إحياء علوم الدين/كتاب آداب الأكل/الباب الأول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الباب الأول

فيما لابد للمنفرد منه



وهو ثلاثة أقسام: قسم قبل الأكل، وقسم مع الأكل، وقسم بعد الفراغ منه:


القسم الأول

في الآداب التي تتقدم على الأكل

وهي سبعة:

الأول: أن يكون الطعام بعد كونه حلالاً في نفسه طيباً في جهة مكسبه موافقاً للسنة والورع لم يكتسب بسبب مكروه في الشرع ولا بحكم هوى ومداهنة في دين - على ما سيأتي في معنى الطيب المطلق في كتاب الحلال والحرام - وقد أمر الله تعالى بأكل الطيب وهو الحلال وقدم النهي عن الأكل بالباطل على القتل تفخيماً لأمر الحرام وتعظيماً لبركة الحلال فقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" إلى قوله "ولا تقتلوا أنفسكم" الآية، فالأصل في الطعام كونه طيباً وهو من الفرائض وأصول الدين.

الثاني:غسل اليد قال "الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم"وفي رواية "ينفي الفقر قبل الطعام وبعده" ولأن لا تخلو عن لوث في تعاطي الأعمال فغسلها أقرب إلى النظافة والنزاهة. ولأن الأكل لقصد الاستعانة على الدين عبادة فهو جدير بأن يقدم عليه ما يجري منه مجرى الطهارة من الصلاة.

الثالث: أن يوضع الطعام على السفرة الموضوعة على الأرض فهو أقرب إلى فعل رسول الله من رفعه على المائدة كان رسول الله إذا أتى بطعام وضعه على الأرض فهذا أقرب إلى التواضع فإن لم يكن فعلى السفرة فإنها تذكر السفر ويتذكر من السفر سفر الآخرة وحاجته إلى زاد التقوى. وقال أنس بن مالك رحمه الله "ما أكل رسول الله على خوان ولا في سكرجة" قيل فعلى ماذا كنتم تأكلون? قال على السفرة. وقيل: أربع أحدثت بعد رسول الله : الموائد والمناخل والأشنان والشبع واعلم أن وإن قلنا الأكل على السفرة أولى فلسنا نقول الأكل على المائدة منهي عنه كراهة أو تحريم إذا لم يثبت فيه نهي. وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله فليس كل ما أبدع منهياً، بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمراً من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب وليس في المائدة إلا رفع الطعام عن الأرض لتيسير الأكل وأمثال ذلك مما لا كراهة فيه. والأربع التي جمعت في أنها مبدعة ليست متساوية بل الأشنان حسن لما فيه من النظافة فإن الغسل مستحب للنظافة والأشنان أتم في التنظيف، وكانوا لا يستعملونه لأنه ربما كان لا يعتاد عندهم أو لا يتيسر، أو كانوا مشغولين بأمور أهم من المبالغة في النظافة فقد كانوا لا يغسلون اليد أيضاً، وكانت مناديلهم أخمص أقدامهم وذلك لا يمنع كون الغسل مستحباً. وأما المنخل فالمقصود منه تطييب الطعام وذلك مباح ما لم ينتهي إلى التنعم المفرط. وأما المائدة فتيسير للأكل وهو أيضاً مباح ما لم ينتهي إلى الكبر والتعاظم. وأما الشبع فهو أشد هذه الأربعة فإنه يدعو إلى تهييج الشهوات وتحريك الأدواء في البدن فلتدرك التفرقة بين هذه المبدعات.

الرابع: أن يحسن الجلسة على السفرة في أول جلوسه ويستديمها كذلك، كان رسول الله ربما جثا للأكل على ركبتيه وجلس على ظهر قدميه وربما نصب رجله اليمنى وجلس على اليسرى وكان يقول "لا آكل متكئاً إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد" والشرب متكئاً مكروه للمعدة أيضاً ويكره الأكل نائماً ومتكئاً إلا ما يتنقل به من الحبوب. روى عن علي كرم الله وجهه أنه أكل كعكعاً على ترس وهو مضطجع ويقال منبطح على بطنه والعرب قد تفعله.

