومهما خص عالم أو شجاع بصلة كان فيه بعث للناس وتحريض على الاشتغال والتشبه به، فهذه فائدة الخلع والصلات وضروب التخصيصات وكل ذلك منوط باجتهاد السلطان. وإنما النظر في السلاطين الظلمة في شيئين: أحدهما: أن السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته، وهو إما معزول أو واجب العزل فكيف يجوز أن يأخذ من يده وهو على التحقيق ليس بسلطان?.

والثاني: أنه ليس يعمم بماله جميع المستحقين فكيف يجوز للآحاد أن يأخذوا? أفيجوز لهم الأخذ يقدر حصصهم أم لا يجوز أصلاً? أم يجوز كل واحد ما أعطى?.

أما الأول: فالذي نراه أنه لا يمنع أخذ الحق، لأن السلطان الظالم الجاهل مهما ساعدته الشوكة وعسر خلعه وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق وجب تركه ووجبت الطاعة له كما تجب طاعة الأمراء، إذ قد ورد في الأمر بطاعة الأمراء، والمنع من سل اليد عن مساعدتهم، أوامر وزواجر، فالذي نراه: أن الخلافة منعقدة للمتكفل بها من بني العباس رضي الله عنه، وأن الولاية نافذة للسلاطين في أقطار البلاد والمبايعين للخليفة. وقد ذكرنا في كتاب المستظهري المستنبط من كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار تأليف القاضي أبي الطيب في الرد على أصناف الروافض من الباطنية ما يشير إلى وجه المصلحة فيه. والقول الوجيز أنا نراعي الصفات والشروط في السلاطين تشوفاً إلى مزايا المصالح. ولو قضينا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأساً فكيف يفوت رأس المال في طلب الربح? بل الولاية الآن لا تتبع إلا الشوكة. فمن بايعه صاحب الشوكة فهو الخليفة. ومن استبد بالشوكة وهو مطيع للخليفة في أصل الخطبة والسكة فهو سلطان نافذ الحكم والقضاء في أقطار الأرض ولاية نافذة الأحكام. وتحقيق هذا قد ذكرناه في أحكام الإمامة من كتاب الاقتصاد في الاعتقاد فلسنا نطول الآن به.

وأما الإشكال الآخر وهو أن السلطان إذا لم يعمم بالعطاء كل مستحق فهل يجوز للواحد أن يأخذ منه?فهذا مما اختلف العلماء فيه على أربع مراتب فغلا بعضهم وقال: كل ما يأخذه فالمسلمون كلهم فيه شركاء ولا يدري أن حصته منه دانق أو حبة فليترك الكل. وقال قوم:له أن يأخذ قدر قوت يومه فقط، فإن هذا القدر يستحقه لحاجته على المسلمين. وقال قوم: له قوت سنة، فإن أخذ الكفاية كل يوم عسير وهو ذو حق في هذا المال فكيف يتركه? وقال قوم: إنه يأخذ ما يعطى والمظلوم هم الباقون. وهذا هو القياس لأن المال ليس مشتركاً بين المسلمين كالغنيمة بين الغانمين ولا كالميراث بين الورثة لأن ذلك صار ملكاً لهم. وهذا لو لم يتفق قسمه حتى مات هؤلاء لم يجب التوزيع على ورثتهم بحكم الميراث. بل هذا الحق غير متعين وإنما يتعين بالقبض. بل هو كالصدقات ومهما أعطي الفقراء حصتهم من الصدقات وقع ذلك ملكاً لهم ولم يمتنع بظلم المالك بقية الأصناف بمنع حقهم، هذا إذا لم يصرف إليه كل المال بل صرف إليه من المال ما لو صرف إليه بطريق الإيثار والتفضيل مع تعميم الآخرين لجاز له أن يأخذه والتفضيل جائز في العطاء. سوى أبو بكر رضي الله عنه فراجعه عمر رضي الله عنه فقال: إنما فضلهم عند الله وإنما الدنيا بلاغ. وفضل عمر رضي الله عنه في زمانه فأعطى عائشة اثني عشر ألفاً وزينب عشرة آلاف وجويرية ستة آلاف وكذا صفية. وأقطع عمر لعلي خاصة رضي الله عنهما. وأقطع عثمان أيضاً من السواد خمس جنات، وآثر عثمان علياً رضي الله عنهما بها فقبل ذلك منه ولم ينكر. وكل ذلك جائز في محل الاجتهاد وهو من المجتهدات التي أقول فيها: إن كل مجتهد مصيب، وهي كل مسألة لا نص على عينها ولا على مسألة تقرب منها فتكون في معناها بقياس جلي كهذه المسألة ومسألة حد الشرب، فإنهم جلدوا أربعين وثمانين والكل سنة وحق، وأن كل واحد من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مصيب باتفاق الصحابة رضي الله عنهم، إذ المفضول ما رد في زمان عمر شيئاً إلى الفاضل مما قد كان أخذه في زمان أبي بكر، ولا الفاضل امتنع من قبول الفضل في زمان عمر، واشترك في ذلك كل الصحابة واعتقدوا أن كل واحد من الرأيين حق. فليؤخذ هذا الجنس دستوراً للاختلافات التي يصوب فيها كل مجتهد. فأما كل مسألة شذ عن مجتهد فيها نص أو قياس جلي بغفلة أو سوء رأي وكان في القوة بحيث ينقض حكم المجتهد فلا نقول فيها إن كل واحد مصيب بل المصيب من أصاب النص أو ما في معنى النص. وقد تحصل من مجموع هذا أن من وجد من أهل الخصوص الموصوفين بصفة تتعلق بها مصالح الدين أو الدنيا وأخذ من السلطان خلعة أو إدراراً على التركات أو الجزية لم يصر فاسقاً بمجرد أخذه، وإنما يفسق بخدمته لهم ومعاونته إياهم ودخوله عليهم وثنائه وإطرائه لهم إلى غير ذلك من لوازم لا يسلم المال غالباً إلا بها كما سنبينه.