الخامس: أن ينوي بأكله أن يتقوى به على طاعة الله تعالى ليكون مطيعاً بأكل ولا يقصد التلذذ والتنعم بالأكل. قال إبراهيم بن شيبان: منذ ثمانين سنة ما أكلت شيئاً لشهوتي. ويعزم مع ذلك على تقليل الأكل فإنه إذا أكل لأجل قوة العبادة لم تصدق نيته إلا بأكل مادون الشبع فإن الشبع يمنع من العبادة ولا يقوى عليها فمن ضرورة هذه النية كسر الشهوة وإيثار القناعة على الإتساع. قال رسول الله "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن لم يفعل فثلث طعام وثلث شراب وثلث للنفس" ومن ضرورة هذه النية أن لا يمد اليد إلى الطعام إلا وهو جائع فيكون الجوع أحد ما لابد من تقديمه على الأكل. ثم ينبغي أن يرفع اليد قبل الشبع ومن فعل ذلك استغنى عن الطبيب وسيأتي فائدة قلة الأكل وكيفية التدريج في التقليل منه في كتاب كسر شهوة الطعام من ربع المهلكات .

السادس: أن يرضى بالموجود من الرزق والحاضر من الطعام ولا يجتهد في التنعم وطلب الزيادة وانتظار الأدم بل من كرامة الخبز أن لا ينتظر به الأدم وقد ورد الأمر بإكرام الخبز فكل ما يديم الرمق ويقوي على العبادة فهو خير كثير لا ينبغي أن يستحقر بل لا ينتظر بالخبز الصلاة إن حضر وقتها إذا كان في الوقت متسع. قال "إذا حضر العشاء والعشاء فابدؤوا بالعشاء" وكان ابن عمر رضي الله عنهما ربما سمع قراءة الإمام ولا يقوم من عشائه. ومهما كانت النفس لا تتوق إلى الطعام ولم يكن في تأخير الطعام ضرر فالأولى تقديم الصلاة. فأما إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة وكان في التأخير ما يبرد الطعام أو يشوش أمره فتقديمه أحب عند اتساع الوقت، تاقت النفس أو لم تتق، لعموم الخير ولأن القلب لا يخلو عن الإلتفات إلى الطعام الموضوع وإن لم يكن الجوع غالباً.

السابع: أن يجتهد في تكثير الأيدي على الطعام ولو من أهله وولده. قال "اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه" وقال أنس رضي الله عنه "كان رسول الله لا يأكل وحده وقال "خير الطعام ما كثرت عليه الأيدي".

القسم الثاني

في آداب حالة الأكل

وهو أن يبدأ ب "بسم الله" في أوله وب "الحمد لله" في أخره. ولو قال مع كل لقمة "بسم الله" فهو حسن حتى لا يشغله الشره عن ذكر الله تعالى. ويقول مع القمة الأولى "بسم الله الرحمن الرحيم" ومع الثالثة "بسم الله الرحمن الرحيم" ويجهر به ليذكر غيره. ويأكل باليمنى ويبدأ بالملح ويختم به ويصغر اللقمة ويجود مضغها وما لم يبتلعها لم يمد اليد إلى الأخرى فإن ذلك عجلة في الأكل وأن لا يذم مأكولاً "كان لا يعيب مأكولاً كان إذا أعجبه أكله وإلا يتركه" وأن يأكل مما يليه إلا الفاكهة فإن له أن يجيل يده فيها قال "كل مما يليك" ثم كان يدور على الفاكهة، فقيل له في ذلك فقال "ليس هو نوعاً واحداً" وأن لا يأكل من دورة القصعة ولا من وسط الطعام بل يأكل من استدارة الرغيف إلا إذا قل الخبز فيكسر الخبز ولا يقطع بالسكين ولا يقطع اللحم أيضاً فقد نهى عنه وقال " انهشوه نهشاً" ولا يضع على الخبز ولا غيرها إلا ما يأكل به قال "أكرموا الخبز فإن الله تعالى أنزله من بركات السماء" وال يمسح يده بالخبز. وقال "إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط ما كان بها من أذى ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة" ولا ينفخ في الطعام الحار فهو منهي عنه بل يصبر إلى إن يسهل أكله ويأكل من التمر وتراً سبعاً أو إحدى عشرة أو إحدى وعشرين أو ما اتفق ولا يجمع بين التمر والنوى في طبق ولا يجمع في كفه بل يضع النواة من فيه على ظهر كفه ثم يلقيها، وكذا كل ما له عجم وثفل. وأن لا يكثر الشرب في أثناء الطعام إلا إذا غص بلقمة أو صدق عطشه فقد قيل إن ذلك مستحب في الطب وإنه دباغ المعدة.

وأما الشرب؛ فأدبه أن يأخذ الكوز بيمينه ويقول "بسم الله" ويشربه مصاً لا عباً قال "مصوا الماء مصاً ولا تعبوه عباً فإن الكباد من العب" ولا يشرب قائماً ولا مضطجعاً فإنه نهى عن الشرب قائماً وروي أنه شرب قائما ولعله لعذر. ويراعي أسفل الكوز حتى لا يقطر عليه وينظر في الكوز قبل الشرب ولا يتجشأ ولا يتنفس في الكوز بل ينحيه عن فمه بالحمد ويرده بالتسمية. وقد قال بعد الشرب "الحمد لله الذي جعله عذباً فراتاً برحمته ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا" والكوز وكل ما يدار على القوم يدار يمنة وقد شرب رسول الله لبناً وأبو بكر رضي الله عنه على يمينه شماله وأعرابي عن يمينه وعمر ناحيته فقال عمر رضي الله عنه" أعط أبا بكر فناول الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن ويشب في ثلاثة أنفاس يحمد الله في أواخرها ويسمي الله في أوائلها ويقول في آخر النفس الأول "الحمد لله" وفي الثاني يزيد "رب العالمين" وفي الثالث يزيد "الرحمن الرحيم" فهذا قريب من عشرين أدباً في حالة الأكل والشرب دلت عليه الأخبار والآثار.

القسم الثالث

ما يستحب بعد الطعام

وهو أن يمسك قبل الشبع ويلعق أصابعه ثم يمسح بالمنديل ثم يغسلها ويلتقط فتات الطعام قال "من أكل ما يسقط من المائدة عاش في سعة وعوفي في ولده" ويخلل ولا يبتلع كل ما يخرج من بين أسنانه بالخلال إلا ما يجمع من أصول أسنانه بلسانه أما المخرج بالخلال فيرميه وليتمضمض بعد الخلال ففيه أثر عن أهل البيت عليهم السلام. وأن يلعق القصعة ويشرب ماءها. ويقال: من لعق القصعة وغسلها وشرب ماءها كان له عتق رقبة. وأن التقاط الفتات مهور الحور العين وأن يشكر الله تعالى بقلبه على ما أطعمه فيرى الطعام نعمة منه قال الله تعالى "كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله" ومهما أكل حلالاً قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتنزل البركات اللهم أطعمنا طيباً واستعملنا صالحاً". وإن أكل شبهة فليقل: "الحمد لله على كل حال اللهم لا تجعله قوة لنا على معصيتك،ويقرأ بعد الطعام قل هو الله أحد ولإيلاف قريش. ولا يقوم عن المائدة حتى ترفع أولاً فإن أكل طعام الغير فليدع له وليقل: اللهم أكثر خيره وبارك له فيما رزقته ويسر له أن يفعل فيه خيراً وقنعه بما أعطيته واجعلنا وإياه من الشاكرين. وإن أفطر عند قوم فليقل: أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة. وليكثر الإستغفار والحزن على ما أكل من شبهة ليطفئ بدموعه وحزنه حر النار التي تعرض لها لقوله "كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به" وليس من يأكل ويبكي كمن يأكل ويلهو. ولقل إذا أكل لبناً: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا منه فإن أكل غيره قال: "اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيراً منه"، فذلك الدعاء مما خص به رسول الله اللبن لعموم نفعه. ويستحب عقب الطعام أن يقول: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا سيدنا ومولانا كافي من كل شيء ولا يكفى منه شيء أطعمت من جوع وآمنت من خوف فلك الحمد آويت من يتم وهديت من ضلالة وأغنيت من عيلة فلك الحمد حمداً كثيراً دائماً طيباً نافعاً مباركاً فيه كما أنت أهله ومستحقه اللهم أطعمنا طيباً فاستعملنا صالحاً واجعله عوناً لنا عن طاعتك ونعوذ بك أن نستعين به على معصيتك"، وأما غسل اليدين بالأشنان فيكفيه أن يجعل الأشنان في كفه اليسرى ويغسل الأصابع الثلاث من اليمنى أول، ويضرب أصابعه على الأشنان اليابس فيمسح به شفتيه، ثم ينعم غسل الفم بإصبعه ويدلك ظاهر أسنانه وباطنها والحنك واللسان، ثم يغسل أصابعه من ذلك بالماء ثم يدلك ببقية الأشنان اليابس أصابعه ظهراً وبطناً ويستغني بذلك عن إعادة الأشنان إلى الفم وإعادة غسله.